الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح سنن النسائي
المسمى
شرح سُنن النّسَائي
المُسَمَّى
ذَخِيْرَة العُقَبى في شَرْحِ المجْتَبَى
لجَامِعه الفَقير إلى مَوْلَاه الغَنيّ القَديْر
محمد ابن الشيخ العلامة على بن آدم بن موسى الأيتُوبي الوَلَّوِي
المُدرّس بدَار الحَديثْ الخيريَّة بمكّة المكرَّمة
عَفَا اللَّه عَنْه وَعَنْ والدَيه آمِينْ
الجزْء السَّابع عَشر
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح سنن النسائي
جَمِيع الحقُوق مَحفُوظة
الطبعة الأولى
1424 هـ - 2003 م
دَار آل بُروم للِنشر وَالتّوزيع
المملكة العَربيّهَ السّعوديّة - مكّة المكرّمة - المكتب الرئيسي التنعيم
صَ بْ: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوّال 055541026)
22 - بَابٌ كَيْفَ صَلَاةُ الْقَاعِدِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بيان كيفية القعود لمن يصلي قاعدًا، وهي أن يجلس متربّعًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1661 -
أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، عَنْ حَفْصٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا، قَالَ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا، رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، غَيْرَ أَبِي دَاوُدَ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَلَا أَحْسِبُ هَذَا الْحَدِيثَ إِلاَّ خَطَأً، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هارون بن عبد اللَّه) أبو موسى الحمّال البغداديّ، ثقة [10] 50/ 62.
2 -
(أبو داود الحَفَريّ) عُمر بن سَعْد بن عُبيد الكوفيّ، ثقة عابد [9] 15/ 523.
3 -
(حفص) بن غِياث بن طَلْق النخعيّ الكوفيّ، ثقة فقيه تغير قليلاً بآخره [8] 86/ 105.
4 -
(حميد) الطويل البصريّ، ثقة مدلس [5] 87/ 108.
[تنبيه]: كون حميد هذا هو الطويل هو الذي صرح به المصنف في "الكبرى"، وابن حبّان في "صحيحه"، والحاكم في "المستدرك"، لكن قال الحافظ المزّيّ في "تحفة الأشراف" ج 11 ص 442 و"تهذيب الكمال" ج 7 ص 374: إنه حميد بن طَرْخان، ونَفَى أن يكون حميدًا الطويل. وردّ عليه الحافظ مغلطاي بأن النسائيّ في "السنن الكبرى" رواية ابن الأحمر فسره بأنه الطويل. وقال الحافظ في "تهذيب التهذيب" ج 3 ص 43: فرق ابن حبّان بين حُميد بن طرخان، وبين حُميد الطويل، في"الثقات"، وقد تقدم أن والد حميد الطويل، يقال له طرخان، وأن الطويل يروي عن عبد اللَّه بن شقيق، فالظاهر أنه هذا؛ إذ ليس في الرواية ما يدلّ على أنه غيره، لا سيما وفي "السنن الكبرى" رواية الأحمر، عن النسائيّ، عن هارون، عن أبي داود، عن حفص، عن حميد، وهو الطويل، فقوله:"وهو الطويل" يحتمل أن يكون من قول النسائي، أو من قول مَنْ فوقه، أو دونه، وهو الأشبه
(1)
، ثم وجدت الحديث في "سنن البيهقيّ" من طريق
(1)
- لم يذكر وجه كونه أشبه، والظاهر أن الأشبه كونه ممن فوقه بدليل ما وقع في "سنن البيهقي" و"صحيح ابن حبان " من غير طريق النسائيّ، فإنه يدلّ على أنه ممن فوق النسائي، فتأمل. واللَّه تعالى أعلم.
يوسف بن موسى، عن أبي داود الحَفَريّ، عن حفص، عن حميد الطويل، فتبيّن أنه هو. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كونه حميدًا الطويل هو الصواب؛ لاتفاق هؤلاء الأئمة: النسائيّ، وابن حبّان، والحاكم، والبيهقيّ عليه. واللَّه تعالى أعلم.
5 -
(عبد اللَّه بن شقيق) العُقيليّ البصريّ، ثقة فيه نصب [3] 17/ 1544.
6 -
(عائشة) الصديقة بنت الصدّيق - رضي اللَّه تعالي عنهما - 5/ 5 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى - عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي مُتَرَبِّعَا) فيه استحباب التربع لمن يصلي قاعدًا، وإلى ذلك ذهب أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وهو أحد القولين للشافعيّ، وذهب الشافعيّ في أحد قوليه إلى أنه يجلس مفترشًا، كالجلوس بين السجدتين، وحكى صاحب "النهاية" عن بعض المصنّفين أنه يجلس متورّكًا. وقال القاضي حُسين من الشافعية: إنه يجلس على فخذه اليسرى، وينصب ركبته اليمنى، كجِلْسة القارئ بين يدي المقرئ.
وهذا الخلاف إنما هو في الأفضل، وقد وقع الاتفاق على أنه يجوز له أن يقعد على أيّ صفة شاء، من القعود، لإطلاق الأحاديث المذكورة في الأبواب الثلاثة الماضية، وعمومها
(1)
.
(قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ) النسائيّ رحمه الله (لَا أَعْلَمُ أَحَدًا، رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، غَيْرَ أَبِي دَاوُدَ) الحَفَريّ (وَهُوَ ثِقَةٌ، وَلَا أَحْسِبُ هَذَا الْحَدِيثَ إِلا خَطَأ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ) هكذا قال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "المجتبى": إن أبا داود تفرّد به، وأن الحديث خطأ، وليس في "الكبرى" الجزء الثاني
(2)
، ولفظه: "قال أبو عبد الرحمن: لا نعلم أحدًا روى
(1)
- أفاده في "نيل الأوطار" ج 4 ص 370.
(2)
- ونقل محقق صحيح ابن حبان عن مغلطاي أنه قال: وزيادة "ولا أحسبه إلا خطأ" وقع في بعض نسخ "المجتبى"، وفي بعضها لم يزد على هذا -أي الذي في "الكبرى"-.
فهذا يدلّ على أن نسخ "المجتبى" ليست متفقة بذكر قوله: "ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ".
واللَّه تعالى أعلم.
هذا الحديث غير أبي داود، عن حفص". انتهى.
وقد اعتُرض عليه في ذلك، فقال الحافظ رحمه الله بعد نقل كلام المصنّف: ما نصه: قد رواه ابن خُزيمة، والبيهقيّ من طريق محمد بن سعيد الأصبهانيّ بمتابعة أبي داود، فظهر أنه لا خطأ فيه، وروى البيهقيّ من طريق ابن عُيينة، عن ابن عجلان، عن عامر بن عبد اللَّه بن الزبير، عن أبيه:"رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدعو هكذا، ووضع يديه على ركبتيه، وهو متربّع جالس". ورواه البيهقيّ عن حميد، رأيت أنسًا يُصلي متربّعًا على فراشه. وعلقه البخاريّ. انتهى. هكذا نقله الشوكاني في "نيل الأوطار" ج 4 ص 369 - 370. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح، وقد صححه الأئمّة: ابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم، وأقرّه الذهبي، وقد عرفت الجواب عما قاله المصنف من تفرد أبي داودا الحَفَريّ به بأنه لم ينفرد به، بل تابعه فيه محمد بن سعيد الأصبهاني، عن حفص بن غياث، عند الحاكم، والبيهقيّ، ومحمدُ بن سعيد هذا هو الملقّب بحمدان، وهو ثقة ثبت، فظهر بهذا أن الحديث صحيح، لا مطعن فيه. واللَّه تعالى أعلم.
وهو من أفراد المصنف، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا-22/ 1661 - وفي "الكبرى" 32/ 1363 - وأخرجه ابن خزيمة 1238، والحاكم 1/ 275، وعنه البيهقيّ 2/ 305. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
23 - بَابٌ كَيْفَ الْقِرَاءَةُ بِاللَّيْلِ
1662 -
أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ؟ ، يَجْهَرُ، أَمْ يُسِرُّ؟ ، قَالَتْ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ، رُبَّمَا جَهَرَ، وَرُبَّمَا أَسَرَّ.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(شُعيب بن يوسف) أبو عمرو النسائيّ، ثقة صاحب حديث [10] 42/ 49.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهديّ البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 42/ 49.
3 -
(معاوية بن صالح) الحمصيّ، صدوق له أوهام [7] 50/ 62.
4 -
(عبد اللَّه بن أبو قيس) ويقال: ابن قيس، ويقال: ابن أبي موسى، أبو الأسود النَّصْرِيّ "بالنون" الحمصيّ، ثقة مخضرم [2] 5/ 404. وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - تقدمت في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية حمصيّ عن حمصيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي قَيْسٍ) النصريّ بالنون، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ؟ ، يَجْهَرُ، أَمْ يُسِرُّ؟ ، قَالَتْ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ) يحتمل رفع "كلّ" على أنه مبتدأَ، خبره جملة "يفعل" بتقدير رابط، أي يفعله، ويحتمل نصبه، مفعولاً مقدمًا لـ"يفعل"(رُبَّمَا جَهَرَ، وَرُبَّمَا أَسَرَّ) فيه مشروعية الجهر والإسرار في صلاة الليل.
والحديث ساقه الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- في "مسنده" مطوّلاً، فقال: حدثنا عبد الرحمن، عن معاوية، عن عبد اللَّه بن أبي قيس، قال: سألت عائشة، كيف كان نوم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الجنابة، أيغتسل قبل أن ينام؟، فقالت: كل ذلك قد كان يفعل، ربما اغتسل فنام، وربما توضأ فنام، قال: قلت لها: كيف كانت قراءة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الليل، أيجهر أم يسر؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل، ربما جهر وربما أسر. انتهى.
وقد تقدم للمصنف رحمه الله بسند الباب بقصة الجنابة فقط في 5/ 404. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا 23/ 1662 - وفي "الكبرى" 35/ 1374. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
24 - بَابُ فَضْلِ السرِّ عَلَى الْجَهْرِ
1663 -
أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَكَّارِ بْنِ بِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -يَعْنِي ابْنَ سُمَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدٌ -يَعْنِي ابْنَ وَاقِدٍ- عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ، أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّ الَّذِي يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ، كَالَّذِي يَجْهَرُ بِالصَّدَقَةِ، وَالَّذِي يُسِرُّ بِالْقُرْآنِ، كَالَّذِي يُسِرُّ بِالصَّدَقَةِ» .
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هارون بن محمد بن بكّار بن بلال) العامليّ الدمشقي، صدوق [11] 128/ 1091.
2 -
(محمد بن سُميع) - مصغّرًا - هو محمد بن عيسى بن القاسم بن سُميع الدمشقي الأمويّ مولاهم، صدوق يخطئ، وُيدلّس، ورُمي بالقدر [9].
روى عن حميد الطويل، وعبيد اللَّه بن عمر، وهشام بن عروة، وغيرهم. وعنه هارون بن محمد، والهيثم بن مروان، وهشام بن عمار، وغيرهم.
قال عثمان الدارميّ، عن دُحَيم: ليس من أهل الحديث، وهو قَدَريّ. وقال أبو حاتم: شيخ دمشقيّ، يُكتب حديثه، ولا يحتجّ به. وقال ابن شاهين: شيخ من أهل الشام ثقة. وقال ابن حبّان: هو مستقيم الحديث، إذا بَيَّن السماع في خبره، فأما خبره الذي روى عن ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب في مقتل عثمان، فلم يسمعه من ابن أبي ذئب، سمعه من إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي ذئب، فدلّس عنه، وإسماعيل واه. وقال أبو داود: محمد بن عيسى ليس به بأس، إلا أنه كان يُتّهم بالقدر.
وقال الدارقطنيّ: ليس به بأس. وقال هشام بن عمّار: حدثنا محمد بن عيسى الثقة المأمون. وقال ابن عديّ: لا بأس به، وله أحاديث حسان، عن جماعة من الثقات، وهو حسن الحديث، والذي أُنكر عليه حديث مقتل عثمان، أنه لم يسمعه من ابن أبي ذئب.
وقال الحاكم أبو أحمد: مستقيم الحديث، إلا أنه روى عن ابن أبي ذئب حديثًا منكرًا، وهو حديث مقتل عثمان، ويقال: كان في كتابه: عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي ذئب، فأسقطه، وإسماعيل ذاهب الحديث. مات سنة (204) وقيل:(206) وكان مولده سنة (114). روى له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث برقم 1663 و 3132 و 3159 و 3966 و 4167 و 5176.
3 -
(زيد بن واقد) القرشيّ الدمشقيّ، ثقة [6] 29/ 920.
4 -
(كثير بن مُرّة) الحضرميّ الحمصيّ، ثقة [2] 1/ 688.
5 -
(عقبة بن عامر) الْجُهَنيّ الصحابيّ الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 108/ 144. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ كَثِيرِ بنِ مُرَّةَ) الحضرميّ -رحمه اللَّه تعالى- (أَن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ) الجهنيّ رضي الله عنه (حَدَّثَهُم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّ الَّذِي يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ) ولفظه في "كتاب الزكاة"[67/ 2561]: "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن، كالمسر بالصدقة" أي الذي يرفع صوته بقراءة القرآن (كَالَّذِي يَجهَرُ بِالصَّدَقَةِ) أي كالمعلن بالصدقة، وقد مدحه اللَّه تعالى بقوله:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا} الآية [البقرة: 271](والَّذِي يُسِرُّ بِالْقُرْآنِ) أي يُخفي قراءته، ولا يجهر به (كَالَّذِي يُسِرُّ بِالصَّدَقَةِ") أي كالذي يُعطيها الفقراء سرًا، وقد فضّله اللَّه تعالى على إظهارها، بقوله:{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآية [البقرة: 271].
والحديث دليل على أن إخفاء القراءة أفضل من الجهر بها، كما أن إخفاء الصدقة أفضل من إعلانها، وذلك لقربه من الإخلاص، والسلامة من الرياء.
وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: الظاهر من الحديث أن السرّ أفضل من الجهر، كما
أشار إليه المصنّف، لكن الذي يقتضيه أمره صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، "ارفع من صوتك" أن الاعتدال في القراءة أفضل، فإما أن يُحمل الجهر في الحديث على المبالغة، والسرّ على الاعتدال، أو على أن هذا الحديث محمول على ما إذا كان الحال، تقتضي السرّ، وإلا فالاعتدال في ذاته أفضل، واللَّه تعالى أعلم انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث الذي أشار إليه السندي في قصة أبي بكر رضي الله عنه هو ما أخرجه أبو داود في "سننه"، قال:
حدثنا موسى بن إسمعيل، حدثنا حماد، عن ثابت البناني، عن النبي صلى الله عليه وسلم ح وحدثنا الحسن بن الصباح، حدثنا يحيى بن إسحاق، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن عبد اللَّه بن رَبَاح، عن أبي قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج ليلة، فإذا هو بأبي بكر رضي الله عنه، يصلي
(1)
- "شرح السندي" ج 3 ص 225 - 226.
يَخفض من صوته، قال: ومَرّ بعمر بن الخطاب، وهو يصلي، رافعا صوته، قال: فلما اجتمعا عند النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"يا أبا بكر مررت بك، وأنت تصلي تخفض صوتك"، قال: قد أسمعتُ مَن ناجيت، يا رسول اللَّه، قال: وقال لعمر: "مررت بك وأنت تصلي، رافعا صوتك"، قال: فقال: يا رسول اللَّه أُوقِظ الوَسْنَان، وأَطْرُد الشيطان.
زاد الحسن في حديثه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر، ارفع من صوتك شيئا" وقال لعمر: "اخفض من صوتك شيئا"
(1)
.
حدثنا أبو حَصِين بن يحيى الرازي، حدثنا أسباط بن محمد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بهذه القصة، لم يذكر: فقال لأبي بكر: "ارفع من صوتك شيئا"، ولعمر:"اخفض شيئا"، زاد:"وقد سمعتك يا بلال، وأنت تقرأ من هذه السورة، ومن هذه السورة"، قال: كلام طَيِّبٌ، يجمع اللَّه تعالى بعضه إلى بعض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"كلكم قد أصاب"
(2)
.. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث عقبة بن عامر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:
أخرجه هنا-24/ 1663 - وفي "الكبرى" 36/ 1374 - بالإسناد المذكور، وفي "كتاب الزكاة"[67/ 2561]- و"الكبرى" 70/ 2342 - عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن بَحِير بن سَعْد، عن خالد بن مَعْدان، عن كَثير بن مرّة به. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (د) 1333 (ت) 2919 (أحمد) 4/ 151 و 158 و 201 (البخاري في خلق أفعال العباد)[71]. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان فضل إسرار القراءة على الجهر بها. ومنها: جواز الجهر بالقراءة، والإسرار بها، وإن كان الإسرار أفضل. ومنها: أن صدقة السرّ أفضل من صدة العلانية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
(1)
- حديث صحيح.
(2)
- حديث صحيح.
25 - باب تَسْوِيَةِ الْقِيَامِ، وَالرُّكُوعِ، وَالْقِيَامِ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ
(1)
1664 -
أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ الأَحْنَفِ، عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَتَيْنِ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَافْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ، فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَقَالَ:«سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» ، فَكَانَ رُكُوعُهُ، نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:«سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» ، فَكَانَ قِيَامُهُ قَرِيبًا مِنْ رُكُوعِهِ، ثُمَّ سَجَدَ، فَجَعَلَ يَقُولُ:«سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى» ، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ رُكُوعِهِ.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حسين بن منصور) بن جعفر بن عبد اللَّه بن رَزِين بن محمد بن بُرْد السلمي، أبو علي النيسابوريّ، ثقة فقيه [10] 86/ 104.
2 -
(عبد اللَّه بن نُمير) الهمداني الخارفيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقة صاحب حديث، من أهل السنّة، من كبار [9] 86/ 104.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مهران الإمام الحجة الثبت [5] 17/ 18.
4 -
(سَعْد بن عُبيدة) السلميّ الكوفيّ، ثقة [3] 77/ 1008.
5 -
(الْمُستَوْرِد بن الأحنف) الكوفيّ، ثقة [3] 77/ 1008.
6 -
(صِلَة بن زُفَر) الكوفيّ، ثقة جليل [2] 77/ 1008.
7 -
(حُذيفة) بن اليمان رضي الله عنهما 2/ 2. واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث حذيفة - رضي اللَّه تعالى عنه - أخرجه مسلم،
(1)
- وفي نسخة "في قيام الليل".
وقد تقدّم برقم 77/ 1008 - وتقدم هناك شرحه مستوفى، وكذا بيان مسائله، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
وقوله: "فافتتح النساء الخ" فيه عدم وجوب الترتيب بين السور في القراءة، وقد تقدم
البحث عنه مُستَوفى في أبواب القراءة .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع
والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1665 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، ثِقَةٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي رَمَضَانَ، فَرَكَعَ، فَقَالَ فِي رُكُوعِهِ:«سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» ، مِثْلَ مَا كَانَ قَائِمًا، ثُمَّ جَلَسَ يَقُولُ:«رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي» ، مِثْلَ مَا كَانَ قَائِمًا، ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ:«سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى» ، مِثْلَ مَا كَانَ قَائِمًا، فَمَا صَلَّى إِلاَّ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، حَتَّى جَاءَ بِلَالٌ إِلَى الْغَدَاةِ.
قَالَ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدِي مُرْسَلٌ، وَطَلْحَةُ بْنُ يَزِيدَ، لَا أَعْلَمُهُ سَمِعَ مِنْ حُذَيْفَةَ شَيْئًا، وَغَيْرُ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه ثقة ثبت حجة [10] 2/ 2.
2 -
(النضر بن محمد المروزيّ) العامري مولاهم،، أبو عبد اللَّه، وقيل: أبو محمد، صدوق، ربما يَهِم، ورُمي بالإرجاء [8].
روى عن العلاء بن المسيب، والأعمش، ومِسْعر، وغيرهم. وعنه ابن راهويه، وحسّان بن موسى، وعلي بن الحسن بن شقيق، وغيرهم. قال ابن سعد: كان مقدّما في العلم، والفقه، والعقل، والفضل، وكان صديقًا لابن المبارك، وكان من أصحاب أبي حنيفة. وقال النسائيّ، والدارقطنيّ: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان مرجئًا، مات يوم النحر، سنة (183). وقال البخاري، والساجيّ: فيه ضعف.
وقال ابن أبي حاتم، والساجيّ أيضًا كان صاحب رأي. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقويّ. وقال الأزديّ: ضعيف. روى له أبو داود في "المسائل"، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
3 -
(العلاء بن المسيّب) الكوفيّ، ثقة ربما وهم [6] 78/ 1009.
4 -
(عمرو بن مُرّة) اْلَجَمليّ المُرَادي الكوفيّ، ثقة عابد رمي بالإرجاء [5] 171/ 265.
5 -
(طلحة بن يزيد الأنصاريّ) نزيل الكوفة، وثقه النسائيّ، وابن حبّان [3] 78/ 1009.
والصحابي تقدّم في السند الماضي.
والحديث صحيح، وقد تقدم مستوفى الشرح برقم 77/ 1008 و 115/ 1069 وكذا بيان مسائله، فليُراجَع هناك.
وقوله: "وغيرُ العلاء الخ" تقدم ذلك من رواية شعبة، عن عمرو بن مرّة، فقال:"عن رجل، من بني عَبْس"، عن حذيفة، وتقدم أيضًا أن المصنّف قال في هذا المبهم: يشبه أن يكون صِلَة ابن زُفَر.
ودلالة الحديث على الترجمة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
26 - بَابٌ كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ
1677 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا الأَزْدِيّ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، مَثْنَى مَثْنَى» .
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدِي خَطَأٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمد بن بشّار) بُندار البصري، الثقة الحافظ [10] 24/ 27.
2 -
(محمد بن جعفر) غُندر البصريّ الحافظ الثقة [9] 21/ 22.
3 -
(عبد الرحمن) بن مهدي الإمام الحجة البصري [9] تقدّم قبل بابين.
4 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 24/ 26.
5 -
(يعلي بن عطاء) الطائفي، ثقة [4] 40/ 584.
6 -
(عليّ الأزديّ) ابن عبد اللَّه البارِقِيّ، أبو عبد اللَّه بن أبي الوليد، صدوق ربما أخطأ [3].
روى عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وغيرهم. وعنه مجاهد، من أقرانه،
ويعلي بن عطاء، وأبو الزبير، وغيرهم. قال ابن عدي: ليس عنده كثير حديث، وهو عندي لا بأس به. وقال منصور، عن مجاهد: كان على الأزدي يختم القرآن في رمضان كلّ ليلة. ونقل ابن خلفون، عن العجليّ أنه وثّقه. روى له الجماعة، سوى البخاري، وله في مسلم حديث واحد في الدعاء إذا استوى على الراحلة في السفر، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث برقم 1666 و 2526 وأعاده برقم 4986 وحديث رقم 5308.
7 -
(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، ويعلى طائفيّ، وعلي بارقيّ، نسبة إلى بارق جبل باليمن، كما في "اللباب" 1/ 107، وابن عمر مدنيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ) العامريّ، ويقال: الليثيّ (أنهُ سَمِعَ عَلِيَّا الْأَزْدِيّ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) زيادةُ "والنهار" سيأتي الكلام عليها قريبًا (مَثْنَى مَثْنَى)"صلاة" مبتدأ، و"مثنى" خبره، أي ركعتان ركعتان، وهذا معنى "مثنى"، لما فيه من التكرير، و"مثنى" الثاني تأكيد له. والمقصود أنه، ينبغي للمصلي أن يصليها كذلك، فهو خبر بمعنى الأمر، قيل: يحتمل أن المراد أن يسلّم في كلّ ركعتين، ويحتمل أن المراد أنه يتشهّد في كلّ ركعتين. قاله السنديّ.
قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: الاحتمال الأول هو الراجح، والثاني يبعده تفسير الراوي، كما سيأتي قريبًا. وقال في "الفتح": قوله: "مثنى مثنى" أي اثنين اثنين، وهو غير منصرف لتكرار العدل فيه، قاله صاحب "الكشاف". وقال آخرون: للعدل والوصف، وأما إعادة "مثنى" فللمبالغة في التأكيد، وقد فسّره ابن عمر راوي الحديث، فعند مسلم
من طريق عقبة بن حُريث، قال: قلت لابن عمر: ما معنى مثنى مثنى؟ قال: تسلّم من
كلّ ركعتين.
وفيه ردّ على من زعم من الحنفيّة أن معنى مثنى أن يتشهد بين كلّ ركعتين؛ لأن راوي الحديث أعلم بالمراد به، وما فسّره به هو المتبادر إلى الفهم؛ لأنه لا يقال في
الرباعية مثلاً: إنها مثنى.
واستُدلّ بهذا على تعيّن الفضل بين كلّ ركعتين من صلاة الليل، قال ابن دقيق العيد: وهو ظاهر السياق، لحصر المبتدإ في الخبر، وحمله الجمهور على أنه لبيان الأفضل، لما صحّ من فعله صلى الله عليه وسلم بخلافه، ولم يتعيّن أيضًا كونه لذلك، بل يحتمل أن يكون للإرشاد إلى الأخفّ، إذ السلام بين كلّ ركعتين أخفّ على المصلي من الأربع، فما فوقها، لما فيه من الراحة غالبًا، وقضاء ما يَعرض من أمر مهمّ، ولو كان الوصل لبيان الجواز فقط لم يواظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ادعى اختصاصه به، فعليه البيان، وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم الفضل، كما صحّ عنه الوصل، فعند أبي داود، ومحمد بن نصر من طريقي الأوزاعيّ وابن أبي ذئب، كلاهما عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ما بين أن يفرغ من العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلّم من كلّ ركعتين"، وإسنادهما على شرط الشيخين.
واستدلّ به أيضًا على عدم النقصان عن ركعتين في النافلة ما عدا الوتر. قال ابن دقيق العيد: والاستدلال به أقوى من الاستدلال بامتناع قصر الصبح في السفر إلى ركعة، يشير بذلك إلى الطحاويّ، فإنه استدلّ على منع التنفّل بركعة بذلك.
واستدلّ بعض الشافعيّة للجواز بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة خير موضوع، فمن شاء استكثر، ومن شاء استقلّ". صححه ابن حبّان.
وقد اختلف السلف في الفصل والوصل في صلاة الليل أيهما أفضل، قال الأثرم عن أحمد: الذي أختاره في صلاة الليل مثنى مثنى، فإن صلى بالنهار أربعًا فلا بأس. وقال محمد بن نصر نحوه في صلاة الليل، قال: وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرها إلى غير ذلك من الأحاديث الدالّة على الوصل، إلا أنا نختار أن يسلّم من كلّ ركعتين، لكونه أجاب السائل، ولكون أحاديث الفضل أثبت، وأكثر طرقًا. وقد تضمّن كلامه الردّ على الداوديّ الشارح، ومن تبعه في دعواهم أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه صلى النافلة أكثر من ركعتين ركعتين انتهى
(1)
.
(قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ) النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- (هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدِي خَطَأٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ) محلّ الخطأ فيه زيادة "والنهار".
قال في "الفتح": ما حاصله: قد أعلّ أكثر أئمة الحديث هذه الزيادة بأن الحفّاظ من أصحاب ابن عمر لم يذكروها عنه، وحكم النسائيّ على راويها بأنه أخطأ فيها، وقال
(1)
- (فتح) ج 3 ص 162 - 163.
يحيى ابن معين: مَنْ عليّ الأزديّ حتى أقبل منه؟، وادعى يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن نافع أن ابن عمر كان يتطوّع بالنهار أربعًا، لا يفصل بينهنّ، ولو كان حديث الأزديّ صحيحًا لما خالفه ابن عمر، يعني مع شدة اتباعه، رواه عنه محمد بن نصر في سؤالاته، لكن روى ابن وهب بإسناد قويّ عن ابن عمر، قال:"صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"، موقوف، أخرجه ابن عبد البرّ من طريقه، فلعلّ الأزديّ اختلط عليه الموقوف بالمرفوع، فلا تكون هذه الزيادة صحيحة على طريقة من يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذّا، وقد روى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن عمر أنه كان يصلي بالنهار أربعًا أربعا، وهذا موافق لما نقله ابن معين
(1)
انتهى
(2)
.
وقال في "التلخيص الحبير": حديث ابن عمر: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى". رواه أحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان من حديث علي بن عبد اللَّه البارقيّ الأزديّ، عن ابن عمر بهذا، وأصله في "الصحيحين" بدون ذكر النهار. قال ابن عبد البر: لم يقله أحد عن ابن عمر غير عليّ، وأنكروه عليه، وكان يحيى بن معين يضعّف حديثه هذا ، ولا يحتجّ به، ويقول: إن نافعًا، وعبد اللَّه بن دينار، وجماعة رووه عن ابن عمر بدون ذكر النهار، ورَوَى
(3)
بسنده عن يحيى بن معين، أنه قال:"صلاة النهار أربع، لا يفصل بينهنّ"، فقيل له: فإن أحمد بن حنبل يقول: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، فقال: بأيّ حديث؟ فقيل له: بحديث الأزديّ، فقال: ومَنْ الأزديّ حتى أقبل منه؟، وأَدَعَ يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يتطوّع بالنهار أربعا، لا يفصل بينهنّ، لو كان حديث الأزديّ صحيحًا لم يُخالفه ابن عمر.
وقال الترمذيّ: اختلف أصحاب شعبة فيه، فوقفه بعضهم، ورفعه بعضهم، والصحيح ما رواه الثقات عن ابن عمر، فلم يذكروا فيه صلاة النهار. وقال النسائي: هذا الحديث عندي خطأ، وكذا قال الحاكم في "علوم الحديث". وقال النسائيّ في "الكبرى": إسناده جيد، إلا أن جماعة من أصحاب ابن عمر خالفوا الأزديّ، فلم يذكروا "في النهار". وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم في "المستدرك"، وقال: رواته ثقات.
وقال الدارقطنيّ في "العلل": ذكر "النهار" فيه وَهَم. وقال الخطابي: رَوَى هذا الحديث طاوس، ونافع، وغيرهما عن ابن عمر، فلم يذكر أحد فيه "النهار"، وإنما هو "صلاة الليل مثنى مثنى"، إلا أن سبيل الزيادة من الثقة أن تُقبل.
(1)
- هكذا نسخة "الفتح" ابن معين، ولعل الصواب لما نقله يحيى بن سعيد، كما تقدّم قريبًا.
(2)
- "فتح" ج3 ص 162.
(3)
أي روى ابن عبد البرّ.
وقال البيهقيّ: هذا حديث صحيح، وعلي البارقيّ احتجّ به مسلم، والزيادة من الثقة مقبولة، وقد صححه البخاريّ لَمّا سُئل عنه، ثم رَوَى ذلك بسنده إليه، قال: ورُوي عن محمد بن سيرين، عن ابن عمر مرفوعًا بإسناد كلهم ثقات. انتهى. وقد ساقه الحاكم في "علوم الحديث" من طريق نصر بن عليّ، عن أبيه، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين به، وقال: له علة يطول ذكرها.
وله طرُقٌ أخَر:
فمنها: ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق نافع، عن ابن عمر، وقال: لم يروه عن العمري إلا إسحاق الْحُنَينيّ، وكذا قال الدارقطنيّ في غرائب مالك: تفرّد به الحنيني، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر.
ومنها: ما أخرجه الدارقطني من رواية محمد بن عبد الرحمن ابن ثوبان، عن ابن عمر، وفي إسناده نظر. وله شاهد من حديث عليّ، وآخرُ من حديث الفضل بن عباس، مرفوعًا، أخرجه أبو داود، والنسائيّ مرفوعًا:"الصلاة مثنى مثنى". الحديث. أنتهى ما في "التلخيص" ج 2 ص 47 - 49.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي ترجيح ما ذهب إليه جمهور المحدثين من تضعيف زيادة "والنهار" في هذا الحديث؛ لتفرّد علي الأزديّ بها، ومخالفته الجماعة من أثبات رواة ابن عمر رضي الله عنه، ومخالفته ما صحّ عن ابن عمر مع شدة اتباعه أنه كان يتطوع بالنهار أربعًا، لا يفصل بينهنّ، وما ذُكر من المتابعات، والشواهد لا تقوى قوّة ما صحّ عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه، غير الزيادة المذكورة.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا - 26/ 166 بالإسناد المذكور، وفي 1667 و 1668 و 1669 و2670 و 1671 و 1672 و 1673 و 1674 و 1682 و 1689 و 1690 و 1691 و 1692 و 1693 و 1694 و 1695 بالأسانيد الآتية إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (خ) رقم 472 و 473 و 991 و 993 و 995 و 998 و 1137. (م) 749 و 571 و 749 (د) 1295 و 1326 و 1421 و 136 و 1438 (ت) 437 و 461 و 467
و 469 (ق) 1174 و 1175 و 1176 و 1319 و 1320 و 1322 (أحمد) 4557 و 4832 و 4863 و 4951 (ابن خزيمة) 1210 (ابن حبان) 2417 واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في الفصل بين كل ركعتين من صلاة النهار.
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله بعد ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فواحدة": وبهذا قال كثير من أهل العلم.
واختلفوا في صلاة النهار فقالت طائفة: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، روي هذا القول عن الحسن، وسعيد بن جبير، وقال حماد في صلاة النهار مثنى مثنى، وممن قال: إن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى مالك بن أنس، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، واحتج أحمد بأحاديث، منها حديث ابن عمر في تطوّع النبي صلى الله عليه وسلم، ركعتين بعد الظهر، وركعتان، وركعتان
(1)
، وحديث العيد ركعتان، والاستسقاء ركعتان، و"إذا دخل أحدكم المسجد، فليركع ركعتين، قبل أن يجلس"، والنبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته صلى ركعتين، وذكر أحمد حديث ابن عمر الذي يرويه يعلي بن عطاء، قيل له: أو ليس قد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل الظهر أربعًا؟ قال: قد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ثماني ركعات، فتراه لم يسلّم فيها؟.
وذهبت طائفة: إلى أن صلاة الليل مثنى مثنى، ويصلي بالنهار أربعًا، ثبت عن ابن عمر أنه كان يفعل ذلك: حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلي بالليل مثنى مثنى، ويصلي بالنهار أربعًا أربعًا، ثم يسلّم.
وقال الأوزاعيّ: صلاة الليل مثنى مثنى، وصلاة النهار إن شاء أربعا قبل أن يسلّم. وقال النعمان في صلاة الليل: إن شئت فصل بتكبيرة ركعتين، وإن شئت أربعًا، وإن شئت ستًا، وقال يعقوب، ومحمد: صلاة الليل مثنى مثنى، وقال النعمان: وأما صلاة النهار، فصل بتكبيرة ركعتين، وإن شئت أربعًا.
وكان إسحاق بن راهويه يقول: الذي نختار له أن تكون صلاته بالليل مثنى مثنى، إلا الوتر، فإن له أحكامًا مختلفة، وأما صلاة النهار، فاختار أن يصلي قبل الظهر أربعًا، وقبل العصر أربعًا، وضحوة أربعًا، لما جاء عن ابن مسعود، وعلي، وابن عمر من وجه واحد، فإن صلى بالنهار ركعتين ركعتين كان جائزًا.
وذهبت طائفة: إلى أن صلاة الليل والنهار يجزيك التشهد في الصلاة إلا أن تكون
(1)
- هكذا النسخة، ولعل المعنى وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء.
لك حاجة، فتسلم، هكذا قال إبراهيم، وقال عطاء كذلك، وقال الأوزاعي: الرجل في سعة من صلاة النهار أن لا يسلّم من كل ثنتين، وإن يفصل بعضها عن بعض بعد أن يتشهد في كل ثنتين.
قال ابن المنذر رحمه الله: صلاة الليل مثنى مثنى لحديث ابن عمر. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي، استحباب صلاة الليل مثنى مثنى لأحاديث الباب، وغيرها، وأما صلاة النهار، فإن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صلى أربعًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1667 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ؟ ، فَقَالَ «مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَوَاحِدَةٌ» .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثان لحديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، من رواية طاوس عنه، وهو متفق عليه، وتقدم تخريجه في الحديث السابق.
ومحمد بن قُدَامة: هو المصّيصيّ. وجرير: هو ابن عبد الحميد. ومنصور: هو ابن المعتمر. وحبيب: هو ابن أبي ثابت.
وقوله: "سأل رجل" قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: لم أقف على اسمه، ووقع في "المعجم الصغير" للطبرانيّ أن السائل هو ابن عمر، لكن يعكُر عليه رواية عبد اللَّه شقيق، عن ابن عمر: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا بينه وبين السائل، فذكر الحديث، وفيه: ثم سأله رجل على رأس الحول، وأنا بذلك المكان منه، قال: فما أدري أهو ذلك الرجل، أو غيره.
وعند النسائيّ من هذا الوجه أن السائل المذكور من أهل البادية
(2)
، وعند محمد بن نصر في "كتاب أحكام الوتر" من رواية عطية، عن ابن عمر أن أعرابيّا سأل، فيحتمل أن يُجمع بتعدد من سأل. قاله في "الفتح".
وقوله: "عن صلاة الليل" وفي رواية أيوب، عن نافع، عند البخاري "أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يخطب، فقال: كيف صلاة الليل؟ "، ونحوه في رواية سالم، عن أبيه، وقد تبيّن من الجواب أن السؤال وقع عن عددها، أو عن الفصل والوصل، وفي رواية محمد بن نصر من طريق أيوب عن نافع، عن ابن عمر، قال:"قال رجل: يا رسول اللَّه، كيف تأمرنا أن نصلي من الليل؟ ".
(1)
- "الأوسط" ج 5 ص 235 - 237.
(2)
- يأتي برقم 34/ 1691.
وأما قول ابن بزيزة: جوابه بقوله: "مثنى" يدلّ على أنه فهم من السائل طلب كيفية العدد، لا مطلق الكيفية، ففيه نظر، وأولى ما فُسّر به الحديث من الحديث.
واستُدلّ بمفهومه على أن الأفضل في صلاة النهار أن تكون أربعًا، وهو عن الحنفية، وإسحاق. وتعقّب بأنه مفهوم لقب، وليس بحجة على الراجح، وعلى تقدير الأخذ به، فليس بمنحصر في أربع، وبأنه خرج جوابًا للسؤال عن صلاة الليل، فقيد الجواب بذلك، مطابقة للسؤال، وبأنه قد تبيّن من الحديث السابق "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" أن حكم المسكوت عنه حكم المنطوق به، لكن قد عرفت ما في الحديث من الكلام. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "فإذا خشيت الصبح" وفي رواية نافع الآتية: "فإذا خشي أحدكم الصبح". استُدلّ به على خروج وقت الوتر بطلوع الفجر، وأصرح منه ما رواه أبو داود، والنسائي، وصححه أبو عوانة، وغيره من طريق سليمان بن موسى، عن نافع أنه حدّثه أن ابن عمر كان يقول:"من صلى من الليل، فليجعل آخر صلاته وترًا، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بذلك، فإذا كان الفجر، فقد ذهب كلّ صلاة الليل والوتر"
(1)
.
وفي "صحيح ابن خُزيمة" من طريق قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، مرفوعًا:"من أدركه الصبح، ولم يوتر، فلا وتر له". وهذا محمول على التعمد، أو على أنه لا يقع أداء، لما رواه أبو داود
(2)
من حديث أبي سعيد أيضًا مرفوعًا: "من نسي الوتر، أو نام عنه، فليصلّه إذا ذكر".
وقيل: معنى قوله: "إذا خشي أحدكم الصبح -أي وهو في شفع- فلينصرف على وتر. وهذا ينبني على أن الوتر لا يفتقر إلى نية.
وحكى ابن المنذر عن جماعة من السلف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياريّ، ويبقى وقت الضرورة إلى قيام صلاة الصبح. وحكاه القرطبيّ عن مالك، والشافعيّ، وأحمد، وإنما قاله الشافعيّ في القديم. وقال ابن قُدَامة: لا ينبغي لأحد أن يتعمّد ترك الوتر حتى يُصبح.
(1)
- يأتي للمصنف 30/ 1682 بلفظ: "من صلى من الليل، فليجعل آخر صلاته وترًا، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك".
(2)
- هكذا عزاه في "الفتح" إلى أبي داود، ولا أظنه أخرجه أبو داود، وإنما أخرجه أحمد في "مسنده" برقم-11002 - وأخرجه أيضًا بلفظ (من نام عن الوتر
…
" برقم 1087 وأخرجه بنحوه الترمذي رقم 465 وابن ماجه رقم 1188. فليُتنبّه.
وفي إسناد الجميع عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، وهو ضعيف. واللَّه تعالى أعلم.
واختلف السلف في مشروعية قضائه، فنفاه الأكثر، وفي مسلم وغيره
(1)
عن عائشة رضي الله عنها "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نام من الليل، من وجع، أو غيره، فلم يقم من الليل صلّى من النهار ثنتي عشرة ركعة".
وقال محمد بن نصر: لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الأخبار أنه قضى الوتر، ولا أمر بقضائه، ومن زعم أنه صلى الله عليه وسلم في ليلة نومهم عن الصبح في الوادي قضى الوتر، فلم يُصب.
وعن عطاء، والأوزاعيّ: يقضي، ولو طلعت الشمس، وهو وجه عند الشافعي، حكاه النوويّ في "شرح مسلم". وعن سعيد بن جبير: يقضي من القابلة، وعن الشافعية: يقضي مطلقًا، وُيستدلّ لهم بحديث أبي سعيد المتقدّم، واللَّه أعلم. ذكر هذا كله في "الفتح"
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول الراجح عندي قول من قال: يُقضىَ الوتر مطلقًا، لحديث "من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلّها إذا ذكرها
…
"، فإن لفظ "صلاة" نكرة في سياق الشرط فيدخل فيه الوتر وغيره، مما له وقت معين. وأما الاستدلال بحديث أبي سعيد رضي الله عنه المتقدم، فغير متجه، لأن في سنده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، وهو ضعيف، وقد خالفه أخوه عبد اللَّه بن زيد -وهو صدوق، فيه لين-، فرواه عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلاً، بلفظ: "من نام عن وتره، فليصلّ إذا أصبح"، قال الترمذي: وهذا أصح من الحديث الأول. يعني حديث عبد الرحمن المتقدّم. واللَّه تعالى أعلم.
[فائدة]: يؤخذ من سياق هذا الحديث أن ما بين طلوع الفجر، وطلوع الشمس من النهار شرعًا، وقد روى ابن دُريد في "أماليه" بسند جيّد أن الخليل بن أحمد سئل عن حدّ النهار، فقال: من الفجر المستطير إلى بداءة الشفق. وحكى ثعلب عن الشعبى أنه وقت منفرد، لا من الليل، ولا من النهار. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (فواحدة) بالرفع خبر لمحذوف، أي فهي ركعة واحدة، ويحتمل أن يكون بالنصب، مفعولا لمحذوف، أي صلّ ركعة واحدةً. وفي الروايات الآتية:"فأوتر بواحدة".
واستُدلّ بهذا على أنه لا صلاة بعد الوتر. وقد اختلف أهل العلم في ذلك، وسيأتي تحقيق الخلاف، وترجيح الراجح في "باب إباحة الصلاة بين الوتر وركعتي الفجر" 55/
(1)
- تقدم للمصنف برقم 2/ 1601.
(2)
- "فتح" ج 3 ص 163.
1756 إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1668 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ صَدَقَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ، فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثالث لحديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، من رواية سالم عنه، وهو متفق عليه، وتقدم تخريجه في الحديث الأول.
و (محمد بن صدقة) هو الجُبْلاني -بضم الجيم، وسكون الموحدة- أبو عبد اللَّه الحمصي المكتب، صدوق [11].
روى عن محمد بن حرب، ومحمد بن شعيب، وابن أبي فُديك، وغيرهم. وعنه النسائي، وقال: لا بأس به، وأبو حاتم، وقال: صدوق. وابن بُجير، وغيرهم. وقال مسلمة: حمصي لا بأس به انتهى. وهو ممن انفرد بهم المصنّف، روى عنه في هذا الكتاب حديثين فقط، برقم 1668 و 3658.
و (الزبيديّ) محمد بن الوليد الحمصي الحافظ المثبت. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1669 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى الْمِنْبَرِ، يُسْأَلُ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ؟ ، فَقَالَ:«مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ، فَأَوْتِرْ بِرَكْعَةٍ» .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق رابع لحديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى - عنهما -، من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عنه، وهو متفق عليه، وتقدم تخريجه قريبًا.
و"محمد بن منصور": هو الجوّاز المكي. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"ابن أبي لَبيد" -بفتح اللام: هو عبد اللَّه المدني، أبو المغيرة نزيل الكوفة، ثقة رُمي بالقدر، تقدّم 23/ 541. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1670 -
أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْحُرِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُمْ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ؟ ، قَالَ:«مَثْنَى مَثْنَى، فَإِنْ خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ، فَلْيُوتِرْ بِوَاحِدَةٍ» .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق خامس لحديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، من رواية نافع عنه، وهو متفق عليه، وتقدم تخريجه قريبًا.
و (موسى بن سعيد) بن النعمان بن بسام، الثّغْريّ، أبو بكر المعروف بالدَّنْدَانيّ- بمهملتين مفتوحتين، ونونين، الأولى ساكنة- صدوق [11].
روى عن أبي اليمان، وعبد اللَّه بن رجاء، وأحمد بن عبد اللَّه بن يونس، وغيرهم. وعنه النسائيّ، وقال: لا بأس به، وأبو عوانة الإسفرايينيّ، وأبو بشر الدُّولابي، وغيرهم.
وهو من أفراد المصنّف، روى عنه في هذا الكتاب حديثين فقط برقم 1670 و 3653. و (أحمد بن عبد اللَّه بن يونس) هو التيميّ الكوفيّ الحافظ الثقة من كبار [10] 93/ 1351.
و (زُهير) هو ابن معاوية بن حُديج الكوفيّ الحافظ الثقة [7].
و (الحسن بن الحُرّ) بن الحَكَم النخعي، ويقال: الجعفي، أبو محمد، ويقال: أبو الحكم الكوفيّ، نزيل دمشق، ثقة فاضل [5].
روى عن أبي الطفيل، والشعبيّ، ونافع، وغيرهم. وعنه ابن عجلان، من شيوخه، والأوزاعيّ، وزهير بن معاوية، وغيرهم.
قال ابن معين، ويعقوب بن شيبة، والنسائيّ، وعبد الرحمن بن خِرَاش: ثقة، وكان بليغًا جوادًا. وقال الأوزاعيّ: ما قَدِم علينا من العراق أفضل من عبدة بن أبي لبابة، والحسن بن الحرّ. وقال زهير: حدثنا الصدوق العاقل الحسن بن الحُرّ. وقال الحاكم: ثقة مأمون مشهور. ووثقه العجليّ، وأبو الفضل الهرويّ، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، مات بمكة سنة (133). انفرد به أبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم 1670 و 1687 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1671 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ، فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق سادس لحديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى - عنهما -، وهو متّفقٌ عليه، وتقدم تخريجه في حديث أول الباب.
و (الليث) هو ابن سعد الإمام الحجة المصريّ [7] 31/ 35.
والإسناد من رباعيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أعلى الأسانيد له كما تقدّم غير مرّة، وهو (103) من رباعيات الكتاب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1672 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ؟ ، فَقَالَ:«صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ، فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق سابع لحديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وهو متّفق عليه، وتقدم تخريجه قريبًا.
و (أحمد بن محمد بن المغيرة) هو الأزدي الحمصي، صدوق [11] 69/ 85.
و (عثمان) هو ابن سعيد بن كثير بن دينار، أبو عمرو الحمصيّ ثقة عابد [9] 69/ 85.
و (شعيب) هو ابن أبي حمزة الحمصي الحافظ المثبت [7] 69/ 85 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1673 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِى ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَجُلاً، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ، فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثامن لحديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى - عنهما -، وهو متفقٌ عليه، وتقدم تخريجه قريبًا.
و (محمد بن يحيى) الذُّهْلي النيسابوريّ الإمام الحافظ الحجة [11] 196/ 314.
و (يعقوب بن إبراهيم) هو الزهريّ المدني، نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار [9] 196/ 314.
و (ابن أخي ابن شهاب) هو محمد بن عبد اللَّه بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب الزهري المدنيّ ، صدوق له أوهام [6].
روى عن أبيه، وعمه، وصالح بن عبد اللَّه بن أبي فَرْوة، وغيرهم. وعنه ابن إسحاق، أكبر منه، وإبراهيم بن سعد، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد، وغيرهم.
قال أحمد: لا بأس به، وعنه: صالح الحديث. وقال ابن معين: ضعيف. وعنه ليس بذاك القويّ، وقال مرّة: صالح. وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ يُكتب حديثه. وسئل أبو داود عنه؟ فقال: ثقة، سمعت أحمد يُثني عليه، وأخبرني عباس عن يحيى بالثناء عليه.
وقال ابن عديّ: لم أر بحديثه بأسًا، ولا رأيت له حديثا منكرًا، فأذكرَه، إذا روى عنه ثقة. وقال الساجيّ: صدوق، تفرّد عن عمه بأحاديث لم يُتابَع عليها. وقال الحاكم: إنما أخرج له مسلم في الاستشهاد. وقال الحافظ: لم أر له في البخاري غير حديثين.
وقال ابن معين: هو أمثل من أبي أويس، ويقال: إنه انفرد عن عمه بحديث "كلُّ أمتي
مُعافًى إلا المجاهرون"، و"كان صلى الله عليه وسلم يأكل بكفه كلها"، وقول أبي هريرة في خطبته: "كل ما هو آت قريب". ورَوى الواقديّ عنه، عن عمه حديثا آخر، والواقديّ غير حجة.
قال الواقدي: قتله غلمانه بأمر ابنه لأمواله، وكان ابنه سفيهًا شاطرًا قتله للميراث، في آخر خلافة أبي جعفر سنة (152) ثم وثب عليه غلمانه، فقتلوه أيضًا بعد سنين، وليس له عقب، وكان كثير الحديث صالحًا. وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ، وكثير الوَهَم، مات سنة (157). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
و (حميد بن عبد الرحمن) هو ابن عوف الزهري المدني، ثقة [2] 32/ 725. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1674 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَحُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَاهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ، فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق تاسع لحديث ابن عمر رضي الله عنه، وهو متّفقٌ عليه، وتقدم تخريجه أيضًا.
و (أحمد بن الهيثم) بن حفص الثَّغْريّ -بالمثلّثة، والغين المعجمة- قاضي طَرَسُوس، صدوق [12].
روى عن حرملة، وموسى بن داود. وعنه النسائيّ حديثا واحدًا في الصوم
(1)
، وأبو عمر أحمد بن محمد الجلّيّ، وغيرهما. قال النسائيّ: لا بأس به. وانفرد هو به، روى عنه في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
و (حَرْمَلة) هو بن يحيى بن عبد اللَّه بن حرملة بن عِمران التُّجِيبيّ، أبو حفص المصري، صاحب الشافعيّ، صدوق [11].
روى عن ابن وهب، فأكثر، وعن الشافعيّ، ولازمه، وأيوب بن سُويد، وغيرهم. وعنه مسلم، وابن ماجه، وروى له النسائيّ بواسطة أحمد بن الهيثم، وغيرهم.
قال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به. وقال الدُّوريّ، عن يحيى: شيخٌ
(1)
هكذا قال في "تهذيب التهذيب""في الصوم" ورمز للنسائي في "المجتبى"، وفيه نظر؛ لأنه ما أخرج له النسائي في "المجتبى" إلا حديث الباب، وهو في الصلاة، لا في الصوم، أما حديث الصوم فأخرجه في "الكبرى" جـ2 ص 186: رقم (2976) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصبح جنبًا من جماع، لا حلم، ثم لا يفطر، ولا يقضي".
بمصر، يقال له: حرملة، كان أعلم الناس بابن وهب. وقال ابن عديّ: سألت عبد اللَّه ابن محمد بن إبراهيم الفَرْهَادانيّ أن يُملي عليّ شيئًا من حديث حَرْملة، فقال لي: يا بُنيّ ما تصنع بحرملة؟ حرملةُ ضعيف. وقال أحمد بن صالح: صنّف ابنُ وهب مائة ألف حديث وعشرين ألف حديث، عند بعض الناس النصفُ -يعني نفسه- وعند بعض الناس منها الكلّ -يعني حرملة-. وقال ابن عديّ: وقد تبحّرتُ حديثَ حرملة، وفتّشته الكثيرَ، فلم أجد فيه ما يجب أن يضعّف من أجله، ورجل يكون حديث ابن وهب كله عنده، فليس ببعيد أن يُغْرب على غيره كُتُبًا ونُسَخًا، وأما حَمْلُ أحمد بن صالح عليه، فإن أحمد سمع في كتب حرملة من ابن وهب، فأعطاه نصف سماعه، ومنعه النصف، فتولّد بينهما العداوة من هذا، وكان مَن يبدأ بحرملة إذا دخل مصر لا يُحدثه أحمد بن صالح، وما رأينا أحداً جمع بينهما.
قال الحافظ: كذا قال، وقد جمع بينهما أحمد بن رِشْدِين شيخُ الطبرانيّ، لكن يُحمل قول ابن عديّ على الغرباء. مات حرملة سنة (244) كذا قال. وقال ابن يونس: ولد سنة (166) وتوفي لتسع بقين من شوّال سنة (43). وكان مِنْ أَمْلَى الناس بما روى ابن وهب. ونقل أبو عمر الكنديّ أن سبب كثرة سماعه من ابن وهب أن ابن وهب استَخفَى عندهم لَمّا طُلِب للقضاء. قال: ونظر إليه أشهب، فقال: هذا خير أهل المسجد. وقال العُقيليّ: كان من أعلم الناس بابن وهب، وهو ثقة إن شاء اللَّه تعالى. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال أبو عبد اللَّه البُوشَنجيّ: سمعت عبد العزيز بن عمران المصريّ يقول: لقيتُ حرملة بعد موت الشافعيّ، فقلت له: أَخرِجْ إلي فهرست كتب الشافعيّ، قال: فأخرجه إليّ، فقلت: ما سمعتم من هذه الكتب؟ قال: فسمّى لي سبعة كتب، أو ثمانية، فقال: هذا كل شيء عندنا عن الشافعي عَرْضًا وسماعًا. قال أبو عبد اللَّه البُوشنجيّ: فرَوَى عنه الكتب كلها سبعين كتابا، أو أكثر، وزاد أيضًا ما لم يُصنّفه الشافعيّ، وذاك أنه رَوَى عنه فيما أخبرنا بعض أصحابنا "كتاب الفَرْق بين السحر والنبوّة"، وأنه قيل له في ذلك، فقال: هذا تصنيف حفص الفرد، وقد عرضته على الشافعي، فرضيه. روى له مسلم، والمصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
و (ابن وهب) هو عبد اللَّه المصريّ الثقة الحافظ العابد [9] 9/ 9.
و (عمرو بن الحارث) هو المصريّ الحافظ الثقة الفقيه [7] 63/ 79. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب"
27 - بَابُ الأَمْرِ بِالْوِتْرِ
قال ابن منظور رحمه الله: الوِتْر -بالكسر- والوَتْر -بالفتح-: الفرد، أو ما لم يتشفّع من العدد، وأوتره: أفَذّه، قال اللِّحْيانيّ: أهل الحجاز يُسمّون الفرد الوَتْر، وأهل نجد يكسرون الواو، وهي صلاة الوِتْر، والوَتْرِ لأهل الحجاز، ويقرءون:{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3]، والكسر لتميم، وأهلِ نجد يقرءون {وَاَلشَّفعِ وَالوَتْرِ} وأوتر: صلّى الوتر، وقال اللِّحْيانيّ: أوتر في الصلاة فعدّاه بـ "في"، وقرأ حمزة، والكسائيّ:{وَالوَتْرِ} بالكسر، وقرأ عاصم، ونافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر:{وَالوَتْرِ} بالفتح، وهما لغتان معروفتان. انتهى.
(1)
.
[فائدة]: قال ابن التين رحمه الله: اختُلف في الوتر في سبعة أشياء: في وجوبه، وعدده، واشتراط النيّة فيه، واختصاصه بقراءة، واشتراط شفع قبله، وفي آخر وقته، وصلاته في السفر على الدابّة. وزاد الحافظ رحمه الله: وفي قضائه، والقنوت فيه، وفي محل القنوت منه، وفيما يقال فيه، وفي فصله ووصله، وهل تسنّ ركعتان بعده، وفي صلاته من قعود، لكن هذا الأخير ينبني على كونه مندوبًا، أو لا، وقد اختلفوا في أول
وقته أيضًا، وفي كونه أفضل صلاة التطوّع، أو الراتبُ أفضل منه، أو خصوص ركعتي الفجر. انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر ما ذهب إليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أن الأمر للاستحباب، حيث أتى بعد حديثِ "يا أهل القرآن أوتروا
…
" بقول علي رضي الله عنه: "الوتر ليس بحتم
…
"، وهذا الذي ذهب إليه هو الحقّ -كما هو مذهب الجمهور- وسيأتي تحقيق ذلك في المسألة الرابعة من الحديث التالي -إن شاء اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب
1675 -
أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمٍ، وَهُوَ ابْنُ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:«يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، أَوْتِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل وِتْرٌ، يُحِبُّ الْوِتْرَ» .
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هنّاد بن السَّرِيّ) التيميّ، أبو السريّ الكوفيّ، ثقة [10] 23/ 25.
(1)
-"لسان العرب" مادة وتر.
(2)
-"فتح" ج 3 ص 161.
2 -
(أبو بكر بن عيّاض) الأسديّ الكوفي المقرئ، مشهور بكيته، والأصحّ أنها اسمه، وقيل: محمد، وقيل: عبد اللَّه، وقيل: شعبة، وقيل: غير ذلك، ثقة عابد، كَبِرَ، فساء حفظه، وكتابه صحيح [7] 98/ 127.
3 -
(أبو إسحاق) السبيعي، عمرو بن عبد اللَّه الكوفي، ثقة عابد اختلط بآخره، وكان يدلّس [3] 38/ 42.
4 -
(عاصم بن ضمرة) السلُوليّ الكوفيّ، صدوق [3] 65/ 874.
5 -
(علي) بن أبي طالب، أبو الحسن الخليفة الراشد - رضي اللَّه تعالى عنه - 74/ 91 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي: أبي إسحاق، عن عاصم، وهو من رواية الأقران. (ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشّرين بالجنة، وابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته - رضي اللَّه تعالى عنهما -. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَليِّ رضي الله عنه) أنه (قَالَ: أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي صلى صلاة الوتر (ثمَ قَالَ: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ) يعني المؤمنين المصدّقين به، والمعتنين بحفظه وتلاوته.
وقال القاري: أي أيها المؤمنون به، فإن الأهلية عامّة شاملة لمن آمن به، سواء قرأ، أو لم يقرأ، وإن كان الأكمل منهم من قرأ، وحَفِظَ، وعَلِم، وعمل، ممن تولّى قيام تلاوته، ومراعاة حدوده وأحكامه انتهى.
وقال الخطابي في "المعالم" ج 1 ص 285: تخصيصه أهل القرآن بالأمر فيه يدلّ على أن الوتر غير واجب، ولو كان واجبًا لكان عامّا، وأهل القرآن في عرف الناس هم القرّاء، والحفّاظ، دون العوام، ويدلّ على ذلك أيضًا قوله للأعرابي:"ليس لك، ولا لأصحابك" انتهى. (أَوْتِرُوا) أمر بصلاة الوتر، وهو أن يصلي مثنى مثنى، ثم يصلي في آخرها ركعة مفردة، أو يضيفها إلى ما قبلها من الركعات. كذا في "النهاية". وقال الطيبيّ: يريد بالوتر في هذا الحديث قيام الليل، فإن الوتر يُطلق عليه، كما يُفهم من الأحاديث، فلذا خصّ الخطاب بأهل القرآن انتهى. والأمر للندب، لا للوجوب بدليل قول علي - رضي اللَّه تعالى عنه - التالي: "الوتر ليس بحتم، كهيئة المكتوبة
…
" الحديث
(فَإِن اللَّهَ عز وجل) الفاء للتعديل، أي لأنه تعالى (وِتْرٌ) قال الجزريّ: الوتر الفرد، وتكسر واوه، وتفتح، فاللَّه واحد في ذاته، لا يقبل الانقسام والتجزئة، واحد في صفاته، فلا شِبْه له، ولا مِثْل، واحد في أفعاله، فلا شريك له، ولا معين (يُحِبُّ الْوِتْرَ") فيه إثبات المحبة للَّه تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، وأما تفسير من فسّره بأنه يُثيب عليه، ويَقبله، من عامله، -وهو تفسير باللازم- فإنه غير مرضيّ.
قال القاضي: كل ما يناسب الشيء أدنى مناسبة كان أحبّ إليه مما لم يكن له تلك المناسبة انتهى
(1)
.. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث علي - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.
المسألة الثانية: "في بيان مواضع ذكر المصنّف له:
أخرجه هنا-27/ 1675 - وفي "الكبرى" 41/ 1384 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (ت) 453 (ق) 1169 (أحمد) 1/ 100 و 107 و 110 و115 و120 (عبد بن حميد) 70 (الدارميّ) 1587 (ابن خزيمة)1067. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- وهو الأمر بصلاة الوتر، وسيأتي اختلاف العلماء، هل هو للوجوب، أم للاستحباب؟، في المسألة الرابعة من مسائل الحديث التالي، إن شاء اللَّه تعالى.
ومنها: تأكد الطلب بالوتر لحفظة كتاب اللَّه تعالى أشدّ من غيرهم، للعناية بالمحافظة- على كتاب اللَّه، والقيام به. ومنها: وصف اللَّه تعالى بأنه وتر، لكونه فردا في ذاته، وصفاته، وأفعاله. ومنها: محبة اللَّه تعالى لمن يصلي صلاة الوتر محبة خاصّة، وإن كان يحب المؤمنين عامة. ومنها: إثبات صفة المحبّة للَّه تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1676 -
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي
(1)
- انظر "المرعاة" ج 4 ص 275 - 276.
إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: الْوِتْرُ لَيْسَ بِحَتْمٍ، كَهَيْئَةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَكِنَّهُ سُنَّةٌ، سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن إسماعيل بن إبراهيم) ابن عُليّة قاضي دمشق، ثقة حافظ [11] 22/ 489.
2 -
(أبو نعيم) الفضل بن دُكين الكوفيّ، ثقة ثبت [9] 11/ 516.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ الإمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.
والباقون تقدّموا في السند الماضي. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فإنه بصري، نزيل دمشق. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَليٍّ رضي الله عنه) أنه (قَالَ: ((الْوِتْرُ لَيْسَ بِحَتْم) أي واجب (كَهَيْئَةِ الْمَكْتُوبَةِ) أي كصفة الصلاة المفروضة، وهي كونها حتما لازمًا، لا تبرأ ذمّة المكلّف ما دام مكلّفًا إلا بأدائها، وهو ظاهر في عدم وجوب الوتر، كما هو مذهب الجمهور، وهو الحقّ، كما يأتي قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى (وَلَكِنَّهُ) ولفظ "الكبرى""ولكنها" بتأنيث الضمير، وإن كان عائدًا على "الوتر" باعتبار أنه صلاة (سُنَّةٌ، سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي طريقة شرعها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأمته، بقوله:"أوتروا" .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث على - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا-27/ 1676 - بالإسناد المذكور، وفي "الكبرى"-41/ 1385 - عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان به. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (ت) 454 (أحمد) 1/ 86. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في حكم الوتر:
قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: دلت الأخبار على أن فرائض الصلوات خمس، وسائرهنّ تطوّع، وهو قول عوامّ أهل العلم، غير النعمان، فإنه خالفهم، وزعم أن الوتر فرض، وهذا القول مع مخالفته للأخبار الثابتة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خلاف ما عليه عوامّ أهل العلم، عالمهم، وجاهلهم، ولا نعلم أحدًا سبقه إلى ما قال، وخالفه أصحابه، فقالوا كقول سائر الناس. انتهى
(1)
.
وقال الإمام أبو عبد اللَّه محمد بن نصر المروزي -رحمه اللَّه تعالى- في "كتاب الوتر": افترض اللَّه على النبي صلى الله عليه وسلم، وأمته أول ما افترض ليلة أُسري به خمس صلوات في اليوم والليلة، فأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك أمته، ثم لم يزل بعد هجرته، وقدومه المدينة، ونزول الفرائض عليه، فريضة بعد فريضة، من الزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، يُخبر بمثل ذلك إلى أن توفّي- صلوات اللَّه، وسلامه عليه- وقَدِمتْ وفودُ العرب، بعد فتح مكة، ورجوعه إلى المدينة، وذلك في سنة تسع وعشر، من البادية، ونواحيها، يسألونه عن الفرائض، يخبرهم في كلّ ذلك أن عدد الصلوات المفترَضَات خمس، ووجّه معاذَ بنَ جبل إلى اليمن، وذلك قبل وفاته بقليل، فأمره أن يُخبرهم بأن فرض الصلوات خمس، ثم آخره ما خطب به بذلك في حجة الوداع
(2)
، فأخبرهم أن عدد الصلوات المفترَضات خمس، لا أكثر من ذلك، وفيها نزلت:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} الآية [المائدة: 3]، ثم لم ينزل بعد ذلك فريضة، ولا حرام، ولا حلال، فرجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فمات بعد رجوعه بأقلّ من ثلاثة أشهر، ثم أخبر أبو بكر رضي الله عنه بذلك بعد وفاته، ثم أخبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الوتر ليس بحتم، كالصلوات المكتوبة، ولكنه سنة، وغير جائز أن يكون مثل أبي بكر، وعلي رضي الله عنهما يجهلان فريضة صلاة من الصلوات المفروضات، وهما يحتاجان إليها في كلّ ليلة، حتى يجحدا فرضها، مَن ظنّ هذا بهما، فقد أساء الظنّ بهما. قال: وكان أبو حنيفة يوجب الوتر،
(1)
- "الأوسط" ج 5 ص 167 - 168.
(2)
- قال محمد بن نصر: حدثنا علي بن حُجر، أخبرنا فَرَج بن فَضَالة، عن لقمان، عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال: ألا لعلكم لا تروني بعد عامكم هذا، فقام إليه رجل، فقال: يا رسول اللَّه، ما الذي تَعهَد إلينا؟ قال:"اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وحُجوا بيتكم، وأدوا زكاتكم، طيّبة بها أنفسكم، تدخلوا الجنة". انتهى.
قال الجامع: رجال هذا الإسناد ثقات، غير لقمان بن عامر الوصّابي، فإنه صدوق، وفرج بن فضالة، ضعّفوه في غير الشاميين، وهذا من أحاديث الشاميين، فالحديث حسن. واللَّه أعلم.
وخالفه أصحابه في الوتر، فقالوا: هو سنة، وليس بفرض. انتهى كلام محمد بن نصر باختصار -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن المنذر، وابن نصر -رحمهما اللَّه تعالى- من كون الوتر سنة من السنن، وليس بواجب، هو الحقّ، كما هو مذهب جمهور أهل العلم --رحمهم اللَّه تعالى--.
والحاصل أن الوتر سنة مؤكّدة، وليس بواجب، لهذه الأدلة الواضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
28 - بَابُ الْحَثِّ عَلَى الْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ
1677 -
أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَلْمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي شِمْرٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم، بِثَلَاثٍ النَّوْمِ عَلَى وِتْرٍ، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَي الضُّحَى.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سُليمان بن سَلْم) البلخي المصاحفيّ، ثقة [11] 118/ 1075.
2 -
(محمد بن علي بن الحسن بن شَقيق) المروزي، ثقة [11] 22/ 106.
3 -
(النضر بن شُميل) أبو الحسن النحويّ البصريّ، ثقة ثبت، من كبار [8] 41/ 45.
4 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الشهير [7] 24/ 26.
5 -
(أبو شِمْر) -بكسر أوله، وسكون الميم- الضُّبَعيّ البصريّ، مقبول [4].
رَوَى عن عائذ بن عمرو، وأبي عثمان النَّهْديّ، وابن أبي مُليكة، وأرسل عن عبادة ابن الصامت. وعنه شعبة، والصَّلْت بن طَرِيف البصريّ. ذكره ابن حبّان في "الثقات".
(1)
- "مختصر قيام الليل" للمقريزي ص 115 - 119.
وقال ابن المدينيّ: أبو شِمْر لم يرو عنه غير شُعبة. وفرق الحاكم أبو أحمد بين أبي شمر
عن أبي عثمان النّهدي، وعنه شعبة، وبين أبي شمر روى عن ابن أبي مليكة، وعنه
الصَّلْت- بن طَرِيف. وقال الطبراني: هما واحد، كذا قال. روى لي مسلم، والمصنف،
وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
6 -
(أبو عثمان) النهديّ عبد الرحمن بن ملّ بن عمرو الكوفيّ، ثم البصريّ، ثقة ثبت عابد مخضرم، من كبار [2] 11/ 641.
7 -
(أبو هريرة) الدوسيّ - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخيه، فالأول بلخيّ، والثاني مروزي. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ مخضرم. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أكثر من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أبَيِ هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قالَ: أوصَانِي) أي عَهد إليّ، وأمرني أمرًا مؤكّدًا (خَلِيلي صلى الله عليه وسلم) يعني رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، والخليلُ: الصَّدِيق الخالص الذي تخلّلت محبّته القلبَ، فصارت في خلاله، أي في باطنه، واختُلف هل الخُلّة أرفع من المحبّة، أو بالعكس، وقول أبي هريرة هذا لا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر
…
" لأن الممتنع هو أن يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم غيره تعالى خليلاً، ولا يمتنع
اتخاذ الصحابي وغيره النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً. ولا يقال: إن المخاللة لا تتمّ حتى تكون من الجانبين، لأنا نقول: إنما نظر الصحابي إلى أحد الجانبين، فأطلق ذلك، أو لعلّه أراد مجرّد الصحبة، أو المحبّة
(1)
(بِثَلَاثٍ) أي ثلاث خصال، زاد في رواية البخاري:"لا أدعهنّ حتى أموت"، قال في "الفتح": يحتمل أن يكون قوله: (لا أدعهنّ) الخ من جملة الوصية، أي أوصاني أن لا أدعهنّ، ويحتمل أن يكون من إخبار الصحابي بذلك عن نفسه. ولفظ أبي داود:"لا أدعهنّ في سفر، ولا حضر"(النَّوْمِ عَلَى وِتْرٍ) بجر "النوم" على أنه بدل تفصيل من "ثلاث"، أو نصبه على أنه مفعول لمحذوف، أي أعني. ومعنى "النوم على وتر" أن يصلي الوتر قبل أن ينام، لا أنه لا بدّ من نوم بعده، وفي رواية:
(1)
- "فتح" ج 3 ص 375.
"وأن أوتر قبل أن أنام"- ولعله أوصاه بذلك لأنه خاف عليه الفوت بالنوم، ففيه أن من خاف فوات الوتر، فالأفضل له التقديم، وأما من لا يخاف منه، فالتأخير في حقّه أفضل.
قال الحافظ رحمه الله: لا معارضة بين وصيّة أبي هريرة بالوتر قبل النوم، وبين قول عائشة:"وانتهى وتره إلى السحر"، لأن الأول لإرادة الاحتياط، والآخر لمن علم من نفسه قوّة، كما ورد في حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم. انتهى.
(وَصِيَامِ ثَلَاَثةِ أَيَّامِ مِنْ كُلِّ شَهْرِ) أي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، يعني الأيام البيض، هذا هو الظاهر، كما قاله في "الفتح". وقيل: يوما من أوله، ويومًا من وسطه، ويومًا من آخره، وقيل: يوما من أول كلّ عشر. وإعراب "صيام" كسابقه (وَرَكْعَتَي الضُّحَى) زاد أحمد فى روايته: "كلّ يوم".
وقال ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى-: لعله ذكر الأقلّ الذي يوجد التأكيد بفعله، وفي هذا دلالة على استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان، وعدم مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها لا ينافي استحبابها؛ لأنه حاصل بدلالة القول، وليس من شرط الحكم أن تتضافر عليه أدلّة القول والفعل، لكن ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم على فعله مرجَّحٌ على ما لم يواظب عليه
(1)
.
ومن فوائد ركعتي الضحى أنهما يجزئان عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان في كلّ يوم، وهي ثلاثمائة وستون مَفْصِلاً، كما أخرجه مسلم من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه، وقال فيه:"ويجزىء عن ذلك ركعتا الضحى".
[تنبيه]: حكى الحافظ أبو الفضل العراقي -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح الترمذيّ" أنه اشتهر بين العوامّ أن من صلّى الضحى، ثم قطعها يَعْمَى، فصار كثير من الناس يتركونها أصلاً لذلك، وليس لما قالوه أصل، بل الظاهر أنه مما ألقاه الشيطان على ألسنة العوامّ، ليَحْرِمهم الخيرَ الكثيرَ، لا سيّما ما وقع في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه انتهى
(2)
.
[تنبيه آخر]: هذه الوصيّة لأبي هريرة رضي الله عنه ورد مثلها لأبي الدرداء رضي الله عنه، فيما رواه مسلم، ولأبي ذرّ رضي الله عنه فيما رواه النسائي.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: والحكمة في الوصية على المحافظة على ذلك تمرين النفس على جنس الصلاة، والصيام، ليدخل في الواجب منها بانشراح، ولينجبر ما لعلّه يقع فيه من نقص. قال: واقتصر في الوصية للثلاثة المذكورين على الثلاثة المذكورة، لأن
(1)
- "فتح" ج 3 ص 375.
(2)
- المصدر المذكور.
الصلاة، والصيام أشرف العبادات البدنيّة، ولم يكن المذكورون من أصحاب الأموال، وخُصّت الصلاة بشيئين لأنها تقع ليلًا ونهارًا، بخلاف الصيام. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:
أخرجه هنا-28/ 1677 - وفي "الكبرى" 42/ 1396 - بالإسناد المذكور، وفي 1678 - و"الكبرى" 1397 - عن محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عباس الْجُرَيريّ، عن أبي عثمان به. وفي "الكبرى" أيضًا
(1)
عن بشر بن هلال الصّوّاف البصريّ، عن عبد الوارث، عن أبي التّيّاح، عن أبي عثمان به. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (خ) 2/ 73 و 3/ 53 (م) 2/ 158 (أحمد) 2/ 459 (الدارمي) 1462 و 1753 (ابن خزيمة) 2123 واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو الحثّ على صلاة الوتر قبل النوم، وهذا في حقّ من يغلبه النوم آخر الليل، وإلا فالآخر أفضل. ومنها: ما قاله ابن أبي جمرة رحمه الله: في إفراده بهذه الوصية إشارةً إلى أن القدر الموصى به هو اللائق بحاله. ومنها: أن في قوله: "خليلي" إشارة إلى موافقته في إيثار الاشتغال بالعبادة على الاشتغال بالدنيا؛ لأن أبا هريرة صبر على الجوع في ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في "صحيح البخاري" عنه، أنه قال: "أمّا إخواني من المهاجرين، فكان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بملء بطني
…
الحديث، فشابه حالَ النبي صلى الله عليه وسلم في إيثاره الفقر على الغنى، والعبوديّة على الملك. ومنها: أنه يؤخذ منه الافتخار بصحبة الأكابر إذا كان ذلك على معنى التحدّث بالنعمة، والشكر للَّه تعالى، لا على وجه المباهاة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الخامسة: في اختلاف أهل العلم هل الوتر أول الليل أفضل، أم آخره؟: أخرج مسلم رحمه الله في "صحيحه" عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من خاف أن لا يقوم، من آخر الليل، فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره، فليوتر آخر
(1)
- هكذا عزاه إليه بعضهم، ولم أجده.
الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل"، وقال أبو معاوية: "محضورة". وأخرج ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه" عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "متى توتر؟ " قال: أُوتِر، ثم أَنَام، قال: "بالحزم أخذت"، وسأل عمر، فقال: "متى توتر؟ "، قال: أنام، ثم أقوم من الليل، فأُوتر، قال. "فِعْلِي فَعَلْتَ"، وفي رواية: "بفعل القويّ فعلتَ".
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله بعد أن أخرج الحديثين: ما نصّه: فدلّ قوله: "وذلك أفضل" على أن الوتر في آخر الليل أفضل.
وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فكان أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه يوتر أول الليل، وكان عثمان بن عفّان رضي الله عنه ينام قبل أن يوتر، ورُوي معنى ذلك عن رافع بن خَدِيج رضي الله عنه، وفعل ذلك عائذ بن عمرو رضي الله عنه لمّا أسنّ، وروينا عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنه قال: الأكياس الذين إذا علموا أنهم لا يقومون أوتروا من قبل أن يناموا، وأن الأقوياء الذين يوترون آخر الليل، وهو أفضل.
قال: وروينا عن علي بن أبي طالب، أنه لما نظر إلى تباشير الفجر، قال: نعم ساعة الوتر هذه، وكان عائذ بن عمرو يوتر آخر الليل، فلما أسنّ أوتر، ثم نام، وكان عبد اللَّه ابن مسعود يوتر آخر الليل، وممن استحبّ الوتر آخر الليل النخعيّ، ومالك بن أنس، وسفيان الثوريّ، وأصحاب الرأي.
قال: ويشبه أن يكون من حجة من رأى أن الوتر أول الليل أفضل حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "ثلاث أوصاني بهنّ، أن أنام على وتر"، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم "من طَمِعَ في أن يستيقظ من آخر الليل، فإن قراءة آخر الليل محضورة، وذلك أفضل"، دلّ على أن قول أبي هريرة رضي الله عنه:"ثلاث أوصاني بهنّ: الوتر قبل النوم"، إنما هنّ على معنى الحَذَرِ، والوثيقة، تخوّفًا أن لا يستيقظ، فيوترَ آخر الليل. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر أن الأفضل لمن يشق بالانتباه آخر الليل فالأفضل أن يؤخّر الوتر إلى آخر الليل، ومن خاف أن لا يقوم فيه، فالأفضل له أن يوتر قبل النوم.
والحاصل أن الأحاديث المطلقة، في الوصية بالوتر قبل النوم، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في الباب مقيدة بمخافة ذوات الوتر باستغراقه في النوم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(1)
- "الأوسط" ج 5 ص 171 - 174.
1678 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلِمَةً، مَعْنَاهَا عَنْ عَبَّاسٍ الْجُرَيْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم، بِثَلَاثٍ: الْوِتْرِ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثان لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه.
و"محمد" شيخ ابن بشار، هو محمد بن جعفر المعروف بـ "غُندر".
و (عباس الجُرَيري) -بضم الجيم-: هو عباس بن فَرُّوخ -بفتح الفاء، وتشديد الراء، آخره معجمة- أبو محمد البصريّ، ثقة [6].
روى عن أبي عثمان النَّهْديّ، والحسن البصريّ، وعمرو بن شُعيب، إن كان محفوظًا. وعنه شعبة، وهمام، والحمادان، وغيرهم. قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ثقة ثقة. وكذا قال النسائي. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، مات كَهْلاً بعد (120). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
وقوله: (وركعتي الفجر) هكذا وقع في النسختين المطبوعتين من "المجتبى" هنا، وفي "الهندية" هنا، وفي الرواية السابقة بلفظ "وركعتي الفجر"، ووقع في "الكبري" في الموضعين بلفظ:"وركعتي الضحى"، والذي يظهر لي أن نسخ "المجتبى" كلَّها وقع فيها تصحيف، والصواب "وركعتي الضحى"، كما في "الكبرى"، فقد أخرج الحديث البخاري رحمه الله رقم 1178 - عن مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، بسند المصنّف، وفيه:"وصلاة الضحى"، وأخرجه مسلم رحمه الله من طريق أبي التَّيَّاح، عن أبي عثمان، وفيه:"وركعتي الضحى"، ثم أخرجه من طريق شعبة، عن عباس الْجُريري، وأبي شِمْر الضُّبَعي، كلاهما عن أبي عثمان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. وكذا هو عند ابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما"، وأحمد في "مسنده"، والبيهقي في "سننه"، وغيرهم، فليس عند أحد منهم لفظ:"وركعتي الضحى"، وهو كذلك أيضًا في وصية أبي الدرداء، وأبي ذرّ رضي الله عنه، كما تقدّم.
والحاصل أن الصواب "وركعتي الفجر". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
29 - بَابُ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عنِ الْوِترَيْنِ فِي لَيلَةِ
1679 -
أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ مُلَازِمِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَدْرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ، قَالَ: زَارَنَا أَبِي، طَلْقُ بْنُ عَلِيٍّ، فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَمْسَى بِنَا، وَقَامَ بِنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَأَوْتَرَ بِنَا، ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى مَسْجِدٍ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ، حَتَّى بَقِيَ الْوِتْرُ، ثُمَّ قَدَّمَ رَجُلاً، فَقَالَ لَهُ: أَوْتِرْ بِهِمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» .
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هنّاد بن السّريّ) تقدم قبل باب.
2 -
(مُلازم بن عمرو) بن عبد اللَّه بن بدر، أبو عمرو اليماميّ، صدوق [8] 119/ 165.
3 -
(عبد اللَّه بدر) بن عَميرة الحنفيّ السُّحَيميّ اليماميّ، ثقة [4] 119/ 165.
4 -
(قيس بن طلق) بن علي الحنفيّ اليماميّ، صدوق [3] 119/ 165.
5 -
(طلق بن علي) بن المنذر الحنفيّ السُحَيميّ، أبو عليّ اليماميّ، صحابي، له وفادة - رضي اللَّه تعالى عنه - 119/ 165 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل باليماميين، غير شيخه، فكوفيّ. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ) الحنفي -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (قَالَ: زَارَنَا أَبِي، طَلْقُ بْنُ عَليِّ) بالرفع بدل من "أبي"(فِي يَوْم مِنْ رَمَضَانَ، فَأمْسَى بِنَا) أي تأخر معنا حتى دخل وقت المساء (وَقَامَ بنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ) أيَ صلى بنا إمامًا صلاة الليل (وَأَوْتَرَ بِنَا) أي صلى بنا صلاة الوتر إمامًا (ثُمَّ انْحَدَرَ) أي نزل (إِلَى مَسْجِدٍ) من مساجد قومه، ولفظ أبي داود:"إلى مسجده" بالإضافة إلى ضميره (فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ) قال السندي رحمه الله: الظاهر أنه صلى بهم الفرض والنفل جميعًا، فيكون اقتداء القوم به في الفرض من اقتداء المفترض بالمتنفّل
(حَتَّى بَقِيَ الْوِتْرُ) أي صلى بهم صلاة الليل إلى أن انتهت كلها، وبقيت صلاة الوتر (ثُمَّ قَدَّمَ رَجُلاً) أي جعله إماما لهم (فَقَالَ لَهُ: أَوْتِرْ بِهمْ) أي صلّ بهم صلاة الوتر (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) تعليل لتأخره عن الإمامة، وتقديم ذلك الرجل، أي لأني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ:"لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةِ) أي لا يجتمع وتران، أو لا يجوز وتران في ليلة واحدة، فـ "وتران" فاعل لفعل محذوف، كما قدّرنا، ويحتمل أن تكون "لا" عاملة عمل "ليس"، فـ"وتران" بالرفع اسمها، أو عاملة عمل "إنّ" على لغة من يُلزم المثنّى الألف في الأحوال الثلاثة، وهي لغة بلحارث، كما قاله الحافظ السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى-.
وقال السنديّ: وليست "لا" نافية للجنس، وإلا لكان "لا وترين" بالياء؛ لأن الاسم بعد "لا" النافية للجنس يُبنى على ما يُنصب به، ونصب التثنية بالياء، إلا أن يكون ههنا حكاية، فيكون الرفع للحكاية. وقال السيوطي: على لغة من ينصب المثنى بالألف انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بالحكاية، غير صحيح؛ لأن المقام ليس مقام حكاية، فالصواب ما قدّمناه من توجيهات الرفع. واللَّه تعالى أعلم.
ثم إن النفي هنا بمعنى النهي، فكأنه قال: لا توتروا مرّتين في ليلة واحدة، وفيه دليل على أنه لا يجوز إعادة الوتر بعد صلاته، وبه قال أكثر أهل العلم، وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث طلق بن علي - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:
أخرجه هنا-29/ 1679 - وفي "الكبرى" 43/ 1388 بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (د) 1439 (ت) 470 (أحمد) 4/ 23 (ابن خزيمة) 1101 واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في نقض الوتر:
قال الإمام أبو بكر ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف أهل العلم في الرجل يوتر، ثم ينام، ثم يقوم للصلاة
(1)
، فقالت طائفة: يصلي إلى الركعة التي أوتر بها قبل أن ينام
(1)
- وقع في نسخة "الأوسط""ثم ينام للصلاة"، والظاهر أنه خطأ، والصواب ثم ينام، ثم يقوم للصلاة الخ، كما أثبته هنا.
ركعة أخرى، ثم يصلي ما بداله، ثم يوتر في آخر صلاته، واحتج بعضهم بأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر أن يجعل آخر الصلاة بالليل وترًا، هكذا قال إسحاق وغيره.
فممن رُوي عنه أنه كان يشفع وتره عثمانُ بن عفّان، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد اللَّه ابن عمر بن الخطاب. وممن رُوي عنه أنه فعل ذلك علي بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم. وبه قال عمرو بن ميمون، وابن سيرين.
ومذهب سعد، وابن عمر، وابن عبّاس، وابن مسعود، وابن سيرين، وإسحاق: إذا نقض وتره أوتر في آخر صلاته، ولعلّ هذا مذهبُ الآخرين، وإن لم يُذكر ذلك عنهم.
قال: وأنكر بعضهم هذا، وقال: إذا نام الرجل، وأحدث أحداثًا، ثم قام، فتوضّأ، وتكلّم بين ذلك، ثم صلى ركعة، وهذه الركعة غير الركعة التي ركعها قبل أن ينام، إذ بينهما من الفضل بالنوم والأحداث ما بينهما، ثم إذا صلى، وأوتر بعد ذلك في آخر صلاته، فقد صار مُوتِرًا مرّتين
(1)
في ليلة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا وتران في ليلة"، وإنما قول النبي صلى الله عليه وسلم:"اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا" في الرجل يريد الصلاة من الليل، فإذا أراد ذلك، فالسنّة أن يصلي مثنى مثنى، ثم يوتر آخر صلاته، وليس ذلك لمن قد أوتر مرّة، إذ ليس من السنّة أن يوتر في ليلة مرتين، والدليل على أن معنى قول ابن عمر المعنى الذي قلناه أن ابن عمر، وهو الراوي لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا"، وقد سئل عن نقض الوتر، فقال: إنما هو شيء أفعله برأي، لا أرويه عن أحد. ثم أخرج بسنده عن مسروق، أنه قال: سألت ابن عمر عن نقضه الوتر؟ فقال: إنما هو شيء أفعله برأي، لا أرويه عن أحد.
قال ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: ولا أعلم اختلافًا في أن رجلاً بعد أن أدى صلاة فرض كما فُرضت عليه، ثم أراد بعد أن فرغ منها نَقْضَها أن لا سبيل له إليه، فحُكْمُ المختَلَفِ فيه من الوتر حُكْمُ ما لا نعلمهم اختلفوا فيه، مما ذكرناه، وكذلك الحجّ، والصوم، والعمرة، والاعتكاف، لا سبيل إلى نقض شيء منها بعد أن يُكْمِلها.
رَوَينا عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه قال: إنما أنا فإني أنام على وتر، فإن استيقظت صليت شفعًا حتى الصباح، وروي هذا القول عن ابن عبّاس، خلاف القول الأول، ورَوَينا ذلك عن عائذ بن عمرو، وسعد بن أبي وقّاص، وعمّار بن ياسر، وعائشة رضي الله عنهم، ومَن رُوي عنه من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة قولان، فلعلّه قد فعل الفعلين جميعًا.
(1)
- وقع في "الأوسط""فقد صار موترًا في ليلة"، والظاهر أن الصواب ما أثبتّه هنا.
وكان علقمة لا يرى نقض الوتر، وهكذا مذهب النخعيّ، وطاوس، وأبي مِجْلَز، وبه قال مالك، والأوزاعيّ، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور. انتهى كلام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- باختصار
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المذهب الراجح عندي مذهب أكثر أهل العلم، وهو عدم نقض الوتر، إذ لا دليل عليه، كما قرره ابن المنذر رحمه الله، وأن من صلى الوتر قبل النوم، ثم استيقظ بعد النوم صلى ركعتين ركعتين، وأما احتجاج القائلين بنقض الوتر بحديث "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا"، فالجواب عنه أن الأمر فيه ليس للإيجاب، وإنما هو للاستحباب، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الوتر ركعتين جالسًا، فإنه يدلّ على أن الأمر المذكور للاستحباب، لا للإيجاب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
30 - بَابُ وَقْتِ الْوِتْرِ
1680 -
أَخْبَرَنَا
(2)
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ ، فَقَالَتْ: كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَقُومُ، فَإِذَا كَانَ مِنَ السَّحَرِ أَوْتَرَ، ثُمَّ أَتَى فِرَاشَهُ، فَإِذَا
(3)
كَانَ لَهُ حَاجَةٌ، أَلَمَّ بِأَهْلِهِ، فَإِذَا سَمِعَ الأَذَانَ، وَثَبَ، فَإِنْ كَانَ جُنُبًا، أَفَاضَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِلاَّ تَوَضَّأَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدم في -17/ 1640 - وتقدم شرحه، والكلام على المسائل المتعلّقة به هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
(1)
- "الأوسط" ج 5 ص 196 - 200.
(2)
- وفي نسخة "حدثنا".
(3)
- وفي نسخة "فإن كان".
و (محمد) شيخ ابن المثنّى: هو محمد بن جعفر غُندر. و"أبو إسحاق": هو السبيعيّ. وقولها: (فإن كان له حاجة ألمّ بأهله): أي إن كان حاجة إلى زوجته، نزل بها، وهو كناية عن الجماع.
وقولها: (وثب): أي قام سريعًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1692 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَوَّلِهِ، وَآخِرِهِ، وَأَوْسَطِهِ، وَانْتَهَى وَتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إسحاق بن منصور) الكَوْسَج المروزيّ ثقة ثبت [11] 72/ 88.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهدي الحافظ الحجة البصريّ [9] 42/ 49.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوري الكوفيّ الإمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.
4 -
(أبو حَصين) بالفتح- عثمان بن عاصم الأسديّ الكوفي، ثقة ثبت سنّيّ ربما دلّس [4] 102/ 152.
5 -
(يحيى بن وَثّاب) الأسديّ مولاهم الكوفيّ المقرئ، ثقة عابد [4] 75/ 1006.
6 -
(مسروق) بن الأجدع الكوفي، ثقة فقيه مخضرم [2] 90/ 112.
7 -
(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيّات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين غير شيخه، فمروزيّ، وعبد الرحمن، فبصريّ، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فمدنيّة. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: أبو حصين، عن يحيى بن وثّاب، عن مسروق. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِنْ أَوَّلِهِ) هكذا نسخ "المجتبى" دون ذكر مرجع الضمير، وهو "الليل"، أي في أول الليل، وفي نسخة من "الكبرى": "أوتر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من كلّ الليل، من أوله
…
"، ولفظ مسلم: "من كل الليل أوتر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
…
"، ولفظ البخاريّ: "كل الليل أوتر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم،
وانتهى وتره إلى السحر".
والمراد بأول الليل بعد صلاة العشاء، للإجماع على أن ابتداء وقت الوتر مغيب الشفق بعد صلاة العشاء، هكذا نقل الإجماع ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-. لكن أطلق بعضهم أنه يدخل بدخول العشاء، قالوا: ويظهر أثر الخلاف فيمن صلّى العشاء، وبان أنه بغير طهارة، ثم صلى الوتر متطهّرًا، أو ظنّ أنه صلى العشاء، فصلى الوتر، فإنه يجزئ على هذا القول دون الأول. قاله في "الفتح"
(1)
.
(وَآخِرِهِ، وَأَوْسَطِهِ، وَانتَهَى وِترُهُ إِلَى السَّحَرِ) زاد أبو داود، والترمذيّ:"حين مات".
قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: معناه كان آخر أمره الإيتار في السحر، والمراد به آخر الليل، كما قالت في الروايات الأخرى، ففيه استحباب الإيتار آخر الليل، وقد تضافرت الأحاديث الصحيحة عليه، قال: وفيه جواز الإيتار في جميع أوقات الليل بعد دخول وقته. انتهى.
وقال في "الفتح": يحتمل أن يكون اختلاف وقت الوتر باختلاف الأحوال، فحيث أوتر في أوّله لعله كان وجعًا، وحيث أوتر في وسطه لعله كان مسافرًا، وأما وتره في آخره، فكأنه غالب أحواله، لما عُرف من مواظبته على الصلاة في أكثر الليل. واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاحتمال الذي ذكره غير ظاهر. واللَّه تعالى أعلم.
و"السحر" قُبيل الصبح، وحكى الماروديّ أنه السدس الأخير، وقيل: أوله الفجر الأول، وفي رواية طلحة بن نافع، عن ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن خزيمة:"فلما انفجر الفجر قام، فأوتر بركعة"، قال ابن خزيمة: المراد به الفجر الأول.
ورَوَى أحمد من حديث معاذ، مرفوعًا:"زادني ربي صلاةً، وهي الوتر، وقتها من العشاء إلى طلوع الفجر"، وفي إسناده ضعف
وأخرج "أصحاب السنن" عن خارجة بن حُذافة رضي الله عنه، قال: خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن اللَّه تعالى قد أمدّكم بصلاة، وهي خير لكم من حُمْر النَّعَم، وهي الوتر، فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر"، وهو ضعيف، وهو الذي احتجّ به من قال بوجوب الوتر، وليس صريحا في الوجوب. واللَّه تعالى أعلم.
وأما حديث بُريدة، رفعه:"الوتر حقّ، فمن لم يوتر فليس منّا، وأعاد ذلك ثلاثًا"،
(1)
-"فتح"ج 3 ص 171.
ففي سنده أبو الْمُنِيب، وفيه ضعف، وعلى تقدير قبوله، فيحتاج من احتجّ به إلى أن يُثبت أن لفظ "حقّ" بمعنى واجب في عرف الشرع، وأن لفظ واجب بمعنى ما ثبت من طريق الآحاد.
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:
أخرجه هنا- 30/ 1682 - وفي "الكبرى" 44/ 1390 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (خ) 2/ 31 (م) 2/ 168 (د) 1435 (ت) 456 (ق) 1185 (الحميديّ) 188 (أحمد) 6/ 46 و100 و 107 و 129 و 204 (الدارميّ) 1595 واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في وقت الوتر:
قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: اختلفوا في أول وقته: فالصحيح في مذهبنا، والمشهور عن الشافعيّ، والأصحاب أنه يدخل وقته بالفراغ من صلاة العشاء، ويمتدّ إلى طلوع الفجر الثاني، وفي وجه يدخل بدخول وقت العشاء، وفي وجه لا يصحّ الإيتار بركعة إلا بعد نفل بعد العشاء، وفي قول يمتدّ إلى صلاة الصبح، وقيل: إلى طلوع الشمس. انتهى.
وقال الشوكاني -رحمه اللَّه تعالى-: أحاديث الباب تدلّ على أن جميع الليل وقت للوتر، إلا الوقت الذي قبل صلاة العشاء، ولم يخالف في ذلك أحد، لا أهل الظاهر، ولا غيرهم، إلا ما ذُكر في وجه لأصحاب الشافعي أنه يصحّ قبل العشاء، وهو وجه ضعيف صرّح به العراقيّ وغيره، وقد حكى صاحب "المفهم" الإجماع على أنه لا يدخل وقت الوتر إلا بعد صلاة العشاء. انتهى
(2)
.
وأما آخر وقته فهو إلى طلوع الفجر الثاني، وبعد طلوع الفجر يكون قضاء، وهو المشهور المرجّح الصحيح عند الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعيّ، وأحمد، وعند المالكية للوتر وقتان: وقت اختيار، وهو إلى طلوع الفجر، ووقت ضرورة، وهو إلى
(1)
- المصدر السابق ص 172.
(2)
- "نيل الأوطار" ج 3 ص 52.
تمام صلاة الصبح، ويكره تأخيره لوقت الضرورة بلا عذر، ويندب قطع صلاة الصبح للوتر لفذّ، لا لمؤتمّ، وفي الإمام روايتان.
قال الحافظ: وحكى ابن المنذر عن جماعة من السلف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري، ويبقى وقت الضرورة إلى قيام صلاة الصبح، وحكاه القرطبي عن مالك، والشافعيّ، وأحمد، وإنما قاله الشافعيّ في القديم. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحقّ هو ما عليه الجمهور من أن وقت الوتر من مغيب الشفق بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر الصادق، وبعده يكون قضاء، كما دلّت عليه الأحاديث الكثيرة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1682 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: "مَنْ صَلَّى مِنَ اللَّيْلِ، فَلْيَجْعَلْ آخِرَ صَلَاتِهِ وَتْرًا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدَّم في -1666 - وتقدم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
ودلالته على الترجمة واضحة، إذ يدلّ على أن وقت الوتر هو الليل.
وقوله: "كان يأمر بذلك، أي أمرَ ندب، كما تقدم بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
31 - بَابُ الأَمْرِ بِالْوِتْرِ قَبْلَ الصُّبْحِ
1683 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدٌ، وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، - قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، وَهُوَ ابْنُ سَلاَّمِ بْنِ أَبِي سَلاَّمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو نَضْرَةَ الْعَوَقِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يَقُولُ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوَتْرِ؟ ، فَقَالَ:«أَوْتِرُوا قَبْلَ الصُّبْحِ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبيد اللَّه بن فَضَالة بن إبراهيم) أبو قُدَيدٍ النسائيّ، ثقة ثبت [11] 17/ 898.
2 -
(محمد بن المبارك) الصوريّ نزيل دمشق، ثقة، من كبار [10] 17/ 1541.
3 -
(معاوية بن سلاّم بن أبي سلاّم) الدمشقيّ الحمصيّ، ثقة [7] 13/ 1479.
4 -
(يحيى بن أبي كثير) أبو نصر اليماميّ، ثقة ثبت يدلس ويرسل [5] 23/ 24.
5 -
(أبو نضرة العَوَقيّ) -بفتحتين- المنذر بن مالك بن قُطَعَة البصريّ، ثقة [3] 21/
538.
6 -
(أبو سعيد الخُدْريّ) سعد بن مالك بن سنان - رضي اللَّه تعالى عنهما - 169/ 262.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها). أن فيه أبا سعيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (1170). واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ يَحْيىَ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) أنه (قَالَ: أَخبَرَنِي أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك (الْعَوَقِيُّ) - بعين مهملة، وواو مفتوحتين، وقاف- منسوب إلى العَوَقَة بطن من عبد القيس، وحكى صاحب "المطالع" فتح الواو وإسكانها، والصواب المشهور المعروف الفتح، لا غير.
قاله النووي رحمه الله
(1)
(أَنهُ سَمِعَ أَبا سَعِيدِ الْخُدرِيَّ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (يَقُولُ: سُئِلَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِتْرِ؟) الظاهر أن السؤال عن وقته، ويحتمل أن يكون عن جوازه بعد الصبح، (فَقَالَ:"أَوْتِرُوا - قَبْلَ الصُّبْحِ") أي صلّوا الوتر قبل دخول وقت صلاة الصبح، وفي الرواية التالية:"أوتروا قبل الفجر"، أي قبل طلوع الفجر، والمراد الفجر الصادق، وهو الثاني. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه عند مسلم:"بادروا الصبح بالوتر". قال الطيبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: "بادروا" أي سارعوا، كأن الصبح مسافر، يَقْدَم إليك، طالبا منك الوتر، وأنت تستقبله، مسرعًا بمطلوبه، وإيصاله إلى بُغيته. انتهى.
وهو دليل على أن وقت الوتر قبل الصبح، وأنه إذا طلع الفجر خرج وقت الوتر. واستَدَلّ به الحنفية على وجوب الوتر، قال القاري: والأمر للوجوب عندنا. انتهى.
وأجيب بأنه إنما يدلّ على وجوب الإيتار قبل طلوع الصبح، لا على وجوب نفس
(1)
- "شرح مسلم" ج 6 ص 34.
الإيتار، فإن الصلاة النافلة لها شروط، كالطهارة، واستقبال القبلة، وسترة العورة، ووجوب قراءة الفاتحة، وغير ذلك، وإيجاب هذه الأشياء لا يستلزم وجوب تلك الصلاة، فكذلك إيجاب كون وقوع الوتر قبل الصبح لا يستلزم وجوب نفس الوتر، كما لا يخفى على منصف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي سعيد الخدري - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:
أخرجه هنا-31/ 1683 - وفي "الكبرى" 45/ 1393 - بالسند المذكور، وفي [31/ 1684] و"الكبرى" 45/ 1392 - بالإسناد الآتي. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (م) 2/ 174 - (ت) 468 (ق) 1189 (أحمد) 3/ 4 و 13 و 35 و 37 (الدارمي) 1596 (ابن خزيمة) 1089 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1684 -
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ دُرُسْتَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْقَنَّادُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«أَوْتِرُوا قَبْلَ الْفَجْرِ» .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر لحديث أبي سعيد رضي الله عنه، تقدم الكلام عليه في الذي قبله.
و (يحيى بن دُرُسْتَ) البصريّ، ثقة [10] 23/ 24.
و (أبو إسماعيل القَنَّاد) إبراهيم بن عبد الملك البصريّ، صدوق في حفظه شيء [7] 23/ 24 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
32 - الْوِتْرُ بَعْدَ الأَذَانِ
1685 -
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ فِي مَسْجِدِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَجَعَلُوا يَنْتَظِرُونَهُ، فَجَاءَ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أُوتِرُ، قَالَ: وَسُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ، هَلْ بَعْدَ الأَذَانِ وَتْرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَبَعْدَ الإِقَامَةِ، وَحَدَّثَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه في [51/ 612]، وأذكر هنا الكلام على ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو قضاء الوتر:
اعلم: أن المصنف -رحمه اللَّه تعالى- يرى مذهب القائلين بمشروعية قضاء الوتر بعد طلوع الفجر، ولذا ترجم عليه، واستدلّ بحديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه على ذلك، ووجه الاستدلال به كونه صلى الله عليه وسلم قضى الصلاة التي فاتته نائمًا، والنفل في ذلك كالفرض، وأيضًا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قضى سنة الصبح حينما فاتته صلاة الصبح مع سنتها، بالنوم، وقد اختلف العلماء في ذلك:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: أجمع أهل العلم على أن ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر وقت للوتر. واختلفوا فيمن لم يوتر حتى طلع الفجر على أقوال:
الأول: أنه إذا طلع الفجر، فقد فات الوتر، كذلك قال عطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جُبير، وقال مكحول: من أصبح، ولم يوتر فلا وتر عليه. وقال سفيان الثوريّ، وإسحاق، وأصحاب الرأي: الوتر ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر.
الثاني: إن الوتر ما بين صلاة العشاء الآخرة إلى صلاة الصبح، روينا عن عبد اللَّه بن مسعود أنه قال: الوتر ما بين الصلاتين، ورُوي عن أبي موسى الأشعريّ، أنه قال: لا وتر بعد الأذان، فأتوا عليّا، فقال: لقد أغرق في النزع، وأفرط في الفتيا، الوتر ما بيننا وبين صلاة الغداة، ورُوي عن ابن عباس أنه أوتر بعد طلوع الفجر، وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنه.
وممن رُوي عنه أنه أوتر بعد طلوع الفجر عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وحذيفة، وابن مسعود، وعائشة، وعبد اللَّه بن عامر بن ربيعة رضي الله عنهم.
قال: وكان مالك، والشافعيّ، وأحمد، يقولون: يوتر ما لم يصلّ الصبح، وحُكي عن سفيان الثوريّ، أنه قال: إن أوترت بعد طلوع الفجر فلا بأس، وهكذا قال الأوزاعيّ، وقال النخعيّ، والحسن، والشعبيّ: إذا صلى الغداة فلا يوتر، وقال أيوب السختياني، وحميد الطويل: إنّ أكثر وترنا بعد طلوع الفجر.
الثالث: يصلي الوتر، وإن صلى الصبح، كذلك قال طاوس، وقيل لأحمد بن حنبل: قال سفيان: اقض الوتر، إذا طلعت الشمس. قال أحمد: لا. وقال إسحاق كما قال أحمد.
وقال النعمان: إذا صلى الفجر، ولم يوتر، ثم ذكر الوتر، فعليه قضاء الوتر.
الرابع: يصلي الوتر، وإن طلعت الشمس، روي هذا القول عن عطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن، والشعبي، وحماد بن أبي سليمان، وبه قال الأوزاعيّ، وأبو ثور.
الخامس: قول سعيد بن جبير فيمن فاته الوتر حتى صلى الصبح، قال: يوتر من القابلة. انتهى كلام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- بتصرّف، واختصار
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول الراجح عندي قول من قال: إن الوتر إذا فات يُقضَى مطلقًا أبدًا ليلاً أو نهارًا، لحديث أبي داود وغيره من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، مرفوعًا:"من نام عن وتره، أو نسيه، فليصلّه إذا ذكره". صححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ، وصححه أيضا الحافظ العراقي، وفي لفظ للترمذيّ:"من نام عن الوتر، أو نسيه، فليصل إذا ذكر، وإذا استيقظ"، ولحديث الباب، ولأنه صلى الله عليه وسلم قضى سنة الصبح بعد طلوع الشمس حينما فاتته مع الفرض، ولعموم:"من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلّها إذا ذكرها"، فإنه يدخل فيه الفرض، والنفل، وهو في الفرض أمر فرض، وفي النفل أمر ندب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
33 - بَابُ الْوِتْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ
1686 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الأَخْنَسِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ عَلَى الرَّاحِلَةِ.
قال الجامع عفا اللَّهَ تعالى عنه: "عبيد اللَّه بن سعيد": هو السرخسيّ، و"يحيى بن
(1)
- "الأوسط" ج 5 ص 190 - 194.
سعيد" هو القطان.
و"عبيد اللَّه بن الأخنس" النخعيّ، أبو مالك الخزّاز -بمعجمات- ويقال: مولى الأزد، صدوق [7].
روى عن ابن أبي مُليكة، ونافع، وأبي الزبير، وغيرهم. وعنه يحيى القطّان، وسعيد ابن أبي عروبة، ورَوْح بن عُبَادة، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، وأبو داود، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن الْجُنيد، عن ابن معين: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ كثيرًا. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث برقم 1686 و 2494 و 3228 و 3781 و 3792 و 4296 و 4720 و 4957.
والحديث متفق عليه، وقد تقدم في 23/ 490 - وتقدم أيضًا برقم 491 و 492 و 743 و 744، ويأتي أيضًا برقم 1687 و 1688. وتقدم شرحه، وبيان المسائل المتعلّقة به فيما مضى.
لكن بقي البحث فيما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز أداء الوتر على الراحلة، فأذكره هنا:
قال الإمام أبو بكر ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: قد اختلف أهل العلم في صلاة الوتر على الراحلة:
فقالت طائفة بظاهر الحديث، ورخّصت أن يوتر المرء على راحتله، ثبت عن ابن عمر أنه كان يوتر على راحلته، وروي ذلك عن عليّ، وابن عباس، وبه قال عطاء، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور. وروينا عن ابن عمر أنه كان إذا أراد أن يوتر نزل عن راحلته، فأوتر بالأرض.
وقال النخعيّ: كانوا يصلون الفريضة والوتر بالأرض، وقال سفيان الثوريّ: صلّ الفريضة والوتر بالأرض، وإن أوترت على دابّتك فلا بأس، والوتر بالأرض أحبّ إليّ، وحُكي عن النعمان أنه قال: لا يوتر على الدابّة.
قال ابن المنذر: أما نزول ابن عمر عن راحلته حتى أوتر بالأرض، فمن المباح، إن شاء الذي يصلي الوتر صلّى على الراحلة، وإن شاء صلّى على الأرض، أيّ ذلك فعل يُجزيه، وقد فعل ابن عمر الفعلين جميعًا، روينا عن ابن عمر أنه كان ربما أوتر على راحلته، وربّما نزل. والوتر على الراحلة جائز، للثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أوتر على الراحلة، ويدلّ ذلك على أن الوتر تطوّع، خلاف قول من شذّ عن أهل العلم، وخالف السنّة، فزعم أن الوتر فرض. انتهى كلام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ جدًّا.
والحاصل أن أداء الوتر على الدّابّة جائز؛ للأحاديث الصحيحة المذكورة في هذا الباب وغيرها، وأن الوتر سنة، وليس بواجب؛ لهذه الأحاديث، ولما تقدم من الأدلة الكثيرة الدّالّة على أن الوتر ليس بواجب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1687 -
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ، وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إبراهيم بن يعقوب": هو الْجُوزَجاني الحافظ الدمشقيّ. و"عبد اللَّه بن محمد بن عليّ": هو أبو جعفر الحرّانيّ الحافظ. و"زهير": هو ابن معاوية بن حُديج، أبو خيثمة الجعفي الكوفيّ. و"الحسن بن الحرّ": هو أبو محمد الكوفيّ نزيل دمشق الثقة الفاضل، تقدّم 26/ 16670.
والحديث متّفق عليه، وقد تقدم البحث فيه في الحديث الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1688 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: قَالَ: لِي ابْنُ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: " أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عمر ابن الخطّاب": القرشيّ العَدَويّ المدنيّ، ثقة، من كبار [7].
روى عن سالم، وسعيد بن يسار، ونافع، وغيرهم. وعنه مالك، وإبراهيم بن طَهْمَان، وعبيد اللَّه بن عمر، وغيرهم.
قال أبو حاتم: لا بأس به، لا يُسمّى. وقال القاسم اللالَكَائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". روى له الجماعة، سوى أبي داود، حديثَ الباب فقط.
و (سعيد بن يسار) هو أبو الْحُبَاب المدنيّ، ثقة متقن، تقدم 46/ 740.
والحديث متّفقٌ عليه، كما تقدّم بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
34 - بَابٌ كَمِ الْوِتْرُ
1689 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْوَتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: (محمد بن يحيى بن عبد اللَّه) هو الذهليّ الحافظ النيسابوريّ، تقدم قبل أبواب. و"أبو التيّاح": هو يزيد بن حُميد الضُّبَعيّ البصريّ، ثقة ثبت [5] 53/ 67 و"أبو مِجْلَز" بكسر الميم، وسكون الجيم: هو لاحق بن حميد الضبعيّ البصريّ ثقة من كبار [3] 188/ 296.
والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم شرحه، وبيان مسائله في 26/ 1666 وأذكر هنا ما لم يتقدم ذكره هناك، وهو ماترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان كميّة الوتر، فأقول:
[مسألة]: في اختلاف أهل العلم في عدد صلاة الوتر:
قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: قد اختلف أهل العلم في الوتر، فروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: الوتر ركعة، ويقول: كان ذلك وتر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وممن روي عنه أنه رأى الوتر ركعةً عثمانُ بن عفّان، وسعد بن مالك، وزيد بن ثابت، وابن عباس، ومعاوية بن أبي سُفيان، وأبو موسى الأشعريّ، وعبد اللَّه بن الزبير، وعائشة، وفَعَل ذلك معاذ القاري
(1)
، ومعه رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لا ينكر ذلك عليه منهم أحد. ثم أخرج ابن المنذر هذه الآثار بأسانيدها.
ثم قال: وبه قال سعيد بن المسيّب، وعطاء بن أبي رباح، ومالك بن أنس، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، غير أن مالكًا، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق رأوا أن يصلي ركعتين، ثم يسلّم، ثم يوتر بركعة.
وقالت طائفة: يوتر بثلاث، وممن روي عنه ذلك عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وأُبيّ بن كعب، وأنس بن مالك، وابن عباس، وابن مسعود، وأبو أمامة، وعمر ابن عبد العزيز.
قال: وبه قال أصحاب الرأي، وقال سفيان: أعجب إليّ ثلاث.
(1)
- هو معاذ بن الحارث القاري الأنصاريّ، أبو حليمة، اختلف في صحبته، قتل يوم الحرّة سنة (63).
وأباحت طائفة الوتر بثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة. قال أبو أيوب الأنصاريّ: من شاء أن يوتر بسبع، ومن شاء أن يوتر بخمس، ومن شاء أن يوتر بثلاث، ومن شاء أن يوتر بركعة
(1)
. وقال ابن عباس: إنما هي واحدة، أو خمس، أو سبع، أو أكثر من ذلك، يوتر بما شاء. وقال سعد بن أبي وقاص: ثلاث أحبّ إليّ من واحدة، وخمس أحبّ إليّ من ثلاث، وسبع أحبّ إليّ من خمس. وروينا عن عائشة أنهما قالت: الوتر سبع، وخمس، والثلاث بَتْرَاء. وروي عن أبي موسى الأشعريّ أنه قال: ثلاث أحبّ إليّ من واحدة، وخمس أحبّ إليّ من ثلاث، وسبع أحبّ إليّ من خمس. وروينا عن زيد بن ثابت أنه أوتر بخمس ركعات، لا ينصرف فيها.
قال: وقال إبراهيم النخعيّ: الوتر ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وكان سفيان الثوريّ يقول: الوتر ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة. وكان إسحاق ابن راهويه يقول: إن شئت أوترت بركعة، وإن شئت فبثلاث، وإن شئت فبخمس، وإن شئت فبسبع، وإن شئت فبتسع، لا تُسلّم إلا في إحداهنّ إذا فرقته، وإن أوترت لإحدى عشرة تسلّم في كلّ ركعتين، ثم أفرد الوتر بركعة.
قال: ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: والذي نُحبّ أن يصلي الرجل ما قُضي له من الليل ركعتين ركعتين، ثم يوتر بواحدة، وإن أوتر بواحدة ليس قبلها شيء جاز ذلك. انتهى كلام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- باختصار
(2)
وهو حسنٌ جدّا.
وقال الإمام محمد بن نصر -رحمه اللَّه تعالى- في "كتاب الوتر": فالأمر عندنا أن الوتر بواحدة، وبثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، كل ذلك جائز، على ما روينا من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من بعده، والذي نختار ما وصفنا من قبلُ. قال: فإن صلى رجل العشاء الآخرة، ثم أراد أن يوتر بعدها بركعة واحدة لا يصلي قبلها شيئًا، فالذي نختاره له، ونستحبّه أن يقدّم قبلها ركعتين، أو أكثر، ثم يوتر بواحدة، فإن هو لم يفعل، وأوتر بواحدة جاز ذلك، وقد روينا عن غير واحد من عِلْيَة
(3)
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم فعلوا ذلك، وقد كره ذلك مالك، وغيره، وأصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع انتهى كلام محمد بن نصر رحمه الله
(4)
.
قال الجامع عفا للَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر، ومحمد بن نصر -رحمهما
(1)
- سيأتي أثر أبي أيوب رضي الله عنه هذا للمصنف في 40/ 1712 و 1713.
(2)
- "الأوسط" ج 5 ص 177 - 185.
(3)
- عِلْيَة الناس، وعِلْيُهُم بكسر العين، وسكون اللام: جِلّتهم، وأشرافهم.
(4)
- كتاب الوتر 127.
اللَّه تعالى بحثٌ نفيس، وتحقيقٌ أنيس.
وحاصله أنه يستحسن أن يوتر بركعة بعد أن يصلي ركعتين، ركعتين، فإن لم يفعل ذلك، بل أوتر بركعة دون أن يُقدّم عليها شفعًا فلا بأس؛ لصحة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار الصحابة رضي الله عنهم المذكورة بذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1690 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَمُحَمَّدٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا، ثُمَّ ذَكَرَ كَلِمَةً، مَعْنَاهَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«الْوَتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» .
قال الجامع عفا الَله تعالى عنه: هذا طريق آخر لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقد أخرجه مسلم أيضًا.
و (يحيى): هو ابن سعيد القطّان. و"محمد" هو ابن جعفر، المعروف بغُندر.
وقوله: (ثم ذكر كلمة) الظاهر أن فاعل "ذكر" هو محمد بن بشّار. وقوله: (معناها) مبتدأ خبره قوله "شعبة، عن قتادة الخ". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1691 -
أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَفَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ؟ ، قَالَ:«مَثْنَى مَثْنَى، وَالْوَتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقد أخرجه مسلم أيضًا.
و (الحسن بن محمد) هو الزعفرانيّ أبو عليّ البغداديّ، صاحب الشافعيّ. و"عفان": هو ابن مسلم الضفّار البصريّ. و"همّام": هو ابن يحيى العَوْذيّ البصريّ. و"عبد اللَّه بن شقيق": هو العُقيليّ البصريّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
35 - بَابٌ كَيْفَ الْوِتْرُ بِوَاحِدَةٍ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أراد أن المراد بقوله في الأحاديث الماضية: "الوتر ركعة من آخر الليل" هو أن يصلي صلاة الليل شفعًا
شفعًا، فإذا أراد أن يختم صلاته ختمها بركعة واحدة، وقد تقدم أن هذا على سبيل الاستحباب، لا على الوجوب، على الراجح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1692 -
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْصَرِفَ، فَارْكَعْ بِوَاحِدَةٍ، تُوتِرُ لَكَ مَا قَدْ صَلَّيْتَ» .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا أيضًا طريق آخر لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، والحديث متّفق عليه، كما سبق بيانه فيما مضى.
و (الربيع بن سليمان) هو المراديّ، أبو محمد المصريّ المؤذّن صاحب الشافعي [11] 195/ 311.
و (حجاج بن إبراهيم) هو الأزرق، أبو محمد، أو أبو إبراهيم البغداديّ، نزيل طَرَسُوس، ومصر، ثقة فاضل [10].
روى عن ابن وهب، وحُديج بن معاوية، ومبارك بن سعيد الثوريّ، وغيرهم. وعنه الربيع بن سليمان، وموسى بن سهل الرمليّ، وأحمد بن الحسن الترمذيّ، وغيرهم.
قال أبو حاتم: ثقة. وقال العجليّ: ثقة صاحب سنّة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن يونس: قدم مصر، وحدّث بها، وكان رجلاً صالحًا ثقة، وتوفي بمصر. وذكر أبو يزيد القَرَاطيسيّ أنه خرج عن مصر إلى الثَّغْر، فمات هناك، وكان خروجه سنة (213) وذكر الخطيب أنه مات بعد ذلك بزمان طويل. أخرج له أبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
و (عمرو بن الحارث) هو المصري الحافظ الثبت [7] 63/ 79.
وقوله: (توتر) يحتمل الجزم على أنه جواب الأمر، والرفعَ على الاستئناف، قال السنديّ: أي تجعل أنت بذلك تمام ما صلّيت وترًا، فإن تلك الواحدة، كما أنها بذاتها وتر كذلك يصير بها جميع صلاة الليل وترًا انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا على نسخة "توتر بذلك ما قد صلّيت"، وأما على نسخة "توتر لك ما صليت" ففاعل "توتر" ضمير يعود إلى، "واحدةٍ"، أي تجعل تلك الركعةُ الواحدة ما قد صليت من صلاة الليل وترًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1693 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، وَالْوَتْرُ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ» .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر لحديث ابن عمر رضي الله عنهما من رواية القاسم بن محمد عنه، وهو حديث صحيح، والإسناد من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أعلى الأسانيد له، كما سبق بيانه غير مرة، وهو (105) من رباعيات الكتاب.
و (خالد بن زياد) هو الأزديّ، أبو عبد الرحمن الترمذيّ، قاضيها، صاحب السابَريّ، صدوق [8].
روى عن مقاتل بن حيّان، وقتادة، ونافع، وغيرهم. وعنه ابنه عبد العزيز، وقتيبة، وصالح بن عبد اللَّه الترمذيّ، وغيرهم.
قال سعيد بن سُويد: حدثنا خالد بن زياد، وكان ثقة. وقال ابن حبّان في "الثقات": يروي عن نافع صحيفةً مستقيمة، وعن قتادة الحرف بعد الحرف، مات وهو ابن مائة سنة وسنة، وكان على القضاء بترمذ، وكان ابنه بعده. روى له الترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1694 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ، صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» .
قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: هذا طريق آخر أيضًا لحديث ابن عمر رضي الله عنهما من رواية نافع، وعبد اللَّه بن دينار، كلاهما عنه، وهو متّفقٌ عليه.
و (ابن القاسم) هو عبد الرحمن بن القاسم العُتَقيّ المصريّ الفقيه الثبت، صاحب الإمام مالك -رحمهما اللَّه تعالى-.
وقوله: (وعبد اللَّه بن دينار) بالجرّ عطفًا على "نافع"، فمالك يروي عنهما جميعًا. وقوله:(توتر له ما قد صلّى) أي تجعل تلك الواحدةُ له تمام ما صلّى وترًا، فالضمير في "توتر" يعود إلى "واحدة". واستُدِلّ به على أن الركعة الأخيرة هي الوتر، وأن كلّ ما تقدّمها شفع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1695 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ- قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ -وَهُوَ ابْنُ سَلاَّمٍ- عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَنَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ سَمِعَهُ، يَقُولُ:«صَلَاةُ اللَّيْلِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا خِفْتُمُ الصُّبْحَ، فَأَوْتِرُوا بِوَاحِدَةٍ» .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه - هذا أيضًا طريق آخر لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، من رواية أبي سلمة، ونافع، كلاهما عنه، وهو متفق عليه، وقد تقدّم هذا الإسناد قبل ثلاثة أبواب.
وقوله: (ركعتين ركعتين) هكذا نُسَخُ "المجتبى" بالنصب على أنه مفعول لفعل مقدر، أي أن تصلّوا ركعتين ركعتين، والجملة في تأويل المصدر خبرُ "صلاةُ الليل"، يعني أن صفة صلاة الليل أن يُصَلّي المتهجّد ركعتين ركعتين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1696 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه، لكن ذكر الاضطجاع بعد الوتر فيه كلام، فقد اتّفق أصحاب الزهريّ، فرووا هذا الحديث عنه، فجعلوا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، لا بعد الوتر، وخالفهم مالك، فجعله بعد الوتر، وقال الإمام محمد بن يحيى الذهليّ الحافظ وغيره: الصواب رواية الجمهور، وردّ ذلك الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ بأنه لا يُدفع ما قاله مالك؛ لموضعه من الحفظ والإتقان، فيحمل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يضطع مرّة كذا، ومرّة كذا. وقد تقدم تمام البحث في ذلك في شرح الحديث رقم 41/ 685 - مستوفًى، وترجيح ما قاله الحافظ أبو عمر رحمه الله تعالى، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
و (إسحاق بن منصور) هو الكَوْسج المروزيّ الحافظ. و (عبد الرحمن): هو ابن مهدي الإمام الحافظ الحجة الثبت.
ومطابقته للباب ظاهرة، حيث بيّن كيفية الوتر بواحدة، وهو أن يتنفّل قبلها بالشفع، ثم يصليها آخرًا، وهذا كما تقدّم على سبيل الاستحباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
36 - بَابٌ كَيْفَ الْوِتْرُ بِثَلَاثٍ
1697 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ؟ ، قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ، وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ، وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا، قَالَتْ: عَائِشَةُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ ، قَالَ:«يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْنِي تَنَامُ، وَلَا يَنَامُ قَلْبِى» .
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمد بن سلمة) المراديّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.
2 -
(الحارث بن مسكين) بن محمد المصري القاضي، ثقة فقيه [10] 9/ 9.
3 -
(ابن القاسم) عبد الرحمن الْعُتَقيّ المصري الفقيه، ثقة، من كبار [10] 19/ 20.
4 -
(مالك) بن أنس الإمام المدنيّ الحجة المشهور [7] 7/ 7.
5 -
(سعيد بن أبي سعيد المقبريّ) أبو سَعْد المدنيّ، ثقة [3] 95/ 117.
6 -
(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة فقيه [3] 1/ 1.
7 -
(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، فقد تفرّد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من مالك، ومن قبله مصريون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، سعيد، عن أبي سلمة، وهو من رواية الأقران، وفيه أبو سلمة من الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (كَيْفَ كانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ؟، قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) فيه دلالة على أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت متساوية في جميع السنة (يُصَلِّي أَرْبَعًا) أي متصلةً (فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَ، وَطُولِهِنَّ) قال النوويّ رحمه الله: معناه هنّ في نهاية من كمال الحسن، والطول، مستغنيات بظهور حسنهنّ، وطولهنّ عن السؤال عنه، والوصفِ
(1)
.
(1)
- "شرح مسلم" ج 6 ص 20.
وفي هذا الحديث دليل لمذهب الشافعي وغيره، ممن قال: تطويلُ القيام أفضل من تكثير الركوع والسجود، وهو المذهب الراجح في المسألة. وقالت طائفة: تكثير الركوع والسجود أفضل. وقالت طائفة: تطويل القيام في الليل أفضل، وتكثير الركوع والسجود في النهار أفضل. وقد تقدّم تفاصيل المسألة بدلائلها في 168/ 1137 - فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
(ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا) أي أربع ركعات موصولة أيضًا (فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ، وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاَثًا) أي بتسليم واحد، وهذا هو موضع استدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- على الترجمة، حيث بُيّن فيه كيفيةُ الإيتار بثلاث، وهو أن يصليهن بتسليمة واحدة.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد اختلفت الرواة على عائشة رضي الله عنها في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل، ففي رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن أنها إحدى عشرة ركعةً، كما هو المذكور في الباب، وفي رواية مسروق، قال: سألتُ عائشة عن صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: سبع، وتسع، وإحدى عشرة، سوى ركعتي الفجر. وفي رواية القاسم عنها: كان يصلي من الليل ثلاث عشرة، منها الوتر، وركعتا الفجر. وفي رواية له: كانت صلاته عشر ركعات، ويوتر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة. وفي رواية الزهريّ، عن عروة عنها: كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفيتين.
والجواب عن ذلك -كما قال في "الفتح": أن مرادها في رواية مسروق، أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة، فتارة كان يصلي سبعًا، وتارة تسعًا، وتارة إحدى عشرة.
وأما حديث القاسم عنها، فمحمول على أن ذلك كان غالب أحواله، وأما رواية أبي سلمة، فهي بمعنى رواية القاسم، إذ كونها إحدى عشرة إنما هو بغير ركعتي الفجر، فلا مخالفة بين روايتيهما.
وأما حديث عروة، فيحتمل أن تكون أضافت إلى صلاة الليل سنة العشاء، لكونه كان يصليها في بيته، أو ما كان يَفتتح به صلاة الليل، فقد ثبت عند مسلم من طريق سعد ابن هشام عنها أنه كان يفتتحها بركعتين خفيفتين.
قال الحافظ: وهذا أرجح في نظري، لأن رواية أبي سلمة التي دلّت على الحصر في إحدى عشرة ركعة، جاء في صفتها عند البخاريّ وغيره "يصلي أربعًا، ثم أربعًا، ثم ثلاثًا"، فدلّ على أنها لم تتعرّض للركعتين الخفيفتين، وتعرضت لهما في رواية الزهريّ، والزيادة من الحافظ مقبولة، وبهذا يُجمع بين الروايات.
وينبغي أن يُستحضَرَ هنا ما تقدّم في أبواب الوتر من ذكر الركعتين بعد الوتر،
والاختلاف، هل هما الركعتان بعد الفجر، أو صلاة مفردة بعد الوتر، ويؤيده ما وقع عند أحمد، وأبي داود من رواية عبد اللَّه بن أبي قيس، عن عائشة، بلفظ:"كان يوتر بأربع وثلاث، وستّ وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأكثر من ثلاث عشرة، ولا أنقص من سبع".
قال: وهذا أصحّ ما وقفت عليه من ذلك، وبه يُجمع بين ما اختلف عن عائشة من ذلك. واللَّه أعلم.
وقال القرطبيّ: أشكلت روايات عائشة على كثير من أهل العلم حتى نَسَبَ بعضهم حديثها إلى الاضطراب، وهذا إنما يتمّ لو كان الراوي عنها واحدًا، أو أَخبَرَت عن وقت واحد، والصواب أن كلّ شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعدّدة، أو أحوال مختلفة بحسب النشاط، وبيان الجواز، واللَّه أعلم.
قال الحافظ: وظهر لي أن الحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة أن التهجّد والوتر مختصّ بصلاة الليل، وفرائض النهار الظهر، وهي أربع، والعصر، وهي أربعٌ، والمغرب، وهي ثلاث، وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد جملة وتفصيلاً، وأما مناسبة ثلاث عشرة، فبضمّ صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
(قَالَتْ: عَائِشَةُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟) قال في "الفتح": وفيه كراهة النوم قبل الوتر، لاستفهام عائشة عن ذلك، كأنه تقرّر عندها منع ذلك؛ فأجابها بأنه صلى الله عليه وسلم ليس في ذلك كغيره انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: استدلاله بما ذُكر على الكراهة غير واضح، فَلْيُتأمّل. واللَّه تعالى أعلم.
(قَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْني تَنَامُ) هكذا بالإفراد عند المصنّف، وهو صحيح، إذ "عين" مفرد مضاف، فيعمّ، وفي رواية الشيخين:"إنّ عينيّ تنامان" بالتثنية، وهي واضحة.
(وَلَا يَنَامُ قَلْبِي") يعني أن النوم إنما كان حَدَثًا لما فيه من احتمال الخروج بلا علم النائم به، وذلك لا يُتصوّر في حقه صلى الله عليه وسلم لأن نومه ليس يحدث حيث إن قلبه يقظان، بخلاف غيره. وهذا من خصائص الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين، ففي رواية البيهقيّ من حديث أنس رضي الله عنه:"وكذلك الأنبياء، تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم ".
ونقل الحافظ السيوطيّ رحمه الله عن الشيخ عزّ الدين ابن عبد السلام رحمه الله، أنه قال:
(1)
- "فتح" ج 3 ص 328.
قد أُورد على هذا الحديث قضية الوادي لَمّا نام صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، فلو كانت حواسّه. باقية مُدركة مع النوم لأدرك الشمس، وطلوع النهار. قال: والجواب أن أمر الوادي مستثنى من عادته، وداخل في عادتنا.
وقال القاضي عياض رحمه الله: من أهل العلم مَنْ تأوّل الحديث على أن ذلك غالب أحواله، وقد ينام نادرًا، ومنهم من تأوّله على أنه لا يستغرقه النوم حتى يكون منه الحدث. والأولى عندي أن يقال: ما بين الحديثين تناقض، وأنه يومَ الوادي إنما نامت عيناه، فلم ير طلوع الشمس، وطلوعُها إنما يُدرك بالعين، دون القلب. قال: وقد تكون هذه الغلبة هنا للنوم، والخروج عن عادته فيه، لِمَا أراد اللَّه تعالى من بيان سنةَ النائم عن الصلاة، كما قال:"لو شاء اللَّه لأيقظنا، ولكن أراد أن تكون لمن بعدكم". انتهى.
وقال الشيخ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: وفي "مسند أحمد": أنّ ابن صيّاد تنام عينه، ولا ينام قلبه، وكان ذلك في المَكْرِ به، وأن يصير
(1)
مستيقظ القلب في الفجور والمفسدة، ليكون أبلغ في عقوبته، بخلاف استيقاظ قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإنه في المعارف الإلهيّة، والمصالح التي لا تُحصَى، فهو رافع لدرجاته، ومُعَظِّمٌ لشأنه. انتهى
(2)
.. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له:
أخرجه هنا-36/ 1697 - عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن القاسم، عن مالك، عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عنها. وفي "الكبرى" 58/ 1421 عن قتيبة بن سعيد، عن مالك به. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:
أخرجه (خ) في "الصلاة" عن عبد اللَّه بن يوسف- وفي "الصوم" عن إسماعيل- وفي "صفة النبي صلى الله عليه وسلم عن القعبيّ- (م) في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى- (د) في
(1)
- هكذا نسخة "الزهر""وأن يصير الخ" بالواو، ولعل الصواب "بأن يصير الخ" بالباء، فليُتأمّل.
(2)
- راجع "زهر الربى" ج3 ص 234 - 241.
"الصلاة" عن القعنبيّ- (ت) في "الصلاة" عن إسحاق بن موسى، عن معن بن عيسى- خمستهم عن مالك به. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان كيفية الإيتار بثلاث ركعات، وهو أن يصلّيها متّصلة، وفي ذلك اختلاف بين العلماء، سيأتي في شرح الحديث التالي، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها). ما كان عليه هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم من تطويل صلاة الليل. (ومنها): بيان خصوصيته صلى الله عليه وسلم في كون نومه لا ينقض وضوءه؛ لأن نومه في عينه لا في قلبه، فيشعر بخروج ما يُخشى منه نقض الوضوء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1698 -
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّ عَائِشَةَ، حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ لَا يُسَلِّمُ فِي رَكْعَتَيِ الْوَتْرِ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو ثقة، و "سعيد": هو ابن أبي عروبة، والحديث تقدّم تخريجه في 2/ 1601.
وقولها: "كان لا يسلّم في ركعتي الوتر" أي حتى يضمّ إليهما الركعة الثالثة، فيسلّم بعدها. هكذا قال السنديّ في "شرحه".
وظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات متصلة، ولهذا أورده المصنف - رحمه اللَّه تعالى - في هذا الباب لبيان كيفية الوتر بثلاث، لكن المشهور من حديث عائشة رضي الله عنها من رواية سعد بن هشام عنها أن وتره صلى الله عليه وسلم كان تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، ثم يقوم، فيصلي التاسعة، ثم يسلّم بعدها، فلما أسنّ أوتر بسبع، هذا هو المعروف من حديثها من روايته، بل في بعض الطرق التي مرّت من روايته أن تلك ما زالت صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأما كونه أوتر بثلاث ركعات، فليس معروفًا من روايته، ففي صحة هذه الرواية نظر. واللَّه تعالى أعلم.
ثم رأيت الحافظ محمد بن نصر رحمه الله تكلّم على هذه الرواية في "كتاب الوتر" له، وحاصل ما قاله هناك: فأما الحديث الذي حدّثناه عباس النّرسيّ، ثنا يزيد بن زُريع، ثنا سعيد، عن قتادة، عن زُرارة، عن سعد بن هشام، عن عائشة رضي الله عنها:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يُسلّم في ركعتي الوتر"، وفي رواية:"كان لا يسلّم في الركعتين الأوليين من الوتر".
قال: فهذا عندنا قد اختصره سعيد من الحديث الطويل الذي ذكرنا ، ولم يقل في هذا
الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بثلاث، لم يسلّم في الركعتين، فكان يكون حجةً لمن أوتر بثلاث بلا تسليم في الركعتين، إنما قال: لم يسلّم في ركعتي الوتر، وصدق في ذلك الحديث أنه لم يسلّم في الركعتين، ولا في ثلاث، ولا في أربع، وفي الخمس، ولا في الستّ، ولم يجلس أيضًا في الركعتين، كما لم يسلّم فيهما. انتهى كلام ابن نصر -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن نصر -رحمه اللَّه تعالى- في تأويل
الرواية المذكورة حسنٌ جدَّا.
وحاصله أن الحديث بهذا اللفظ المختصر غير صحيح، وإنما الصحيح من حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هو الطويل المذكور آنفًا. واللَّه تعالى أعلم.
[مسألة]: في اختلاف العلماء في حكم الفضل والوصل بين الشفع والوتر لمن يوتر بثلاث ركعات:
قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف أهل العلم في الفصل بين الشفع والوتر، فرأت طائفة أن يفصل بينهما، وممن فعل ذلك ابن عمر،، كان يسلّم بين الركعة والركعتين من الوتر حتى يأمر ببعض حاجته، وكان معاذ بن أبي حليمة القارئ يسلّم من الثنتين في الوتر، وبه قال عبد اللَّه بن عيّاش بن أبي ربيعة، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.
وحكى أبو ثور عن الكوفيّ أنه قال: لا يفصل بين الركعة والركعتين بسلام، ولا يكون الوتر ركعة، وقال أبو ثور: الوتر في اللغة هو الواحد المفرد، والشفع هو الشيء المجتمع. وقال الأوزاعيّ في الفضل بين الركعتين والركعة الآخرة: إن فعل فحسن، وإن تركه فحسن.
وكان مالك يقول فيمن نسي أن يسلّم بين الركعتين اللتين قبل الوتر، وبين الوتر حتى استوى قائمًا للثالثة، وهو ممن يَغفُلُ قال: إن ذكر قبل أن يركع جلس، ثم سلّم، وسجد سجدتي السهو بعد السلام، وإن لم يذكر حتى ركع فليمض، ويسجد سجدتي السهو قبل السلام.
وعنه في الإمام الذي يوتر بالناس في رمضان بثلاث لا يسلّم بينهنّ: أرى أن يصليَ خلفه بصلاته، ولا يخالفه.
وعنه قال: لقد كنت أنا أصلي معهم مرّة، فإذا كان الوتر انصرفت، ولم أوتر معهم.
(1)
-"كتاب الوتر" ص 126.
قال ابن المنذر: أُوتر معهم، ولا أُخالفهم، لا أحبّ أن أنصرف، ولا أُوترَ معهم؛ لحديث أبي ذرّ رضي الله عنه، مرفوعًا: "إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتبت له بقية ليلته
…
الحديث
(1)
.
قال ابن المنذر: وقد ثبت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرهنّ، وأوتر بسبع، وثبت أنه أوتر بتسع، لا يقعد فيهنّ إلا عند الثامنة، ثم قعد في التاسعة، فأيُّ فعل مما جاء به الحديث من أْفعال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الوتر فعله رجل، فقد أصاب السنّة، غير أن الأكثر من الأخبار، والأعمّ منها أنه سئل عن صلاة الليل، فقال:"مثنى مثنى"، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة، وإن شاء المصلي صلى ركعتين ركعتين، وإذا أراد أن يوتر بثلاث صلى ركعتين، قرأ في الأولى منها بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وفي الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، ثم يسلم، ويأتي بالركعة الثالثة، ويقرأ فيها بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوّذتين
(2)
. انتهى كلام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- بتصرّف، واختصار
(3)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- بحث نفيسٌ جدَّا. واللَّه تعالى أعلم.
وقال في "الفتح" عند قوله: "فإذا خشي أحدكم الصبح، صلّى ركعة واحدة": ما نصه: واستُدلّ به على أن فصل الوتر أفضل من وصله.
وتُعقب بأنه ليس صريحًا في الفضل، فيحتمل أن يريد بقوله:"صلَّى ركعة واحدة" أي مضافة إلى ركعتين مما مضى.
واحتجّ بعض الحنفية لما ذهب إليه من تعيّن الوصل، والاقتصار على ثلاث بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولةِ حسنٌ جائزٌ، واختلفوا فيما عداه، قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه، وتركنا ما اختلفوا فيه.
وتعقبه محمد بن نصر المروزي بما رواه من طريق عراك بن مالك، عن أبي هريرة، مرفوعًا وموقوفًا:"لا توتروا بثلاث، تشبّهوا بصلاة المغرب". وصححه الحاكم من طريق عبد اللَّه بن الفضل، عن أبي سلمة، والأعرج، عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه،
(1)
- تقدم للمصنف بنحوه في "باب ثواب من صلى مع الإمام حتى ينصرف" 3/ 83.
(2)
- وأفاد الحافظ أن حديث ابن عباس، وأبي بن كعب لإسقاط المعوّذتين أصحّ، وقال ابن الجوزي: أنكر أحمد، ويحيى بن معين زيادة المعوذتين اهـ "التلخيص الحبير" ج 2 ص40. النسخة المحققة.
(3)
- "الأوسط" ج 5 ص 185 - 188.
وإسناده على شرط الشيخين، وقد صححه ابن حبّان، والحاكم، ومن طريق مِقْسَم، عن ابن عبّاس، وعائشة كراهية الوتر بثلاث، وأخرجه النسائيّ أيضًا. وعن سليمان بن يسار أنه كره الثلاث في الوتر، فقال: لا يُشبهُ التطوّعُ الفريضةَ. فهذه الآثار تقدح في الإجماع الذي نقله.
وأما قول محمد بن نصر: لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرًا ثابتًا أنه أوتر بثلاث موصولة، نعم ثبت عنه أنه أوتر بثلاث، لكن لم يبيّن الراوي، هل هي موصولة، أو مفصولة انتهى.
فيَرُدُّ عليه ما رواه الحاكم من حديث عائشة أنه كان صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهنّ. وروى النسائيّ من حديث أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه نحوه، ولفظه:"يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ولا يسلّم إلا في آخرهنّ"، وبين في عدّة طرق أن السور الثلاث بثلاث ركعات.
ويجاب عنه باحتمال أنهما لم يثبتا عنده، والجمع بين هذا، وبين ما تقدّم من النهي عن التشبيه بصلاة المغرب أن يُحمل النهي على صلاة الثلاث بتشهّدين، وقد فعله السلف أيضًا، فرَوَى محمد بن نصر من طريق الحسن أن عمر رضي الله عنه كان يَنهَض في الثالثة من الوتر بالتكبير، ومن طريق المِسْوَر بن مخرمة أن عمر أوتر بثلاث لم يُسلّم إلا في آخرههنّ، ومن طريق ابن طاوس، عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث، لا يقعد بينهنّ، ومن طريق قيس بن سعد، عن عطاء، وحمّاد بن زيد عن أيوب مثله، ورَوَى محمد بن نصر، عن ابن مسعود، وأنس، وأبي العالية أنهم أوتروا بثلاث كالمغرب، وكأنهم لم يبلغههم النهي المذكور. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تحرّر مما تقدّم من الأدلّة، وأقوال أهل العلم، أن الأرجح استحباب الفضل بين الركعتين، والوتر بسلام، وإن صلى ثلاث ركعات بلا فصل جاز، لكنه لا يجلس في الوسط، بل يجلس في آخرها، وأما الإيتار بثلاث ركعات بتشهّدين كالمغرب، كما يقول الحنفية، فلا يُشرع؛ لصحة النهي عن تشبيه الوتر بالمغرب كما تقدّم آنفًا، وأما ما نقل عن بعض السلف أنهم أوتروا بثلاث كالمغرب، فيُحمل على أنهم لم يبلغهم النهي المذكور، كما سبق آنفًا عن "الفتح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- "فتح"ج 3 ص 164 - 165.
37 - ذِكْرُ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي الْوِتْرِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف في حديث أُبيّ رضي الله عنه هذا أن في رواية سفيان عن زُبيد زيادة "ويقنت قبل الركوع"، قال المصنف رحمه الله في "الكبرى" ج 1 ص449 - : وقد روى هذا الحديثَ غيرُ واحد عن زُبيد، فلم يذكر أحد منهم فيه أنه يقنت قبل الركوع انتهى. وفي رواية قتادة عن عزرة زيادة" "إلا في آخرهنّ".
وقول المصنف: "فلم يذكر أحد منهم الخ" فيه نظر، فقد تابعه غيره، كما سيأتي إيضاحه في "المسألة الرابعة"- إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1699 -
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ،: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، كَانَ يَقْرَأُ فِي الأُولَى بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، فَإِذَا فَرَغَ، قَالَ: عِنْدَ فَرَاغِهِ: «سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» . ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يُطِيلُ فِي آخِرِهِنَّ.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عليّ بن ميمون) الرَّقّيّ العطار، ثقة [10] 28/ 435.
2 -
(مخَلْدَ بن يَزيد) الحرّانيّ، صدوق، من كبار [9] 141/ 222.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوري الإمام المشهور [7] 33/ 37.
4 -
(زُبَيد) بن الحارث اليامي، ثقة ثبت عابد [6] 37/ 1420.
5 -
(سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى) الخزاعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة [3] 195/ 312.
6 -
(عبد الرحمن بن أبزى) الخزاعيّ مولاهم الصحابي الصغير - رضي اللَّه تعالى عنه - 195/ 312.
7 -
(أُبيّ بن كعب) الأنصاري الخزرجيّ سيد القرّاء - رضي اللَّه تعالى عنه - 23/ 808 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيّات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو وابن ماجه. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن
أبيه، وصحابيّ عن صحابيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ) أي بتسليمةَ واحدة، لما في الرواية الآتية:"ولا يُسلّم إلا في آخرهنّ". وفيه مشروعية الإيتار بثلاث ركعات وصلاً، وقد تقدّم في الباب الماضى ما قاله أهل العلم في ذلك، وأن الراجح كونها بتشهّد واحد في آخرها (كانَ يَقْرَأُ فِي الْأولَى بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أي بعد الفاتحة (وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وَفِي الثالِثَةِ بِـ {قُل هُوَ اَللهُ أَحَدٌ}، وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ) قال السنديّ رحمه الله: ظاهره القنوت في الوتر، نعم لا يدلّ هذا الحديث على كونه واجبًا في الوتر، واللَّه تعالى أعلم (فَإِذَا فَرَغَ، قَالَ: عِنْدَ فَرَاغِهِ) أي بعد التسليم، كما يأتي قريبًا (سُبْحَانَ المَلِكِ الْقُدُّوسِ) أي البالغ أقصى النزاهة عن كلّ وصف ليس فيه غاية الكمال المطلق. وقال الطيبيّ: هو الطاهر المنزّه عن العيوب والنقائص، وفعول من أبنية المبالغة. وزاد الدارقطنيّ، والبيهقيّ في روايتهما:"ربّ الملائكة والروح"(ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أي يقوله ثلاث مرات، وفيه مشروعية التسبيح بهذه الصيغة بعد الفراغ من الوتر ثلاث مرات (يُطِيلُ فِي آخِرِهِنَّ) أي يرفع صوته بهذا التسبيح في المرة الثالثة.
والحديث فيه سنية الجهر بهذا الذكر في المرّة الثالثة، وهكذا كلّ ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الجهر فيه، نعم الإسرار أفضل حيث لم يُنقل عنه الجهر فيه.
قال المظهر رحمه الله: هذا يدلّ على جواز الذكر برفع الصوت، بل على استحبابه إذا اجتنَبَ الرياء، إظهارًا للدين، وتعليمًا للسامعين، وإيقاظًا لهم من رقدة الغفلة، وايصالاً لبركة الذكر إلى مقدار ما يبلغ الصوت إليه من الحيوان، والشجر، والحجر، والمدر، وطلبًا لاقتداء الغير بالخير، وليشهد له كلّ رطب ويابس سمع صوته انتهى
(1)
.. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولة: في درجته: حديث أُبيّ بن كعب - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا-37/ 169 - وفي "الكبرى" 60/ 1432 - وفي عمل "اليوم والليلة" 734
(1)
- انظر "المرعاة" ج 4 ص 288.
بالإسناد المذكور وفي 37/ 1700 عن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عَزْرة، عن سعيد بن عبد الرحمن به. و 37/ 1701 و"عمل اليوم" 740 عن يحيى بن موسى، عن عبدالعزيز بن خالد، عن سعيد بن أبي عروبة به. وفي 47/ 1729 و"عمل اليوم والليلة" 729 عن محمد بن الحسين بن إبراهيِم، عن محمد بن أبي عبيدة، عن أبيه، عن الأعمش، عن زُبيد، وطلحة، كلاهما عن ذر، عن سعيد بن عبد الرحمن به. و 47/ 1730 عن يحيى بن موسى، عن عبد الرحمن بن سعد، عن أبي جعفر الرازيّ، عن عن الأعمش به. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (د) 1423 (ق) 1171 (عبد بن حميد) 176 (عبد اللَّه بن أحمد) 5/ 123. واللَّه أعلم.
المسألة الرابعة: في قوله: "ويقنُتُ قبل الركوع" قد تكلّم بعض الحفّاظ في صحة هذه الزيادة، فقال أبو داود في "سننه": وحديث زُبيد رواه سليمان الأعمش، وشعبة، وعبد الملك بن أبي سليمان، وجرير بن حازم، كلهم عن زُبيد، لم يذكر أحد منهم القنوت، إلا ما رُوي عن حفص بن غياث، عن مسعر، عن زُبيد، فإنه قال في حديثه: إنه قنت قبل الركوع، قال أبو داود: وليس بالمشهور من حديث حفص، نخاف أن يكون عن حفص، عن غير مسعر. انتهى.
وقد أجاب العلامة ابن التركماني -رحمه اللَّه تعالى- عما ذكره أبو داود، فقال لَمّا نقل البيهقي -رحمه اللَّه تعالى- في "سننه الكبرى" كلام أبي داود المذكور في "باب من قال: يقنت في الوتر قبل الركوع": ما نصه: ذكر -يعني البيهقي- فيه حديث عيسى بن يونس، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبيّ بن كعب، ثم ذكر عن أبي داود أن جماعة رووه عن ابن أبي عروبة، وأن الدستوائيّ، وشعبة روياه عن قتادة، ولم يذكروا القنوت.
قال ابن التركماني: عيسى بن يونس قال فيه أبو زرعة ثقة حافظ، وقال ابن المدينيّ: بخ بخ ثقة مأمون، وإذا كان كذلك فهو زيادة ثقة، وقد جاء له شاهد على ما سنذكره، إن شاء اللَّه تعالى، ثم أخرجه البيهقيّ من حديث عيسى بن يونس، عن فِطْرٍ، عن زُبيد، عن سعيد بن عبد الرحمن بسنده، ثم ذكر عن أبي داود أن جماعة رووه عن زُبيد لم يذكر أحد منهم القنوت إلى آخر ما تقدم من كلام أبي داود.
قال ابن التركمانيّ: العجب من أبي داود، كيف يقول: لم يذكر أحد منهم القنوت، إلا ما روي عن حفص، عن مسعر، عن زُبيد، وقد رَوَى هو ذكر القنوت قبل الركوع
من حديث عيسى بن يونس، عن ابن أبي عروبة، ثم قال: ورَوَى عيسى بن يونس هذا الحديث أيضًا عن فطر، عن زُبيد، عن سعيد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبيّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله، والبيهقيّ خرّج رواية فِطر، عن زُبيد، مصرّحةً بذكر القنوت قبل الركوع، ثم نقل كلام أبي داود، ولم يتعقّب عليه.
على أن ذلك رُوي عن زُبيد من وجه ثالث، قال النسائيّ في "سننه": أنا عليّ بن ميمون، ثنا مخلد بن يزيد، عن سفيان -هو الثوري- إلى آخر ما ذكره المصنف هنا، قال: وابن ميمون وثقه أبو حاتم، وقال النسائيّ: لا بأس به، ومخلد وثقه ابن معين، ويعقوب ابن سفيان، وأخرج له الشيخان. وأخرج ابن ماجه أيضًا هذا الحديث بسند النسائيّ، فظهر بهذا أن ذكر القنوت عن زبيد زيادة ثقة من وجوه، فلا يصير سكوتُ من سكت عنه حجةً على من ذكره.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر أن رواية زُبيد بزيادة القنوت قبل الركوع صحيحة؛ لاتفاق سفيان الثوريّ -كما هو عند المصنف هنا- ومسعر، وفِطر بن خليفة، كلهم عن زبيد، عن سعيد بن عبد الرحمن، بزيادتها، وقد تابع زُبيدًا على زيادتها قتادةُ، فقد روى محمد بن نصر، قال: حدثنا إسحاق، قال: أخبرنا عيسى بن يونس، ثنا سعيد -يعني ابن أبي عروبة- عن قتادة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعة الأولى من الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وفي الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة بـ {قُل هُوَ اَللهُ أَحَدٌ} ، ويقنتُ. ومرة قال إسحاق: ثنا، فذكر السند إلى قوله: عن سعيد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه، فذكر الحديث سواءً، ثم قال: ويقنت قبل الركوع. انتهى. فظهر بهذا أن زُبيدًا لم ينفرد أيضًا بزيادة القنوت قبل الركوع
(1)
.
والحاصل أن الحديث بزيادة القنوت قبل الركوع صحيح. واللَّه تعالى أعلم.
قال ابن التركمانيّ: وقد رُوي القنوت في الوتر قبل الركوع عن الأسود، وسعيد بن جبير، والنخعيّ، وغيرهم، رواه عنهم ابن أبي شيبة في "مصنّفه" بأسانيده، وقال أيضًا: ثنا أبو خالد الأحمر، عن أشعث، عن الحَكَم، عن إبراهيم، قال: كان عبد اللَّه لا يقنت في السنة كلها في الفجر، ويقنت في الوتر كلّ ليلة قبل الركوع، قال أبو بكر -هو ابن أبي شيبة-: هذا القول عندنا، وقال أيضًا: ثنا يزيد بن هارون، ثنا هشام الدستوائيّ، عن حماد -هو ابن أبي سليمان- عن إبراهيم، عن علقمة، أن ابن مسعود، وأصحاب
(1)
- "مختصر قيام الليل" ص 135.
النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع. وهذا سند صحيح، على شرط مسلم.
وفي "الإشراف" لابن المنذر: روينا عن عمر، وعليّ، وابن مسعود، وأبي موسى الأشعريّ، وأنس، والبراء بن عازب، وابن عبّاس، وعمر بن عبد العزيز، وعَبيدة، وحُميد الطويل، وابن أبي ليلى، أنهم رأوا القنوت قبل الركوع، وبه قال إسحاق. انتهى
(1)
.
وروى محمد بن نصر، عن الأسود، قال: صحبت عمر رضي الله عنه ستة أشهر، فكان يقنت في الوتر، وكان عبد اللَّه يقنت في الوتر السنة كلها. وعن عليّ رضي الله عنه أنه كان يقنت في رمضان كله، وفي غير رمضان في الوتر. وروى عن الأسود، أن عمر بن الخطاب قنت في الوتر قبل الركوع. وعن ابن مسعود أنه قنت في الوتر بعد القراءة قبل الركوع. قال محمد بن نصر رحمه الله: وعن عبد اللَّه بن شدّاد، صليت خلف عمر، وعلي، وأبي موسى، رضي الله عنهم، فقنتوا في صلاة الصبح قبل الركوع. وعن حميد، سألت أنسًا رضي الله عنه عن القنوت قبل الركوع، وبعد الركوع؟ فقال: كنّا نفعل قبل، وبعد. وقنت الأسود في الوتر قبل الركعة. وسئل أحمد عن القنوت في الوتر قبل الركوع، أم بعده، وهل تُرفع الأيدي في الدعاء في الوتر؟ فقال: القنوت بعد الركوع، ويرفع يديه، وذلك على قياس فعل النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الغداة، وبذلك قال أبو أيوب
(2)
، وأبو خيثمة، وابن أبي شيبة. وقال أبو داود: رأيت أحمد يقنت به إمامه بعد الركوع، وإذا فرغ من القنوت، وأراد أن يسجد رفع يديه، كما يرفعهما عند الركوع. وكان إسحاق يختار القنوت بعد الركوع في الوتر. قال محمد بن نصر رحمه الله: وهذا الرأي أختاره. انتهى
(3)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجح عندي أن الأمر في هذا واسع، فيجوز القنوت قبل الركوع، لصحة حديث الباب، ويجوز بعد الركوع لكثرة الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقنت بعد الركوع في الصبح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1700 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مِنَ الْوَتْرِ، بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ،
(1)
- "الجوهر النقي في الردّ على البيهقي" ج 3 ص 39 - 41. من هامش "السنن الكبرى" للبيهقي.
(2)
- هكذا نسخة "مختصر قيام الليل" ص 137 ولم يتبيّن لي هل أبو أيوب الأنصاري، أو أيوب السختيانيّ ولفظة "أبوه" زائدة، فليُحرّر.
(3)
- "مختصر قيام الليل" ص 137.
وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِـ {قُل هُوَ اَللَّه أَحَدٌ} .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثان لحديث أبي بن كعب - رضي اللَّه تعالى عنه -، من رواية قتادة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، وهو أيضًا صحيح، وتقدم تمام البحث فيه في الحديث الماضي.
و"إسحاق" شيخ المصنف هو ابن راهويه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1701 -
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقْرَأُ فِي الْوَتْرِ، بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وَلَا يُسَلِّمُ إِلاَّ فِي آخِرِهِنَّ، وَيَقُولُ -يَعْنِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ-:«سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» . ثَلَاثًا.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طَريق ثالث لحديث أُبيّ بن كعب - رضي اللَّه تعالى عنه -، أدخل فيه عبد العزيز بن خالد عزرةَ بين قتادة، وسعيد بن عبد الرحمن، وهو أيضًا صحيح، وُيحمل على أن قتادة سمعه من عزرة، ثم لقي سعيدا، فسمعه منه، أو سمعه عنه، فثبّته عزرة.
و"يحيى" شيخ المصنّف: هو الكوفي، ثم البلخيّ المعروف بـ "خَتّ".
و (عبد العزيز بن خالد) بن زياد الترمذيّ، مقبول [9].
روى عن أبيه، وأبي سعد البقال، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهم. وعنه أحمد بن الحجاج الترمذيّ، وزافر بن سليمان، وعاصم بن عبد اللَّه، ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رِزْمة، ويحيى بن موسى خَتّ، وغيرهم. قال أبو حاتم: شيخ. وهو من أفراد المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
و (عزرة) هو ابن عبد الرحمن بن زُرارة الخزاعيّ الكوفيّ الأعور، ثقة [6].
روى عن عائشة مرسلاً، وعن أبي الشعثاء، والحسن العربيّ، وسعيد بن عبد الرحمن، وغيرهم. وعنه سليمان التيميّ، وقتادة، وخالد الحذّاء، وعاصم الأحول، وداود بن أبي هند، وغيرهم. وثقه ابن معين، وابن المدينيّ، وذكره ابن حبّان في "الثقات". أخرج له مسلم، وأبو داود، والترمذي، والمصنف، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
38 - ذِكرُ الاخْتِلَافِ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاس رضي الله عنهما فِي الْوِترِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -. وجه الاختلاف المذكور أن في رواية زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق أن الحديث مرفوع، وفي رواية زهير عنه موقوف على ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1702 -
أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُوتِرُ بِثَلَاثٍ، يَقْرَأُ فِي الأُولَى بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . أَوْقَفَهُ زُهَيْرٌ.
رجال هذا الإسناد: ستة:
كلهم تقدّموا غيرة. و (الحسين بن عيسى) هو أبو علي البسطاميّ، القُومَسيّ، نزيل نيسابور، صدوق من [10]. و (أبو أسامة) هو حماد بن أسامة. و (أبو إسحاق) هو عمرو بن عبد اللَّه السبيعي.
وشرح الحديث تقدّم في الذي في الباب الماضي، وهو ضعيف؛ لأن في إسناده أبا إسحاق السبيعيّ، وهو معروف بالتدليس، وقد اختلط بآخره، وزكريا ممن روى عنه بعد الاختلاط، مثل زهير الآتي في السند التالي.
والحديث أخرجه المصنف هنا -38/ 1702 - وفي "الكبرى" 59/ 1427 - بالإسناد المذكور، وفي 38/ 1703 - و"الكبرى" 59/ 1428 - بالإسناد الآتي.
وأخرجه (ت) 462 (ق) 1172 (أحمد) 1/ 299 و 300 و 316 و 372 (الدارمي) 1594 و 1597. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (أوقفه زهير) أي روى هذا الحديث زهير بن معاوية، أبو خيثمة الجعفيّ، عن أبي إسحاق، موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر رواية زُهير بقوله:
1703 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ، بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثان لحديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى - عنهما ساقه لبيان الاختلاف الذي ذكره في الترجمة، فقد خالف فيه زهير زكريا بن أبي زائدة، فرواه عن أبي إسحاق، موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما.
والحديث ضعيف للعلتين المذكورتين في الرواية الماضية.
و (أحمد بن سليمان) هو أبو الحسين الرّهاوي الثقة الحافظ، من أفراد المصنّف.
و"أبو نعيم": هو الفضل بن دُكين الحافظ الثبت. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
39 - ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسِ فِي الْوِترِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدم بيان اختلاف الرواة في حديث ابن عباس رضي الله عنه هذا مُستَوْفًى في-9/ 1620 - "باب ما يستفتح به القيام"، فراجعه هناك، وباللَّه تعالى التوفيق.
وأما الاختلاف الذي ذكره هنا فحاصله أنّ الرواة قد اختلفوا فيه على حبيب بن أبي ثابت، وذلك أن سفيان الثوريّ، وحصين بن عبد الرحمن روياه عنه، عن محمد بن علي بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن ابن عباس، وخالفهما زيد بن أبي أُنيسة، فرواه عنه، عن محمد بن عليّ، عن ابن عباس، فأسقط عليّ بن عبد اللَّه، وخالفهم أبو بكر النَّهْشَليّ، فرواه عنه، عن يحيى بن الجَزّار، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وفيه أيضا اختلاف آخر، وهو أن عمرو بن مُرّة خالف حَبيبا، فرواه عن يحيى بن الجَزّار، عن أم سلمة رضي الله عنها.
واختلاف آخر أيضًا، وهو أن عُمَارة بن عُمير خالف حبيبًا، وعُمارة بن عُمير، فرواه عن يحى بن الجزّار، عن عائشة رضي الله عنها. واللَّه تعالى أعلم.
(ثم اعلم): أن رواية حبيب بن أبي ثابت هذه قد أعلّها العلماء، لمخالفتها روايات
الحفّاظ الأثبات، وقد أخرجها مسلم في "صحيحه"، فقال:
حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن فضيل، عن حُصين بن عبد الرحمن، عن حَبيب بن أبي ثابت، عن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عباس، أنه رَقَد عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فاستيقظ، فتسوك، وتوضأ، وهو يقول:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، فقرأ هؤلاء الآيات، حتى ختم السورة، ثم قام، فصلى ركعتين، فأطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف، فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات، ست ركعات، كل ذلك يستاك، ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث، فأذن المؤذن، فخرج إلى الصلاة، وهو يقول:"اللَّهم اجعل في قلبي نورا، وفي لساني نورا، واجعل في سمعي نورا، واجعل في بصري نورا، واجعل من خلفي نورا، ومن أمامي نورا، واجعل من فوقي نورا، ومن تحتي نورا، اللهم أعطني نورا".
فقال النوويّ في شرحه: هذه الرواية فيها مخالفة لباقي الروايات في تخليل النوم بين الركعات، وفي عدد الركعات، فإنه لم يُذكر في باقي الروايات تخلّلُ النوم، وذكر الركعات ثلاث عشرة.
وقال القاضي عياض: هذه الرواية، وهي رواية حصين، عن حبيب بن أبي ثابت مما استدركه الدارقطنيّ على مسلم، لاضطرابها، واختلاف الرواة، قال الدارقطنيّ: ورُوي عنه على سبعة أوجه، وخالف فيه الجمهور.
قال النوويّ: قلت: ولا يقدح هذا في مسلم، فإنه لم يذكر هذه الرواية متأصّلة مستقلّة، إنما ذكرها متابعة، والمتابعات يُحتَمل فيها ما لا يُحتَمَل في الأصول، كما سبق بيانه في مواضع.
قال القاضي: ويَحتَمِلُ أنه لم يَعُدّ في هذه الصلاة الركعتين الأوليين الخفيفتين اللتين كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاة الليل بهما، كما صرّحت الأحاديث بهما في مسلم وغيره، ولهذا قال:"صلّى ركعتين، فأطال فيهما"، فدلّ على أنهما بعد الخفيفتين، فتكون الخفيفتان، ثم الطويلتان، ثم الست المذكورات، ثم ثلاث بعدها، كما ذكر، فصارت الجملة ثلاث عشرة، كما في باقي الروايات. واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
وقد تقدّم فى شرح حديث رقم 9/ 1620 - عن الحافظ رحمه الله نحو هذا، فإنه لَمّا ذكر رواية علي بن عبد اللَّه بن عباس عند مسلم، وذكر مخالفتها، قال: فزاد على الرواة
(1)
- "شرح مسلم" ج 6 ص 51 - 53.
تكرار الوضوء، وما معه، ونَقَص عنهم ركعتين، أو أربعا، ولم يذكر ركعتي الفجر أيضًا، وأظنّ ذلك من الراوي عنه، حبيب بن أبي ثابت، فإن فيه مقالاً، وقد اختُلف عليه فيه في إسناده، ومتنه اختلافًا، تقدّم ذكر بعضه انتهى
(1)
.
والحاصل أن الظاهر ضعف رواية حبيب بن أبي ثابت هذه؛ لكثرة المخالفة فيها لروايات الحفّاظ الأثبات، ولأنه كثير التدليس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1704 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، فَاسْتَنَّ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، فَاسْتَنَّ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى صَلَّى سِتًّا، ثُمَّ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: (معاوية بن هشام) هو أبو الحسن القَصّار الكوفيّ، مولى بني أسد، ويقال له: معاوية بن أبي العباس، صدوق له أوهام، من صغار [9].
قال ابن معين: صالح، وليس بذاك. ووثقه أبو داود، وابن حبان، وقال: ربما أخطأ. وقال عثمان بن أبي شيبة: صدوق، وليس بحجة. وقال الساجيّ: صدوق يَهِم.
وقال أحمد: كثير الخطأ. وقال ابن سعد: كان صدوقًا كثير الحديث. أخرج له الجماعة، سوى البخاري، فأخرج له في "الأدب المفرد". وله في هذا الكتاب ستة أحاديث برقم 1704 و 4589 و 4111 و 4834 و 4943 و 5052.
و (محمد بن علي) بن عبد اللَّه بن عباس الهاشمي، ثقة [6].
رَوَى عن جدّه، يقال: مرسل، وأبيه، وسعيد بن جُبير، وغيرهم. وعنه ابناه السَّفَّاح، وأبو جعفر المنصور، وأخوه عيسى بن علي، وحبيب بن أبي ثابت، وغيرهم.
قال مصعب: كان ثقة ثبتًا مشهورًا، وقال الكلبي: كان من أجمل الناس. وقال الحَبَطيّ: وكان أول من نطق بالدعوة العباسية، ومات سنة (124) وقد انتشرت دعوته، وكثر شيعته، وبلغ من السنّ نيّفًا وستين سنة، وأوصى إلى ابنه إبراهيم. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال: روى عن ابن عباس. وقال مسلم في كتاب "التمييز": لا يُعلم له سماع من جدّه، ولا أنه لقيه. وقال ابن سعد: مات سنة (125) أخرج له الجماعة سوى البخاريّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده 1705.
و (علي بن عبد اللَّه) بن عباس بن عبد المطّلب بن هاشم، أبو محمد، ويقال: أبو
(1)
- "فتح" ج 3 ص 168 - 169.
عبد اللَّه، ويقال: أبو الفضل المدنيّ.
روى عن أبيه، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عمر، وغيرهم. وعنه أولاده: محمد، وعيسى، وعبد الصمد، وسليمان، وداود بن المنهال بن عمرو، والزهريّ، وحبيب بن أبي ثابت، وغيرهم. قال ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل المدينة: وُلد ليلة قتل عليّ في شهر رمضان سنة (40) فَسُمّي باسمه، وكُني بكنيته، ثم غَيّر عبد الملك بن مروان كنيته، وكان ثقة، قليل الحديث. وقال في موضع آخر: كان أصغر ولد أبيه سنّا، وكان أجمل قرشيّ على وجه الأرض، وأَوْسَمَهُ، وكان يُدْعَى السَّجّاد لكثرة صلاته. وقال مصعب الزبيريّ: سمعت رجلاً من أهل العلم يقول: إنما كان سبب عبادته أنه رأى عبد الرحمن بن أبان بن عثمان وعبادته، فقال: لأنا أولى بهذا منه، وأقرب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رحمًا، فتجرّد للعبادة. وقال ميمون بن زياد العدويّ، عن أبي سنان: كان علي بن عبد اللَّه معنا بالشام، وكان يخضب بالوَسْمَة، وكان يُصلّي كلّ يوم ألف ركعة
(1)
. وقال العجليّ، وأبو زرعة: ثقة. وقال عمرو ابن عليّ: كان من خيار الناس. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال أبو حسّان الزياديّ: تُوفّي بالْبَلْقاء من أرض الشام في الحُمَيمَة سْنة (19) ويقال: ثمان عشرة، وجزم به ابن حبّان. أخرج له الجماعة سوى البخاريّ، فأخرج له في "الأدب المفرد"، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده 1705.
و (سفيان) هو الثوريّ الإمام.
وقوله: (فاستنّ) أي استعمل السواك في أسنانه.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث قد تقدّم في الحديث الماضي أن مسلمًا أخرجه، ولكن العلماء أعلوه بكثرة مخالفة حبيب بن أبي ثابت للحفّاظ الأثبات، وأيضًا إنه كثير التدليس، وتقدّم تخريجه في 153/ 1121 - "باب الدعاء في السجود". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1705 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ، بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ، فَتَوَضَّأَ، وَاسْتَاكَ، وَهُوَ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ، حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِى الأَلْبَابِ} ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ عَادَ، فَنَامَ، حَتَّى سَمِعْتُ نَفْخَهُ، ثُمَّ قَامَ، فَتَوَضَّأَ، وَاسْتَاكَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، فَتَوَضَّأَ، وَاسْتَاكَ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَأَوْتَرَ بِثَلَاثٍ.
(1)
قال الجامع: إن صحت هذه الحكاية نقول: هدي رسول صلى الله عليه وسلم أفضل الهدي، ولم ينقل عنه هذا، فلا ينبغي أن يُقْتَدَى به، قال اللَّه تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآية.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد عرفت ما فيه.
و (أحمد بن سليمان) تقدّم في الباب الماضي. و (حسين) هو ابن عليّ الجعفيّ العابد القارىء الكوفيّ. و (زائدة) هو ابن قُدَامة الحافظ الكوفيّ. و (حُصين) هو ابن عبد الرحمن السلميّ، أبو الْهُذَيل الكوفيّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1706 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَبَلَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ مَخْلَدٍ، ثِقَةٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَنَّ
…
وَسَاقَ الْحَدِيثَ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الرواية خالف فيها زيد بن أبي أنيسة سفيانَ، وحُصينًا، فأسقط علي بن عبد اللَّه بين محمد بن علي وابنِ عباس، وقد تقدّم في ترجمة محمد بن عليّ أن مسلمًا قال في كتاب "التمييز": لا يُعلم له سماع من جدّه، ولا أنه لقيه انتهى. وعلى هذا فتكون هذه الرواية منقطعة، واللَّه تعالى أعلم.
و (محمد بن جَبَلَة) ويقال: ابن خالد بن جبلة الرافِقِيّ، خُراساني الأصل، صدوق، من [11] تقدّم 190/ 1167.
و (مَعْمَر بن مَخْلَد) السُّرُوجيّ -بضم المهملة، والراء، وبعد الواو الساكنة جيم- ويقال: مُعَمّر -بالتشديد- ثقة [10].
وثقه النسائيّ، وقال محمد بن عليّ الحرّانيّ: مات فيما ذكروا بمَلَطِية سنة (231). انفرد به المصنف بهذا الحديث فقط.
[تنبيه]: قوله: "ثقة" يحتمل أن يكون من كلام محمد بن جبلة، أو من كلام المصنف. واللَّه تعالى أعلم.
و (عُبيدالله بن عمرو) الرّقّيّ، ثقة فقيه ربما وهم [3] 190/ 1176.
و (زيد) بن أبي أُنيسة الجزريّ، أبو أسامة الكوفيّ، ثم الرُّهَاويّ، ثقة له أفراد [6] 191/ 306 وقوله:"وساق الحديث" الضمير لزيد بن أبي أنيسة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1707 -
أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّهْشَلِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ. خَالَفَهُ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، فَرَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر للحديث السابق ساقه لبيان مخالفة أخرى على حبيب بن أبي ثابت، حيث خالف فيه أبو بكر النهشليّ الرواة السابقين عنه،
فجعله عنه، عن يحيى بن الجزّار، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد عرفت أن حبيبًا كثير التدليس، فلا تصحّ روايته.
و (هارون بن عبد اللَّه) هو الْحَمّال البغداديّ، ثقة [10] 50/ 62.
و (يحيى بن آدم) هو أبو زكريا الكوفيّ الحافظ القة الفاضل من كبار [9] 1/ 451.
و (أبو بكر النهشليّ) قيل: اسمه عبدْاللَه بن قطاف، أو ابن أبي قطاف، وقيل: وهب، وقيل: معاوية، صدوق رُمِي بالإرجاء [7] 26/ 1259.
و (يحيى بن الجزّار) هو الْعُرَنيّ -بضم المهملة، وفتح الراء، ثم نون- الكوفيّ، قيل: اسم أبيه زَبّان -بزاي، وموحّدة-، وقيل: بل لقبه، صدوق رُمي بالتشيّع [3] 7/ 754.
وقوله: "خالفه عمرو بن مُرّة الخ": الضمير المنصوب لحبيب بن أبي ثابت، أي خالف حبيبَ بنَ أبي ثابت عمرُو بنُ مرّة في روايته عن يحيى بن الجزّار، فجعله عن يحمى بن الجزّار، عن أم سلمة، بدل ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهم -، كما بينه بقوله:
1708 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِثَلَاثِ عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَلَمَّا كَبِرَ وَضَعُفَ، أَوْتَرَ بِتِسْعٍ.
خَالَفَهُ عُمَارَةُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَرَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَائِشَةَ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح الإسناد، و"أحمد بن حرب": هو الطائي الموصلي، صدوق [10] 102/ 135.
"وأبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير الكوفيّ الحافظ الثبت، من كبار [9] 26/ 30. و "عمرو بن مرّة": هو الجملي الكوفيّ الأعميّ الثقة العابد، رمي بالإرجاء [5] 171/ 265.
وقولها: "كبر" بكسر الباء، من باب تَعِبَ: أي طَعَن في السنّ، وأما كَبُر ضدّ صَغُر فهو بضم الباء، من باب كرُم، كما في "ق"، وقد يَغْلَطُ كثير من الناس، فيستعملون أحدهما مكان الآخر، فينبغي التنبّه لهذا. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "خالفه عُمار بن عُمير"، يعني أنه خالف عمرَو بنَ مرّة عُمارةُ بنُ عُمير في روايته لهذا الحديث، فرواه عن يحيى بن الجزار، عن عائشة، بدل أم سلمة رضي الله عنها، كما بين ذلك بقوله:
1709 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ تِسْعًا فَلَمَّا أَسَنَّ، وَثَقُلَ صَلَّى سَبْعًا.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم شرحه في رواية سعد بن هشام، عن عائشة رضي الله عنها 1/ 1601، وهو من أفراد المصنف، أخرجه هنا- 39/ 1709 وفي "الكبرى" بالسند المذكور، وأخرجه في "الكبرى" أيضًا عن أحمد بن سعيد الرِّبَاطيّ، عن العلاء بن عُصيم، عن أبي الأحوص- وعن محمد بن المثنّى، عن يحيى ابن حماد، عن أبي عوانة- كلاهما عن الأعمش به.
و"سليمان" هو الأعمش الحافظ الإمام المشهور [5] 17/ 18 و"عُمارة بن عُمير": هو التيميّ الكوفيّ الثقة الثبت [4] 49/ 608. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
40 - بَابُ ذِكْرِ الاخْتِلَافِ عَلَى الزهْرِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيوبَ فِي الْوِتْرِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حاصل الاختلاف الذي أشار إليه، أن دُويد بن نافع، والأوزاعيّ رويا هذا الحديث عن الزهريّ، عن عطاء بن يزيد الليثيّ، عن أبي أيوب رضي الله عنه مرفوعًا، وخالفهما أبو مُعَيد حفص بنُ غَيْلان، فرواه عنه عن عطاء، عن أبى أيوب رضي الله عنه موقوفًا عليه، وسيأتي أن الراجح تصحيح الحديث مرفوعًا وموقوفًا، لعدم التنافي بينهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1710 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ضُبَارَةُ بْنُ أَبِي السَّلِيلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي دُوَيْدُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ شَاءَ، أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ، وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ» .
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عمرو بن عثمان) القرشي مولاهم، أبو حفص الحمصيّ، صدوق [10] 21/ 535.
2 -
(بقية) بن الوليد الحمصيّ، صدوق كثير التدليس عن الضعفاء [8] 45/ 55.
3 -
(ضُبَارة بن أبي السَّليل) - بضم الضاد المعجمة، ثم موحّدة، وفتح السين المهملة- هو ضُبَارة بن عبد اللَّه بن مالك بن أبي السَّليل الحضرميّ، أبو شُريح الحمصيّ، ومنهم من ينسبه إلى جدّه، ومنهم من ينسبه إلى السّليل، كما هنا، مجهول [6] وقيل: هم ثلاثة.
روى له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وفي "كتاب الاستعاذة" 5471 حديث:"اللَّهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق".
[تنبيه]: أبو السَّليل بلام آخره هكذا وقع في نُسَخ "المجتبى"، و"الكبرى"، وهو الذي ذكره الحافظ في "التقريب" وضبطه بفتح السين المهملة.
لكن وقع في "تتهذيب التهذيب"، و"تهذيب الكمال"، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، و"تحفة الأشراف":"أبو السُّلَيك" بكاف آخره مصغّرًا.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن أبا السَّلِيل باللام مكبّرًا تصحيف، والصواب أبو السُّلَيك مصغّرًا، كما أشار إليه في هامش "تحفة الأشراف" ج 3 ص 99.
وقد ضبطه في "التقريب"
(1)
على الصواب في ترجمة جدّه مالك بن أبي السُّلَيك، فقال: بالمهملة، وآخره كاف، مصغّرًا. انتهى. واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(دُوَيد بن نافع) الأمويّ مولاهم، أبو عيسى الدمشقيّ، ويقال: الحمصيّ، كان يكون بمصر، مقبول، كان يرسل [6] وقيل: أوله معجمة.
روى عن أبي صالح، وعروة، والزهريّ، وغيرهم. وعنه ابنه عبد اللَّه، وضُبَارة، بن عبد اللَّه، والليث، وأخوه مَسلمة بن نافع.
قال أبو حاتم: شيخ. وقال ابن حبّان: مستقيم الحديث، إذا كان من دونه ثقةً. وذكر ابن خلفون أن الذهليّ، والعجليّ وثقاه. روى له أبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب الحديثان المذكوران في ترجمة ضبارة التي قبله.
5 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الحجة المشهور [4] 1/ 1.
6 -
(عطاء بن يزيد) الليثيّ الْجُندَعيّ المدنيّ، ثم الشاميّ، ثقة [3] 20/ 21.
7 -
(أبو أيوب) الأنصاريّ خالد بن زيد بن كُليب الصحابي الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 20/ 20. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
- راجع "التقريب" نسخة أبي الأشبال ص 915.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم موثّقون، إلا ضبارة، فمجهول. (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي أَيُّوبَ) الأنصاري - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْوِتْرُ حَقٍّ) قال الطيبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: الحقّ يجيء بمعنى الثبوت والوجوب، فذهب إلى الثاني أبو حنيفة، والشافعيّ إلى الأول، أي ثابت في الشرع والسنّة، وفيه نوع تأكيد انتهى.
وقال السنديّ رحمه الله: قد يَستَدلّ به من يقول بوجوب الوتر، بناءً على أن الحقّ هو اللازم الثابت على الذمّة، وقد جاء في بعض الروايات مقرونًا بالوعيد على تركه.
ويُجيب من لا يرى الوجوب، وهم الجمهور أن معنى "حقّ" أنه مشروع ثابت، ومعنى "ليس منّا" ليس من أهل سنّتنا، وعلى طريقتنا، أو المراد من لم يوتر رغبةً عن السنّة، فليس منّا انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم تحقيق الخلاف في هذه المسألة، وترجيح قول الجمهور بأدلته في 27/ 1675 - "باب الأمر بالوتر"، فراجعه تستفد، وباللَه تعالى التوفيق.
(فَمَنْ شَاءَ، أَوْتَرَ بِسَبْعٍ) بأن لا يجلس إلا في آخرهنّ، كما تقدّم في حديث عائشة رضي الله عنها (وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِخمْسٍ، وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ) أي بتسليمة واحدة، ولكن لا يجلس إلا في آخرهن لما تقدّم من النهيُ، عن تشبيه الوتر بالمغرب (وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ") أي مقتصرًا عليها.
قال النووي رحمه الله: فيه دليل على أن أقلّ الوتر ركعة، وأن الركعة الواحدة صحيحة، وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يصحّ الإيتار بواحدة، ولا تكون الركعة الواحدة صلاة، والأحاديث الصحيحة تردّ عليه. انتهى .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي أيوب - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أكثر الحفاظ على أن الصحيح الموقوف الآتي.
قال المصنف في "الكبرى" ج 1 ص 441: قال أبو عبد الرحمن: الموقوف أولى بالصواب انتهى. وقال الحافظ في "التلخيص": وصحح أبو حاتم، والذهليّ، والدارقطنيّ في "العلل"، والبيهقيّ، وغير واحد وقفه، وهو الصواب. وقال في "بلوغ المرام": رجع النسائيّ وقفه. وقال الأمير الصنعاني في "سبل السلام": وله حكم الرفع، إذ لا مَسْرَح للاجتهاد فيه، أي في المقادير. وقال النوويّ: إسناده صحيح. ورجّح ابن القطّان الرفع، وقال: لا حَفِظَ من لم يحفظه.
وقال المنذريّ: وقد وقفه بعضهم، ولم يرفعه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأخرجه أبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، مرفوعا من رواية بكر بن وائل، عن الزهريّ، وتابعه على رفعه الإمام أبو عمرو الأوزاعيّ، وسفيان بن حسين، ومحمد بن أبي حفصة، وغيرهم. ويحتمل أن يكون يرويه مرّة من فُتْياه، ومرة من روايته انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي أشار إليه المنذريّ -رحمه اللَّه تعالى- في كلامه الأخير هو الحقّ، فيحمل على أن أبا أيوب - رضي اللَّه تعالى عنه - رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأفتى به من سأله، فلا تعارض بينهما، فتنبصّر.
والحاصل أن الحديث صحيح مرفوعًا وموقوفًا. واللَّه تعالى أعلم.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده ضبارة، وهو مجهول، عن دُويد بن نافع، وهو مقبول؟.
[قلت]: لم ينفرد به ضبارة، عن دُويد، بل رواه الوليد بن مزيد، عن الأوزاعيّ، عن ابن شهاب، كما يأتي في الرواية التالية. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثانية: فى بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا- 40/ 1710 وفي "الكبرى" 51/ 1401 - بالإسناد المذكور، و 40/ 1711 و 1712 و 1713 وفي "الكبرى" 51/ 1401 و 1402 و 1403 بالأسانيد الآتية إن شاء اللَّه تعالى.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (د) 1422 (ق) 1190 (أحمد) 5/ 418 (الدارمي) 1590 و 1591. واللَّه تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1711 -
أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّ رَسُولَ
(1)
- راجع "المرعاة" ج 4 ص 275.
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ، وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ» .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثان لحديث أبي أيوب الأنصاريّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، تابع فيه الأوزاعيّ دُويد بن نافع في رفعه، وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله.
و"العباس بن الوليد بن مَزْيد" العذريّ -بضم المهملة، وسكون المعجمة- أبو الفضل البَيْرُوتيّ، صدوق عابد [11].
قال النسائيّ في "مشيخته": ثقة، وعنه: ليس به بأس. وقال ابن أبي حاتم: سمعت منه، وهو صدوق ثقة، سئل عنه أبي؟ فقال: صدوق. وقال أبو داود: كان صاحب ليل، كان يقول: سمعت من أبي، وعرضت عليه، والعرض أصحّ، قال أبو داود: كان أبوه عالمًا بالأوزاعيّ. وقال محمد بن عوف الطائيّ: كتبنا عنه سنة (17)
(1)
وكان أحمد ابن أبي الْحَوَاريّ، وكبار أصحاب الحديث من أهل دمشق يحضرون معنا، ونكتب من حديثه. وقال محمد بن يوسف بن عيسى الطباع: ذاك شيخ صدوق مسلم. وقال إسحاق بن يسار: ما رأيت أحسن سمتا منه. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان من خيار عباد اللَّه المتقنين في الروايات. وقال مسلمة: كان يفتي برأي الأوزاعيّ هو وأبوه، وكان ثقة مأمونًا فقيهًا. ولد سنة (169) ومات سنة (270). روى عنه أبو داود، والمصنّف، وله فهذا الكتاب ستة أحادث برقم 1711 و2375 و 3659 و 4786 و 5157 و 5337.
و"الوليد بن مَزْيد" -بفتح الميم، وسكون الزاي، وفتح التحتانية- أبو العباس البيروتيّ، ثقة ثبت [8].
قال الوليد بن مسلم: عليكم بالوليد بن مزيد، فإني سمعت الأوزاعي يقول: كُتُبُه صحيحة. وقال العباس بن الوليد: سمعت أبا مُسهر يقول: لقد حَرَصتُ على علم الأوزاعيّ حتى لقيت أباك، فوجدت عنده علمًا لم يكن عند القوم. وقال دُحيم، وأبو داود: ثقة. وقال النسائيّ: هو أحبّ إلينا في الأوزاعيّ من الوليد بن مسلم، لا يخطىء، ولا يدلّس. وكان محمد بن يوسف بن الطبّاع يقول: هو أثبت أصحاب الأوزاعيّ. وقال الدارقطنيّ: ثقة ثبت. وقال ابن ماكولا: كان من الثقات. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الحاكم: ثقة مأمون. وقال مسلمة: ثقة. قال دُحَيم: مات
(1)
- أي بعد مائتين.
سنة (207) وعن العباس بن الوليد بن مزيد قال: مات أبي سنة (203) وهو ابن (77). روى له أبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم 1711 و 2375 و 3659 و 4786 و 5337.
و"الأوزاعيّ" هو الإمام الحجة عبدالرحمن بن عمرو، أبو عمرو الدمشقيّ. والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1712 -
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مُعَيْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ، يَقُولُ: "الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسِ رَكَعَاتٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثالث لحديث أبي أيوب الأنصاريّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، ساقه لبيان الاختلاف الواقع بينه وبين الإسنادين السابقين في الرفع والوقف، وقد تقدّم الكلام عليه في الحديث الأول، وأن الأرجح عدم التعارض بينهما، ورجال إسناده تقدّموا فى الذي قبله سوى أربعة.
1 -
(الربيع بن سليمان بن داود) المصريّ الجِيزيّ، الثقة [11] 122/ 173.
2 -
(عبداللَّه بن يوسف) التنّيسيّ، أبو محمد الكَلَاعيّ الحافظ المتقن [10] 17/ 1540.
3 -
(الهيثم بن حُميد) الغسانيّ مولاهم، أبو أحمد، أو أبو الحارث، صدوق رُمي بالقدر [7] 134/ 204.
4 -
(أبو مُعَيد) -مصغّرًا -: هو حفص بن غَيلَان الهَمْدانيّ، وقيل: الرّعينيّ الحميريّ
الدمشقيّ، صدوق فقيه رمي بالقدر [8] 134/ 204.
والحديث موقوف صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1713 -
قَالَ
(1)
الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: مَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ، وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ، وَمَنْ شَاءَ أَوْمَأَ إِيمَاءً.
(1)
- وقع في بعض النسخ "أخبرنا" بدل "قال".
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق رابع، ساقه المصنف لبيان متابعة سفيان - وهو ابن عيينة- أبا مُعَيد في وقفه، وقد تقدّم الكلام على الحديث قريبًا.
وقوله: "أومأ إيماء"، ولفظ "الكبرى":"ومن غُلِب أومأ إيماء". وفيه أنه يجوز الوتر بالإيماء، وهذا محمول على المريض عند الجمهور، ويؤيده قوله:"ومن غُلب"، وقد تقدّم الخلاف في جواز التطوّع مضطجعًا بالإيماء، وأن الراجح جوازه مع القدرة، فراجع الشرح برقم 21/ 1660 تستفد. وباللَّه تعالى التوفيق.
والحديث موقوف صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
41 - بَابُ كَيْفَ الْوِتْرُ بِخَمْسٍ، وَذِكْرِ الاخْتِلَافِ عَلَى الْحَكَمِ فِي حَدِيثِ الْوِتْرِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حاصل الاختلاف الذي أشار إليه أن منصورًا، رواه عن الحكم، عن مقسم، عن أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، مرفوعًا، وخالفه سفيان بن الحسين، فرواه عن الحكم، عن مقسم، عن الثقة، عن عائشة، وأم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنهما -، موقوفًا، ورواية منصور أصحّ من رواية سفيان بن الحسين، كما سيأتي، إن شاء اللَّه تعالى.
وفيه أيضًا اختلاف آخر، وهو الاختلاف على منصور، فقد رواه جرير بن عبد الحميد، عنه، عن الحكم، عن مقسم، عن أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وخالفه إسرائيل، فرواه عنه، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، عن أم سلمة، فأدخل ابن عباس بين مقسم، وبين أم سلمة، لكن الظاهر أن هذا الاختلاف لا يضر، لإمكان الجمع بأن مقسما رواه بواسطة، وبغير واسطة، بخلاف الاختلاف المتقدّم، فإن إسناد سفيان بن الحسين ضعيف، كما سيأتي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1714 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُوتِرُ بِخَمْسٍ، وَبِسَبْعٍ، لَا يَفْصِلُ بَيْنَهَا بِسَلَامٍ، وَلَا بِكَلَامٍ.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(جرير) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ نزيل الرَّيّ، ثقة ثبت [8] 2/ 2.
3 -
(منصور) بن المعتمر الكوفي الحافظ الثبت [6] 2/ 2.
4 -
(الحكم) بن عُتيبة، أبو محمد الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [5] 86/ 104.
5 -
(مِقسم) بن بُجْرَة، ويقال: نَجْدة، أبو القاسم، مولى عبد اللَّه بن الحارث، ويقال: مولى ابن عباس، للزومه له، صدوق، كان يرسل [4] 182/ 289.
6 -
(أم سلمة) هند بنت أبي أميّة، أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها -، تقدمت قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها). أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وأم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فمدنيّة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُوتِرُ بِخَمسٍ، وَبِسَبْعٍ، لَا يَفْصِل بَينَهَا بسَلَامٍ، وَلَا بِكَلَامٍ) قال السنديّ رحمه الله: أي ولا بقعود، كما سيجيء، ويلزم منه أن الَقعود على آخر كلّ ركعتين غير واجب انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح
(1)
.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا- 41/ 1714 وفي "الكبرى"-52/ 1403 - بالإسناد المذكور، و 1715 و 1716 و 1717 و"الكبرى" 1404 و 1405 و 1406 و 1407 بالأسانيد الآتية، إن شاء اللَّه تعالى.
(1)
- عزا الشيخ الألباني -رحمه اللَّه تعالى- أحاديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - إلا الثالث في "صحيح النسائي" 1/ 374 إلى "صحيح مسلم"، وهو محلّ نظر. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (ق) 1192 (أحمد) 6/ 290 و 310 و 321. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1715 -
أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِسَبْعٍ، أَوْ بِخَمْسٍ، وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِتَسْلِيمٍ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثان لحديث أم سلمة رضي الله عنها، ساقه لبيان الاختلاف الذي أشار إليه في الترجمة، حيث خالف إسرائيل جرير بن عبد الحميد، فأدخل فيه "ابنَ عباس" بين مِقْسَم وأمّ سلمة - رضي اللَّه تعالى عنهم -.
و"القاسم بن زكريا بن دينار": هو القرشيّ الكوفي الطحّان، ثقة [11] 8/ 410.
و"عبيد اللَّه": هو ابن موسى بن أبي المختار باذام العبسيّ الكوفيّ، ثقة يتشيّع [9] 72/ 1326.
و"إسرائيل": هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفي، ثقة [6] 75/ 1006.
والحديث صحيح، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1716 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، قَالَ: الْوَتْرُ سَبْعٌ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ خَمْسٍ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: عَمَّنْ ذَكَرَهُ؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي. قَالَ: الْحَكَمُ: فَحَجَجْتُ، فَلَقِيتُ مِقْسَمًا، فَقُلْتُ لَهُ: عَمَّنْ؟ قَالَ: عَنِ الثِّقَةِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ مَيْمُونَةَ.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمد بن إسماعيل بن إبراهيم) ابن عُليّة قاضي دمشق، ثقة [11] 22/ 489.
2 -
(يزيد) بن هارون الواسطي الحافظ الثبت العابد [9] 153/ 244.
3 -
(سفيان بن الحسين) بن الحسن، أبو محمد، أو أبو الحسن الواسطي، ثقة في غير الزهري باتفاقهم [7].
قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة في غير الزهريّ، لا يُدفَع، وحديثه عن الزهري ليس بذاك، إنما سمع منه بالموسم. وقال المروذيّ، عن أحمد: ليس بذاك في حديثه عن الزهريّ. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق ثقة، وفي حديثه ضعف. وقال النسائيّ: ليس به بأس، إلا في الزهري. وقال عثمان بن أبي شيبة: كان ثقة إلا أنه كان مضطربا في الحديث قليلاً. وقال العجليّ: ثقة. وقال ابن سعد: ثقة يُخطىء في حديثه
كثيرًا. وقال ابن عديّ: هو في غير الزهريّ صالح ، وفي الزهريّ يروي أشياء خالفَ الناسَ فيها. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: أما روايته عن الزهريّ، فإن فيها تخاليط يجب أن يُجانَبَ، وهو ثقة في غير الزهريّ، مات في ولاية هارون، وقال في "الضعفاء": يروي عن الزهريّ المقلوبات، وذلك أن صحيفة الزهريّ اختلطت عليه.
وقال أبو داود. ليس هو من كبار أصحاب الزهريّ. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، يُكتَب حديثه، ولا يُحتجّ به مثل ابن إسحاق، وهو أحبّ إلي من سليمان بن كثير. وقال البزّار: واسطيّ ثقة. علّق له البخاريّ، وأخرج له مسلم في "المقدّمة"، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث برقم 1716 و3880 و 3971 و 4166 و 4223 و 4633 و 5409 و 5421. والباقيان تقدّما قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنِ الْحَكَم) بن عُتيبة (عَنْ مِقْسَم) أنه (قَالَ: الْوِترُ سَبْعٌ، فَلَا أَقَل مِنْ خَمْس) يعني أنه لا يصح الوترَ أقل من خمس ركعات، وفيه قصّة، ساقها في "الكبرى"، ولفظه من طريق يزيد بن زريع، عن شعبة، عن الحكم، قال: سألت مِقْسَمًا، قال: قلت: أُوتر بثلاث، ثم أَخرُجُ إلى الصلاة، مخافةَ أن تفوتني؟ قال: لا يصلح إلا بخمس، أو سبع، فأخبرت مجاهدًا، ويحيى بن الجزّار بقوله، فقالا لي: سله عمّن؟ فسألته؟ فقال: عن الثقة، عن ميمونة، وعائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ) الظاهر أنه النخعيّ، ولا تنافي بينه وبين الرواية المذكورة آنفًا، إذ يحتمل أن يذكره لكلِّ من مجاهد، ويحيى بن الجزّار، وإبراهيم (فَقَالَ) أي إبراهيم (عَمَّنْ ذَكَرَهُ؟) أي نقل هذا الذي قاله في كون الوتر لا يكون أقلّ من خمس (قُلْتُ: لَا أَدْرِي، قَالَ: الْحَكَمُ: فَحَجَجْتُ، فَلَقِيتُ مِقْسَمًا، فَقُلْتُ لَهُ: عَمَّنْ؟) أي عمن نقلت ما ذكرته من أن الوتر سبع لا أقلّ؟ (قَالَ:) أي مقسم (عَنِ الثِّقَةِ) فيه أن شيخه لم يُسمّ، وفي قبول رواية مثل هذا خلاف بين العلماء، قال في "التقريب"، وشرحه "التدريب":
وإذا قال: حدثني الثقة، أو نحوه، من غير أن يسميه لم يُكتَفَ به في التعديل على الصحيح حتى يسميه، لأنه وإن كان ثقة عنده، فربّما لو سمّاه لكان ممن جرحه غيره بجرح قادح، بل إضرابه عن تسميته رِيبة، تُوقع تردّدًا في القلب، بل زاد الخطيب أنه لو صرّح بأن كلّ شيوخه ثقات، ثم روى عمن لم يسمه لم يُعمَل بتزكيته، لجواز أن يُعرَف إذا ذكره بغير العدالة.
وقيل: يُكتفى بذلك مطلقا، كما لو عيّنه، لأنه مأمون في الحالتين معًا، فإن كان القائل عالمًا مجتهدًا، كمالك، والشافعيّ، -وكثيرًا ما يفعلان ذلك- كفى في حقّ موافقه في المذهب، لا غيره عند بعض المحققين، قال ابن الصبّاغ: لأنه لم يورد ذلك احتجاجًا بالخبر على غيره، بل يذكر لأصحابه قيامَ الحجة عنده على الحكم، وقد عَرَف هو مَن روى عنه ذلك، واختاره إمام الحرمين، ورجّحه الرافعيّ، في شرح "المسند"
(1)
، وفَرَضَه في صدور ذلك من أهل التعديل. وقيل: لا يكفي أيضًا حتى يقول: كلّ من أروي لكم عنه، ولم أسمّه فهو عدلٌ. قال الخطيب: وقد يوجد في بعض من أبهموه الضعف لخفاء حاله، كرواية مالك عن عبد الكريم بن أبي الْمُخارق انتهى
(2)
.
وإلى هذا أشار الحافظ السيوطيّ في "ألفية الحديث"، حيث قال:
وَإن يَقُلْ حَدَّثَ مَنْ لَا أَتَّهِمْ
…
أَوْ ثِقَةٌ كُلُّ شَيْخٍ لِي وُسِمْ
بِثِقَةٍ ثُمَّ رَوَى عَنْ مُبْهَمِ
…
لَا يُكْتَفَى عَلَى الصَّحِيحِ فَاعْلَم
وَيكْتَفَى مِنْ عَالِمِ فِي حَق مَنْ
…
قَلَّدَهُ وَقِيلَ لَا مَا لَمْ يُبَنْ
(3)
(عَن عَائِشَةَ، وَعَنْ مَيْمُونَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -.
وفيه دلالة على أن الوتر لا يكون أقلّ من خمس ركعات، وفيه ما سيأتي قريبًا إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث غير صحيح؛ لأمور:
منها: أنه يدلّ على أن الوتر لا يكون أقلّ من خمس، وهذا مخالف لما تقدم من الأحاديث الصحيحة في جواز الإيتار بالثلاث والواحدة.
ومنها: أن في إسناده مبهمًا، وهو شيخ مِقْسَم، وقد تقدم آنفًا أن مثل هذا لا يقبل على الصحيح.
ومنها: أنّ فيه اضطرابًا، فقد رواه سفيان بن الحسين عن الحكم موقوفًا عليهما، كما في هذه الرواية، وقد خالفه شعبةُ، فرواه عن الحكم، مرفوعًا، كما تقدّم في رواية "الكبرى" من طريقه.
والحاصل أن هذا الحديث غير صحيح. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
- أي شرح مسند الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-.
(2)
- انظر "التقريب" مع شرحه "التدريب" ج 1 ص310 - 311. تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف الطبعة الثانية.
(3)
- انظر "ألفية الحديث" للسيوطي ص 101 بنسخة تعليق العلامة أحمد محمد شاكر -رحمهما اللَّه تعالى-.
وهو من أفراد المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا 41/ 1716 - وفي "الكبرى" 52/ 1405 - بالإسناد المذكور، وأخرجه في "الكبرى" أيضًا عن إسماعيل بن مسعود، عن يزيد بن زُريع، عن شعبة، عن الحكم به، وفيه قصّة، تقدمت قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1717 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ، وَلَا يَجْلِسُ إِلاَّ فِي آخِرِهِنَّ.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إسحاق بن منصور) الكَوْسَج المروزيّ، ثقة ثبت [11] 72/ 88.
2 -
(عبدالرحمن) بن مهديّ الحافظ الحجة المشهور [9] 21/ 22.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ الإمام الحجة الثبت 33 [7] /37.
4 -
(هشام بن عروة) الأسديّ المدنيّ الفقيه، ثقة ربما دلس [5] 49/ 61.
5 -
(أبوه) عروة بنَ الزبير بن العوام المدني الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها). أنه مسلسل بالمدنيين من هشام. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، وتابعي عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسِ) أي خمس ركعات (وَلَا يَجْلِسُ إِلاَّ فِي آخِرِهِنَّ) فيه دلالة على مشروعية الوتر بخمس ركعات، موصولة، لا يجلس إلا في آخرهنّ، وقد تقدّم الكلام على ذلك مستوفًى في 34/ 1689" باب كم الوتر؟ "، فراجعه تستفد .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا- 41/ 1717 - وفي "الكبرى" 52/ 1408 واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): فيمن أخرجه معه:
أخرجه (م) في "الصلاة" 736 و 737 (د) في "الصلاة" 1064 و 1071 و 404 (ق) في "الصلاة" 1136 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 22928 و 23204 و 23321 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
42 - بَابٌ كَيْفَ الْوِتْرُ بِسَبْعٍ؟
1718 -
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا أَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَخَذَ اللَّحْمَ، صَلَّى سَبْعَ رَكَعَاتٍ، لَا يَقْعُدُ إِلاَّ فِي آخِرِهِنَّ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ قَاعِدٌ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ، فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَيَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا صَلَّى صَلَاةً، أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا، مُخْتَصَرٌ.
خَالَفَهُ هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وهو مختصر -كما أشار إليه المصنف في آخر كلامه- من الحديث الطويل الذي تقدّم في 2/ 1601 - وتقدّم الكلام عليه مستوفًى، فليُراجَع هناك، وباللَّه تعالى التوفيق.
و"خالد": هو ابن الحارث الهُجَيميّ الحافظ الثبت [8].
وقوله: "حدثنا شعبة" هكذا وقع في نسخ "المجتبى"، ووقع في "الكبرى" ج 1 ص 442 "نا سعيد"، وبيّنه الحافظ المزيّ في "تحفة الأشراف" ج 11 ص 410 بأنه سعيد ابن أبي عروبة، والظاهر أن قوله:"شعبة" مصحّف من "سعيد"، والصواب ما في "الكبرى"، فليُتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "خالفه هشام الدستوائيّ": أي خالف سعيد بن أبي عروبة، في قوله:"لا يقعد إلا في آخرهنّ"، فرواه بلفظ:"لا يقعد إلا في السادسة، ثم ينهض، ولا يسلّم الخ"، والظاهر صحة الروايتين لإمكان حمل قولها:"لا يقعد إلا في آخرهنّ" على
القعود الذي يعقبه التسليم، فلا تعارض بين الروايتين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
ثم ذكر رواية هشام بقوله:
1719 -
أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا أَوْتَرَ بِتِسْعِ رَكَعَاتٍ، لَمْ يَقْعُدْ إِلاَّ فِي الثَّامِنَةِ، فَيَحْمَدُ اللَّهَ، وَيَذْكُرُهُ، وَيَدْعُو، ثُمَّ يَنْهَضُ، وَلَا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يُصَلِّي التَّاسِعَةَ، فَيَجْلِسُ، فَيَذْكُرُ اللَّهَ عز وجل، وَيَدْعُو، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ، فَلَمَّا كَبِرَ، وَضَعُفَ، أَوْتَرَ بِسَبْعِ رَكَعَاتٍ، لَا يَقْعُدُ إِلاَّ فِي السَّادِسَةِ، ثُمَّ يَنْهَضُ، وَلَا يُسَلِّمُ، فَيُصَلِّي السَّابِعَةَ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ.
قال الجامع عفا اللَّه تَعالى عنه: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد سبق الكلام عليه فيما قبله.
و"زكريا بن يحيى": هو السِّجْزيّ الدمشقيّ الحافظ الثبت المعروف بخيّاط السنة [12] 189/ 1161.
و"إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه الإمام الحجة 2/ 2 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
43 - كَيْفَ الْوِتْرُ بِتِسْعٍ؟
1720 -
أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنَّا نُعِدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِوَاكَهُ، وَطَهُورَهُ، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ عز وجل لِمَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ، مِنَ اللَّيْلِ، فَيَسْتَاكُ وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ، لَا يَجْلِسُ فِيهِنَّ
(1)
إِلاَّ عِنْدَ الثَّامِنَةِ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ
(2)
صلى الله عليه وسلم، وَيَدْعُو بَيْنَهُنَّ، وَلَا يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا، ثُمَّ يُصَلِّي التَّاسِعَةَ، وَيَقْعُدُ -وَذَكَرَ كَلِمَةً نَحْوَهَا- وَيَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُصَلِّي عَلَى
(1)
- وفي نسخة "بينهنّ".
(2)
- وفي نسخة، "على النبي".
نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَدْعُو، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا، يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ قَاعِدٌ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد سبق البحث فيه في حديث الباب الماضي.
و"هارون بن إسحاق": هو الْهَمْدانيّ، أبو القاسم الكوفيّ، صدوق، من صغار [10] 13/ 346. و "عبدة": هو ابن سليمان الكلابيّ الكوفيّ الحافظ الثبت [8] 7/ 339.
وقوله: "لما شاء اللَّه أن يبعثه" تقدّم أنه يحتمل أن يُضبط "لما" بكسر اللام، و"ما" موصولة، واللام للتوقيت، وبفتح اللام، وتشديد الميم، وهي بمعنى "حين". واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "وذكر كلمه نحوها": أي نحو كلمة "ويقعد"، من نحو "يجلس". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1721 -
أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، أَنَّ سَعْدَ بْنَ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، لَمَّا أَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا، أَخْبَرَنَا، أَنَّهُ أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ وَتْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ ، قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ، -أَوْ- أَلَا أُنَبِّئُكَ بِأَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ بِوَتْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قُلْتُ: مَنْ؟ قَالَ: عَائِشَةُ. فَأَتَيْنَاهَا، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهَا، وَدَخَلْنَا، فَسَأَلْنَاهَا، فَقُلْتُ: أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ، وَطَهُورَهُ، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ عز وجل مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ، مِنَ اللَّيْلِ، فَيَتَسَوَّكُ، وَيَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ، وَلَا يَقْعُدُ فِيهِنَّ إِلاَّ فِي الثَّامِنَةِ، فَيَحْمَدُ اللَّهَ، وَيَذْكُرُهُ، وَيَدْعُو، ثُمَّ يَنْهَضُ، وَلَا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يُصَلِّي التَّاسِعَةَ، فَيَجْلِسُ، فَيَحْمَدُ اللَّهَ، وَيَذْكُرُهُ، وَيَدْعُو، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ، فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يَا بُنَيَّ، فَلَمَّا أَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَخَذَ اللَّحْمَ، أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ، بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ، فَتِلْكَ تِسْعًا أَىْ بُنَيَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا، وقد تقدم البحث فيه في 2/ 1601.
وقوله: "لَمّا أن قَدِمَ""أن" بعد "لما" زائدة. وقوله: "نُعدّ" بضم النون من الإعداد، أي نهُيّء للنبي صلى الله عليه وسلم. وقوله:"طهوره" بفتح الطاء، الماء الذي يتطهر به.
وقوله: "ما شاء أن يبعثه" منصوب بنزع الخافض، أي لما شاء، وفي نسخة "لما شاء" باللام، أي في الوقت الذي شاء اللَّه تعالى أن يوقظه لصلاة الليل.
وقوله: "فتلك تسعا" هكذا نسخ "المجتبى" هنا بالنصب، وهو صحيح بتقدير ناصب، أي تصير تسعًا، والجملة خبر "تلك"، وتقدم في 2/ 1601 "فتلك تسع ركعات" بالرفع، وهو واضح.
وقوله: "أي بُنيّ""أي" حرف من حروف نداء البعيد، أو كالبعيد، مثل النائم، والغافل، كما قال ابن مالك رحمه الله في "خلاصته":
وَلِلْمُنَادَى النَّاءِ أَوْ كَالنَّاءِ يَا
…
وَأَيْ وَآ ثُمَّ أَيَا كَذَا هَيَا
و"بنيّ" بضم الباء تصغير "ابن". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1722 -
أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهُ سَمِعَهَا، تَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُوتِرُ بِتِسْعِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ، فَلَمَّا ضَعُفَ، أَوْتَرَ بِسَبْعِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الَحدَيث أخرجه مسلم أيضًا، وقد سبق تمام البحث فيه في 2/ 1601.
و"الحسن": هو البصريّ الإمام المشهور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1723 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُوتِرُ بِتِسْعٍ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا، كما سبق بيانه في الذي قبله.
و"حجّاج": هو ابن المنهال
(1)
، أبو محمد البصريّ الحافظ الثقة الفاضل [9].
و"حماد": هو ابن سلمة البصريّ الحافظ العابد [8]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1724 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَنْجِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ -يَعْنِي مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، فَسَأَلَهَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ
(1)
- انظر "تحفة الأشراف" ج 11 ص 404.
ثَمَانَ رَكَعَاتٍ، وَيُوتِرُ بِالتَّاسِعَةِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ، مُخْتَصَرٌ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا.
و"محمد بن عبد اللَّه" بن بكر بن سليمان الخُزَاعي، ويقال: الهاشميّ مولاهم أبو الحسن الصنعانيّ المقدسيّ الْخَلَنْجيّ
(1)
-بفتح المعجمة، واللام، وسكون النون، بعدها جيم- صدوق [10].
قال ابن أبي حاتم: صدوق. وقال النسائي: كتبت عنه ببيت المقدس، صدوق. انفرد به المصنف، روى عنه في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم 1724 و 3216 و 3604 و 3691 و 4037.
و"أبو سعيد مولى بني هاشم": هو عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عُبيد البصريّ، نزيل مكة، لقبه جَردَقة -بفتح الجيم، والدال، بينهما راء ساكنة، ثم قاف- صدوق ربما أخطا [9] 4/ 499.
و"حُصين بن نافع" التميميّ العَنْبَريّ، ويقال: المازنيّ، أبو نصر البصريّ الورّاق، لا بأس به [6].
قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". انفرد به المصنف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم 1724 و 3216.
وقوله: "مختصر" خبر لمحذوف، أي هذا الحديث مختصر من حديث سعد بن هشام الطويل المتقدم في 2/ 1660، وقد تقدَّم البحث فيه مستوفًى هناك، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1725 -
أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنِ الأَعْمَشِ، أُرَاهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة، و"أبو الأحوص": هو سلاّم بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ.
والحديث صحيح، أخرجه المصنف هنا -43/ 1725 وفي "الكبرى" 27/ 1350 - بالإسناد المذكور، وفي "الكبرى" أيضًا 27/ عن محمود بن غيلان، عن يحيى بن آدم، عن سفيان الثوري، عن الأعمش به. و 27/ 1353 عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن الأعمش به. و27/ 1354 بهذا الإسناد إلى الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها.
(1)
- في "ق": والخَلَنْجُ، كسَمَنْدٍ: شجر معرّبٌ، جمعه خلانج انتهى.
وأخرجه (ت) 443 و 444 وفى "الشمائل" 273 و 274 (ق) 1360 (أحمد) 6/ 253. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "أُراه" بضم الهمزة، أي أظن الأعمش رواه عن الأسواد، والقائل أبو الأحوص، ويحتمل أن يكون من دونه. وليس هذا اللفظ في "الكبرى"، في الطرق المذكورة، بل كلها بالجزم، فلا يضرّ الشك في هذه الرواية، فتبصَّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
44 - بَابٌ كَيْفَ الْوِتْرُ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً
1726 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَيُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى: هذا الَحديث صحيح، وقد تقدّم سندًا ومتنًا في 35/ 1696، وتقدّم الكلام على مخالفة مالك لغيره من الحفاظ في كون الاضطجاع بعد الوتر، فإنهم رووه بعد ركعتي الفجر، وتقدّم تحقيق القول فيه هناك، فلتراجعه تستفد، ودلالته على الترجمة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
45 - بَابُ الْوِترِ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً
1727 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُوتِرُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَلَمَّا كَبِرَ، وَضَعُفَ أَوْتَرَ بِتِسْعٍ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح الإسناد، وقد تقدّم أيضًا سندًا
متنَا في 39/ 1708 - وتقدّم الكلام فيه هناك، ودلالته على الترجمة واضحة.
وقوله: "فلما كبِرَ" بكسر الباء، من باب عَلِمَ. وقوله:"ضَعُفَ" بضم العين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
46 - بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الْوِتْرِ
1728 -
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، أَنَّ أَبَا مُوسَى، كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى رَكْعَةً، أَوْتَرَ بِهَا، فَقَرَأَ فِيهَا بِمِائَةِ آيَةٍ، مِنَ النِّسَاءِ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَلَوْتُ، أَنْ أَضَعَ قَدَمَيَّ، حَيْثُ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدَمَيْهِ، وَأَنَا أَقْرَأُ بِمَا قَرَأَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رجال هذا هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إبراهيم بن يعقوب) الْجُوزَجاني، ثم الدمشقيّ، ثقة حافظ رمي بالنصب [11] 122/ 174.
2 -
(أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسيّ، الملقب بعَارِمِ، أبو الفضل البصريّ، ثقة ثبت تغير بآخره، من صغار [9] 18/ 799.
قال الذهليّ: حدثنا محمد بن الفضل عارم، وكان بعيدًا من العَرَامَة،
(1)
صحيح الكتاب، وكان ثقة. وقال ابن وَارَةَ: حدثنا عارم بن الفضل الصدوق المأمون. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: إذا حدّثك، فاختم عليه، وعارم لا يتأخّر عن عفّان، وكان سليمان ابن حرب يُقدّم عارمًا على نفسه، إذا خالفه عارم رجع إليه، وهو أثبت أصحاب حماد ابن زيد بعد ابن مهديّ، قال: وسئل أبي عن عارم، وأبي سلمة؟ فقال: عارم أحبّ إلي، قال: وسئل أبي عنه؟ فقال: ثقة. قال: وسمعت أبي يقول: اختلط عارم في آخر عمره، وزال عقله، فمن سمع منه قبل الاختلاط، فسماعه صحيح، وكتبت عنه قبل
(1)
- رجل عارم: أي خبيث شرّير، والفعل كنصر، وضرب، وكرم وعلم.
الاختلاط سنة (14) ولم أسمع منه بعد ما اختلط، فمن سمع منه قبل سنة عشرين، فسماعه جيّد، وأبو زرعة لقيه سنة (22). وقال البخاري: تغير فى آخر عمره، قال: وجاءنا نَعْيه سنة (24) وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: كنت عند عارم، فحدّث عن حمّاد، عن هشام، عن أبيه أن ما عزًا الأسلميّ سأل عن الصوم في السفر، فقلت له: حمزة الأسلميّ، يعني أن عارمًا قال هذا، وقد زال عقله. وقال أبو داود: بلغنا أنه أُنكِر سنة (13)، ثم راجعه عقله، ثم استحكم به الاختلاط سنة (16) وقال أبو داود: سمعت عارمًا يقول: سمّاني أبي عارمًا، وسمّيت نفسي محمدًا. وقال سليمان بن حرب: إذا ذَكرتَ أبا النعمان فاذكر ابن عون، وأيوب. وقال العُقيليّ: قال لنا جدّي: ما رأيت بالبصرة أحسن صلاةً منه، وكان أخشع مَنْ رأيتُ. وقال النسائيّ: كان أحد الثقات قبل أن يختلط، قال: وقال سليمان بن حرب: إذا وافقني أبو النعمان فلا أبالي من خالفني. وقال الدارقطنيّ: تغيّر بأَخَرَةٍ، وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر، وهو ثقة. وقال ابن حبّان، اختلط في آخر عمره، وتغيّر حتى كان لا يدري ما يحدّث به، فوقع في حديثه المناكير الكثيرة، فيجب التنكب عن حديثه فيما رواه المتأخرون، فإن لم يُعلم هذا من هذا تُرك الكلّ، ولا يُحتجّ بشيء منها. قال الذهبي: لم يَقْدِر ابنُ حبّان لأن يسوق له حديثًا منكرًا، والقول فيه ما قال الدارقطنيّ. وقال العُقيليّ: سماع علي البغويّ من عارم سنة (17) يعني بعد الاختلاط. وقال سعيد بن عثمان الأْهوازيّ: حدّثنا عارمٌ، ثقة، إلا أنه اختلط، وقال الخطيب: سماع الكُديميّ منه قبل اختلاطه. وقال العجليّ: بصريّ ثقة رجلٌ صالحٌ، وليس يُعرف إلا بعارم. قال أبو داود عن المقدّميّ: مات في صفر سنة (224) وفيها أرّخه غير واحد. وقيل: مات سنة (223). روى له الجماعة، وفي "الزهرة" روى عنه البخاريّ أكثر من مائة حديث. وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث برقم 1728 و 2576 و 2766 و 3362 و 3625 و 3919 و 5308.
3 -
(حمّاد بن سلمة) أبو سَلَمة البصريّ، ثقة عابد، من كبار [8] 181/ 288.
4 -
(عاصم الأحول) ابن سليمان، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقة [4] 148/ 239.
5 -
(أبو مِجْلَز) لاحق بن حميد بن سعيد السَّدُوسيّ البصريّ، ثقة، من كبار [3] 188/ 296.
6 -
(أبو موسى) الأشعريّ، عبد اللَّه بن قيس بن سُليم بن حَضّار الصحابي المشهور -- رضي اللَّه تعالى عنه - 3/ 3. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من- سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم
رجال الصحيح، غير شيخه، فمنه تفرد به هو وأبو داود، والترمذيّ. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فدمشقيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي مِجْلَزِ) -بكسر الميم، وسكون الجيم، وفتح اللام- لاحق بن حُميد (أَنَّ أَبَا مُوسَى) الأشعري - رضي اللَّه تعالى عنه - (كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ) لكونه مسافرًا، وفي رواية أحمد من طريق ثابت، عن عاصم، عن أبي مِجْلز، قال: "صلى أبو موسى بأصحابه، وهو مرتحلٌ من مكة إلى المدينة، فصلى العشاء ركعتين، وسلم
…
" (ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى رَكْعَةَ) الظاهر أنه ما صلى قبلها شفعًا (أَوْتَرَ بِها، فَقَرَأَ فِيهَا بِمِائَةِ آيَةٍ، مِنَ النِّسَاءِ) وفي رواية أحمد المذكورة: "ثم قام، فقرأ مائة آية، من سورة النساء في ركعة
…
".
وفيه مشروعية تطويل القراءة في صلاة الوتر، فما يأتي في الباب التالي محمول على
الغالب (ثم قَالَ) أبو موسى لَمّا أنكروا عليه ذلك، ففي رواية أحمد المذكورة: "فأنكر ذلك عليه، فقال: ما ألوت
…
" (مَا أَلَوْتُ) أي ما قصّرت (أَنْ أَضَعَ قَدَمَيَّ) بالتثنية، والكلام على حذف حرف الجرّ، وهو مقيس مع "أَنْ"، و"أَنَّ" المصدريّتين، أي في أن أضع قدميّ (حَيْثُ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدَمَيْهِ) أي في المكان الذي وضع صلى الله عليه وسلم قدميه عليه.
وأراد أبو موسى رضي الله عنه بهذا شدّةَ عنايته بمتابعة سنن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فشبه ذلك بمن يمشي وراء رجل، ويضع قدمه حيث وضع ذلك الرجل قدمه عليه.
وفيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدة الاعتناء بمتابعة سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (وَأَنَا أَقْرَأُ بِمَا قَرَأَ بهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فيه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ من السورة المذكورة مائة آية في الوتر. واللهَ تعالى أَعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-46/ 1728 - وفي "الكبرى" 59/ 1424 - بالإسناد المذكور. وأخرجه أحمد 4/ 419. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
47 - نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الْوِتْرِ
1729 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِشْكَابَ النَّسَائِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فَإِذَا سَلَّمَ، قَالَ:«سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -. هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم في 37/ 1699 وتقدّم الكلام عليه هناك، فراجعه، تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
و"محمد بن الحسين بن إبراهيم" العامريّ، أبو جعفر البغداديّ، نسائي الأصل، صدوق [11].
قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي، وهو ثقة، سئل عنه أبي؟ فقال: صدوق. وقال ابن أبي عاصم: ثبت. وقال ابن خراش. كان من أهل العلم والأمانة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان صاحب حديث يتعسّر. وقال مسلمة: ثقة ثبت جليل.
وقال الخطيب: كان ثقة حافظًا. روى عنه البخاريّ، وأبو داود، والمصنّف. وفي "الزهرة": روى عنه البخاريّ أربعة أحاديث، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
و"محمد بن أبي عُبيدة" بن معن بن عبدالرحمن المسعوديّ الكوفيّ، اسم أبيه عبد الملك، ثقة [10].
قال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ليس لي به علم. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن عديّ. له غرائب، وأفرادات، ولا بأس به عندي. قال البخاريّ، عن عليّ بن مسلم: مات سنة سنة (205). روى له مسلم، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
و"أبو عُبيدة" المسعوديّ عبد الملك بن معن بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود الهذليّ الكوفيّ، مشهور بكنيته، وقَلَّ أن يَرِد في الرواية إلا بها، ثقة [7].
قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة. وقال العجليّ: ثقة. روى له مسلم، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
و"طلحة" بن مُصَرِّف بن عمرو بن كعب الياميّ الكوفيّ، ثقة قارىء فاضل [5] 191/
306.
و"ذَرّ" بن عبد اللَّه الْمُرهِبيّ، ثقة عابد رمي بالإرجاء [6] 195/ 312.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من تُساعيّات المصنف، وهو من أنزل الأسانيد له، ورواية الأعمش عن زُبيد، وطلحة بن مصرّف عن ذر من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن كلاّ من الأعمش، وطلحة من الطبقة الخامسة، وزُبيد، وذرّ من السادسة، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1730 -
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ زُبَيْدٍ، وَطَلْحَةَ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُوتِرُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
خَالَفَهُمَا حُصَيْنٌ، فَرَوَاهُ عَنْ ذَرٍّ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم في 37/ 1699 وتقدّم تمام البحث فيه هناك، فراجعه تستفد.
و"يحيى بن موسى": هو البلخيّ الملقب بـ"خَتّ"، كوفي الأصل، ثقة [10] 146/ 236. "وعبدالرحمن بن عبد اللَّه بن سعد": هو الدَّشْتَكِيّ، أبو محمد الرازيّ المقرىء، ثقة [10] 90/ 1030.
و"أبو جعفر الرّازي": التميمي مولاهم مشهور بكنيته، واسمه عيسى بن أبي عيسى ماهان، وقيل: عيسى بن أبي عيسى عبد اللَّه بن ماهان، مروزيّ الأصل، سكن الرّيّ، وقيل: كان أصله من البصرة، وكان مَتْجَرُه إلى الرّيّ، فنُسب إليها، صدوق سيّء الحفظ، خصوصًا عن مغيرة، من كبار [7].
قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ليس بقويّ في الحديث. وقال حنبل، عن أحمد: صالح الحديث. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: كان ثقة خراسانيا انتقل إلى الري، ومات بها. وقال ابن أبي مريم، عن ابن معين: يُكتب حديثه، ولكنه يُخطىء. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: صالح. وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ثقة، وهو يَغلَط فيما يروي عن مغيرة. وقال عبد اللَّه بن علي بن المدينيّ، عن أبيه: هو نحو موسى بن عُبيدة، وهو يَخلط فيما روى عن مغيرة ونحوه. وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن علي بن المدينيّ: كان عندنا ثقة. وقال ابن عمّار المَوْصِليّ: ثقة. وقال عمرو بن عليّ: فيه ضعف، وهو من أهل الصدق سيء الحفظ. وقال أبو زرعة: شيخ
يَهِم كثيرًا. وقال أبو حاتم: ثقة، صدوق، صالح الحديث. وقال زكريّا الساجيّ: ليس بمتقن. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وقال ابن خراش: صدوق سيء الحفظ. وقال ابن عدي: له أحاديث مستقيمة، وأرجو أنه لا بأس به. وقال ابن سعد. كان ثقة، وكان يَقْدَم بغداد، فيسمعون منه. وقال عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن سعد الدَّشْتَكيّ: سمعت أبا جعفر الرازيّ يقول. لم أكتب عن الزهريّ، لأنه كان يَخضِب بالسواد، وقال أبو عبد اللَّه: فابتُلي أبو جعفر حتى لبس السواد، وكان زَميل المهديّ إلى مكة. وقال ابن حبان: كان يفرد عن المشاهير بالمناكير، لا يُعجبني الاحتجاج بحديثه، إلا فيما وافق الثقات. وقال العجليّ: ليس بالقويّ. وقال الحاكم: ثقة. وقال ابن عبد البرّ: هو عندهم ثقة عالم بالتفسير. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم 1730 و 1785.
و"زُبَيد": هو ابن الحارث اليامي، ثقة ثبت عابد [6] 37/ 1420 وقد سبق الكلام على لطائفه في السند الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: "خالفهما حُصين"، يعني أن حُصين بن عبدالرحمن خالف زُبيد بن الحارث، وطلحة بن مصرّف، فرواه عن ذَرّ بن عبد اللَّه، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأسقط أبيّا - رضي اللَّه تعالى عنه -.
وحاصل مخالفة رواية حُصَين بن عبد الرحمن لرواية زُبَيد بن الحارث، وطلحة بن مُصرّف، أنه جعله من مسند عبد الرحمن بن أبزى - رضي اللَّه تعالى عنه -، وهُمَا جعلاه من مسند أُبيّ بن كعب - رضي اللَّه تعالى عنه -، ومثل هذا الاختلاف لا يضرّ بصحة. الحديث، إذ يمكن حمله على أن عبدالرحمن بن أبزى رضي الله عنه سمعه من أُبيّ بن كعب رضي الله عنه، ثم سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يحدّث به عنهما، ومثل هذا في أحاديث الثقات كثير. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
ثم بيّن رواية حصين بقوله:
1731 -
(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}).
قال- الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عبد الرحمن بن أبزى - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، أخرجه المصنف هنا 47/ 1731 - وفي "الكبرى" 59/ 1430 - بالإسناد المذكور، و 48/ 1732 و 1733 و 1734 و 1735 و 1736 و 49/ 1737 و 1738
و 1739 و 50/ 1740 و 1741 و 1742 و 54/ 1750 و 1751 و 1752 و 1753 و 1754 و 1755. واللَّه تعالى أعلم.
و"الحسن بن قَزَعَةَ" الهاشميّ مولاهم، أبو عليّ، أو أبو محمد الْخُلْقَانيّ البصريّ، صدوق [10].
قال يعقوب بن شيبة، وأبو حاتم: صدوق. وقال النسائيّ: لا بأس به. وقال في موضع آخر: صالح. وذكره ابن حبان في "الثقات". مات قريبًا من سنة (250). روى عنه الترمذي، والمصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث برقم 1731 و 1997 و 2249 و3220 و 5149 و5175 و 5302 و 5366.
و"حُصَين بن نُمَير"- بالنون مصغّرًا - الواسطيّ، أبو مِحْصَن الضرير، كوفيّ الأصل، لا بأس به، ورُمي بالنصب [8].
قال ابن معين: صالح. وقال العجليّ، وأبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح، ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن أبي خيثمة: قلت لأبي: لم لا تكتب عن أبي مِحصَن؟ قال: أتيته، فإذا هو يَحمِل على عليّ، فلم أعُدْ إليه. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقويّ عندهم. روى له البخاريّ، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم 1731 و 4307.
و"حُصين بن عبد الرحمن" السلميّ، أبو الهذيل الكوفيّ، ثقة تغير فى الآخر [5] 47/ 846. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
48 - ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى شُعْبَةَ فِيهِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في قول المصنّف رحمه الله: "على شعبة" نظر، لأن الظاهر أن الاختلاف على ذَرّ، لا على شعبة، ووجه ذلك، أن شعبة رواه عن سلمة بن كُهيل، وزُبيد بن الحارث، كلاهما عن ذَرّ بن عبد اللَّه، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، فخالفه منصور بن المعتمر، فرواه عن سلمة وحده، عن سعيد بن عبد الرحمن، فأسقط ذرا، وخالفه أيضًا عبد الملك بن أبي سليمان، فرواه عن زُبيد وحده، عن سعيد بن عبد الرحمن، فاسقط ذرَّا، وتابعه محمد بن جُحادة، عن زبيد كذلك.
والظاهر أن مثل هذا الاختلاف لا يضرّ بصحّة الحديث، كما تقدّم في الاختلاف المذكور في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1732 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ، وَزُبَيْدٍ، عَنْ ذَرٍّ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُوتِرُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَكَانَ يَقُولُ إِذَا سَلَّمَ:«سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» ،
ثَلَاثًا، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالثَّالِثَةِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، كما سبق بيانه آنفًا.
و"عمرو بن يزيد". هو أبو بُرَيد الْجَرْميّ، صدوق [11] 100/ 130. و"بهز بن أسد"، هو العمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقة ثبت [9] 24/ 28. و"شعبة": هو ابن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 26. و "سلمة". هو ابن كُهيل الحضرمي، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة [4] 195/ 312. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1733 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَلَمَةُ، وَزُبَيْدٌ، عَنْ ذَرٍّ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقْرَأُ فِي الْوَتْرِ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، ثُمَّ يَقُولُ إِذَا سَلَّمَ:«سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» ، وَيَرْفَعُ بِـ "سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ" صَوْتَهُ بِالثَّالِثَةِ.
رَوَاهُ مَنْصُورٌ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَرًّا).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، كما سبق بيانه، و"محمد بن الأعلى" هو الصنعاني البصريّ الحافظ. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ الحافظ الثبت.
وقوله: (ويرفع صوته بـ"سبحان الملك القدوس" صوته بالثالثة) الباء الثانية بمعنى "في"، أي في المرّة الثالثة، فلا يلزم منه تعلق حرفي جرّ بلفظ واحد ومعنى واحد بالفعل، وهو ممنوع، كما هو مشهور في محلّه. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "رواه منصور" الخ: يعني أن هذا الحديث رواه منصور بن المعتمر عن سلمة ابن كهيل، فأسقط ذرّا مخالفا لرواية شعبة، كما تقدّم بيان ذلك أوّلَ الباب، ثم ذكر روايته بقوله:
1734 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُوتِرُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وَكَانَ إِذَا سَلَّمَ، وَفَرَغَ، قَالَ:«سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» ، ثَلَاثًا، طَوَّلَ فِي الثَّالِثَةِ.
وَرَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ زُبَيْدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَرًّا.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، كما سبق بيانه، و"محمد بن قُدَامة" هو المصّيصيّ الثقة 19/ 528. و "جرير": هو ابن عبد الجميد.
وقوله: "طوّل في الثالثة" يعني أنه رفع صوته بقوله: "سبحان الملك القدوس" في المرة الثالثة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: "ورواه عبد الملك بن أبي سليمان": يعني أن هذا الحديث رواه عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزَميّ، عن زُبيد وحده، عن سعيد بن عبد الرحمن، فأسقط ذرّا أيضًا، كما تقدّم أوّل الباب، ثم ذكر روايته بقوله:
1735 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ، عَنْ زُبَيْدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَرًّا).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح أيضًا.
و"أحمد بن سليمان": هو أبو الحسين الرُّهَاويّ، ثقة حافظ [11] 38/ 42. و "محمد بن عُبيد": بن أبي أُميّة، واسمه عبد الرحمن، ويقال: إسماعيل الطّنافسيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ الأحدب، مولى إياد، ثقة حافظ [9].
قال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن عمر بن عُبيد، ومحمد بن عُبيد، وَيعلى بن عُبيد؟ فوثقهم. وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت يحيى بن معين، وسئل عن ولد عُبيد: محمدِ، وعمر، ويعلى؟ فقال: كانوا ثقات، وأثبتُهُم يعلى. وقال المفضّل الغَلاّبيّ، عن يحيى: بنو عُبيد ثقات. وقال ابن عمّار: كلهم ثبت، وأحفظهم يعلى، وأبصرهم بالحديث محمد، وعمر شيخهم، وكان الأخ الرابع لا يُحسن قليلاً، ولا كثيرًا. وقال العجليّ: كوفيّ ثقة، وكان عثمانيّا، وكان حديثه أربعة آلاف يحفظها. وقال الآجريّ، عن أبي داود: حدّث محمد بن عُبيد، عن عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يضرب ولده على اللحن، فقال له: رجل: لو أخذناك بهذا ما رفعنا عنك العصا. وقال النسائيّ: ثقة. وقال الدارقطنيّ: محمد، وعمر، ويعلى، وإدريس،
وإبراهيم، بنو عُبيد، كلهم ثقات، وأبوهم ثقة حدّث أيضًا. وقال عباس الدُّوريّ، عن ابن معين: أتيناه، وكان لا يجترىء على قراءة كتابه حتى نُعينه عليه، أو نحو هذا، قاله يحيى، وما ذكره إلا بخير. وقال الدُّوريّ: سمعت محمد بن عُبيد يقول: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ويقول: اتقوا لا يَخدَعكم هؤلاء الكوفيون. وقال حرب، عن أحمد: كان محمد رجلاً صدوقًا، وقال: يعلى أثبت منه.
وقال صالح بن أحمد، عن أبيه. كان محمد يُظهر السنّة، وكان يخطىء، ولا يرجع عن خطئه. وقال يعقوب بن شيبة: مات قبل أخيه يعلى سنة (204) وسمعت علي ابن المديني يقول: كان كيّسًا. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، صاحب سنة. وقال خليفة، ومُطَيَّن: مات سنة خمس. وقال ابن قانع، وابن حبّان: مات سنة ثلاث، وقيل: سنة خمس. وقال الخطيب: كان مولده سنة (124). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث برقم 1735 وأعاده برقم 1751 وحديث رقم 2034 و 2137 و 3683 و 4336 و 5369.
و"عبد الملك بن أبي سليمان" مَيْسرة الْعَرْزَميّ الكوفيّ، صدوق، له أوهام [5] 7/ 406. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: "رواه محمد بن جُحَادة الخ": يعني أن هذا الحديث رواه محمد بن جُحادة، عن زُبيد، عن ابن أبزى، فأسقط أيضًا ذرّا، فوافق عبد الملك بن أبي سليمان، ثم بيّن روايته بقوله:
1747 -
(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُوتِرُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ، قَالَ: «سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح أيضًا.
و"عمران بن موسى": هو القَزّاز، أبو عمرو البصريّ، صدوق [10] 6/ 6.
و"عبد الوارث": هو ابن سعيد بن ذكوان العنبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 6/ 6.
و"محمد بن جُحَادة" -بضم الجيم، وتخفيف المهملة- الأوديّ، ويقال: الإياميّ الكوفيّ، ثقة [5].
قال أبو طالب، عن أحمد: هو من الثقات. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه؟
فقال: صدوق ثقة، محل عمرو بن قيس الْمُلائيّ. وقال محمد بن حُميد الرازيّ، عن جرير: رأيته، وكان زاهدًا يلبس الْخُلقان يَغسلها، وقال في موضع آخر: نَظيفُ الثياب.
وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: كان لا يأخذ عن كلّ أحد، وأثنى عليه. وقال النسائيّ: ثقة. وقال العجليّ، وعثمان بن أبي شيبة: ثقة، زاد عثمان: لا بأس به. وقال يعقوب ابن سفيان: من ثقات أهل الكوفة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال في طبقة أتباع
التابعين: كان عابدًا ناسكًا، من زعم أنه سمع من أنس بن مالك، فقد وَهِمَ، تلك الرواياتُ ينفرد بها يحيى بن عُقبة بن أبي العيزار، وهو واه. وقال أبو عوانة: كان يغلو في التشيّع، نقله عنه العُقيليّ، واللَّه أعلم. قيل: مات سنة (131) روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم 1736 و 2043 و 2790 و 3128 و 5705 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
49 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ فِيهِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن شُعيب بن حرب رواه عن مالك بن مغول، عن زُبيد، عن ابن أبزى، عن أبيه، فخالفه يحيى بن آدم، فرواه عن مالك، عن زُبيد، عن ذرّ، عن ابن أبزى، كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ، فأدخل ذرّا بين زُبيد، وبين ابن أبزى، وأرسله، والظاهر أن المصنف يرى ترجيح رواية شعيب على رواية يحيى، حيث أتى بعدها برواية عطاء بن السائب كالشاهد لها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1737 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، كما سبق البحث عنه.
و"أحمد بن محمد بن عُبيد اللَّه" بن أبي رجاء الثَّغْريّ -بالمثلثة، بعدها معجمة ساكنة- أبو جعفر النّجّار المصّيصيّ الطّرَسُوسيّ [11].
قال النسائيّ: لا بأس به، وقال مرّة: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". يقال: مات في حدود (250) انفرد به المصنّف، روى عنه في هذا الكتاب حديثين برقم 1737 و 4966.
و "شعيب بن حرب" المدائنيّ، أبو صالح، نزيل مكة، ثقة عابد [9] 43/ 51.
و"مالك بن مِغْول" أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة ثبت، من كبار [7] 96/ 127.
و"ابن أبزى": هو سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، نُسب لجدّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1738 -
((أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ ذَرٍّ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى، مُرْسَلٌ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد ساقه لبيان الاختلاف الذي أشار إليه في الترجمة، حيث خالف يحيى بنُ آدم شعيبَ بنَ حرب، فرواه عن مالك بن مغول، عن زُبيد، عن ذرّ، عن ابن أبزى، فزاد في السند ذرأ، وأرسله، فلم يذكر عبد الرحمن بن أبزى، والظاهر أن رواية شعيب أصحّ، لكثرة متابعيه في ذلك.
و"يحيى بن آدم": هو الكوفيّ الحافظ الثقة الفاضل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقوله: (وَقَدْ رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ) يعني أن عطاء بن السائب روى هذا الحديث عن سعيد بن عبدالرحمن، عن أَبيه موصولاً، كما بينه بقوله:
1739 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد فيه عطاء بن السائب، وهو مختلط، لكن أورده استشهادًا، فلا يضرّ.
و"عبد اللَّه بن الصبّاح" بن عبد اللَّه الهاشميّ مولاهم العطار البصريّ الْمِرْبّديّ، ثقة، من كبار [10].
قال أبو حاتم: صالح. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". مات سنة (250) وقيل: (251) وقيل: (255) روى له الجماعة، سوى ابن ماجه، وروى عنه المصنف في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم 1739 و 3306 و 3308 و 3504 و 4911.
و"الحسن بن حبيب" بن نَدَبَة -بفتح النون، والدال، والموحّدة- وقيل: ابن حُميد ابن نَدَبَة التميميّ، وقيل: العبديّ، وقيل: النكريّ، أبو سعيد البصريّ الكَوْسج، لا بأس به [9].
قال أحمد: ما كان به بأس. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". توفي سنة (197) روى له أبو داود في "القدر"، والمصنّف، روى له في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
و"روح بن القاسم" التميميّ العَنْبَريّ، أبو غياث البصريّ، ثقة حافظ [6] 112/ 155.
و"عطاء بن السائب" الثقفيّ الكوفيّ، صدوق اختلط [5] 152/ 243 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
50 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن أبا داود الطيالسيّ رواه عن شعبة، عن قتادة، عن عزرة بن عبد الرحمن، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، ورواه أيضا عن شعبة، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى، عن عبد الرحمن بن أبزى، وتابعه في هذا غُندر، وخالفهما شَبَابة بن سوّار، فرواه عنه، عن قتادة، عن زُرارة، عن عمران بن حُصين، وقد أشار المصنف -رحمه اللَّه تعالى- إلى إعلال رواية شبابة، بأنه تفرّد بذلك، وقد خالفه يحيى بن سعيد القطان، فجعل حديث عمران في الظهر، لا في الوتر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1740 -
((أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَزْرَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُوتِرُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فَإِذَا فَرَغَ، قَالَ: «سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ». ثَلَاثًا).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، كما سبق قريبًا. و"أبو داود": هو سليمان بن داود الطيالسيّ الحافظ البصريّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1741 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُوتِرُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فَإِذَا فَرَغَ، قَالَ:«سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» . ثَلَاثًا، وَيَمُدُّ فِي الثَّالِثَةِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -. هذا الحديث صحيح أيضًا. و"زُرارة" هو ابن أوفى الكوفيّ القاضي العابد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1742 -
((أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُوتِرُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}
خَالَفَهُمَا شَبَابَةُ، فَرَوَاهُ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح أيضًا. و"محمد": هو ابن جعفر المعروف بـ "غندر". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: "خالفهما الخ". يعني أن شبابة بن سَوّار خالف أبا داود، ومحمد بن جعفر، فجعله من مسند عمران بن حُصين - رضي اللَّه تعالى عنهما -، كما بينه بقوله:
1743 -
(أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْتَرَ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} .
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ شَبَابَةَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، خَالَفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث ضعيف؛ لمخالفة شبابة لابي داود، ومحمد بن جعفر حيث جعلا الحديث من مسند عبد الرحمن بن أبزى، ولأن حديث عمران - رضي اللَّه تعالى عنه - المحفوظ أنه في الظهر، لا في الوتر، كما رواه يحيى بن سعيد القطان.
والحاصل أن رواية شبابة هذه شاذّة، كما أشار إليه المصنف -رحمه اللَّه تعالى- في كلامه الآتي. واللَّه تعالى أعلم.
و"بشر بن خالد": هو العسكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقة يُغرب [10] 26/ 812.
و"شبابة": هو ابن سوّار، أبو عمرو المدائنيّ، خراسانيّ الأصل، يقال: اسمه مروان، مولى بني فَزَارة، ثقة حافظ رمي بالإرجاء [9].
قال أحمد بن حنبل: تركته لم أكتب عنه للإرجاء، قيل له: وأبو معاوية؟ قال: شبابة كان داعية. وقال جعفر الطيالسيّ، عن ابن معين: ثقة. وقال عثمان الدارميّ: قلت ليحى: فشبابة في شعبة؟ قال ثقة، وسألت يحيى عن شاذان؟ فقال: لا بأس به، قلت: هو أحب إليك أم شبابة؟ قال: شبابة. وقال ابن سعد: كان ثقة صالح الأمر في الحديث، وكان مرجئًا. وقال العجلي: كان يرى الإرجاء، قيل له: أليس الإيمان قولاً وعملاً؟ قال: إذا قال، فقد عمل. وقال البرذعيّ، عن أبي زرعة: كان يرى الإرجاء، قيل له: رجع عنه؟ قال: نعم. وقال أبو حاتم: صدوق يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به.
وقال ابن عديّ: إنما ذمه الناس للإرجاء الذي كان فيه، وأما في الحديث فلا بأس به كما قال ابن المدينيّ، والذي أُنكر عليه الخطأ، ولعله حدّث به حفظّا. مات سنة (4) أو (205) وقيل:(206). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث برقم 1743 و 1905 وأعاده برقم 5119 وحديث رقم 4005 و 4975 و 5628 و 5662 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: "خالفه يحيى بن سعيد": يعني أن يحيى بن سعيد القطان خالف شبابة في متن هذا الحديث، فذكر صلاة الظهر بدل الوتر، ثم ذكر رواية يحيى بن سعيد بقوله:
1744 -
((أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ، فَقَرَأَ رَجُلٌ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ:«مَنْ قَرَأَ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}؟» ، قَالَ: رَجُلٌ: أَنَا. قَالَ: «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ بَعْضَهُمْ خَالَجَنِيهَا» .
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم في 27/ 917 - وتقدم تمام البحث فيه هناك، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
51 - بَابُ الدُّعَاءِ فِي الْوِتْرِ
1745 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ، عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ، أَقُولُهُنَّ فِي الْوَتْرِ، فِي
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البَغْلَاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(أبو الأحوص) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت [7] 79/ 96.
3 -
(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه الْهَمْدانيّ السبيعيّ الكوفيّ، ثقة مكثر عابد اختلط بآخره [3] 38/ 42.
4 -
(بُريد) بن أبي مريم مالك بن ربيعة السلوليّ البصريّ، ثقة [4] 55/ 621.
5 -
(أبو الحوراء) -بمهملتين- ربيعة بن شيبان السعديّ البصريّ، ثقة [3].
قال النسائيّ: ثقة. وقال العجليّ. كوفيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات".
قال الحافظ: وقد توقّف ابن حرم في صحّة حديثه عن الحسن في القنوت، وهو الذي له في "السنن الأربعة"، فقال: هذا الحديث، وإن لم يكن مما يُحتجّ بمثله، فإنا لم نَجد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم غيره، والضعيف من الحديث أحبّ إلينا من الرأي، كما قال أحمد بن حنبل.
ورُوي عن الأثرم، عن أحمد أنه أشار إلى أن أبا الحوراء السعديّ الراوي عن الحسن غيرُ ربيعة بن شيبان الراوي عن الحسين، فقيل له: قد قالوا في حديث ربيعة بن شيبان: الحسن بن عليّ، قال: وأظنّ الذي قال هذا -يعني محمد بن بكر-، قيل له: إنه الحسن، فلُقّن، ثم قال: وأظنّ عثمان بن عمر أيضًا قال: الحسن، وأما وكيع، فقال: الحسين. انتهى. روى له الأربعة، وله عند المصنف حديثان فقط: هذا و 5713 حديث: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".
[تنبيه]: تصحَف "أبو الحوراء" في نسخ "المجتبى"، و"السنن الكبرى" للمصنف إلى "أبي الجوزاء" بالجيم، والزاي، بدل "أبي الحوراء" بالحاء، والراء المهملتين، وهو تصحيف فاحش، والصواب بالحاء المهملة، كما في كتب الرجال، و"تحفة الأشراف"، فليُتَنَبَّه. واللَّه تعالى أعلم.
6 -
(الحسن) بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه الهاشمي، سِبْط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورَيحانته من الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنّة.
رَوَى عن جدّه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبيه عليّ، وأخيه حسين، وخاله هند بن أبي هالة.
وعنه ابنه الحسن، وعائشة، أم المؤمنين، وأبو الْحَوْراء ربيعة بن شيبان، وغيرهم.
قال خليفة، وغير واحد: وُلد للنصف من رمضان سنة ثلاث. وقال قتادة: وَلَدت فاطمة الحسن لأربع سنين وتسعة أشهر ونصف من الهجرة. وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانىء بن هانىء، عن عليّ: لَمّا وُلد الحسن جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"أروني ابني ما سمّيتموه؟ " قلت: حربًا، قال: "بل هو حسن
…
" الحديث. وقال ابن أبي مليكة: أخبرني عُقبة بن الحارث، قال: خرجت مع أبي بكر من صلاة العصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بليال، وعليّ يمشي إلى جنبه، فمرّ بحسن بن عليّ يلعب مع غلمان، فاحتمله على رقبته، وهو يقول:
بأَبِي شَبيهٌ بالنَّبِي لَا بِعَلِي
قال: وعليّ يضحك
(1)
. وقال ابنَ الزبيرَ: أشبهُ الناس برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الحسن ابن علي، قد رأيته يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ساجد، فيركب ظهره، فما يُنزِله حتى يكون هو الذي يَنزل، ويأتي، وهو راكع، فيَفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر.
وقال معمر، عن الزهريّ، عن أنس: كان الحسن بن عليّ أشبههم برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي جُحيفة رضي الله عنه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الحسن بن عليّ يشبهه
(3)
. وقال نافع بن جبير، عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه: إنه قال للحسن: "اللَّهمّ إني أحبّه، فأحبّه، وأحِبّ من يُحبّه"
(4)
. وقال الحسن البصري: سمعت أبا بكرة يقول: بينا النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب، جاء الحسن، فقال:"ابني هذا سيد، ولعل اللَّه أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين"
(5)
. وقال جرير بن حازم: لما قُتل عليّ بايع أهل الكوفة الحسن بن عليّ، وأطاعوه، وأحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه. وقال ضمرة، عن ابن شَوْذب: لما قُتل عليّ سار الحسن في أهل العراق، ومُعاوية في أهل الشام، والتقوا، فكره الحسن القتال، وبايع معاوية على أن يجعل العهد للحسن بعده. وقال زياد البكّائيّ، عن محمد بن إسحاق: كان صلح معاوية، والحسن بن عليّ في شهر ربيع الأول سنة (41). وقال محمد بن سعد: أخبرنا عبد اللَّه بن بكر السَّهْميّ، حدثنا حاتم ابن أبي صَغِيرة، عن عمرو بن دينار، أن معاوية كان يَعلَم أن الحسن كان أكره الناس
(1)
أخرجه البخاري في "صحيحه" 5/ 33.
(2)
أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
(3)
أخرجه الترمذي، وصححه.
(4)
رواه مسلم.
(5)
رواه البخاري.
للفتنة، فلما توفي عليّ بعث إلى الحسن، فأصلح الذي بينه وبينه سرّا، وأعطاه معاويةُ
عهدًا، إن حَدَثَ به حَدَثٌ ، والحسن حيٌّ لَيُسمّينّه، وليجعلنّ هذا الأمر إليه، فلما توثق منه الحسن، قال عبد اللَّه بن جعفر: واللَّه إني لجالس عند الحسن، إذ أخذت لأقوم، فجذب ثوبي، وقال: يا هناه اجلس، فجلستُ قال: إني قد رأيت رأيًا، وإني أُحبّ أن تتابعني عليه، قال: قلت: ما هو؟ قاله: قد رأيت أن أَعْمِد إلى المدينة، وأنزلها، وأُخَلِّي بين معاوية، وبين هذا الحديث، فقد طالت الفتنة، وسُفكت فيها الدماءُ، وقُطّعت فيها الأرحام، وقُطِعَت السبلُ، وعُطّلت الفروج -يعني الثُّغُور- فقال ابن جعفر: جزاك اللَّه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرًا، فأنا معك على هذا الحديث، فقال الحسن: ادع لي الحسين، فبعث إلى الحسين، فأتاه، فقال: أي أخي، إني قد رأيت رأيًا، وإني أحبّ أن تتابعني عليه، قال: ما هو؟ فقصّ عليه الذي قصّ على ابن جعفر، قال الحسين: أعيذك باللَّه أن تُكذّب عليّا في قبره، وتُصدّق معاوية، فقال الحسن: واللَّه ما أردت أمرًا قطّ إلا خالفتني إلى غيره، واللَّه لقد هممتُ أن أقذفك في بيت فأطيّنه عليك حتى أقضي أمري، فلما رأى الحسين غضبه، قال: أنت أكبر ولد عليّ، وأنت خليفته، وأمرنا لأمرك تبعٌ، فافعل ما بدا لك، فقام الحسن، فقال: يا أيها الناس، إني كنت أكره الناس لأول هذا الحديث، وأنا أصلحت آخره لذي حقّ أدّيت إليه حقّه، أحقّ به مني
(1)
، أو حقّ جُدت به لصلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن اللَّه قد ولاّك يا معاوية هذا الحديث لخير يعلمه عندك، أو لشرّ يعلمه فيك، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء: 111]، ثم نزل.
وقال عبدالرحمن بن جُبير بن نُفير، عن أبيه: قلت للحسن بن عليّ: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة، فقال: كانت جماجم العرب بيدي، يُسالمون مَن سالمت، وُيحاربون من حاربتُ، فتركتها ابتغاءَ وجه اللَّه، ثم أَبْتَزُّها بأَتْياس الحجاز.
وقال ابن عون، عن عُمير بن إسحاق: دخلت أنا ورجل من قُريش على الحسن بن علي، فقام، فدخل المَخْرَجَ، ثم خرج، فقال: لقد لَفَظت طائفة من كبدي، ولقد سُقيت السمّ مرارًا، إلى أن قال: ثم عُدنا إليه من غد، وقد أخذ في السَّوْق، فجاء حسين، فقعد عند رأسه، فقال: أي أخي: مَنْ صاحبك؟ قال: تريد قتله؟ قال: نعم، قال: لئن كان صاحبي الذي أظنّ، للَّهُ أشدّ له نقمة، وإن لم يكنه ما أحبّ أن تقتل بي برئيًا. وقال أبو عوانة، عن مغيرة، عن أم موسى -يعني سُرِّيّة عليّ- أن جَعْدة بنت
(1)
- هكذا عبارة التهذيبين ، وهي ركيكة.
الأشعث بن قيس سَقَت الحسن السمّ، فاشتكى منه شَكاة، فكان توضع تحته طست،
وترفع أخرى نحوا من أربعين يوما. وقال أبو عوانة، عن حُصين، عن أبي حازم: لما حُضِر الحسن، قال للحسين: ادفنوني عند أبي -يعني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا أن تخافوا الدماء، فإن خفتم الدماء، فلا تهريقوا فيّ دمًا، ادفنوني في مقابر المسلمين. وقال سالم ابن أبي حفصة، عن أبي حازم: إني لشاهد يوم مات الحسن، فرأيت الحسين يقول لسعيد بن العاص، ويطعن في عنقه: تقدّم، فلولا أنها سنة ما قُدّمت، وكان بينهم شيء، فقال أبو هريرة: أتَنفَسون على ابن نبيّكم بتُربّة تدفنونه فيها، وقد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما، فقد أبغضني". وقال ابن إسحاق: حدثني مُساور مولى بني سعد بن بكر، قال: رأيت أبا هريرة قائمًا على المسجد يوم مات الحسن يبكي، وينادي بأعلى صوته: يا أيها الناس مات اليوم حِبّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فابكوا.
مات سنة (49) وقيل: (50) وقيل: غير ذلك، وعمره (47) وقيل: غير ذلك. علق له البخاريّ، وأخرج له الأربع، له عند المصنف ثلاثة أحاديث: هذا، وحديث في القيام للجنازة، وحديث:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف. وأن فيه رواية ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: أبو إسحاق، وبريد، وأبو الحوراء. وفيه الحسن - رضي اللَّه تعالى عنه - سبط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وريحانته. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ) -بالحاء المهملة- ربيعة بن شيبان، أنه (قَالَ: قَالَ: الْحَسَنُ بن علي) رضي الله عنه (عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ) أي جمُلاً أدعو بهنّ، فهو من إطلاق اسم الجزء على الكلّ (فِي الْوِتْرِ، فِي الْقُنُوتِ) بدل من الجار والمجرور قبله، وفي رواية:"في قنوت الوتر". والقنوت يُطلق على معان، والمراد به هنا الدعاء في صلاة الوتر في محلّ مخصوص من القيام.
قال السنديّ رحمه الله: الظاهر أن المراد علمني أن أقولهنّ في الوتر بتقدير "أن"، أو باستعمال الفعل موضع المصدر مجازًا، ثم جعلِه بدلاً من "كلمات"، إذ يُستَبعَد أنه علّمه الكلمات مطلقًا، ثم هو من نفسه وضعهنّ في الوتر، ويحتمل أنّ قوله:"أقولهنّ" صفة "كلمات"، وهو الظاهر، ويؤخذ منه أنه علّمه أن يقول تلك الكلمات في الوتر.
ثم إن إطلاقه الوتر يشمل الوتر طول السنة، فيكون الحديث دليلاً الرابعة، لمن يقول
بالوتر طول السنة انتهى بتصرّف
(1)
، وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة الرابعة إن شاء اللَّه تعالى. (اللَّهُمَّ اهْدِنِي) بيان للكلمات، أي ثبّتني على الهداية، أو زدني من أسباب الهداية (فِيمَن هَدَيْتَ) أي في جملة من هديتهم، من الأنبياء، والمرسلين، والأولياء، والصالحين، وهذا كما قال سليمان عليه السلام:{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19] وقيل: "في" بمعنى "مع"، فهو كقوله تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69](وَعَافِنِي) من المعافاة التي هي دفع السوء، أي سَلَّمني من البلاء والأهواء (فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ) أي تولَّ أمري بالحفظ والرعاية مع من توليت أمورهم، ولا تكلني إلى نفسي (وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ) أي زدني فيما أعطيتنيه من خير الدارين (وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ) أي احفظني مما يترتّب على ما قضيته علي من السخط والجزع، هذا إن أريد بالقضاءِ القضاءُ الْمُبْرَم، إذ لا بُدّ من نفوذه، وإن أريد به المعلّق، فلا حاجة إلى هذا التأويل (إِنَّكَ تَقْضِي) وفي رواية "فإنك" بالفاء (وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ) تعليل لما قبله، أي لأنك تحكم بما تريد، ولا يحكم عليك أحد، لا رادّ لما قضيت، ولا معقّب لحكمك (وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ) بفتح الياء، وكسر الذال، أي لا يُخذل من واليته من عبادك في الآخرة، أو مطلقا، وإن ابتُلي بما ابتُلي به من إهانة ظالم له، كما يقع للأنبياء والصالحين، فإن ذلك مما يرفع درجاتهم عند اللَّه تعالى.
زاد في رواية أبي داود، وغيره:"ولا يعزّ من عاديت". أي لا يكون لمن عاديته عزة في الدنيا ولا في الآخرة، وإن أُعطي من نعيم الدنيا ما أُعطي، حيث لم يَمتثِل أمر اللَّه تعالى، ولم يَجتنب نواهيه.
وهذه الزيادة ثابتة في الحديث، فقول النووي في "الخلاصة": إن البيهقي رواها بسند ضعيف، وقول ابن الرفعة: لم تثبت، غيرُ مُسَلَّم، لأن البيهقيّ رواها من طريق إسرائيل ابن يونس، عن أبي إسحاق، عن بُريد بن أبي مريم، عن الحسن، أو الحسين بن علي، فساقه بلفظ الترمذيّ، وزاد:"ولا يعزّ من عاديت". وهذا التردد من إسرائيل إنما هو في الحسن، أو الحسين، قال البيهقيّ: كأن الشك إنما وقع في الإطلاق، أو في النسبة، قال الحافظ: ويؤيّد الشكّ أن أحمد بن حنبل أخرجه في مسند الحسين بن علي من مسنده من غير تردّد، فأخرجه من حديث شريك عن أبي إسحاق بسنده، وهذان وإن كان الصواب خلافه، والحديث من حديث الحسن، لا من حديث أخيه الحسين، فإنه يدلّ
(1)
- "شرح السندي" ج 3 ص 248.
على أن الوهم فيه من أبي إسحاق، فلعله ساء فيه حفظه، فنسي هل هو الحسن، أو الحسين، والعمدة في كونه الحسن على رواية يونس بن أبي إسحاق، عن بُرَيد بن أبي مريم، وعلى رواية شعبة عنه، كما تقدّم.
ثم إن الزيادة، وهي قوله:"ولا يعزّ من عاديت"- رواها الطبراني أيضًا من حديث
شريك، وزهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، ومن حديث أبي الأحوص، عن أبي إسحاق. ثم أخرجه الحافظ بإسناد له متصل، وفيه تلك الزيادة. راجع "التلخيص"
(1)
. (تَبَارَكْتَ رَبَّنَا) أي تزايد برّك، وإحسانك، وزاد الترمذي قبل "تباركت" لفظ "سبحانك"(وَتَعَالَيْتَ") أي تنزّهت عما لا يليق بجلالك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب،
وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا- 51/ 1745 - وفي "الكبرى"- 64/ 1442 - بالإسناد المذكور، وفي 1746 و"الكبرى" 1443 - وفي "فضائل القرآن" من "الكبرى" 62/ 8101 - بالإسناد التالي، واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (د) 1425 و 1426 (ت) 464 (ف) 1178 (أحمد) 1/ 199 و 1/ 200 و5/ 200 (الدارمي) 1599 و 1600 و 1601 (ابن خزيمة) 1095 و 1096 واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في اختلاف العلماء في قنوت الوتر:
قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: لم نجد في هذا الباب خبرًا أعلى من خبر بُريد، عن أبي الْحَوْراء، عن الحسن -يعني حديث الباب- قال: وقد اختلف أهل العلم في القنوت في الوتر، فرأت طائفة أن يقنت في السنة كلها في الوتر، وممن رأى ذلك عبد اللَّه بن مسعود، والحسن البصريّ، وإبراهيم النخعيّ، وإسحاق، وأبو ثور.
وذهبت طائفة إلى أن لا يقنت إلا في النصف الثاني من شهر رمضان، رُوي ذلك عن علي بن أبي طالب، وأُبيّ بن كعب، وكان ابن عمر يفعله، وكذا معاذ القارىء. وبه قال محمد بن سيرين، وسعيد بن أبي الحسن، ويحيى بن وثّاب، والزهريّ، وبه قال مالك
(1)
- "التخليص الحبير" ج 1 ص449. الطبعة الجديدة
ابن أنس، والشافعيّ، وأحمد.
وذهبت طائفة إلى أنه يقنت في السنة كلها في الوتر إلا في النصف الأول من رمضان، كذلك قال الحسن، خلاف القول الأول، وبه قال قتادة، ومعمر.
وذهبت طائفة إلى أنه لا يقنت في الوتر، ولا في الصبح، رُوي ذلك عن ابن عمر، خلاف الرواية الأولى، ورُوي عن طاوس أنه قال: القنوت في الوتر بدعة، وحكى ابن وهب عن مالك أنه قال: ما أقنت في الوتر في رمضان، ولا في غيره، ولا أعرف القنوت قديمًا. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله بتصرف
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي المذهب الأول، لصحة حديث الباب، فيستحبّ القنوت في الوتر في جميع السنة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1746 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، فِي الْوَتْرِ، قَالَ:«اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي، وَلَا يُقْضَي عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا، وَتَعَالَيْتَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن سلمة) المراديّ المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.
2 -
(ابن وهب) عبد اللَّه الحافظ الثبت المصريّ [9] 9/ 9.
3 -
(يحيى بن عبد اللَّه) بن عمر بن الخطاب القرشي المدني، صدوق، من كبار [8]. روى عن موسى بن عقبة، وهشام بن عروة، وعبيد اللَّه بن عمر، وغيرهم. وعنه الليث، وابن وهب، وعبد اللَّه بن يزيد المقرئ.
قال النسائي: مستقيم الحديث.
وقال الساجي: قال ابن معين: صدوق ضعيف الحديث. وقال الدارقطني: ثقة، حدَّث بمصر، ولا أعلم لأبيه حديثًا. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: ربما أغرب. وقال ابن يونس: توفي بمصر سنة (153). أخرج له مسلم، وأبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، و 4040 حديث: "فقطع أيديهم وأرجلهم
…
" الحديث.
4 -
(موسى بن عُقبة) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم المدنيّ، ثقة فقيه إمام في المغازي [5] 96/ 122.
(1)
- "الأوسط" ج 5 ص 205 - 207.
5 -
(عبد اللَّه بن عليّ) بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشميّ، أمه بنت الحسن ابن علي ابن أبي طالب، مقبول [5].
روى عن أبيه، وجدّه الأكبر علي بن أبي طالب مرسلاً، وجدّه لأمه الحسن بن عليّ، وعنه عُمارة بن غَزية، وموسى بن عقبة، وعيسى بن دينار، ويزيد بن أبي زياد. ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وصحح الترمذيّ حديثه، والحاكم، من روايته عن أبيه، وأما روايته عن الحسن بن عليّ، فلم تثبت، وهي التي أوردها المصنف هنا.
قال الحافظ رحمه الله: فإن كان هو صاحب الترجمة، فلم يُدرك جدّه الحسن بن عليّ، لأن والده علي بن الحُسين لَمّا مات عمّه الحسن رضي الله عنه كان دون البلوغ انتهى.
6 -
(الحسن بن عليّ) رضي الله عنه تقدّم في الحديث السابق.
والحديث يدلّ على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت في الوتر، لكنه ضعيف، للانقطاع المذكور آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1747 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَهِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمْرٍو الْفَزَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقُولُ، فِي آخِرِ وِتْرِهِ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» .
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمد بن عبد اللَّه بن المبارك) المخَرِّميّ أبو جعفر البغداديّ، ثقة حافظ [11] 43/ 50.
2 -
(سُليمان بن حرب) الأزديّ الواشحيّ البصريّ، ثم المكيّ، ثقة إمام حافظ [9] 181/ 288.
3 -
(هشام بن عبد الملك) الطيالسيّ، أبو الوليد البصريّ، ثقة ثبت [9] 122/ 172.
4 -
(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد، تغيّر بآخره، من كبار [8] 181/ 288.
5 -
(هشام بن عمرو الفزاريّ) ثقة
(1)
[5].
عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن عليّ في القول بعد الوتر. وعنه حمّاد بن سلمة. قال ابن معين: لم يرو عنه غيره، وهو ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة شيخ قديم.
(1)
- قال عنه في "ت": مقبول، والذي يظهر لي أنه ثقة، لاتفاقهم على توثيقه. واللَّه أعلم.
وقال أبو داود: هو أقدم شيخ لحمّاد. وقال أبو طالب، عن أحمد: من الثقات. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له الأربع، له عند المصنف هذا الحديث فقط.
6 -
(عبد الرحمن بن الحارث بن هشام) بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم المخزومي، أبو محمد المدنيّ، وأمه فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وله رؤية، وهو من كبار ثقات التابعين [2].
قال العجلي: مدنيّ تابعيّ ثقة. وقال الدارقطنيّ: مدني جليل يُحتجّ به. وذكره ابن سعد فيمن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ورآه، ولم يحفظ عنه شيئًا. قال: وكان من أشراف قريش، وكان اسمه إبراهيم، فغيّره عمر، وسماه عبد الرحمن، قال: ومات أبوه في طاعون عَمَوَاس، فخلف عمر بن الخطاب على امرأته فاطمة، فكان عبد الرحمن في حَجْره. وقال ابن إسحاق، عن يحيى بن عبّاد بن عبد اللَّه بن الزبير، عن أبيه، سمع عائشة تذكر عبد الرحمن بن الحارث، قالت: كان رجلاً سَرِيّا، وقال الزهريّ: حدثنا أنس بن مالك أن عثمان بن عفّان أمر زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، وعبداللَه بن الزبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن يَنْسَخوا المصاحف
…
الحديث. وقال البغويّ: وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أحسبه سمع منه. وقال الحاكم: هو صحابيّ. وقال ابن حبان في كتابه في الصحابة: وُلد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه، وقال في ثقات التابعين: مات سنة ثلاث وأربعين. روى له الجماعة، سوى مسلم، له عند المصنف حديثان فقط، هذا، و 5668 حديث: "اجتنبوا الخمر
…
" الحديث.
7 -
(علي بن أبي طالب) الهاشمي، أبو الحسن الخليفة الراشد رضي الله عنه 74/ 91 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف، وأن رجاله رجال الصحيح، غير هشام، فمن رجال الأربعة، وهو ثقة. وأن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقُولُ، فِي آخِرِ وِتْرِهِ) أي بعد السلام، لما ذكره الإمام ابَن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- في "زاد المعاد"، والشوكاني -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الذاكرين" ص 129 أن في إحدى روايات النسائيّ
(1)
: "كان يقول ذلك إذا فرغ من صلاته، وتبوّأ مضجعه"، ففيه أنه كان يقول ذلك بعد السلام من الصلاة، لا فيها.
(1)
- لم أر هذه الرواية في النسائي. واللَّه أعلم.
فعلى هذا فإدخال المصنف له في هذا الباب فيه نظر لا يخفى.
وقال السنديّ رحمه الله: يحتمل أنه كان يقوله في آخر القيام، فصار هو من القنوت، كما هو مقتضى كلام المصنّف، ويحتمل أنه كان يقوله في قعود التشهّد، وهو ظاهر اللفظ انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذكره السنديّ من الاحتمالين يردّه ما نقله ابن القيّم، والشوكاني رحمهما اللَّه تعالى، من رواية النسائي، من أن ذلك كان بعد الفراغ من الصلاة، إلا أنه يحتاج إلى ثبوت ما نسباه إلى النسائي، فإني لم أر ذلك عنده، فليُحرّر. واللَّه تعالى أعلم.
(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وَبمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ) قال الشوكاني -رحمه اللَّه تَعالى-: استعاذ باللَّه سبحانه وتعالى أن يُجيره برضاه من سخطه، وكذلك استعاذ به سبحانه وتعالى أن يُجيره بمعافاته من عقوبته، والرضا والسخط ضدّان لا يجتمعان، وكذلك المعافاة والعقوبة، فإذا حصل له أحدهما سَلِم من الآخر، ولَمّا صار إلى ما لا ضدّ له قال:"وأعوذ بك منك"، ومعناه الاستعفاء عن التقصير فيما يجب عليه من العبادة والشكر انتهى
(1)
(لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ) أي لا أُطيق إحصاءه، ومعناه لا أحصي الثناء بنعمتك، وإحسانك، وإن اجتهدت في ذلك، وفي لفظ
(2)
: "لا أحصي ثناء عليك، ولو حرصت"(أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ") فيه الاعتراف بالعجز عن القيام بواجب الشكر والثناء، وأنه لا يقدر عليه، وإن بلغ فيه كلّ مبلغ، بل هو سبحانه وتعالى كما أثنى على نفسه، فكأنه قال: هذا أمر لا تقوم به القُوَى البشريّة، ولكن أنت القادر على الثناء علىِ نفسك بما يليق بك، فأنت كما أثنيت على نفسك
(3)
وقد تقدّم شرح الحديث مستوفًى في "كتاب الطهارة" رقم 120/ 169 فراجعه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث علي رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا-51/ 1747 - وفي "الكبرى" 65/ 1444 بالسند المذكور، وفي "الكبرى" عن إسحاق بن منصور، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك، عن حماد بن سلمة به. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
- "تحفة الذاكرين" ص 106.
(2)
- وهو في الرواية التي عزاها ابن القيم إلى النسائيّ فيما سبق.
(3)
- المصدر المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (د) 1427 (ت) 3566 (ق) 1179 (أحمد) 1/ 96 و 1/ 118 (عبد بن حميد). 81 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
52 - تَرْكُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ فِي الْوِتْرِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: استدلال المصنف -رحمه اللَّه تعالى- على ما ترجم له بحديث أنس المذكور في الباب بعيد، لأنه لا يدلّ على ذلك، كما يأتي بيان ذلك قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1748 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ، فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ، إِلاَّ فِي الاِسْتِسْقَاءِ، قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ لِثَابِتٍ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ أَنَسٍ؟ ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، قُلْتُ: سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدم شرحه، وتخريجه، في 9/ 1513. و"عبد الرحمن" هو ابن مهديّ الإمام المشهور.
وقوله: "لا يرفع يديه الخ" المراد به أنه لا يُبَالِغُ في الرفع، لا أنه لا يرفع أصلاً، فلا تعارض بينه وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الدعاء كثيرًا -كما تقدم بيان ذلك في "كتاب الاستسقاء"، وعلى فلا دلالة في الحديث على الترجمة. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "قال: سبحان اللَّه" أي سبّح ثابت تعجبا من سؤال شعبة له عن سماعه لهذا الحديث من أنس بن مالك، وإنما سأل شعبة للتأكّد من سماعه بدون واسطة، لإمكان أن يسمعه من شخص لا يرضاه شعبة، فدلسه، وإنما تعجب ثابت عن ذلك لاستغرابه اتهام شعبة له بما ذُكر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في اختلاف أهل العلم في رفع اليدين في القنوت:
ذهبت طائفة إلى استحباب الرفع. روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يرفع يديه في القنوت حتى يبدو ضبعاه. وروي عن ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهما أنهما كانا يرفعان أيديهما، فأما ابن عباس، فروي عنه أنه رفع يديه حتى مدّ ضبعيه، وعن ابن مسعود أنه كان يرفع يديه إلى صدره، أخرج ابن المنذر هذه الآثار بأسانيده.
وممن رأى أن يرفع يديه في القنوت أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأصحاب الرأي.
قال الإمام محمد بن نصر رحمه الله: وسئل أحمد أيرفع يديه في القنوت؟ قال: نعم يعجبني، قال أبو داود: رأيت أحمد يرفع يديه انتهى
(1)
.
وذهبت طائفة إلى أنه لا تُرفع الأيدي في القنوت، وهو قول مالك، والأوزاعيّ، ويزيد بن أبي مريم، وقال الأوزاعي: إن شئت فأشر بإصبعك
(2)
.
وعن ابن شهاب: لم تكن ترفع الأيدي في الإيتار في رمضان. وكان الحسن لا يرفع يديه في القنوت، ويمىء بأصبعه. وعن سعيد بن المسيب: ثلاثة مما أحدث الناس: اختصار السجود، ورفع الأيدي في الدعاء، ورفع الصوت
(3)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن الأولى عدم رفع اليدين في دعاء قنوت الوتر؛ لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الثانية: في اختلاف أهل العلم في تأمين المأموم خلف الإمام إذا دعا في القنوت: أخرج الإمام محمد بن نصر رحمه الله بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شهرًا متتابعا في الظهر والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح، إذا قال:"سمع اللَّه لمن حمده" من الركعة الآخرة يدعو على أحياء من بني سُليم، على رِعْل، وذَكْوان، وعُصية، ويؤمّن من خلفه.
قال عكرمة: هذا مفتاح القنوت. وقيل للحسن: إنهم يَضِجّون في القنوت، فقال: أخطأوا السنّة، كان عمر يقنت، ويؤمّن من خلفه. وقال معاذ القارىء في قنوته: اللَّهم قحط المطر، فقالوا: آمين، فلما فرغ من صلاته، قال: قلت: اللَّهمّ قحط المطر، فقلتم: آمين، ألا تسمعون ما أقول، ثم تقولون آمين. وعن الأوزاعيّ: ليس في القنوت رفع، ويكره رفع الأصوات في الدعاء. وعن مالك: يقنت في النصف من رمضان -
(1)
- انظر "مختصر كتاب الوتر" ص 138.
(2)
- انظر "الأوسط" لابن المنذر ج 5 ص 212 - 213.
(3)
- "مختصر كتاب الوتر" ص 138.
يعني الإمام- ويلعن الكفرة، ويؤمن من خلفه. وقال أبو داود رحمه الله: سمعت أحمد سئل عن القنوت؟، فقال: الذي يعجبنا أن يقنت الإمام، ويؤمّن من خلفه، قال: وكنت أكون خلفه، فكنت أتسمّع نغمته في القنوت، فلم أسمع منه شيئًا، قلت لأحمد: إذا لم أسمع قنوت الإمام أدعو؟ قال: نعم. وقال إسحاق: يدعوا الإمام، ويؤمّن من خلفه.
قال محمد بن نصر رحمه الله: وهذا الذي أختار، أن يسكتوا حتى يفرغ الإمام من قراءة السورتين، ثم إذا بلغ بعد ذلك مواضع الدعاء أمّنوا انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي اختاره ابن نصر رحمه الله هو الأرجح عندي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في مسح الوجه بيديه بعد فراغه من الدعاء: أخرج الإمام محمد بن نصر من طريق صالح بن حسّان، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا دعوت، فادع اللَّه ببطون كفيك، ولا تدع بظهورهما، فإذا فرغت فامسح بهما وجهك". وأخرج أيضًا من طريق عيسى بن ميمون، عن محمد بن كعب القرظيّ، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا سألتم فاسألوه ببطون أكفكم، ثم لا تردّوها حتى تمسحوا بها وجوهكم". وفي رواية: "فإن اللَّه جاعل فيها بركة". وعن المعتمر: رأيت أبا كعب صاحب الحرير يدعو رافعا يديه، فإذا فرغ من دعائه يمسح بهما وجهه، فقلت له: من رأيت يفعل هذا؟ فقال: الحسن.
قال محمد بن نصر: ورأيت إسحاق يستحسن العمل بهذه الأحاديث، وأما أحمد بن حنبل، فحدثني أبو داود، قال: سمعت أحمد، وسئل عن الرجل يمسح وجهه بيديه إذا فرغ في الوتر؟ فقال: لم أسمع فيه بشيء، ورأيت أحمد لا يفعله، قال: وعيسى بن ميمون هذا الذي روى حديث ابن عباس ليس ممن يُحتجّ بحديثه
(2)
، وكذلك صالح بن حسان
(3)
. وسئل مالك عن الرجل يمسح بكفيه وجهه عند الدعاء؟ فأنكر ذلك، وقال: ما علمت، وسئل عبد اللَّه عن الرجل يبسط يديه، فيدعو، ثم يمسح بهما وجهه؟ فقال: كره ذلك سفيان. انتهى
(4)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أحاديث مسح الوجه بعد الدعاء كلها ضعيفة، وإن حاول الحافظ رحمه الله في "بلوغ المرام" في تحسينها بمجموع الطرق، لكن الذي يظهر لي أنها لا تصلح للاحتجاج بها لشدة ضعفها، فالأرجح عدم مشروعيّة المسح. واللَّه تعالى
(1)
- مختصر كتاب الوتر ص 141.
(2)
قال في "ت": ضعيف.
(3)
قال في "ت": متروك الحديث.
(4)
- المصدر المذكور ص 1421 - 142.
أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
53 - بَابُ قَدْرِ السَّجْدَةِ بَعْدَ الْوِتْرِ
قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: وجه استدلال المصنف رحمه الله على ما ترجم له بحديث عائشة رضي الله عنه المذكور في الباب، أنه حمل قوله:"ويسجد قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية" على أنه يسجد، بعد الوتر سجدة بهذا القدر.
لكن في هذا الحمل نظر لا يخفى؛ لأن معنى الحديث أن ذلك كان في سجوده في صلاة الليل، لا أنه يسجد بعد الوتر سجدة بهذا القدر، يوضّح ذلك رواية البخاري رحمه الله لحديثها، ولفظه:"كان يصلي إحدى عشرة ركعةً، كانت تلك صلاتَهُ، يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه .... " الحديث، فرواية البخاري مُفَسَّرَةٌ واضحة في المعنى الذي قلنا، فلذا ترجم البخاري على الحديث
بقوله: "باب طول السجود في قيام الليل". وقد تقدّم البحث في هذا برقم [74/ 1328] فراجعه تستفد. واللَّه تعالى بالصواب.
1749 -
أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ، بِاللَّيْلِ سِوَى رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ، وَيَسْجُدُ، قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح تقدم شرحه، والكلام على مسائله في-[41/ 685] فليُراجَع هناك، وباللَّه تعالى التوفيق.
و"يوسف بن سعيد": هو المصّيصيّ الحافظ الثقة [11] 131/ 198.
و"حجاج": هو ابن محمد الأعور المصيصيّ الحافظ الثبت [8] 28/ 32. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أردت إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
54 - التَّسْبِيحُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْوِتْرِ، وَذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى سُفيَانَ فِيهِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف الذي أشار إليه أن قاسم بن يزيد، ومحمد بن عُبيد روياه عن سفيان الثوريّ، عن زُبيد، عن سعيد بن عبدالرحمن، وخالفهما أبو نعيم، فرواه عن سفيان، عن زبيد، عن ذرّ، عن سعيد، وقد رجّح المصنف -رحمه اللَّه تعالى- رواية أبي نعيم، على روايتهما؛ لكونه أثبت منهما، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1750 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وَيَقُولُ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ:«سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، تقدّم في 37/ 1699 من مسند عبد الرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب رضي الله عنهما.
و"أحمد بن حرب": هو الموصليّ، صدوق [10] 102/ 135.
و"قاسم": هو الْجَرْميّ، أبو يزيد الموصليّ، ثقة عابد [9] 102/ 135.
و"سفيان": هو الثوريّ الإمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.
و"زُبيد": هو ابن الحارث الكوفيّ، ثقة ثبت عابد [6] 37/ 1420.
و"سعيد بن عبد الرحمن": هو ابن أبزى الكوفيّ ثقة [3] 195/ 312. و"أبوه": هو عبدالرحمن بن أبزى الخزاعي الصحابيّ رضي الله عنه 195/ 312.
والحديث من مسند عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه أخرجه المصنف رحمه الله هنا 54/ 1750 و 1751 و 1752 و 1753 و 1754 و 1755. وفي "الكبرى" 67/ 1446 و 68/ 1447 و 69/ 1448. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1751 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُوتِرُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وَيَقُولُ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ:«سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» . ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ.
خَالَفَهُمَا أَبُو نُعَيْمٍ، فَرَوَاهُ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ سَعِيدٍ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدّم الكلام على هذا الحديث في الذي قبله، وساقه هنا لبيان متابعة محمد بن عبيد لقاسم بن يزيد.
و"أحمد بن يحيى": هو الأوديّ، أبو جعفر الكوفيّ العابد، ثقة [11] 38/ 1274. و "محمد بن عبيد": هو الطنافسيّ الكوفيّ، ثقة [9] 48/ 1735. و"عبد الملك بن أبي سليمان": هو العَرْزميّ الكوفيّ، صدوق له أوهام [5] 7/ 406. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: "خالفهما" الخ يعني خالف قاسمًا، ومحمد بن عُبيد أبو نُعيم، فزاد ذَرّا بين زُبيد، وسعيد بن عبد الرحمن، كما بيّنه بقوله:
1752 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُوتِرُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ، قَالَ:«سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» . ثَلَاثًا، يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَبُو نُعَيْمٍ أَثْبَتُ عِنْدَنَا، مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، وَمِنْ قَاسِمِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَثْبَتُ أَصْحَابِ سُفْيَانَ عِنْدَنَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، ثُمَّ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، ثُمَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، ثُمَّ أَبُو نُعَيْمٍ، ثُمَّ الأَسْوَدُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَرَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ زُبَيْدٍ، فَقَالَ: يَمُدُّ صَوْتَهُ فِي الثَّالِثَةِ، وَيَرْفَعُ.
"محمد بن إسماعيل بن إبراهيم": هو المعروف أبوه بابن عُلية، قاضي دمشق، ثقة [11] 22/ 489. و"أبو نعيم": هو الفضل بن دُكين الكوفيّ الثقة الثبت [9] 11/ 516. و"ذرّ" هو ابن عبد اللَّه الْمُرْهبيّ الكوفيّ، ثقة [6] 195/ 312.
وقوله: "قال أبو عبد الرحمن" الخ غرض المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا ترجيح رواية أبي نعيم بزيادة ذَرّ بين زُبيد، وسعيد بن عبد الرحمن على رواية محمد بن عُبيد، وقاسم بن يزيد بحذفه، ثم أشار إلى وجه الترجيح بأن أبا نعيم من أثبت أصحاب سفيان، بخلافهما.
ثم رتب أصحابه بقوله: وأثبت أصحاب سفيان عندنا الخ، فقدم يحيى بن سعيد القطان، ثم ابن المبارك، ثم وكيعًا، ثم عبدالرحمن بن مهديّ، ثم أبا نعيم، ثم الأسود، هكذا رتبهم.
والظاهر أنه أراد بالأسود الأسود بن عامر الملقّب بشاذان، أبا عبد الرحمن الشاميّ، نزيل بغداد، وثقه ابن المدينيّ، وابن حبّان، وقال ابن معين: لا بأس به. وقال أبو حاتم: صدوق صالح. توفّي سنة (208).
وقوله: "في هذا الحديث"، وفي نسخة "في حديث الوتر". ظاهره أن الجارّ
والمجرور متعلق بـ "أثبت"، من قوله:"وأثبت أصحاب سفيان الخ"، كأنه يريد ترتيب روايات هؤلاء عن سفيان لحديث الوتر، لا في مطلق الروايات، ولعلّ المصنّف وجد روايات هؤلاء في الوتر، وإلا فلم أر من هؤلاء من روى عن سفيان حديث الوتر إلا بعضهم، فليُتأمل.
ويحتمل أن يتعلّق الجارّ والمجرور بـ "أثبتُ" من قوله: "أبو نعيم أثبت"، ويكون جملة قوله:"وأثبت أصحاب سفيان الخ" معترضة، وهذا أوضح في المعنى، وإن كان فيه بعدٌ في الظاهر، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: قد نُقل عن أئمة الحديث في ترتيب أصحاب سفيان خلاف ما ذكره المصنف، فقد ذكر الحافظ ابن رجب -رحمه اللَّه تعالى- في شرح "علل الترمذي" كلام الأئمة في ذلك، فقال:
قال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين، وسئل عن أصحاب الثوريّ، أيهم أثبت؟ قال: هم خمسة، يحيى بن سعيد، ووكيع بن الجرّاح، وعبد اللَّه بن المبارك، وعبد الرحمن بن مهديّ، وأبو نعيم الفضل بن دُكين، فأما الفِرْيَابيّ، وأبو حُذيفة، وقبيصة، وعُبيد اللَّه، وأبو عاصم، وأبو أحمد الزبيريّ، وعبد الرزّاق، وطبقتهم، فهم كلهم في سفيان بعضهم قريب من بعض، وهم ثقات كلهم، دون أولئك في الضبط والمعرفة.
وقال عثمان بن سعيد: سألت يحيى بن معين عن أصحاب سفيان، قلت: يحيى أحبّ إليك في سفيان، أو عبد الرحمن؟ قال: يحيى. قلت: فعبد الرحمن أحبّ إليك، أو وكيع؟ قال: وكيع، قلت: فوكيع أحبّ إليك، أو أبو نعيم؟ قال: وكيع، قلت: فالأشعجيّ؟ قال: صالح ثقة. قلت: فمعاوية بن هشام، قال: صالح، وليس بذاك.
قلت: فالزبيريّ؟ يعني أبا أحمد، قال: ليس به بأس. قلت: فأبو إسحاق الفزاريّ؟ قال: ثقة ثقة. قلت: فأبو داود الْحَفَريّ؟ قال: ثقة. قلت: فيحيى بن يمان؟ قال: أرجو أن يكون صدوقا. قلت: فكيف هو في حديثه؟ قال: ليس بالقويّ. قلت: فعُبيد اللَّه؟ قال: ثقة، ما أقربه من ابن اليمان. قلت: فقبيصة؟ قال: مثل عبيد اللَّه. قلت: فالفريابيّ؟ قال: مثلهم. قلت: فعبد الرزّاق، عن سفيان؟ قال: مثلهم. قلت: فأبو حُذيفة؟ قال: مثلهم. قلت: ما حال المؤمّل في سفيان؟ قال: هو ثقة. قلت: هو أحبّ إليك، أو عبيد اللَّه؟ فلم يفضّل أحدهما على الآخر. قلت: ابن المبارك أعجب إليك، أم وكيع؟ فلم يفضّل. قلت: يحيى بن آدم ما حاله في سفيان؟ قال: ثقة.
وقال أبو حاتم الرازيّ: سألت عليّ ابن المدينيّ: من أوثق أصحاب الثوريّ؟ قال:
يحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهديّ.
وذكر صالح بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، قال: عبد الرحمن بن مهديّ أقل سقطا من وكيع في سفيان، قد خالفه وكيع في ستين حديثًا من حديث سفيان، وكان عبدالرحمن يجيء بها على ألفاظها، قيل له: فأبو نعيم؟ قال: أين يقع أبو نعيم من هؤلاء؟.
وقال عبد اللَّه بن أحمد سمعت أبي يقول: خالف وكيع ابن مهديّ في نحو من ستين حديثًا من حديث سفيان، ثم سمعت أبي يقول بعد ذلك هي أكثر من ستين، وأكثر من ستين، وأكثر من ستين. قال: وكان عبد الرحمن بن مهديّ عند أبي أكثر إصابة من وكيع، يعني في حديث سفيان خاصّة. وقال حرب عن أحمد: ليس من أصحاب سفيان أعلى من يحيى، وقال: ما أثبت أبا نعيم وأكيسه، ولا نقدّمه على ابن مهديّ، قلت: لأحمد أيهما أثبت، يحيى بن سعيد، أو عبد الرحمن بن مهديّ؟ قال: كانا ثبتين، ولكن عبد الرحمن أعلم بعلم الثوريّ، قلت: أيهما أثبت: عبد الرحمن، أو أبو نعيم؟ قال: ما منهما إلا ثبت.
وقال ابن أبي حاتم: قيل لأبي: قال يحيى بن معين: وكيع أحبّ إليّ في سفيان من ابن مهديّ، فأيهما أحبّ إليك؟ قال: عبد الرحمن ثبت، ووكيع ثقة.
وهذا الكلام يدلّ على ترجيح عبد الرحمن عند أبي حاتم.
وقال إسحاق بن هانىء: قلت لأبي عبد اللَّه: أيما أثبت في سفيان الثوريّ، أبو نعيم، أو وكيع؟ قال: لا يقاس بوكيع، قلت: إخاله في الصلاح لا يقاس بوكيع، فأيّما أصح حديثا؟ فقال: أبو نعيم أصحّ حديثًا، ثم ابتدأ، فذكر الفريابيّ، فقال: ما رأيت أكثر خطأ في الثوريّ من الفريابيّ.
وقال العجليّ: قال لي بعض البغداديين: أخطا الفريابيّ في خمسين ومائة حديث من حديث سفيان. وضعف ابن معين قبيصة في سفيان، وقال في محمد بن عُبيد الطنافسيّ: هو كثير الخطأ عن سفيان الثوريّ، وأما أبو حذيفة، فضعّفه "جماعة في سفيان قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: قبيصة أثبت حديثًا في سفيان من أبي حذيفة، أبو حذيفة شبه لا شيء.
وقال الْجُوزَجانيّ: سمعت أحمد يقول: كان سفيان الذي يحدّث عنه أبو حذيفة ليس هو سفيان الثوريّ الذي يحدث عنه الناس.
قال العقيليّ: جاء عن سفيان بأحاديث بواطيل، لم يحدّث بها عن سفيان غيره. وقال ابن معين: أبو داود الحَفَريّ، والفريابيّ، وقبيصة، وأبو حذيفة حديثهم، بعضه
قريب من بعض في الضعف. وضغف أحمد سماع عبد الرزّاق من سفيان بمكة، دون ما سمع منه باليمن. وقال العجليّ: الفريابيّ، ويحيى بن آدم، وأبو أحمد الزبيريّ، وقبيصة بن عُقبة، ومعاوية بن هشام ثقات، وهم في الرواية عن سفيان قريب بعضهم من بعض، وأبو نعيم، ووكيع، وعبيد اللَّه الأشجعيّ، ويحيى القطان، وابن مهديّ، وأبو داود الحفَريّ أثبت في سفيان من الفريابيّ وأصحابه، يعني الذين سماهم معه. انتهى كلام الحافظ ابن رجب -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
وقوله: "ورواه جرير بن حازم إلخ"، أشار له إلى أن جرير بن حازم خالف سفيان في متن الحديث، فقيد رفع الصوت بالمرّة الثالثة، وقد تابع جريرًا شعبة، عن سلمة بن كهيل، وزُبيدٍ، كلاهما عن ذَرّ، عن سعيد به، كما تقدّم في 48/ 1732 و 1733 وكذلك رواه منصور بن المعتمر، عن سلمة، عن سعيد به، كما تقدّم في 48/ 1735.
فتحمل رواية سفيان المطلقة على رواية هؤلاء المقيّدة بالثالثة، فيكون استحباب رفع الصوت في المرة الثالثة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
ثمّ بين رواية جرير بقوله؟
1753 -
أَخْبَرَنَا حَرَمِيُّ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ زُبَيْدًا، يُحَدِّثُ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُوتِرُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وَإِذَا سَلَّمَ قَالَ:«سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» . ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَمُدُّ صَوْتَهُ فِي الثَّالِثَةِ، ثُمَّ يَرْفَعُ.
رجال الإسناد: سبعة:
1 -
(حَرَميّ بن يونس بن محمد) هو إبراهيم، و"حرميّ" -بمهملتين بلفظ النسبة- لقبه البغداديّ، نزيل طَرَسوس، صدوق [11].
قال النسائيّ: صدوق.، وعنه: لا بأس به. وقال ابن حبّان في "الثقات": يُغْرِب. انفرد به المصنف. وذكر ابن عساكر أن أبا داود روى عنه. وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط. واللَّه تعالى أعلم.
2 -
(يونس بن محمد) المؤدب، أبو محمد البغداديّ، ثقة ثبت، من صغار [9] 15/ 1632.
(1)
- "شرح علل الترمذي" ج 2 ص 722 - 726. نسخة تحقيق د/ همام عبدالرحيم سعيد.
3 -
(جرير) بن حازم الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقة، له أوهام إذا حدّث من حفظه، وفي حديثه عن قتادة ضعف [6] 172/ 1141 والباقون تقدّموا قريبًا.
والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1754 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُوتِرُ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وَإِذَا فَرَغَ، قَالَ:«سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» ، أَرْسَلَهُ هِشَامٌ.
"سعيد": هو ابن أبي عروبة البصريّ. و"عَزْرة": هو ابن عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة [6].
وقوله: "أرسله هشام" يعني أن هشامّا الدستوائيّ خالف سعيدَ بن أبي عروبة، فرواه عن قتادة، عن عَزْرة، عن سعيد، مرسلاً، لم يذكر عبد الرحمن بن أبزى، وقد تابع هشامًا يحيى بن آدم، عن مالك بن مغول، عن زبيد، عن ذَرّ، عن ابن أبزى مرسلاً، كما تقدّم 49/ 1738.
قلت: لكن هذا الإرسال لا يضرّ في وصل من وصله، لأنهم أكثر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
ثم بَيّنَ رواية هشام بقوله:
1755 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلُ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُوتِرُ
…
وَسَاقَ الْحَدِيثَ.
"محمد بن إسماعيل بن إبراهيم" تقدّم قبل حديثين. و"أبو عامر": هو الْعَقَديّ، عبد الملك بن عمرو القَيسيّ البصريّ، ثقة [9] 2/ 327. و"هشام": هو الدستوائيّ البصريّ.
والضمير في قوله: "وساق الحديث" لهشام. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
55 - بَابُ إِبَاحَةُ الصَّلَاةِ بَينَ الْوِتْرِ، وَبَينَ رَكْعَتَي الْفَجْرِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مذهب المصنف -رحمه اللَّه تعالى- إباحة الصلاة بين الوتر وركعتي الفجر، وهو المذهب الراجح، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.
1756 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ الصُّورِيَّ- قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ -يَعْنِي ابْنَ سَلاَّمٍ- عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ، عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، تِسْعَ رَكَعَاتٍ قَائِمًا، يُوتِرُ فِيهَا، وَرَكْعَتَيْنِ جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ، فَرَكَعَ، وَسَجَدَ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْدَ الْوَتْرِ، فَإِذَا سَمِعَ نِدَاءَ الصُّبْحِ قَامَ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عبيد اللَّه بن فَضَالة بن إبراهيم) أبو قُدَيد النسائيّ، ثقة ثبت [11] 17/ 898.
2 -
(محمد بن المبارك الصُّوريّ) نزيل دمشق، ثقة، من كبار [10] 17/ 1541.
3 -
(معاوية بن سَلاّم) أبو سلاّم الدمشقيّ، ثم الحمصيّ، ثقة [7] 13/ 1479.
4 -
(يحيى بن أبي كثير) أبو نصر اليماميّ، ثقة ثبت، يدلس ويرسل [5] 23/ 24.
5 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة فقيه [3] 1/ 1.
6 -
(عائشة) رضي الله عنهما 5/ 5 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف الإسناد:
(منها): من سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، وأن فيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو أبو سلمة، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن يحيى بن أبي كثير أنه (قال: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي عن عددها، وكيفيتها (مِنَ اللَّيْلِ) أي في الليل، فـ "من" بمعنى "في"، أو هي تبعيضية (قَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) أي بركعتي
الفجر (تِسْعَ رَكَعَاتِ) بالنصب على البدلية من "ثلاث عشرة"(قَائِمًا، يُوتِرُ فِيهَا) أي يصلي الوتر في جملة تلك التسع، بمعنى أنه يختمها بالوتر (وَ) يصلي (رَكْعَتَيْنِ جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ، فَرَكِعَ، وَسَجَدَ، وَيَفعَلُ ذَلِكَ بَعدَ الْوِتْرِ، فَإذَا سَمِعَ نِدَاءَ الصُّبْحِ) أي الأذان لصلاة الصبح (قَامَ، فرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) فيه استحباب تخفيف ركعتي الفجر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:
أخرجه هنا 55/ 1756 وفي "الكبرى" 70/ 1449 بالإسناد المذكور. وفي 60/ 1780 عن محمود بن خالد، عن الوليد بن مسلم، عن أبي عمرو الأوزاعيّ، عن يحيى ابن أبي كثير به. وفي 60/ 1781 - عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن هشام الدستوائيّ، عن يحيى به. وفي "الكبرى" 53/ 450 عن إسحاق بن إبراهيم، عن معاذ بن هشام، عن أبيه به. و 45/ 413 - عن هشام بن عمار، عن يحيى بن حمزة، عن الأوزاعيّ به. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (خ) 1/ 160 (م) 2/ 160 و 166 (د) 1340 و1350 (ق) 1196 (أحمد) 6/ 52 و 81 و 128 و 138 و 189 و 249 و 279 (الدارمي) 1482 (ابن خزيمة)1102. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في اختلاف العلماء في مشروعية الصلاة بعد الوتر:
قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف أهل العلم في الصلاة بعد الوتر، فكان قيس بن عُبَاد يقول: أقرأ وأنا جالس أحبّ إليّ من أن أصلي بعد ما أُوتر. وكان مالك بن أنس لا يعرف الركعتين بعد الوتر. وقال أحمد بن حنبل: أرجو إن فعله إنسان لا يضيق عليه، وقال أحمد: لا أفعله انتهى ببعض تصرّف.
وقال الإمام محمد بن نصر -رحمه اللَّه تعالى-: كره أبو سعيد الخدري رضي الله عنه الصلاة بعد الوتر، وسئل سعيد بن جُبير عن الصلاة بعد الوتر؟ فقال: لا، حتى ينام نومة. وعن إبراهيم أنه كره الصلاة بعد الوتر مكانه. وعن ميمون بن مهران: إذا أوترتَ فتحوّلْ، ثم صلّ، وفي رواية: إذا أوترت، ثم حوّلت قدميك، فصلّ ما بدا لك. وقيل لأبي العالية ما تقول في السجدتين بعد الوتر؟ قال: تنقُضُ وترك، قيل: الحسنُ يأمرنا بذلك، فقال: رحم اللَّه الحسن، قد سمعنا العلم، وتعلمناه قبل أن يولد الحسن. وكان سعد بن أبي
وقاص رضي الله عنه، يوتر، ثم يصلي على إثر الوتر مكانه. وكان الحسن يأمر بسجدتين بعد الوتر، فذُكر ذلك لابن سيرين، فقال: أنتم تفعلون ذاك؟. وقال كثير بن مرّة، وخالد بن معدان: لا تدعهما، وأنت تستطيع -يعني الركعتين بعد الوتر. وقال عبد اللَّه بن مساحق
(1)
: كلّ وتر ليس بعده ركعتان، فهو أبتر وقال عياض بن عبد اللَّه: رأيت أبا سلمة بن عبد الرحمن أوتر، ثم صلى ركعتين في المسجد أيضًا. وقال الأوزاعي: لا نعرف الركعتين بعد الوتر جالسًا، وإنما ركعهما ناس، وقد اجتمعت الأحاديث على صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه كان يُصبح على ثلاث عشرة ركعة، ليس فيها هاتان الركعتان. وعن مكحول أنه صلى بعد الوتر في رمضان في المسجد ركعتين، وهو قائم، وقال سعيد، عن الحسن أنه كان يركعهما، وهو جالس، وكان سعيد لا يأخذ بهذا، ولا الأوزاعيّ، ولا مالك. قال الوليد بن مسلم: ذكرتهما لمالك، فلم يَعرفهما، وكرههما، وعن ابن القاسم: سئل مالك عن الذي يوتر في المسجد، ثم يريد أن يتنفّل بعد ذلك؟ قال: نعم، ولكن يتلبّث شيئًا انتهى
(2)
.
قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن ذكر الاختلاف المذكور: ما نصه: الصلاة في كل وقت جائزة، إلا وقتًا نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيه، والأوقات التي نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها وقتُ طلوع الشمس، ووقت الزوال، ووقت غروب الشمس، والصلاة في سائر الأوقات مباح، ليس لأحد أن يمنع فيها إلا بحجة، ولا حجّة مع من كره الصلاة بعد الوتر، فدلّ فعله صلى الله عليه وسلم هذا على أن قوله:"اجعلوا آخر صلاتكم وترًا" على الاختيار، لا على الإيجاب، فنحن نستحبّ أن يجعل المرء آخر صلاته وترًا، ولا نكره الصلاة بعد الوتر، وقائل هذا قائل بالخبرين جميعًا انتهى كلام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- هو عين التحقيق، فالرّاجح قول من قال بجواز الصلاة بعد الوتر، لصحة حديث الباب، وغيره بذلك، وهذا القول هو الذي ذهب إليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، كما تقدّم أول الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- هكذا نسخة "مختصر كتاب الوتر""ابن مساحق" آخره قاف، ولعله "ابن مسافع" بفاء، ثم عين مهملة، فليُحرّر.
(2)
- "مختصر كتاب الوتر" ص 134 - 135.
56 - الْمُحَافَظَةُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ذَكَر المصنف رحمه الله في هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها: "كان لا يدع الخ"، ومطابقته للترجمة واضحة، وحديثَها أيضًا:"عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ركعتا الفجر خير الخ"، وهو أيضًا مطابق للترجمة، من حيث إن فيه بيانَ فضل الركعتين، وهو مما يحثّ على المواظبة، وأحسن منه صنيعه في "الكبرى" حيث ترجم للحديث الثاني بقوله:"فضل ركعتي الفجر". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1757 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ، قَبْلَ الْفَجْرِ.
خَالَفَهُ عَامَّةُ أَصْحَابِ شُعْبَةَ، مِمَّنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، فَلَمْ يَذْكُرُوا مَسْرُوقًا.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمد بن المثنى) المذكور قبل باب.
2 -
(عثمان بن عمر) بن فارس العبديّ البصريّ، بخاريّ الأصل، ثقة، قيل: كان يحيى بن سعيد لا يرضاه [9] 151/ 1118.
3 -
(شعبة) بن الحجّاج الإمام الحجة المشهور، تقدّم قريبًا.
4 -
(إبراهيم محمد) بن المنتشر الهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقة [5] 12/ 417.
5 -
(محمد بن المنتشر) بن الأجدع الهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقة [4] 12/ 417.
6 -
(مسروق) بن الأجدع بن مالك الهمدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقة فقيه عابد مخضرم [2] 90/ 112.
7 -
(عائشة) رضي الله عنها 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): من سباعيات المصنف، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَائِشَة) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ لَا يَدَعُ) أي لا يترك. مضارع وَدَع، يقال: وَدَعْتُهُ أَدَعُهُ وَدْعًا: تركته، قال الفيّوميّ: وأصل المضارع الكسر، ومِنْ ثَمّ حُذفت الواو، ثُمّ فُتح لمكان حرف الحلق، قال بعض المحققين: وزعمت النُّحَاة أن العرب أماتت ماضي "يَدَعُ"، ومصدَرَهُ، واسمَ الفاعل، وقد قَرَأ مجاهد، وعروة، ومقاتل، وابن أبي عَبْلَة، ويزيد النحويّ:"ما وَدَعَك ربّك" بالتخفيف، وفي الحديث: "لَيَنتَهيَنّ قوم عن وَدْعِهم الجمعات
(1)
…
" أي عن تركهم، فقد رُويت هذه الكلمة عن أفصح العرب، ونُقلت من طريق القرّاء، فكيف يكون إماتةً، وقد جاء الماضي في بعض الأشعار، وما هذا سبيله، فيجوز القول بقلة الاستعمال، ولا يجوز القول بالإماتة انتهى
(2)
.
(أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، قَبْلَ الظُّهْرِ) قال الداوديّ رحمه الله: وقع في حديث ابن عمر أن قبل الظهر ركعتين، وفي حديث عائشة أربعًا، وهو محمول على أن كلّ واحد منهما وصف ما رأى، قال: ويحتمل أن يكون نسي ابن عمر ركعتين من الأربع. قال الحافظ رحمه الله: هذا الاحتمال بعيد، والأولى أن يُحْمَل على حالين، فكان تارة يصلي ثنتين، وتارة يصلي أربعًا. وقيل: هو محمول على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين، وفي بيته يصلي أربعًا، ويحتمل أن يكون يصلي إذا كان في بيته ركعتين، ثم يخرج إلى المسجد، فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد، دون ما في بيته، واطلعت عائشة على الأمرين، ويقوّي الأول ما رواه أحمد، وأبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها:"كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعًا، ثم يخرج". قال أبو جعفر الطحاويّ رحمه الله: الأربع كانت في كثير من أحواله، والركعتان في قليلها انتهى
(3)
.
(وَرَكْعَتَيْنِ، قَبْلَ الْفَجْرِ) وفي رواية عُبيد بن عمير، عن عائشة رضي الله عنها عند البخاريّ: قالت: "لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشدّ منه معاهدة على ركعتي الفجر".
وفي رواية لمسلم: "ما رأيته إلى شيء من الخير، أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
- تقدم الحديث برقم 2/ 1370.
(2)
- المصباح المنير 653.
(3)
- "فتح" ج3 ص 377.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح بالإسناد التالي
(1)
، فقد أخرجه البخاريّ به، من طريق يحيى القطّان، عن شعبة، كما سيأتي،، إن شاء اللَّه تعالى.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا-56/ 1757 وفي "الكبرى" 71/ 1450 - بالإسناد المذكور، وفي 56/ 1758 - و"الكبرى" 71/ 1451 - بالإسناد التالي، وفيه 55/ 457 - عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن شعبة به. و 14/ 333 عن عُبيد اللَّه بن سعيد، عن يحى القطان، عن شعبة به. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (خ) 2/ 74 (د) 1253 (أحمد) 6/ 63 و 6/ 148 (الدارميّ). 1446 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله (خَالَفَهُ) أي عثمانَ بن عمر (عَامَّةُ أَصْحَابِ شُعْبَةَ) بالرفع فاعل "خالف"(مِمَّنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، فَلَم يَذْكُرُوا مَسْرُوقًا) أي بين محمد بن المنتشر، وعائشة رضي الله عنها، بل جعلوه من رواية محمد عنها، كما بينه بقوله:
1758 -
أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا الصَّوَابُ عِنْدَنَا، وَحَدِيثُ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ خَطَأٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
"أحمد بن عبد اللَّه بن الحكم": هو الهاشمي المعروف بابن الكُرْديّ، أبو الحسين البصريّ، ثقة [10] 39/ 583. و"محمد بن جعفر": هو المعروف بـ "غندر" البصري.
وقوله: "قال أبو عبد الرحمن": هذا الصواب عندنا الخ"، ولفظ "الكبرى": قال أبو عبد الرحمن: هذا الحديث لم يتابعه أحد على قوله: "عن مسروق"، خالفه محمد بن جعفر، وعامة أصحاب شعبة انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا أن رواية محمد ابن جعفر، عن شعبة بإسقاط "مسروق"، هو الصواب، وأما رواية عثمان بن عمر
(1)
- أما بهذا الإسناد فسيأتي قريبًا أنه خطأ.
المتقدمة بذكره فخطأ، لمخالفة عثمان أكثر الرواة عن شعبة، فقد رواه يحيى القطان، ووكيع، ومحمد بن أبي عديّ، وعمرو بن مرزوق، وابن المبارك، ومعاذ بن معاذ، ووهب بن جرير، كلهم عن شعبة بسنده، وليس فيه ذكر مسروق.
بل قد وقع في رواية وكيع تصريح محمد بن المنتشر بسماعه عن عائشة، أخرجه الإسماعيلي، وحَكَى عن شيخه أبي القاسم البغويّ أنه حدّثه به من طريق عثمان بن عمر، عن شعبة، فأدخل بين محمد بن المنتشر، وعائشة مسروقًا، وأخبره أن حديث وكيع وَهَم، ورد ذلك الإسماعيليّ بأن محمد بن جعفر قد وافق وكيعًا على التصريح بسماع محمد من عائشة، ثم ساقه بسنده إلى شعبة، عن إبراهيم بن محمد أنه سمع أباه، أنه سمع عائشة، قال الإسماعيليّ. ولم يكن يحيى بن سعيد -يعني القطان- الذي أخرجه البخاريّ من طريقه ليحمله مُدَلَّسًا، قال: والوَهَم عندي فيه من عثمان بن عمر انتهى.
وبذلك جزم الدارقطنيّ في "العلل"، وأوضح أن رواية عثمان بن عمر من المزيد في متصل الأسانيد. لكن أخرجه الدارميّ عن عثمان بن عمر بهذا الإسناد، فلم يذكر فيه مسروقًا، فإما أن يكون سقط عليه، أو على من بعده، أو يكون الوهم في زيادته ممن دون عثمان بن عمر. قاله في "الفتح"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1759 -
أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«رَكْعَتَا الْفَجْرِ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا» .
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(هارون بن إسحاق) بن محمد بن مالك الهَمْدانيّ، أبو القاسم الكوفيّ، صدوق، من صغار [10] 13/ 346.
2 -
(عبدة) بن سُليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقة ثبت، من صغار [8] 7/ 339. والباقون تقدّموا قريبًا. و"سعيد": هو ابن أبي عروبة. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): من سباعيات المصنف، وأن رجلهم كلهم رجال الصحيح، وأن فيه رواية
(1)
- ج3 ص 377.
تابعي، عن تابعي، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "رَكْعَتَا الْفَجْرِ) أي سنّة الفجر، وهي المشهورة بهذا الاسم، ويحتمل الفرض. قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني بعيد، بل الأول هو الصواب، فقد ثبت في رواية لمسلم، أنه قال في شأن الركعتين عند طلوع الفجر:"لهما أحبّ إليّ من الدنيا، وما فيها جميعًا"(خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا") أي أثاثها ومتاعها، يعني أن أجرهما خير من أن يُعطَى تمام الدنيا في سبيل اللَّه تعالى، أو هو على اعتقادهم أن في الدنيا خيرًا، وإلا فذَرْة من الآخرة لا تساويها الدنيا وما فيها.
قال الطيبيّ رحمه الله: إن حُمل الدنيا على أعراضها، وزَهْرتها، فالخير إما مُجْرًى على زعم من يرى فيها خيرًا، أو يكون من باب:{أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} الآية [مريم: 73]. وإن حُمل على الإنفاق في سبيل اللَّه، فتكون هاتان الركعتان أكثر ثوابًا منها انتهى.
وقال في "حجة اللَّه البالغة": إنما كانتا خيرًا منها، لأن الدنيا فانية، ونعيمها لا يخلو عن كَدَر النَّصَب والتعَب، وثوابهما باق من غير كَدَرٍ انتهى.
وقد استُدِلّ به على أن ركعتي الفجر أفضل من الوتر، وهو أحد قولي الشافعيّ رحمه الله، ووجه الدلالة أنه جَعَل ركعتي الفجر خيرًا من الدنيا، وما فيها، وجعل الوتر خيرا من حُمْرِ النَّعَم، وحُمرُ النعَم جزءٌ مما في الدنيا، وأصحّ القولين عن الشافعيّ أن الوتر أفضل، وقد استُدلّ لذلك بما في "صحيح مسلم" من حديث أبي هُريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"أفضل الصلاة بعد الفريضة الصلاة في جوف الليل"، وبالاختلاف في وجوبه، كما تقدّم
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:
(1)
- راجع "المرعاة" ج 4 ص 137.
أخرجه هنا 56/ 1759 وفي "الكبرى" 72/ 1452 بالإسناد المذكور. وفي "الكبرى" أيضًا 56/ 458 - عن محمد بن المثنى، عن يحى القطّان، عن سعيد بن أبي عروبة، وسليمان التيميّ، كلاهما عن قتادة به. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (م) 2/ 160 (ت) 416 (أحمد) 6/ 50 و 149 و 265 (ابن خزيمة)1107. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في اختَلافِ أهلِ العلمِ في وجوب ركعتي الفجر:
قال النووي -رحمه اللَّه تعالى- في شرح حديث عائشة رضي الله عنها: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لم يكن على شيء من النوافل أشدّ معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح": ما نصّه: فيه دليل على عِظَم فضلهما، وأنهما سنّتان، ليستا واجبتين، وبه قال جمهور العلماء، وحكى القاضي عياض عن الحسن البصريّ --رحمهما اللَّه تعالى-- وجوبهما، والصواب عدم الوجوب، لقولها. "على شيء من النوافل"، مع قوله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات
…
"، وفيه: قال: هل عليّ غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطّوّع".
وقد يُستدلّ به لأحد القولين عندنا في ترجيح سنة الصبح على الوتر، لكن لا دلالة فيه، لأن الوتر كان واجبا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلا يتناوله هذا الحديث انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: صحيح أن الوتر ليس واجبا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي بيانه في أوائل "كتاب النكاح"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقى إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
57 - بَابُ وَقْتِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ
1760 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ إِذَا نُودِىَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، خَفِيفَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ يَقُومَ إِلَى الصَّلَاةِ.
(1)
- "شرح مسلم" ج 6 ص 4 - 5.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفقٌ عليه، وقد تقدم في 39/ 583 رواه عن أحمد بن عبد اللَّه بن الحكم، عن غُندر، عن شعبة، عن زيد بن محمد، عن نافع به، بلفظ:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفيتين". وتقدّم تمام البحث فيه هناك، ومطابقته للترجمة واضحة، حيث بيّن فيه أن وقت ركعتي الفجر بين الأذان والإقامة لصلاة الصبح.
و"الليث": هو ابن سعد الإمام المصريّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1761 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا أَضَاءَ لَهُ الْفَجْرُ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
تقدم الكلام على هذا الحديث في الذي قبله، وهو متفق عليه، و"محمد بن منصور": هو الجوّاز المكيّ، ثقة [10]. و"سفيان": هو ابن عيينة الإمام. و"عمرو": هو ابن دينار.
ومعنى "أضاء له الفجر" أي اتضح، وظهر له، وفيه بيان أن وقت ركعتي الفجر بعد طلوع الفجر، فلا تصحّان قبله، ويستحب أداؤهما بين الأذان والإقامة، كما دلّ عليه الحديث السابق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
58 - الاضْطِجَاعُ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ عَلَى الشِّقِّ الأَيْمَنِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الاضطجاع": افتعال، من الضَّجْع، يقال: ضَجَعتُ ضَجْعًا، من باب نَفَعَ، وضُجُوعًا: وَضَعتُ جنبي بالأرض، وأضجعتُ بالألف لغة، فأنا ضاجعٌ، ومُضْجِعٌ، وأضجعتُ فلانَا بالألف، لا غير: ألقيته على جنبه، وهو حسن الضِّجْعَة -بالكسر- والمَضْجَع -بفتح الميم-: موضع الضُّجُوع، والجمع مَضَاجِع.
واضْطَجَع، واضَّجَعَ، والأصل افتَعَلَ، لكن من العرب من يقلب التاء طاءَ، ويُظهرها عند الضاد، ومنهم من يَقلِب التاء ضادًا، ويُدغمها في الضاد، تغليبًا للحرف الأصليّ، وهو الضاد، ولا يقال: اطَّجَع بطاء مشدّدة، لأن الضاد لا تُدغم في الطاء، فإن الضاد
أقوى منها، والحرف لا يُدغَم في أضعف منه، وما ورد شاذّ، لا يقاس عليه. والضَّجِيع: الذي يُضَاجِع غيرَهُ، اسمُ فاعل، مثلُ النديم، والجليس، بمعنى الْمُنادم، والْمُجالس. قاله في "المصباح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1762 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ بِالأُولَى، مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ، قَامَ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، بَعْدَ أَنْ يَتَبَيَّنَ الْفَجْرُ، ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائيّ، ثقة ثبت [11] انفرد به المصنّف 108/ 147.
2 -
(علي بن عياش) الأَلْهَانيّ الحمصي، ثقة ثبت [9] 123/ 182.
3 -
(شُعيب) بن أبي حمزة الحمصيّ، ثقة عابد، من أثبت الناس في الزهريّ [7] 69/ 85.
والباقون تقدّموا قبل ثلاثة أبواب. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): من سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفرده، وأن فيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ) أي فرغ من الأذان بالسكوت عنه، قال في "الفتح": هذا في الروايات المعتمدة بالمثنّاة الفوقانيّة، وحكى ابن التين أنه رُوي بالموحّدة -يعني سَكَبَ- ومعناه صبّ الأذان، وأفرغه في الآذان، ومنه أفرغ في أُذُني كلامًا حسنًا انتهى.
قال الحافظ: والرواية المذكورة لم تثبت في شيء من الطرق، وإنما ذكرها الخطّابيّ من طريق الأوزاعيّ، عن الزهريّ، وقال: إن سُويد بن نصر، روايها عن ابن المبارك، عنه، ضبطها بالموحدة، وأفرط الصغانيّ في "العُبَاب"، فجزم أنها بالموحّدة، وكذا ضبطها في نسخته التي ذكر أنه قابلها على نسخة الفربريّ، وأن المحدّثين يقولونها بالمثنّاة، ثم ادّعى أنها تصحيف، وليس كما قال انتهى.
(بِالْأُولَى) أي عن الأولى، فالباء بمعنى "عن"، وهي متعلقة بـ "سكت"، يقال: سكت عن كذا، ويحتمل أن تكون سببيّة، والكلام على حذف مضاف، أي بسبب الانتهاء من الأولى، والمراد بالأولى الأذان الذي يُؤَذَّن به عند دخول الوقت، وهو أول باعتبار الإقامة، وثان باعتبار الأذان الذي قبل الفجر، وإنما أنّثه، فقال: بـ "الأولى"، مع كونه مذكّرًا إما لمؤاخاته للإقامة، أو لتأويله بالمناداة، أو الدعوة، ويحتمل أن يكون صفة لمحذوف، والتقدير: إذا سكت بالمرة الأولى. واللَّه تعالى أعلم.
(مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ) بيان لـ "الأولى"، أي من أذان صلاة الفجر (قَامَ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) فيه استحباب تخفيف ركعتي الفجر، وقد تقدّم تمام البحث فيه برقم 40/ 946 (قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، بَعْدَ أَنْ يَتَبَيْنَ الْفَجْرُ) فيه أن وقت ركعتي الفجر بعد تبيّن الفجر، وانتشار ضوئه، وتقدم في الباب الماضي (ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الأيْمَنِ) فيه استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر على الشقّ الأيمن.
والتقييد بأن الاضطجاع كان على الشقّ بالأيمن يشعر بأن حصول المشروع لا يكون إلا بذلك، لا بالاضطجاع على الجانب الأيسر، ولا شكّ في ذلك مع القدرة، وأما مع التعذّر، فهل يحصل المشروع بالاضطجاع على الأيسر أم لا؟ بل يشير إلى الاضطجاع على الشقّ الأيمن، جزم بالثاني ابن حزم رحمه الله، وهو الظاهر، والحكمة في ذلك أن القلب معلق في الجانب الأيسر، فإذا اضطجع على الجانب الأيسر غلبه النوم، وإذا اضطجع على الأيمن قَلِقَ لقلق القلب، وطلبه لمستقرّه. أفاده الشوكاني -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
. وسيأتي بيان مذاهب العلماء في حكم هذا الاضطجاع في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.
[تنبيه]: عقد المصنف -رحمه اللَّه تعالى- في "الكبرى" لاستحباب الجلوس بعد الاضطجاع بابًا، فقال:[القعود بعد الاضطجاع]
1456 -
أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيم، قال: نا محمد بن صَلْت، كوفيّ، قال: نا أبو كُدَينة، عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يضطجع بعد ركعتي الفجر على شقّه الأيمن، ثم يجلس". قال أبو عبد الرحمن: اسم أبي كُدَينة يحيى بن الْمُهلّب انتهى
(2)
.
ورجال هذا الإسناد رجال الصحيح، ففيه استحباب الجلوس بعد الاضطجاع. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: أخرج البيهقيّ، من طريق موسى بن
(1)
- "نيل الأوطار" ج 3 ص 32.
(2)
- "السنن الكبرى" ج 1 ص 455.
عُقبة، عن سالم أبي النضر:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج بعد النداء إلى المسجد، فإن رأى أهل المسجد قليلاً جلس، حتى يجتمعوا، ثم يصلي". وإسناده قويّ مع إرساله، وليس بينه وبين حديث الباب تعارض، لأنه يحمل على غير الصبح، أو كان يفعل ذلك بعد أن يأتيه المؤذّن، ويخرجَ إلى المسجد. قاله في "الفتح"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا 58/ 1762 - وفي "الكبرى" 74/ 1455 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (خ) 1/ 161 و 2/ 69 (م) 2/ 159 (ق) 1198 (أحمد) 6/ 48 و 85 و 117 و 121 و 132 و 204 و 254 (عبد بن حميد)1486. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في حكم الاضطجاع بعد ركعتي الفجر: قال العلاّمة الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قد اختُلف في حكم الاضطجاع على ستة أقوال:
الأول: أنه مشروع على سبيل الاستحباب، قال العراقيّ رحمه الله: فممن كان يفعل ذلك، أو يُفتي به من الصحابة أبو موسى الأشعريّ، ورافع بن خَدِيج، وأنس بن مالك، وأبو هريرة رضي الله عنه، واختُلف على ابن عمر، فرُوي عنه فِعلُ ذلك، كما ذكره ابن أبي شيبة في "مصنّفه"، وروي عنه إنكاره، كما سيأتي.
وممن قال به من التابعين ابنُ سيرين، وعروة، وبقية الفقهاء السبعة، كما حكاه عبد الرحمن بن زيد في كتاب السبعة، وهم: سعيد بن المسيِّبِ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، وسليمان بن يسار
(2)
.
(1)
- ج3 ص 319.
(2)
- وقد جمعهم الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "ألفية الحديث" بقوله:
وَفِي الْكِبَارِ الفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ
…
خَارِجَةُ الْقَاسِمُ ثُمَّ عُرْوَةُ
ثُمَّ سُلَيمَانُ عُبَيد اللَّهِ
…
سَعِيد وَالسَّابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ
إِمَّا أَبُو سَلَمَةٍ أَو سَالِمُ
…
أَوْ فَأَبُو بَكْر خِلَافٌ قَائِمُ
قال ابن حزم رحمه الله: وروينا من طريق يحيى بن سعيد القطّان، عن عثمان بن غياث، هو ابن عثمان أنه حدثه، قال: كان الرجل يجيء، وعمر بن الخطّاب يصلي بالناس، فيصلي ركعتين في مؤخّر المسجد، ويضع جنبه في الأرض، ويدخل معه في الصلاة.
وممن قال باستحباب ذلك، من الأئمة الشافعيّ، وأصحابه.
القول الثاني: أن الاضطجاع بعدهما واجب مفترض، لا بدّ من الإتيان به، وهو قول أبي محمد ابن حزم، واستدلّ بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا صلّى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح، فليضطجع على جنبه الأيمن". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وصححه.
وحمله الأولون على الاستحباب، لقول عائشة رضي الله عنها:"كان إذا صلى ركعتي الفجر، فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع". متفق عليه، فإن ظاهره أنه كان لا يضطجع مع استيقاظها، فكان ذلك قرينة لصرف الأمر إلى الندب.
قال الشوكانيّ: وفيه أن تركه صلى الله عليه وسلم لِمَا أَمَرَ به أمرا خاصّا بالأمة، لا يعارض ذلك الأمر الخاصّ، ولا يصرفه عن حقيقته، كما تقرر في الأصول انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى- فيه نظر لا يخفى، وقد تقدم غير مرّة الردُّ على قوله هذا، وأن الراجح أن الفعل في مثل هذا يصلح صارفا للأمر عن الوجوب، وأن الخصوصية لا بدّ لها من دليل غير المعارضة المذكورة، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، فقال:"إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي، ويَسقيني" متفق عليه.
ففيه أنه صلى الله عليه وسلم أقرّهم على ما استدلّوا به من جواز الوصال بدلالة فعله، مع نهيه لهم عنه بالقول سابقًا، فلولا الخصوصية التي عللَّها بأنه له مُطْعِمًا وساقيًا، لكان استدلالهم صحيحا، ولو كان القول مقدّما على الفعل، كما زُعِمَ، لأجابهم بأن قوله لا يُعارَض بفعله.
فقد تبيّن بهذا أن فعله صلى الله عليه وسلم الذي لا دليل على كونه خاصًا به إلا كونه معارِضا للقول، يجوز تخصيص عموم القول به، وتقييد مطلقه، وصرف الأمر به عن الوجوب إلى الإباحة، والنهي عن التحريم إلى التنزيه.
والحاصل أنَ تركه صلى الله عليه وسلم للاضطجاع هنا يصلح لصرف الأمر به إلى الندب، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
القول الثالث: أن ذلك مكروه، وبدعة، وممن قال به من الصحابة ابن مسعود، وابن
عمر، على اختلاف عنه، فرَوَى ابنُ أبي شيبة في "المصنف" من رواية إبراهيم، قال: قال ابن مسعود: ما بال الرجل إذا صلى الركعتين، يتمعّك كما تتمعّك الدابّة، أو الحمار، إذا سلّم، فقد فصل. وروى ابن أبي شيبة أيضًا من رواية مجاهد قال: صحبت ابن عمر في السفر والحضر، فما رأيته اضطجع بعد ركعتي الفجر. وروى سعيد بن المسيِّب عنه أنه رأى رجلاً يضطجع بعد الركعتين، فقال: احصبوه. وروى أبو مِجْلَز عنه أنه قال: إن ذلك من تلعب الشيطان. وفي رواية زيد العمّيّ، عن أبي الصدّيق الناجيّ، عنه أنه قال: إنها بدعة. ذكر ذلك جميعه ابن أبي شيبة.
وممن كره ذلك من التابعين الأسود بن يزيد، وإبراهيم النخعيّ، وقال: هي ضِجْعَة الشيطان، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جُبير.
ومن الأئمة مالك، وحكاه القاضي عياض عن جمهور العلماء.
القول الرابع: أنه خلاف الأولى، رَوَى ابن أبي شيبة عن الحسن أنه كان لا يُعجبه الاضطجاع بعد ركعتي الفجر.
القول الخامس: التفرقة بين من يقوم بالليل، فيستحبّ له ذلك للاستراحة، وبين غيره فلا يشرع له، واختاره ابن العربيّ، وقال: لا يضطجع بعد ركعتي الفجر لانتظار الصلاة إلا أن يكون قام الليل، فيضطجع، استجماما
(1)
لصلاة الصبح، فلا بأس، ويشهد لهذا ما رواه الطبرانيّ، وعبد الرزّاق، عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت تقول:"إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضطجع لسنّة، ولكنه كان يَدْأب ليله، فيستريح". وهذا لا تقوم به حجّة، أما أوّلاً، فلأن في إسناده راويًا لم يُسمّ، كما قال الحافظ في "الفتح". وأما ثانيًا فلأن ذلك ظنّ منها، وتخمين، وليس بحجة، وقد روت أنه كان يفعله، والحجّة في فعله، وقد ثبت أمره به، فتأكّد بذلك مشروعيّته.
القول السادس: أن الاضطجاع ليس مقصودًا لذاته، وإنما المقصود الفصل بين ركعتي الفجر، وبين الفريضة، رَوَى ذلك البيهقيّ عن الشافعيّ. وفيه أن الفصل يحصل بالقعود، والتحوّل، والتحدّث، وليس بمختصّ بالاضطجاع. قال النووي: والمختار الاضطجاع، لظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد أجاب من لم ير مشروعية الاضطجاع عن الأحاديث المذكورة بأجوبة:
منها: أن حديث أبي هريرة من رواية عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، وقد تَكَلّم فيه بسبب ذلك يحيى بنُ سعيد القطّان، وأبو داود الطيالسيّ، قال يحيى بن سعيد: ما
(1)
- الاستجمام: الاستراحة.
رأيته يطلب حديثًا بالبصرة، ولا بالكوفة قطّ، وكنت أجلس على بابه يوم الجمعة بعد الصلاة، أُذاكره بحديث الأعمش، لا يعرف منه حرفًا. وقال عمرو الفلاّس: سمعت أبا داود يقول: عَمَدَ عبدُ الواحد إلى أحاديثَ كان يرسلها الأعمش، فوصلها، يقول: حدثنا الأعمش، حدثنا مجاهد في كذا وكذا انتهى. وهذا من روايته عن الأعمش، وقد رواه الأعمش بصيغة العنعنة، وهو مدلّس. وقال عثمان بن سعيد الدارميّ: سألت يحيى بن معين، عن عبد الواحد بن زياد؟ فقال: ليس بشيء.
والجواب عن هذا الجواب أن عبد الواحد بن زياد قد احتجّ به الأئمة الستّة، ووثقه أحمد بن حنبل، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائي، وابن حبان، وقد رُوي عن ابن معين ما يُعارض قوله السابق فيه من طريق من روى عنه التضعيف له، وهو عثمان بن سعيد الدارميّ المتقدّم، فرَوَى عنه أنه قال: إنه ثقة، وروى معاوية بن صالح، عن يحيى ابن معين أنه صرّح بأن عبد الواحد من أثبت أصحاب الأعمش. قال العراقيّ: وما رُوي
عنه من أنه ليس بثقة، فلعله اشتبه على ناقله بعبد الواحد بن زيد، وكلاهما بصريّ. ومع هذا فلم ينفرد به عبد الواحد بن زياد، ولا شيخه الأعمش، فقد رواه ابن ماجه من رواية شعبة، عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، إلاّ أنه جعله من فعله، لا من قوله.
ومنها: أنه اختُلف في حديث أبي هريرة المذكور، هل هو من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، أو من فعله، كما تقدّم؟ وقد قال البيهقيّ: إن كونه من فعله أولى أن يكون محفوظًا.
والجواب عن هذا أن وروده من فعله صلى الله عليه وسلم لا ينافي كونه ورد من قوله، فيكون عند أبي هريرة الحديثان: حديث الأمر به، وحديث ثبوته من فعله، على أن الكلّ يفيد ثبوت أصل الشرعيّة، فيردّ نفيُ النافين.
ومنها: أن ابن عمر لما سمع أبا هريرة يروي حديث الأمر به، قال: أكثر أبو هريرة على نفسه.
والجواب عنه أن ابن عمر سُئل، هل تنكر شيئًا مما يقول أبو هريرة؟ فقال: لا، وإن أبا هريرة قال: فما ذنبي إن كنت حفظتُ، ونسُوا. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له بالحفظ.
ومنها: أن أحاديث الباب ليس فيها الأمر بذلك، إنما فيها فعله صلى الله عليه وسلم، والاضطجاع من فعله المجرّد إنما يدلّ على الإباحة عند مالك، وطائفة.
والجواب عنه منع كون فعله لا يدلّ إلا على الإباحة، والسندُ أن قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية، [الحشر: 7]، وقوله:{فَاتَّبِعُونِي} آية [آل عمران: 31] يتناول الأفعال، كما يتناول الأقوال.
وقد ذهب جمهور العلماء، وأكابرهم إلى أن فعله يدلّ على الندب، وهذا على فرض
أنه لم يكن في الباب إلا مجرّد الفعل، وقد عرفت ثبوت القول من وجه صحيح.
ومنها: أن أحاديث عائشة في بعضها الاضطجاع قبل ركعتي الفجر، وفي بعضها بعد ركعتي الفجر. وفي حديث ابن عباس قبل ركعتي الفجر، وقد أشار القاضي عياض إلى أن رواية الاضطجاع بعدهما مرجوحة، فتُقدّم رواية الاضطجاع قبلهما، ولم يقل أحد في الاضطجاع قبلهما: إنه سنة، فكذا بعدهما.
والجواب عن ذلك بأنا لا نُسلّم أرجحية رواية الاضطجاع بعد صلاة الليل، وقبل ركعتي الفجر على رواية الاضطجاع بعدهما، بل رواية الاضطجاع بعدهما أرجح، والحديث من رواية عروة، عن عائشة، ورواه عن عروة محمد بن عبد الرحمن يتيم عروة، والزهريّ، ففي رواية محمد بن عبد الرحمن إثبات الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وهي في "صحيح البخاريّ"، ولم تختلف الرواية عنه في ذلك، واختلف الرواة عن الزهريّ، فقال مالك في أكثر الروايات عنه: إنه كان إذا فرغ من صلاة الليل اضطجع على شقه الأيمن
…
الحديث، ولم يذكر الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وقال معمر،
ويونس، وعمرو بن الحارث، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، وشعيب بن أبي حمزة، عن عروة، عن عائشة: كان إذا طلع الفجر، صلّى ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن، وهذه الرواية اتفق عليها الشيخان، فرواها البخاريّ، من رواية معمر، ومسلم من رواية يونس، وعمرو بن الحارث.
قال البيهقيّ عقب ذكرهما: والعدد أولى بالحفظ من الواحد، قال: وقد يحتمل أن يكونا محفوظين، فنقل مالك أحدهما، ونقل الباقون الآخر، قال: واختلف فيه أيضًا على ابن عباس، قال: وقد يَحتَمِلُ مثل ما احتمل في رواية مالك.
وقال النوويّ: إن حديث عائشة، وحديث ابن عباس، لا يخالفان حديث أبي هريرة، فإنه لا يلزم من الاضطجاع قبلهما أن لا يضطجع بعدهما، ولعله صلى الله عليه وسلم ترك الاضطجاع بعدهما في بعض الأوقات بيانًا للجواز.
ويحتمل أن يكون المراد بالاضطجاع قبلهما هو نومه صلى الله عليه وسلم بين صلاة الليل، وصلاة الفجر، كما ذكره الحافظ.
قال الشوكاني -رحمه اللَّه تعالى-: إذا عرفت الكلام في الاضطجاع تبيّن لك مشروعيّته، وعلمت بما أسلفنا لك من أن تركه صلى الله عليه وسلم لا يعارض الأمر للأمة الخاصّ بهم، ولاح لك قوة القول بالوجوب. انتهى
(1)
.
(1)
- "نيل الأوطار" ج 3 ص 28 - 32.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بل الذي لاح لي، وترجّح لديّ القولُ بالاستحباب، فقد قدمتُ لك أن ما قاله الشوكاني رحمه الله من دعوى عدم معارضة الفعل للقول رأي مرجوح، وأن الصواب أن فعله صلى الله عليه وسلم الذي لم يقم دليل صريح على خصوصيته يخصِّصُ قولَه العامّ، ويقيّد المطلق، ويَصلَح لصرف الأمر عن الوجوب إلى الندب، والنهي عن التحريم إلى التنزيه، وغير ذلك، فتركُهُ صلى الله عليه وسلم الاضطجاع هنا دليل صارف لأمره بالاضطجاع عن الوجوب إلى الندب.
والحاصل أن أرجح المذاهب المذهب الأول القائل باستحباب الاضطجاع؛ لما ذكرته، وهو الذي عليه جمهور أهل العلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
59 - بَابُ ذَمِّ مَنْ تَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ
1763 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ: لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سُويد بن نصر) أبو الفصل المروزي، الملقّب بـ "الشاه"، ثقة [10] 45/ 55.
2 -
(عبد اللَّه) بن المبارك، أبو عبد الرحمن الإمام الحجة الثبت المروزيّ [8] 32/
36.
3 -
(الأوزاعيّ) عبدالرحمن بن عمرو، أبو عمرو الدمشقيّ الإمام الحجة الفقيه [7] 45/ 56.
4 -
(عبد اللَّه بن عمرو) بن العاص رضي الله عنهما 89/ 111. والباقيان تقدّما قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): من سباعيات المصنف، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وأن فيه رواية تابعي، عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو) رضي الله عنهما.
[تنبيه]: قال الإمام البخاري -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه": وحدثني محمد بن مقاتل، أبو الحسن، قال: أخبرنا عبد اللَّه، قال: أخبرنا الأوزاعي، قال: حدثني يحيى ابن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: حدثني عبد اللَّه بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما، قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
…
الحديث، فقال في "الفتح": قد صرّح بالتحديث في جميع الإسناد، فأُمن تدليس الأوزاعيّ، وشيخه. انتهى
(1)
.
(قَالَ) عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما (قَالَ لِي رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ) قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: لم أقف على تسميته في شىء من الطرق، وكأن إبهام مثل هذا لقصد الستر عليه، كالذي تقدّم قريبًا في الذي نام حتى أصبح، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد شخصًا معيّنًا، وإنما أراد تنفير عبد اللَّه بن عمرو من الصنيع المذكور انتهى. (كَانَ يَقُوم اللَّيْلَ) ووقع عند البخاريّ بلفظ" "كان يقوم من الليل"، فقال في "الفتح": أي بعض الليل، وسقط لفظ "من" من رواية الأكثرين، وهي مرادة. قال ابن العربيّ رحمه الله: في هذا الحديث دليل على أن قيام الليل ليس بواجب، إذ لو كان واجبًا لم يكتف لتاركه بهذا القدر، بل كان يذمه أبلغ الذمّ. انتهى.
(فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ") الظاهر أن تركه ذلك كان من غير عذر، لأنه لو كان لعذر لما ذُمّ بتركه، بل ثبت أنه يكتب له أجره، لما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ، أَوْ سَافَر، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا، صَحِيحًا".
وكأنه صلى الله عليه وسلم يُرغّب عبد اللَّه بن عمرو في الاقتصاد في العبادة، وعدم التشديد على نفسه بتكليفها ما لا تستطيع القيام به، لأن ذلك يؤدي إلى تركها، فيكون مثل هذا الرجل المذموم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:
أخرجه هنا-59/ 1763 وفي "الكبرى" 8/ 1303 - بالإسناد المذكور. وفي 59/
(1)
- "فتح" ج 3 ص 349.
1764 و"الكبرى" 8/ 1304 - بالإسناد الآتي، إن شاء اللَّه تعالى تعالى.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (خ) 2/ 68/ (م) 3/ 164 (ق) 1331 (أحمد) 2/ 170 (ابن خزيمة) 1129 واللَّه أعلم.
المسألة الرابعة: فى فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو ذمّ من ترك قيام الليل من غير عذر.
ومنها: عدم وجوب قيام الليل، كما تقدم في كلام ابن العربيّ -رحمه اللَّه تعالى-.
ومنها: جواز ذكر الشخص بما فيه من عيب لقصد التحذير من صنيعه. ومنها: استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من الخير، من غير تفريط. ومنها: كراهة قطع العبادة، وإن لم تكن واجبة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1764 -
أَخْبَرَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَكُنْ يَا عَبْدَ اللَّهِ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» .
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(الحارث بن أسد) بن مَعْقل الهَمْدانيّ -بفتح، فسكون- أبو الأسد المصريّ، ثقة [11].
روى عن بِشْر بن بَكْر. وعنه النسائيّ، وابن جُوصَا، وأبو بكر بن أبي داود، وإبراهيم بن ميمون. قال النسائيّ: ثقة. وقال ابن يونس: توفي لسبع بقين من ربيع الأول، سنة (256) انفرد به المصنف بهذا الحديث فقط.
2 -
(بشر بكر) التِّنِّسيّ، أبو عبد اللَّه البجليّ، دمشقيّ الأصل، ثقة يُغْرب [9].
وثقه أبو زرعة، والعجليّ، والعُقيليّ، وابن حبان، والدارقطنيّ، وقال مرّة: ليس به بأس، ما علمت إلا خيرًا. وقال أبو حاتم: ما به بأس. وقال الحاكم: مأمون. وقال مسلمة بن قاسم: روى عن الأوزاعيّ أشياء انفرد بها، وهو لا بأس به إن شاء اللَّه. ولد سنة (124) ومات سنة (200) وقيل: توفي بدمياط في ذي القعدة سنة (205) روى له البخاريّ، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وله عند المصنف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
3 -
(عمر بن الحكم بن ثوبان) الحجازيّ، أبو حفص المدنيّ، صدوق [3].
قال ابن معين: هو عمّ عبد الحميد بن جعفر، وهو ابن الحكم بن سنان. وقال غيره: هما اثنان. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: وكان من جلّة أهل المدينة، وهو عمر بن الحكم ابن أبي الحكم، واسم أبي الحكم ثوبان، من ولد فِطْيون مَلِك يَثْرب، حليف الأوس. وقال ابن سعد: عمر بن الحكم بن أبي الحكم، وهو من بني عمرو بن عامر، من ولد الفِطْيون، وهم حلفاء الأوس، يكنى أبا حفص، وكان ثقة، وله أحاديث صالحة. قال يحيى بن بكير: مات سنة (117) وله (80) سنة. عَلّق عنه البخاريّ، وأخرج له الباقون، سوى الترمذيّ، وله عند المصنف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
والباقون تقدموا في الذي قبله.
[تنبيه]: وقع في نسختي "المجتبى" المطبوعتين "عَمْرو بن الحكم" بفتح العين، وسكون الميم، وهو تصحيف، والصواب ما في "الهندية" أنه "عمر بن الحكم" بضم العين، وفتح الميم، وهو الذي في "السنن الكبرى"، وكتب الرجال، فتنبّه. وباللَّه تعالى التوفيق.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا بيان الاختلاف على الأوزاعيّ، فقد روى عبد اللَّه بن المبارك في الإسناد الماضي عنه عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، وروى بشر بن بكر في هذه الرواية عنه، عن يحيى، عن عمر بن الحكم بن ثوبان، عن أبي سلمة، فأدخل عمر بن الحكم واسطة بين يحيى، وأبي سلمة. وظاهر صنيع البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" ترجيح رواية يحيى، عن أبي سلمة بغير واسطة، وأن إدخال عمر بينهما من المزيد في متّصل الأسانيد، لأن يحيى قد صرّح بسماعه من أبي سلمة، كما تقدّم، ولو كان بينهما واسطة لم يصرّح بالتحديث. وظاهر صنيع مسلم عكسه، لأنه اقتصر على الرواية الزائدة، والراجح عند أبي حاتم والدارقطنيّ، وغيرهما صنيع البخاريّ.
وقد تابع كلّا من الراويين جماعة من أصحاب الأوزاعيّ، فالاختلاف منه، وكأنه كان يحدث به على الوجهين، فيُحمَل على أن يحيى حمله عن أبي سلمة بواسطة، ثمّ لقيه، فحدّثه به، فكان يرويه عنه على الوجهين. أفاده الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
"فتح" جـ3 ص 350.
60 - بَابُ وَقْتِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَذِكْرِ الاخْتِلَافِ عَلَى نَافِعٍ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف على نافع -رحمه اللَّه تعالى- أن عبد الحميد بن جعفر رواه عنه، عن صفيه، عن حفصه - رضي اللَّه تعالى عنها - فخالف بذلك الجماعة الذين رووه عنه، عن ابن عمر، عن حفصة رضي الله عنهم. والجماعة هم: يحيى بن أبي كثير، وعمر بن نافع، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وموسى بن عقبة، ومالك بن أنس، وعبيد اللَّه العمري، وجويرية بن أسماء، وزيد بن محمد، والليث بن سعد، فهؤلاء تسعة كلهم رووه عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة رضي الله عنهم، فرواية عبد الحميد مخالفًا لهم تكون شاذّة مردودة، وقد تابع نافعًا سالمُ بن عبد اللَّه بن عمر في روايته عن ابن عمر، عن حفصة، كما سيذكره المصنف، وذكر أيضًا حديث عائشة رضي الله عنها في ذلك، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما وأعلّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1765 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ صَفِيَّةَ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ، رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن إبراهيم البصريّ) أبو جعفر المؤذّن، صدوق [10] 66/ 82.
2 -
(خالد بن الحارث) الهجيميّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.
3 -
(عبدالحميد بن جعفر) الأنصاريّ المدني، صدوق رمي بالقدر، وربما وهم [6] 26/ 914.
4 -
(صفيّة) بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفيّة، امرأة ابن عمر، رأت عمر بن الخطاب، وحكت عنه، ثقة [2].
وثقها العجليّ، وابن حبان، وذكرها ابن عبد البرّ في الصحابيات. وقال ابن منده: أدركت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصحّ لها منه سماع. وقال الدارقطنيّ: لم تُدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الواقديّ، عن موسى بن ضمرة بن سعيد المازنيّ عن أبيه، أن عبد اللَّه بن عمر تزوّجها في خلافة أبيه. علّق لها البخاريّ، وأخرج لها الباقون سوى الترمذيّ، لها عند المصنف ثلاثة أحاديث: هذا، و 3503 و 3504 حديث لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه
…
" الحديث، و 5340 حديث: "يرخين شبرًا
…
" الحديث.
والباقيان تقدما قريبًا.
والحديث متفق عليه
(1)
، وقد تقدم تمام البحث فيه في 39/ 583. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1766 -
أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإِقَامَةِ، مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: كِلَا الْحَدِيثَيْنِ عِنْدَنَا خَطَأٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(شعيب بن شعيب بن إسحاق) الدمشقيّ، توفي أبوه، وهو حمل، فسمي باسمه، صدوق [11].
وثقه النسائيّ، ومسلمة بن قاسم، وقال ابن أبي حاتم: صدوق. وقال عمرو بن دُحيم: مات سنة (264) في جمادى الأولى، وكان مولده في المحرّم سنة (190) انفرد به المصنّف، له عنده ستة أحاديث.
2 -
(عبد الوهّاب) بن سعيد بن عطيّة السلميّ، أبو محمد الدمشقيّ المفتي المعروف بوهب، صدوق [10].
ذكره ابن حبّان في "الثقات". مات سنة (213) انفرد به المصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنف في هذا الكتاب أربعة أحاديث.
3 -
(شعيب بن إسحاق) بن عبدالرحمن بن عبد اللَّه بن راشد الأمويّ مولاهم البصريّ، ثم الدمشقيّ، ثقة رُمي بالإرجاء، من كبار [9].
قال أبو طالب، عن أحمد: ثقة، ما أصحّ حديثه، وأوثقه. وقال أبو داود: ثقة، وهو مرجىء، سمعت أحمد يقول: سمع من سعيد بن أبي عروبة بآخر رَمَق. وقال ابن معين، ودُحيم، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. ونقل الباجيّ، عن أبي حاتم، قال: شعيب بن إسحاق ثقة مأمون. وقال الوليد بن مسلم: رأيت الأوزاعيّ يُقرّبه، وُيدنيه. قال دُحيم: ولد سنة (18) ومات سنة (189) وكذا أرّخه ابن مصفّى، وزاد: في رجب. وفيها أرّخه غير واحد. روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله عند المصنف في هذا الكتاب تسعة عشر حديثًا.
والباقون تقدّموا قريبًا. و"يحيى" شيخ الأوزاعيّ: هو ابن أبي كثير.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وقوله: "كلا الحديثين عندنا خطأ". أما بالنسبة للحديث الأول، فظاهر، فإن عبد الحميد بن جعفر خالف الحفّاظ من أصحاب نافع،
(1)
لكنه بهذا السند معلول، كما سينبه عليه المصنف رحمه الله بعد الرواية التالية.
كيحيى بن أبي كثير، ومالك، وعمر بن نافع، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وغيرهم، فجعله عن صفية، عن حفصة، وهم جعلوه، عن ابن عمر، عن حفصة رضي الله عنها.
وأما بالنسبة للحديث الثاني، فلم يظهر لي وجه الخطإ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجعِ والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1767 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا
(1)
يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكَعُ، بَيْنَ النِّدَاءِ وَالصَّلَاةِ، رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.
"إسحاق بن منصور": هو الكوسج. و"يحيى" شيخه: هو ابن سعيد القطّان. و"يحيى" الثاني: هو ابن أبي كثير.
والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1768 -
أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -يَعْنِي ابْنَ حَمْزَةَ- قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: هُوَ وَنَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُصَلِّي بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإِقَامَةِ، رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ.
رجال هذا الإسناد: ثمانية، كلهم تقدموا قريبًا، إلا اثنين:
1 -
(هشام بن عَمّار) بن نُصير الدمشقيّ الخطيب، صدوق مقرىء، كبر، فصار يتلقّن، فحديثه القديم أصح، من كبار [10] 134/ 202.
2 -
(يحيى بن حمزة) بن واقد الحضرميّ، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضي، ثقة رمي بالقدر [8].
وثقه ابن معين، وأبو داود، والنسائي، وهشام بن عمار، والعجليّ، ويعقوب بن شيبة، وابن حبان. وقال ابن معين: كان قدريًا، وكان صدقة بن خالد أحبّ إليهم منه.
وعن أحمد: ليس به بأس. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث صالحه. مات سنة (183) روى له الجماعة، وله عند المصنف سبعة عشر حديثًا.
و"أبو سلمة": هو ابن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ المشهور.
وقوله: "ركعتي الفجر" بدل من "ركعتين".
والحديث متفق عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1769 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ، أَنَّ حَفْصَةَ حَدَّثَتْهُ، أَنَّ
(1)
- وفي نسخة: "حدثني".
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإِقَامَةِ، مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ.
"هشام": هو الدستوائي البصريّ.
وقوله: "من صلاة الصبح" متعلق بحال مقدّر من النداء والإقامة، أي حال كونهما واقعين من أجل صلاة الصبح.
والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1770 -
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ، قَالَ: إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يحيى بن محمد) بن السَّكَن بن حبيب القرشيّ البزّاز، أبو عبيد اللَّه، ويقال: أبو عُبيد البصريّ، نزيل بغداد، صدوق [11].
قال النسائيّ: ليس به بأس، وقال في موضع آخر: ثقة. وقال صالح بن محمد: لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان راويا لمحمد بن جهضم. وقال مسلمة: بصريّ صدوق. وقال إسحاق في "مشيخته": رأيت عنده عن ريحان بن سعيد، عن عباد بن منصور، عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن داود بن حُصين، عن عكرمة، عامتها مناكير. روى عنه البخاريّ، وأبو داود، والمصنف، وله عنده أربعة أحاديث.
2 -
(محمد بن جهضم) بن عبد اللَّه الثقفيّ، أبو جعفر البصريّ، خراسانيّ الأصل، صدوق [10].
قال أبو زرعة: صدوق، لا بأس به. وذكره ابن حبّان في "الثقات". أخرج له الجماعة، سوى الترمذيّ، وابن ماجه، وله عند المصنف أربعة أحاديث فقط.
3 -
(إسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارىء المدنيّ، ثقة ثبت [8] 16/ 17.
4 -
(عمر بن نافع) العدويّ مولى ابن عمر المدنيّ، ثقة [6].
قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: هو من أوثق ولد نافع. وقال أبو داود: قال أحمد ابن حنبل: هو عندي مثل العُمَريّ، قال أبو داود: هو عندي فوق العمريّ. وقال ابن معين، وأبو حاتم: ليس به بأس. وقال النسائيّ: ثقة. وقال ابن المدينيّ، عن ابن عُيينة: قال لي زياد بن سعد حين أتينا عمر: هذا أحفظ ولد نافع، وحديثه عن نافع صحيح. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن عديّ: لا بأس به.
أخرج له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله عند المصنف أربعة أحاديث فقط.
والباقون تقدّموا قريبًا.
وقوله: "قال: إسماعيل حدثنا عن عمر الخ" فاعل "قال" ضمير محمد بن جهضم، و"إسماعيل" مبتدأ، وجملة "حدثنا" خبره، والجملة مقول "قال"، و"عن عمر بن نافع" متعلّق بى "حدثنا". والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1771 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا
(1)
إِسْحَاقُ بْنُ الْفُرَاتِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا نُودِىَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمد بن عبد اللَّه بن عبدالحكم) الفقيه المصريّ، ثقة [11] 120/ 166.
2 -
(إسحاق بن الفُرَات) بن الجَعْد بن سُليم التُّجِيبيّ الكِنْديّ، أبو نُعيم المصريّ، مولى معاوية ابن حُدَيج، ولي قضاء مصر، صدوق فقيه [9].
قال أبو عوانة الإسفرايينيّ: ثقة. وقال أحمد يحيى بن الوزير: كان من أكابر أصحاب مالك، ولقي أبا يوسف، وأخذ عنه، وكان يتخيّر في الأحكام. قال: وسمعته يقول: ولدت سنة (135) وقال بحر بن نصر: سمعت ابن عُليّة
(2)
يقول: ما رأيت ببلدكم أحدًا يُحسن العلم إلا إسحاق بن الفرات. وقال ابن عبد الحكم: ما رأيت فقيهًا أفضل منه، وكان عالمًا. وقال أبو حاتم: شيخ ليس بالمشهور. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: ربما أغرب. وقال أحمد بن سعيد الهَمْدانيّ: قرأ علينا إسحاق بن الفُرات "الموطأ" بمصر من حفظه، فما أسقط حرفًا فيما أعلم. وعن ابن عبد الحكم، قال: قال لي الشافعيّ: أشرت على بعض الولاة أن يولّي إسحاق بن الفُرات القضاء، وقلت: إنه يتخيّر، وهو عالم باختلاف من مضى. وقال عبد الحقّ في "الأحكام": إسحاق ضعيف. وقال السليمانيّ: إسحاق بن الفرات منكر الحديث. وقال ابن يونس: كان فقيهًا ولي القضاء بمصر خليفة لمحمد بن مسروق الكنديّ، وفي أحاديثه أحاديث كأنها منقلبة، توفي بمصر لليلتين خلتا من ذي الحجّة سنة (204) انفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط.
3 -
(يحيى بن أيوب) الغافقيّ، أبو العبّاس المصريّ، صدوق ربما أخطأ [7].
قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: سيء الحفظ، وهو دون حيوة، وسعيد بن أيوب. وعن ابن معين: صالح، وقال مرّة: ثقة. وقال أبو حاتم: محله الصدق، يُكتب حديثه،
(1)
- وفي نسخة: "أخبرنا".
(2)
- ذكر أبو عمر الكندي المصريّ أنه إبراهيم بن إسماعيل ابن علية، فإنه كان بمصر في ذلك العصر، وأما أبوه فلا يحفظ عنه هذا. اهـ تت 1ص 126.
ولا يحتجّ به. وقال أبو داود: هو صالح. وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال مرّة: ليس بالقويّ. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الترمذيّ، عن البخاري: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: كان ثقة حافظًا. ووثقه إبراهيم الحربيّ. وقال الساجيّ: صدوق يَهِم، كان أحمد يقول: يحيى بن أيوب يخطىء كثيرًا. وقال الحاكم أبو أحمد: إذا حدث من حفظه يُخطىء، وما حدّث من كتاب فليس به بأس. وقال ابن عديّ: لا أرى في حديثه إذا روى عن ثقة حديثًا منكرًا، وهو عندي صدوق لا بأس به. وقال الدارقطنيّ: في بعض حديثه اضطراب. مات سنة (168) أخرج له الجماعة.
4 -
(يحيى بن سعيد) الأنصاريّ المدني، ثقة ثبت [5] 22/ 23.
والباقون تقدموا قريبًا.
والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1772 -
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ
(1)
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عبد اللَّه بن إسحاق) الجوهريّ، أبو محمد البصريّ، مستملي أبي عاصم، يلقّب بدْعَة -بكسر الموحدة، وسكون المهملة- ثقة
(2)
حافظ [11].
قالَ أبو حاتم: شيخ. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث. قال إبراهيم بن محمد الكنديّ: مات سنة (257)، وكذا أرّخه ابن قانع، وقال: كان حافظًا. روى له الأربعة، له عند المصنف حديثان فقط.
2 -
(أبو عاصم) الضحاك بن مَخْلَد النبيل الكوفيّ الحافظ الثبت [9] 19/ 424.
3 -
(ابن جُريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكيّ الفقيه الثقة [6] 28/ 32.
4 -
(موسى بن عُقبة) المدني، ثقة فقيه إمام في المغازي [5] 96/ 122. والباقون تقدموا قريبًا. والحديث متفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1773 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
(3)
ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
(1)
- وفي نسخة: "عن حفصة أن رسول اللَّه".
(2)
- هكذا في "ت" ثقة حافظ، والذي يظهر أنه صدوق، حافظ، كما يتبين من كلام الأئمة المذكورين بعده من "تت".
(3)
وفي نسخة: "أخبرنا"، وفي أخرى":"أنبأنا".
كَانَ إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ، مِنَ الأَذَانِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَبَدَا الصُّبْحُ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ.
"محمد بن سلمة": هو المراديّ المصريّ. و"ابن القاسم": هو عبد الرحمن بن القاسم العُتَقيّ المصريّ. و"مالك": هو إمام دار الهجرة.
وقوله: "وبدا الصبح" بلا همزة: أي ظهر، وتبيّن، أو بهمزة، أي شرع في الطلوع، والأول هو المشهور. والحديث متفق عليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1774 -
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُخْتِي حَفْصَةُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْفَجْرِ، رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.
"إسماعيل بن مسعود": هو الجحدريّ البصريّ. و"خالد بن الحارث": هو الهجيميّ البصريّ. و"عُبيد اللَّه": هو ابن عمر العمريّ.
وقوله: "قبل الفجر"، أي قبل صلاة الفجر، وليس المراد أنه يصليهما قبل طلوع الفجر.
والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1775 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ.
"محمد بن عبد اللَّه بن يزيد": أبو يحيى المكيّ، ثقة [10] 11/ 11 و"أبوه": هو عبد اللَّه بن يزيد المقرئ، أبو عبد الرحمن المكيّ، ثقة فاضل [9] 4/ 746. و"جويرية" ابن أسماء الضبعيّ البصريّ، صدوق [7] 197/ 315.
والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1776 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، لَا يُصَلِّي إِلاَّ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.
هذا الحديث تقدّم سندًا ومتنًا برقم 39/ 583 في باب "الصلاة بعد طلوع الفجر".
و"أحمد بن عبد اللَّه بن الحكم": هو المعروف بابن الكُرْديّ البصريّ، ثقة [10] 39/ 583. و"محمد بن جعفر": هو المعروف بغُندر البصريّ ربيب شعبة. و"زيد بن محمد" بن عبد اللَّه ابن عمر بن خطاب، ثقة [7] 39/ 583.
والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1777 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ إِذَا نُودِىَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، خَفِيفَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ يَقُومَ إِلَى الصَّلَاةِ.
وَرَوَى سَالِمٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وتقدم سندًا ومتنا قبل بابين. وقوله:(وَرَوَى سَالِمٌ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ) أشار به إلى أن هذا الحديث لم ينفرد به نافع، وإن كان أكثر الرواة رووه من طريقه، بل رواه أيضًا سالم بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب عن أبيه، عن حفصة صلى الله عليه وسلم، كما بينه بقوله:
1778 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
(1)
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: ابْنُ عُمَرَ
(2)
، أَخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: و"إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. وقوله: "قبل الفجر": أي قبل صلاة الفجر.
والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
ثم ذكر طريقًا آخر لرواية سالم، فقال:
1779 -
أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا أَضَاءَ لَهُ الْفَجْرُ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وتقدم قبل باب سندا ومتنًا، رواه عن شيخه محمد منصور. و"الحسين بن عيسى": هو القُومَسيّ، صدوق صاحب حديث [10] 69/ 86. و"سفيان ": هو ابن عيينة. و "عمرو": هو ابن دينار. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
ثم بيَّن المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بأن الحديث لم تنفرد به حفصة رضي الله عنها، بل روته أيضا عائشة رضي الله عنها فقال:
1780 -
أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى،
(1)
- وفي نسخة: "أنبأنا".
(2)
- وفي نسخة: "عن أبيه قال".
قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، خَفِيفَتَيْنِ، بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإِقَامَةِ، مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وتقدم تمام البحث عنه قبل خمسة أبواب 55/ 1756 و "محمود بن خالد": هو أبو عليّ الدمشقيّ، ثقة [10] 45/ 595. و"الوليد": هو ابن مسلم الدمشقي تلميذ الأوزاعيّ. و"أبو عمرو": هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي الإمام المشهور. و"يحيى": هو ابن أبي كثير. و"أبو سلمة": هو ابن عبد الرحمن بن عوف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1781 -
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ، عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي ثَمَانَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يُوتِرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ، فَرَكَعَ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، بَيْنَ الأَذَانِ
(1)
وَالإِقَامَةِ، فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "خالد": هو ابن الحارث الهُجَيميّ. و"هشام": هو الدستوائيّ.
والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1782 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَثَّامُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي
(2)
رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ، إِذَا سَمِعَ الأَذَانَ، وَيُخَفِّفُهُمَا.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أحمد بن نصر) بن زياد النيسابوريّ الزاهد المقرىء، أبو عبد اللَّه بن أبي جعفر، ثقة فقيه حافظ [11].
قال أحمد بن سيّار، وابن خزيمة: كان ثقة صاحب سنة، محبّا لأهل الخير، كتب العلم، وجالس الناس.
وقال الحاكم: كان فقيه أهل الحديث في عصره، وهو كثير الرحلة، وعنده تفقّه محمد بن إسحاق بن خزيمة قبل خروجه إلى مصر. وقال أبو أحمد الفرّاء: ثقة مأمون. وقال النسائيّ: ثقة. وقال الخليليّ: ثقة متفق عليه، وقال أبوحاتم، وأبو زرعة:
(1)
- وفي نسخة: "النداء".
(2)
- وفي نسخة: "يركع".
أدركناه، ولم نكتب عنه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من خيار عباد اللَّه، وأصلب أهل بلده في السنّة، ومنه تعلّم ابن خزيمة أصل السنة. مات سنة (254) في ذي القعدة. انفرد به الترمذيّ، والمصنّف، وروى عنه البخاريّ، ومسلم في غير "الصحيحين"، وله عند المصنف في هذا الكتاب سبعة أحاديث.
2 -
(عمرو بن محمد) الْعَنْقَزيّ
(1)
أبو سعيد الكوفيّ، ثقة [9].
وثقه أحمد، والنسائيّ: ثقة، وقال ابن معين: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجليّ: ثقة، جائز الحديث. وقال البخاريّ: قال أحمد بن نصر: مات سنة (199) علق عنه البخاريّ، وأخرج له الباقون، وله عند المصنف في هذا الكتاب أربعة أحاديث.
3 -
(عَثّام بن عليّ) بن هجَير العامريّ الكلابيّ، أبو عليّ الكوفيّ، صدوق، من كبار [9] 97/ 1355.
والباقون تقدموا غير مرّة.
وقوله: "هذا حديث منكر"، قلت: الظاهر أن وجه نكارته كونه من مسند ابن عباس، فقد رواه حبيب بن أبي ثابت، وهو معروف بالتدليس، والحديث معروف من رواية حفصة وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنهما -، فلعل حبيبًا أخذه من ضعيف، أخطأ في سنده، فجعله من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، فدلسه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1783 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
(2)
عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
(3)
يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
(4)
السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّ شُرَيْحًا الْحَضْرَمِيَّ، ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَتَوَسَّدُ الْقُرْآنَ» .
رجال هذا الإسناد: خمسة: تقدّموا قريبًا، سوى:
1 -
(السائب بن يزيد) الكنديّ، صحابيّ صغير ابن صحابي، له أحاديث قليلة، وحُجّ به في حجة الوداع، وهو ابن سبع سنين، وولاه عمر سوق المدينة، توفي سنة (91، وقيل: قبل ذلك، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة، تقدّم 15/ 1392. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
- "العَنْقَزيّ": بفتح المهملة، والقاف، بينهما نون ساكنة، وبالزاي، قال ابن حبّان: كان يبيع العَنْقَز، فنُسب إليه، والعنقز المرْزِنْجُوش. اهـ "تت".
(2)
- وفي نسخة: "حدثنا"، وفي أخرى:"أنبأنا".
(3)
- وفي نسخة: "أنبأنا".
(4)
- وفي نسخة: "أخبرني".
شرح الحديث
(عَنِ الزُّهْرِيِّ) أنه (قَالَ: أَخبَرَنِي السَّائِبُ بنُ يَزِيدَ) رضي الله عنه (أَنَّ شُرَيْحًا الْحَضْرَميَّ) قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ رحمه الله في "الاستيعاب": شُريح الحضرميّ كان من أفضل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم أخرج حديث الباب من طريق يحيى بن آدم، عن ابن المبارك انتهى
(1)
(ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَتَوَسَّدُ الْقُرْآنَ) وفي رواية أحمد: "ذاك رجل لا يتوسّد القرآن".
و"القرآن" بالنصب على المفعولية، قال في "الصحاح": وشدته الشيء -أي بتشديد السين- فتوسّده: إذا جعله تحت رأسه. قال ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى-: يحتمل أن يكون مدحًا، وذمًا، فأما المدح، فمعناه أنه لا ينام الليل عن القرآن، ولكن يتهجّد به
(2)
، ولا يكونَ القرآن مُتَوسَّدًا معه، بل هو يُداوم قراءته، ويحافظ عليها، والذمّ معناه لا يحفظ من القرآن شيئًا، ولا يديم قراءته، فإذا نام لم يتوسّد معه القرآنُ
(3)
، وأراد بالتوسد النوم انتهى
(4)
.
وفي "ق"، وشرحه: قال ابن الأعرابي: يحتمل كونه مدحًا، أي لا يمتهنه، ولا يطرحه، بل يُجلّه، ويُعظّمه، أي لا ينام عنه، ولكن يتهجّد به، ولا يكونُ القرآن متوسِّدًا معه، بل هو يُداوم قراءته، ويُحافظ عليها، لا كمن يتهاون به، وُيخلّ بالواجب، من تلاوته، وضَرَبَ توسّده مثلاً للجمع بين امتهانه، والاطراح له، ونسيانه.
ويحتمل كونه ذمًا، أي لا يُكبّ على تلاوته، وإذا نام لم يكن معه من القرآن شيء، مثل إكباب النائم على وساده، فإن كان حَمِدَه فالمعنى هو الأول، وإن كان ذمّه فالمعنى هو الآخر. قال أبو منصور: وأشبههما أنه أثنى عليه، وحَمِدَه انتهى
(5)
. واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا 60/ 1783 - وفي "الكبرى" 8/ 1305 - بالسند المذكور، وأخرجه أحمد 3/ 449. ثم إنه لم يظهر لي وجه إيراد المصنف له
(1)
- "الاستيعاب" ج 5 ص 69 - 70 بهامش نسخة "الإصابة".
(2)
- عبارة "النهاية""ولا يتهجد به، فيكون القرآن متوسّدا معه"، والذي أثبته هو عبارة "لسان العرب"، والظاهر أن عبارته أوضح.
(3)
- مقتضى هذا أن توسّد لازم، والقرآن مرفوع على الفاعلية، والتقدير لا يتوسّد القرآنُ، أي لا ينام معه.
(4)
- "النهاية" ج 5 ص 183.
(5)
- راجع "ق" و"التاج" ج 2 ص 534.
في هذا الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
61 - بَابُ مَنْ كَانَ لَهُ صَلَاةٌ بِاللَّيْلِ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا النَّوْمُ
(1)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "باب" يحتمل تنوينه، وعدمه، و"من" اسم موصول مبتدأ خبره محذوف يدلّ عليه الحديث، أي كتب له أجر صلاته، ويحتمل أن تكون شرطية، حذف جوابها كذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1784 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ رِضًى، أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَا مِنِ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ، إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قتيبة بن سعيد) الحافظ الثبت [10] 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة الثبت [7] 7/ 7.
3 -
(محمد بن المنكدر) التيميّ المدنيّ، ثقة فاضل [3] 103/ 138.
4 -
(سعيد بن جُبير) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 28/ 436.
5 -
(رجل رضي) سيأتي في الباب التالي أنه الأسود بن يزيد، إن صحّ.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابن المنكدر، عن سعيد بن جبير، عن الرجل الرضي، وهو الأسود بن يزيد، على ما قيل، ورواية الأولين من رواية الأقران. ومنها: أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، وكانت من المشهورين بالفتوى. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
- وفي نسخة: "فيغلبه".
شرح الحديث
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرِ، عَن رَجُلٍ عِنْدَهُ رِضًى) يحتمل أن يكون بفتح الراء، وكسر الضاد المعجمة، فَعيل، بمعنى مفعول، أي مرضي عند سعيد بن جُبير، ويحتمل أن بكسر الراء، وفتح الضاد، بصيغة المصدر
(1)
، وُصف به مبالغة، كما يقال: رجل عَدْل، وهذا المبهم سيأتي في الباب التالي أنه الأسود بن يزيد (أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها) زاد في رواية "الموطإ":"زوج النبي صلى الله عليه وسلم "(أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَا) نافية (مِنِ) زائدة (امْرِىءٍ) مجرور لفظًا، مرفوع على أنه اسم "ما" إن جُعلت حجازيّة، وعلى الابتداء، إن جُعلت تميمية (تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ) وفي نسخة "بالليل"(فَغَلَبَهُ، عَلَيْهَا نَوْمٌ) أي ليس شخص يتعوّد صلاة الليل، فمنعه نوم من أدائها.
قال الباجيّ رحمه الله: هو على وجهين: أحدهما أن يذهب به النوم، فلا يستيقظ. والثاني أن يستقيظ، ويمنعه غلبة النوم من الصلاة، فهذا حكمه أن ينام، حتى يذهب عنه مانع النوم انتهى (إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاِتهِ) أي أجر صلاته التي اعتادها، فغلبه النوم عنها في بعض الأوقات، فإن اللَّه تعالى يتفضل اللَّه عليه بكتابة أجره الذي يكتب له على صلاته بسبب نيته الصالحة.
قال السنديّ رحمه الله: يفيد أنه يكتب له الأجر، وإن لم يقض، فما جاء من القضاء، فللمحافظة على العادة، ولمضاعفة الأجر، واللَّه تعالى أعلم انتهى
(2)
.
وقال الباجيّ رحمه الله: وذلك يحتمل أن له أجرها غير مضاعف، ولو عملها لضوعف أجرها، إذ لا خلاف أن المصلي أكمل حالاً. ويحتمل أنه يريد أجر نيته، وأن له أجر من تمنى أن يصلي تلك الصلاة، أو أجر تأسفه على ما فاته منها. قال الزرقاني رحمه الله: واستظهر غيره الأول، أي أجر نيته، لا سيما مع قوله:"وكان نومه عليه صدقة". انتهى
(3)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الاحتمالات التي ذكرها الباجي بعيدة عن ظاهر النص، فلا يلتفت إليها، فالصواب أن ما دلّ عليه ظاهر النصّ من أن اللَّه تعالى يكتب له أجر صلاته كاملة هو المعوّل عليه، فتبصّر، ولا تتحيَّر. وسيأتي عن القرطبي ترجيح ما دلّ عليه ظاهر النصّ بعد ثلاثة أبواب إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم.
(وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ") قال الباجيّ: يعني أنه لا يحتسب به، ويكتب له أجر المصلين. وقال ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: في هذا الحديث ما يدلّ على أن المرأ
(1)
- هذا من غير ملاحظة كتابته، وإلا فحقّ المصدر أن يُكتب بالألف، لا بالياء، كما هو القاعدة في الواويّ، فتنبّه.
(2)
- "شرح السنديّ" ج 3 ص 257 - 258.
(3)
- "شرح الزرقاني" على "الموطإ" ج 1 ص 241.
يُجازَى على ما نوى من الخير، وإن لم يعمله، كما لو عمله، فضلاً من عند اللَّه تعالى، إذا لم يحبسه عنه شغل دنيا، مباحًا، أو مكروهًا، وكان المانع له عذرًا من اللَّه، لا ينفكّ منه، قال: وهذا تفضل من اللَّه على عباده المؤمنين، يُجازيهم بما وفّقهم له، إذا عملوه، وإن حال دون العمل حائل جازى صاحبه على النيّة فيه.
ثم ذكر بإسناده قوله صلى الله عليه وسلم: "نية المؤمن خير من عمله، ونيّة الفاجر شرّ من عمله، وكلّ يعمل على نيته"
(1)
.
قال: ومعنى هذا الحديث -واللَّه أعلم- أن النيّة بغير عمل خير من العمل بلا نية، وتفسير ذلك أن العمل بلا نيّة لا يُرفع، ولا يصعد، والنيّة الحسنة تنفع بلا عمل، ولا ينفع العمل بغير نيّة، ويحتمل أن يكون المعنى: نيّة المؤمن في الأعمال الصالحة أكثر مما يَقوَى عليه منها، ونية الفاجر في أعمال الشرّ أكثر مما يعمله منها، ولو أنه يعمل كلّما ينوي عَمَلَهُ من الشرّ أهلك الحرث والنسل انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا 61/ 1784 وفى "الكبرى"-76/ 1457 - بالإسناد المذكور. وفي 62/ 1785 و 62/ 1786 و"الكبرى" 77/ 1458 بالإسنادين الآتين. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (د) 1314 (مالك في الموطإ) 227 (أحمد) 6/ 63 و 6/ 180 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
62 - اسْمُ الرَّجُلِ الرَّضِيِّ
تقدم ضبط "الرضيّ"، ومعناه في الباب الماضي.
1785 -
أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
(1)
- حديث ضعيف.
(2)
- "الاستذكار" ج 5 ص 185 - 186.
الرَّازِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ صَلَاةٌ، صَلاَّهَا مِنَ اللَّيْلِ، فَنَامَ عَنْهَا، كَانَ ذَلِكَ صَدَقَةً، تَصَدَّقَ اللَّهُ عز وجل عَلَيْهِ، وَكَتَبَ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ» .
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أبو داود) بن سيف بن يحيى الحَرّانيّ، ثقة حافظ [11] 103/ 136.
2 -
(محمد بن سليمان) بن أبي داود، أبو عبد اللَّه الحرّانيّ، المعروف ببُومة -بضم الموحّدة، وسكون الواو- مولى مروان، واسم جدّه سالم، وقيل: عطاء، وقيل: إن أبا داود كنية أبيه، وهو صدوق [9].
قال النسائيّ: لا بأس به، وأبوه ليس بثقة، ولا مأمون. وقال أبو عوانة الإسفرايينيّ: حدثنا أبو داود الحرّانيّ، حدثنا محمد بن سليمان، ثقة. وقال مسلمة: ثقة. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (213) انفرد به المصنف، وله عنده حديثان فقط هذا، و 5591 حديث: "لا تنتبذوا في الدبَّاء
…
" الحديث.
3 -
(أبو جعفر الرّازيّ) عيسى بن أبي عيسى عبد اللَّه بن ماهان، صدوق سيّء الحفظ، خصوصًا عن مغيرة، من كبار [7] 47/ 1730.
4 -
(الأسود بن يزيد) النخعيّ الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه مخضرم [2] 29/ 33. والباقون تقدم الكلام عليهم في الذي قبله.
وقوله: "صلاها من الليل" جملة في محلّ رفع صفة لـ "صلاة"، يعني اعتاد صلاتها، و"من" بمعنى "في"، أو هي للتبعيض.
والحديث صحيح، وقد تقدم تمام البحث فيه فيما قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1786 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِي الْحَدِيثِ.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أحمد بن نصر) النيسابوريّ الزاهد الحافظ، تقدم قبل باب.
2 -
(يحيى بن أبي بُكير) نَسْر الكِرْمانيّ الكوفي الأصل، نزيل بغداد، ثقة [9] 115/ 1066.
والباقون تقدّموا في الذي قبله.
وقوله: "أبو جعفر الرازيّ" ليس بالقويّ فى الحديث، أشار به إلى تضعيف هذا الطريق، وهذا الذي قاله نقل عن غيره أيضًا، وقد تقدم في ترجمته-47/ 1730 - فعن أحمد، قال: ليس بقويّ في الحديث. وعن ابن معين، يكتب حديثه، ولكنه يخطىء.
وعن أبي زرعة: شيخ يهم كثيرًا. وعن ابن خراش: صدوق سيء الحفظ. وعن ابن حبّان: كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير، لا يُعجبني الاحتجاج بحديثه، إلا فيما وافق الثقات. وقال العجليّ: ليس بالقويّ. وقد تقدم نقل أقوال الموثقين له بالرقم المذكور، واقتصرت هنا على أقوال الجارجين لمناسبة كلام المصنف -رحمه اللَّه تعالى-.
وخلاصة القول فيه ما قاله الحافظ في "ت". صدوق سيء الحفظ خصوصًا عن مغيرة انتهى. فلا يُحتجّ به إلا إذا وافق الثقات، وأما إذا خالفهم، فتردّ روايته، وقد خالف هنا مالكًا، مع اضطرابه، فمرّةً سمى الرجل الرضيّ الأسود بن يزيد، ومرّة أسقطه من السند، فدلّ على أنه لم يحفظ الحديث، فيكون ضعيفًا. لكن الحديث صحيح، من رواية مالك. فإن قيل: في سنده مبهم، فكيف يصحّ؟
أجيب بأن له شواهد، كحديث أبي الدرداء، أو أبي ذرٍّ الآتي في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
63 - بَابُ مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ، وَهُوَ يَنْوِي الْقيَامَ، فَنَامَ
1787 -
أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ، وَهُوَ يَنْوِى أَنْ يَقُومَ، يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، حَتَّى أَصْبَحَ، كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ، مِنْ رَبِّهِ عز وجل» .
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(هارون بن عبد اللَّه) أبو موسى الحَمّال البغداديّ، ثقة [10] 50/ 62.
2 -
(حسين بن عليّ) الجعفيّ الكوفيّ المقرىء، ثقة عابد [9] 74/ 91.
3 -
(زائدة) بن قُدَامة الثقفيّ، أبو الصلت الكوفيّ، ثقة ثبت سنّيّ [7] 74/ 91.
4 -
(سليمان) بن مهران الأعمش الحافظ الحجة [5] 17/ 18.
5 -
(حبيب بن أبي ثابت) الكوفي، ثقة فقيه، كثير الإرسال، والتدليس [3] 121/ 170.
6 -
(عبدة بن أبي لبابة) الأسديّ، أو القرشيّ مولاهم، أبو القاسم البزّاز الكوفيّ، نزيل دمشق، ثقة [4] 85/ 1341.
7 -
(سُويد بن غَفَلَة) بفتح المعجمة، والفاء- ابن عَوْسَجَة بن عامر بن وَدَاع بن معاوية بن الحارث بن مالك بن عوف بن سعد بن عوف بن حريم بن جُعْفِيّ
(1)
بن سعد العشيرة، أبو أميّة الْجُعْفيّ الكوفيّ، مخضرم ثقة، من كبار التابعين [2].
أدرك الجاهليّة، وقد قيل: إنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصحّ، وقدم المدينة حين نُفِضت الأيدي من دفن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهذا أصحّ، وشهد فتح اليَرْمُوك.
قال ابن معين، والعجليّ: ثقة. وقال علي بن المدينيّ: دخلت بيت أحمد بن حنبل، فما شبّهت بيته إلا بما وُصف من بيت سُويد غَفَلَة في زُهده، وتواضعه. وقال علي والد الحسين الجعفي: كان سويد بن غفلة يؤمّنا في شهر رمضان في القيام، وقد أتى عليه عشرون ومائة سنة. وقال أبو نُعيم: مات سنة (80) وقال أبو عبيد القاسم بن سلاّم، وغير واحد: مات سنة (81) وقال عمرو بن عليّ، وغيره: سنة (82) وقال عاصم بن كُليب: بلغ ثلاثين ومائة سنة.
قال الحافظ: إن صحّ أنه لِدَةُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقد جاوزها. وذكره ابن قانع في "الصحابة"، وروى له حديثًا في إسناده ضعف. انتهى. روى له الجماعة، له عند المصنف ستة أحاديث.
8 -
(أبو الدرداء) عويمر بن زيد بن قيس، وقيل: غيره، الأنصاريّ، الصحابي الشهير رضي الله عنه 48/ 847 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف الإسناد:
(منها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه أربعة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن حبيب، عن عبدة، عن سويد. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَن أَبِي الدَّرْدَاءِ) رضي الله عنه (يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) من البلوغ، والباء للتعدية، و"النبيّ"
(1)
- "جعفيّ" ككرسيّ ابن سعد العَشيرة، أبو حيّ باليمن. اهـ "ق".
بالنصب على المفعولية، والجملة في محل نصب على الحال، أي حال كونه يبلغ بهذا الحديث النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه يرفعه، وهذه الجملة تستعمل فيما له حكم الرفع، كما تقدم غير مرّة (قَالَ) أي النبى صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ، وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ) جملة في محل نصب على الحال من الفاعل.
قال السنديّ رحمه الله: أي سواء كان القيام عادة له قبل ذلك، أو لا، فهذا الحديث أعمّ، ويحتمل أن يُخصّ بمن يعتاد ذلك انتهى (يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ) أي حال كونه مصليا في الليل (فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ) أي غلبه النوم، وفي نسخة:"عينه" بالإفراد (حَتَّى أَصْبَحَ) أي دخل في الصباح (كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى) أي أجر ما نوى، من الصلاة و (كَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ، مِنْ رَبِّهِ عز وجل) واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى- في درجته: حديث أبي الدرداء رضي الله عنه هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصح، وفي سنده حبيب بن أبي ثابت، وهو مُدَلِّس، وقد عنعنه؟
[قلت]: لم ينفرد به حبيب، بل تابعه شعبة بن الحجاج، كما سيأتي قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا-63/ 1787 وفي "الكبرى" 78/ 1459 - بالإسناد المذكور، وفي 63/ 1788 و"الكبرى" 78/ 1460 بالإسناد التالي. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (ق) 1344 (ابن خُزيمة) 1172 و 1173 و 1174 و 1175 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: "خالَفَهُ سُفْيَان" الضمير لحيبيب بن أبي ثابت، أي خالف سفيانُ الثوريّ حبيبَ بن أبي ثابت في رفع هذا الحديث، وفي الشكّ في الصحابي، هل هو أبو ذرّ، أو أبو الدرداء، كما بيّنه بقوله:
1788 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، مَوْقُوفًا.
و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك الإمام المشهور.
وقوله: "وأبى الدرداء" هكذا نسخ "المجتبى" بالواو، وهو تصحيف، والصواب "أو أبي الدرداء" بأو، وهو الذي في "الكبرى"، وغيره، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: زاد في "الكبرى" مع الثوريّ سفيانَ بن عيينة، ونصه:
خالفه سفيان الثوريّ، وسفيان بن عُيينة: أخبرنا سُويد بن نصر، قال: أنا عبد اللَّه، عن سفيان الثوريّ، عن عبدة، قال: سمعتُ سُويد بن غفلة.
وأخبرنا سويد، قال: أنا عبد اللَّه، عن ابن عُيينة، عن ابن أبي لبابة، عن سُويد بن غفلة، عن أبي ذرّ، أو عن أبي الدرداء موقوفًا انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حاصل مخالفة سفيان الثوريّ، وابن عيينة في هذا الحديث، أنهما روياه عن عبدة بن أبي لبابة، عن سويد بن غفلة، عن أبي ذرّ، أو عن أبي الدرداء بالشكّ، موقوفا، فخالفا حبيب بن أبي ثابت في الشكّ في الصحابيّ، وفي وقف الحديث.
والظاهر أن هذه المخالفة لا تضرّ برفع الحديث، لأنه لم ينفرد حبيب به، فقد تابعه شعبة، أخرجه ابن حيّان في "صحيحه"، من طريق مسكين بن بُكير، ثنا شعبة، عن عبدة بن أبي لبابة، عن سويد بن غفلة، أنه عاد زرّ بن حُبيش في مرضه، فقال: قال أبو ذرّ، أو أبو الدرداء -شكّ شعبة- قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما من عبد يحدّث نفسه بقيام ساعة من الليل، فينام عنها، إلا كان نومه صدقة، تصدّق اللَّه بها عليه، وكتب له أجر ما نوى".
والحاصل أن الحديث صحيح مرفوعًا، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: قال الإمام أبو بكر ابن خزيمة -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بعد أن أخرج الحديث من طريق حسين الجعفيّ: ما نصه:
هذا خبر لا أعلم أحدًا أسنده غير حسين بن عليّ، عن زائدة، وقد اختلف الرواة في إسناد هذا الخبر، فحدثنا يوسف بن موسى، نا جرير، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبدة بن أبي لبابة، عن زِرّ بن حُبيش، عن أبي الدرداء، قال:"من حدّث نفسه بساعة من الليل، يصليها، فغلبته عينه، فنام، كان نومه صدقة عليه، وكُتب له مثل ما أراد أن يصلي".
وهذا التخليط من عبدة بن أبي لبابة، قال مرّة:"عن زِرّ"، أو "عن سُويد".
ثنا سَلْمُ بن جُنَادة، ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبدة بن أبي لبابة، عن زِرّ بن حُبيش، أو عن سُويد بن غَفَلَة -شكّ عبدة- عن أبي الدرداء، أو عن أبي ذرّ، قال:"ما من رجل تكون له ساعة من الليل، يقومها، فينام عنها، إلا كتب اللَّه له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة، تصدّق بها عليه".
وعبدة رحمه الله قد بيّن العلّة التي شكّ في هذا الإسناد، أسمعه من زِرّ، أو من سُويد، فذكر أنهما كانا اجتمعا في موضع، فحدّث أحدهما بهذا الحديث، فشكّ مَنِ الْمُحَدِّث
(1)
- راجع "السنن الكبرى" للمصنف ج 1 ص 456 - 457.
منهما، ومن الْمُحَدَّث عنه؟.
ثنا بهذا عبد الجبّار بن العَلاء، ثنا سفيان، قال: حفظته من عبدة بن أبي لبابة، قال: ذهبت مع زرّ بن حُبيش، إلى سُويد بن غَفَلَة نعوده، فحدث سُويد، أو حدّث زرّ، وأكبر ظني أنه سويد، عن أبي الدرداء، أو عن أبي ذرّ، وأكبر ظنّي أنه عن أبي الدرداء، أنه قال:"ليس عبد يريد صلاة -وقال مرّة: من الليل- ثم ينسى، فينام، إلا كان نومه صدقة عليه من اللَّه، وكتب له ما نوى".
قال ابن خزيمة رحمه الله: فإن كان زائدة حفظ الإسناد الذي ذكره، وسليمان سمعه من حبيب، وحبيب من عبدة -فإنهما مدلسان- فجائز أن يكون عبدة حدّث بالخبر مرة قديمًا عن سُويد بن غفلة، عن أبي الدرداء، بلا شكّ، ثم شكّ بعدُ أسمعه من زرّ بن حُبيش، أو من سُويد؟ وهو عن أبي الدرداء، أو أبي ذرّ، لأن بين حبيب بن أبي ثابت، وبين الثوريّ، وابن عيينة من السنّ ما قد ينسى الرجل كثيرًا مما كان يحفظه، فإن كان حبيب بن أبي ثابت سمع هذا الخبر من عبدة، فيشبه أن يكون سمعه قبل أن يولد ابن عيينة، لأن حبيب بن أبي ثابت لعله أكبر من عبدة بن أبي لبابة، قد سمع حبيب بن أبي ثابت، من ابن عمر، واللَّه أعلم بالمحفوظ من هذه الأسانيد انتهى كلام ابن خزيمة -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن مثل هذا الشكّ لا يضرّ، لأن كلا منهما ثقة، وكذلك الشكّ في الصحابى لا يضرّ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
64 - كَمْ يُصَلِّي مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ، أَوْ مَنَعَهُ وَجَعٌ
1789 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا لَمْ يُصَلِّ مِنَ اللَّيْلِ، مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ نَوْمٌ، أَوْ وَجَعٌ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم الكلام عليه في 2/ 1601.
(1)
- "صحيح ابن خزيمة" ج 3 ص 195 - 198.
و "أبو عوانة": اسمه وضّاح بن عبد اللَّه الواسطي. و "زُرارة": هو ابن أوفى العامريّ الحَوَشيّ القاضي العابد الكوفيّ.
وقوله: "منعه من ذلك بوم الخ" جملة في محل نصب على الحال من الفاعل. وقوله: "صلى من النهار": أي صلى في النهار قضاء عما فاته في الليل، فـ"من" بمعنى "في"، أو هي للتبعيض. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
65 - بَاب مَتَى يَقْضِي مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ مِنَ اللَّيْلِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "باب" يحتمل تنوينه، وعدمه، كما سبق توجيهه غير مرة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1790 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ، أَخْبَرَاهُ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ، أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَصَلَاةِ الظُّهْرِ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ» .
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(قتيبة بن سعيد) المذكور في الباب الماضي.
2 -
(أبو صفوان عبد اللَّه بن سعيد بن عبدالملك بن مروان) بن الحكم بن أبي العاص، الأمويّ الدمشقيّ، نزيل مكة، ثقة [9].
وثقة ابن معين، وابن المدينيّ، وعبد الرحمن بن يونس المستملي، وابن حبّان، والدارقطنيّ. وقال أبو زرعة: لا بأس به، صدوق. وقال ابن المدينيّ: كان أفقه قرشيّ رأيته. قيل: توفي في حدود (200) روى له الجماعة سوى ابن ماجه، وله عند المصنّف حديثان فقط: هذا، و 3837 حديث:"لا نذر في معصية، وكفارته كفارة اليمين".
3 -
(عبيد اللَّه) بن عبد اللَّه بن عُتبة بن مسعود الفقيه المدنيّ، ثقة ثبت [3] 45/ 56.
4 -
(عبدالرحمن بن عبد القاريّ) المدني، ثقة [2] 37/ 937.
والباقون تقدموا قبل ثلاثة أبواب. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من ثُمانيات المصنف، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأن فيه رواية صحابيّ، عن تابعيّ، عن صحابي وهو السائب، عن عبد الرحمن بن عبد، عن عمر ويدخل هذا في رواية الكبار عن الصغار، وإلى هذا أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الحديث" بقوله:
وَمَا رَوَى الصَّحْبُ عَنِ الأَتْبَاعِ عَنْ
…
صَحَابَةٍ فَهْوَ ظَرِيفٌ لِلْفَطِنْ
أَلْفَ فِيهِ الْحَافِظُ الْخَطِيبُ
…
وَمنْكِرُ الوُجُودِ لَا يُصِيبُ
كَسَائِبٍ عَنِ ابْنِ عَبدِ عَنْ عمَرْ
…
وَنَحْوُ ذَا قَد جَاءَ عِشْرُونَ أَثَرْ
واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهري (أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيد) الصحابيّ ابن الصحابي رضي الله عنهما (وَعُبَيْدَ اللَّهِ، أَخْبَرَاة) أي ابنَ شهاب (أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ القَارِيَّ) بتشديد الياء، منسوب إلى القارة القبيلة المعروفة بجَوْدة الرمي، قيل له: رؤية، والصحيح أنه تابعيّ (قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هذا الحديث مما استدركه الدارقطنيّ على مسلم، وزعم أنه معلل بأن جماعة رووه هكذا مرفوعًا، وجماعة رووه موقوفًا، لكن مثل هذا التعليل لا يؤثر في صحة الإسناد، فالرفع زيادة ثقة، وهي مقبولة. واللَّه تعالى أعلم.
(مَنْ) شرطية (نَامَ عَنْ حِزْبِهِ) -بكسر الحاء المهملة، وسكون الزاي المعجمة-: الوِرْد الذي يعتاده الشخص، من صلاة، وقراءة، وغير ذلك، قاله في "المصباح"، وقال السيوطي: الحزب هو الجزء من القرآن يصلي به. وقال العراقيّ: هل المراد به صلاة الليل، أو قراءة القرآن في صلاة، أو غير صلاة، يحتمل كلاّ من الأمرين انتهى.
والمعنى أن من فاته ورده كلّه، أو بعضه في الليل، لغلبة النوم. وإنما حملناه على الليل لدلالة النوم عليه، ولدلالة آخر الحديث، وهو قوله:"كأنما قرأه من الليل". ولقوله في الرواية الآتية: "من فاته حزبه من الليل".
(أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) أي من حزبه، أي فاته بعض ورده (فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَصَلَاةِ الظُّهْرِ) يحتمل أن يكون تحريضًا على المبادرة، ويحتمل أن أفضل الأداء مع
المضاعفة مشروط بخصوص الوقت أفاده السنديّ
(1)
.
(كُتِبَ لَهُ) جواب الشرط (كَأنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ") صفة لمصدر محذوف، أي أُثبت أجرُه في صحيفة عمله، إثباتا مثلَ إثباته حين قرأه من الليل.
قال القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-: هذا تفضل من اللَّه تعالى، ودليل على أن صلاة الليل أفضل من صلاة النهار. والحزب هنا الجزء من القرآن، يصلي به. وهذه الفضيلة إنما تحصل لمن غلبه نوم، أو عذر منعه من القيام، مع أن نيته القيام. وقد ذكر مالك في "الموطإ" عنه صلى الله عليه وسلم، قال:"ما من امرىء تكون له صلاة بليل، فغلبه عليها نوم، إلا كتب اللَّه له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه"
(2)
. وهذا أتم في التفضّل والمجازاة بالنيّة، وظاهره أن له أجره مكمّلاً مضاعفًا، وذلك لحسن نيته، وصدق تلهّفه، وتأسّفه، وهذا قول بعض شيوخنا، وقال بعضهم: يَحتمل أن يكون غير مضاعف، إذ الذي يصليها أكمل، وأفضل.
قلت
(3)
: والظاهر التمسّك بالظاهر
(4)
، فإن الثواب فضل من الكريم الوهّاب، وقد تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم "كان إذا غلبه نوم، أو وجع، صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة"
(5)
، وهذا كله إنما هو يبقى في تحصيل مثل ما غُلب عليه، لا أنه قضاء له، إذ ليس في ذمّته شيء، ولا يُقضى إلا ما تعلّق بالذمّة. وقد رأى مالك أن يصلي حزبه من فاته بعد طلوع الفجر، وهو عنده وقت ضرورة لمن غُلب على حزبه، وفاته، كما يقول في الوتر انتهى كلام القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-
(6)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
(1)
"شرح السندي" ج 3 ص 259
(2)
تقدم للمصنف رحمه الله قبل ثلاثة أبواب 61/ 1784.
(3)
القائل هو القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-.
(4)
قال السنديّ رحمه الله: قلت: بل هو المتعيّن، وإلا فأصل الأجر يكتب له بالنيّة. واللَّه تعالى أعلم انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله السنديّ حسنٌ جدَّا، وقد تقدم تحقيق هذا في شرح حديث عائشة رضي الله عنها قبل ثلاثة أبواب برقم 61/ 1784. واللَّه تعالى أعلم.
(5)
تقدم للمصنف برقم 2/ 1601.
(6)
"المفهم" ج 2 ص 383 - 384.
أخرجه هنا-65/ 1790 - وفي "الكبرى" 80/ 1462 بالإسناد المذكور، وفي 65/ 1791 و 1792 و 1793 و"الكبرى" 80/ 1463 و 1464 و1465 و 1466 بالأسانيد الآتية. واللَّه أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (م) 2/ 171 (د) 1313 (ت) 581 (ق) 1343 (أحمد) 1/ 32 و 53 (الدارمي) 1485 واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: مشروعية اتخاذ ورد من العبادات في الليل. ومنها: مشروعية قضائه إذا فات لنوم، أو عذر من الأعذار. ومنها: أن وقت قضائه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، فمن فعله في هذا الوقت، كان كمن فعله فى الليل، والظاهر أن من فعله بعد ذلك لا يكون له ذلك. واللَّه تعالى أعلم. ومنها: أن فيه إشارة إلى ما ورد في معنى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]. قال القاضي: أي ذَوَيْ خِلْفَة، يخلف كلّ منهما الآخر، يقوم مقامه فيما ينبغي أن يُعمل فيه، مَن فاته ورده في أحدهما تداركه في الآخر انتهى، وهو منقول عن كثير من السلف، كابن عباس، وقتادة، والحسن، وسلمان، كما ذكره السيوطي في "الدرّ المنثور".
قيل: تخصيصه بما قبل الزوال مع شمول الآية النهار بالكمال إشارة إلى المبادرة بقضاء الفوائت قبل إتيان الموت، أو لأن ما قارب الشيء يُعطى حكمه
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1791 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ"، أَوْ قَالَ: "جُزْئِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَكَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ».
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وقع في نسخ "المجتبى" في هذا الإسناد خطأ، وهو أنه سقط "عروة" بين الزهريّ، وعبد الرحمن القاريّ، وكذلك جعله مرفوعًا خطأ أيضًا؛ لأن الصواب كونه موقوفًا على عمر رضي الله عنه، وقد وقع في "الكبرى" على الصواب، ولفظه: أخبرنا محمد بن رافع النيسابوريّ، قال. نا عبد الرزّاق، أنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القاريّ أن عمر بن الخطاب قال: "من نام عن جزئه، أو قال: حزبه
…
" الحديث فالحديث موقوف في هذه الرواية.
(1)
- أفادة في "المرعاة" ج 4 ص 246 - 247.
[تنبيه]: حديث عمر رضي الله عنه هذا وقع فيه الاختلاف في رفعه ووقفه، وقد بيَّن المصنف -رحمه اللَّه تعالى- ذلك بما ساقه من هذه الروايات، فأما الرفع ففي رواية يونس، عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، وهي الرواية الماضية. وأما الوقف ففي رواية معمر، عن الزهري عن عروة، عن عبد الرحمن ابن عبدِ، وهي هذه الرواية، وكذلك رواية حميد بن عبد الرحمن التي بعد هذه الرواية. ثم إن رواية الرفع أرجح؛ لاتفاق السائب بن يزيد، وعبيد اللَّه عليها، ولهذا أخرجها مسلم في "صحيحه" كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1792 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: مَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَرَأَهُ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ"، أَوْ "كَأَنَّهُ أَدْرَكَهُ".
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا بيان مخالفة
الأعرج للسائب بن يزيد، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه في وقف الحديث، وتقدّم أن الراجح رفعه، لكونه زيادة ثقة، وأيضًا الموقوف لا ينافي المرفوع، إذ يمكن حمله على أن عمر رضي الله عنه كان يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا، وكان يفتي به أحيانا، وأيضًا الموقوف في مثل هذا له حكم الرفع، إذ لا يقال من قبل الرأي. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "حين تزول الشمس": استشكله السنديّ، فقال: لا يخلو عن إشكال، إذ الصلاة في هذا الوقت مكروهة، ولولا الكراهة لم يظهر فائدة في تعيّنه، والأقرب أن هذا من تصرّفات الرواة، نعم لو حمل الحزب على القرآن، بلا صلاة، لاندفع الوجه الأول من الإيراد، واللَّه تعالى أعلم انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما أورده من الاستشكال، لا وجه له، إذ الكراهة إنما هي عند الاستواء، لا عند الزوال، ونصّ الحديث "حين تزول الشمس"، فمن أين له أن ذلك وقت كراهة الصلاة؟، فما ادعاه من أنه من تصرفات الرواة غير صحيح. فتبصّر.
وقوله: "أو كأنه أدركه""أو" للشكّ من بعض الرواة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (رَوَاهُ حُمَيْدُ بْنُ عَبدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ، مَوقُوفًا) أي موقوفًا على عمر رضي الله عنه أيضًا.
1793 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُمَرَ قَالَ:"مَنْ فَاتَهُ وِرْدُهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَلْيَقْرَأْهُ فِي صَلَاةٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، فَإِنَّهَا تَعْدِلُ صَلَاةَ اللَّيْلِ".
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر موقوف أيضًا، لكن اختلف في انقطاعه،
لأن حميدا لم يلق عمر رضي الله عنه، على ما قاله بعضهم، انظر "ت" ص 84 و"تت"ج 1ص 497 الطبعة الجديدة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
66 - بَابُ ثَوَابِ مَن صَلَّى فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةَ، سِوَى الْمَكْتوبَةِ، وَذِكْرِ اخْتِلَافِ النَّاقِلِينَ فِيهِ لِخَبَرِ أُمِّ حَبِيبَةَ فِي ذلِكَ، وَالاخْتِلَافِ عَلَى عَطَاءِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "والاختلاف على عطاء" بالجر عطفًا على "اختلاف الناقلين". ووجه الاختلاف على عطاء أنه رواهُ مغيرة بن زياد عنه، عن عائشة رضي الله عنها، فجعله من مسندها. وخالفه معقل بن عبيد اللَّه الجزري، فرواه عنه قال: أُخْبِرْتُ أن أم حبيبة قالت، فجعله من مسندها، وتابعه في ذلك ابن جريج، ورواه محمد ابن سعيد الطائفي، عنه عن يعلى بن أمية، عن عنبسة بن أبي سفيان، عنها.
ثم إن رواية مغيرة ضعيفة؛ لمخالفته الثقات، وكذلك رواية معقل وابن جريج؛ للانقطاع، كما سيأتي بيانه. وأما رواية محمد بن سعيد فصحيحة لاتصالها واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1794 -
أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ جَعْفَرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ، أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ» .
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(الحسين
(1)
بن منصور النيسابوري) أبو علي السلميّ، ثقة فقيه [10] 25/ 1664.
2 -
(إسحاق بن سليمان) أبو يحيى الكوفيّ، ثم الرازيّ، ثقة فاضل [9] 11/ 1623.
(1)
وقع في نسخ "المجتبى""الحسن" مكبرًا، وهو غلط فاحش، فليتنبه. واللَّه تعالى أعلم.
3 -
(مُغيرة بن زياد) البجليّ، أبو هشام، ويقال: أبو هاشم الموصليّ، صدوق، له
أوهام [6].
قال البخاريّ: قال وكيع: ثقة، وقال غيره: في حديثه اضطراب. وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: مضطرب الحديث، منكر الحديث، أحاديثه مناكير. وقال صالح بن أحمد، عن أبيه: ثقة. وعن يحيى بن معين: ليس به بأس، له حديث واحد منكر. وقال الدوريّ، وابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة ليس به بأس. ووثقه العجليّ، وابن عمار، ويعقوب بن سفيان. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي، وأبا زرعة عنه؟، فقالا: شيخ، قلت: يحتجّ به؟ قالا: لا. وقال أبي: هو صالح، صدوق، ليس بذاك القويّ، بابةُ
(1)
مجالد، يُحَوَّل اسمه من كتاب "الضعفاء" للبخاريّ. وقال أبو زرعة في موضع آخر: في حديثه اضطراب. وقال أبو داود: صالح. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال في موضع آخر: ليس بالقويّ. وقال ابن عديّ: عامة ما يرويه مستقيم، إلا أنه يقع في حديثه كما يقع في حديث من ليس به بأس، من الغلط، وهو لا بأس به. وقال يحيى بن عبد الملك الموصليّ: دُعي إلى القضاء، فلم يُجبْ. وقال ابن عمار: كان تاجرًا، وما كان أكثر روايته عن عطاء. وقال أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. وقال الدارقطنيّ: ليس بالقويّ يُعتبر به. وقال الحاكم أبو عبد اللَّه: المغيرة بن زياد، يقال له: أبو هشام المكفوف صاحب مناكير، لم يختلفوا في تركه، يقال: إنه حدّث عن عُبَادة بن نسيّ بحديث موضوع، ويقال: إنه حدّث عن عطاء، وأبي الزبير بجملة من المناكير.
قال الحافظ المزّيّ رحمه الله: في هذا القول نظر، فإنا لا نعلم أحدًا قال: إنه متروك، ولعله اشتبه على الحاكم بأصرم بن حوشب، فإنه يكنى أبا هشام أيضًا من المتروكين انتهى.
وقال الحافظ: قلت: قد قال فيه ابن حبان: كان ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات، فوجب مجانبة ما انفرد به، وترك الاحتجاج بما يخالف. ولكن نقل الإجماع على تركه مردود انتهى. روى له الأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا وأعاده بعده، و (5217) حديث: "أمر بخاتم من فضة، فأمر أن ينقش فيه
…
" الحديث.
4 -
(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، كثير الإرسال [3] 112/ 154.
5 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها 5/ 5.
شرح الحديث
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ثَابَرَ") أي واظب، قال الفيّوميّ رحمه الله: يقال: ثَبَرت زيدًا بالشيء، ثَبْرًا، من باب قَتَل: حبستُهُ عليه، ومنه
(1)
أي نظيره.
اشتُقْت المثابرة، وهي المواظبة على الشيء، والملازمة له. انتهى (عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً) أي تطوعًا غير فريضة، كما يأتي في حديث أم حبيبة رضي الله عنها (فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ) أى مع الأولين، وإلا فالدخول مطلقًا حاصل بمجرّد الإيمان (أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ) منصوب بفعل مقدّر، أي أعني أربعا.
ثم إن قوله. "أربعًا" المتبادر منه أنها بسلام واحد، ويحتمل كونها بسلامين، والأقرب أن إطلاقها يشمل القسمين. قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-.
وفيه دلالة على أن السنة الراتبة المؤكدة قبل الظهر أربع ركعات، وإليه ذهبت الحنفيّة، وقال الشافعيّ، وأحمد: الراتبة قبل الظهر ركعتان، واستدلّ لهما بحديث ابن عمر رضي الله عنه، "صليت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته"، قال: وحدثتني حفصة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين خفيفتين حين يطلع الفجر". متفق عليه.
(وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا) فيه أن السنة بعد الظهر ركعتان، ويدلّ عليه حديث ابن عمر المذكور، وغير ذلك من الأحاديث، ولا يعارض ذلك ما يأتي من حديث أم حبيبة رضي الله عنها[67/ 1817]"من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر، وأربع بعدها، حرمه اللَّه على النار"، لأنه يحمل على التوسعة في ذلك، ويقال. ركعتان من الأربع مؤكدتان، وركعتان مستحبّتان، وذلك لأنه لم يصحّ عنه صلى الله عليه وسلم في فعل الأربع بعد الظهر شيء غير هذا الحديث الواحد القوليّ، وقد تكلم فيه بعضهم، بما ستعرفه، إن شاء اللَّه تعالى، وقيل: الأربع أفضل وآكد
(1)
.
(وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِب، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ) أي قبل صلاة الصبح، وليس المراد قبل طَلوع الفجر. واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها قد تكلم فيه المصنّف، فقال في "السنن الكبرى" بعد هذا الحديث: قال أبو عبد الرحمن: هذا خطأ، ولعله أراد عنبسة بن أبي سفيان، فصحّفه، ويوجد في بعض نسخ "المجتبى" -كما أشار إليه في هامش "الهنديّة" بعد الرواية الثانية: ما نصحه: قال أبو عبد الرحمن هذا خطأ، ولعله أراد عنبسة بن أبي سفيان، فصحف. أي صحّف عنبسة بعائشة. انتهى.
وقال الترمذي بعد أن أخرج الحديث: حديث عائشة غريب من هذا الوجه، ومغيرة ابن زياد قد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه انتهى.
(1)
- انظر "المرعاة" ج 4 ص 129.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما أشار إليه المصنف والترمذيّ -رحمهما اللَّه تعالى- من أن الصواب أن هذا الحديث من حديث أم حبيبة رضي الله عنها، لا من حديث عائشة، هو الحقّ، والظاهر أن الخطأ من مغيرة بن زياد، فقد تقدّم أن كثيرًا من الحفّاظ وصفوه بأنه مضطرب الحديث، وهو كما قال في "ت": صدوق له أوهام، فقد ظهر وَهَمُهُ هنا بمخالفته لأصحاب عطاء، كما سيأتي، إن شاء اللَّه تعالى. وقد صححه بعض المتأخرين من حديث عائشة رضي الله عنها أيضا. لكن الظاهر ما قاله الأولون.
والحاصل أن الحديث صحيح من حديث أم حبيبة رضي الله عنه، كما أخرجه مسلم من حديثها، وإنما يضعّف من حديث عائشة رضي الله عنها. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا 66/ 1794 وفي "الكبرى" 81/ 1467 بالإسناد المذكور، وفي 66/ 1795 بالإسناد الآتي. واللَّه تعالى أعلم
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (ت) 414 (ق)1140. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: أنه اختلف في وجه الجمع بين حديثي عائشة هذا وبين حديث ابن عمر رضي الله عنه المتقدّم: "صليت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر
…
" الحديث:
فقيل: يحتمل أن ابن عمر قد نسي ركعتين من الأربع، وردّ بأن هذا احتمال بعيد. وقيل: هو محمول على أنه كان إذا صلى في بيته صلى أربعا، وإذا صلى في المسجد اقتصر على ركعتين، قال العلامة القيّم رحمه الله في "زاد المعاد": وهذا أظهر.
وقيل: يُحمل على حالتين، فكان تارة يصلي ثنتين، وتارة يصلي أربعًا، فحكى كلّ من ابن عمر، وعائشة رضي الله عنها ما شاهده. وقيل: يحتمل أن يكون يصلي إذا كان في بيته ركعتين، ثم يخرج إلى المسجد، فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد، دون ما في البيت، واطلعت عائشة على الأمرين. وقيل: كان يصلي في بيته أربعًا، فرأته عائشة، وكان يصلي ركعتين إذا أتى المسجد تحيته، فظنّ ابن عمر أنها سنة الظهر، ولم يعلم الأربع التي صلاها في البيت، وهذا أيضا بعيد مثل الأول. وقيل: يمكن أن يكون مطّلعًا على الأربع، لكنه ظنها صلاة فيء الزوال، لا سنة الظهر، قال ابن القيم في "زاد المعاد": وقد يقال: إن هذه الأربع لم تكن سنة الظهر، بل هي صلاة مستقلّة، كان يصليها بعد الزوال، كما في حديث عبد اللَّه بن السائب، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي أربعًا بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال:"إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحبّ أن يصعد لي فيها عمل". رواه الترمذيّ، وحسّنه. وفي "السنن" أيضًا
عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كان إذا لم يصل أربعًا قبل الظهر، صلاّهنّ بعدها"، وإسناده حسن. وقال ابن ماجه:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الأربع قبل الظهر، صلاهنّ بعد الركعتين بعد الظهر". وهو حسن بما قبله. وفي الترمذيّ عن عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي أربعًا قبل الظهر، وبعدها ركعتين". وذكر ابن ماجه أيضًا عن عائشة: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي أربعًا قبل الظهر، يطيل فيهنّ القيام، وُيحسن فيهنّ الركوع والسجود".
فهذه -واللَّه أعلم- هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهنّ، وأما سنة الظهر، فالركعتان اللتان قال عبد اللَّه بن عمر، يوضّح ذلك أن سائر الصلوات سنتها ركعتان ركعتان، والفجر مع كونها ركعتين، والناس في وقتها أفرغ ما يكونون، ومع هذا سنتها ركعتان، وعلى هذا فتكون هذه الأربع التي قبل الظهر وِرْدًا مستقلاً، سببه انتصاف النهار، وزاول الشمس انتهى المقصود من كلام الإمام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- ببعض تصرّف
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجّح عندي أن يحمل على أنه إذا صلى في البيت صلّى أربعًا، وإذا صلى في المسجد صلى ركعتين، كما استظهره ابن القيم -رحمه اللَّه تعالى-، ويؤيّده ما في "صحيح مسلم" من حديث عبد اللَّه بن شقيق، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان يصلي في بيتي أربعًا قبل الظهر، ثم يخرج، فيصلي بالناس، ثم يدخل، فيصلي ركعتين
…
الحديث.
قال القاري رحمه الله: كل هذه السنن مؤكّدة، وآخرها آكدها حتى قيل بوجوبها، قال ابن حجر الهيتَميّ رحمه الله: وهو صريح في ردّ قول الحسن البصريّ، وبعض الحنفية بوجوب ركعتي الفجر، وفي ردّ قول الحسن البصريّ أيضًا بوجوب الركعتين بعد المغرب انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الخامسة: أنه اختُلف أيضًا في ترتيب سنن الرواتب في الأفضلية، فقيل: أفضلها سنة الفجر، ثم المغرب، ثم سنة الظهر والعشاء، سواء في الفضيلة، وهذا عند الحنابلة، وقالت الشافعيّة: أفضلها بعد الوتر ركعتا الفجر، ثم سائر الرواتب، ثم التروايح، ثم اختلفوا بعد ذلك، هل القبلية أفضل، أو البعدية؟، ولهم فيه قولان: أحدهما أن البعدية أفضل، لأن القبلية كالمقدّمة، وتلك تابعة، والتابع يشرُف بشرف متبوعه. والثاني أنهما سواء، واختلفت أقوال الحنفية في ترتيب الرواتب، فقال في "البحر" عن "القنية": اختلف في أكد السنن بعد سنة الفجر، فقيل: كلها سواء،
(1)
- "زاد المعاد" ج 1 ص 308.
والأصح أن الأربع قبل الظهر آكد، وقال في "الدر المختار": آكدها سنة الفجر اتفاقًا، ثم الأربع قبل الظهر في الأصحّ، ثم الكلّ سواء، وهكذا صححه في "العناية"، و"النهاية"، واستحسنه في "فتح القدير". وعند المالكيّة أن سنة الفجر رغيبة، والباقي تطوعات ونوافل.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجّح عندي -كما قاله بعض المحققين- أن آكد السنن الوتر، ثم ركعتا الفجر، ثم التي قبل الظهر، ثم الكلّ سواء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1795 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى، إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، بَنَى اللَّهُ عز وجل لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ» .
"أحمد بن يحيى": الأوديّ أبو جعفر الكوفيّ، ثقة [11] 38/ 1274.
و"محمد بن بشر": هو العبديّ الكوفيّ ثقة حافظ [9] 5/ 882. والحديث لا يصح من مسند عائشة، بل من مسند أم حبيبة رضي الله عنها، كما تقدم تمام البحث فيه في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1796 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْدَانَ بْنِ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«مَنْ رَكَعَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، سِوَى الْمَكْتُوبَةِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بِهَا بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» .
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن معدان بن عيسى) بن معدان، أبو عبد اللَّه الحرّانيّ، ثقة [12] 16/ 649.
2 -
(الحسن بن أعين) هو الحسن بن محمد بن أعين الحرّانيّ، نسب لجدّه، صدوق [9] 16/ 649.
3 -
(معقل) بن عُبيد اللَّه الجَزَريّ، أبو عبد اللَّه العَبْسيّ مولاهم، صدوق يخطىء [8] 37/ 940.
4 -
(عطاء) بن أبي رباح المذكور في السند الماضي.
5 -
(أم حبيبة) رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها 13/ 704.
وشرح الحديث يعلم مما قبله، وهو بهذا الإسناد فيه انقطاع بين عطاء وأم حبيبة
- رضي الله عنها، ولكنه صحيح بالإسناد الآتي قريبًا 1801، وقد أخرجه المصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب من رقم 1796 إلى رقم 1809 وبين العلل التي فيه بما فيه كفاية واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1797 -
أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَرْكَعُ، قَبْلَ الْجُمُعَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مَا بَلَغَكَ فِي ذَلِكَ؟ قَالَ: أَخْبَرَتْ، أُمُّ حَبِيبَةَ، عَنْبَسَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ رَكَعَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، سِوَى الْمَكْتُوبَةِ، بَنَى اللَّهُ، عز وجل لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» .
"إبراهيم بن الحسن". هو أبو إسحاق المصِّيصيّ الثقة، و"حجاج بن محمد": هو المصيصيّ الأعور. و "ابن جُريج": هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي الإمام المشهور.
والإسناد فيه انقطاع أيضًا، لكنه صحيح بما يأتي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1798 -
أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُعَمَّرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، بَنَى اللَّهُ عز وجل، لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» .
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أيوب بن محمد) الوزّان، أبو محمد الرّقّيّ ثقة [10] 28/ 32.
2 -
(مُعَمر بن سليمان) -بتشديد الميم بوزن محمد- النخعيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة فاضل، أخطأ الأزديّ في تليينه [9].
قال الميمونيّ: كناه أحمد، وذكر من فضله، وهيبته. وثقه ابن معين، وأبو داود، وابن حبّان، وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال أبو عبيد القاسم بن سلّام: جلست إلى مُعَمَّر بن سليمان بالرّقّة، وكان خير من رأيت، وكانت له حاجة إلى بعض الملوك، فقيل له: لو أتيته، فكلمته، فقال: قد أردت إتيانه، ثم ذكرت العلم والقرآن، فأكرمتهما عن ذلك. وقال الأزديّ: له مناكير، ولم يُلتفت إلى الأزديّ في ذلك. مات في شعبان سنة (191) روى له المصنف، وابن ماجه. وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا و (3842) حديث: "لا نذر في معصيته
…
" الحديث.
3 -
(زيد بن حبّان) -بكسر المهملة، وبالموحّدة- الرقّيّ، كوفيّ الأصل، مولى ربيعة، صدوق كثير الخطأ، وتغيّر بآخره [7].
قال مَعَمَّر بن سليمان الرّقّيّ: سمعت منه قبل أن يفسد ويتغيّر. وقال عبد اللَّه بن أحمد يقول، عن أبيه: كان زيد حِبَّان يشرب -يعني المسكر- وقال مرّة: تركنا حديثه.
وقال حنبل، عن أحمد: تُرك حديثه، وليس يُروى عنه، وزعموا كان يشرب حتى يسكر. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: لا شيء. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقة. وقال الدارقطنيّ: ضعيف الحديث، لا يثبت حديثه عن مسعر. وقال ابن عديّ: لا أرى برواياته بأسًا، يحمل بعضها بعضها. وقال العقيليّ: حدث عن مسعر بحديث لا يُتابع عليه. وذكره ابن حبّان في "الثقات" وقال: مات سنة (258). روى له المصنف، وابن ماجه. وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
4 -
(عنبسة بن أبي سفيان) صخر بن حرب بن أميّة القرشيّ الأمويّ، أخو أم حبيبة، ومعاوية، أبو الوليد، وقيل: غير ذلك، قال أبو نعيم الأصبهاني: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تصحّ له صحبة، ولا رؤية، ذكره بعض المتأخرين، واتفق متقدّمو أئمتنا على أنه من التابعين. وذكره أبو زرعة الدمشقيّ في الطبقة الأولى من التابعين. وذكره ابن حبّان في ثقات التابعين. وذكر الليث وغيره أنه حجّ بالناس سنة (46)، وكذا ذكر خليفة، وزاد: إن معاوية ولاّه مكة، فكان إذا شخص إلى الطائف استخلف طارق بن المرقّع. روى له الجماعة، سوى البخاريّ. وله في هذا الكتاب حديث الباب، وكرره (13) مرة. والباقون تقدّموا قريبًا، وكذا الكلام على الحديث، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.
وقوله (قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: عَطَاءٌ لَمْ يَسْمَعهُ مِنْ عَنبَسَةَ) أي لم يسمع عطاء بن أبي رباح هذا الحديث من عنبسة بن خالد، بل أخذه عن يعلى بن أميّة، كما بينه بقوله:
1799 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الطَّائِفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: قَدِمْتُ الطَّائِفَ، فَدَخَلْتُ عَلَى عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ بِالْمَوْتِ، فَرَأَيْتُ مِنْهُ جَزَعًا، فَقُلْتُ: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ. فَقَالَ أَخْبَرَتْنِي أُخْتِي أُمُّ حَبِيبَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ صَلَّى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ، رَكْعَةً بِالنَّهَارِ، أَوْ بِاللَّيْلِ، بَنَى اللَّهُ عز وجل، لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» .
"محمد بن رافع": هو أبو عبد اللَّه النيسابوري الحافظ. و"زيد بن الحباب": هو أبو الحسين العُكْليّ الكوفي.
و"محمد بن سعيد الطائفيّ" أبو سعيد المؤذّن، صدوق [6].
قال ابن أبي وراة في كتاب "التفرّد" إثر حديث له: محمد بن سعيد ثقة، وثقه البيهقيّ انتهى. انفرد به أبو داود، والمصنف. وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
و"يعلى بن أمية": هو يعلى بن مُنية، وهي أمه، صحابيّ مشهور رضي الله عنه 7/ 406.
وقوله: "وهو بالموت" أي في حالة الموت.
وقوله: "فرأيت منه جزعًا" بفتحتين مصدر جَزعَ، من باب تَعِبَ، فهو جَزِعٌ، وجَزُوعٌ مبالغةٌ: إذا ضعفت مُنَّتُهُ
(1)
عن حَمْل ما نزل له، ولم يجد صبرًا. قاله في "المصباح".
وإنما جزع عنبسة خوفًا من هول الموت، يدلّ عليه ما أخرجه الخطيب بسند فيه ضعف إلى القاسم، عن أبي أمامة، قال: مرِضَ عنبسة، فدخل عليه أناس يعودون، وهو يبكي، فقالوا: أما كانت لك سابقة، وسلف لك خير؟ قال: وما لي لا أبكي من هول المطلع؟ ومالي من عمل أثق به. ذكره الحافظ في ترجمته انظر "تت" جـ2 ص 333.
والحديث صحيِح من هذا الوجه، كما تقدم الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله (خَالَفَهُمْ أبو يُونُسَ الْقُشَيْرِيُّ) أي خالف أبو يونس القشيريّ الرواة عن عطاء، وهم مغيرة بن زياد، ومعقل، وابن جريج، ومحمد بن سعيد الطائفيّ، في شيئين: الإسناد، والمتن، فأما الإسناد. فرواه عن عطاء، عن شهر بن حَوْشب، عنْ أم حبيبة رضي الله عنها موقوفًا، وأما المتن، فقيده بأن تلك الاثنتي عشرة تصلى قبل الظهر، كما بينه بقوله:
1800 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، قَالَا: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِي يُونُسَ الْقُشَيْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَتْ:"مَنْ صَلَّى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، فِي يَوْمٍ، فَصَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ".
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(محمد بن حاتم بن نُعيم) المروزيّ، ثقة [12] 1/ 397.
2 -
(حِبان) -بكسر الحاء- بن موسى بن سوّار السلميّ، أبو محمد المروزيّ، ثقة [10] 1/ 397.
3 -
(محمد بن مكيّ) بن عيسى المروزيّ، مقبول [10].
ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وانفرد به أبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا وأعاده برقم (1806)، و (3422) حديث: "يأمرك أن تعتزل امرأتك
…
" الحديث.
4 -
(عبد اللَّه) بن المبارك الإمام الحافظ الحجة المشهور [8] 32/ 36.
5 -
(أبو يونس القشيريّ) وقيل: الباهليّ مولاهم، حاتم بن أبي صَغيرة، وهو ابن مسلم، البصريّ، ثقة [6]. وأبو صغيرة أبو أمه، وقيل: زوج أمه.
(1)
- "المنّة" بالضم: القوّة. اهـ ق.
وثقه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، والعجليّ، والبزار، وابن سعد، وابن حبّان، وزاد أبو حاتم: صالح الحديث. روى له الجماعة.
6 -
(شهر بن حَوْشب) الأشعريّ الشاميّ، مولى أسماء بنت يزيد بن السكن، صدوق كثير الإرسال والأوهام [3].
قال حرب بن إسماعيل، عن أحمد: ما أحسن حديثه، ووثقه، وأظنه قال: هو كندي، وروى عن أسماء أحاديث حسانًا. وقال أبو طالب، عن أحمد: عبد الحميد بن بَهْرَام أحاديثه مقاربة، هي أحاديث شهر، كان يحفظها، كأنه يقرأ سورة من القرآن. وقال حنبل عن أحمد: ليس به بأس. وقال عثمان الدارميّ: بلغني أن أحمد كان يُثنى على شهر. وقال الترمذيّ: قال أحمد: لا بأس بحديث عبد الحميد بن بهرام، عن شهر.
وقال الترمذيّ، عن البخاريّ: شهر حسن الحديث، وقوّى أمره. وقال ابن أبي خيثمة، ومعاوية بن صالح، عن ابن معين: ثقة. وقال عبّاس الدُّوريّ، عن ابن معين: شاميّ تابعيّ ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة على أن بعضهم قد طعن فيه. وقال يعقوب بن سفيان: وشهر -وإن قال ابن عون: نَزَكوه- فهو ثقة. وقال ابن عمّار: روى عنه الناس، وما أعلم أحدًا قال فيه غير شعبة، قيل: يكون حجة؟ قال: لا. وقال أبو زرعة: لا بأس به، ولم يَلقَ عمرو بن عَبَسَة. وقال أبو حاتم: شهر أحبّ إليّ من أبي هارون، وبشر بن حرب، ولا أحتجّ به. وقال صالح بن محمد: شهر شاميّ، قدم العراق، روى عنه الناس، ولم يوقف منه على كذِب، وكان يَتَنَسّك، إلا أنه روى أحاديث ينفرد بها لم يشاركه فيها أحد، وروى عنه عبد الحميد بن بهرام أحاديث طوالاً عجائب، ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في القرآت، لا يأتي بها غيره. وقال أيوب ابن أبي حسين النَّدَبيّ: ما رأيت أحدًا أقرأ لكتاب اللَّه منه.
وقال أبو جعفر الطبريّ: كان فقيهًا قارئًا عالمًا. وقال أبو بكر البزّار: لا نعلم أحدًا ترك الرواية عنه غير شعبة، ولم يَسمع من معاذ بن جبل. وقال الساجيّ: فيه ضعف، وليس بالحافظ، وكان شعبة يَشهد عليه أنه رافق رجلا من أهل الشام، فخانه. وقال ابن حبّان: كان ممن يروي عن الثقات المعضلات، وعن الأثبات المقلوبات. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقويّ عندهم. وقال ابن عديّ: وعامة ما يرويه شهر وغيره من الحديث فيه من الإنكار ما فيه، وشهر ليس بالقويّ في الحديث، وهو ممن لا يحتجّ بحديثه، ولا يُتديّن به. وقال الدارقطنيّ: يُخرَّج حديثه. وقال البيهقيّ: ضعيف. وقال ابن حزم: ساقط.
وقال يحيى القطان، عن عَباد بن منصور: حججنا مع شهر، فسرق عَيْبَتي. وقال ابن عدي: ضعيف جدًا. وقال النضر، عن ابن عون: إن شهرًا نَزَكوه، قال النضر: نزكوه: أي طعنوا فيه. وقال شبابة، عن شعبة: ولقد لقيت شهرًا، فلم أعتدّ به. وقال عمرو بن
عليّ: ما كان يحيى يُحدث عنه، وكان عبد الرحمن يحدث عنه. وقال يحيى بن أبي بُكير الكرمانيّ، عن أبيه: كان شهر بن حَوشب على بيت المال، فأخذ خريطة، فيها دراهم، فقال القائل:
لَقَدْ بَاعَ شَهْرْ دِينَهُ بِخَرِيطَةٍ
…
فمَنْ يأْمَنُ الْقُرَاءَ بَعْدَكَ يَا شَهْرُ
وقال موسى بن هارون: ضعيف. وقال النسائي. ليس بالقويّ. وقال إبراهيم بن يعقوب الْجُوزَجانيّ: أحاديثه لا تشبه حديث الناس. وقال يْعقوب بن شيبة قيل لابن المدينيّ: ترضى حديث شهر؟ فقال: أنا أحدث عنه، وكان عبد الرحمن يحدّث عنه، وأنا لا أدع حديث الرجل إلا أن يجتمع يحيى وعبد الرحمن على تركه.
وقال أبو الحسن ابن القطان الفاسيّ: لم أسمع لمضعّفه حجة، وما ذكروا من تزيّه بزيّ الجند، وسماعه الغناء بالآلات، وقذفه بأخذ الخريطة، فإما لا يصحّ، أو هو خارجٌ على مخرج لا يضرّه، وشرّ ما قيل فيه: إنه يروي منكرات عن ثقات، وهذا إذا كثر منه سقطت الثقة به.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن شهرًا حسن الحديث، فإن معظم المتقدمين على توثيقه، والحق أن ما قاله ابن القطان هو الوسط، فإن كثيرًا مما رموه به لا يصح كما ذكره الحافظ الذهبي في ترجمته من "ميزان الاعتدال" وبعضه له محامل حسنة.
والحاصل أنه لم يصح سبب يوجب ضعفه وإنما له أوهام كغيره من الثقات، فما ظهر فيه وهمه يردّ، وإلا فهو مقبول الرواية. واللَّه تعالى أعلم.
وقال عبد الحميد بن بَهْرام: أتى على شهر ثمانون سنة. وقال البخاريّ، وغير واحد: مات سنة (100) وقال يحى بن بُكير: سنة (111) وقال الواقديّ: سنة (112).
روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون.
و"ابن أبي رباح": هو عطاء المتقدّم. وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، و (3641) حديث:"ولا وصية لوارث"، وأعاده بعده.
وقوله. "فصلى قبل الظهر" فيه أن هذه الاثنتي عشرة ركعة تصلى قبل صلاة الظهر، لكن الحديث ضعيف، مخالف للرواية الصحيحة من أنها تصلّى في اليوم والليلة واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1801 -
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الأَسْوَدِ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً، مَنْ صَلاَّهُنَّ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ» .
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(الربيع بن سليمان) بن داود الجيزي، أبو محمد المصريّ، ثقة [11] 122/ 173.
2 -
(أبو الأسود) النضر بن عبد الجبار المراديّ مولاهم المصريّ، مشهور بكنيته، ثقة، من كبار [10].
قال إبراهيم بن الجنيد، عن ابن معين: كان راوية عن ابن لهيعة، وكان شيخ صدق. وقال أبو حاتم: صدوق عابد شبيه بالقعنبيّ. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال هارون ابن سعيد الأيليّ: حدثني من أثق به، قال: حضرت يحيى بن معين جاء إلى أبي الأسود، فدفع إليه كتاب نافع بن يزيد، فقال: منه ما قرأت، ومنه ما حدّثني به، ومنه ما أخذته إجازة، ولست أميّز بين ذين، فقال: آخذه منك على الصدق، فانتسخ منه الكتاب. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن يونس: توفي لخمس بقين من ذي الحجة سنة (219) وكان مولده في سنة (45) وكان كاتبا للهيعة بن عيسى قاضي مصر. روى له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه. وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (1801) و (2318) و (5091) و (5174).
3 -
(بكر بن مضر) المصري، ثقة ثبت [8] 122/ 173.
4 -
(ابن عجلان) محمد المدني، صدوق، اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة [5] 36/ 40.
5 -
(أبو إسحاق الهمدانيّ) هو: عمرو بن عبد اللَّه السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد، اختلط بآخره [3] 38/ 42.
6 -
(عمرو بن أوس) بن أبي أوس الثقفيّ الطائفيّ، ثقة [2] 17/ 653.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث بهذا الإسناد صحيح، ولا يضره عنعنة أبي إسحاق، فقد تابعه عليه النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، فقد أخرجه مسلم من طريقه، قال: حدثني عنبسة بن أبي سفيان في مرضه الذي مات فيه بحديث يُتسارّ إليه، قال: سمعت أم حبيبة، تقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة، بني له بهنّ بيت في الجنة"، قالت أم حبيبة، فما تركتهنّ منذ سمعتهنّ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال عنبسة: فما تركتهنّ منذ سمعهن من أم حبيبة، وقال عمرو بن أوس: ما تركتهنّ منذ سمعتهنّ من عنبسة، وقال النعمان بن سالم: ما تركتهنّ من عمرو بن أوس. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1802 -
أَخْبَرَنَا أَبُو الأَزْهَرِ، أَحْمَدُ بْنُ الأَزْهَرِ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْمُسَيَّبِ،
عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا، فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَاثْنَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَاثْنَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَاثْنَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَاثْنَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ» .
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أبو الأزهر، أحمد بن الأزهر) بن منيع بن سَليط بن إبراهيم العبديّ النيسابوريّ، صدوق كان يحفظ، ثم كبر، فصار كتابه أثبت من حفظه [11].
قال ابن الشرقيّ: سمعت أبا الأزهر يقول. كتب عني يحيى بن يحيى. وقال الحاكم أبو أحمد: من حدّث من أصل كتابه فهو أصحّ، وكان قد كبر، فربما يُلقّن. وقال ابن خراش: سمعت محمد بن يحيى يُثني عليه. وقال أبو عمرو المستملي، عن محمد بن يحيى: أبو الأزهر من أهل الصدق والأمانة، نرى أن يُكتب عنه. وقال مكيّ بن عبدان: سألت مسلم ابن الحجاج عن أبي الأزهر، فقال: اكتب عنه. قال الحاكم: هذا رسم مسلم في الثقات. وقال إبراهيم بن أبي طالب: كان من أحسن مشايخنا حديثًا. وقال أحمد بن سيّار: حسن الحديث. وقال صالح جَزَرَة: صدوق. وقال النسائيّ، والدارقطنيّ: لا بأس به. وقال الدارقطنيّ: قد أخرج في الصحيح عمن هو دونه، وشرّ منه. ولما ذكر ابن الشرقيّ بنَادِرَة الحديث عَدّه فيهم. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن شاهين: ثقة نبيل. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: يخطىء. وكان ابن خزيمة إذا حدّث عنه، قال: حدثنا أبو الأزهر من أصل كتابه. قال أحمد بن سيّار: مات أبو الأزهر في أول سنة (261) وقال حسين القبّانيّ: سنة (263). انفرد به المصنف، وابن ماجه. وله في هذا الكتاب ستة أحاديث برقم (1802)، و (2334) و (2931) و (3655) و (4057) و (4945).
2 -
(يونس بن محمد) البغداديّ، أبو محمد المؤدّب، ثقة ثبت، من صغار [9] 15/ 1632.
3 -
(فُليح) بن سليمان بن أبي المغيرة، واسمه رافع، ويقال: نافع بن حُنين الخُزَاعيّ، أو الأسلميّ، أبو يحيى المدنيّ، مولى آل زيد بن الخطاب، ويقال: فُليح لقب غلب عليه، واسمه عبد الملك، صدوق كثير الخطإ [7].
قال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ضعيف، ما أقربه من أبي أويس. وقال الدوريّ، عن ابن معين: ليس بالقويّ، ولا يُحتجّ بحديثه، وهو دون الدراورديّ. وقال أبو حاتم: ليس بقويّ. وقال الآجريّ: قلت لأبي داود: أبلغك أن يحيى بن سعيد كان يَقشعرّ من أحاديث فُليح؟ قال: بلغني عن يحيى بن معين: قال: كان أبو كامل مظفّر بن مُدرك يتكلّم في فليح، قال أبو كامل: كانوا يرون أنه يتناول الزهريّ. قال أبو داود: وهذا خطأ، عسى يتناول رجال مالك. وقال الآجريّ: قلت لأبي داود: قال ابن معين: عاصم بن عُبيد اللَّه، وابن عَقِيل، وفُليح لا يُحتجّ بحديثهم. قال: صدق.
وقال ابن عديّ: لفليح أحاديث صالحة يروي عن الشيوخ، من أهل المدينة أحاديث مستقيمة وغرائب، وقد اعتمده البخاري في "صحيحه"، وروى عنه الكثير، وهو عندي لا بأس به.
وقال النسائيّ: ضعيف، وقال مرّة ليس بالقويّ. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. وقال الدارقطني: يختلفون فيه، وليس به بأس. وقال ابن أبي شيبة: قال علي ابن المدينيّ: كان فُليح، وأخوه عبد الحميد ضعيفين. وقال البَرْقيّ، عن ابن معين: ضعيف، وهم يكتبون حديثه، ويشتهونه. وقال الساجيّ: هو من أهل الصدق ويَهِم. وذكره ابن حبّان في الثقات. وقال الحاكم أبو عبد اللَّه: اتفاق الشيخين عليه يقوّي أمره. وقال الرمليّ، عن أبي داود: ليس بشيء. قال البخاريّ: قال سعيد بن منصور: مات سنة (168). روى له الجماعة. وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
4 -
(سُهيل بن أبي صالح) ذكوان السمّان، أبو يزيد المدنيّ، صدوق تغيّر بآخره [6] 32/ 820.
5 -
(المسيَّب بن رافع) الأسديّ الكاهليّ، أبو العلاء الكوفيّ الأعمى، ثقة [4] 5/ 1184.
والباقون تقدموا في الذي قبله، وكذا الكلام على الحديث.
وقوله (قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: فُلَيحُ بْنُ سُلَيمَانَ لَيْسَ بِالقَوِيِّ) الظاهر أن المصنف -رحمه اللَّه تعالى- أشار به إلى أن رفع فُليح الحديث من طريق المسيب غير صحيح، وإنما المحفوظ من طريقه كونه موقوفًا، ولذا عقّبه برواية زهير بن معاوية الموقوفة، فقال:
1803 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ، أَخِي أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ:"مَنْ صَلَّى فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، سِوَى الْمَكْتُوبَةِ، بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ، أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَثِنْتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَثِنْتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَثِنْتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ".
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أحمد بن سليمان) أبو الحسين الرُّهاويّ، ثقة حافظ [11] 38/ 42.
2 -
(أبو نعيم) الفضل بن دُكين الكوفيّ، ثقة ثبت [9] 11/ 516.
3 -
(زُهير) بن معاوية بن حُدَيج، أبو خيثمة الجعفي الكوفيّ، ثقة ثبت، إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بآخره [7] 38/ 42. والباقون تقدّموا قريبًا، وكذا الكلام على الحديث. واللَّه تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
67 - الاخْتِلَافُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن يزيد بن هارون رواه عن إسماعيل، عن المسيب بن رافع عن عنبسة، عن أم حبيبة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم وخالفه يعلى بن عبيد، فرواه عنه، عن المسيب، عن عنبسة، عنها موقوفًا، وتابعه عبد اللَّه بن المبارك. وروايتهما أرجح من روايته، كما هو ظاهر صنيع المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1804 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ صَلَّى فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ» .
"محمد بن إسماعيل بن إبراهيم": هو المعرف أبوه بابن عُليّة. و"إسماعيل": هو ابن أبي خالد. واللَّه تعالى أعلم.
1805 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ:"مَنْ صَلَّى فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، سِوَى الْمَكْتُوبَةِ، بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ".
غرض المصنف بهذا بيان مخالفة يعلى بن عُبيد ليزيد بن هارون في رفع هذا الحديث. و"يعلى": هو ابن عُبيد الطنافسيّ الكوفيّ، ثقة، إلا في الثوريّ، ففيه لين، من كبار [9] 105/ 140 واللَّه تعالى أعلم.
1806 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، وَحِبَّانُ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ:"مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، سِوَى الْمَكْتُوبَةِ، بَنَى اللَّهُ عز وجل، لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ".
"محمد بن حاتم": هو ابن نُعيم المروزيّ، ثقة [12] 166/ 1800 و"محمد بن مكيّ": هو المروزيّ، مقبول تقدم 66/ 1800 و"حِبّان": بالكسر هو ابن موسى المروزي. و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك.
وقوله: (لَمْ يَرْفَعْهُ حُصَيْنٌ، وَأَدْخَلَ بَيْنَ عَنْبَسَةَ، وَبَينَ الْمُسَيَّبِ ذَكْوَانَ) يعني أن حصين بن عبد الرحمن خالف إسماعيل بن أبي خالد في رفع الحديث، وإدخال ذكوان السمان واسطةً بين المسيّب بن رافع وبين عنبسة بن أبي سفيان، كما بينه بقوله:
1807 -
أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، ذَكْوَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ، حَدَّثَتْهُ:"أَنَّهُ مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ".
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(زكريا بن يحيى) أبو عبد الرحمن السِّجْزيّ، نزيل دمشق، ثقة حافظ [12] 189/ 1161.
2 -
(وهب) بن بقية بن عثمان بن سابور بن عُبيد بن آدم بن زياد، أبو محمد الواسطيّ المعروف بـ "وهبان"، ثقة [10].
قال ابن معين: وهبان ثقة، إلا أنه سمع، وهو صغير. وقال الخطيب: كان ثقة. وقال مسلمة: واسطيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". مات سنة (239) وفيها أرخه غير واحد، زاد بَحْشل: وُلد سنة (155). روى له مسلم، وأبو داود، والمصنف. وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (1807) و (2402) حديث "أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام
…
" الحديث.
3 -
(خالد) بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان، أبو الهيثم، ويقال: أبو محمد الواسطي المزنيّ مولاهم، ثقة ثبت [8].
قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: كان خالد الطحّان ثقة صالحا في دينه، وهو أحبّ إلينا من هُشيم. وقال ابن سعد، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صحيح الحديث. وقال الترمذيّ: ثقة حافظ. وقال أبو داود: قال إسحاق الأزرق: ما رأيت أفضل من خالد الطحّان، قيل: قد رأيت سفيان؟ قال: كان سفيان رجل نفسه، وكان خالد رجل عامّة. وسئل محمد بن عمّار، عن جرير، وخالد، أيهما أثبت؟ فقال: خالد. وضعفه ابن عبد البرّ في "التمهيد"، وهو مردود عليه. قال عبد الحميد بن بيان، ويعقوب بن سفيان، وعليّ بن عبد اللَّه بن مبشّر: مات سنة (179) زاد عليّ: ولد سنة (110) وقال خليفة، ومحمد بن سعد: مات سنة (182) وذكره ابن حبّان في "الثقات" وحكى القولين في وفاته. روى له الجماعة. وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (1807) و (2310) و (2402) و (2490) و (51542).
4 -
(حُصين) بن عبد الرحمن، أبو الهذيل الكوفيّ، ثقة تغير في الآخر [5] 47/ 846.
5 -
(أبو صالح ذكوان) السمّان الزيّات المدني، ثقة ثبت [3] 36/ 40.
والباقون تقدّموا قريبًا.
وغرض المصنّف من هذه الرواية بيان مخالفة حصين بن عبد الرحمن لإسماعيل بن
أبي خالد في شيئين: أحدهما إدخال أبي صالح بين المسيب بن رافع، وبين عنبسة بن أبي سفيان، والثاني في وقف الحديث. والحديث صحيح مرفوعًا، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1808 -
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، سِوَى الْفَرِيضَةِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ"، أَوْ "بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ".
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا بيان أن عاصما خالف المسيب بن رافع، فرواه عن أبي صالح، عن أم حبيبة رضي الله عنها، ولم يذكر عنبسة، ورفع الحديث، ففيه انقطاع، لكن سبق أنه صحيح بغير هذا الإسناد.
و"يحيى بن حبيب": هو ابن عربيّ البصريّ، ثقة [10] 60/ 75. و"حماد": هو ابن زيد البصريّ. و"عاصم": هو أبن أبي النَّجُود، وهو ابن بَهدَلَة، أبو بكر المقرىء، صدوق، له أوهام، حجة في القراءة [6] 20/ 1221 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1809 -
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنِي حَمَّادٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ صَلَّى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(على بن المثنى) الطُّهَويّ -بفتح الهاء- الكوفيّ، مقبول [11].
ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وأشار ابن عديّ إلى ضعفه. مات سنة (256) انفرد به المصنف بهذا الحديث فقط.
[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى""عليّ بن المثنى"، قال الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ رحمه الله في "تحفته": ج11 ص 307 هكذا في رواية أبي بكر بن السنّيّ: "عن "علي بن المثنى"، وفي رواية أبي الحسن ابن حيويه: "عن محمد بن المثنى"، وفي بعض النسخ: "عن ابن المثنى" انتهى.
2 -
(سُويد بن عمرو) الكلبيّ، أبو الوليد الكوفيّ العابد، من كبار [10].
وثقه ابن معين، والنسائيّ، وقال العجليّ: كوفيّ ثقة ثبت في الحديث، وكان رجلاً صالحًا متعبّدًا. وقال ابن حبّان: كان يقلب الأسانيد، ويضع على الأسانيد الصحاح المتون الواهية. ونقل ابن خلفون، عن العجليّ أنه قال: مات سويد سنة ثلاث، أو أربع ومائتين، قال: ولم يكن بالكوفة أروى عن زهير بن معاوية منه. روى له مسلم،
والترمذي، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (1809) و (2622) و (2660) و (2862) و (2929).
والباقون ذُكروا في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1810 -
أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ:"مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ".
"زكريا بن يحيى": هو السِّجْزيّ المذكور قبل حديثين. و "إسحاق": هو ابن راهويه. و"النضر": هو ابن شُميل النحويّ.
وغرض المصنف رحمه الله بهذا بيان الاختلاف على عاصم، فحماد بن زيد رواه عنه مرفوعا، وحماد بن سلمة رواه عنه موقوفًا، والأرجح فيه الرفع، كما تقدم، وأيضًا الموقوف في هذا في حكم المرفوع، لأنه لا يقال بالاجتهاد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1811 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، سِوَى الْفَرِيضَةِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن عبد اللَّه بن المبارك) المُخَرِّميّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقة حافظ [11] 43/ 50.
2 -
(يحيى بن إسحاق) البجليّ، أبو زكريا، ويقال: أبو بكر السَّيْلَحينيّ
(1)
، نزيل بغداد، صدوق، من كبار [10].
قال حنبل بن إسحاق، عن أحمد: شيخ صالح ثقة صدوق. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: صدوق. وقال ابن سعد: كان ثقة حافظًا لحديثه، ومات سنة (210) وفيها أرّخه غير واحد. روى له الجماعة، سوى البخاريّ. وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
3 -
(محمد بن سليمان) بن عبد اللَّه بن الأصبهانيّ، أبو عليّ الكوفيّ، صدوق
(1)
-بمهملة ممالة، وقد تصير ألفا ساكنة، وفتح اللام، وكسر المهملة، ثم تحتانية ساكنة، ثم نون: نسبة إلى قرية بقرب بغداد.
يخطئ [8].
قال أبو حاتم: لا بأس به، يكتب حديثه، ولا يحتجّ به. وضعفه النسائيّ. وقال ابن عدي. مضطرب الحديث، قليل الحديث، ومقدار ما له قد أخطأ في غير شيء منه.
وذكره ابن حبّان في "الثقات". مات سنة (181) روى له الترمذي، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، و (2923) حديث: "أقلّوا الكلام في الطواف
…
" الحديث.
و"سهيل بن أبي صالح" تقدم قبل باب. و"أبوه" في السند الماضي. و"أبو هريرة" رضي الله عنه تقدم في 1/ 1.
وقوله (قَالَ أَبو عَبد الرحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ) يعني كونه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه خطأ، والصواب أنه من حديث أم حبيبة رضي الله عنها.
وقوله (وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ ضَعِيفٌ، هُوَ ابْنُ الْأَصْبَهَانِيّ) بيان لسبب كونه خطأً، وهو أن محمد بن سليمان هو الذي أخطأ فيه، فجعله من مسند أبي هريرة رضي الله عنه.
وعبارته في "الكبرى": قال أبو عبد الرحمن: هذا الحديث عندي خطأ، ومحمد بن سليمان ضعيف، وقد خالفه فُليح بن سليمان، فرواه عن سهيل، عن أبي إسحاق، ثم ساق إسحاق فليح بنحو ما تقدم برقم [66/ 1802] ثم قال. قال أبو عبد الرحمن: هذا أولى بالصواب عندنا، وفليح بن سليمان ليس بالقويّ في الحديث، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
وحاصل ما أشار إليه المصنف -رحمه اللَّه تعالى- أن كون الحديث من مسند أبي هريرة رضي الله عنه، كما رواه محمد بن سليمان خطأ، والصواب كونه من مسند أم حبيبة رضي الله عنها، كما رواه فليح بن سليمان، ومع ذلك، فهو ضعيف من طريقه أيضا، لأنه ضعيف، خالف في رفعه زهير بن معاوية، وهو ثقة ثبت، رواه موقوفًا، كما تقدم.
وإنما رجّح المصنف -رحمه اللَّه تعالى- رواية فُليح على رواية محمد بن سليمان مع كون كل منهما ضعيفا، لكون الحديث محفوظا من مسندها من روايات الحفاظ، كما تقدم، فتأيدت روايته بها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقوله (وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ) أي حديث أم حبيبة رضي الله عنها (مِنْ أَوْجُهٍ) أي طرُق (سِوَى هَذَا الوَجْهِ) أي غير الطريق المتقدم، ولو قال: سوى هذه الأوجه بالجمع لكان
(1)
- انظر "السنن الكبرى" ج 1 ص 462.
أولى، واللَّه تعالى أعلم.
(بِغَيْرِ اللَّفْظِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ) يعني أن حديث أم حبيبة رضي الله عنها هذا قد روي من طرق غير الطرق المتقدمة، وبلفظ غير اللفظ المتقدم، كما بيّن ذلك بقوله:
1812 -
أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَمَاعَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: لَمَّا نُزِلَ بِعَنْبَسَةَ، جَعَلَ يَتَضَوَّرُ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ أُمَّ حَبِيبَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، تُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:«مَنْ رَكَعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا، حَرَّمَ اللَّهُ، عز وجل، لَحْمَهُ عَلَى النَّارِ» . فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(يزيد بن محمد بن عبدالصمد) بن عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو القاسم الدمشقيّ، صدوق [11] 30/ 555.
2 -
(هشام العطّار) هو ابن إسماعيل بن يحيى، أبو عبد الملك الدمشقيّ، ثقة فقيه عابد [10] 30/ 555.
3 -
(إسماعيل بن عبد اللَّه بن سماعة) وقد ينسب إلى جدّه، العدويّ، مولى آل عمر الرمليّ، ثقة [8] 134/ 201.
4 -
(موسى بن أعين) مولى قريش، أبو سعيد الجزريّ، ثقة عابد [8] 11/ 415.
5 -
(أبو عمرو الأوزاعيّ) عبد الرحمن بن عمرو الإمام الدمشقيّ المشهور [7] 45/ 56.
6 -
(حسان بن عطية) المحاربيّ مولاهم، أبو بكر الدمشقيّ، ثقة فقيه عابد [4] 64/ 1310.
والباقيان تقدما قريبا. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من ثمانيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأنه مسلسل. بالشاميين، وفيه رواية تابعي عن تابعيّ، ورواية الراوي عن أخته. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن حَسَّانَ بن عَطِيةَ) المحاربيّ، أنه (قَالَ: لَمَّا نُزِلَ بعَنبَسَةَ) ببناء الفعل للمفعول: أي نزل به الموت (جَعَلَ) أي شرع (يَتَضَوَّرُ) بالضاد المعَجمة: أي يتَلَوّى، وَيصيح،
ويتقلب ظهرا لبطن من شدة الوجع. وقل: يتضوّر: أي يُظهر الضَّوْر: بمعنى الضرّ، يقال: ضاره يضوره، ويَضِيره: إذا ضرّه. قال السندي -رحمه اللَّه تعالى-: وآخر الحديث يفيد أنه كان يفعل ذلك، فرَحًا بالموت، اعتمادًا على صدق الموعد انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -. بل الظاهر أن سبب تضوّره هو اشتداد الأمر عليه، كما تقدم في قول يعلى بن أميّة:"فرأيت منه جَزَعًا"، وكما يأتي في قصّة محمد بن أبي سفيان الآتية 1816. واللَّه تعالى أعلم.
(فَقِيلَ لَهُ) أي قيل لعنبسة في ذلك، يعني أن الناس الحاضرين كلموه بما يخفف عنه ذلك، فقد تقدم في رواية يعلى بن أمية، أنه قال له:"إنك على خير".
(فَقَالَ. أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ أُم حَبِيبَةَ، زوج النبِي صلى الله عليه وسلم، تحُدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ رَكَعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ) ظاهر قوله: "من ركع" أن التحريم على النار يحصل لمن صلى، ولو مرة واحدة، لكن الرواية الآتية 1816 - بلفظ:"من حافظ على أربع ركعات" تدلّ على أنه لا يحصل هذا الفصل إلا لمن داوم عليها (قبْلَ الظُّهْرِ) فيه أن السنة قبل الظهر أربع ركعات، وهذا على سبيل الأفضلية، فلا يعارض ما ثبت في حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى قبل الظهر ركعتين، كما تقدم البحث في ذلك (وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا) قيل:
ركعتان منها مؤكدتان، وركعتان مستحبتان (حَرَّمَ اللَّهُ، عز وجل، لَحْمَهُ عَلَى النَّارِ") وفي رواية مكحول: "حرّمه اللَّه على النار"، وفي رواية الشُّعَيثيّ:"لم تمسه النار".
قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله: وقد اختلف في معنى ذلك، هل المراد أنه لا يدخل النار أصلاً، أو أنه، وإن قدّر عليه دخولها لا تأكله، أو أنه يحرم على أن تستوعب أجزاءه، وإن مسّت بعضه، كما في بعض طرق الحديث عند النسائيّ بلفظ:"فمسّ وجهه النار أبدًا"، وهو موافق لقوله في الحديث الصحيح:"وحرم على النار أن تأكل مواضع السجود"، فيكون قد أطلق الكلّ، وأريد البعض مجازًا، والحمل على الحقيقة أولى، وإن اللَّه تعالى يحرم جميعه على النار، وفضل اللَّه أوسع، ورحمته أعمّ انتهى (1).
وقال السنديّ: ظاهره أنه لا يدخل النار أصلا، وقيل: على وجه التأبيد، وحمله على ذلك بعيد، ويكفي في ذلك الإيمان، وعلى هذا فلعلّ من داوم على هذا الفعل يوفقه اللَّه تعالى للخيرات، ويغفر له الذنوب كلها انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حمل الحديث على ظاهره كما قال الشوكاني، وأشار إليه السندي -رحمهما اللَّه تعالى- هو الحق؛ لأنه لا مانع من ذلك؛ لأن من وقفه اللَّه لذلك يوفقه لسائر الخيرات، واللَّه تعالى أعلم.
(فَمَا تَرَكْتُهُنَّ) القائل هو عنبسة بن أبي سفيان، وقد تقدم "من صلى اثنتي عشرة
(1)
- "نيل الأوطار" ج 3 ص 23.
ركعة
…
" عند مسلم من طريق النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن عنبسة: أن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: فما تركتهنّ منذ سمعتهنّ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال عنبسة: فما تركتهنّ منذ سمعتهنّ من أم حبيبة، وقال عمرو بن أوس: ما تركتهنّ منذ سمعتهنّ من عنبسة، وقال النعمان بن سالم: ما تركتهنّ منذ سمعتهنّ من عمرو بن أوس انتهى.
فالظاهر أنه كان يداوم على ما في الحديثين. واللَّه تعالى أعلم. (مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ) أي من الوقت الذي سمعت هذا الحديث من أم حبيبة رضي الله عنها، وإنما ذكر عنبسة هذا؛ ليحمل نفسه على حسن الظن في مثل تلك الحالة بتذكيرها بعملها الصالح حتى تموت، وهي تحسن الظن بربها، كما ورد الأمر بذلك، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"لا يموتنّ أحد منكم، إلا وهو يحسن الظن باللَّه تعالى". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أم حبيبة رضي الله عنها هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا-67/ 1812 و 1813 و 1814 و1815 و 1816 و 1817 وفي "الكبرى" 1480 و 1481 و 1482 واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (د) 1269 و (ت) 427 و (ق) 1160 (أحمد) 6/ 325 و 426 (ابن خزيمة) 1191 و 1192 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1813 -
أَخْبَرَنَا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَيُّوبُ، رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، عَنِ الْقَاسِمِ الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي أُخْتِي، أُمُّ حَبِيبَةَ، زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ حَبِيبَهَا، أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، أَخْبَرَهَا، قَالَ:«مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، بَعْدَ الظُّهْرِ، فَتَمَسُّ وَجْهَهُ النَّارُ أَبَدًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ عز وجل» .
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(هلال بن العلاء بن هلال) الباهليّ مولاهم، أبو عمرو الرّقّيّ، صدوق [11] 10/ 1199. من أفراد المصنّف.
2 -
(العلاء بن هلال) بن عمرو الباهليّ، أبو محمد الرّقّيّ، فيه لين [9] 190/ 1167.
3 -
(عُبيد اللَّه) بن عمرو الرقيّ، أبو وهب الأسديّ، ثقة فقيه، ربما وهم [3] 190/ 1167.
4 -
(زيد بن أبي أُنيسة) زيد الجزريّ، كوفي الأصل، ثقة، له أفراد [6] 191/ 306.
5 -
(أيوب رجل من أهل الشام) مقبول [7].
روى عن القاسم بن عبد الرحمن. وعنه زيد بن أبي أنيسة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، قال الحافظ: وقرأت بخط الذهبيّ: لا يُعرف انتهى. أخرج له المصنف حديث الباب فقط.
6 -
(القاسم) بن عبد الرحمن الدمشقيّ، أبو عبد الرحمن، صاحب أبي أمامة، صدوق يرسل، كثيرًا [3].
قال إبراهيم بن الجنيد، عن ابن معين: القاسم ثقة، والثقات يروون عنه هذه الأحاديث، ولا يرفعونها، ثم قال يجيء من المشايخ الضعفاء ما يدلّ حديثهم على ضعفهم. وقال ابن معين في موضع آخر. إذا روى عنه الثقات أرسلوا ما رفع هؤلاء. وقال العجليّ: ثقة يُكتب حديثه، وليس بالقويّ. وقال يعقوب بن سفيان، والترمذيّ: ثقة. وقال الجوزجانيّ: كان خيارًا فاضلاً، أدرك أربعين رجلاً من المهاجرين والأنصار. وقال أبو حاتم. حديث الثقات عنه مستقيم، لا بأس به، وإنما يُنكر عنه الضعفاء. وقال الغلاّبيّ: منكر الحديث. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة، وقال في موضع آخر: قد اختلف الناس فيه. وقال الأثرم: سمعت أحمد حَمَل على القاسم، وقال: يروي عنه علي بن يزيد أعاجيب، وتكلم فيها، وقال: ما أرى هذا إلا من قبل القاسم، قال أحمد: وإنما ذهبت رواية جعفر بن الزبير لأنه إنما كانت روايته عن القاسم، قال أحمد. وما حدّث بشر بن نُمير عن القاسم، قال شعبة: ألحقوه به. وقال جعفر بن محمد بن أبان الحرّانيّ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما أرى البلاء إلا من القاسم.
وقال ابن حبّان يروي عن الصحابة المعضلات. قال ابن سعد، وغيره: مات سنة (112) ويقال: سنة (118) روى له البخاري في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (1813) و (2254) و (5436) و (5437).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث في إسناده العلاء بن هلال، وفيه لين، وأيوب رجل من أهل الشام، وهو غير معروف، والقاسم الدمشقيّ، متكلّم فيه، ولكنه صحيح بما قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1814 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَاصِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ، بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقُولُ:«مَنْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا، حَرَّمَهُ اللَّهُ عز وجل عَلَى النَّارِ» .
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أحمد بن ناصح) أبو عبد اللَّه المصيصيّ، صدوق [10] 139/ 1102.
2 -
(مروان بن محمد) الأسديّ الدمشقيّ، ثقة [9] 128/ 1091.
3 -
(سعيد بن عبد العزيز) التنوخيّ الدمشقيّ، ثقة ثبت [7] 5/ 460.
4 -
(سليمان بن موسى) الأمويّ مولاهم الدمشقيّ الأشدق، صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بقليل [5] 7/ 504.
5 -
(مكحول) أبو عبد اللَّه الشاميّ، ثقة فقيه كثير الإرسال [5] 4/ 640. والحديث في سنده انقطاع، كما سينبه عليه المصنف، لكنه صحيح بما سبق قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1815 -
أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ: قَالَ: مَرْوَانُ وَكَانَ سَعِيدٌ، إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَقَرَّ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنَا بِهِ، هُوَ لَمْ يَرْفَعْهُ، قَالَتْ: مَنْ رَكَعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا، حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَكْحُولٌ، لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَنْبَسَةَ شَيْئًا.
قَالَ: أَبُو عَبْد الرحْمَنِ: مَكحُولْ، لَمْ يَسمَعْ مِن عَنْبَسَةَ شَيئَا.
"محمود بن خالد": هو السلميّ، أبو عليّ الدمشقيّ، ثقة، من صغار [10] 45/ 595.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا -واللَّه أعلم- بيان الاختلاف على مرون، فأحمد بن ناصح روى عنه الحديث مرفوعًا، ومحمود بن خالد رواه مفصلاً مبينًا بأن مروان كان يقول: إن سعيد بن العزيز كان يروي الحديث موقوفًا، لكن إذا قرىء عليه الحديث مرفوعًا كان يقرّ ذلك، ولا ينكره، ولعل ذلك لكونه سمعه غير مرّة، فكان أكثر أحواله أنه سمعه موقوفًا، فرأى ذلك أرجح، فكان يوقفه، لكن لا ينكر كونه مرفوعًا لكونه أيضًا سمعه كذلك، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "مكحول لم يسمع من عنبسة شيئًا" يعني أن السند فيه انقطاع.
وهذا الذي قاله المصنّف قاله أيضًا أبو مسهر، فقد نقل الدروي، عن ابن معين: قال أبو مسهر: لم يسمع مكحول من عنبسة بن أبي سُفيان، ولا أدري أدركه أم لا؟
انتهى
(1)
. لكن قد عرفت أن الحديث صحيح بما سبق، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1816 -
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى، يُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ، أَخَذَهُ أَمْرٌ شَدِيدٌ، فَقَالَ حَدَّثَتْنِي أُخْتِي، أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَتْ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا، حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّارِ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عبد اللَّه بن إسحاق) الجوهريّ البصريّ، مستملي أبي عاصم، يُلقّب بِدْعَة، ثقة حافظ [11] 60/ 1772.
2 -
(أبو عاصم) الضحّاك بن مخلد النبيل البصريّ، ثقة ثبت [9] 19/ 424.
3 -
(محمد بن أبى سُفيان) صخر بن حرب بن أميّة الأمويّ، أخو معاوية، مقبول [3].
روى عن أخته أم حبيبة هذا الحديث فقط، وعمه سليمان بن موسى، قاله أبو عاصم، عن سعيد، عنه. وقال مروان بن محمد، عن سعيد، عن سليمان، عن مكحول، عن عنبسة، عن أخته، وهو الصواب، وهكذا قال غير واحد عن مكحول قاله في "تت". والباقون تقدموا قريبًا.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عرض المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بهذه الرواية بيان الاختلاف على سعيد بن عبد العزيز، فقد رواه عنه مروان بن محمد فى الرواية السابقة عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن عنبسة، عن أم حبيبة رضي الله عنها، وخالفه أبو عاصم، فرواه عنه عن سليمان، عن محمد بن أبي سفيان، عن أخته، ورواية مروان هي المحفوظة كما قاله المحققون. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1817 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشُّعَيْثِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: «مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا، لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ» .
(1)
- انظر "تت" ج 4 ص 148.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلاّس أبو حفص البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.
2 -
(أبو قُتيبة) سلم بن قتيبة الشَّعِيريّ الخرَاسانيّ، نزيل البصرة، صدوق [9] 55/ 971.
3 -
(محمد بن عبد اللَّه) بن المهاجر الشُّعَيثيّ
(1)
النّصْريّ، ويقال: الْعُقَيليّ الدمشقيّ، صدوق [7] تقدم في 3/ 457.
4 -
(أبوه) عبد اللَّه بن المهاجر الشُّعَيثيّ النَّصْريّ الدمشقيّ، مقبول [6].
روى عن عنبسة بن أبي سفيان، وعنه ابنه محمد، ذكره ابن حبّان في "الثقات". قال الحافظ: يعتبر بحديثه من غير رواية ابنه عنه انتهى. روى له الترمذيّ، والمصنف، وابن ماجه. وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
والباقون تقدّموا قريبًا. وباللَّه تعالى التوفيق.
(قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأ، وَالصَّوَابُ حَدِيثُ مَرْوَانَ، مِن حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
(2)
) يعني أن هذا الحديث من هذا الطريق غير صحيح، والصحيح ما تقدّم [1814] من رواية مروان بن محمد الطَّاطَرِيّ، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول، عن عنبسة، عن أم حبيبة رضي الله عنها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب"
(3)
.
…
20 - كِتَابُ الْجَنَائِزِ
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: "الجنائز": -بفتح الجيم- لا غير: جمع جنازة بالفتح، والكسر، لغتان، قال ابن قتيبة، وجماعة: الكسر أفصح.
وقال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: جَنَزْتُ الشيءَ، أَجْنُزُهُ، من باب ضَرَب: سَتَرْتُه،
(1)
- بضم المعجمة، وفتح العين المهملة، ثم ثاء مثلثة، مصغّرًا: نسبة إلى شعيث بطن من بَلعَنبر -أي بني العنبر- بن عمرو بن تميم اهـ "الأنساب" ج 3 ص 4333 - 436.
(2)
- يوجد في النسخة "الهنديّة" ما نصه: "آخر كتاب الصلاة".
(3)
- قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ علي بن آدم - عفا اللَّه تعالى عنه -، وعن والديه -بحمد اللَّه تعالى، وحسن توفيقه-: قد وصلت إلى نهاية "كتاب الصلاة" يوم الخميس المبارك -18/ 11/ 1417 هـ الموافق 27 (مارس) 1997 م.
ومنه اشتقاق الجنازة، وهي بالفتح، والكسر، والكسر أفصح، وقال الأصمعيّ، وابن الأعرابيّ: بالكسر الميت نفسه، وبالفتح السرير، وروى أبو عمر الزاهد، عن ثعلب عكسَ هذا، فقال: بالكسر السرير، وبالفتح الميت نفسه انتهى
(1)
.
وقال ابن محظور رحمه الله: جَنزَ الشيءَ يَجْنُزهُ جَنْزًا: ستره، وقال ابن سِيدَهْ: الجَنَازة بالفتح. الميت، والجنازة بالكسر السرير الذي يُحمل عليه الميت. قال الفارسيّ: لا يُسمى جنازة حتى يكون عليه ميت، وإلا فهو سرير، أو نعش، وأنشد الشَّمَّاخ [من الطويل]:
إِذَا أَنْبَضَ الرَّامُون فِيهَا تَرَنَّمَتْ
…
تَرَنُّمَ ثَكْلَى أَوْجَعَتْهَا الْجَنَائِزُ
وقال الليث: الجنازة الإنسان الميت، والشيء الذي قد ثَقُلَ على قوم، فاغتمّوا به انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
…
1 - بَابُ تَمَنِّي الْمَوْتِ
1818 -
أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هارون عبد اللَّه) أبو موسى الحمال البغداديّ، ثقة [10] 50/ 62.
2 -
(معن) بن عيسى، أبو يحيى المدنيّ، ثقة ثبت، قال أبو حاتم: أثبت أصحاب مالك، من كبار [10] 50/ 62.
3 -
(إبراهيم بن سعد) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثم البغداديّ، ثقة [8] 49/ 958.
4 -
(الزهري) محمد بن مسلم القرشيّ المدني الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.
5 -
(عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عُتبة) بن مسعود الهذليّ المدني الفقيه، ثقة ثبت [3] 45/ 56.
(1)
- "المصباح" ص 111.
(2)
- "لسان العرب" باختصار في مادّة جنز.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه، فبغداديّ، وفيه رواية تابعي، عن تابعيّ. وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رَأْسُ المكثرين من الرواية. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَن أَبِي هُرَيرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا يَتَمَنَّيَنَّ)"لا" ناهية، والفعل مؤكّد بنون التوكيد الثقيلة. وسيأتي في الحديث الثاني من حديث أنس رضي الله عنه 1821 - بلفظ:"لا يتمنّى" بإثبات الألف. وهو لفظ البخاريّ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور هنا.
قال في "الفتح": كذا للأكثر بلفظ النفي، والمراد به النهي، أو هو للنهي، وأشبعت الفتحة، ووقع في رواية الكشميهنيّ:"لا يتمنينّ" بزيادة نون التأكيد انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ: الياء
(2)
في قوله: "لا يتمنى" مثبتتة في رسم الخطّ في كتب الحديث، فلعله نهي ورد على صيغة الخبر، أو المراد منه لا يتمنّ، فأجري مُجرى الصحيح.
وقيل. هو لفظ النهي، وأشبعت الفتحة. قيل: والنفي بمعنى النهي أبلغ وآكد، لإفادته أن من شأن المؤمن انتفاء ذلك عنه، وعدم وقوعه عنه بالكليّة، أو لأنه قدر أن المنهيّ حين ورد النهي عليه انتهى عن المنهيّ عنه، وهو يخبر عن انتهائه، ولو ترك على النهي المحض ما كان أبلغ انتهى
(3)
.
[تنبيه]: زاد البخاري في أول هذا الحديث من طريق الزهريّ، عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن عوف:"أن أبا هريرة قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يُدخل أحدًا عمله الجنّة، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: لا، ولا أنا، إلا أن يتغمّدني اللَّه بفضل، ورحمة، فسدّدوا، وقاربوا، ولا يتمنّينّ أحدكم الموت
…
" الحديث.
(أَحَدٌ مِنْكُمُ) وفي نسخة: "أحدكم"، والخطاب للصحابة، والمراد هم ومن بعدهم من المسلمين عمومًا (الْمَوْتَ) قال التوربشتيّ: النهي عن تمنّي الموت، وإن أطلق في هذا الحديث فالمراد منه المقيّد، كما في الحديث الآتي، فعلى هذا يكره تمنّي الموت
(1)
- "فتح" ج 13 ص 234 نسخة دار الريان.
(2)
- هكذا نسخة "المرعاة""الياء"، ولعله نظرًا للأصل، وإلا فهي ألف منقلبة عن الياء، أو نظرًا لرسمه، فإنه بصورة الياء. واللَّه أعلم.
(3)
- راجع "المرعاة" ج 5 ص 285 - 286.
من ضرّ أصابه في نفسه، أو ماله، لأنه في معنى التبرّم عن قضاء اللَّه في أمر يضرّه في دنياه، وينفعه في آخرته، ولا يكره للخوف في دينه من فساد (إِمَّا مُحْسِنًا) بكسر الهمزة، ونصب "محسنًا"، و "مسيئًا" على تقدير عامل، نحو "يكون"، ووقع في رواية أحمد عن عبد الرزاق بالرفع فيهما، وهي واضحة. أفاده في "الفتح".
وقال ابن مالك رحمه الله: أصله إما يكون محسنًا، وإما يكون مسيئًا، فحذف "يكون" مع اسمها مرتين، وأُبقي الخبر، وأكثر ما يكون ذلك بعد "إِنْ" و"لو"، وإلى هذه القاعدة أشار في "الخلاصة" بقوله:
وَيحْذِفُونَها وُيبقُونَ الْخَبَرْ
…
وَبعد "إِنْ" و"لَوْ" كَثِيرًا ذَا اشْتَهَرْ
قال ابن مالك: وفي قوله: "فلعله يزداد" وفي "فلعله يستعتب" شاهدان على مجيء "لعل" للرجاء المجرّد من التعليل، وأكثر مجيئها في الرجاء إذا كان معه تعليل، نحو {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} انتهى
(1)
.
وقيل: أصله: "إن ما" فأدغمت النون بعد قلبها في الميم، و"ما" زائدة عوضا عن الفعل المحذوف، أي إن كان محسنا الخ.
وقال السنديّ رحمه الله: "إما" بكسر الهمزة، بتقدير "يكون"، أي لا يخلو المتمنّي إما أن يكون محسنًا، فليس له أن يتمنى، فلعله يزداد خيرًا بالحياة، وإما مسيئًا، فكذلك ليس له أن يتمنى، فإنه لعله أن يستعتب، أي يرجع عن الإساءة، ويطلب رضا اللَّه تعالى بالتوبة.
وجملة "إما محسنًا الخ" بمنزلة التعليل للنهي، ويمكن أن يكون "أما" بفتح الهمزة، والتقدير أَمّا إن كان محسنًا، فليس له التمنّي، لأنه لعله يزداد بالحياة خيرًا، فهو مثل قوله تعالى:{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} الآية [الواقعة: 88] انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فتح الهمزة يحتاج إلى ثبوته روايةً. واللَّه تعالى أعلم.
(فلعله أن يزداد خيرًا) أي من فعل الخير (وإما مسيئًا، فلعله يستعتب) أي يرجع عن موجب العَتْب عليه، وقيل: أي يطلب العُتْبى، وهو الرضا، أي يطلب رضا اللَّه تعالى بالتوبة، وردّ المظالم، وتدارك الفائت.
وقال في "الفتح": قوله: "يستعتب" أي يسترضي اللَّه بالإقلاع، والاستغفار، والاستعتابُ طلب الإعتاب، والهمزة للإزالة، أي يطلب إزالة العِتَاب، عاتبه: لامه، وأعتبه: أزال عتابه، قال الكرماني: وهو مما جاء على غير القياس، إذ الاستفعال إنما يُبنى من الثلاثيّ، لا من المزيد فيه انتهى.
(1)
- "شواهد التوضيح" ص 140.
وظاهر الحديث انحصار حال المكلّف في هاتين الحالتين، وبقي قسم ثالث، وهو أن يكون مخلّطًا، فيستمر على ذلك، أو يزيد إحسانا، أو يزيد إساءة، أو يكون محسنًا، فينقلب مسيئًا، أو يكون مسيئًا، فيزداد إساءة.
والجواب أنّ ذلك خرج مخرج الغالب، لأن غالب حال المؤمنين ذلك، ولا سيما والمخاطب بذلك شفاهًا الصحابة.
قال الحافظ رحمه الله: وقد خطر لي في معنى الحديث أن فيه إشارة إلى تغبيط المحسن بإحسانه، وتحذير المسيء من إساءته، فكأنه يقول: من كان محسنًا فليترك تمني الموت، وليستمرّ على إحسانه، والازدياد منه، ومن كان مسيئًا فليترك تمني الموت، وليُقلِع عن الإساءة، لئلا يموت على إساءته، فيكون على خطر، وأما من عدا ذلك ممن تضمنه التقسيم فيؤخذ حكمه من هاتين الحالتين، إذ لا انفكاك عن أحدهما واللَّه أعلم انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
وقال في "كتاب المرضى": ما حاصله: وفي قوله: "إما محسنا الخ" إشارة إلى أن المعنى في النهي عن تمني الموت، والدعاء به هو انقطاع العمل بالموت، فإن الحياة يتسبب منها العمل، والعمل يُحَصِّل زيادة الثواب، ولو لم يكن إلا استمرار التوحيد، فهو أفضل الأعمال.
ولا يرد على هذا أنه يجوز أن يقع الارتداد -والعياذ باللَّه تعالى- عن الإيمان لأن ذلك نادر، والإيمان بعد أن تُخالط بشاشته القلوب لا يَسخطه أحد، وعلى تقدير وقوع ذلك -وقد وقع لكن نادرًا- فمن سبق له في علم اللَّه خاتمة السوء فلا بدّ من وقوعها، طال عمره أو قصر، فتعجيله بطلب الموت لا خير له فيه. ويؤيده حديث أبي أمامة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد: "يا سعد إن كنت خُلقت للجنة، فما طال من عمرك، أو حسن من عملك، فهو خير لك". أخرجه أحمد بسند ليّن
(2)
.
ووقع في رواية همّام، عن أبي هريرة عند أحمد ومسلم:"وأنه لا يزيد المؤمنَ عمره إلا خيرًا".
واستُشْكِلَ بأنه قد يعمل السيئات، فيزيده عمره شرّا. وأجيب بأجوبة:
(1)
- "فتح" 13 ص 235.
(2)
- ولفظه: 21790 حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، حدثني علي بن يزيد، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة، قال: جلسنا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكّرنا، ورقّقنا، فبكى سعد بن أبي وقاص، فأكثر البكاء، فقال: يا ليتني مت، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:"يا سعد أعندي تتمنى الموت؟ "، فردد ذلك ثلاث مرات، ثم قال:"يا سعد إن كنت خُلِقْت للجنة، فما طال عمرك، أو حسن من عملك، فهو خير لك".
أحدها: حمل المؤمن على الكامل، وفيه بُعد. والثاني: أن المؤمن بصدد أن يعمل ما يكفّر ذنوبه، إما من اجتناب الكبائر، وإما من فعل حسنات أُخر، قد تقاوم بتضعيفها سيئاته، وما دام الإيمان باقيًا فالحسنات بصدد التضعيف، والسيّئات بصدد التكفير.
والثالث: يُقيّد ما أُطلق في هذه الرواية بما وقع في رواية الباب من الترجّي، حيث جاء بقوله:"لعله" والترجّي مشعر بالوقوع غالبًا، لا جزمًا، فخرج الخبر مخرج تحسين الظنّ باللَّه، وأن المحسن يرجو من اللَّه الزيادة بأن يوفّقه للزيادة من عمله الصالح، وأن المسيء لا ينبغي له القنوط من رحمة اللَّه، ولا قطع رجائه، أشار إلى ذلك الحافظ العراقي رحمه الله في "شرح الترمذيّ".
ويدلّ على أن قصر العمر قد يكون خيرًا للمؤمن حديثُ أنس رضي الله عنه الذي بعد هذا: "وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي". وهو لا ينافي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم: "وأنه لا يزيد المؤمنَ عمرُه إلا خيرا" إذا حُمل حديث أبي هريرة على الأغلب، ومقابله على النادر انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:
أخرجه هنا- 1/ 1818 - وفي "الكبرى" 1/ 1944 - بالإسناد المذكور. و 1/ 1819 - و"الكبرى" 1/ 1945 - بالإسناد الآتي. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (خ) رقم 5671 و 5673 و7235. (م) 2680 و 2682 (د) 3108 (ت) 971 (ق) 4265 (أحمد) 7524 و 8025 و 27406 (الدارميّ) 2758 واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: النهي عن تمنّي الموت. ومنها: بيان أن الموت سبب انقطاع عمل الإنسان، وهو في معنى الحديث الآخر: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله، إلا من ثلاث
…
" الحديث. ومنها: بيان فائدة طول عمر الإنسان، لأنه إن كان محسنًا ازداد خيرًا، وإن كان مسيئًا تاب إلى اللَّه، وأناب. ومنها: الحثّ
(1)
- المصدر المذكور ج 10 ص 136. نسخة دار الريّان.
على الازدياد من الخير، والزجر عن التمادي في الشرّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجعِ والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1819 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، قَالَ: حَدَّثَنَي الزُّبَيْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَعِيشَ، يَزْدَادُ خَيْرًا، وَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عمرو بن عثمان) أبو حفص الحمصيّ، صدوق [10] 21/ 535.
2 -
(بقية) بن الوليد الدمشقيّ، صدوق كثير التدليس عن الضعفاء [8] 45/ 55.
3 -
(الزُّبيديّ) محمد بن الوليد الحمصيّ القاضي، ثقة ثبت، من كبار أصحاب الزهري [7] 45/ 56.
4 -
(أبو عُبيد مولى عبد الرحمن بن عوف) ويقال له: مولى ابن أزهر
(1)
سعد بن عُبيد الزهريّ المدنيّ، ثقة [2].
قال الزهريّ: كان من القرّاء، وأهل الفقه، وقال الطبريّ: مجمع على ثقته. وقال مسلم في "الكنى": كان ثقة. وقال الدوريّ، عن ابن معين: ثقة. ونقل ابن خلفون توثيقه عن الذُّهْليّ، وابن الْبَرْقيّ. وقال ابن البَرْقيّ في "رجال الموطإ": أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت له عنه رواية. وقال ابن حبّان في "الثقات": كان من فقهاء أهل المدينة. انتهى. روى له الجماعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب أربعة أحاديث.
والباقيان تقَدَّما في السند الماضي والحديث متفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: زاد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "الكبرى" عقب هذا الحديث: ما نصّه:
قال أبو عبد الرحمن: وهذا أولى بالصواب من الذي قبله انتهى
(2)
.
يعني أن رواية الزّبيديّ، عن الزهري، عن أبي عبيد، عن أبي هريرة هذه هي المحفوظة، وأما رواية إبراهيم بن سعد، عن الزهريّ، عن عبيد اللَّه، عن أبي هريرة التي قبل هذا، فليست بمحفوظة، لمخالفة إبراهيم لجماعة الحفاظ من أصحاب الزهريّ.
فقد رواه معمر، وشُعيب بن أبي حمزة، ومحمد بن أبي حفصة، ويونس بن يزيد -كما
(1)
-وابن أزهر هذا هو عبد الرحمن بن أزهر بن عوف، ابن أخي عبد الرحمن بن عوف.
(2)
- انظر "الكبرى" ج 1 ص599.
قاله في "الفتح"- كلهم عن الزهريّ، عن أبي عبيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قال الحافظ رحمه الله: هكذا اتفق هؤلاء عن الزهريّ في روايته، عن أبي عبيد، وخالفهم إبراهيم بن سعد، عن الزهريّ، فقال: عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عُتبة، عن أبي هريرة، أخرجه النسائيّ، وقال: رواية الزبيديّ أولى بالصواب، وإبراهيم بن سعد ثقة. يعني ولكنه أخطأ في هذا انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: إنما رجح المصنف -رحمه اللَّه تعالى- رواية الزبيديَّ، وإن كان في سندها بقية، وهو مدلّس، تدليس التسوية؛ لكونه صرح بالتحديث في شيخه، وشيخ شيخه، ولا يقال: إنه عنعن في شيخ الزهري؛ لأن الحديث مشهور برواية الزهري، عن أبي عبيد، كما يتضح بعدُ من رواية معمر، ومن ذكر معه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجعِ والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1820 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنْ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي».
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(يزيد بن زُريع) أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.
3 -
(حُميد) بن أبي حُميد الطويل البصريّ ثقة [5] 87/ 108.
4 -
(أنس) بن مالك رضي الله عنه 6/ 6.
وهذا الإسناد من رباعيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (106) من رباعيات الكتاب، وهو مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فبلخيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَن أَنس) بن مالك رضي الله عنه (أَنّ رَسُولَ اللَّهِ) وفي نسخة: "أن النبيّ"(صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَتَمَنّيَنّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ) أي لأنه يدلّ على الجزع في البلاء، وعدم الرضا بالقضاء (لِضُرَ) بضم الضاد المعجمة، وفتحها، أي من أجل ضرر ماليّ، أو بدنيّ (نَزَلَ بِهِ فِي الدّنْيَا)"في" سببية، أي بسبب أمر من الدنيا.
وفيه دلالة على أنه لو كان لضرّ أُخْرَويّ بأن خشي فتنة في دينه لم يدخل في النهي، وقد فعل ذلك جماعة من الصحابة رضي الله عنهم:
(1)
- "فتح" ج10 ص 135. طبعة دار الريان.
ففي "الموطإ" عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "اللهم كبرت سني، وضعفت قوّتي، وانتشرت رعيّتي، فاقبضني إليك غير مضيّع، ولا مفرط". وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر، عن عمر رضي الله عنه. وأخرجه أحمد وغيره من طريق عبس، ويقال: عابس الغفاريّ أنه قال: يا طاعون خذني، فقال له عليم الكنديّ
(1)
: لم تقول هذا؟ ألم يقل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا يتمنّينّ أحدكم الموت؟، فقال: إني سمعته يقول: بادروا بالموت ستّا، إمرة السفهاء، وكثرة الشُّرَط، وبيع الحكم
…
الحديث.
وأخرج أحمد أيضًا من حديث عوف بن مالك نحوه، وأنه قيل له: ألم يقل رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما عُمّر المسلم كان خيرا له
…
" الحديث، وفيه الجواب نحوه. وأصرح منه في ذلك حديث معاذ رضي الله عنه الذي أخرجه أبو داود، وصححه الحاكم في القول في دبر كلّ صلاة، وفيه: "وإذا أردت بقوم فتنة، فتوفّني إليك غير مفتون". قاله في "الفتح"
(2)
.
(وَلَكِنْ لِيَقُلِ) وفي رواية للبخاريّ: "فإن كان لا بُدّ فاعلا، فليقل
…
"، وفي لفظ له: "فإن كان ولا بدّ متمنيًا للموت، فليقل
…
" الحديث. أي فلا يتمنّ صريحًا، بل يعدل عنه إلى التعليق بوجود الخير فيه.
قال في "الفتح": وهذا يدلّ على أن النهي عن تمنّي الموت مقيّد بما إذا لم يكن على هذه الصيغة، لأن في التمنّي المطلق نوع اعتراض، ومراغمة للقدر المحتوم، وفي هذه الصورة المأمور بها نوع تفويض، وتسليم للقضاء.
قال: وفي قوله: "فإن كان، لا بدّ الخ" ما يَصرِفُ الأمرَ عن حقيقته من الوجوب، أو الاستحباب، ويدلّ على أنه لمطلق الإذن، لأن الأمر بعد الحظر لا يبقى على حقيقته، وقريب من هذا السياق ما أخرجه أصحاب "السنن" من حديث المقدام بن معد يكرب: "حسبُ ابن آدم لُقيمات يُقمن صُلبه، فإن كان ولا بدّ، فثلث للطعام
…
" الحديث، أي إذا كان لا بدّ من الزيادة على اللُّقيمات، فليقتصر على الثلث، فهو إذنٌ بالاقتصار على الثلث، لا أمر يقتضي الوجوب، ولا الاستحباب انتهى
(3)
.
(اللهُمّ أَحْيِنِي) أي أبقني على الحياة (مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ)، "ما" مصدرية ظرفية، أي مدّة كون الحياة (خيرًا لي) أي من الموت، وهو أن تكون الطاعة غالبة على المعصية، والأزمنة خالية عن الفتن والمحن (وَتَوَفّني) أي أمتني (إذَا كَانَتِ الْوفَاةُ خَيْرًا لي) أي من
(1)
- هكذا في الفتح، "عليم الكنديّ"، ولم أجد ترجمته، اللَّهم إلا إن كان هو عليم بن سلمة الفهمي، فإنه له ترجمة في "الإصابة" في القسم الثالث من حرف العين، فليُحرّر، واللَّه تعالى أعلم.
(2)
- "فتح"ج10 ص 133.
(3)
- المصدر السابق ج 10 ص 133.
الحياة، بأن يكون الأمر بعكس ما تقدم.
قال الحافظ العراقي رحمه الله في "شرح الترمذيّ": لما كانت الحياة حاصلة، وهو متصف بها حسن الإتيان بـ "ما" أي ما دامت الحياة متصفة بهذا الوصف، ولما كانت الوفاة معدومة في حال التمنّي لم يحسن أن يقول:"ما كانت"، بل أتى بـ "إذا" الشرطيّة، فقال:"إذا كانت"، أي إذا آل الحال إلى أن تكون الوفاة كذا الوصف انتهى
(1)
.
والظاهر أن هذا التفصيل، يشمل ما إذا كان الضرّ دينيّا أو دنيويًا.
وقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن النضر بن أنس، عن أبيه، قال: لولا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنّوا الموت لتمنيته"، فلعله رأى أن التفصيل المذكور ليس من التمني المنهيّ عنه. أفاده في "الفتح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان"
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أنس رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا- 1/ 1820 - و"الكبرى" 1/ 1946 - بالإسناد المذكور. و1/ 1821 - و"الكبرى" 1/ 1947 بالسند الآتي. وفي "عمل اليوم والليلة" 1055 و 1057 و 1059 و1060 و 1061 واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (خ) 7/ 156 (م) 8/ 64 (د) 3108 (ت) 971 (ق) 4265 (أحمد) 3/ 163 و 3/ 247 و 3/ 101 و 3/ 104 (عبد بن حميد) 1246 و 1398. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1821 -
حَدّثَنَا
(2)
عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ح وَأَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا الْمَوْتَ، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(علي بن حُجر) السعدي المروزيّ، ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 13.
(1)
- راجع "المرعاة" ج 5 ص 288.
(2)
وفي نسخة: "أخبرنا".
2 -
(أسماعيل ابن علية) البصريّ الحافظ الحجة الثبت [8] 18/ 19.
3 -
(عمران موسى) القزاز الليثي، أبو عمرو البصريّ، صدوق [10] 6/ 6.
4 -
(عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان البصريّ، ثقة ثبت [8] 6/ 6.
5 -
(عبد العزيز) بن صُهيب البنانيّ البصريّ، ثقة [4] 17/ 1643.
6 -
(أنس) بن مالك رضي الله عنه 6/ 6.
والسند من رباعيات المصنف، وهو (107) من رباعيات الكتاب. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "ألا" أداة استفتاح وتنبيه. وقوله: "لا يتمنّى" بصيغة الخبر، والمراد به
النهي، وتقدم الكلام عليه في الحديث الأول. وقوله:"فإن كان لا بدّ متمنّيًا" الخ. اسم
"كان ضمير يعود إلى "أحدكم"، و"متمنّيًا" خبرها، وجملة "لا بُدّ" معترضة، وهي في
محلّ نصب على الحال، قال الفيّومي رحمه الله:"لا بُدّ من كذا" أي لا مَحِيد عنه، ولا يُعرف استعماله إلا مقرونًا بالنفي انتهى.
وحاصل المعنى أنه لا يجوز لأحد أن يتمنّى الموت، فإن كان لا محيد عن التمنّي، فلا يتمنّ صريحًا، بل يعدل عنه إلى التفويض إلى اللَّه تعالى الذي هو أعلم بمصالح عباده، وهو بهم رؤوف رحيم، فيسأله معلقًا بوجود الخير فيه.
والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
2 - الدُّعَاءُ بِالْمَوْتِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الدعاء بالموت أخصّ من تمنّي الموت، وكلّ دعاء تمنّ، من غير عكس. أفاده في "الفتح"
(1)
. واللَّه تعالى عنه بالصواب.
1822 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنِ الْحَجَّاجِ، وَهُوَ الْبَصْرِيُّ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْعُوا بِالْمَوْتِ، وَلَا تَتَمَنَّوْهُ، فَمَنْ كَانَ دَاعِيًا، لَا بُدَّ،
(1)
- "فتح" ج 10 ص 134. طبعة دار الريّان.
فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي، مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي».
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أحمد بن حفص بن عبد اللَّه) السلميّ، أبو عليّ النيسابوريّ، صدوق [11] 7/ 409.
2 -
(أبوه) حفص بن عبد اللَّه بن راشد السلميّ، أبو عمر قاضي نيسابور، صدوق [9] 7/ 409.
3 -
(إبراهيم بن طهمان) أبو سعيد الخراسانيّ، ثم المكي، ثقة يُغْرب [7] 7/ 409.
4 -
(الحَجّاج) بن الحجّاج الباهليّ البصريّ الأحول، ثقة [6] 53/ 6145
5 -
(يونس) بن عُبيد بن دينار العبديّ البصريّ، ثقة ثبت فاضل وَرِعٌ [5] 88/ 109.
6 -
(ثابت) بن أسلم البُنَانيّ البصريّ، ثقة عابد [4] 45/ 53.
وشرح الحديث يعلم مما سبق
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، أخرجه المصنف رحمه الله هنا 2/ 1822 - وفي "الكبرى" 2/ 1948 - بالإسناد المذكور، وأخرجه (1) 8/ 64 و (أحمد) 3/ 163 و 195 و 247 و (عبد بن حميد) 1246 و 1372، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1823 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسٌ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى خَبَّابٍ، وَقَدِ اكْتَوَى فِي بَطْنِهِ سَبْعًا، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ، دَعَوْتُ بِهِ.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن بشار) أبو بكر البصريّ المعروف ببندار، ثقة حافظ [10] 24/ 27.
2 -
(يحيى بن سعيد) القطّان البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.
3 -
(إسماعيل) بن أبي خالد البجليّ الأحمسيّ الكوفي، ثقة ثبت [4] 13/ 471.
4 -
(قيس) بن أبي حازم البجليّ أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة مخضرم [2] 46/ 954.
5 -
(خَباب) بموحدتين الأولى مثقلة، ابن الأرتّ بهمزة وراء مفتوحتين، وتشديد التاء المثناة من فوقُ، أبو عبد اللَّه، التميميّ الصحابي المشهور رضي الله عنه، سُبي في الجاهلية، وبِيع بمكة، ثم حالف بني زُهرة، وأسلم قبل أن يدخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، قيل: أسلم سادس ستة، وهو أول من أظهر إسلامه، فعُذّب عذابًا شديدًا لذلك، ذُكر أن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه سأله عما لقي في ذات اللَّه، فكشف عن ظهره، فقال عمر: ما رأيت كاليوم، قال خباب: لقد أُوقدت لي نار، وسُحِبتُ عليها، فما
أطفأها إلا ودك ظهري، وشهد بدرًا، والمشاهد كلها، وكان قَيْنًا في الجاهلية، يعمل
السيوف، ثم نزل الكوفة، ومات بها سنة (37) هـ مُنصَرَفَ عليّ رضي الله عنه من صِفِّين، وصَلَّى عليه عليّ رضي الله عنه، وقيل: لما رجع عليّ من صفّين مرّ على قبر خبّاب، فقال: رحم اللَّه خبّابًا، أسلم راغبًا، وهاجر طائعًا، وعاش مُجاهدًا، وابتُلي في جسمه أحوالاً، ولن يُضيّع اللَّه أجره. تقدّمت ترجمته 2/ 497. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف الإسناد:
(منها): أن رجاله كلهم من رجال الجماعة، وفيه رواية تابعي، عن تابعيّ، وشيخ المصنف أحد مشايخ الأئمة الستة دون واسطة، و"قيس" هو التابعي الذي انفرد من بين التابعين بالرواية عن العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهم. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن قيس بن أبي حازم -رحمه اللَّه تعالى- أنه (قال: دَخَلْتُ عَلَى خَباب) ابن الأرت
- رضي اللَّه تعالى عنه - (وَقَدِ اكْتَوَى فِي بَطْنِهِ سَبعَا) جملة في محل نصب على الحال، أي والحال أنه قد تداوى بالكيّ من مرض أصابه في بطنه سبع كَيّات.
ولفظ أحمد من طريق أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب قال: دخلت على خباب، وقد اكتوى سبعا فقال لولا أني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يتمنى أحدكم الموت" لتمنيته، ولقد رأيتني مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما أملك درهما وإن في جانب بيتي الآن لأربعين ألف درهم، قال: ثم أتُي بكفنه، فلما رآه بكى، قال: لكن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة مَلْحَاء
(1)
، إذا جعلت على رأسه قَلَصَت عن قدميه، وإذا جُعلت على قدميه قلصت عن رأسه، حتى مُدَّت على رأسه وجُعل على قدميه الإذخر. انتهى.
و"الكيّ": هو إحراق الجلد بحديدة ونحوها، قال الطيبيّ رحمه الله: الكيّ علاج معروف في كثير من الأمراض، وقد ورد النهي عن الكيّ، فقيل: النهي لأجل أنهم كانوا يرون الشفاء منه، وأما إذا اعتقد أنه سبب، وأن الشافي هو اللَّه، فلا بأس به، ويجوز أن يكون النهي من قِبَل التوكّل، وهو درجة أخرى غير الجواز انتهى. ويؤيده حديث:"لا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربّهم يتوكلون" متفق عليه.
وفي رواية الترمذيّ: "فقال: ما أعلم أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لقي من البلاء ما لقيتُ". أي من الوجع الذي أصابه. وحكى الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح
(1)
- أي فيها خطوط بيض وسود.
الترمذيّ": احتمال أن يكون أراد بالبلاء ما فُتح عليه من المال بعد أن كان لا يجد درهما، كما وقع صريحًا في رواية عنه، قال: "لقد كنتُ وما أجد درهما على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفي ناحية بيتي أربعون ألفًا". يعني الآن. وتعقّبه بأن غيره من الصحابة كان أكثر مالاً منه، كعبد الرحمن بن عوف. واحتمال أن يكون أراد ما لقي من التعذيب في أول الإسلام من المشركين، وكأنه رأى أن اتساع الدنيا عليه يكون ثواب ذلك التعذيب، وكان يُحبّ أن لو بقي له أجره مُوَفّرًا في الآخرة. قال: ويحتمل أن يكون أراد ما فَعَلَ من الكيّ مع ورود النهي عنه، كما قال عمران بن حُصين رضي الله عنه: "نُهينا عن الكي، فاكتوينا، فما أفلحنا"
(1)
. قال: وهذا بعيد، وكذلك الذي قبله انتهى
(2)
.
(وَقَالَ) أي خباب رضي الله عنه، وفي نسخة:"فقال"(لَوْلَا أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالمَوْتِ، دَعَوْتُ بِهِ) أي ليستريح من شدّة المرض الذي من شأن الجِبِلّة البشريّة أن تنفِرَ منه، ولا تصبر عليه.
وفيه أن الدعاء بالموت ممنوع، وهذا لا يعارض ما تقدّم من حديث أنس رضي الله عنه، لأن المراد هنا الدعاء بالجزم، وهناك بالتعليق، كما تقدّم إيضاحه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:
أخرجه هنا 2/ 1823 و"الكبرى" 2/ 1949 - بالسند المذكور. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (خ) 7/ 156 و 8/ 94 و 8/ 13 أو 114 و 9/ 104 (م) 8/ 64 (ت) 2483 و 970 (الحميديّ) 154 (أحمد) 5/ 109 و 110 و 111 و 112 و 6/ 395. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وقال الترمذيّ: حديث حسن صحيح.
(2)
- راجع "الفتح" ج10 ص 134.
3 - كَثْرَةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ
1824 -
أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
(1)
الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو. ح وَأَخْبَرَنِي
(2)
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» .
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(الحسين بن حُريث) الخزاعي، أبو عمار المروزيّ ثقة [10] 44/ 52.
2 -
(الفضل بن موسى) السِّينانيّ، أبو عبد اللَّه المروزيّ ثقة ثبت، وربما أغرب من كبار [9] 83/ 100.
3 -
(محمد بن عبد اللَّه بن المبارك) الْمُخَرِّميّ، أبو جعفر البغداديّ الحافظ [11] 43/ 50.
4 -
(يزيد) بن هارون الواسطيُّ، ثقة متقن عابد [9] 153/ 244.
5 -
(محمد بن إبراهيم) بن عثمان بن خُواسّتي العبسيّ مولاهم، الكوفيّ، والد بني أبي شيبة: أبي بكر، وعثمان، والقاسم، ثقة [9].
قال الدوريّ، عن ابن معين: كان قاضيًا ببعض بلاد فارس. وقال الحسين بن حِبّان: قال أبو زكريّا -يعني ابن معين-: رأيته ببغداد، وكان رجلاً جميلاً، ثقة، كيّسًا، أكيس من يزيد بن هارون، وكان على قضاء فارس قديمًا، ولم أكتب عنه شيئًا. وقال في موضع آخر: وكان ثقة مأمونا. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال القاسم بن محمد: مات أبي سنة (182) وهو ابن (77) سنة. انفرد به النسائيّ، وله عنده في هذا الكتاب حديث الباب فقط.
6 -
(محمد بن عمرو) بن علقمة المدنيّ، صدوق له أوهام [6] 16/ 17.
7 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة فقيه [3] 1/ 1.
8 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة، وأبو هريرة
(1)
- وفي نسخة: "ثنا".
(2)
- وفي نسخة: "أنا".
- رضي الله عنه رَأْسُ المكثرين من الرواية، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللّذّاتِ") زاد في "الكبرى": قال محمد
(1)
في حديثه: "الموت". وزاد ابن حبّان في "صحيحه": "فما ذكره عبد قطّ، وهو في ضِيق إلا وسّعه عليه، ولا ذكره، وهو في سعة إلا ضيّقه عليه" انتهى
(2)
.
و"الهاذم": بالذال المعجمة بمعنى القاطع، أو بالمهملة، من هدم البناء، والمراد به الموت، وهو هاذم اللذات، إما لأن ذكره يزهّد فيها، أو لأنه إذا جاء ما يُبقي من لذائذ الدنيا شيئا.
قال ميرك: وصحح الطيبيّ كونه بالدال المهملة، حيث قال: شبّه اللذات الفانية، والشهوات العاجلة، ثم زوالها ببناء مرتفع ينهدم بصدمات هائلة، ثم أمر المُنهَمِك فيها بذكر الهادم، لئلاّ يستمرّ على الركون إليها، ويشتغل عما يجب عليه من التزوّد إلى دار القرار انتهى كلامه.
لكن قال الإسنويّ في "المهمّات": الهاذم بالذال المعجمة: هو القاطع، كما قاله الجوهريّ، وهو المراد هنا، وقد صرح السهَيْلي في "الروض الأنف" بأن الرواية بالذال المعجمة، ذَكَرَ ذلك في غزوة أُحُد، في الكلام على قتل وَحْشيّ لحمزة رضي الله عنهما.
وقال الجزريّ: هادم يُروى بالدال المهملة: أي دافعها، أو مخرّبها، وبالمعجمة: أي قاطعها، واختاره بعض مشايخنا، وهو الذي لم يصحّح الخطّابيّ غيره، وجعل الأول من غلط الرواة. كذا في "المرقاة".
وقال الحافظ في "التلخيص": ذكر السهيليّ في "الروض الأنف" أن الرواية فيه بالذال المعجمة، ومعناه القاطع، وأما بالمهملة، فمعناه المزيل للشيء، وليس ذلك مرادا هنا، وفي هذا النفي نظر لا يخفى انتهى كلام الحافظ.
قال الأمير الصنعانيّ رحمه الله: يريد أن المعنى على الدال المهملة صحيح، فإن الموت يُزيل اللذّات كما يقطعها، ولكن العمدة الرواية انتهى
(3)
.
والحديث دليل على أنه ينبغي للإنسان أن لا يغفل عن ذكر أعظم المواعظ، وهو
(1)
- الظاهر أنه محمد بن عمرو الراوي عن أبي سلمة، أراد به تفسير الهاذم، واللَّه أعلم.
(2)
- انظر "تقريب الإحسان" ج 7 ص 261.
(3)
- انظر "المرعاة" ج 5 ص 298.
الموت، لأنه أزجر عن المعصية، وأدعى إلى الطاعة. واللَّه تعالى أعلم.
(قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ:: مُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيمَ وَالِدُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ) وعبارة "الكبرى": قال لنا أبو عبد الرحمن: محمد بن إبراهيم هو والد أبي بكر بن أبي شيبة، وعثمان بن أبي شيبة، والقاسم بن أبي شيبة، وهم ثلاث إخوة، وأبو بكر ثقة، وعثمان لا بأس به، والقاسم ليس بثقة انتهى
(1)
.
وقال الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- في "مسنده" عقب هذا الحديث: محمد بن إبراهيم، هو أبو بني شيبة. ثم قال: حدثنا يزيد، عن محمد بن عمرو بتسعة وتسعين حديثًا، ثم أتمّها بهذا الحديث، عن محمد بن إبراهيم، عن محمد عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم تمام المائة انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا-3/ 1824 - و"الكبرى" 3/ 1950 بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (ت) 2307 (ق) 4258 (أحمد) 2/ 292 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1825 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ يَحْيَى، عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَيِّتَ، فَقُولُوا خَيْرًا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ، يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ» . فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَقُولُ: قَالَ: «قُولِي: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا، وَلَهُ، وَأَعْقِبْنِي مِنْهُ، عُقْبَي حَسَنَةً» ، فَأَعْقَبَنِي اللَّهُ عز وجل مِنْهُ، مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن المثنى) أبو موسى العنزيّ البصريّ، ثقة حافظ [10] 64/ 80.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطّان تقدم قريبًا.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مِهْران الكوفيّ الإمام الحجة الثبت [5] 17/ 18.
4 -
(شقيق) بن سلمة المعروف بـ "أبي وائل" ثقة ثبت مخضرم [2] 2/ 2.
(1)
- انظر "السنن الكبرى" ج 1 ص 601.
5 -
(أم سلمة) أم المؤمنين هند بنت أبي أمية المخزومية رضي الله عنها 123/ 183 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف، وفيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه شيخ المصنف أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:"إِذا حَضَرْتُمُ الميت) وكذا هو في رواية أبي داود، والبيهقيّ، وفي بعض النسخ: "إذا حضرتم المريض"، ولفظ مسلم: "إذا حضرتم المريض، أو الميت"، (فَقُولُوا. خَيْرًا) قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: أي ادعوا له بالخير، لا بالشرّ، أو ادعوا بالخير مطلقًا، لا بالويل، ونحوه، والأمر فيه للندب، ويحتمل أن المراد: فلا تقولوا شرّا، فالمقصود النهي عن الشرّ بطريق الكناية، لا الأمر بالخير انتهى.
وقال المظهر: أي ادعوا للمريض بالشفاء، وقولوا: اللَّهم اشفه، وللميت بالرحمة والمغفرة، وقولوا: اللَّهم اغفر له، وارحمه انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في قول السنديّ: والأمر فيه للندب نظر، بل الظاهر أنه للوجوب؛ إن لا صارف له، وكذا الاحتمال الذي ذكره أخيرًا فيه بعدٌ، والظاهر أن الدعاء أعمّ من أن يكون لنفسه، وللميت، ففي رواية لمسلم من طريق قبيصة بن ذؤيب، عن أم سلمة، قالت: دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، على أبي سلمة، وقد شَقَّ بصرُهُ، فأغمضه، ثم قال:"إن الروح إذا قبض، تبعه البصر"، فضَجَّ ناس من أهله، فقال:"لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون"، ثم قال:"اللَّهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله، يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه". انتهى. واللَّه تعالى أعلم.
(فَإِنَّ الْمَلَاِئكَةَ) الفاء للتعليل، أي لأن الملائكة الخ، والمراد بالملائكة، ملك الموت، وأعوانه، أو عموم الملائكة الذين يحضرون الميت، وهذا أولى، لما سيأتي -9/ 1833 - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "إذا حُضر المؤمنُ أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء .... وإذا احتضر الكافر أتته ملائكة العذاب بِمِسْحِ
…
" الحديث (يُؤَمِّنُون) بالتشديد، من التأمين، أي يقولون آمين (عَلَى مَا تَقُولُونَ) أي من الدعاء بخير، أو شرّ، ودعاء الملائكة مستجاب، فلا يجوز للشخص أن يدعو بما فيه مضرّة له، أو لغيره.
قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله:"إذا حضرتم الميت، فقولوا خيرًا" أمر تأديب، وتعليم بما يقال عند الميت، وإخبارٌ بتأمين الملائكة على دعاءِ مَن هناك، ومن هذا استحبّ علماؤنا أن يحضر الميت الصالحون، وأهل الخير حالة موته ليذكّروه، ويدعوا له، ولمن يخلفه، ويقولوا خيرًا، فيجتمع دعاؤهم، وتأمين الملائكة، فينتفع الميت، ومن يُصاب به، ومن يَخلُفه انتهى
(1)
.
قالت أم سلمة رضي الله عنها (فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ) أي زوجها قبل النبي صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد اللَّه ابن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللَّه بن عُمَر بن مخزوم المخزوميّ، أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وابن عمته بَرّة بنت عبد المطلب، كان رضي الله عنه من السابقين إلى الإسلام، شهد بدرًا، ومات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، في جمادى الآخرة، سنة أربع، بعد أُحُد، فتزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم بعده زوجته أمَّ سلمة رضي الله عنها.
(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَقُولُ: قَالَ: "قُولِي: اللَّهُمَّ اغفِرْ لَنَا وَلَهُ) ولفظ مسلم: "فلما مات أبو سلمة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول اللَّه إن أبا سلمة قد مات، قال: "قولي: اللَّهم اغفر لي وله
…
" (وَأَعْقِبْنِي) من الإعقاب، أي عَوِّضني، وأعطِنِي بدله، قال الشاعر [البسيط]:
ومَنْ أَطَاعَ فَأعْقِبْهُ بِطَاعَتِهِ
…
كَمَا أَطَاعَكَ وَادْلُلْهُ عَلَى الرَّشَدِ
(2)
(مِنْه) أي بدله، فـ "من" بمعنى "بدل"، كما قال في "الخلاصة":
لِلانْتهَا "حَتَّى" وَلَامٌ وَ "إِلَى"
…
وَ"مِنَ" وَبَاءٌ يُفهِمَأنِ بَدَلَا
(عُقبَى حسَنَةً) بضم العين المهملة، وسكون القاف، بوزن بُشْرى: أي بدلًا صالحًا (فَأَعْقَبَنِي اللَّهُ عز وجل) مرتَّبٌ على محذوف، أي فقلت ذلك، فأعقبني اللَّه عز وجل (مِنْهُ، مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم) تعني أن اللَّه تعالى عوّضها خيرًا من أبي سلمة رضي الله عنه، وذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، حيث تزوّجها بعد موته.
أخرج مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه": من طريق عُمر بن كثير بن أفلح، عن ابن سَفِينة، عن أم سلمة، أنها قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"ما من مسلم، تصيبه مصيبة، فيقول ما أمره اللَّه: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، اللهم اجُرني في مصيبتي، وأَخلِف لي خيرا منها، إلا أخلف اللَّه له خيرا منها"، قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أيُّ المسلمين خير من أبي سلمة؟ أولُ بيت هاجر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم إني
(1)
- "المفهم" ج 2 ص 571 - 572.
(2)
- راجع "لسان العرب" في مادة "عقب".
قلتها، فأخلف اللَّه لي رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، قالت: أرسل إلي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حاطبَ بن أبي بَلْتَعَةَ، يخطبني له، فقلت: إن لي بنتا، وأنا غَيُور، فقال:"أما ابنتها، فندعو اللَّه أن يغنيها عنها، وأدعو اللَّه أن يذهب بالغيرة" انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مناسبة هذا الحديث للباب غير واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا-3/ 1825 - و"الكبرى" 3/ 1951 - وفي "عمل اليوم والليلة" 1069 - بالإسناد المذكور. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه (م) 3/ 38 (د) 3115 (ت) 977 (ق) 1447 (أحمد) 6/ 291 و 306 و 322 (عبد ابن حميد) 1537 واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: الأمر لمن حضر المريض أن لا يدعو إلا بخير، لأن الملائكة يؤمّنون على دعائه، فإذا دعا بغير خير كان وَبَالاً عليه. ومنها: حضور الملائكة عند المريض، وتأمينهم على دعاء الداعين في ذلك المكان. ومنها: بيان استجابة دعاء الملائكة. ومنها: أن من مات له زوج، أو زوجة، أو نحوهما ينبغي له أن يسترجع، ويدعو بقوله: اللَّهم اغفر لي وله، وأعقبني منه عُقْبَى حسنة، فمن اللَّه تعالى سيعوّضه خيرًا منه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
4 - بَابُ تَلْقِينِ الْمَيّتِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "التلقين" كالتفهيم، وزنًا ومعنًى، يقال: لقّنتُهُ الشيءَ، فلتلقّنه، أي فهَمتُهُ، ففَهِمَمه منّي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(1)
- انظر "صحيح مسلم" ج 6 ص 460. بنسخة شرح النوويّ الجديد.
1826 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ
(1)
ح وَأَخْبَرَنَا
(2)
قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» .
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفيّ البصريّ الحافظ الثبت [10] 4/ 4.
2 -
(قتيبة) بن سعيد تقم قريبا.
3 -
(بشر بن المفضّل) بن لاحق، أبو إسماعيلى البصريّ، ثقة ثبت عابد [8] 66/ 82.
4 -
(عمارة بن غَزيّة) - بفتح الغين المعجمة، وكسر الزاي- الأنصاريّ المازنيّ المدني، لا بأس به [6] 168/ 1137.
5 -
(يحيى بن عُمارة) بن أبي حسن الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ثقة [3] 80/ 97.
6 -
(عبد العزيز) بن محمد الدّراورديّ المدنيّ، صدوق كان يحدث من كتب غيره، فيخطئ [8] 84/ 101.
7 -
(أبو سعيد) سَعْد بن مالك بن سِنَان الخدريّ الصحابي المشهور رضي الله عنه 169/ 162. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وفيه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَقِّنُوا) من التلقين، وهو التذكير، أي ذكّروا (مَوْتَاكُمْ) أي الذين هم في سياق الموت، سمّاهم موتى، لأن الموت قد حضرهم. قال الطيبيّ رحمه الله: أي من قَرُب منكم من الموت، سماه باعتبار ما يؤول إليه مجازًا، وعليه يُحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "اقرءو على موتاكم {يس} انتهى
(3)
.
(1)
- وفي نسخة: "عن أبي سعيد".
(2)
- وفي نسخة: "وأنبأنا".
(3)
- أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، من حديث أبي عثمان، وليس بالنهديّ، عن أبيه، عن معقل بن يسار، قال الدارقطنيّ: هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصحّ في الباب حديث انتهى. وأعله ابن القطّان بالاضطراب، وبالوقف، وبجهالة أبي عثمان، وأبيه. انظر "التخليص الحبير" ج 2 ص 212 - 213.
ويدلّ عليه أن ابن حبّان روى هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه باللفظ المذكور، وزاد:"فإنه من كان آخر كلامه لا إله إلا اللَّه، دخل الجنّة يومًا من الدهر، وإن أصابه ما أصاب قبل ذلك"
(1)
.
قيل: معنى "التلقين" أن يُذكَرَ له "لا إله إلا اللَّه"، ويُتلفّظ به بحضرته، حتى يسمع، فيتفطّن، فيقوله، ولا يؤمر به، إلا أن يكون كافرًا، فيقال له: قل: لا إله إلا اللَّه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لعمه أبي طالب، وللغلام اليهوديّ الذي كان يخدمه صلى الله عليه وسلم.
والمقصود من التلقين أن يكون آخر كلامه لا إله إلا اللَّه، ولذا قالوا: إذا قال مرة لا تُعاد عليه، إلا أن يتكلّم بكلام آخر. ذكر الترمذي رحمه الله في "الجامع" أنه رُوي عن ابن المبارك أنه لما حضره الوفاة جعل رجل يلقنه لا إله إلا اللَّه، ويكثر عليه، فقال له عبد اللَّه: إذا قلتُ ذلك مرّة، فأنا على ذلك ما لم أتكلّم بكلام انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: وأجمع العلماء على هذا التلقين، وكرهوا الإكثار عليه، والموالاة، لئلا يَضجَرَ بضيق حاله، وشدّة كربه، فيكره ذلك بقلبه، ويتكلّم بما لا يليق انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لقنوا موتاكم الخ" أي قولوا لهم ذلك، وذكّروهم به عند الموت، وسماهم صلى الله عليه وسلم موتى لأن الموت قد حضرهم، وتلقين الموتى هذه الكلمةَ سنّة مأثورة، عَمِلَ بها المسلمون، وذلك ليكون آخر كلامه "لا إلى إلا اللَّه"، فيُختم له بالسعادة، وليدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"من كان آخر كلامه لا إله إلا اللَّه دخل الجنّة"
(2)
، وليُنبّه المحتضر على ما يدفع به الشيطان، فإنه يتعرّض للمحتضر ليُفسد عليه عقيدته، فإذا تلقّنها المحتضر، وقالها مرّة واحدة، فلا تُعاد عليه، لئلا يَضجَرَ، وقد كره أهل العلم الإكثار عليه من التلقين، والإلحاح عليه إذا هو تلقّنها، أو فُهِم عنه ذلك، وفي أمره صلى الله عليه وسلم بتلقين الموتى ما يدلّ على تعيّن الحضور عند المحتضر، لتذكيره، وإغماضه، والقيام عليه، وذلك من حقوق المسلم على المسلمين، ولا خلاف في ذلك انتهى كلام القرطبي
(3)
.
وقال القاري رحمه الله: الجمهور على أنه يُندب هذا التلقين، وظاهر الحديث يقتضي وجوبه، وذهب إليه جمع، بل نقل بعض المالكية الاتفاق عليه انتهى
(4)
.
(1)
- حديث صحيح. انظر "الإحسان" ج 7 ص 272.
(2)
- حديث صحيح، رواه أحمد، وأبو داود من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
(3)
- "المفهم" ج 2 ص 570.
(4)
- انظر "المرعاة" ج 5 ص 308.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر قول من قال بالوجوب؛ لصريح الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: "لقّنوا"، والذين قالوا بالندبية لم يذكروا له صارفًا عن الوجوب. واللَّه تعالى أعلم.
(لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ") فقط على الأصحّ، وقيل: مع "محمد رسول اللَّه"، فالمراد كلمتا الشهادة. قال الزين ابن المنيّر: قول: "لا إله إلا اللَّه" لَقَبٌ جرى على النطق بالشهادتين شرعًا انتهى. وقال الدَّمِيريّ: نقل في "الروضة" عن الجمهور الاقتصار على "لا إله إلا اللَّه"، ونقل جماعة من الأصحاب -يعني الشافعيّة- أنه يضيف إليها "محمد رسول اللَّه"، لأن المراد ذكر التوحيد، والمراد موته مسلمًا، ولا يسمّى مسلما إلا بهما، والأول أصحّ، أما إذا كان المحتضر كافرًا، فينبغي الجزم بتلقين الشهادتين، لأنه لا يصير مسلما إلا بهما كذا في "السراج الوهّاج"، ونقله في "المرعاة"
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاقتصار على "لا إله إلا اللَّه" هو الراجح عندي، عملاً بظاهر النصّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه المصنف هنا -4/ 1826 - و "الكبرى" 4/ 1952 - وأخرجه (م) رقم 916 وأخرجه أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 917 (د) 3117 (ت) 976 (ق) 1445 (أحمد) 3/ 3 (عبد بن حميد)973. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1827 -
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ ابْنُ صَفِيَّةَ، عَنْ أُمِّهِ، صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقِّنُوا هَلْكَاكُمْ، قَوْلَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إبراهيم بن يعقوب) الجُوزَجانيّ نزيل دمشق الحافظ الحجة [11] 122/ 174.
2 -
(أحمد بن إسحاق) بن زيد بن عبد اللَّه بن أبي إسحاق الحضرميّ، أبو إسحاق البصريّ، ثقة [9].
(1)
- المصدر المذكور.
وثقه يعقوب بن شيبة، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائيّ، ومحمد بن سعد. وقال النسائيّ أيضًا: ليس به بأس. وقال المرّوذيّ، عن أحمد: لم يكن به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان يحفظ حديثه. وقال ابن سعد: مات بالبصرة سنة (211) روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وابن ماجه، وله عند المصنف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث: هذا، و 1935 حديث. "لا تذكروا هلكاكم إلا بخير"، و2840 حديث:"تزوج ميمونة، وهو محرم".
3 -
(وهيب) بن خالد الباهليّ مولاهم البصريّ، ثقة ثبت تغير قليلا في الآخر [7] 21/ 427.
4 -
(منصوو ابن صفيّة) هو ابن عبد الرحمن الحَجَبيّ المكّيّ، نُسب إلى أمه، ثقة [5] 159/ 251.
5 -
(صفية بنت شيبة) بن عثمان بن أبي طلحة العبدريّة، اختلف في صحبتها 159/ 251.
6 -
(عائشة) رضي الله عنها 5/ 5.
وقوله: "هلكاكم" كموتاكم وزنًا ومعنى، ووقع في النسخة "الهندية"، و"الكبرى" بلفظ "موتاكم"، واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-4/ 1827 - و"الكبرى" 4/ 1953 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
5 - بَابُ عَلَامَةِ مَوْتِ الْمُؤْمِنِ
1828 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَوْتُ الْمُؤْمِنِ، بِعَرَقِ الْجَبِينِ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(المثنّى بن سعيد) الضُّبَعيّ -بضم المعجمة، وفتح الموحدة- أبو سعيد البصريّ القَسّام الذّرّاع القصير، ثقة [6].
وثقه أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو داود، والعجلي. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، قال: وكان يخطىء. روى له الجماعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط.
2 -
(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري، ثقة ثبت مدلس [4] 30/ 34.
3 -
(عبد اللَّه بن بريدة) بن الحُصيب الأسلميّ المروزيّ، ثقة [3] 25/ 393.
4 -
(أبوه) بُريدة بن الحصيب الأسلميّ، أبو سهل الصحابي المشهور، أسلم رضي الله عنه قبل بدر رضي الله عنه، ثم نزل مرو مات سنة (63) 101/ 133 وشيخ المصنف، ويحيى القطان تقدما قريبا. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعي، ورواية الابن، عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَوتُ الْمُؤْمِنِ، بِعَرَقِ الْجَبِينِ)"العَرَق"-بفتحتين-: ما جَرَى من أصول الشَّعَر، من ماء الجِلْد، اسم جنس، لا يجمع. قاله في "اللسان". و"الجَبِين"-بفتح، فكسر- ناحية الجَبْهَة، من مُحاذاة النَّزَعَة
(1)
إلى الصُّدْغ، وهما جبينان عن يمين الجبهة، وشمالها، قاله الأزهريّ، وابن فارس، وغيرهما، فتكون الجبهة بين جَبِينين، وجمعه جُبُن -بضمتين، مثل بَرِيد وبُرُد، وأَجْبِنة، مثلُ أسلحة. قاله في "المصباح".
قال الحاَفظ العراقي -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح الترمذيّ": اختُلف في معنى هذا الحديث، فقيل: إن عَرَقَ الجبين يكون لما يعالج من شدّة الموت، وعليه يدلّ حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ: وفي حديث ابن مسعود: "موت المؤمن بعرق الجبين، يبقى عليه البقيّة من الذنوب، فيجازَى بها عند الموت، أو يُشدّد ليتمحّص عنه ذنوبه". هكذا ذكره في "التذكرة"، ولم ينسبه إلى من خرّجه من أهل الحديث.
وقيل: إن عرق الجبين يكون من الحياء، وذلك أن المؤمن إذا جاءته البشرى، مع ما كان قد اقترف من الذنوب، حصل له بذلك خَجَل، واستحياءٌ من اللَّه تعالى، فيَعْرَق بذلك جبينه. قال القرطبيّ في "التذكرة": قال بعض العلماء: إنما يَعرَق جبينه حياءً من ربّه، لما اقترف من مخالفته، لأن ما سفل منه قد مات، وإنما بقيت قوى الحياة،
(1)
- النَّزَعة" بفتحتين: موضع انحسار الشعر عن جانبي الجبهة. قاله في "المصباح".
وحركاتها فيما علاه، والحياء في العينين، فذاك وقت الحياء، والكافر في عَمًى من هذا كله، والْمُوَحِّد المعذّب في شغل عن هذا بالعذاب الذي قد حلّ به، وإنما العرق الذي يظهر لمن حلّت به الرحمة، فإنه ليس من وليّ، ولا صِدِّيق، ولا بَرّ، إلا وهو مُستَحٍ من ربه مع البشرى، والتُّحَف، والكرامات.
قال العراقيّ: ويحتمل أن عَرَق الجبين علامة جُعلت لموت المؤمن، وإن لم يُعَقل معناه انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن الاحتمال الأخير الذي ذكره العراقيّ رحمه الله هو الظاهر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث.
المسألة الأولى: في درجته: حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه هذا صحيح.
فإن قلت: قتادة مدلّس، ولم يصرّح بالسماع من ابن بريدة، وقال الإمام الترمذيّ رحمه الله: قال بعض أهل الحديث: لا نعرف لقتادة سماعا من عبد اللَّه بن بريدة، وأيضا تكلّم بعضهم في سماع عبد اللَّه بن بريدة من أبيه، فكيف يصحّ؟
أجيب: بأن قتادة لم ينفرد به، بل رواه معه كهمس بن الحسن، كما في الإسناد التالي، وأما سماع عبد اللَّه من أبيه، فالجمهور على صحته، وقد أخرج الشيخان له من روايته عن أبيه، وكفى بذلك صحّةً. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-5/ 1828 - و 1829 و"الكبرى" 5/ 1954 و1955 وأخرجه (ت) 982 (ق) 1452 (أحمد) 5/ 350 و 357 و 360. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1829 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ، بِعَرَقِ الْجَبِينِ» .
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن معمر) بن رِبعيّ القيسيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ المعروف بالبحرانيّ، صدوق، من كبار [11] 2/ 1370.
(1)
- راجع "زهر الربى" للسيوطي ج 4 ص 6.
قال أبو داود: ليس به بأس، صدوق. وقال النسائيّ: ثقة، وقال مرّة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال البزار: كان من خيار عباد اللَّه. وقال الخطيب: ثقة. وقال مسلمة: لا بأس به. وقال أبو عروبة: كبير، من أهل الصناعة. وذكره ابن حيان في "الثقات"، وقال: مات بعد (250).
وهو أحد مشايخ الأئمة الستة الذين رووا عنهم بغير واسطة، وهم تسعة، وقد تقدّموا غير مرّة. وله عند المصنف عشرون حديثًا.
2 -
(وسف بن يعقوب) بن أبي القاسم السَّدُوسيّ مولاهم، أبو يعقوب السِّلْعِيّ
(1)
البصريّ الضُّبَعيّ، كان ينزل في بني ضُبَيعة، صدوق [9].
قال الأثرم عن أحمد: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، مات سنة (201) روى له البخاريّ، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه.
3 -
(كهمس) بن الحسن التميميّ، أبو الحسن البصريّ، ثقة [5] 39/ 68.
و"ابن بريدة": هو عبد اللَّه المذكور في السند الماضي، كما بينه المصنف في "الكبرى"، ولفظه:"عن ابن بُريدة"، وهو عبد اللَّه انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
6 - شِدّةُ الْمَوْتِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بهذه الترجمة بيان فضل شدة الموت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مع كمال رتبته اشتدّ عليه، فلولا رفعة فضله، وعظيم ثوابه لما ابتلى اللَّه تعالى به حبيبه الأكرم، وخليله الأعظم، صلى الله عليه وسلم ،واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1830 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ،
(1)
-بكسر المهملة، وفتح اللام، وقيل: بفتح أوله، ثم سكون: نسبة إلى سَلْعة، أي شَجّة بقفاه. أفاده في "اللبّ"، و "المصباح".
قَالَتْ: "مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّهُ لَبَيْنَ حَاقِنَتِي، وَذَاقِنَتِي، فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لأَحَدٍ أَبَدًا، بَعْدَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عمرو بن منصور) النسائيّ، الثقة الثبت [11] 108/ 147.
2 -
(عبد اللَّه بن يوسف) التنّيسيّ ثقة متقن، من كبار [10] 17/ 1540.
3 -
(الليث) بن سعد الإمام المصريّ الحافظ الحجة الثبت [7] 31/ 35.
4 -
(ابن الهاد) يزيد بن عبد اللَّه بن أسامة بن الهاد الليثيّ المدنيّ، ثقة مكثر [5] 73/ 90.
5 -
(عبد الرحمن بن القاسم) بن محمد بن أبي بكر التيميّ الثبت الفاضل الحجة المدنيّ [6] 120/ 166.
6 -
(أبوه) هو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي المدنيّ الثبت الفاضل أحد الفقهاء السبعة [3] 120/ 166.
7 -
(عائشة) رضي الله عنها 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وفيه رواية كبير عن صغير، فإن ابن الهاد من الطبقة الخامسة، وعبد الرحمن من السادسة، وفيه أحد الفقهاء السبعة، وهو القاسم بن محمد بن أبي بكر، وفيه رواية الابن عن أبيه، عن عمته، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى - عنها من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ:"مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّهُ) الواو للحال، أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم (لَبَيْنَ حَاقِنَتي، وَذَاقِنَتِي) وفي رواية للبخاريّ من هذا الوجه: "مات ورأسه بين حاقنتي وذاقنتي"، وفي رواية له منِ طريق ذَكْوَان، عنها: "توفّي في بيتي، وفي يومي، وبين سَحْري، ونَحْري، وإن اللَّه جمع بين ريقي وريقه
(1)
عند موته في آخر يوم من الدنيا". و"الحاقنة" -بالمهملة والقاف-: ما سفل من الذَّقَن، و"الذاقنة": ما علا منه، أو "الحاقنة": نُقْرَة التَّرْقُوة، وهما حاقنتان، ويقال: إن الحاقنة: المطمئنّ من الترقوة والحلق. وقيل: ما دون الترقوة من الصدر. وقيل: هى تحت السرّة. وقال ثابت: الذاقنة طرف الحلقوم.
(1)
- سيأتي تفسير جمع الريق في رواية ذكوان الذي سأورده عن "صحيح البخاريّ"، إن شاء اللَّه تعالى.
و"السَّحْر"- بفتح المهملة، وسكون الحاء المهملة-: هو الصدر، وهو في الأصل الرِّئة.
و"النَّحْر"- بفتح النون، وسكون المهملة، والمراد به موضع النحر. وأغرب الداوديّ، فقال: هو ما بين الثديين.
والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة هو ما بين السحر والنحر. والمراد أنه صلى الله عليه وسلم مات ورأسه بين حَنَكها وصدرها رضي الله عنها. قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا لا يغاير حديثها أنه كان على فخذها، لأنه محمول على أنها رفعته من فخذها إلى صدرها.
قال: وهذا الحديث يعارضه ما أخرجه الحاكم، وابنُ سعد من طُرُق:"أن النبي صلى الله عليه وسلم مات، ورأسه في حجر عليّ"، وكلّ طريق منها لا يخلو من شيعيّ، فلا يُلتفت إليهم. قال: وقد رأيت بيان حال الأحاديث التي أشرت إليها دفعًا لتوهم التعصّب. قال ابن سعد: "ذِكْرُ من قال: توفّي في حجر عليّ"، وساق من حديث جابر رضي الله عنه: سأل كعبُ الأحبار عليًا ما كان آخر ما تكلّم به صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أسندته إلى صدري، فوضع رأسه على منكبي، فقال:"الصلاة الصلاة"، فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء. وفي سنده الواقديّ، وحرام
(1)
بن عثمان، وهما متروكان. وعن الواقديّ، عن عبد اللَّه بن محمد بن عمر بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مرضه: "ادعوا لي أخي"، فدُعي له عليّ، فقال:"ادن منّي"، قال: فلم يزل مستندًا إليّ، وإنه ليكلّمني حتى نزل به، وثقل في حجري، فصِحتُ يا عباس أدركني إني هالك، فجاء العباس، فكان جهدهما جميعًا أن أضجعاه". فيه انقطاع مع الواقديّ، وعبد اللَّه فيه لين.
وبه، عن أبيه، عن علي بن الحسين:"قُبض، ورأسه في حجر علي". فيه انقطاع. وعن الواقديّ، عن أبي الحويرث، عن أبيه، عن الشعبيّ:"مات ورأسه في حجر عليّ". فيه الواقديّ، والانقطاع، وأبو الحويرث اسمه عبد الرحمن بن معاوية بن الحارث المدنيّ، قال مالك: ليس بثقة، وأبوه لا يعرف حاله.
وعن الواقديّ، عن سليمان بن داود بن الحصين، عن أبيه، عن أبي غَطَفَان: سألت ابن عباس؟ قال: توفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو إلى صدر عليّ، قال: فقلت: فإن عروة حدثني عن عائشة، قالت: توفي النبي صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، فقال ابن عباس: لقد توفّي، وإنه لمستند إلى صدر عليّ، وهو الذي غسله، وأخي الفضل، وأَبَى أبي أن
(1)
- وقع نسخة "الفتح""حرم" والذي في ميزان الاعتدال، و"لسان الميزان":"حرام بن عثمان" الأنصاريّ المدني، والظاهر أن ما في نسخة "الفتح" تصحيف. قال الشافعي وغيره: الرواية عن حرام حرام. انظر "الميزان" ج 1 ص 468.
يحضر. فيه الواقديّ، وسليمان لا يُعرف حاله، وأبو غطفان -بفتح المعجمة، ثم المهملة- اسمه سعد، وهو مشهور بكنيته، وثقه النسائيّ.
وأخرج الحاكم في "الإكليل" من طريق حبّة العَدَنيّ، عن عليّ: أسندته إلى صدري، فسألت نفسه. وحبة ضعيف. ومن حديث أم سلمة، قالت: علي آخرهم عهدًا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. والحديث عن عائشة أثبت من هذا، ولعلها أرادت آخر الرجال به عهدًا. ويمكن الجمع بأن يكون عليّ آخرهم عهدا به، وأنه لم يفارقه حتى مال، فلما مال ظنّ أنه مات، ثم أفاق بعد أن توجه، فأسندته عائشة بعده إلى صدرها، فقبض.
ووقع عند أحمد من طريق يزيد بن بابنوس -بموحدتين بينهما ألف غير مهموز، وبعد الثانية المفتوحة نون مضمومة، ثم واو ساكنة، ثم سين مهملة- في أثناء حديث عائشة رضي الله عنها: "فبينما رأسه ذات يوم على منكبي، إذ مال رأسه نحوَ رأسي، فظننت أنه يريد من رأسي حاجة، فخرجَت من فيه نقطة باردة، فوقعت على ثُغْرَة
(1)
نحري، فاقشعرّ لها جلدي، وظننت أنه غُشي عليه، فسجّيته ثوبًا" انتهى
(2)
.
(فَلَا أَكْرَهُ شِدَةَ المَوْتِ لِأَحَدٍ أَبَدًا) أي لأنه سبب لتكفير الذنوب، ومضاعفة الأجر، وليس عقابا، حيث إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اشتدّ عليه، وهو محض مضاعفة الأجر له، فقد أخرج أبو يعلى من حديث أبي سعيد:"إنا معاشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر".
وفي "صحيح البخاريّ" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يُوعَك وَعْكًا
(3)
شديدًا، وقلت: إنك تُوعك وَعْكًا شديدًا، قلت: إنِّ ذاك بأن لك أجرين؟ قال: "أجلْ"
…
الحديث. وأخرج الدارميّ، والنسائي في "الكبرى"، وابن ماجه، وصححه الترمذيّ، وابن حبّان، والحاكم، كلهم من طريق عاصم بن بَهْدَلَة، عن مصعب بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول اللَّه، أيّ الناس أشدّ بلاء؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثلُ، يُبتلى الرجلُ على حسب دينه
…
" الحديث، وفيه: "حتى يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة".
(بَعْدَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي بعد ما شاهدت من شدة الموت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد بُيِّنَت الشدةُ المذكورة في رواية البخاريّ، ولفظه: من طريق عُمر بن سعيد، عن ابن أبي مليكة أن أبا عمرو ذكوان، مولى عائشة أخبره، أن عائشة، كانت تقول: إن
(1)
- الثغرة بضم، فسكون: نُقرة النحر بين الترقوتين. انتهى "ق."
(2)
- راجع "الفتح" ج 8 ص 485 - 486.
(3)
- الوعك بفتح، فسكون: أذى الحمى ووجعها، وألم شدة التعب. اهـ "ق".
من نعم اللَّه عليّ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تُوُفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن اللَّه جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عليّ عبد الرحمن، وبيده السواك، وأنا مسندة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته، فاشتد عليه، وقلت: أُلَيِّنُه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته، فأمرّه، وبين يديه ركوة أو عُلْبة -يشك عمر- فيها ماء، فجعل يُدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه، يقول:"لا إله إلا اللَّه، إن للموت سكرات"، ثم نصب يده، فجعل يقول:"في الرفيق الأعلى" حتى قبض، ومالت يده". انتهى
(1)
.
وعند أحمد، والترمذي، وغيرهما من طريق القاسم، عن عائشة؟، قالت: رأيته وعنده قَدَحٌ فيه ماء، وهو يموت، فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول:"اللَّهم أعني على سكرات الموت". انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه البخاري.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -6/ 1830 - و"الكبرى" 6/ 1956 وأخرجه (خ) 4446 و (أحمد) 23833 و 23961. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل شدّة الموت. ومنها: عِظَمُ منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه حيث ضاعف له الأجر بشدة المرض. ومنها: أن شدة البلاء تكون بقدر رفعة منزلة العبد عند اللَّه تعالى، فأشد الناس بلاءً الأنبياءُ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. ومنها: فضل عائشة رضي الله عنها، حيث خصّها اللَّه تعالى بأن مات النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها، وفي يومها، وبين سَحْرِها ونَحْرها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- راجع "صحيح البخارى" ج 8 ص 492 بنسخة "الفتح".
(2)
- راجع "الفتح" ج 8 ص 487.
7 - الْمَوْتُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -. أراد المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بهذه الترجمة بيان فضل الموت في يوم الاثنين، لكون اللَّه تعالى اختاره لحبيبه وخليله صلى الله عليه وسلم، ولا يختار له إلا الأفضل. قال الزين ابن المنيّر -رحمه اللَّه تعالى- عند قول البخاري رحمه الله:"باب موت يوم الاثنين". ما نصه: تعيين وقت الموت ليس لأحد فيه اختيار، لكن في التسبب في حصوله مَدخَل، كالرغبة إلى اللَّه لقصد التبرّك، فمن لم يحصل له الإجابة أثيب على اعتقاده، وكأن الخبر الذي ورد في فضل الموت يوم الجمعة لم يصحّ عند البخاريّ، فاقتصر على ما وافق شرطه، وأشار إلى ترجيحه على غيره.
قال الحافظ رحمه الله: والحديث الذي أشار إليه أخرجه الترمذيّ من حديث عبد اللَّه ابن عمرو رضي الله عنه، مرفوعًا. "ما من مسلم يموت يوم الجمعة، أو ليلة الجمعة، إلا وقاه اللَّه فتنة القبر". وفي إسناده ضعف، وأخرج أبو يعلى من حديث أنس رضي الله عنه نحوه، وإسناده أضعف انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1831 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: آخِرُ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَشَفَ السِّتَارَةَ، وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَرْتَدَّ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ، أَنِ امْكُثُوا، وَأَلْقَى السِّجْفَ، وَتُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَذَلِكَ يَوْمُ الاِثْنَيْنِ.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
و"سفيان". هو ابن عيينة الإمام الحافظ الحجة الثبت [8] 1/ 1. والباقون تقدموا قريبا. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (108) من رباعيات الكتاب، وهو أعلى الأسانيد له، كما تقدم غير مرة. (ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنه بالبصرة، مات سنة (92) أو (93). واللَّه تعالى أعلم.
(1)
- "فتح" ج 3 ص 625.
شرح الحديث
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: آخِرُ نَظرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَشْفُ السِّتَارَةِ) أي كانت عند كشف الستارة، وبسببه حتى كأنها نفس كشف الستارة. قاله السندي: فقوله: "آخر نظرة" مبتدأ، وقوله:"كشف الستارة" خبره على التأويل المذكور. وإضافة "كشف" إلى "الستارة" من إضافة المصدر إلى مفعوله. ويحتمل أن يكون "كَشَفَ" بصيغة الماضي، ويُؤَيِّدُهُ قوله:"وألقى السَّجْف". وعلى هذا يكون خبر المبتدإ محذوفًا: أي عند كشف الستارة، وجملة "كشف الستارة" مستأنفة بَيَّنَ بها ما وقع في تلك الحالة. و"الستارة" بالكسر: ما يُستر به، كالسُّتْرة، والْمِسْتَر، والإسْتَارة، جمعه سَتَائر، قال: وبلا هاء: السِّتْرُ، جمعه سُتُر. انتهى قاله في "ق".
(وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه) جملة في محل نصب على الحال (فأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَرْتَدَّ) أي يرجع عن مقامه إلى مقام المأمومين لظنه أنه صلى الله عليه وسلم يخرج إليهم، فيصلي بهم.
ففي رواية البخاري من طريق شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني أنس بن مالك الأنصاري وكان تَبعَ النبي صلى الله عليه وسلم، وخَدَمَه، وصحبه أن أبا بكر كان يصلي لهم، في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين، وهم صفوف في الصلاة، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم، سِتر الحجرة ينظر إلينا، وهو قائم، كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن، من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فنكص أبو بكر على عقبيه،
لِيَصِلَ الصف، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النبي صلى الله عليه وسلم، أن أتموا صلاتكم، وأرخى الستر، فتوفي من يومه.
(فَأَشَارَ) أي النبي صلى الله عليه وسلم (إِلَيْهِمْ أَنِ امْكُثُوا) أي اثبُتُوا على ما أنتم عليه، قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: مَكَثَ مَكْثًا، من باب قَتَل: أقام، وتلبّثَ، فهو ماكثٌ، ومَكُثَ مُكْثًا، فهو مَكِيث، مثل قَرُبَ قُرْبًا، فهو قريب لغةٌ، وقرأ السبعةُ {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} باللغتين، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أمكثه، وتمكّث في أمره: إذا لم يَعجَل فيه انتهى.
(وَأَلْقَى السَّجْفَ) قال المجد اللغويّ -رحمه اللَّه تعالى-: "السَّجف" -أي بالفتح- ويكسر، وككتاب: السِّتْر، جمعه سُجُوف، وأَسْجَاف، أو السَّجْف: السِّتْرَان المقرونان، بينهما فُرْجة، أو كلُّ باب سُتِرَ بسِتْرين مقرونين، فكلّ شقّ سَجْفٌ، وسِجَاف. انتهى.
(وَتُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَومِ)"من" بمعنى "في"، أي في آخر اليوم الذي وقع فيه ما ذُكر، من كشف الستارة، وغيره. قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "وتوفي من آخر ذلك اليوم" يخدش في جزم ابن إسحاق بأنه مات حين اشتدّ الضحى، ويُجمع بينهما بأن إطلاق الآخر بمعنى ابتداء الدخول في أول النصف الثاني من النهار، وذلك عند الزوال، واشتداد الضحى يقع قبل الزوال، ويستمرّ حتى يتحقّق زوال الشمس. وقد
جزم موسى بن عقبة، عن ابن شهاب بأنه صلى الله عليه وسلم مات حين زاغت الشمس، وكذا لأبي الأسود، عن عروة، فهذا يؤيد الجمع الذي أشرت إليه انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لا يخفى كون الجمع المذكور تكلفًا، وتعسفًا، بل الترجيح أولى، فما في "الصحيح" هو المعتمد.
والحاصل أن موته صلى الله عليه وسلم في أخر يوم الاثنين هو الصواب. واللَّه تعالى أعلم.
(وَذَلِكَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ) يحتمل رفع "يوم" على أنه خبر لاسم الإشارة، واسم الإشارة راجع إلى اليوم، أي ذلك اليوم يومُ الاثنين، ويحتمل نصبه على الظرفية، والإشارة إلى ما ذُكر من الكشف وغيره، أي ما ذُكر مما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم واقع في يوم الاثنين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أنس رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-7/ 1831 و"الكبرى" 7/ 1957 وأخرجه، (خ) 680 و 681 و 754 و 1206 و 4448 (م) 419 (ت) في "الشمائل" 385، (ق) 1624، (الحميدي) 1188، (أحمد) 11662 و 12255 و 12616، (ابن خزيمة)1650. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل الموت يوم الاثنين، حيث اختاره اللَّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم. ومنها: جواز استعمال الستارة على الأبواب، ونحوها للحاجة. ومنها: فضل أبي بكر رضي الله عنه، حيث اختاره النبي صلى الله عليه وسلم للإمامة في مرض موته، ولذا احتجّ الصحابة رضي الله عنهم بذلك على استحقاقه الإمامةَ الكبرى، فبايعوه على الخلافة. ومنها: أن الأصحّ أن اليوم الذي مات فيه النبي صلى الله عليه وسلم هو يوم الاثنين، وفيه أقوال، ستأتي في المسألة التالية إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الرابعة: في ذكر ما يتعلّق بمرض النبي صلى الله عليه وسلم، ووفاته، وأقوالِ أهل العلم في ذلك: ذكر الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الفتح" في أواخر "كتاب المغازي"، فقال: ما حاصله: وأما ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم، فكان في بيت ميمونة رضي الله عنها، ووقع في "السيرة لأبي معشر" أنه في بيت زينب بنت جحش، وفي "السيرة لسليمان التيميّ" في بيت رَيحانة، قال الحافظ رحمه الله: والأول هو المعتمد. وذكر الخطابي أنه ابتدأه يوم الاثنين، وقيل: يوم السبت، وقال الحاكم أبو أحمد: يوم الأربعاء.
(1)
- "فتح" ج 8 ص 491.
واختُلف في مدة مرضه، فالأكثرون على أنها ثلاثة عشر يومًا، وقيل: بزيادة يوم، وقيل: بنقصه، والقولان في "الروضة"، وصدر بالثاني، وقيل: عشرة أيام، وبه جزم سليمان التيميّ في مغازيه، وأخرجه البيهقيّ بإسناد صحيح.
وكانت وفاته يوم الاثنين بلا خلاف، من ربيع الأول، وكاد يكون إجماعًا، لكن في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند البزّار في حادي عشر رمضان، ثم عند ابن إسحاق: والجمهور أنها في الثاني عشر منه، وعند موسى بن عقبة، والليث، والخوارزميّ، وابن زبر: مات لهلال ربيع الأول، وعند أبي مِخْنَف، والكلبيّ في ثانيه، ورجّحه السهيليّ، وعلى القولين يتنزّل ما نقله الرافعيّ أنه عاش بعد حجته ثمانين يومًا، وقيل: أحدًا وثمانين، وأما على ما جزم به في "الروضة"، فيكون عاش بعد حجته تسعين يومًا، أو أحدا وتسعين.
وقد استشكل ذلك السهيليّ، ومن تبعه -أعني كونه مات يوم الاثنين ثاني عشر شهر ربيع الأول- وذلك أنهم اتفقوا على أن ذا الحجة كان أوله يوم الخميس، فمهما فُرضت الشهور الثلاثة توامّ، أو نواقص، أو بعضها لم يصحّ، وهو ظاهر لمن تأمّله.
وأجاب البارزي، ثم ابن كثير باحتمال وقوع الأشهر الثلاثة كوامل، وكان أهل مكة والمدينة اختلفوا في رؤية هلال ذي الحجة، فرآه أهل مكة ليلة الخميس، ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكة، ثم رجعوا إلى المدينة، فأرخوا برؤية أهلها، فكان أولُ ذي الحجة الجمعة، وآخره السبت، وأول المحرّم الأحد، وآخره الاثنين، وأول صفر الثلاثاء، وآخره الأربعاء، وأول ربيع الأول الخميس، فيكون ثاني عشره الاثنين.
قال الحافظ: وهذا الجواب بعيد من حيث إنه يلزم توالي أربعة أشهر كوامل، وقد جزم سليمان التيميّ أحد الثقات بأن ابتداء مرض النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم السبت الثاني والعشرين من صفر، ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول، فعلى هذا كان صفر ناقصًا، ولا يمكن أن يكون أول صفر السبت إلا إن كان ذو الحجة والمحرّم ناقصين، فيلزم منه نقص ثلاثة أشهر متوالية. وأما على قول من قال: مات أول يوم من ربيع الأول، فيكون اثنان ناقصين، وواحد كاملاً، ولهذا رجحه السهيليّ.
وفي "المغازي لأبي معشر" عن محمد بن قيس، قال: اشتكى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لإحدى عشرة مضت من صفر، وهذا موافق لقول سليمان التيميّ المقتضي لأن أول صفر كان السبت.
وأما ما رواه ابن سعد من طريق عمر بن عليّ بن أبي طالب، قال: اشتكى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لليلة بقيت من صفر، فاشتكى ثلاث عشرة ليلة، ومات يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول، فيرد على هذا الإشكال المتقدّم، وكيف يصحّ أن
يكون أول صفر الأحد، فيكون تاسع عشرينه الأربعاء؟ والغرض أن ذا الحجة أوله الخميس، فلو فُرض هو والمحرم كاملين لكان أول صفر الاثنين، فكيف يتأخر إلى يوم الأربعاء؟، فالمعتمد ما قال أبو مِخْنف
(1)
، وكأن سبب غلط غيره أنهم قالوا: مات في ثاني شهر ربيع الأول، فتغيرت، فصارت ثاني عشر، واستمرّ الوهم بذلك يتبع بعضهم بعضًا من غير تأمل. واللَّه أعلم.
وقد أجاب القاضي بدر الدين ابن جماعة بجواب آخر، فقال: يحمل قول الجمهور لاثنتي عشرة ليلة خلت، أي بأيامها، فيكون موته في اليوم الثالث عشر، ويفرض الشهور كوامل، فيصحّ قول الجمهور. ويعكر عليه ما يعكر على الذي قبله مع زيادة مخالفة اصطلاح أهل اللسان في قولهم: لاثنتي عشرة، فإنهم لا يفهمون منها إلا مضيّ الليالي، ويكون ما أرّخ بذلك واقعًا في اليوم الثاني عشر انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
.
وقد عقد الحافظ أبو الفضل العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في آخر "ألفية السيرة" بابًا أفرده لذكر مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، فقال:
"باب ذكر مرضه، ووفاته صلى الله عليه وسلم"
مَرِضَ فِي العَشْرِ الأَخِيرِ مِن صَفَرْ
…
أَقَامَ فِي شَكْوَاهُ ذَاكَ اثْنَي عَشَرْ
أَوْ عَشْرًا اوْ أَقَامَ أَربَع عَشْرَهْ
…
أَوْ فَثَلَاثَ عَشْرَةٍ قَدْ ذَكَرَهْ
كَذَا ابْنُ عَبدِ الْبَرِّ فِي رَبِيعِ
…
فِي يَوْمِ الاثْنَينِ لَدَى الْجَمِيعِ
وَفَاتُهُ إِما بِثَانِي الشهرِ
…
أَو مُستَهَلٍّ أَوْ بِثَانِي عَشْرِ
وَهوَ الذَي أَوْ رَدَهُ الْجُمْهُورُ
…
لَكِنْ عَلَيْهِ نَظَرٌ كَبِيرُ
لأَن وَقْفَةَ الْوَدَاعِ الْجُمُعَهْ
…
فلَا يَصِحُّ كَوْنُهَا فِيهِ مَعَهْ
وَقِيلَ بَل فِي ثَامِن بِالْجَزْمِ
…
وَهْوَ الذِي صَححَهُ ابْنُ حَزْمِ
وَكَانَ ذَاكَ عِنْدَ مَا اشتَدَّ الضُّحَى
…
أَو حِينَ زَاغَ الشَّمْسُ خُلْفٌ صُرِّحَا
غَسَلَهُ عَلِيٍّ وَالعَبَّاسُ
…
وَقُثَمٌ وَالْفَضْلُ ثُمَّ نَاسُ
أُسَامَةٌ شُقْرَانُ يَصْبُبَانِ
…
الْمَا وَأَوسٌ حَاضِرُ الْمَكَانِ
وَقِيلَ كانَ يَنْقُلُ الْمَاءَ لَهُ
…
وَإِنَّ عَمَّهْ لَمْ يُشَاهِدْ غَسْلُهُ
(1)
-يعني قوله: مات في ثاني ربيع الأول.
(2)
- "فتح" ج 8 ص 473 - 474.
غُسِلَ مِن بِئْرِهِ بِئرِ غَرْسِ
…
وَلَمْ يُجَرَّدْ مِنْ قَمِيصِ اللَّبْسِ
يَدْلُكُهُ بِخِرقَةٍ عَليٌّ
…
مِن تَحْتِهِ وَهْوَ لَهُ وَلِيُّ
بِالمَاءِ وَالسِّدْرِ ثَلَاثًا غُسِلَا
…
وَفِي ثَلَاَثةِ ثِيَابٍ جُعِلَا
وَتِلْكَ بِيضٌ مِنْ سُحُولِ الْيَمَنِ
…
وَلَم يَكُنْ قَمِيصُهُ فِي الْكَفَنِ
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ أَنْ قَدْ كُفِّنَا
…
فِي سَبْعَة وَبِالشُّذُوذِ وُهِّنَا
ثُمَّ أَتَى الرِّجَالُ فَوْجًا فَوْجَا
…
صَلَّوْا عَلَيْهِ وَمَضَوْا خُرُوجَا
ثُمَّ النِّسَاءُ بَعْدَهُمْ وَالصِّبْيَةُ
…
وَفِي حَدِيثٍ وَبِهِ جَهَالَةُ
صَلَّى عَلَيْهِ أَوْلاً جِبْرِيلُ
…
ثُمَّتَ مِيكَائِيلُ إِسْرَافِيلُ
ثُمَّ يَلِيهِ مَلَكُ المَوْتِ مَعَهْ
…
جُنُودُهُ المَلَائِكُ الْمُجتَمِعَهْ
وَقِيلَ مَا صَلَّوَا عَلَيهِ بَلْ دَعَوْا
…
وَانْصَرَفُوا وَذَا ضَعِيفْ وَرَوَوْا
عَنْ مَالِكٍ أَنْ عَدَدَ الصَّلَاةِ
…
تِسْعُونَ وَاثْنَانِ مِنَ الْمَرَّاتِ
وَلَيِسَ ذَا مُتَّصِلَ الإسْنَادِ
…
عَن مَالِكٍ فِي كُتُبِ النُّقَّادِ
وَدَفنُهُ فِي بُقْعَةِ الوَفَاةِ
…
لِخَبَرِ الصِّدِّيقِ بِالإِثْبَاتِ
وَدَخَلَ القَبْرَ الأولَى فِي الغَسْلِ
…
قِيلَ سِوَى أُسَامَةَ ابْنِ خَوْلِي
(1)
زَادَ ابْنُ سَعْدِ أَيْضًا ابنَ عَوْفِ
…
مَعَ عَقِيلٍ أَمِنُوا مِنْ خَوْفِ
وَفُرِشَتْ فِي قَبْرِهِ قَطِيفَةُ
…
وَقِيلَ أُخْرِجَتْ وَهَذَا أَثْبَتُ
وَلَحَدُوا لَحْدًا لَهُ وَنُصِبَتْ
…
عَلَيْهِ تِسْعُ لَبِنَاتٍ أُطْبِقَتْ
وَسَطَّحُوا مَع رَشِّهِمْ بِالْمَاءِ
…
وَاشتَرَكَ الأَنَامُ فِي الْعَزَاءِ
وَذَاكَ فِي لَيْلَةِ الأَرْبِعَاءِ
…
أَوْ قَبْلَهَا بِلَيْلَةٍ لَيْلَاءِ
وَقِيلَ يَوْمَ الْمَوْتِ بِالتَّعْجِيلِ
…
صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فِي الإِكْلِيلِ
وَفَسَّرَ الصِّدِّيقُ لِلصِّدِّيقَةِ
…
مَنَامَهَا أَنْ سَقَطَتْ فِي الْحُجْرَةِ
حُجْرَتِهَا ثَلَاَثةٌ أَقمَارَا
…
هَا خَيْرُ أَقْمَارِكِ حَلَّ الدَّرَا
(1)
- وقوله: "الأولى" بمعنى "الذين" وقوله: "ابن خولي" بحذف عاطف، أي وابن خولي، وهو أوس بن خَوْليّ الأنصاريّ الخزرجيّ ..
صَلَّى عَلَيْهِ رَبُّنَا وَسَلَّمَا
…
وَصَاحِبَيْهِ نُعِّمَا وَأَنْعَمَا
هُمَا الضَّجِيعَانِ مِنَ الأَقْمَارِ
…
قَدْ جَاوَرَا فِي اللَّحْدِ خَيْرَ جَارِ
ثُمَّ عَلَى عُثمَانَ مَعْ عَليِّ
…
وَسَائِرِ الأَصْحَابِ وَالْوَلِيِّ
واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
8 - المَوْت بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بهذه الترجمة بيان فضل الموت غريبًا عن وطنه، ومكان ولادته، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1832 -
(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ
(1)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ، مِمَّنْ وُلِدَ بِهَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:«يَا لَيْتَهُ مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ» . قَالُوا: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ، قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ، إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ» ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يونس بن عبد الأعلى) أبو موسى الصَّدَفيّ المصريّ، ثقة، من صغار [10] 1/ 449.
2 -
(ابن وهب) هو عبد اللَّه المصري الحافظ الثبت [9] 9/ 9.
3 -
(حُيَيّ) -بضم أوله، ويائين من تحتُ الأولى مفتوحة- ابن عبد اللَّه بن شُريح المعافري الحُبُليّ، أبو عبد اللَّه المصريّ، صدوق يَهِم [6].
قال أحمد: أحاديثه مناكير. وقال البخاري: فيه نظر. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ.
وقال ابن معين: ليس به بأس. وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به إذا روى عنه ثقة.
(1)
- "الحبلي" بضمتين: نسبة إلى بني الحُبُلَى حيّ من اليمن. ووقع في "الكبرى""الخشني" بدل الحبلي، وهو تصحيف.
وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن يونس: توفي سنة (143) روى له الأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا، وفي "كتاب الاستعاذة" برقم 5477 و 5489 و5490 حديث: "اللَّهم إني أعوذ بك من غلبة الدين
…
" الحديث.
4 -
(أبو عبد الرحمن الحُبُليّ) عبد اللَّه بن يزيد المعافريّ المصريّ، ثقة 60/ 1303.
5 -
(عبد اللَّه بن عمرو) بن العاص رضي الله عنهما 89/ 111. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف. (ومنها): أنه مسلسل بثقات المصريين. ومنها: أن صحابيه أحد العبادلة الأربعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ بِالمَدِينَةِ، مِمَّنْ وُلدَ بَها) ووقع في "الكبرى""سنة وُلد بها" وهو تصحيف (فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: "يَا لَيْتَهُ مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ) قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: لعله صلى الله عليه وسلم لم يرد بذلك يا ليته مات بغير المدينة، بل أراد يا ليته كان غريبًا مهاجرًا بالمدينة، ومات بها، فإن الموت في غير مولده فيمن مات بالمدينة كما يتصوّر بأن يولد في المدينة، ويموت في غيرها كذلك يتصوّر بأن يولد في غير المدينة، ويموت بها، فليكن التمنّي راجعًا إلى هذا الشقّ، حتى لا يُخالف الحديث حديثَ فضل الموت بالمدينة المنوّرة انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن ظاهر الحديث ينافي التأويل المذكور، لأنه صلى الله عليه وسلم تمنّى لرجل وُلد بالمدينة، ومات بها أن يموت غريبًا منها، فتأويله بأن يراد أن يولد بغير المدينة، ويموت بها بعيد، بل الأولى أن يقال: حديث فضل الموت بالمدينة أقوى منه، فيقدّم عليه، كما سيأتي الكلام عليه في المسألة الأولى قريبًا إن شاء اللَّه تعالى.
(قَالُوا: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) أي لأيّ شيء تمنيت له الموت في غير مولده؟
(قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ بغَيْرِ مَوْلِدِه، قِيسَ لَهُ) أي قُدِّر له (مِنْ مَوْلِدِهِ) أي محلّ ولادته (إلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ)"المُنقطعَ" بضم الميم، وفتح القاف، بصيغة اسم المفعول: وقت الانقطاع، ومحله، و"الأثر" بفتحتين: الأجل، سمي به لأنه يتبع العمر، قال زُهير [من البسيط]:
وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلُ
…
لَا يَنْتَهِي الْعُمْرُ حَتَّى يَنْتَهِي الأَثَرُ
(1)
- "شرح السندي" ج 4 ص 8.
قاله في "اللسان" أي إلى موضع محلّ قطع أجله، ذكره الطيبيّ. قال السنديّ: ويحتمل أن المراد إلى منتهى سفره، ومشيه (فِي الْجَنَّةِ) متعلق بـ "قيس"، وظاهره أنه يعطى له في الجنة هذا المقدار، لأجل موته غريبًا. وقيل: المراد أنه يُفسح له في قبره بهذا المقدار، لكن احتمال النصّ لهذا المعنى بعيد، فالاحتمال الأول هو الصواب.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه هذا ضعّفه المصنف، ونصه في "الكبرى": قال لنا أبو عبدالرحمن: حُيي بن عبد اللَّه ليس ممن يُعتمد عليه، وهذا الحديث عندنا غير محفوظ، واللَّه أعلم، لأن الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من استطاع منكم أن يموت بالمدينة، فإني أشفع لمن مات بها" انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث الذي ذكره أخرجه أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من استطاع أن يموت بالمدينة، فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث أيوب السختياني. انتهى. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-8/ 1832 - و"الكبرى" 8/ 1958 وأخرجه (ق) 1614 (أحمد)6618. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- راجع "الكبرى" ج 1 ص 603.
9 - بَابُ مَا يلْقَى بِهِ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَرَامَةِ عِنْدَ خُرُوجِ نَفْسِهِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "باب" مضاف إلى "ما"، وهو اسم موصول، و"يُلقَى" بالبناء للمفعول، أي يُستَقبَلُ به، و"المؤمن" نائب الفاعل، و"من الكرامة" بيان لـ "ما". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1833 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ، أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ، فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي رَاضِيَةً، مَرْضِيًّا عَنْكِ، إِلَى رَوْحِ اللَّهِ، وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ، حَتَّى أَنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ، الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنَ الأَرْضِ، فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ، يَقْدَمُ عَلَيْهِ، فَيَسْأَلُونَهُ مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا، فَإِذَا قَالَ: أَمَا أَتَاكُمْ، قَالُوا: ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ. وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ، أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ، فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي سَاخِطَةً، مَسْخُوطًا عَلَيْكِ، إِلَى عَذَابِ اللَّهِ عز وجل، فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ الأَرْضِ، فَيَقُولُونَ: مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عبيد اللَّه بن سعيد) أبو قُدامة السرخسيّ، ثقة مأمون سنّي [10] 15/ 15.
2 -
(معاذ بن هشام) الدستوائيّ البصريّ، صدوق ربما وهم [9] 30/ 34.
3 -
(أبوه) هشام بن أبي عبد اللَّه سَنبر الدستوائيّ البصريّ، ثقة ثبت، رمي بالقدر، من كبار [7] 30/ 34.
4 -
(قتادة) بن دعامة السدوسي البصريّ الثقة الثبت [4] 30/ 34.
5 -
(قُسامة بن زُهير) المازنيّ التميميّ البصري، ثقة [3].
قال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء اللَّه، وتوفي في ولاية الحجاج على العراق. وذكره ابن حبّان في "الثقات" في التابعين. وذكر أبو موسى المدينيّ في "الذيل" أن ابن شاهين أورده في الصحابة، وساق له حديثًا، لكن في إسناده يزيد الرَّقَاشيّ، ولا تقوم به حجة. وذكره الهيثم بن عديّ، وخليفة بن خيّاط في
تابعي أهل البصرة، وقالا: توفي بعد الثمانين.
وله عند أبي داود، والترمذي حديث أبي موسى في خلق آدم، وعند المصنّف حديث الباب فقط.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها). مسلسل بثقات البصريين، غير شيخه، فسرخسيّ، وأبي هريرة فمدنيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعيّ، والابن عن أبيه. ومنها: أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، وهو نقيب أهل الصُّفة رضي الله عنهم واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنْ) بالبناء للمفعول، أي حضره الموت، وفي رواية الحاكم:"إذا احتُضر"، وفي رواية ابن حبّان:"إذا قُبض"(أَتَتْهُ مَلَاِئكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَة بَيْضَاءَ) أي لتَلُفّ فيها روحه، وترفَعَهَا إلى السماء، ففي رواية أبي حاتم: "أن المؤمن إذا حضره الموت حضرته ملائكة الرحمة، فإذا قُبض جُعلت روحه في حريرة بيضاء، فيُنطَلَقُ بها إلى باب السماء
…
" (فَيَقُولُونَ) أي ملك الموت وأعوانه (اخْرُجِي) أي من جسدك الطيّب، والخطاب للنفس، فيستقيم هذا الخطاب مع عموم المؤمن للذكر والأنثى، وفيه دلالة على أن الروح جسم لطيف، يوصف بالدخول والخروج، والصعود، والنزول (رَاضِيَةً) أي عن اللَّه سابقًا، وبثواب اللَّه لا حقًا (مَرْضِيًّا عَنْكِ) بكسر الكاف على خطاب النفس، أي حال كون اللَّه تعالى راضيا عنكِ أوّلا وآخرًا (إِلَى رَوْح اللَّهِ) بفتح الواء، أي رحمته، أو راحة منه (وَرَيْحَانٍ) أي رزق، أو طيب، والتنوين للتعَظيم والتكثير (وَرَبِّ) أي وإلى لقاء ربّ (غَيْرِ غَضْبَانَ، فَتَخْرُج، كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ) في محل نصب على الحال، أي حال كونه مثل أطيب ريح المسك، وقيل: صفة مصدر محذوف، أي خروجًا كخروج أطيب ريح المسك، يعني تخرج خروجًا مثل خروج أطيب ريح المسك (حَتَّى إنَّهُ) أي روح المؤمن، ولعل تذكيره باعتبار أنه شخص، أو شيء. واللَّه تعالى أعلم. وفي رواية الحاكم جـ1 ص353 من طريق معمر، عن قتادة: "حتى إنهم"، والضمير للملائكة (لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا) أي يتداولونه، ويصعدون به من يد إلى يد تكريما وتعظيمًا، لا ضجرًا وتعبًا، وفي نسخة: "ليتناوله"، وعليه فيكون "بعضًا" منصوبا بنزع الخافض: أي من بعض (حَتَى يَأْتُونَ بِهِ) بإثبات نون الرفع بعد "حتى" على تأويله بحكاية الحال على حدّ: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ} في قراءة نافع بالرفع، وإنما ينصب المضارع بعد "حتى" بـ "أن" مضمرة وجوبا إذا كان مستقبلاً، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
وَبَعْدَ "حَتَّى" حَالاً أَوْ مُؤَوَّلاً
…
بِهِ ارْفَعَنَّ وَانْصِبِ الْمُسْتَقْبَلَا
وفي رواية الحاكم المذكورة: "يشمُّونه حتى يأتوا به
…
" (بَابَ السَّمَاءِ) أي إلى أن يأتوا به باب السماء، وفي رواية: "أبواب السماء"، أي بابا بعد باب، وهو غاية للمناولة (فَيَقُولُونَ) أي بعض ملائكة السماء لبعض على جهة التعجّب من غاية عظمة طيبه (مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ، الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنَ الأَرْضِ، فَيَأْتُونَ بِهِ) وفي نسخة: "ويأتون" بالواو، وفي رواية الحاكم المذكورة: "فكلما أتوا سماء قالوا ذلك حتى يأتوا به
…
" (أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ) منصوب بنزع الخافض، أي إلى مقرّ أرواحهم في علّيّين (فَلَهُمْ أشَدُّ فَرَحًا) الضمير للمؤمنين، أو لأرواحهم، قال الطيبيّ رحمه الله: اللام المفتوحة لام ابتداء مؤكدة، نحو قوله تعالى: {لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} و"هم" مبتدأ، و"أشدّ" خبره، ولا يبعد أن تكون اللام جارّة، والتقدير: لهم فرحٌ هو أشدّ فرحًا على توصيف الفرح بكونه فرحًا على المجاز، فيكون الفرح فَرِحًا على سبيل المبالغة انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الوجه الثاني تكلّف، والأول هو الصحيح، ويؤيده رواية الحاكم بلفظ: "فلهم أفرح به
…
" (بِهِ) أي بقدومه (مِنْ أَحَدِكُمْ) أي من فرح أحدكم (بِغَائِبِهِ، يَقْدَمُ عَلَيْهِ) بفتح الدال، من باب تَعِبَ قدومًا، والجملة حال من "غائبه"، وفي رواية الحاكم: "إذا قدم عليه" (فَيَسْألُونَهُ) أي بعض أرواح المؤمنين (مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟) ببناء الفعل للفاعل، والمراد ما شأنه؟ وما حاله؟ (مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟) تأكيد للأول، أو المراد شخص آخر، وهو الأظهر (فَيَقُولُونَ) أي البعض الآخر من الأرواح (دَعُوهُ) أي اتركوه، زاد في رواية الحاكم: "حتى يستريح". قال الطيبيّ: أي يقول بعضهم لبعض دعوا القادم، فمنه حديث عهد بتعب الدنيا (فَإِنَّهُ) أي القادم (كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا) أي إلى الآن ما استراح من همها (فَإِذَا قَالَ) أي القادم في جواب السؤال الذي سألوه (أَمَا أَتَاكُمْ) وفي رواية: "فيقول: قد مات أما أتاكم؟
…
" (قَالُوا: ذُهِبَ بِه) بالبناء للمفعول (إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ) أي إنه لم يلحق بنا، فقد ذُهِب به إلى النار، و"الهاوية" اسم من أسماء النار، كأنها النار العميقة، يهوى أهل النار فيها مهوى بعيدًا، وهي بدل، أو عطف بيان لـ"أمه"، وتسمية النار أمّا باعتبار أنها مأوى صاحبها كالأمّ مأوى الولد ومَفْزعه، ومنه قوله تعالى:{فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} .
(وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ) بالبناء للمفعول، وفي نسخة:"حُضر"(أَتَتْهُ مَلَاِئكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ) بكسر الميم: كساء معروف، وقال النوويّ: هو ثوب من الشعر غليظ معروف
(فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي سَاخِطَةً) أي كارهة، غير راضية عن اللَّه حيّا وميتا (مَسْخُوطًا عَلَيْكِ) أي مغضوبا عليك (إِلَى عَذَاب اللَّهِ عز وجل) متعلّق بـ "اخرجي"(فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةِ، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ) تقدم الكَلام على ثبوت نون الرفع قريبًا (بَابَ الْأَرْضِ) وفي رواية الحاكم: "إلى باب الأرض"(فَيَقُولُونَ) أي ملائكة الأرض (مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ، حَتَى يَأْتُونَ بهِ) وفي رواية الحاكم: "كلما أتوا على أرض قالوا ذلك، حتى يأتوا به
…
"، فيتعينَ أن تكون "حتى" غاية لقولهم ذلك (أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ) أي ومحلها سجّين، كما قال اللَّه تعالى:{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7] قيل: هو كتاب جامع لأعمال الشياطين والكفرة، وقيل: هو مكان في أسفل الأرض السابعة، وهو محلّ إبليس وجنوده، أعاذنا اللَّه تعالى من عذاب جهنم بمنه وكرمه، إنه أرحم الراحمين، وأكرم المسؤولين.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد ساق الإمام أحمد وغيره هذا الحديث من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما بإسناد صحيح، مطولاً، أحببت إيراده هنا تتميمًا للفائدة، ونشرًا للعائدة، ونصّ "المسند" جـ4 ص 287 - 288:
18063 -
حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا الأعمش، عن منهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولَمَّا يُلحَدْ، فجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وجلسنا حوله، وكان على رءوسنا الطير، وفي يده عود، ينكت في الأرض، فرفع رأسه، فقال:"استعيذوا باللَّه من عذاب القبر" مرتين أو ثلاثا، ثم قال: "إن العبد المؤمن، إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نَزَل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن، من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مَدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من اللَّه ورضوان، قال: فتخرج تسيل، كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها، لم يَدَعُوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك، وُجِدَت على وجه الأرض، قال: فيَصعدُون بها، فلا يمرون، يعني بها على ملإ، من الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان ابن فلان بأحسن أسمائه، التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم: فيُشَيِّعُهُ من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول اللَّه عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فإني
منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم، تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: مَنْ ربُّك؟ فيقول: ربي اللَّه، فيقولان له: ما دينك؟، فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟، فيقول: هو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتابَ اللَّه، فآمنت به، وصدقت، فينادي مناد في السماء، أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، قال: فيأتيه من رَوْحها وطيبها، وُيفسَح له في قبره مَدَّ بصره، قال: ويأتيه رجل، حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يَسُرُّك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: مَنْ أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال: وإن العبد الكافر، إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه
من السماء، ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مَدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من اللَّه وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السَّفُّود
(1)
، من الصوف
المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها، كأنتن ريح جيفة، وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملئٍ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان ابن فلان بأقبح أسمائه، التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} الآية [الأعراف: 40]، فيقول اللَّه عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، فتُطرَح روحه طرحا، ثم قرأ {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} الآية [الحجّ: 31]، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فينادي مناد من السماء، أن كَذَب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حَرِّها وَسَمُومها، ويُضَيَّق عليه قبره، حتى تخَتَلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، مُنتِن الريح،
(1)
- "السَّفُّود" بفتح المهملة، وتشديد الفاء، كتَنُّور: الحديدة التي يُشوى عليها اللحم.
فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تُقِم الساعةَ". انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: هذا الحديث من أفراد المصنف، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا-9/ 1833 و"الكبرى" 9/ 1959، وأخرجه ابن حبّان في صحيحه 3014 والحاكم في "مستدركه" 1/ 352 - 353، وصححه، ووافقه الذهبيّ. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما يُلْقَى به المؤمن من الكرامة عند موته. ومنها: بيان كرامة المؤمن على اللَّه تعالى حيث يكرمه عند موته بهذه الكرامة العظيمة. ومنها: حضور ملائكة الرحمة عند المؤمن في حالة احتضاره، مبشرةً بهذه البشائر العظيمة، تشريفا له وتكريمًا، وهو معنى ما أشارت إليه الآية الكريمة:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32].
ومنها: أن روح المؤمن تجتمع بأرواح المؤمنين، فيستبشرون بقدومه، ويسألونه عمن تركوه في الدنيا. ومنها: بيان ما يلقاه الكافر من الذلّ، والهوان عند خروج روحه، أعاذنا اللَّه تعالى من حال أهل النار، وأكرمنا بالفوز العظيم في دار القرار، إنه الرؤوف الرحيم العزيز الغفّار آمين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- انظر "المسند" ج 4 ص 287 - 288.
10 - فِيمَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ
1834 -
أَخْبَرَنَا هَنَّادٌ، عَنْ أَبِي زُبَيْدٍ
(1)
، وَهُوَ عَبْثَرُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» . قَالَ شُرَيْحٌ: فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَذْكُرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، إِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَقَدْ هَلَكْنَا، قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» . وَلَكِنْ لَيْسَ مِنَّا أَحَدٌ، إِلاَّ وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَتْ: قَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ بِالَّذِي تَذْهَبُ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ إِذَا طَمَحَ الْبَصَرُ، وَحَشْرَجَ الصَّدْرُ، وَاقْشَعَرَّ الْجِلْدُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هناد) بن السريّ الكوفيّ، ثقة [10] 23/ 25.
2 -
(أبو زُبيد، عَبْثَر بن القاسم) الزبيدي الكوفيّ، ثقة [8] 190/ 1164.
3 -
(مطرّف) بن طَريف الكوفيّ، ثقة فاضل، من صغار [6] 2/ 327.
4 -
(عامر) بن شَراحيل الشعبيّ الكوفي الإمام الحجة [3] 66/ 82.
5 -
(شُريح بن هانئ) أبو المقدام الكوفي المخضرم ثقة [2] 8/ 8 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف، وأنه مسلسل بالكوفيين، إلا الصحابي، وفيه رواية تابعي عن تابعي مخضرم. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ شُرَيحِ بْنِ هَانِئ) الحارثيّ الْمَذْحجيّ المخضرم الكوفيّ -رحمه اللَّه تعالى- (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن أَحَب لِقَاءَ اللَّهِ") أي المصير إلى الدار الآخرة، بمعنى أن المؤمن عند الغرغرة يُبَشَّر برضوان اللَّه، فيكون موته أحبّ إليه
(1)
- وفي نسخة: "أبي الزبيد".
من حياته. قيل: الحب هنا هو الذي يقتضيه الإيمان باللَّه، والثقة بوعده، دون ما يقتضيه حكم الجِبِلَّة.
وقال ابن الأثير الجزيّ رحمه الله في "النهاية": المراد بلقاء اللَّه هنا المصير إلى الدار الآخرة، وطلب ما عند اللَّه، وليس الغرض به الموت، لأن كُلاًّ يكرهه، فمن ترك الدنيا، وأبغضها أحبّ لقاء اللَّه، ومن آثرها، وركن إليها كره لقاء اللَّه، لأنه إنما يصل إليه بالموت. قال: وقول عائشة: "والموت دون لقاء اللَّه" يبيّن أن الموت غير اللقاء، ولكنه مُعترِضٌ دون الغرض المطلوب، فيجب أن يصبر عليه، ويحتمِلَ مشاقّه حتى يصل إلى الفوز باللقاء
(1)
.
قال الطيبيّ: يريد أن قول عائشة: "إنا لنكره الموت"
(2)
يوهم أن المراد بلقاء اللَّه في الحديث الموت، وليس كذلك، لأن لقاء اللَّه غير الموت، بدليل قوله في الرواية الأخرى:"والموت دون لقاء اللَّه"، لكن لما كان الموت سببا إلى لقاء اللَّه عبّر عنه بلقاء اللَّه.
قال الحافظ: وقد سبق ابن الأثير إلى تأويل لقاء اللَّه بغير الموت الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاّم، فقال: ليس وجهه عندي كراهة الموت، وشدّته، لأن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد، ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا، والركون إليها، وكراهية أن يصير إلى اللَّه، والدار الآخرة. قال: ومما يُبيّن ذلك أن اللَّه تعالى عاب قومًا بحبّ الحياة، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} الآية [يونس: 7]. انتهى.
وقال الخطابيّ: معنى محبّة العبد للقاء اللَّه إيثاره الآخرة على الدنيا، فلا يحبّ استمرار الإقامة فيها، بل يستعدّ للارتحال عنها، والكراهةُ بضدّ ذلك انتهى.
وقال النوويّ: معنى الحديث أن المحبّة والكراهة التي تُعتبر شرعًا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تُقبل فيها التوبة، حين ينكشف الحال للمُحتَضَر، ويظهر له ما هو صائر إليه انتهى
(3)
.
(أحبّ اللَّه لقاءه) قال في "الفتح": قال العلماء محبة اللَّه لعبده إرادته الخير له، وهدايته إليه، وإنعامه عليه، وكراهته له على الضدّ من ذلك انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تفسير محبّة اللَّه تعالى بما ذُكر تفسير باللازم، وهو
(1)
- "النهاية في غريب الحديث" ج 4 ص 266.
(2)
- أي في حديث مسلم، لا في رواية المصنف، فإنه من كلام شريح، لا من كلامها.
(3)
- راجع "الفتح" ج 13 ص 165 - 166.
غير صحيح، بل الذي عليه السلفُ، وأهلُ الحديث إثبات صفة المحبّة للَّه تعالى على ما يليق بجلاله، ثم إذا أحبّ اللَّه عبده أراد له الخير، وهداه إليه، وأنعم عليه. وعلى هذا الكراهة، فليُتفطّن، واللَّه تعالى أعلم.
(وَمَنْ كرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ) أي حين يرى ما له من العذاب عند الغرغرة (كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ) فأبعده من رحمته، وأدناه من نقمته.
[تنبيه] قوله: "من أحب لقاء اللَّه أحبّ اللَّه لقاءه الخ". قال الكرماني رحمه الله: ليس الشرط سببا للجزاء، بل الأمر بالعكس، ولكنه على تأويل الخبر، أي مَن أحبّ لقاء اللَّه أخبره بأن اللَّه أحبّ لقاءه، وكذلك الكراهة. وقال غيره فيما نقله ابن عبد البرّ وغيره "مَن" هنا خبرية، وليست شرطية، فليس معناه أن سبب حبّ اللَّه لقاء العبد حبّ العبد لقاءه، ولا الكراهة، ولكنه صفة حال الطائفتين في أنفسهم عند ربّهم، والتقدير من أحبّ لقاء اللَّه فهو الذي أحب اللَّه لقاءه، وكذا الكراهة.
قال الحافظ رحمه الله: ولا حاجة إلى دعوى نفي الشرطية، فقد ثبت في "كتاب التوحيد" من "صحيح البخاريّ" في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه: "قال اللَّه عز وجل: إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه
…
" الحديث. فيتعيّن أن "من" في حديث الباب شرطيّة، وتأويلها ما سبق.
وقال في "الفتح" أيضًا: في قوله: "أحبّ اللَّه لقاءه" العدولُ عن الضمير إلى الظاهر، تفخيمًا وتعظيمًا، ودفعًا لتوهّم عود الضمير على الموصول، لئلا يتّحد في الصورة المبتدأ والخبر، ففيه إصلاح اللفظ لتصحيح المعنى، وأيضًا فعود الضمير على المضاف إليه قليل.
قال الحافظ: وقرأت بخطّ ابن الصائغ في "شرح المشارق" يحتمل أن يكون لقاء اللَّه مضافًا للمفعول، فأقامه مقام الفاعل، ولقاءه إما مضاف للمفعول، أو للفاعل الضمير، أو للموصول، لأن الجواب إذا كان شرطًا، فالأولى أن يكون فيه ضمير، نعم هو موجود هنا، ولكن تقديرًا انتهى.
(قَالَ: شُرَيْحٌ) بن هانىء -رحمه اللَّه تعالى- (فَأتَيْتُ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَذْكُرُ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، إِنْ كَانَ كَذَلِكَ) أي إن كان الحديث كما ذكره أبو هريرة رضي الله عنه، وإنما قال ذلك لاحتمال أن يكون أخطأ فيه أبو هريرة، أو أخطأ هو في فهمه،، فلعل عائشة سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما يخالفه، أو لعلها تفهّمه المراد منه (فَقَدْ هَلَكْنَا) أي لكون الموت مبغوضًا إلى النفس بالطبع (قَالَتْ:) أي عائشة (وَمَا ذَاكَ؟) أي ما هو الحديث الذي ذكره أبو هريرة؟ (قَالَ) أي أبو هريرة (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ
أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَن كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ"، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنَّا
أَحَدٌ، إِلاَّ وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ) جملة الاستدراك من كلام شريح بَيَّنَ فيه وجهَ الإشكال من الحديث (قَالَتْ) أي عائشة (قَد قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ بِالَّذِي تَذْهَبُ إِلَيْه) الباء زائدة، أي ليس المراد ما تفهمه أنت من الإطلاق، بل هو مقيد بحالة الاحتضار حين يُبَشَّر المؤمن بخير، وُينذَر الكافر بشرّ، وإلى هذا أشارت بقولها (وَلَكِنْ إِذَا طَمَحَ الْبَصَرُ) قال في "ق": طَمَحَ بصرُهُ إليه، كمنع: ارتفع،، ووقع في نسخة "الكبرى""وطفح البصر" بالفاء بدل الميم، والظاهر أنه تصحيف، فإن الطَّفْح معناه الامتلاء، ولا يناسب هنا. وفي رواية مسلم:"إذا شَخَصَ البصرُ" بفتح الشين، والخاء، ومعناه ارتفاع الأجفان إلى فوقُ، وتحديدُ النظر (وَحَشْرَجَ الصَّدْرُ) كَدَحْرَج، قال في "ق": الحَشْرَجَة الغَرْغَرة عند الموت، وتردُّدُ النفَس (وَاقْشَعَرَّ الْجِلْدُ) أي أي قام شعره، وفي "ق": أخذته قُشَعْرِيرَةٌ، أي رِعْدَةْ. ووقع في نسخة "الكبرى""وانشحر الجلد"، والظاهر أنه تصحيف أيضًا، فمن الشّحر بوزن المنع فَتحُ الفم، وهو غير مناسب أيضا. زاد في رواية مسلم:"وتشنّجَت الأصابعُ". قال النووي: تشنّج الأصابع تقبّضُها انتهى.
قال في "الفتح": وهذه الأمور هي حالة المحتضر، وكأن عائشة رضي الله عنها أخذته من معنى الخبر الذي رواه عنها سعد بن هشام مرفوعًا. يعني الآتي بعد ثلاثة أحاديث (فَعِنْدَ ذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ) وأخرج عبد ابن حميد من وجه آخر عن عائشة مرفوعًا: "إذا أراد اللَّه بعبد خيرًا قيّض له قبل موته بعام ملكًا يسدّده، ويوفّقه حتى يقال: مات بخير ما كان، فإذا حُضر ورأى ثوابه اشتاقت نفسه، فذلك حين أحبّ لقاء اللَّه، وأحبّ اللَّه لقاءه، وإذا أراد اللَّه بعبد شرّا قَيّض له قبل موته بعام شيطانًا، فأضلّه، وفتنه، حتى يقال: مات بشرّ ما كان عليه، فإذا حُضر، ورأى ما أُعِدّ له من العذاب جَزِعَت نفسه، فذلك حين كره لقاء اللَّه، وكره اللَّه لقاءه"
(1)
.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-10/ 1834 و 1835 و 1838 - و"الكبرى" 10/ 1960 - و 1961 و 1964.
(1)
- "فتح"ج 13 ص 165.
وأخرجه (خ) 7504 (م) 157 و 257 و 2684 و 2685 (ت) 1067 (ق)، 4264 (الموطأ)567. (أحمد) 27349 و 8351 و 27609 و 9157 و 27230 و 23652 واللَّه تعالى أعلم.
المسالة الثالثة: في فوائده:
منها: فضل محبة لقاء اللَّه تعالى. ومنها: أن الجزاء من جنس العمل، فإنه قابل المحبّة بالمحبّة، والكراهة بالكراهة. ومنها: بيان معنى كراهة لقاء اللَّه، بأنه ليس المراد كراهة الموت، بل ما يكون وقت الاحتضار من حال العبد عند ما يُبشَّرُ المؤمن، ويُنذَرُ الكافرُ،، فإذا استبشر المؤمن، وانقبض الكافر كان ذلك علامة حب لقاء اللَّه، وكراهته. ومنها: البداءة بأهل الخير في الذكر لشرفهم، وإن كان أهل الشرّ أكثر.
ومنها: أن المحتضر إذا ظهرت عليه علامات السرور كان ذلك دليلاً على أنه بُشّر بالخير، وكذا بالعكس. ومنها: أن محبة لقاء اللَّه لا تدخل في النهي عن تمنّي الموت، لأنها ممكنة مع عدم تمني الموت، كان تكون المحبة حاصلة لا يفترق حاله فيها بحصول الموت ولا بتأخره، وأن النهي عن تمني الموت محمول على حالة الحياة المستمرة، وأما عند الاحتضار والمعاينة، فلا تدخل تحت النهي، بل هي مستحبّة.
[تنبيه]: في كراهة الموت في حالة الصحة تفصيلٌ، فمن كرهه إيثارًا للحياة على ما
بعد الموت من نعيم الآخرة كان مذمومًا، ومن كرهه خشية أن يُفضي إلى المؤاخذة كأن يكون مقصّرًا في العمل، لم يستعدّ له بالأهبة بأن يتخلّص من التبعات، ويقوم بأمر اللَّه كما يجب فهو معذور، لكن ينبغي لمن وجد ذلك أن يبادر إلى أخذ الأهبة حتى إذا حضره الموت لا يكرهه، بل يحبّه لما يرجو بعده من لقاء اللَّه تعالى. أفاده في "الفتح".
[تنبيه آخر]: أخرج مسلم رحمه الله، في "صحيحه" قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن مسهر، عن زكريا، عن الشعبيّ، عن شريح بن هانئ عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من أحبّ لقاء اللَّه أحب اللَّه لقاءه، ومن كره لقاء اللَّه كره اللَّه لقاءه، والموت قبل لقاء اللَّه". انتهى
(1)
.
قال الحافظ رحمه الله: هذه الزيادة -يعني قولها: "والموت قبل لقاء اللَّه"- من كلام عائشة فيما يظهر لي
(2)
، ذَكَرَتْها استنباطًا مما تقدّم. قال: وفيه أن اللَّه تعالى لا يَراه في الدنيا أحد من الأحياء، وإنما يقع ذلك للمؤمنين بعد الموت، وقد ورد بأصرح من هذا
(1)
- "صحيح مسلم" ج 17 ص 13 بنسخة شرح النووي.
(2)
- قلت: لا يظهر لي وجه ادعاء الحافظ الإدراجَ في هذا، ولم يذكر مستنده في ذلك، والذي يظهر أنه مرفوع، ولذلك أخرجه مسلم في "صحيحه"، ولم يتعرّض لإدراجه. واللَّه تعالى أعلم.
في "صحيح مسلم" من حديث أبي أُمامة مرفوعًا في حديث طويل، وفيه:"واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا". انتهى كلام الحافظ باختصار. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1835 -
أَخْبَرَنَا
(1)
الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ ح وَأَنْبَأَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ: اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي، أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِي، كَرِهْتُ لِقَاءَهُ» .
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(الحارث بن مسكين) المصري قاضيها، ثقة فقيه [10] 9/ 9.
2 -
(قتيبة) بن سعيد تقدم قريبًا.
3 -
(ابن القاسم) هو عبدالرحمن العُتَقيّ الفيقه الثبت المصريّ ثقة فقيه، من كبار [10] 19/ 20.
4 -
(مالك) بن أنس الإمام الحجة الثبت الفقيه [7] 7/ 7.
5 -
(المغيرة) بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن خالد بن حِزَام -بمهملة مكسورة، وزاي- ابن خُويلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصيّ القرشيّ الأسديّ الحِزاميّ المدنيّ، لقبه قُصيّ، وقيل: إنه من ولد حَكِيم بن حِزَام، صدوق
(2)
له غائب [7].
قال الجُوزجانيّ، عن أحمد. ما بحديثه بأس. وقال الدوريّ، عن ابن معين: ليس بشيء. وقال الآجرّيّ عن أبي داود: رجل صالح، كان ينزل عَسْقَلان. وقال في موضع آخر: سألت أبا داود، عن المغيرة بن عبد الرحمن الحزاميّ من ولد حكيم بن حزام، فقال: لا بأس به. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وقال أبو زرعة: هو أحبّ إليّ من ابن أبي الزناد، وشُعيب، يعني في حديث أبي الزناد. وقال الخطيب: كان علّامة بالنسب، يسمى قُصيّا. وقال ابن عديّ: ينفرد بأحاديث، وأورد منها جملة، ثم قال: عامتها مستقيمة، وأورد له عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعًا في القضاء باليمين والشاهد، وقد رواه ابن عجلان وغير واحد، عن أبي الزناد، عن ابن أبي صفيّة، عن شُريح قولَهُ. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، وله عند
(1)
- وفي نسخة: "قال الحارث".
(2)
- جعله في "ت" ثقة، لكن الذي يظهر من أقوال العلماء المذكور بعدُ أنه صدوق. واللَّه تعالى أعلم.
المصنف في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا، و 2077 حديث كل بني آدم
…
".
6 -
(أبو الزناد) عبد اللَّه بن ذكوان المدني ثقة [5] 7/ 7.
7 -
(الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز المدني، ثقة ثبت [3] 7/ 7.
والحديث صحيح، وتقدم شرحه، وتخريجه، في الذي قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1836 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يُحَدِّثُ، عَنْ عُبَادَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن المثنى) أبو موسى العنزي البصريّ، ثقة حافظ [10] 64/ 80.
2 -
(محمد) بن جعفر المعروف بـ "غندر" البصريّ الثقة [9] 21/ 22.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام المشهور [7] 24/ 26.
4 -
(قتادة) بن دعامة تقدم قريبًا.
5 -
(أنس) بن مالك رضي الله عنه 6/ 6.
6 -
(عبادة) بن الصامت بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو الوليد الصحابي البدريّ الأحديّ، أحد النقباء، مات رضي الله عنه بالرملة سنة (34) عن (72) على الصحيح 24/ 910.
ورجال الإسناد بصريّون سوى عبادة رضي الله عنه، فمدني نزل الشام، وفيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ. واللَّه تعالى أعلم.
والحديث متفق عليه، أخرجه المصنف هنا -10/ 1836 و 1837 وفي "الكبرى"- 10/ 1962 و 1963. وأخرجه (خ) 6507 (م) 2683 (ت) 1066 و 2309 (أحمد) 22188 و 22238 و 2756 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1837 -
أَخْبَرَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يُحَدِّثُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أبو الأشعث) أحمد بن المقدام العجليّ البصريّ، صدوق [11] 138/ 319.
2 -
(المعتمر) بن سليمان التيميّ البصري، ثقة، من كبار [9] 10/ 10.
3 -
(سليمان) بن طَرْخان التيميّ البصريّ، ثقة عابد [4] 87/ 107 والباقون تقدموا
في الذي قبله. والسند مسلسل بثقات البصريين، والحديث تقدم تمام البحث فيه، وهو متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1838 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ ح وَأَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» .
زَادَ عَمْرٌو فِي حَدِيثِهِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَرَاهِيَةُ لِقَاءِ اللَّهِ، كَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ، كُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ؟ قَالَ:«ذَاكَ عِنْدَ مَوْتِهِ، إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَمَغْفِرَتِهِ، أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» .
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عمرو بن علي) الفلاَّس البصريّ الحافظ الثبت [10] 4/ 4.
2 -
(حميد بن مسعدة) السامي الباهليّ البصريّ، صدوق [10] 5/ 5.
3 -
(عبد الأعلى) بن عبد الأعلى السامي البصريّ، ثقة [8] 20/ 386.
4 -
(خالد بن الحارث) الهجيميّ البصريّ الثقة الثبت [8] 42/ 47.
5 -
(سعيد) بن أبى عروبة البصريّ ثقة ثبت [6] 34/ 460.
6 -
(قتادة) تقدم قريبًا.
7 -
(زرارة) بن أوفى الحرشي الكوفي القاضي العابد الثقة [3] 27/ 917.
8 -
(سعد بن هشام) بن عامر الأنصاريّ المدنيّ، ثقة [3] 67/ 1315.
9 -
(عائشة) رضي الله عنها 5/ 5.
وقوله: "زاد عمرو الخ" هو الفَلاّس، شيخُهُ، يعني أن عمرو بن علي زاد في حديثه قولَهُ. "فقيل: يا رسول اللَّه الخ". والقائل له ذلك عائشة رضي الله عنها، ففي رواية مسلم: قالت. فقلت يا نبي اللَّه أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت، فقال: "ليس كذلك، ولكنّ المؤمنَ إذا بُشّر برحمة اللَّه ورضوانه وجنته أحبّ لقاء اللَّه، فأحبّ اللَّه لقاءه، وإن الكافر إذا بشّر بعذاب اللَّه وسخطه، كره لقاء اللَّه، وكره اللَّه لقاءه".
[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: ما نصّه: قالت عائشة، أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت الخ.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: كذا في هذه الرواية بالشكّ، وجزم سعد بن هشام في روايته عن عائشة بأنها هي التي قالت ذلك، ولم يتردد، وهذه الزيادة في هذا الحديث لا
تظهر صريحًا، هل هي من كلام عبادة، والمعنى أنه سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع مراجعة عائشة، أو من كلام أنس بأن يكون حضر ذلك، فقد وقع في رواية حميد التي أشرت إليها بلفظ:"فقلنا يا رسول اللَّه"، فيكون أسند القول إلى جماعة، وإن كان المباشر له واحدًا، وهي عائشة، وكذا وقع في رواية عبدالرحمن بن أبي ليلى التي أشرت إليها، وفيها:"فأكبّ القومُ يبكون، وقالوا: إنا نكره الموت، قال: ليس ذلك". ولابن أبي شيبة من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة نحو حديث الباب، وفيه "قيل: يا رسول اللَّه ما منّا من أحد إلا وهو يكره الموت، فقال: إذا كان ذلك كُشف له"، ويحتمل أيضًا أن يكون من كلام قتادة أرسله في رواية همام، ووصله في رواية سعيد بن أبي عروبة، عنه عن زُرارة، عن سعد بن هشام، عن عائشة، فيكون في رواية همّام إدراج، وهذا أرجح في نظري، فقد أخرجه مسلم عن هدّاب بن خالد، عن همام مقتصرًا على أصل الحديث، دون قوله: "فقالت عائشة الخ"، ثم أخرجه من رواية سعيد ابن أبي عروبة موصولاً تامّا، وكذا أخرجه هو وأحمد من رواية شعبة، والنسائيّ من رواية سليمان التيميّ، كلاهما عن قتادة، وكذا جاء عن أبي هريرة وغير واحد من الصحابة بدون المراجعة، وقد أخرجه الحسن بن سفيان، وأبو يعلى جميعًا عن هُدبة بن خالد تامّا، كما أخرجه البخاريّ عن حجاج، عن همام، وهُدْبةُ هو هدّاب شيخ مسلم،
فكأن مسلما حذف الزيادة عمدًا، لكونها مرسلة من هذا الوجه، واكتفى بإيرادها موصولة من طريق سعيد بن أبي عروبة، وقد رمز البخاريّ إلى ذلك حيث علق رواية شعبة بقوله:"اختصره الخ"، وكذا أشار إلى رواية سعيد تعليقًا، وهذا من العلل الخفيّة جدّا انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
وقوله: "كراهيةُ لقاء اللَّه كراهية الموت؟ " مبتدأ وخبر بتقدير أداة الاستفهام. وقوله: "كلنا نكره الموت" جملة مستأنفة بَيَّن بها سبب الاستفهام، أي إنما استفهمتُ عن معنى كراهية لقاء اللَّه خوفا من أن ندخل فيها هذه، حيث إننا نكره الموت.
وقوله: "ذاك عند موته" إشارة إلى المذكور من محبة لقاء اللَّه تعالى، وكراهيته، يعني أن كراهية لقاء اللَّه تعالى ليس مطلقا، بل هو في وقت معيّن، وذلك عند موته، ومعاينته ما أعدّ له، من عظيم الثواب، وأليم العقاب.
وقوله: "إذا بُشّر برحمة اللَّه الخ"، وفي رواية البخاريّ:"بُشر برضوان اللَّه وكرامته"، وفي رواية مسلم:"بشر برحمة اللَّه ورضوانه وجنته"، وفي حديث حميد،
(1)
- راجع "الفتح" ج 13 ص 164.
عن أنس: "ولكن المؤمن إذا حُضر جاءه البشير من اللَّه، وليس شيء أحبّ إليه من أن يكون قد لقي اللَّه، فأحبّ اللَّه لقاءه"، وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى:"ولكنه إذا حضر فأما إن كان من المقرّبين، فرَوح وريحان وجنّة نعيم، فإذا بشر بذلك أحبّ لقاء اللَّه، واللَّه للقائه أحبّ"
(1)
.
قال الخطابيّ رحمه الله: تضمّن حديث الباب من التفسير ما فيه غنية عن غيره، واللقاء يقع على أوجه: منها: المعاينة. ومنها. البعث، كقوله تعالى:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} [الأنعام: 31]، أي بالبعث. ومنها: الموت، كقوله تعالى. {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} الآية [العنكبوت: 5]، وقوله:{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} الآية [الجمعة: 8] انتهى.
وقال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: هذا الحديث يفسّر آخرُهُ أوّلَهُ، ويبين المراد بباقي الأحاديث المطلقة:"من أحبّ لقاء اللَّه، ومن كره لقاء اللَّه".
ومعنى الحديث: أن الكراهة المعتبرة هي التي تكون عند النزع في حالةٍ لا تُقبل توبته، ولا غيرها، فحينئذ يُبشّر كلُّ إنسان بما هو صائر إليه، وما أُعدّ له، ويُكشف له عن ذلك، فأهل السعادة يُحبّون الموت ، ولقاءَ اللَّه، لينتقلوا إلى ما أُعدّ لهم، ويحبّ اللَّهُ لقاءهم، أي فيُجزِل لهم العطاء والكرامة، وأهل الشقاوة يَكرهون لقاءه، لِمَا عَلِمُوا من سوء ما يَنتقلون إليه، ويَكره اللَّه لقاءهم، أي يبعدهم عن رحمته وكرامته، ولا يريد ذلك بهم، وهذا معنى كراهته سبحانه لقاءهم، وليس معنى الحديث أن سبب كراهة اللَّه تعالى لقاءَهم كراهتُهُم ذلك، ولا أن حبّه لقاءَ الآخرين حبُّهم ذلك، بل هو صفة لهم انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث أخرجه مسلم، وتقدّم الكلام عليه قريبًا. وباللَّه تعالى التوفيق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وْإليه أنيب".
…
11 - تَقْبِيلُ الْمَيّتِ
1839 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ
(1)
- المصدر المذكور ج 13 ص 165.
(2)
- "شرح مسلم" ج 17 ص 12 - 13.
ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، قَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مَيِّتٌ".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أحمد بن عمرو) بن السَّرْح، أبو الطاهر المصريّ، ثقة [10] 35/ 39.
2 -
(ابن وهب) عبد اللَّه تقدم قريبًا.
3 -
(يونس) بن يزيد الأيلي، ثقة [7] 9/ 9.
4 -
(ابن شهاب) الزهري الإمام المشهور تقدم قريبًا.
5 -
(عروة) بن الزبير بن العوّام المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 40/ 44.
6 -
(عائشة) رضي الله عنها تقدمت في الباب الماضي.
والحديث أخرجه البخاريّ، ويأتي شرحه، والكلام عليه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1840 -
أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي
(1)
مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ، "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، قَبَّلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مَيِّتٌ".
رجال الإسناد: ثمانية:
1 -
(يعقوب بن إبراهيم) الدَّوْرَقيّ البغداديّ، ثقة حافظ [10] 21/ 22.
2 -
(محمد بن المثنى) تقدم قريبًا.
3 -
(يحيى) بن سعيد القطّان الإمام تقدم قريبًا.
4 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ الإمام الحافظ الحجة [7] 33/ 37.
5 -
(موسى بن أبي عائشة) الهمدانيّ مولاهم، أبو الحسن الكوفيّ، ثقة عابد [5] 40/ 834.
6 -
(عبيداللَه بن عبد اللَّه) بن عتبة بن مسعود المدني الفقيه الثبت [3] 45/ 56.
7 -
(ابن عباس) عبد اللَّه البحر رضي الله عنه 27/ 31.
وشيخا المصنف ممن اتفق السنة بالرواية عنهما بدون واسطة، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وصحابياه من المكثرين السبعة، وقد تقدّم كلّ هذا غير مرّة.
والحديث أخرجه البخاري، ويأتي البحث فيه في الحديث الذي بعده واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(2)
(1)
- وفي نسخة: "حدثنا".
1841 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ
(1)
مَعْمَرٌ، وَيُونُسُ، قَالَ: الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ، مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنُحِ، حَتَّى نَزَلَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مُسَجًّى بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ، فَقَبَّلَهُ، فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ، وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا.
رجال الإسناد: سبعة:
1 -
(سُويد بن نصر) المروزيّ، ثقة [10] 45/ 55.
2 -
(عبد اللَّه) بن المبارك الإمام الحافظ الحجة المشهور [8] 32/ 36.
3 -
(معمر) بن راشد، أبو عروة الصنعاني، ثقة ثبت [7] 10/ 10.
والباقون تقدموا قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف، وفيه رواية تابعي، عن تابعيّ، وفيه أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحداديث. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن الزهري أنه (قال. وَأَخبَرَنِي أَبُو سلَمَةَ) عطف على محذوف، أي أخبرني أبو سلمة بكذا، وأخبرني أيضًا (أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ) حاصله أن الزهريّ روى عن أبي سلمة أحاديث متعاطفة، فحذف المعطوف عليه لعدم تعلقه بالموضوع، واللَّه تعالى أعلم.
(أَنَّ أَبَا بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (أَقبَلَ عَلَى فَرَسٍ،- مِن مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ) بضم السين المهملة، وسكون النون، وقيل: بضمها، بعدها حاء مهملة: موضعٌ بعوالي المدينة، فيه منازل بني الحارث بن الخزرج، وكان أبو بكر متزوّجًا منهم (حَتَّى نَزَلَ) أي عن فرسه (فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يُكَلِّم النَّاسَ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ) رضي الله عنها (ورَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مُسَجَّى) بجيم مشدّدة، كمُغَطَّى وزنًا ومعنىً، والجملة في محل نصب على الحال (بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ) بوزن عِنَبَة على الوصف، أو الإضافة، وهو بُرْد يمانيّ، والجمع حِبَرٌ وحِبَرَات.
قاله في "النهاية". وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الحِبَرَة" وزانُ عِنَبَة: ثوب يَمَانيّ من قُطن، أو كتان، مخطَّطٌ، يقال: بُرْدٌ حِبَرَةٌ، على الوصف، وبُرْدُ حِبَرَةٍ على الإضافة، والجمع
(1)
- وفي نسخة: "حدثنا".
حِبَرٌ، وحبَرَات، مثلُ عِنَبٍ، وعِنَبَاتٍ انتهى
(1)
(فَكَشَف) أي أبو بكر رضي الله عنه (عَنْ وَجْهِهِ) أي وجه النبي صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ) وفي نسخة: "فأكبّ"، وهو من الإكباب، يقال: أكبّ الرجلُ على الشيء: أقبل عليه يفعله، ولزمه. قاله في "اللسان"(فَقَبَّلَهُ، فَبَكَى) فيه جواز تقبيل الميت، والبكاء عليه (ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ) متعلّق بمحذوف، أي أَفْديك بأبي، وفي رواية البخاريّ:"بأبي أنت وأمي يا نبي اللَّه"(وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أَبَدًا) اختُلف في المراد به، فقيل: أشار به إلى الردّ على من زعم أنه سيَحْيَا، فيَقطَع أيدي رجال، لأنه لو صحّ ذلك للزم أن يموت موتة أخرى، فأخبر أنه أكرمُ على اللَّه من أن يجمع اللَّه عليه موتتين، كما جمعهما على غيره، كالذين خرجوا من ديارهم، وهم ألوف، وكالذي مرّ على قرية، وهذا أوضح الأقوال، وأسلمها. وقيل: أراد لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره، إذ يحيا ليُسأل، ثم يموت. وهذا جواب الداوديّ. وقيل: لا يجمع اللَّه عليك موت نفسك، وموت شريعتك. وقيل: كَنَى بالموت الثاني عن الكرب، أي لا تَلقَى بعد كرب هذا الموت كربًا آخر. أفاده في "الفتح"(2).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي القول الأول هو الأرجح -كما أشار إليه الحافظ- لأن قوله: "أما الموتة الأولى الخ" يؤيده، ولأن هذا الكلام إنما قاله أبو بكر رضي الله عنه للردّ على عمر رضي الله عنه في قوله: إن اللَّه تعالى يبعثه، فيقطع أيدي رجال، وأرجلهم.
فقد أخرج البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه"-3667 - من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مات، وأبو بكر بالسُّنْح، فقام عمر يقول: واللَّه ما مات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قالت: وقال عمر: واللَّه ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنّه اللَّه، فليقطعنّ أيدي رجال، وأرجلهم، فجاء أبو بكر، فكشف عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقبله، فقال: بأبي أنت وأمي طِبْت حيّا وميتًا، والذي نفسي بيده لا يُذيقك اللَّه الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيها الحالف على رِسْلِك، فلما تكلّم أبو بكر جلس عمر، فحمد اللَّه أبو بكر، وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد اللَّه، فإن اللَّه حي لا يموت، وقال:{إِنَكَ مَيتٌ وإِنَهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، قال: فنَشَجَ الناسُ
(3)
يبكون
…
الحديث.
(1)
- "المصباح المنير" في دادة حبر.
(2)
- "فتح" ج 3 ص 450.
(3)
- نشَج الباكي يَنْشِج نَشِيجاً: غُصّ بالبكاء في حلقه من غير انتحاب. اهـ ق.
وفي رواية له من طريق الزهري، عن أبي سلمة، عن عبد اللَّه بن عباس: "أن أبا بكر رضي الله عنه خرج، وعمر بن الخطاب يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم
…
" الحديث، وفيه: "قال. واللَّه لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن اللَّه أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه، فتلقاها الناس منه، كلهم، فما أسمَعُ بشرًا من الناس إلا يتلوها".
فأخبرني
(1)
سعيد ابن المسيب أن عمر قال: واللَّه ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعُقِرتُ
(2)
، حتى ما تُقلّني رجلايَ، وحتى أهويتُ إلى الأرض حين سمعته تلاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات انتهى.
وعند أحمد من طريق يزيد بن بابَنُوس، عن عائشة رضي الله عنها: "
…
فجاء عمر والمغيرة ابن شعبة، فاستأذنا، فأذنت لهما، وجذبت الحجاب، فنظر عمر إليه، فقال: واغشيتاه، ثم قاما، فلما دنوا من الباب قال المغيرة: يا عمر مات، قال: كذبتَ، بل أنت رجل تحُوشك فتنة، إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يُفني اللَّه المنافقين، ثم جاء أبو بكر، فرفعتُ الحجاب، فنظر إليه، فقال: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، مات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".
وروى ابن إسحاق، وعبد الرزاق، والطبرانيّ من طريق عكرمة:"أن العباس قال لعمر: هل عند أحد منكم عهد من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك؟ قال: لا، قال: فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد مات، ولم يمت حتى حارب، وسالم، ونكح، وطلّق، وترككم على مَحَجّة واضحة".
قال الحافظ رحمه الله: وهذه من موافقات العباس للصدّيق في حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة: "أن أبا بكر مرّ بعمر، وهو يقول: ما مات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا يموت حتى يقتل اللَّه المنافقين، وكانوا أظهروا الاستبشار، ورفعوا رؤوسهم، فقال: أيها الرجل إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد مات، ألم تسمع اللَّه تعالى يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الآية [الأنبياء: 34]، ثم أتى المنبر، فصعد، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، فذكر خطبته".
وفي رواية يزيد بن بابنوس، عن عائشة رضي الله عنها: "إن أبا بكر حمد اللَّه، وأثنى عليه، ثم قال: إن اللَّه يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} حتى فرغ من الآية، ثم تلا {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية، وقال فيه: قال عمر: أَوَ إنها في كتاب اللَّه؟ ما
(1)
- القائل: فأخبرني سعيد هو الزهريّ، كما بينه في "الفتح" ج 8 ص 494.
(2)
- بضم، فكسر: أي هلكت.
شعرت أنها في كتاب اللَّه، وفي حديث ابن عمر نحوه، وزاد: ثم نزل، فاستبشر المسلمون، وأخذ المنافقين الكآبة، قال ابن عمر: وكأنما على وجوهنا أغطية، فكُشفت
(1)
.
(أَما الْمَوْتَةُ التِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكَ) وفي نسخة: "التي كُتبت عليك"(فَقَدْ مِتَّهَا) بضم الميم، من مات يموت، كتاب يقول، وبكسرها، من مات يَمَات، كخاف يَخَاف، أي مُتّ تلك الموتة، فالضمير وقع منصوبًا على المصدرية
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث أخرجه البخاريّ.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا- 11/ 1839 و1840 و 1841 وفي "الكبرى" 11/ 1965 و 1966 و 1968.
وأخرجه (خ) 1242 و3670 و 4454 و 4457 و 5712 (ق) 1627 (أحمد)24342. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو مشروعيّة تقبيل الميت. ومنها: جواز التفدية بالآباء والأمهات، وقد يقال: هي لفظة اعتادت العرب أن تقولها، ولا تقصد معناها الحقيقي، إذ حقيقة التفدية بعد الموت لا تتصوّر. ومنها: جواز البكاء على الميت، وسيأتي بعد أربعة أبواب مبسوطًا، إن شاء اللَّه تعالى. ومنها: قوّة جأش
(3)
أبي بكر رضي الله عنه، وكثرة علمه، وقد وافقه على ذلك العباسُ، كما تقدّم، والمغيرة، كما رواه ابن سعد، وابن أم مكتوم، كما في المغازي لأبي الأسود، عن عروة، قال: إنه كان يتلو قوله تعالى: {إِنَكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِتُونَ} ، والناس لا يلتفتون إليه، وكان أكثر الصحابة على خلاف ذلك، فيؤخذ منه أن الأقلّ عددًا في الاجتهاد قد يُصيب، ويُخطىء الأكثر، فلا يتعين الترجيح بالأكثر، ولا سيّما إن ظهر أن بعضهم قلّد بعضًا. قاله في "الفتح"
(4)
.
(1)
- راجع "الفتح" ج 8 ص 494.
(2)
- انظر "شرح السنديّ" ج 4 ص 11 - 12.
(3)
- الجَأشُ: رُوَاعُ القلب إذا اضطرب عند الفزع، ونفس الإنسان، وقد لا يُهْمَزُ، جمعه: جُؤُوش. اهـ "ق".
(4)
- ج 8 ص 495.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
12 - تَسْجِيَةُ الْمَيّتِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "التسجية" بالجيم: مصدر سَجَّى يُسَجِّي، كغَطَّى يُغَطّي وزنًا ومعنًى. ووقع في نسخة "الكبرى""تسبيحة الميت" بالباء بعدها ياء، ثم حاء مهملة، وهو تصحيف فاحش، والصواب:"تسجية الميت" بالجيم والياء المثناة التحتانية، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1842 -
أَخْبَرَنِي
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرًا، يَقُولُ جِيءَ بِأَبِي يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ سُجِّيَ بِثَوْبٍ، فَجَعَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْهُ، فَنَهَانِي قَوْمِي، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَرُفِعَ، فَلَمَّا رُفِعَ، سَمِعَ صَوْتَ بَاكِيَةٍ، فَقَالَ:«مَنْ هَذِهِ؟» ، فَقَالُوا: هَذِهِ بِنْتُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو، قَالَ:"فَلَا تَبْكِي"، أَوْ "فَلِمَ تَبْكِي" مَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، حَتَّى رُفِعَ».
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(محمد بن منصور) الْجَوّاز المكّيّ ثقة [10] 20/ 21.
2 -
(سفيان) بن عيينة الإمام الشهير تقدم قريبًا.
4 -
(ابن المنكدر) محمد التيميّ المدنيّ، ثقة [3] 103/ 138.
4 -
(جابر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (109) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن صحابيّه من المكثرين السبعة، روى (1540) من الأحاديث. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
وفي نسخة: "أخبرنا".
شرح الحديث
عن محمد بن المنكدر رحمه الله، أنه قال (سَمِعْتُ جَابِرًا) رضي الله عنه (يَقُولُ: جِيءَ بِأَبِي يَوْمَ أُحُدٍ) أي يوم غزوة أحد، وهو بضمتين: جبل بقرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الشام، وغزوته كانت في أوائل شوّال سنة ثلاث من الهجرة، وهو مذكّر، فينصرف، وقيل: يجوز التأنيث على توهّم البُقْعَة، فيُمنع، وليس بالقويّ. قاله في "المصباح"(وَقَدْ مُثِّلَ بِه) بالبناء للمفعول مخفّفًا، أو مشددًا، وهو المناسب هنا، من الْمَثْل، أو التمثيل، يقال: مَثَلْتُ بالقتيل مَثْلًا، من بابي قتل، وضرب: إذا جَدَعْتَهُ، أي قطعت أنفه، أو أذنه، أو مذاكيره، أو شئًا من أجزائه، وظهرت آثار فعلك عليه تنكيلاً، والتشديد للمبالغة، والاسم المُثْلَة، بضم الميم، وسكون المثلّثة، وزان غُرْفة (فَوُضِع) ولفظ البخاريّ:"حتى وُضع"(بَينَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ سُجِّيَ بِثَوْبٍ) بالبناء للمفعول، من التسجية، أي غُطِّي بثوب، والجملة في محل نصب علىَ الحَال (فَجَعَلْتُ) ولفظ البخاريّ:"فذهبت"(أُرِيدُ أَن أَكْشِفَ عَنْهُ) أي حتى يَرَى ما فُعِل به (فَنَهَانِي قَوْمِي) هم بنو سَلِمَة -بكسر اللام- وفي رواية البخاريّ: "فذهبت أريد أن أكشف عنه، فنهاني قومي، ثم ذهبت أكشف عنه، فنهاني قومي"، مكرّرا. وفي رواية شعبة الآتية: "فجعلت أكشف عن وجهه، وأبكي، والناس ينهوني، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا ينهاني
…
"
(فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي أمر برفعه من ذلك الموضع إلى محلّ دفنه (فَرُفِعَ، فَلَمَّا رُفِعَ، سَمِعَ صَوْتَ بَاكِيَةٍ) أي امرأة باكية، ولفظ البخاريّ:"صوت صائحة"(فَقَالَ: "مَنْ هَذِهِ؟ "، فَقَالُوا: هَذِهِ بِنْتُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو) هكذا شك من سفيان، والصواب بنت عمرو، وهي فاطمة بنت عمرو، وسيأتي في الباب التالي من رواية شعبة، عن محمد بن المنكدر:"وجعلت عمتي تبكيه"، وفي رواية البخاريّ:"فذهبت عمتي فاطمة"، ووقع في "الإكليل" للحاكم تسميتها هند بنت عمرو، فلعل لها اسمين، أو أحدهما اسمها، والآخر لقبها، أو كانتا جميعًا حاضرتين. قاله في "الفتح"
(1)
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَلَا تَبْكِي")"لا" ناهية، فلذا جزم الفعل بعدها، وقول السنديّ: قوله: "فلا تبكي" نفي بمعني النهي. سهو منه، لأن الفعل مجزوم، ولو كان نفيا لرُفع بالنون، كما قال ابن مالك:
وَاجْعَلْ لِنَحْوِ يَفعَلَانِ النُّونَا
…
رَفْعَا وَتَدْعِينَ وَتَسْأَلُونَا
وَحذْفُهَا لِلْجَزْمِ وَالنَّصْبِ سِمَهْ
…
كَلَمْ تَكُونِي لِتَرُومِي مَظْلَمَهْ
(1)
- ج3 ص 512.
(أَوْ "فَلِمَ تَبْكِي؟)"أو" للشكّ من الراوي، والاستفهام للإنكار، فيكون بمعنى النهي.
وفي رواية البخاريّ: "قال: فلم تبكي؟ أو لا تبكي" قال في "الفتح": هكذا في هذه الرواية بكسر اللام، وفتح الميم، على أنه استفهام عن غائبة، وأما قوله:"أو لا تبكي"، فالظاهر أنه شكّ من الراوي، هل استفهَمَ، أو نَهى، لكن تقدم -يعني في رواية البخاري- من رواية شعبة "تبكين، أو لا تبكين"، وتقدم شرحه على التخيير، ومحصله أن هذا الجليل القدر الذي تظلّه الملائكة بأجنحتها لا ينبغي أن يُبكَى عليه، بل يُفرح له بما صار إليه انتهى
(1)
.
وقال في موضع آخر: قوله: "تبكين، أو لا تبكين" للتخيير، ومعناه أنه مكرم بصنيع الملائكة، وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه، ويحتمل أن يكون شكّا من الراوي انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حمله على التخيير فيه نظر، إذ تعارضه رواية شعبة عند المصنف -كما سيأتي في الباب التالي- بلفظ:"لا تبكيه" بالنهي الجازم، فالأولى حمله على الشكّ، فيكون قوله:"تبكين" استفهامًا بتقدير أداته، أي أتبكين؟، والاستفهام الإنكاريّ بمنزلة النهي، فلا اختلاف بين رواية سفيان، وشعبة في المعنى. واللَّه تعالى أعلم.
(مَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا) هذه الجملة تعليل للنهي عن البكاء، أي لأن من كان مُعزّزًا مُكرّما بعناية الملَائكة به لا ينبغي أن يُبكَى عليه، بل يُفرح به ("حَتَّى رُفِعَ") وفي رواية شعبة:"حتى رفعتموه"، وهو غاية لتظليل الملائكة له، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-12/ 1842 و 13/ 1845 - وفي "الكبرى"-12/ 1969 و 13/ 1972 وأخرجه (خ) 1242 و 1293 و 2816 (م) 2471 (أحمد) 13775 و 13883. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو استحباب تسجية الميت، قال
(1)
- راجع "الفتح" ج 3 ص 512.
(2)
- المصدر المذكور ج 3 ص 452.
النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وهو مجمع عليه، وحكمته صيانة الميت من الانكشاف، وستر عورته المتغيّرة عن الأعين، قال بعض أصحاب الشافعيّ: ويُلَفّ طرف الثوب المسجّى به تحت رأسه، وطرفه الآخر تحت رجليه، لئلا ينكشف منه، قال: وتكون التسجية بعد نزع ثيابه التي تُوفّي فيها، لئلا يتغيّر بدنه بسببها انتهى
(1)
. ومنها: منقبة والد جابر رضي الله عنه، حيث أظلته الملائكة بأجنحتها. ومنها: عناية الملائكة بخدمة الصالحين، ومصاحبتهم، كما قال اللَّه تعالى حكاية عنهم:{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} الآية [فصلت: 31]. ومنها: فضل الشهادة في سبيل اللَّه تعالى. ومنها: النهي عن البكاء على من مات على خير عمله، وسيأتي تمام البحث عنه بعد باب، إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
13 - فِي الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيّتِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بهذه الترجمة جواز البكاء على الميت، فالأحاديث التي أوردها هنا كلها تدلّ على الجواز، وأما الباب التالي، فهو للنهي عنه، كما صرح به هناك، وسيأتي التوفيق بين الأحاديث إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم.
قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: بَكَى يَبْكِي بُكًى، وبُكَاءً، بالقصر والمدّ، وقيل: القصر مع خروج الدموع، والمدّ على إرادة الصوت، وقد جمع الشاعر بين اللغتين، فقال [من الوافر]:
بَكَتْ عَيْنِي وَحَقَّ لَهَا بُكَاهَا
…
وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ
ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أبكيته، ويقال: بكَيتُهُ، وبكيتُ عليه، وبكيتُ له، وبَكَّيته بالتشديد، وبَكَت السحابةُ: أمطرت انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1843 -
أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ، قَالَ: لَمَّا حُضِرَتْ بِنْتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَغِيرَةٌ، فَأَخَذَهَا
(1)
- "شرح مسلم" ج 7 ص 13.
(2)
- انظر "المصباح" مادة بكى.
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَضَمَّهَا
(1)
إِلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، فَقَضَتْ، وَهِيَ بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَكَتْ أُمُّ أَيْمَنَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يَا أُمَّ أَيْمَنَ أَتَبْكِينَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَكِ؟» . فَقَالَتْ: مَا لِي لَا أَبْكِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْكِي؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنِّي لَسْتُ أَبْكِي، وَلَكِنَّهَا رَحْمَةٌ» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ بِخَيْرٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ، تُنْزَعُ نَفْسُهُ مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ، وَهُوَ يَحْمَدُ اللَّهَ عز وجل» .
رجال الإسناد: خمسة:
1 -
(هناد بن السريّ) أبو السريّ الكوفيّ، ثقة [10] 23/ 25.
2 -
(أبو الأحوص) سلاّم بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ الحافظ الثبت [7] 79/ 96.
3 -
(عطاء بن السائب) أبو محمدن أو أبو السائب الثقفي، الكوفيّ، صدوق اختلط [5] 152/ 243.
4 -
(عكرمة) مولى ابن عباس، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة ثبت عالم بالتفسير [3] 2/ 325.
5 -
(ابن عباس) رضي الله عنه تقدم قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وفيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - الحبر والبحر، أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة، وأحد المشهورين بالفتوى. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَن ابْنِ عَبَّاس) رضي الله عنه (قَالَ: لَما حُضِرَتْ بِنْتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَغِيرَةٌ) لم أعرف اسمها (فَأَخَذَهَا رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَضَمَّهَا) وفي نسخة "وضمها" بالواو (إِلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ) وفي نسخة "يديه" بالتثنية (عَلَيْهَا، فَقَضَتْ) أي ماتت. وفي نسخة "فقُبضت". ولأحمد من طريق أبي إسحاق، عن عطاء بن السائب: "جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض بناته، وهي في السَّوْق، فأخذها، ووضعها في حجره، حتى قُبضت، فدمعت عيناه
…
الحديث. وفي رواية إسرائيل ، عن عطاء: "أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعضَ بناته، وهي تَجُود بنفسها، فوقع عليها، فلم يرفع رأسه حتى قُبضت، قال: فرفع رأسه، وقال: الحمد للَّه، المؤمن بخير
…
الحديث (وَهِيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) جملة في
(1)
- وفي نسخة: "وضمها".
محل نصب على الحال من الفاعل (فَبَكَتْ أُم أَيْمَنَ) حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، يقال: اسمها بَرَكَة، وهي والدة أسامة بن زيد، ماتت في خلافة عثمان رضي الله عنهم أجمعين (فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا أُمَّ أَيْمَنَ أتبْكِينَ) استفهام إنكاريّ، أنكر عليها بكاءها حيث كان برفع الصوت، كما يدلّ على ذلك رواية أحمد من طريق سفيان الثوريّ، عن عطاء بن السائب، ولفظه: "أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بنتا له، تَقضِي، فاحتضنها، فوضعها بين ثدييه، فماتت، وهي بين ثدييه، فصاحت أم أيمن
…
الحديث (ورَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَكِ؟ ") جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل أيضًا (فَقَالَتْ: مَا لِي لَا أَبْكِي) أي أيُّ شيء ثبت لي في عدم البكاء؟، وقد ثبت مقتضيه، وهو بكاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كما بينته بقولها (وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْكِي؟) الجملة في محل نصب على الحال من الفاعل، والرابط الواو (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَسْتُ أَبْكِي) أي بكاءً برفع صوت، فالمنفي بكاؤه برفع الصوت، وهو الذي أنكره عليها (وَلَكِنَّهَا رَحْمَةٌ) الضمير لبكائه صلى الله عليه وسلم، وإنما أنثه باعتبار الخبر. والمراد أن البكاء بلا صِيَاح رحمة، وبصياح منكر، فكأنه قال: بين بكائي وبكائك فرقٌ، فلا يؤخذ حكم أحدهما من الآخر.
وفيه دليل على جواز البكاء بلا صياح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنكر على أم أيمن رضي الله عنها بكاءها مع الصياح، كما تقدم في رواية أحمد.
وهذا محلّ استدلال المصنف -رحمه اللَّه تعالى- به على الترجمة (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "المُؤمِنُ بِخَيْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ) يعني أن أحوال المؤمن كلها خير له، سواء كانت سرّاء، أم ضرّاء، إذ يُثاب على كلّ أحواله، ففي السرّاء يُثاب على شكره، وفي الضرّاء يثاب على صبره.
وهذا في معنى ما أخرجه مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" من حديث صهيب رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له"
(1)
.
(تُنْزَعُ نَفْسُهُ) ببناء الفعل للمفعول، أي تخرُج روحه (مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ، وَهُوَ يَحْمَدُ اللَهَ عز وجل) أي فهو في هذه الحالة في ثواب عظيم، حيث رضي بقضاء ربّه، ولم يَجزَع، بل حمده على ما أصابه، فوَفَّاه أجرَه، قال اللَّه تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
- راجع "صحيح مسلم" برقم 2999.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته. حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا صحيح.
فإن قلت: كيف يصح، وفي سنده عطاء بن السائب، وهو مختلط شديد الاختلاط، وقال المصنّف رحمه الله في "الكبرى": قال أبو عبد الرحمن: عطاء بن السائب كان قد اختلط، وأثبت الناس فيه سفيان الثوريّ، وشعبة بن الحجّاج انتهى
(1)
وأبو الأحوص لم يُعد ممن سمع منه قبل الاختلاط؟.
قلت: لم ينفرد به أبو الأحوص، بل رواه عنه سفيان الثوريّ كما في "مسند أحمد" 1/ 273 وهو ممن سمع قبل الاختلاط، وأيضا تابعه أبو إسحاق،
(2)
عند أحمد 1/ 268 وإسرائيلُ عنده أيضًا 1/ 297 وسعيد بن زيد، أخو حماد بن زيد، كما في "مسند عبد بن حُميد" رقم 593.
والحاصل أن حديث عطاء صحيح بما ذكر، واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-13/ 1843 وفي "الكبرى" 13/ 1970 وأخرجه الترمذيّ "في الشمائل" رقم 325 و (أحمد) 2412 و 2475 و 2704 و (عبد بن حميد)593. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز البكاء على الميت، لكن بلا صِياح، لإنكار النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على أم أيمن رضي الله عنها. ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، من كمال الشفقة، والرحمة، كما وصفه اللَّه تعالى بذلك، حيث قال:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، ومنها: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث إنه ضم البنت إلى صدره، ووضع يده عليها، فكان ممتثلا أمر ربه له بذلك، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" عن عياض بن حمار الْمُجَاشِعِيّ رضي الله عنه في حديثه الطويل في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: "وإن اللَّه أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد
…
الحديث. ومنها: النهي عن البكاء على الميت مع الصِّيَاح، وسيأتي الكلام عليه في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى. ومنها: عظمة اللَّه تعالى في قلب المؤمن، وشدة محبته له، حيث يَحمَده في السرّاء والضرّاء، فتُنزع روحه في بين جنبيه، وهو يحمده سبحانه وتعالى، وهو المستحقّ لذلك {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ
(1)
- انظر "السنن الكبرى" ج 1 ص 606.
(2)
- الظاهر أنه أبو إسحاق الفزاري، فإن المزيّ عدّه ممن روى عنه، ولم يذكر السبيعي. واللَّه تعالى أعلم.
تُرْجَعُونَ} [القصص: 70]. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1844 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
(1)
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، "أَنَّ فَاطِمَةَ بَكَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ مَاتَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ مِنْ رَبِّهِ مَا أَدْنَاهُ، يَا أَبَتَاهُ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ، يَا أَبَتَاهُ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المروزي الإمام الحجة [10] 2/ 2.
2 -
(عبد الرزاق) بن همام الصنعاني، ثقة حافظ، تغير في الآخر [9] 61/ 77.
3 -
(معمر) بن راشد الصنعاني، تقدم قريبًا.
4 -
(ثابت) بن أسلم البناني، أبو محمد البصريّ، ثقة عابد [4] 45/ 53.
5 -
(أنس) بن مالك رضي الله عنه 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن فيه ثابتًا رحمه الله تعالى ممن لازم أنسًا رضي الله عنه أربعين سنة. ومنها: أنه فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو أكثر الصحابة خدمة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، خَدَمَهُ عشر سنين، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة (92) أو سنة (93) وقد جاوز مائة سنة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ فَاطِمَة) الزهراء بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، و رضي الله عنها (بَكَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي لأجل موته. وفي رواية البخاري من طريق حماد بن زيد، عن ثابت: لما ثَقُل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشّاه، فقالت فاطمة عليها السلام: واكرب أباه، فقال:"ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم"، فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربًا دعاه
…
الحديث (حِينَ مَاتَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ) أصله: يا أبي، والمثناة الفوقانية بدل من التحتانيّة، والألف للندبة، ولمدّ الصوت، والهاء للسكت (مِنْ رَبِّهِ) متعلّق بـ "أدناه" مقدّرًا، لأن معمول فعل التجب لا يتقدم عليه، وبالأحرى على "ما" التعجبيّة، كما أشار إليه في "الخلاصة" بقوله:
وَفِعلُ هَذَا الْبَابِ لَنْ يُقَدَّمَا
…
مَعمُولَهُ وَوَصْلَهُ بِهِ الْزَمَا
(مَا أَدْنَاهُ)"ما" تعجّبيّة، أي أيُّ شيء جعله قريبًا من ربه تعالى، تعجّبت استعظاما
(1)
وفي نسخة: "أنبأنا".
لرفعة منزلته عند اللَّه تعالى، حيث إنه اختاره للرفيق الأعلى، وقد وعده اللَّه تعالى أن يجعل له الآخرة خيرًا من الدنيا، حيث قال تعالى:{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4]، ولذا قال لها:"لا كرب على أبيك بعد اليوم"(يَا أَبَتَاهُ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ) بنون الجماعة، وفي "الكبرى":"أنعاه" بهزة المتكلّم، وهو مضارع نعى الميَت يَنعَاه نَعْيًا بسكون العين، ونَعِيّا بكسرها، وتشديد الياء. إذا أخبر بموته. وقيل: الصواب "إلى جبريل نعاه" -أي بصيغة الماضي- جزم بذلك سبط ابن الجوزيّ في "المرآة"، قال الحافظ: والأولى موجّه، فلا معنى لتغليط الرواة بالظنّ انتهى
(1)
(يَا أَبَتَاهُ جَنَّةُ الْفِردَوْسِ مأْوَاهُ) وفي رواية البخاريّ: "مَنْ جنةُ الفردوس مأواه". قال في "الفتح": بفتح الميم في أوله على أنها موصولة، وحكى الطيبيّ عن نسخة من "المصابيح" بكسر الميم على أنها حرف جرّ، قال: والأول أولى.
زاد البخاريّ في روايته السابقة: "فلما دُفِن قالت فاطمة عليها السلام: يا أنس أطابت أنفسكم أن تَحْثُوا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التراب".
قال في "الفتح": وهذا من رواية أنس، عن فاطمة، وأشارت عليها السلام بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك، لأنه يدلّ على خلاف ما عرفته منهم، من رقّة قلوبهم عليه لشدّة محبتهم له، وسكت أنس عن جوابها، رعاية لها، ولسانُ حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك، إلا أنا قَهَرناها على فعله امتثالا لأمره.
وقد قال أبو سعيد فيما أخرجه البزّار بسند جيّد: "وما نَفَضنا أيدنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا". ومثله في حديث ثابت، عن أنس عند الترمذيّ وغيره، يريد أنهم وجدوها تغيّرت عما عهدوه في حياته، من الأُلْفَة، والصفاء، والرِّقّة، لفقدان ما كان يُمدّهم به من التعليم، والتأديب. انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أنس رضي الله عنه هذا أخرجه البخاريّ.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-13/ 1844 - وفي "الكبرى" 13/ 1971 - وأخرجه (خ) 4462 (ق) 1629 و 1630 (أحمد) 12026 و 12619 (الدارمي) 87 واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز البكاء على الميت، إذ لو كان
(1)
- "فتح" ج 8 ص 498.
(2)
- "فتح" ج 8 ص 498 - 499.
ممنوعًا لحذّرها النبي صلى الله عليه وسلم حين توجّعت بقولها: "واكرب أباه"، ولأنها رضي الله عنها بكت عليه صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولم ينكر الصحابة رضي الله عنهم ذلك عليها. ومنها: جواز التوجّع للميت عند احتضاره بمثل قول فاطمة رضي الله عنها "واكرب أباه"، وأنه ليس من النياحة المحرّمة، لأنه صلى الله عليه وسلم أقرّها على ذلك. ومنها: أن قولها بعد أن قُبض: "وا أبتاه الخ" يؤخذ منه -كما قال الحافظ- أن تلك الألفاظ إذا كان الميت متّصفًا بها لا يُمنع ذكره لها بعد موته، بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهرًا، وهو في الباطن بخلافه، أو لا يتحقّق اتصافه بها، فيدخل في المنع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1845 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ، وَأَبْكِى، وَالنَّاسُ يَنْهَوْنِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْهَانِي، وَجَعَلَتْ عَمَّتِى تَبْكِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَبْكِيهِ، مَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ» .
رجال الإسناد: خمسة:
1 -
(عمرو بن يزيد) أبو بُرَيد الجَرْميّ البصريُّ، صدوق [11] 00/ 130.
2 -
(بهز بن أسد) العميّ، أبو الأسود البصريّ، ثقة ثبت [9] 24/ 28.
3 -
(شعبة) بن الحجاج البصري الإمام الحافظ الحجة [7] 24/ 26.
والباقيان تقدما في الباب الماضي.
وقوله: "ينهوني" بنون واحدة، وكذا عند البخاريّ، وفي رواية الكُشميهني "ينهونني" بنونين، إحداهما نون الرفع، والثانية نون الوقاية، وهو واضح، ووجه الأول أنه حذف منه إحدى النونين، والصحيح أن المحذوف نون الرفع، لأنه عُهد حذفها لغير ذلك، ولأنها نائبة عن الضمّة التي تحذف تخفيفا
(1)
.
والحديث متفق عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الباب الماضي. وموضع الاستدلال للترجمة قوله:"ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا ينهاني"، حيث أقرّه على البكاء على أبيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- راجع "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة" ج1 ص80.
14 - النَّهْيُ عَنِ البُكَاءِ عَلَى الْمَيّتِ
1846 -
أَخْبَرَنَا عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ
(1)
بْنِ عَتِيكٍ، أَنَّ عَتِيكَ بْنَ الْحَارِثِ، وَهُوَ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو أُمِّهِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ جَابِرَ
(2)
بْنَ عَتِيكٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ، فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ عَلَيْهِ، فَصَاحَ بِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَاسْتَرْجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:«قَدْ غُلِبْنَا عَلَيْكَ أَبَا الرَّبِيعِ» . فَصِحْنَ النِّسَاءُ، وَبَكَيْنَ، فَجَعَلَ ابْنُ عَتِيكٍ، يُسَكِّتُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَ، فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ» ، قَالُوا: وَمَا الْوُجُوبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الْمَوْتُ» . قَالَتِ ابْنَتُهُ: إِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا، قَدْ كُنْتَ قَضَيْتَ جِهَازَكَ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل، قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَيْهِ، عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ، وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟» . قَالُوا: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«الشَّهَادَةُ سَبْعٌ، سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرَقِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدَةٌ» .
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُتْبَة بن عبد اللَّه بن عُتبة) أبو عبد اللَّه المروزيّ ، صدوق [10] 81/ 98.
2 -
(مالك) إمام دار الهجرة، تقدم قريبا.
3 -
(عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن جابر بن عتيك) وقيل: ابن جبر بن عَتيك، الأنصاريّ المدنيّ، وقيل: إنهما اثنان، والصحيح أنه رجل واحد، وقع الخلاف في اسم جدّه، ثقة [4].
قال ابن معين: ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه؟ فقال: ثقة، قلت له: عبد اللَّه أحبّ إليك، أو موسى الجُهَنيّ؟ قال: عبد اللَّه أحبّ إليّ. وقال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ستة أحاديث، وتقدّمت ترجمته في 59/ 73.
4 -
(عَتِيك
(3)
بن الحارث) بن عَتِيك الأنصاريّ المدنيّ، مقبول، ذكره ابن حبّان في "الثقات"[4] انفرد به أبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب حديث الباب فقط.
(1)
- وفي نسخة: "ابن جبر".
(2)
وفي نسخة: "جبر".
(3)
- بفتح أوله، وكسر ثانيه، وآخره كاف.
5 -
(جابر بن عَتيك) بن قيس بن الأسود الأنصاريّ، يقال: إنه شهد بدرًا، ولم يثبت، وشهد ما بعدها. رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ابناه يوسف، وعبد الرحمن، وابن أخته عَتِيك بن الحارث بن عتيك. ذكر ابن عبد البرّ أنه شهد بدرًا، وكان معه راية بني معاوية عام الفتح.
وقال ابن إسحاق: جابر بن عتيك، وقيل: جبر بن عتيك شهد بدرًا، وكذا قال موسى بن عُقبة، وأبو معشر الطبريّ، وغيرهم. توفي سنة (61) وهو ابن (91) سنة.
رَوَى له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه وله عند المصنف حديثان فقط: هذا، و 2558 حديث: "إن من الغيرة ما يحب اللَّه
…
". واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله. ومنها: أن فيه رواية الراوي عن جده، وتابعي، عن تابعيّ. ومنها: أن صحابيه قليل الرواية، فليس له إلا ثلاثة أحاديث، حديث الباب عند المصنف، وأبي داود، وابن ماجه، وحديث: "إن من الغيرة ما يحب اللَّه
…
" الحديث عند المصنف، وأبي داود، وحديث: "سيأتيكم ركب مبغضون
…
" الحديث عند أبي داود فقط. راجع "تحفة الأشراف". جـ 2 ص 402 - 403. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبدِ اللَّهِ) بالتكبير فيهما، وهذا مما توافق فيه الاسم واسم الأب (ابْن جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ) بفتح المهملة، وكسر الفوقانيّة، آخره كاف الأنصاريّ المدنيّ (أَنَّ عَتِيكَ بْنَ الْحَارِثِ، وَهُو) أي عتيك (جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ) الراوي عنه (أَبُو أُمِّهِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَتِيك) رضي الله عنه (أَخْبَرَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ) ولفظ "الموطإ""أن رسول اللَّه"(صلى الله عليه وسلم جَاءَ يَعُودُ عَبدَ اللَّهِ بنَ ثَابِتِ) بن قيس الأنصاريّ الأوسي، ويقال: إنه ظَفَريّ، مات في العهد النبويّ، وقال الواقديّ، وابن الكلبيّ: هو عبد اللَّه بن عبد اللَّه، له، ولأبيه صحبة، قال الكلبيّ: كفّنه صلى الله عليه وسلم، في قميصه، وعاش الأب إلى خلافة عمر رضي الله عنه، وكانا جميعًا شهدا أحدًا، وكذا قال الطبريّ، وابن السكنِ، وآخرون، وقال بعضهم: إنه أخو خُزيمة بن ثابت. كذا في "الإصابة"(فوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول، أي غَلَبه الوجع، وشدّته حتى منعه من إجابة النبي صلى الله عليه وسلم (فَصَاحَ بِهِ) أي ناداه رافعا صوته حتى يسمعه (فَلَمْ يُجِبْهُ) لغلبة المرض عليه (فَاستَرجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي قال:"إنا للَّه، وإنا إليه راجعون"، عملاً بقوله تعالى:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157]، (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("قَد غُلِبْنَا عَلَيكَ) قال الباجي: يحتمل أنه أراد التصريح بمعنى استرجاعه، وتأسّفه. وقال السنديّ رحمه الله: أي تقديره تعالى غالب علينا في موتك،
وإلا فحياتك محبوبة لدينا لجميل سعيك فى الإسلام والخير انتهى
(1)
("أَبَا الرَّبِيع") بحذف حرف النداء، أي يا أبا الربيع، وهو كنية عبد اللَّه بن ثابث رضي الله عنه (فَصِحْنَ النِّسَاءُ) بكسر الصاد المهملة، أي صَرَخْنَ، يقال: صاح بالشيء يَصِيح به صَيْحَةً، وصِيَاحًا: صَرَخَ. قاله في "المصباح". وفي نسخة: "فصحن النسوة".
وفيه إلحاق نون النسوة مع إسناد الفعل للظاهر، وهو لغة "أكلوني البراغيث"، ولغة الأكثرين "فصاح النساء"، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" حيث قال:
وَجَرِّدِ الْفِعْلَ إِذَا مَا أُسْنِدَا
…
لاثْنَيْنِ أَوْ جَمْعِ كَفَازَ الشُّهَدَا
وَقَدْ يُقَالُ سَعِدَا وَسَعِدُوا
…
وَالْفِعْلُ للظَّاهِرِ بَعْدُ مُسْنَدُ
(وَبَكَيْنَ، فَجَعَل) أي شَرَعَ (ابْنُ عَتِيكِ) وهو جابر المتقدّم (يُسَكِّتُهُنَّ) أي يأمرهنّ بالسكوت، لكونه سمع النهي عن البكاء، فحمله على عمومه (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُنَّ) أي اتركهنّ يبكين حتى يموت (فَإِذَا وَجَبَ) أي مات، فيه أن النهي عن البكاء يكون بعد الموت، لا في قربه، وفي نسخة:"فإذا وجبت"، فيكون الضمير للمصيبة: أي نزلت المصيبة (فَلَا تبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ) أي امرأة باكية، وخصّ المرأة لغلبة البكاء عليها، أو المراد نفس باكية، فيعمّ الرجال أيضًا، أي لا ترفع صوتها بالبكاء، أما دمع العين، وحزن القلب، فالسنّة ثابتة بإباحة ذلك في كلّ وقت، وعليه جماعة العلماء، كما قاله الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-.
وقال الباجيّ -رحمه اللَّه تعالى-: أشار به -واللَّه أعلم- إلى بكاء مخصوص، وهو ما جَرَت به العادة، من الصِّيَاح، والدعاء بالويل والثبور، وفي الحديث:"إن اللَّه لا يُعذّب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذّب بهذا، أو يرحم، وأشار إلى لسانه" انتهى (قَالُوا: وَمَا الْوُجُوبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) أي ما المراد بالوجوب في قولك: "وجب"؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الْمَوْتُ") ولفظ "الموطإ": قال: "إذا مات"، قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: فأظنّ ذلك -واللَّه أعلم- مأخوذا من وجب الحائط: إذا سقط، وانهدم انتهى
(2)
(قَالَتِ ابْنَتُهُ: إِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو) إن مخفّفة من الثقيلة، أي إني كنت، واللام هي الفارقة بين "إن" المخففة، والشرطية، كما قال في "الخلاصة":
وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ
…
وَتَلْزَمُ اللاَّمُ إِذَا مَا تُهْمَلُ
(أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا، قد كُنْتَ قَضَيْتَ) أي أتممت. ولفظ "الموطإ": "فإنك كنت
(1)
- "شرح السنديّ" ج 4 ص 13.
(2)
- "التمهيد" بتصرف ج 19 ص 204.
قضيت"، وهو في قوة التعليل، أي لأنك كنت قضيت، والخطاب لأبيها (جَهَازَكَ) بفتح الجيم وقد تُكسر: أي ما تحتاج إليه في سفرك للغزو. وقال الفيّومي رحمه الله: جَهَازُ السفر: أُهْبَته، وما يُحتاج إليه في قطع المسافة بالفتح، وبه قرأ السبعة في قوله تعالى:{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} الآية [يوسف: 70]، والكسر لغة قليلة، وجَهَاز العَرُوس باللغتين أيضًا انتهى.
وقال السنديّ: والمراد تمّمت جهاز آخرتك، وهو العمل الصالح بالموت انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله السنديّ رحمه الله فيه بعد، بل الأقرب أن المراد جهاز الغزو، أي إنك تأهبت للغزو في سبيل اللَّه تعالى، ولمن سبقك الموت. واللَّه تعالى أعلم.
(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِن اللَّهَ عز وجل، قَد أَوْقَعَ أَجْرَهُ) أي أثبت، وأوجب بمقتضى وعده الذي لا يُخلفه، حيث وعد بقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120]، وقوله:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} الآية [التوبة: 72]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد: 31]، (عَلَيْهِ) أي على عمله، فهو متعلّق بـ "أجره"، أو على ذاته، فهو متعلّق بـ "أوقع"(عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ) أي مقدار العمل الذي نواه، فالنيّة بمعنى المنويّ، ويحتمل أن له من الأجر بقدر ما يجب لنيته، وهذا أظهر من جهة اللفظ، والأول أظهر من جهة المعنى، لأن القصد أن يُخبِر أن ما نواه لم يفته، ولو لم يكن له من الأجر إلا بقدر النيّة لَمَا كان لابنته في ذلك راحة. قاله الباجي
(1)
.
(وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟)"ما" استفهامية، أي كم تعدّون أسباب الشهادة؟ (قَالُوا: الْقَتْلُ
فِي سَبِيل اللَّهِ عز وجل، قَالَ) وفي "الموطإ""فقال"(رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) زاد ابن ماجه من حديث أبَي هريرة، ومن وجه آخر من حديث جابر بن عَتيك نفسِهِ:"إن شهداء أمتي إذن لقليل"(الشَّهَادَةُ سَبْعٌ) اختُلف في سبب تسمية الشهيد شهيدًا، فقال النضر بن شُميل: لأنه حيّ، فكأن أرواحهم شاهدة، أي حاضرة. وقال ابن الأنباريّ: لأن اللَّه وملائكته يشهدون له بالجنّة. وقيل: لأنه يَشهد عند خروج روحه ما أُعِدّ له من الكرامة. وقيل: لأنه يُشهَد له بالأمان من النار. وقيل: لأن عليه شاهدًا بكونه شهيدًا. وقيل: لأنه لا يشهده عند الموت إلا ملائكة الرحمة. وقيل: لأنه الذي يشهد يوم القيامة بإبلاغ الرسل. وقيل: لأن الملائكة تشهد له بحسن الخاتمة. وقيل: لأن الأنبياء تشهد له
(1)
- راجع "شرح الزرقاني إلى الموطإ" ج 2 ص 72.
بحسن الاتباع. وقيل: لأن اللَّه يشهد له بحسن نيته وإخلاصه. وقيل: لأنه يُشاهد الملائكة عند احتضاره. وقيل: لأنه يشاهد الملكوت من دار الدنيا، ودار الآخرة.
وقيل. لأنه مشهود له بالأمان من النار. وقيل. لأن عليه علامة شاهدة بأنه قد نجا.
قال الحافظ: وبعض هذه يختصّ بمن قُتل في سبيل اللَّه، وبعضها يعمّ غيره، وبعضها قد يُنازع فيه. انتهى.
(سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل) وقد ثبت في "صحيح البخاريّ" وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا: "الشهداء خمسة
…
" فقيل: نسي بعض رواتها باقي السبع. قال الحافظ رحمه الله. وهو بعيد، لكن يقرّبه أن مسلما روى من حديث أبي هريرة شاهدًا لحديث جابر بن عتيك هذا، وزاد فيه، ونقص، فمن زيادته: "ومن مات في سبيل اللَّه فهو شهيد"، والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم أُعلِم بالأقلّ، ثم علم زيادة على ذلك، فذكرها في وقت آخر، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك.
وقد اجتمع لنا من الطرق الجيّدة أكثر من عشرين خصلة، وتبلغ بطرق فيها ضعف أزيد من ذلك انتهى كلام الحافظ بتصرّف.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد ألف الحافظ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى رسالةً سماها "أبواب السعادة في أسباب الشهادة" جَمَعَ فيها ما ورد من الأحاديث في أسباب الشهادة، وقد نظمتها في أرجوزة سميتها "إتحاف أهل السعادة بمعرفة أسباب الشهادة"، وهاك نصّها:
يَقُولُ رَاجِي رَبِّهِ سُبْحَانَهُ
…
مُحَمَّدٌ مُسْتَمْنِحًا غُفْرَانَهُ
حَمْدًا لِمَنْ قَدْ مَنَحَ الشَّهَادَهْ
…
لِمِنْ يَشَاءُ مِنْ ذَوِي السَّعَادَهْ
ثم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَرمَدَا
…
عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفى مُحَمَّدَا
وَآلِهِ وَصَحبِهِ الْكِرَام
…
وَالتَّابِعِينَ سُبُلَ السَّلَامِ
وَبَعْدَهُ فهَذِهِ إِفَادَهْ
…
لِمَنْ أَرَادَ طُرُقَ الشَّهَادَهْ
نَظَمْتُهَا مِمَّا السُّيُوطِي جَمَعَهْ
…
لِيَسْهُلَ الْحِفْظُ لِمَنْ لَهُ سَعَهْ
سَمَّيْتُهَا إِتْحَافَ ذِي السَّعَادَهْ
…
بِذِكْرِ مَا يُوصِلُ لِلَّشَّهَادَهْ
وَأَسْاَلُ اللَّهَ الْقَبُولَ وَالرِّضَى
…
وَالْخَتْمَ بِالْحُسْنَى إِذَا الْعُمْرُ انْقَضَى
مِنْهَا الشَّهَادَةُ لِمَبْطُونِ تُرَى
…
وَالتَّاجِرِ الصَّدُوقِ نِعْمَ مَتْجَرًا
وَالْحَرْقُ وَالْحُمَّى وَذَا قَدْ ضُعِّفَا
…
وَمَنْ مِنَ المَرْكُوبِ صَرْعُهُ وَفَا
وَمَنْ دَعَا بِدَعوَةٍ لِيُونُسِ
…
عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَدَّ النَّفَسِ
وَرجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامِ
…
ذِي الْجَوْرِ آمِرًا بِأمْرٍ سَامِي
وَالسِّلُّ
(1)
وَالشَّرِيقُ وَالشَّهِيدُ
…
أيْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نِعْمَ الْعِيدُ
صَاحِبُ ذَاتِ الْجَنبِ أَوْذو الْهَدْمِ
…
وَالطَّعْنُ وَالطَّاعُونُ خُذْ بِالْفَهْمِ
كَذَا الْغَرِيبُ وَالْحَدِيثُ ضُعِّفَا
…
وَلِلْغَرِيقِ ثَابِتٌ فَلْتَعْرِفَا
وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ ذَالَهُ
…
أَكْرِمْ بِشَأْنِهِ وَفَضْلٍ نَالَهُ
كَذَلِكَ الْمَلْدُوغُ وَالْمُؤَدِّي
…
زَكَاتَهُ عَن طِيبِ نَفْسٍ تُهْدِي
وَمَن تَرَدَّى مِنْ جِبَالِ أَوْعَدَا
…
عَلَيْهِ سَبْعٌ فَرَمَاهُ بِالرَّدَى
وَمَنْ إِلَى مِصْرٍ مِنَ الأَمْصَارِ
…
قَدْ جَلَبَ الطَّعَامَ لامْتِيَارِ
وَمَنْ لَهُ السُّلْطَانُ ظُلمًا حَبَسَا
…
أَوْمَاتَ بِالضَّرْبِ فَمَا بِهِ أَسًى
وَمَنْ بِصِدْقٍ طَلَبَ الشَّهَادَهْ
…
يُعْطَى وَإنْ يَمُتْ عَلَى الْوِسَادَهْ
كَذَاكَ مَنْ سَعَى عَلَى الْعِيَالِ
…
بِسَنَدٍ وَاهِ فَلَا تُبَالِي
وَامْرَأَةٌ غَيْرَى صَبُورٌ إنْ وفَتْ
…
فَإِنَّهَا أَجْرَ الشَّهِيدِ وُعِدَتْ
وَامْرَأَةٌ مَاتَتْ بِجُمعٍ أَيْ وَلَدْ
…
فِي بَطْنِهَا وَقِيلَ بِكْرٌ خُذْ تُفَدْ
كَذَاكَ مَنْ صَلَّى الضُّحَى وَصَامَا
…
ثَلَاَثةً وَالوِتْرَ قَدْ أَدَامَا
كَذَاكَ مَنْ عَاشَ مُدارِيًا وَلَمْ
…
أَعْرِفْ حَدِيثَهُ بِصِحَّةِ تُؤَمُّ
وَمَنْ يَمُتْ بِعِشْقِهِ إِذَا كَتمْ
…
وَعَفَّ وَالْحَدِيثُ بِالضَّعْفِ اتَّسَمْ
وَمَنْ يَقُلْ كُلَ صَبَاحِ وَمَسَا
…
"أَعُوذُ بِاللَّهِ السميع" ذَا ائْتِسَا
مَعَ قِرَاءةِ انْتِهَاءِ الْحَشْرِ
…
فَإِنَّ ذَا لَهُ تَمَامُ الأَجْرِ
كذَاكَ مَا أَخْرَجَ الأَصْبَهَانِي
…
إِنْ صَحَّ فَاحْفَظْهُ بِلَا تَوَانِ
وَمَنْ يَقُلْ بَارِكْ لِيَ الْمَوْتَ وَمَا
…
بَعْدَهُ عِشْرِينَ مَعَ الْخَمْسِ نَمَا
فَمَاتَ فِي الفِرَاشِ لَكِنِ الْخَبَرْ
…
مَا صَحَّ فِي هَذَا فَلَا تُلْقِ النَّظَرْ
(1)
- السلّ بكسر السين، والضم، وكغُرَاب؛ وتشديد اللام: قُرحة تحدث في الرئة، إما تُعقب ذات الرئة، أو ذات الجنب، أو زكام، ونَوازل، أو سعال طويل، وتلزمها الحمّى هادية اهـ "ق".
كذَاكَ مَنْ صَلَّى عَلَى النَّبِي مِائَهْ
…
وَفِيهِ مَجْهُولٌ فَكُنْ خَيْرَ الْفِئَهْ
كَذَاكَ مَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ
…
أَوْ دَمِهِ أَوْ دِينهِ أَوْ مَالِهِ
أَو دُونَ مَظْلِمَتِهِ أَو لَدَغَتْ
…
أَفْعَى وَلَكِنِ الْحَدِيثُ مَا ثَبَتْ
وَمَن تَلَا الْحَشْرَ لَدَى الْمَنَامِ
…
وَمَاتَ وَالْمَلْدوغُ مِن هَوَامِ
وَمَن عَلَى فِرَاشِهِ قَد مَاتَ فِي
…
حَالَةِ غَزْوِهِ يَنعَمَ الْمُقْتَفي
وَمَنْ يَمُتْ بِمَرَض وَعُلِّلَا
…
حَدِيثُهُ أَوْ فِيهِ تَصْحيفٌ جَلَا
مِن قَولِهِ مُرَابِطًا وَإِنْ يَمَتْ
…
فِي طَلَبِ الْعِلمِ وَلَكِنْ مَا ثَبَتْ
وَمَوتُ جُمْعَةٍ إِذَا صَحَّ كَذَا
…
مَوْقُوصُ مَرْكُوبٍ إِذَا مَاتَ بِذَا
مَوْتُ الْمُسَافِرِ وَمَائِدٌ لَدَى
…
بَحْرٍ مَعَ الْقَيءِ فَخُذْ نِلْتَ الْهُدَى
وَالْمُتَمَسكُ بِسُنَّةِ الْهُدَى
…
عِندَ فَسَادِ النَّاسِ نِعْمَ الْمُقْتَدَى
وَحَامِلٌ لِلْوَضْعِ وَالْفِصَالِ
…
فَكَا الْمُرَابِطِ لِحُسْنِ الْحَالِ
وَمَنْ يَمُتْ مُرَابِطًا مُؤَذِّنُ
…
مُحْتَسِبٌ لَكِنَّ ذَا مُوَهَّنُ
وَالنُّفَسَاءُ ذَا لَهَا قَدْ وَرَدَا
…
وَنَسْأَلُ الإِلَهَ حَظَّ الشُّهَدَا
وَيَجْعَلَ الْفِردَوْسَ أَعْلَى الجَنَّهْ
…
مَنْزِلَنَا فَضْلًا لَهُ وَمِنَّهْ
وَالْحَمْدُ لِلهِ تَعَالَى وَحْدَهُ
…
يُولِي الشَّهَادَةَ بِيُسْرٍ عَبْدَهُ
ثُمَّ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ أَبَدَا
…
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ خَيْرِ الشُّهَدَا
وَآلِهِ وَصَحْبِهِ الأَكَارِمِ
…
أَهْلِ التُّقَى والْفَضْلِ وَالْمَرَاحِمِ
مَا اشْتَاقَ مُؤمِنٌ إِلَى الْجِهَادِ
…
وَفَازَ بِالْفِردَوْسِ بِاسْتِشْهَادِ
أَبْيَاتُهَا خَمْسُونَ يَارَبِّ انْفَعَا
…
بِهَا جَمِيعَ الْمُقْبِلِينَ الرُّفَعَا
وَاختِمْ لَنَا بِالْخَيْرِ وَالْعِبَادَهْ
…
وَاكْتُبْ لَنَا الْحُسْنَى مَعَ الزِّيَادَهْ
[تنبيه]: قال ابن التين رحمه الله: هذه كلّها مِيتَاتٌ
(1)
، فيها شدّةٌ، تفضّل اللَّهُ على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن جعلها تمحيصًا لذنوبهم، وزيادة في أجورهم، يبلّغهم بها مراتب الشهداء.
(1)
-بكسر الميم الهيئة من الموت.
وقال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر أن المذكورين ليسوا في المرتبة سواءً، ويدلّ عليه ما روى أحمد، وابن حبّان في "صحيحه" من حديث جابر، والدارميّ، وأحمد، والطحاويّ من حديث عبد اللَّه بن حُبْشيّ، وابن ماجه من حديث عمرو بن عَبَسَةَ:"أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل أيّ الجهاد أفضل؟ قال: من عُقر جواده، وأُهريق دمه". ورَوَى الحسن ابن عليّ الحلوانيّ في "كتاب المعرفة" له بإسناد حسن، من حديث علي بن أبي طالب، قال:"كلّ موتة يموت بها المسلم، فهو شهيد، غير أن الشهادة تتفاضل"
(1)
.
قال: ويتحصّل مما ذُكر في هذه الأحاديث أن الشهداء قسمان: شهيد الدنيا، وهو من يُقتل في حرب الكفار مقبلاً، غير مدبر، مخلصًا، وشهيد الآخرة، وهو من ذُكر، بمعنى أنهم يُعطَون من جنس أجر الشهداء، ولا تجري عليهم أحكامهم في الدنيا.
وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه عند أحمد، والنسائيّ، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول:"يختصم الشهداء، والْمُتَوَفَّون على فرشهم، إلى اللَّه عز وجل، في الذين ماتوا من الطاعون، فيقول الشهداء: إخواننا قُتلوا، ويقول المتوفَّون على فرشهم: إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا، فيقضي اللَّه عز وجل بينهم، أن انظروا إلى جراحات المُطَّعَنِين، فإن أشبهت جراحات الشهداء، فهم منهم، فينظرون إلى جراح المطَّعَنين، فإذا هم قد أشبهت، فيلحقون معهم". هذا لفظ أحمد، وله من حديث عُتبة بن عبد نحوه.
وإذا تقرر ذلك، فيكون إطلاق الشهداء على غير المقتول في سبيل اللَّه مجازًا، فيَحتجّ به من يُجيز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، والمانع يُجيب بأنه من عموم المجاز، وقد يطلق الشهيد على من قُتل في حرب الكفّار، لكن لا يكون ذلك في حكم الآخرة، لعارض يمنعه، كالانهزام، وفساد النيّة. واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام الحافظ بتصرّف
(2)
.
(الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ) أي الذي قتله الطاعون، وقد جاء مفسَّرًا فيما أخرجه الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- في "مسنده"، من طريق شعبة، عن زياد بن عِلاقة، قال: حدثني رجل
(1)
- أورده الحافظ ابن عبد البرّ في "التمهيد"، فقال: وذكر الحلوانيّ في "كتاب المعرفة" قال: حدثنا أبو عليّ الحنفيّ، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الملك بن عمير، قال: سمعته يقول: قال عليّ بن أبي طالب: "من حبسه السلطان، وهو ظالم له، فمات في محبسه ذلك، فهو شهيد، ومن ضربه السلطان، ظالما له، فمات من ضربه ذلك، فهو شهيد، وكلّ ميتة يموت بها المسلم، فهو شهيد، غير أن الشهادة تتفاضل". انتهى "التمهيد" ج 19 ص 209.
(2)
- راجع "الفتح" ج 6 ص 52 طبعة الريان.
من قومي، قال شعبة: قد كنت أحفظ اسمه، قال: كنا على باب عثمان رضي الله عنه، ننتظر الإذن عليه، فسمعتُ أبا موسى الأشعري، يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فناء أمتي بالطعن، والطاعون"، قال: فقلنا: يا رسول اللَّه، هذا الطعن، قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال:"طعن أعدائكم من الجن، وفي كلٍّ شهادة". قال زياد: فلم أرض بقوله، فسألت سيد الحي، وكان معهم، فقال: صدق، حدثناه أبو موسى
(1)
.
وأخرج أيضًا من طريق أبي بكر النَّهْشَلي، قال: ثنا زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك، قال: خرجنا في بضع عشرة، من بني ثعلبة، فإذا نحن بأبي موسى، فإذا هو يحدث، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: "اللَّهم اجعل فناء أمتي في الطاعون
…
" فذكره.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن فناء أمتي بالطعن، والطاعون"، قال: أما الطعن، فقد عرفناه، فما الطاعون؟، قال:"غُدَّةٌ كغدّة البعير، تخرج في المرَاقّ، والآباط، من مات منه مات شهيدًا". أخرجه أحمد، والطبراني في "الأوسط" وأبو نعيم في "الطبّ".
(وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ) اسم مفعول، من بُطِنَ بالبناء للمفعول: أي عليل البطن. وقال ابن الأثير رحمه الله: هو الذي يموت بمرض بطنه، كالاستسقاء، ونحوه وفى "كتاب الجنائز" لأبي بكر المروزيّ، عن شيخه شُريح أنه صاحب القولنج انتهى
(2)
(وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ) بفتح الغين المعجمة، وكسر الراء: الذي يموت غريقًا في الماء (وَصَاحِبُ الْهَدَمِ شَهِيدٌ)"الهدم" بالتحريك: ما تهدّم من جوانب البئر، فسقط فيها. قاله في "ق"، وفي "المصباح":"الهدم" بفتحتين: ما تهدّم، فسقط انتهى.
والمراد هنا الذي يموت بسبب انهدام البيت ونحوه عليه (وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ) هو مرض معروف، وهو وَرَم حارّ، يَعرِض في الغشاء المستبطن للأضلاع، ويقال: هو الشَّوصَة
(3)
وفي "النهاية": "ذات الجنب": هي الدُّبَيلَة
(4)
، والدُّمّلة الكبيرة التي تظهر في باطن الجَنْب، وتنفجر إلى داخل، وقلّما يَسلَم صاحبها، و"ذو الجَنْب":
(1)
- حديث صحيح.
(2)
- انظر شرح الزرقاني على "الموطإ" ج 2 ص 72. وقال في "ق": "القُولَنْجُ" وقد تُكسر لامه،، أو هو مكسور اللام، ويفتح القاف، ويضمّ: مرضٌ مِعَوِيٍّ مؤلمٌ، يعسُر معه خرجُ الثُّفْل والريح اهـ في مادة ق ل ن ج.
(3)
- "الشَّوْصة" بفتح، فسكون، وقد يضمّ أوله: وجعٌ في البطن، أو ريحٌ، تَعتَقب في الأضلاع، أو وَرَمٌ في حجابها من داخل، واختلاجُ العرق. اهـ "ق".
(4)
- الدُّبيلة كجُهَينة: داء في الجوف، كالدبلة بالضمّ والفتح. اهـ "ق".
الذي يشتكي جَنْبه بسبب الدُّبَيلة، إلا أن "ذو" للمذكّر، و"ذات" للمؤنّث، وصارت "ذات الجنب" علما لها، وإن كانت في الأصل صفةً مضافةً انتهى
(1)
(وَصَاحِبُ الْحَرَقِ شَهِيدٌ) بالتحريك: النار، أو لَهَبُهَا. قاله في "ق". وفي "المصباح": والحرق بفتحتين: اسم من إحراق النار، ويقال: النار بعينها انتهى. والمعنى هنا صاحب الاحتراق بالنار (وَالمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعِ شَهِيدَةٌ") بضم الجيم، وتفتح، وتكسر، وسكون الميم: المرأة التي ماتت في النفاس، وولدها في بطنها، لم تلده، وقد تَمّ خلقه، وقيل: هي التي تموت من الولادة، سواء ألقت ولدها، أم لا، وقيل: هي التي تموت عذراء، والأول أشهر وأكثر، وقيل: التي ماتت في مزدلفة، قال الحافظ: وهو خطأ ظاهر انتهى. وفي "ق": وماتت بجمع مثلّثةٌ: عذراء، أو حاملاً، أو مُثْقَلَةً.
وفي "النهاية": "الجُمْع" بالضم بمعنى المجموع، والمعنى أنها ماتت مع شيء مجموع فيها، غيرِ منفصل عنها، من حمل، أو بكارة انتهى.
وقال الحافظ أبو عمر رحمه الله: وأما قوله: "المرأة تموت بجمع" ففيه قولان، لكل واحد منهما وجهان:
أحدهما: هي المرأة تموت من الولادة، وولدها في بطنها، قد تمّ خلقه، وماتت من النفاس، وهو في بطنها، لم تلده، قال أبو عُبيد: الْجُمْع التي في بطنها ولدها، وقيل: إذا ماتت من الولادة، فسواء ماتت، وولدها في بطنها، أو ولدته، ثم ماتت بإثر ذلك.
والقول الآخر: هي المرأة تموت عَذْرَاء، لم تنكح، ولم تفتضّ، وقيل: هي المرأة تموت، ولم تُطمَث، والمعنى واحد، لقوله تعالى:{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 74]، أي لم يطأهنّ، والقول الأول أشهر وأكثر. واللَّه أعلم. انتهى باختصار
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر بن عَتِيك رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-14/ 1846 و 48/ 3194 و 3195. وأخرجه (د) 3111 (ق) 2803 (مالك في الموطإ) 552 (أحمد) 23239. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
- ج1 ص303 - 304.
(2)
-"التمهيد" ج 19 ص 207 - 208.
المسألة الثالثة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو النهى عن البكاء على الميت، لكنه مقيد بموته. ومنها: إباحة البكاء على المريض بالصِّيَاح، وغير الصياح عند حضور وفاته. ومنها: مشروعية عيادة المريض. ومنها: الصياح بالعليل على وجه النداء له ليسمع، فيُسأَلَ عن حاله. ومنها: تكنية الرجل الكبير لمن دونه، قال أبو عمر رحمه الله: وهذا يُبطل ما يُحكى عن الخلفاء أنهم لا يكنون أحدًا، عصمنا اللَّه عما دقّ وجلّ من التكبّر برحمته. ومنها. أن المتجهّز للغزو إذا حيل بينه وبينه، يُكتب له أجر الغازي، ويقع أجره على قدر نيته، والآثار الصحاح تدلّ على أن من نوى خيرًا، وهَم به، ولم يصرف نيته عنه، وحيل بينه وبينه أنه يكتب له أجر ما نوى من ذلك، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"ما من امرئ تكون له صلاة بليل، فغلبه عليها نوم، إلا كتب اللَّه له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة"، حديث صحيح تقدم للمصنّف 61/ 1784 وإلى قوله صلى الله عليه وسلم:"لقد تركتم بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد، إلا وهم معكم فيه"، قالوا: يا رسول اللَّه، وكيف يكونون معنا، وهم بالمدينة؟ قال:"حبسهم العذر". حديث صحيح، رواه أبو داوده ومنها: طرح العالم على المتعلّم المسألة، لبين له الصواب إن أخطأ. ومنها: فضل اللَّه تعالى العظيمُ على هذه الأمة، حيث جعل لهم أسباب الشهادة كثيرة، لينالوا بذلك الدرجات العلى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1847 -
أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، وَحَدَّثَنِى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا أَتَى نَعْيُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صِئْرِ الْبَابِ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، يَبْكِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«انْطَلِقْ، فَانْهَهُنَّ» ، فَانْطَلَقَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: قَدْ نَهَيْتُهُنَّ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَنْتَهِينَ، فَقَالَ:«انْطَلِقْ، فَانْهَهُنَّ» ، فَانْطَلَقَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: قَدْ نَهَيْتُهُنَّ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَنْتَهِينَ، قَالَ:«فَانْطَلِقْ، فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ» ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَ الأَبْعَدِ، إِنَّكَ وَاللَّهِ، مَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ.
رجال الإسناد: ستة:
1 -
(يونس بن عبد الأعلى) الصّدَفيّ المصريّ، ثقة، من صغار [10] 1/ 449.
2 -
(ابن وهب) عبد اللَّه المصريّ، ثقة حافظ [9] 9/ 9.
3 -
(معاوية بن صالح) بن حُدير الحضرميّ الحمصيّ قاضي الأندلس، صدوق له
أوهام [7] 50/ 62.
4 -
(يحيى بن سعيد) الأنصاريّ المدني القاضي، ثقة ثبت [5] 22/ 23.
5 -
(عمرة) بن عبد الرحمن الأنصارية المدنية، ثقة [3] 134/ 203.
6 -
(عائشة) رضي الله عنها 5/ 5 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه سداسيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعية. (ومنها): فيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210)
من الأحاديث. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَن عَائِشَةَ) رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: لَمَّا أَتَى نَعْيُ) بفتح، فسكون، أو كغَنِيّ: أي خبر موتهم، يقال: نعاه له ينعاه، نَعْيًا، ونَعِيًا، ونُعيَانًا بالضمّ: أخبره بموته. قاله في "ق"(زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَجَعفَرِ بنِ أَبِي طَالبٍ، وَعَبدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ) وكان قتلهم في غزوة مؤتة، سنة ثمان من الهجرة (جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) زاد أبو داود من طريق سليمان بن كثير، عن يحيى:"في المسجد"(يُعْرَفُ فِيهِ) وفي نسخة: "في وجهه"(الْحُزْنُ) أي يظهر في وجهه الحزن، وهو بضم، فسكون، أو بفتحتين، والجملة حال. قال الطيبيّ رحمه الله: كأنه كَظَمَ الحزن كظمًا، فظهر منه ما لا بدّ للجِبِلَّة البشريّة منه انتهى (وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صِيرِ البَابِ) وقع في نسخ "المجتبى""صئر" بالهمزة بدل الياء، وهو تصحيف، والصواب، "الصِّير" بكسر الصاد المهملة، بعدها ياء ساكنة، وآخره راء، وهو الذي "في الكبرى"، ومعناه: شَقُّ الباب الذي يُنظَر منه.
ولفظ الشيخين: "من صائر الباب"، قال في "الفتح": بالمهملة، والتحتانيّ، وقع تفسيره في نفس الحديث -أي من طريق عبد الوهّاب الثقفي- عن يحيى:"شَقّ الباب"، وهو بفتح الشين المعجمة، أي الموضع الذي يُنظر منه، ولم يَرِدْ بكسر المعجمة، أي الناحية، إذ ليست مرادةً هنا، قاله ابن التين.
وهذا التفسير الظاهر أنه من قول عائشة، ويحتمل أن يكون ممن بعدها، قال المازريّ: كذا وقع في "الصحيحين" هنا "صائر" والصواب "صِير"، أي بكسر أوله، وسكون التحتانيّة، وهو الشَّقّ، قال أبو عبيدة في "غريب الحديث" في الكلام على حديث:"مَن نَظَر من صِيرٍ الباب، ففقئت عينه، فهي هدر": الصِّير الشَّقّ، ولم نسمعه
إلا في هذا الحديث. وقال ابن الجوزيّ: صائر، وصِير بمعنى واحد انتهى
(1)
.
(فَجَاءَهُ) وفي نسخة: "فجاء"(رَجُلٌ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، وكأنه أُبِهمَ عمدًا، لما وقع في حقّه من غضّ عائشة منه (فَقَالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ) أي امرأته، وهي أسماء بنت عُمَيس الخَثْعَميّةُ، ومن حضر عندها، من أقاربها، وأقارب جعفر، ومن في معناهنّ، ولم يذكر أهل العلم بالأخبار لجعفر امرأة غير أسماء. قاله في "الفتح"
(2)
(يَبْكِينَ) ولفظ أبي عوانة من طريق سليمان بن بلال، عن يحيى:"قد كثُر بكاؤهنّ" وعند ابن حبّان من طريق عبد اللَّه بن عمرو، عن يحيى بلفظ:"قد أكثرن بكاءهنّ".
ولفظ الشيخين، "فقال: إن نساء جعفر -وذكر بكاءهنّ-"، قال الطيبيّ: هو حال عن المستتر في قوله:، "فقال"، وحذف خبر "إنّ" من القول المحكيّ لدلالة الحال عليه، والمعنى قال الرجل: إن نساء جعفر فعلن كذا مما لا ينبغي من البكاء المشتمل على النَّوْح انتهى (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "انْطَلِقْ، فَانَّههُنَّ"، فَانْطَلَقَ) أي فنهاهنّ، فلم يُطعنه (ثُمَّ جَاءَ) الثانية (فَقَالَ: قَدْ نَهْيتُهُنَّ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَنْتَهِينَ) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: كون نساء جعفر لم يُطعن الناهي لهنّ عن البكاء، إما لأنه لم يُصرّح لهنّ بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهنّ، فظنت منه أنه كالمحتسب في ذلك، وكالمرشد للمصلحة، أو لأنهنّ غُلبنَ في أنفسهنّ على سماع النهي لحرارة المصيبة. واللَّه تعالى أعلم انتهى
(3)
.
(فَقَالَ: "انْطَلِقْ، فَانّهُهُنّ"، فَانْطَلَقَ) أي فنهاهنّ أيضا، فلم يطعنه (ثُمَّ جَاءَ) الثالثة (فَقَالَ: قَدْ نَهَيْتُهُنَّ، فَابَيْنَ أَنْ يَنْتَهِينَ) ولفظ الشيخين:"فأتاه الثالثة، قال: واللَّه غلبننا يا رسول اللَّه"(قَالَ: "فَانْطَلِقْ، فَاحْثُ) بضمّ المثلّثة، وبكسرها، يقال: حثا يَحْثُو، ويَحْثِي. قال في "المصباح": حثا الرجلُ الترابَ يَحثوه حَثْوًا، ويَحْثيه حَثْيًا، من باب رَمَى لغةٌ: إذا هاله -أي صبّه- بيده، وبعضهم يقول: قبضه بيده، ثمّ رماه، ومنه:"فاحثوا التراب في وجهه"، ولا يكون إلا بالقبض والرمي انتهى (فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ) وفي رواية:"من التراب". قيل: يؤخذ من هذا أن التأديب يكون بمثل هذا، وهذا إرشاد عظيم قلّ من يتفطّن له
(4)
.
وقال في "الفتح": قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا يدلّ على أنهنّ رفعن أصواتهنّ بالبكاء، فلما لم ينتهين أمره أن يسدّ أفواههنّ بذلك، وخصّ الأفواه بذلك لأنها محلّ
(1)
- "فتح"ج 3 ص 517.
(2)
-ج3 ص 517.
(3)
- "المفهم" ج 2 ص 588.
(4)
- "شرح السندي"ج 4 ص 15 - 16.
النَّوْح، بخلاف الأعين مثلاً انتهى.
ويحتمل أن يكون كناية عن المبالغة في الزجر، أو المعنى أعلمهنّ أنهنّ خائبات من الأجر المترتّب على الصبر، لما أظهرن من الجزع، كما يقال للخائب: لم يَحصُل في يده إلا التراب، لكن يُبعِد هذا الاحتمال قولُ عائشة الآتي. وقيل: لم يُرِد بالأمر حقيقته، قال عياض: هو بمعنى التعجيز، أي إنهنّ لا يسكتن إلا بسدّ أفواههنّ، ولا يسدّها إلا أن تملأ بالتراب، فإن أمكنك فافعل.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الاحتمالات كلها ضعيفة، والصواب أن الحديث على ظاهره من حثو الترب في أفواههنّ على حقيقته، إذ لا دليل على صرف الظاهر إلى غيره، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
قال: ثم الظاهر أنه كان بكاؤهنّ زيادة على القدر المباح، فيكون النهي للتحريم بدليل أنه كرّره، وبالغ فيه، وأمر بعقوبتهنّ إن لم يسكتن. ويحتمل أن يكون مجرّدًا، والنهي للتنزيه، ولو كان للتحريم لأرسل غير الرجل المذكور لِمَنعِهنّ، لأنه لا يُقرّ على باطل، ويبعد تمادي الصحابيات بعد تكرار النهي على فعل الأمر المحرّم، وفائدة نهيهنّ عن الأمر المباح خشية أن يسترسلن فيه، فيفضي بهنّ إلى الأمر المحرّم، لضعف صبرهنّ، فَيُستفاد منه جواز النهي عن المباح عند خشية إفضائه إلى ما يحرّم. كذا في "الفتح".
(فَقَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَ الْأَبْعَدِ) بالراء، والغين المعجمة: أي ألصق اللَّه أنفه بالرغام -بفتح الراء- وهو التراب، إهانة، وإذلالاً. ووصفته بـ "الأبعد" لبعده عن الصواب، حيث أحرج النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة المراجعة.
ولفظ الشيخين "أرغم اللَّه أنفك" بالخطاب. قال الحافظ: دعت عليه من جنس ما أُمر أن يفعله بالنسوة، لفهمها من قرائن الحال أنه أحرج النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة تردّده إليه في ذلك. وقال الطيبيّ: أي أذلّك اللَّه، فإنك آذيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما كففتهنّ عن البكاء، وهذا معنى قولها رضي الله عنها (إِنَّكَ وَاللَّهِ، مَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي من العَنَاء والتَّعَب، ومراد عائشة أن الرجل لا يقدر على ذلك، فإذا كان لا يقدر، فقد أتعب نفسه، ومن يُخاطبه في شيء لا يقدر على إزالته، ولعلّ الرجل لم يفهم من الأمر الحتم.
وقال النووي: معناه أنك قاصر لا تقوم بما أمرت به من الإنكار لنقصك، وتقصيرك، ولا تخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقصورك عن ذلك حتى يرسل غيرك، ويستريح من العناء (وَمَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ) الباء زائدة بعد "ما" النافية، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعدَ "مَا"و"لَيْسَ" جَر الْبَا الْخَبَرْ
…
وَبَعْدَ "لَا" وَنَفْيِ "كَانَ" قدْ يُجَرُّ
ومفعول "فاعلِ" محذوف، أي ما أمرك به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والمراد على وجه الكمال في الزجر، وإلا فقد قام بالأمر حيث نهاهنّ عن الضجر. قاله القاري.
وقال الكرمانيّ: أي لم تبلغ النهي، ونفته، وإن كان قد نهاهنّ لأنه لم يترتب على نهيه الامتثال، فكأنه لم يفعله، ويحتمل أن تكون أرادت لم تفعل، أي الحثو بالتراب انتهى.
ولفظ الشيخين: "لم تفعل ما أمرك به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم تترك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من العناء"، بفتح المهملة، والنون، والمدّ: أي المشقّة والتعب. وفي رواية لمسلم: "من العِيّ" بكسر المهملة، وتشديد التحتانية، ووقع في رواية العُذريّ "الغَيّ" بفتح المعجمة بلفظ ضدّ الرشد
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى. في درجته. حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-14/ 1847 - وفي "الكبرى" 14/ 1974 - وأخرجه (خ) 1299 و 1305 و 4263 (م) 935 (د) 3122 (أحمد) 23792 و 25831 واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو النهي عن البكاء على الميت، وسيأتي الجمع بينه وبين أحاديث إباحة البكاء على الميت بعد باب، إن شاء اللَّه تعالى. ومنها: جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار، وقد ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" على هذا الحديث بقوله:"باب من جلس عند المصيبة، يُعرَف فيه الحزن". قال الزين ابن المُنَيِّر -رحمه اللَّه تعالى-: ما ملخّصه: موقع هذه الترجمة من الفقه أن الاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم، فمن أصيب بمصيبة عظيمة، لا يُفْرِطُ في الحزن حتى يقع في المحذور، من اللَّّطْم، والشَّقّ، والنَّوْح، وغيرها، ولا يُفَرِّطُ في التجلّد، حتى يفضي إلى القسوة، والاستخفاف بقدر المصاب، فيَقتدِي به صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، بأن يَجلِس المصاب جلسة خفيفةً بوقار، وسكينة، تظهر عليه مخايل الحزن، ويُؤذن بأن المصيبة عظيمة.
(1)
- راجع "الفتح" ج3 ص 519.
ثم ترجم البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد هذا "باب من لم يُظهِر حزنه عند المصيبة"، وأورد فيه قصة أبي طلحة مع زوجته أم سليم رضي الله عنها.
(1)
فقال في "الفتح" عند الكلام على الترجمة الأولى: ما نصّه: ولم يفصح المصنّف بحكم هذه المسألة، ولا التي بعدها، لأن كلّا منهما قابل للترجيح، أما الأول، فلكونه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني من تقريره، وما يباشره بالفعل أرجح غالبًا. وأما الثاني، فلأنه فعل أبلغ في الصبر، وأزجر للنفس، فيرجَّح، وُيحمَل فعلُهُ صلى الله عليه وسلم المذكور على بيان الجواز، ويكون فعله في حقّه في تلك الحالة أَوْلَى. انتهى.
(2)
ومنها: جواز نظر النساء المحتجبات إلى الرجال الأجانب. ومنها: أن المنهيّ عن المنكر إن لم ينتَهِ عُوقب، وأُدّب بذلك، وإلا فالملاطفة فيه أولى إن نفعت. ومنها: جواز اليمين لتأكيد الخبر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1848 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عبيد اللَّه بن سعيد) أبو قُدامة السرخسيّ، ثقة ثبت [10] 15/ 15.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان الإمام الحجة تقدم قريبًا.
3 -
(عبيد اللَّه) بن عمر العمريّ المدني، ثقة ثبت فقيه [5] 15/ 15.
4 -
(نافع) مولى ابن عمر المدني، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.
5 -
(ابن عمر) عبد اللَّه رضي الله عنها 12/ 12.
6 -
(عمر) بن الخطّاب رضي الله عنه 60/ 75. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
- ولفظ البخاري فى "صحيحه": 1301 حدثنا بشر بن الحكم، حدثنا سفيان بن عيينة، أخبرنا إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك، رضي الله عنه، يقول: اشتكى ابن لأبي طلحة، قال: فمات، وأبو طلحة خارج، فلما رأت امرأته أنه قد مات، هيأت شيئًا، ونَحَّتْهُ في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة، قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح، وظن أبو طلحة أنها صادقة، قال: فبات، فلما أصبح، اغتسل، فلما أراد أن يخرج، أعلمته أنه قد مات، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما كان منهما، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لعل اللَّه أن يبارك لكما في ليلتكما"، قال سفيان: فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعة أولاد، كلهم قد قرأ القرآن.
(2)
-"فتح" ج3 ص 516 - 517.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف، و (منها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين من عبيد اللَّه، والباقيان بصريان. (ومنها): أن فيه رواية صحابي، عن صحابيّ، وتابعي، عن تابعيّ، والابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) أي: بسبب بكائهم على موته، واختُلف في معنى هذا الحديث على أقوال، والراجح أنه يعذّب إذا كان ذلك من عادته وسنته، كما هو مذهب الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك قريبًا إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: فى درجته. حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، ومن أخرجه معه:
أخرجه هنا-14/ 1848 و1850 و 1853 و 1855 و 1856 و 1857 و 1858 وأخرجه (خ) 1288 و 1289 و1290 و 1292 و 3979 (م) 927 و 928 و 929 و930 و931 و 932 (ت) 1002 و 1004 و 1006 (ق) 1593 (أحمد) 191 و 249 و 266 و 290 و296 واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم "الميت يعذّب ببكاء أهله عليه":
(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك على أقوال.
الأول: حَمْلُهُ على ظاهره، وهو بيِّنٌ من قصة عمر مع صُهيب رضي الله عنه كما سيأتي في الباب التالي [1858]، ويحتمل أن يكون عمر كان يرى أن المؤاخذة تقع على الميت إذا كان قادرًا على النهي، ولم يقع منه، فلذلك بادر إلى نهي صُهيب رضي الله عنهما، وكذلك نهى حفصة رضي الله عنها، كما في "صحيح مسلم" من طريق نافع، عن ابن عمر، عنه. وممن أخذ بظاهره أيضًا عبد اللَّه بن عمر، فروى عبد الرزّاق أنه شهد رافع بن خَدِيج، فقال لأهله:"إن رافعًا شيخ كبير، لا طاقة له بالعذاب، وإن الميت يُعذّب ببكاء أهله عليه".
الثاني: قول من ردّ هذا الحديث، وعارضه بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الآية [فاطر: 18]، وممن رُوي عنه الإنكار مطلقًا أبو هريرة، كما رواه أبو يعلى من طريق
بكر بن عبد اللَّه المزنيّ، قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: "واللَّه لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل اللَّه، فاستُشهد، فعَمَدَت امرأته، سَفَهًا وجهلاً، فبكت عليه، ليُعذّبنّ هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة"؟، وإلى هذا جَنَح جماعة من الشافعية، منهم أبو حامد وغيره.
الثالث: تأويل من أَوَّل قوله: "ببكاء أهله عليه" على أن الباء للحال، أي أن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه، وذلك أن شدّة بكائهم غالبا إنما تقع عند دفنه، وفي تلك الحالة يُسأل، ويبتدأ به عذاب القبر، فكان معنى الحديث إن الميت يُعذّب حالة بكاء أهله عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاؤهم سببًا لتعذيبه، حكاه الخطابي.
قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه من التكلّف، ولعلّ قائله إنما أخذه من قول عائشة رضي الله عنها: إنما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنه ليعذّب بمعصيته، أو بذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن". أخرجه مسلم، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عنها، وعلى هذا يكون خاصّا ببعض الموتى.
الرابع: تأويل من أوله على أن الراوي سمع بعض الحديث، ولم يسمع بعضه، وأن اللام في الميت لِمَعهود معين، كما جزم به أبو بكر الباقلاّنيّ وغيره، وحجتهم ما سيأتي في الباب التالي [1856]، من رواية عمرة، عن عائشة رضي الله عنها أنه ذُكِرَ لها أن عبد اللَّه بن عمر يقول: إن الميت ليعذّب ببكاء الحي عليه، فقالت: يغفر اللَّه لأبي عبد الرحمن
…
الحديث.
الخامس: تأويل من أوّله على أن ذلك مختصّ بالكافر، وأن المؤمن لا يُعذّب بذنب غيره أصلاً، وهو بيّنٌ من رواية ابن عباس، عن عائشة رضي الله عنهم، كما سيأتي في الباب التالي [1857]، أيضًا إن شاء اللَّه تعالى.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذه التأويلات عن عائشة رضي الله عنها متخالفة، وفيه إشعار بأنها لم ترُدّ الحديث بحديث آخر، بل بما استشعرته من معارضة القرآن.
قال الداوديّ: رواية ابن عباس، عن عائشة رضي الله عنها أثبتت ما نفته عمرة، وعروة عنها، إلا أنها خصّته بالكافر لأنها أثبتت أن الميت يزداد عذابًا ببكاء أهله، فأيّ فرق بين أن يزداد بفعل غيره، أو يعذّب ابتداء؟.
وقال القرطبيّ: إنكار عائشة ذلك، وحكمها على الراوي بالتخطئة، أو النسيان، أو على أنه سمع بعضًا، ولم يسمع بعضًا بعيد، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح.
وقد جمع كثير من أهل العلم بين حديثي عمر وعائشة بضروب من الجمع:
أولها: طريقة البخاريّ، حيث ترجم بقوله:"باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذّب الميت
ببعض بكاء أهله عليه "إذا كان النوح من سنته، لقول اللَّه تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} الآية [التحريم: 6] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع، ومسؤول عن رعيته"، فإذا لم يكن من سنته، فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الخ.
ثانيها: وهو أخصّ من الذي قبله ما إذا أوصى أهله بذلك، وبه قال المزني، وإبراهيم الحربيّ، وآخرون، من الشافعيه وغيرهم، حتى قال أبو الليث السمرقنديّ: إنه قول عامة أهل العلم، وكذا نقله النووي عن الجمهور قالوا: وكان معروفا للقدماء حتى قال طَرَفَة بن العبد [من الطويل]:
إِذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ
…
وَشُقِّي عَلَي الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ
واعتُرض بأن التعذيب بسب الوصيّة يُستَحَقّ بمجرّد صدور الوصيّة، والحديث دالّ على أنه إنما يقع عند وقوع الامتثال.
والجواب أنه ليس في السياق حصر، فلا يلزم من وقوعه عند الامتثال أن لا يقع إذا لم يمتثلوا مثلاً.
ثالثها: يقع ذلك أيضًا لمن أهمل نهي أهله عن ذلك. وهو قول داود، وطائفة، ولا يخفى أن محله ما إذا لم يتحقّق أنه ليست لهم بذلك عادة، ولا ظنّ أنهم يفعلون ذلك.
قال ابن المرابط: إذا علم المرء بما جاء في النهي عن النَّوْح، وعرف أن أهله من شأنهم يفعلون ذلك، ولم يُعلِمهم بتحريمه، ولا زجرهم عن تعاطيه، فإذا عُذّب على ذلك عُذِّب بفعل نفسه، لا بفعل غيره بمجرده.
رابعها: معنى قوله: "يعذّب ببكاء أهله"، أي بنظير ما يَبكيه أهله به، وذلك أن الأفعال التي يُعَدِّدُون بها عليه غالبًا تكون من الأمور المنهيّة، فهم يمدحونه بها، وهو يعذّب بصنيعه ذلك، وهو عين ما يَمدحونه به، وهذا اختيار ابن حزم، وطائفة، واستدل له بما أخرجه الشيخان عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنه، قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وعبد اللَّه ابن مسعود، رضي الله عنهم، فلما دخل عليه، فوجده في غاشية أهله، فقال:"قد قضى"؟ قالوا: لا يا رسول اللَّه، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القومُ بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بَكَوا، فقال: "ألا تسمعون إن اللَّه لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه، أو يرحم
…
" الحديث.
قال ابن حزم: فصحّ أن البكاء الذي يعذب به الإنسان ما كان منه باللسان، إذ يَندُبونه برياسته التي جار فيها، وشجاعته التي صرفها في غير طاعة اللَّه، وجُوده الذي لم يضعه في الحقّ، فأهله يبكون عليه بهذه المفاخر، وهو يعذّب بذلك.
وقال الإسماعيلي: كثُر كلام العلماء في هذه المسألة، وقال كلُّ مجتهدًا على حسب ما قُدِّر له، ومن أحسن ما حضرني وجهٌ لم أرهم ذكروه، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يُغِيرون، وَيسْبون، ويَقتُلُون، وكان أحدهم إذا مات بكته باكيته بتلك الأفعال المحرّمة، فمعنى الخبر أن الميت يُعذّب بذلك الذي يبكي عليه أهله به، لأن الميت يُندب بأحسن أفعاله، وكانت محاسن أفعالهم ما ذُكر، وهي زيادة ذنب من ذنوبه يستحقّ العذاب عليها.
خامسها: معنى التعذيب توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله به، كما رَوَى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعًا:"الميت يعذّب ببكاء الحيّ، إذا قالت النائحة: واعضداه، واناصراه، واكاسياه، جُبِذَ الميتُ، وقيل له: أنت عضدها، أنت ناصرها، أنت كاسيها؟ "، ورواه ابن ماجه: "يُتَعْتَعُ
(1)
به، ويقال: أنت كذلك؟ "، وروه الترمذيّ بلفظ: "ما من ميت يموت، فتقوم نادبته، فتقول: واجبلاه، واسنداه، أو شبه ذلك من القول، إلا وُكل به ملكان يلهزانه
(2)
، أهكذا كنت؟ "، وشاهده ما رواه البخاريّ في "المغازي" من حديث النعمان بن بشير، قال: "أُغمِي على عبد اللَّه بن رواحة، فجعلت أخته تبكي، وتقول: واجلاه، واكذا، واكذا، فقال: حين أفاق: ما قلتِ شيئا إلا قيل لي: أنت كذلك؟ ".
سادسها: معنى التعذيب تَألُم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها، وهذا اختيار أبي جعفر الطبري من المتقدمين، ورجحه ابن المرابط، وعياض، ومن تبعه، ونصره ابن تيمية، وجماعة من المتأخرين، واستشهدوا له بحديث قيلة -بفتح القاف، وسكون التحتانية- بنت مخرمة -بفتح الميم، وسكون المعجمة- الثقفية رضي الله عنها، قال: قلت: يا رسول اللَّه قد ولدته، فقاتل معك يوم الربَذَة، ثم أصابته الحمّى، فمات، ونزل عليّ البكاء، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أيغلب أحدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفا، وإذا مات استرجع، فوالذي نفس محمد بيده، إن أحدكم ليبكي، فيستعبر إليه صويحبه، فيا عباد اللَّه لا تعذّبوا موتاكم".
وهذا طرف من حديث طويل حسن الإسناد، أخرجه ابن أبي خيثمة، وابن أبي شيبة، والطبراني، وغيرهم، وأخرج أبو داود، والترمذيّ أطرافًا منه. قال الطبريّ: ويؤيده ما قاله أبو هريرة: إن أعمال العباد تُعرَض على أقربائهم من موتاهم، ثم ساقه بإسناد صحيح إليه، وشاهده حديث النعمان بن بشير، مرفوعًا، أخرجه البخاريّ فى
(1)
- أي يُحرّك بعنف.
(2)
- أي يطعنانه في صدره.
"تاريخه"، وصححه الحاكم، قال ابن المرابط: حديث قَيلة نصّ في المسألة، فلا يُعدَل عنه.
واعترضه ابن رُشد بأنه ليس نصّا، وإنما هو محتمل، فإن قوله:"فيستعبر إليه صويحبه" ليس نصّا في أن المراد به الميت، بل يحتمل أن يراد به صاحبه الحيّ، وأن الميت يعذب حينئذ ببكاء الجماعة عليه.
قال الحافظ بعد ذكر هذه التوجيهات: ويحتمل أن يُجمَع بين التوجيهات، فينزّل على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلاً: من كانت طريقته النوح، فمشى أهله على طريقته، أو بالغ بذلك عذّب بصنعه، ومن كان ظالمًا، فنُدب بأفعاله الجائرة عذّب بما نُدِب به، ومن كان يَعرِف من أهله النياحة، فأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضيًا بذلك التحق بالأول، وإن كان غير راض عذّب بالتوبيخ، كيف أهمل النهي؟، ومن سَلِمَ من ذلك كله، واحتاط، فنهى أهله عن المعصية، ثم خالفوه، وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره، وإقدامهم على معصية ربهم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في هذا الجمع تكلّف لا يخفى، بل الأولى الترجيح بين هذه التوجيهات، كما سيأتي قريبًا.
وحكى الكرمانيّ تفصيلاً آخر، وحسنه، وهو التفرقة بين حال البرزخ، وحال يوم القيامة، فيحمل قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَة وِزرَ أخرَى} [فاطر: 18]، على يوم القيامة، ويحمل هذا الحديث، وما أشبهه على البرزخ، ويؤيّده أن مثل ذلك يقع في الدنيا، والإشارة إليه بقوله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، فإنها دالّة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب، فكذلك يمكن أن يكون حال البرزخ بخلاف حال يوم القيامة
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وهذا الذي قاله الكرماني يعارضه ما في بعض الأحاديث من التنصيص بأن ذلك التعذيب إنما يكون في القيامة، فقد أخرج الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، مرفوعًا:"من نِيح عليه، فإنه يعذّب بما نيح عليه يوم القيامة".
إذا علمت هذه الأقوال بما لها، وما عليها، فأرجحها عندي ما ذهب الإمام البخاري -رحمه اللَّه تعالى-، من أن ذلك إذا كان من سنته، كما أسلفنا قوله في ذلك.
والحاصل أن هذا التعذيب في حقّ من له تسبب في بكاء أهله عليه، بأن يكون البكاء
(1)
- راجع "الفتح" ج 3 ص 499 - 500.
من سنته وطريقته، أو أوصى به في حياته، أو عَرَف أن أهله سيفعلون ذلك، وأهمل النهي والزجر عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1849 -
أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
(1)
شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صُبَيْحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ، يَقُولُ: ذُكِرَ عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ" فَقَالَ عِمْرَانُ: قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمود بن غيلان) أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 33/ 37.
2 -
(أبو داود) سليمان بن داود بن الجارود الطالسيّ البصريّ الحافظ الثقة [11] 13/ 343.
3 -
(شعبة) الإمام الشهير، تقدم قريبًا.
4 -
(عبد اللَّه بن صُبَيح) -بضم المهملة، وفتح الموحدة- البصريّ، وهو صدوق، [7].
روى عن ابن سيرين، وروى عنه شعبة، ومهدي بن ميمون، وأبو هلال الراسبيّ، قال أبو حاتم: شيخ. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، انفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط.
5 -
(محمد بن سيرين) الأنصاريّ مولاهم البصريّ، ثقة ثبت فقيه [3] 46/ 57.
6 -
(عمران بن حُصين) بن عُبيد بن خَلَف الخزاعيّ، أو نُجيد الصحابي المشهور ابن الصحابي رضي الله عنهما 201/ 321.
والحديث صحيح، انفرد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- من بين أصحاب الأصول، أخرجه هنا [14/ 1849 و15/ 1854] وفي "الكبرى" 14/ 1975 و 15/ 1981 وأخرجه (أحمد)19417. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1850 -
أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ: سَالِمٌ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» .
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(سليمان بن سيف) الحرّاني، ثقة حافظ [11] 103/ 136.
(1)
وفي نسخة: "أخبرنا".
2 -
(يعقوب بن إبراهيم) الزهري، أبو يوسف المدني، نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار [9] 196/ 314.
3 -
(إبراهيم بن سعد) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، المدني، ثم البغداديّ، ثقة حجة [8] 196/ 314.
4 -
(صالح) بن كيسان، الغفاريّ، أبو محمد المدني، ثقة ثبت [4] 196/ 314.
5 -
(ابن شهاب) الزهريّ تقدم قريبًا.
6 -
(سالم) بن عبد اللَّه بن عمر المدني، ثقة ثبت فقيه [3] 23/ 490. والباقيان تقدما قريبًا.
والحديث متفق عليه، وقد تقدم تمام البحث فيه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
15 - النِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيّتِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "النياحة" بالكسر: اسم، من النَّوْح، يقال: ناحت المرأة على الميت نَوْحًا، من باب قال، والاسم النُّوَاح وزانُ غُرَاب، وربّما قيل: النِّيَاح بالكسر، فهي نائحة. قاله في "المصباح".
وقال النوويّ رحمه الله: والنياحة رفعُ الصوت بالنَّدْب
(1)
. والنَّدْب تعديد محاسن الميت مع البكاء، كقوله: واجبلاه، واسنداه، واكريماه، ونحوها انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1851 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ قَيْسٍ، أَنَّ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ، قَالَ: لَا تَنُوحُوا عَلَيَّ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَمْ يُنَحْ عَلَيْهِ. مُخْتَصَرٌ.
رجال هذا الحديث: سبعة:
1 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.
2 -
(خالد) بن الحارث الهجيميّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.
(1)
- ندبت المرأة الميت ندبًا، من باب قتل. قاله في "المصباح".
(2)
-"المجموع" ج 5 ص280.
3 -
(شعبة) بن الحجاج تقدم قريبًا.
4 -
(قتادة) بن دعامة السدوسي البصريّ، ثقة ثبت [4] 30/ 34.
5 -
(مطرف) بن عبد اللَّه بن الشخّير الحَرَشيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ الثقة العابد الفاضل [2] 54/ 67.
6 -
(حكيم بن قيس) بن عاصم الْمِنقَريّ التميميّ البصريّ، قيل: وُلد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، روى عن أبيه، وعنه مطرّف بن عبد اللَّه بن الشخير، وذكره ابن حبّان في ثقات التابعين. وقال ابن القطّان: مجهول الحال. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
7 -
(قيس بن عاصم) المنقريّ، صحابيّ مشهور بالحلم، نزل البصرة، رضي الله عنه، تقدم في 126/ 188.
وقوله: "لا تنوحوا"، أي لا تبكوا عليّ بالصِّياح، وقوله:"لم يُنَح عليه" بالبناء للمفعول.
وقوله: "مختصر" بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا الحديث مختصر، من حديث طويل، وفي نسخة "مختصرًا" بالنصب على الحالية، وقد ساق الطبراني -رحمه اللَّه تعالى- الحديث مختصرًا ومطوّلا في "المعجم الكبير"، فقال:
869 -
حدثنا أحمد بن إسماعيل العدويّ البصريّ، ثنا عمرو بن مرزوق، أنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت مطرفًا يحدث عن حكيم بن قيس بن عاصم، أن أباه أوصى عند موته، فقال: بَنِيّ اتقوا اللَّه، وسوّدوا أكبركم، فإن القوم إذا سوّدوا أكبرهم خلفوا أباهم، وإذا سوّدوا أصغرهم أزرى بهم في أكفائكم
(1)
، وعليكم باصطناع المال، فإنه مَنْبَهَة للكرم، ويُستَغنَى به عن اللئيم، وإياكم ومسألة الناس، فإنها من آخر كسب المرء، وإذا متّ فلا تنوحوا، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يُنَحْ عليه، وإذا متّ، فادفنوني بأرض لا يشعر بدفني بكر بن وائل، فإني كنت أغاولهم
(2)
في الجاهلية.
870 -
(3)
حدثنا عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي ح وحدثنا محمد بين عبدوس بن كامل السرّاج، ومحمد بن محمد الجذوعيّ القاضي، قالا: حدثنا علي بن الجعد، قالا: حدثنا محمد بن يزيد الواسطيّ، ثنا زياد الخصاص
(4)
، عن الحسن،
(1)
- هكذا نسخة المعجم الكبير، ولعل الصواب "في أكفائهم".
(2)
- أي أقاتلهم على غِرّة، وغفلة.
(3)
- في إسناد زياد بن أبي زياد الخصاص، وثقه ابن حبّان، وقال: يخطىء، وضعفه الجمهور اهـ مجمع ج9 ص 404.
(4)
- هكذا نسخة "المعجم" الجصاص بالجيم، وفي "مجمع الزوائد""الخصاص" بالخاء المعجمة، وكتب في الهامش أنه الصواب.
حدثني قيس بن عاصم المنقريّ، قال: قدمت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما رآني سمعته يقول:"هذا سيد أهل الوَبَر"
(1)
، قال: فلما نزلنا أتيته، فجعلت أحدّثه، قال: قلت: يا رسول اللَّه، المال الذي لا يكون علي فيه تبعة من ضيف ضافني، وعيال كثروا، قال: "نعم المال الأربعون، والأكثر الستون، وويل لأصحاب المئين، إلا من أعطى في رِسْلها، ونجدتها، وأفقر ظهرها
(2)
، ونحر سمينها، فأطعم القانع والمعترّ"، قال: قلت: يا نبي اللَّه ما أكرم هذه الأخلاق، وأحسنها! يا رسول اللَّه لا يُحَلُّ بالوادي الذي أكون فيه لكثرة إبلي، قال: "فكيف تصنع؟ "، قلت: تغدوا الإبل، ويغدوا الناس، فمن شاء أخذ برأس بعير، فذهب به، فقال: "ما تصنع بإفقار الظهر؟ "، قلت: إني لا أفقر الصغير، ولا الناب المدبرة، قال: "فمالُك أحبّ إليك، أم مال مواليك؟ "، قال: قلت: مالي أحبّ إلي من مال موالي، قال: "فإن لك من مالك ما أكلت، فأفنيت، أو لبست، فأبليت، أو أعطيت، فأمضيت، وإلا فلمَوَالِيكَ"
(3)
، فقلت: واللَّه لئن بقيت لأفنينّ عددها، قال الحسن: ففعل واللَّه، فلما حضرت قيسا الوفاة قال: يا بَنيّ خذوا عني، لا أجد أنصحَ لكم مني، إذا أنا متّ، فسوّدوا كباركم، ولا تسوّدوا صغاركم، فيستسفهكم الناس، وتهونوا عليهم
(4)
، وعليكم باستصلاح المال، فإنه مَنبَهَة الكريم، وُيستَغنَى به عن اللئيم، وإياكم والمسألة، فإنها آخر كسب المرء، إن أحدا لم يسأل إلا ترك كسبه
(5)
، وإذا متّ فلا تنوحوا عليّ، فأني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينهى عن النياحة، وكفّنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها وأصوم، وإذا دفنتموني، فلا تدفنوني في موضع يطلع عليّ أحد، فإنه قد كان بيني وبين بكر بن وائل خماشات
(6)
في الجاهلية، فأخاف أن ينبشوني، فيصنعون في ذلك ما يذهب فيه دينكم ودنياكم، قال الحسن رحمه الله: نصح لهم في الحياة، ونصح لهم في الممات.
871 -
(7)
حدثنا محمد بن زكريا الغلابيّ، ثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سويّة المنقريّ، حدثني أبي الفضلُ بن عبد الملك، عن أبيه عبد الملك بن أبي سويّة
(1)
- وقع في نسخة "المعجم""سيد أهل العرب"، والتصويب، من نسخة "المجمع".
(2)
- كان في الأصل "وأفقر ظهر" والأصلاح من "المجمع" ج 3 ص 107.
(3)
- في الأصل "فلموا اليك" والإصلاح من "المجمع" ج 3 ص 107.
(4)
- كان في الأصل "فيهونوا عليكم" والإصلاح من "المجمع" ج 3 ص 107.
(5)
- هكذا النسخة، والكلام فيه ركاكة، فليحرر.
(6)
- أي جراحات، وجنايات.
(7)
- قال في "المجمع" ج 4 ص 222: وفي إسناده العلاء بن الفضل، قال المزّيّ: ذكره بعضهم في الضعفاء، قلت: ومحمد بن زكريا الغلابي ضعيف، ومنهم من اتهمه اهـ
المنقريّ، قال: سمعت ابن عاصم، وهو يوصي، فجمع بنيه، وهم اثنان وثلاثون ذكرا، فقال: يا بَنِيّ إذا أنا متّ، فسوّدوا أكبركم، تخلُفُوا أباكم، ولا تسوّدوا أصغركم، فيُزري بكم ذاك عند أكفائكم
(1)
، ولا تقيموا عليّ نائحة، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينهى عن النياحة، وعليكم باصلاح المال، فإنه منبهة للكريم، ويُستغنَى به عن اللئيم، ولا تعطوا رقاب الإبل، إلا في حقها، ولا تمنعوها من حقها، وإياكم، وكلّ عرق سوء، فهما يسرّكم يوما، فما يسوءكم أكثر، واحذروا أبناء أعدائكم، فإنهم لكم أعداء على منهاج آبائهم، وإذا أنا مت، فادفنوني في موضع لا يَطّلع علي هذا الحيّ من بكر ابن وائل، فإنها كانت بيني وبينهم خماشات في الجاهلية، فأخاف أن ينبشوني، فيفسدوا عليهم دنياهم، ويفسدوا عليكم آخرتكم، ثم دعا بكنانته، فأمر ابنه الأكبر، وكان يسمى عليّا، فقال: أَخرِج سهما من كنانتي، فأخرجه، فقال: اكسره، فكسره، ثم قال: أخرج سهمين، فأخرجهما، فقال: اكسرهما، فكسرهما، ثم قال: أخرج ثلاثة أسهم، فأخرجها، فقال: اكسرها، فكسرها، ثم قال: أخرج ثلاثين سهما، فأخرجها، فقال: اعصِبْها بوَتَر، فعصبها، ثم قال: اكسرها، فلم يستطع كسرها، فقال: يا بَنِيّ هكذا أنتم بالاجتماع، وكذلك أنتم بالفرقة، ثم أنشا يقول [من الخفيف]:
إِنمَا المَجدُ مَا بَنَى وَالِدُ الصِّدْ
…
قِ وَأَحُيَى فِعَالَهُ الْمَوْلُودُ
وَكَفَى الْمَجْدُ وَالشَّجَاعَةُ وَالحِلِـ
…
مُ إِذَا زَانَهَا عَفَافٌ وَجُودُ
وَثَلَاُثونَ يَا بَنِيَّ إِذَا مَا
…
عَقَدَتهُمْ لِلنَّائِبَاتِ الْعُهُودُ
كَثَلَاِثينَ مِن قِدَاحٍ إِذَا مَا
…
شَدَّهَا لِلمُرَادِ عَقْدٌ شَدِيدُ
لَمْ تُكَسَّرْ وَإِن تَبَدَّدَتْ الأَسْهُمُ
…
هُمُ أَودَى بِجَمْعِهَا التَّبْدِيدُ
وَذَوُو السِّنِّ وَالمُرُوءَةِ أَوْلَى
…
أَنْ يَكُونَ مِنْكُمْ لَهُمُ تَسْوِيدُ
وَعَلَيْهِمْ حِفْظُ الأَصَاغِرِ حَتَّى
…
يَبْلُغَ الحِنْثَ الأَصْغَرُ المَجْهُودُ
انتهى "المعجم الكبير"
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1852 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: نَا
(3)
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ، حِينَ بَايَعَهُنَّ، أَنْ لَا يَنُحْنَ، فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ
(1)
- هكذا النسخة، والصواب كما في "المجمع""عند أكفائكم".
(2)
- راجع المعجم الكبير ج 18 ص 339 - 342.
(3)
- وفي نسخة: "أخبرنا"، وفي أخرى": أنبأنا".
اللَّهِ، إِنَّ نِسَاءً، أَسْعَدْنَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَفَنُسْعِدُهُنَّ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا إِسْعَادَ فِي الإِسْلَامِ» .
هذا الإسناد بعينه تقدم قبل باب 13/ 1844.
و"إسحاق": هو ابن راهويه.
وقوله: "أخذ على النساء" أي أخذ منهنّ العهد. وقوله: "أن لا يَنُحْنَ" في تأويل المصدر مجرور بحرف جرّ مقدّر، أي بعدم النوح. وقوله:"أسعدننا" أي عاونَّنَا على النياحة، قال في "النهاية": إسعاد النساء في الْمُناحاة، أن تقوم المرأة، فتقوم معها أخرى من جاراتها، فتساعدها على النياحة، وقيل: كان نساء الجاهلية يُسعِد بعضهنّ بعضًا على ذلك سنةً، فنهين عن ذلك.
وقال الخطابيّ: أما الإسعاد، فخاصّ في هذا المعنى، وأما المساعدة، فعامة في كلّ معونة، يقال: إنها من وضع الرجل يده على ساعد صاحبه إذا تماشيا في حاجة. انتهى
(1)
.
وقال السنديّ: وإسعاد النساء في الْمُنَاحَاة، هو أن تقوم امرأة، فتقوم معها -يعني امرأة أخرى- للموافقة والمعاونة على مرادها، وكان ذلك فيهن عادة، فإذا فعلت إحداهما بالأخرى ذلك، فلا بدّ لها أن تفعل بها مثل ذلك، مُجازاةً على فعلها
(2)
.
والحديث صحيح، انفرد به المصنّف، أخرجه هنا-15/ 1852 - وفي "الكبرى" 15/ 1979 وأخرجه (أحمد) 12620 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1853 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِالنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ» .
رجال هذا الإسناد: سبعة، وكلهم تقدّموا قريبًا.
و"عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"يحيى": هو القطّان. والحديث متفق عليه، وقد تقدم تمام البحث فيه في الباب الماضي برقم [1848]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجعِ والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1854 -
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
(3)
(1)
- "النهاية" ج 2 ص 366.
(2)
- "شرح السندي" ج 4 ص 16.
(3)
- وفي نسخة: "نا"، وفي أخرى:"أنبأنا".
هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
(1)
مَنْصُورٌ، هُوَ ابْنُ زَاذَانَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ:"الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِنِيَاحَةِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً مَاتَ بِخُرَاسَانَ، وَنَاحَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ هَاهُنَا، أَكَانَ يُعَذَّبُ بِنِيَاحَةِ أَهْلِهِ؟ ، قَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَبْتَ أَنْتَ.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابراهيم بن يعقوب) الجُوزجاني الدمشقي، ثقة حافظ [11] 122/ 174.
2 -
(سعيد بن سليمان) الضبّيّ، أبو عثمان الواسطيّ، نزيل بغداد البزّاز، لقبه سعدويه، ثقة حافظ، من كبار [10].
قال أبو حاتم: ثقة مأمون، ولعله أوثق من عفان. وقال صالح بن محمد عنه: ما دلّستُ قط، ليتني أحدّث بما سمعت، قال: وسمعته يقول: حججت ستين حجة.
وقال الدوريّ: سئل ابن معين عنه، وعن عمرو بن عون؟ فقال: كان سعدويه أكيسهما. ووثقه العجليّ، وابن حبان، وابن سعد، وقال: كان كثير الحديث، توفي ببغداد لأربع خلون من ذي الحجة، سنة (225). قيل: مات وله مائة سنة. روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ستة أحاديث.
3 -
(منصور بن زاذان) الثقفيّ، أبو المغيرة الواسطي، ثقة ثبت عابد [6] 5/ 475.
4 -
(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصريّ الإمام الحجة الثبت الشهير [3] 32/ 36.
5 -
(عمران بن حُصين) رضي الله عنه، تقدم في الباب الماضي.
والإسناد فيه انقطاع، لأن الحسن البصريّ لم يسمع من عمران بن حصين رضي الله عنه، كما بُيّن في ترجمته من "تهذيب التهذيب" وغيره.
وقوله: "رجلاً مات" بالنصب على أنه مفعول "رأيت"، وفي بعض النسخ:"رجلٌ" بالرفع، والأول أولى.
وقوله: "ههنا" الظاهر أنه أشار إلى البصرة، لأن عمران رضي الله عنه كان ممن نزل البصرة، ومات بها واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "كان يعذّب بنياحة أهله" أراد به إنكار ذلك، وأنه بعيد من الوقوع، فلذلك ردّ عليه عمران بقوله:"كذبتَ أنت"، وإلا فصورته استفهام، وهو إنشاء، فلا يصلح للتكذيب. قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-.
والحديث المرفوع منه صحيح، كما سبق برقم 1849، والموقوف ضعيف؛
(1)
- وفي نسخة: "نا"، وفي أخرى:"أنبأنا".
للانقطاع المذكور، وقد تقدم تخريجه في الباب الماضي واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1855 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ: وَهِلَ، إِنَّمَا مَرَّ النَّبِيُّ
(1)
صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرٍ، فَقَالَ: «إِنَّ صَاحِبَ الْقَبْرِ
(2)
لَيُعَذَّبُ، وَإِنَّ أَهْلَهُ يَبْكُونَ عَلَيْهِ». ثُمَّ قَرَأَتْ:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن آدم) بن سليمان الجهنيّ المصّيصيّ، صدوق [10] 93/ 115.
2 -
(عبدة) بن سليمان الكلابي الكوفيّ الحافظ الثبت، من صغار [8] 7/ 339.
3 -
(هشام) بن عروة المدنيّ الفقيه، ثقة ربما دلّس [5] 49/ 61.
4 -
(عروة) بن الزبير الدني الفقيه الثقة الثبت [3] 40/ 44.
5 -
(ابن عمر) رضي الله عنه المذكور قبل حديث. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة. وأحد المشهورين بالفتوى. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ ببُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيهِ") تقدم الكلام عليه في الباب الماضي (فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ) رضي الله عنها (فَقَالَتْ: وَهِلَ) بفتح الواو، وكسر الهاء: كغلط وزنا ومعنى. يقال: وَهِلَ عن الشيء، وفيه، وَهَلًا، من باب تعب: غلط فيه، ووَهَلْتُ إليه وَهْلاً، من باب وَعَدَ: ذهب وَهْمُك إليه، وأنت تريد غيره، مثل وَهَمتُ. قاله في "المصباح"، والأول هو المناسب هنا (إِنَّمَا مَرَّ النَّبِيُّ) وفي نسخة:"رسول اللَّه"(صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرٍ) وفي نسخة: "بقبر"(فَقَالَ: "إِن صَاحِبَ الْقَبْرِ لَيُعَذَّبُ) أي بذنوبه، لا ببكاء أهله عليه، ولفظ مسلم من طريق أبي أسامة، عن هشام: إنما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنه يعذّب بخطيئته، أو بذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن"(وَإِنَّ أَهْلَهُ يَبْكُونَ عَلَيْهِ) جملة في محلّ نصب على الحال من نائب الفاعل (ثُمَّ قَرَأَتْ:
(1)
- وفي نسخة: "رسول اللَّه".
(2)
- وفي نسخة: "إن صاحب القبر".
({وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 146]) أي فكيف يعذّب الميت ببكاء غيره بعد أن مات، وانقطع عمله أصلاً، فاستبعدت رضي الله عنها الحديث، لكونها رأته مخالفًا للآية المذكورة، لكن الصواب أن الحديث صحيح، فقد جاء من وجوه كثيرة، فالوجه حمله على ما إذا تسبب لذلك بوجه، أو رضي به حالة الحياة، فبذلك يندفع التدافع بينه وبين الآية المذكورة. واللَّه تعالى أعلم.
وقال القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-: أنكرت عائشة رضي الله عنها هذا الحديث، وصرحت بتخطئة الناقل، أو نسيانه، وحَمَلَها على ذلك أنها لم تسمعه كذلك، وأنه معارَضٌ بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وهذا فيه نظر، أما إنكارها، ونسبة الخطأ لراويه فبعيد، وغير بيِّنٍ، ولا واضح، وبيانه من وجهين:
أحدهما: أن الرواة لهذا المعنى كثيرون: عمر، وابن عمر، والمغيرة بن شعبة، وقَيْلَة بنت مَخْرَمَة، وهم جازمون بالرواية، فلا وجه لتخطئتهم، وإذا أُقدِم على ردّ خبر جماعة مثلِ هؤلاء، مع إمكان حمله على محمل صحيح، فلأن يُردّ خبر راو واحد أولى، فردّ خبرها أولى، على أن الصحيح أن لا يُرد واحد من تلك الأخبار، ويُنظر في معانيها، كما نُبيِّنه.
ثانيهما: أنه لا معارضة بين ما روت هي، ولا ما رووا هم، إذ كلّ واحد منهم أخبر عما سمع وشاهَدَ، وهما واقعتان مختلفتان، وأما استدلالها على ردّ ذلك بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فلا حجة فيه، ولا معارضة بين هذه الآية والحديث، على ما نُبدِيه من معنى الحديث، إن شاء اللَّه تعالى.
وقد اختلف العلماء فيه، فقيل: محمله على ما إذا كان النَّوْح من وصيّته وسنته، كما كانت الجاهلية تفعل، حتى قال طرفة: إِذَا مِتُّ فَأنعِينِي البيت. وقد جمع عبد المطلب بناته عند موته، وأمرهنّ أن ينعينه، ويَندُبنه، ففعلن، وأنشدت كلّ واحدة منهنّ شعرًا تمدحه فيه، فلما فرغن قال آخر ما كلّمهنّ: أحسنتنّ، هكذا فانعيننى، وإلى هذا نحا البخاريّ، وقيل: معناه أن تلك الأفعال التي يُبكَى بها الميت مما كانوا يفعلونه في الجاهلية، من قتل النفس، وأخذ المال، وإخراب البلاد، وغير ذلك، فأهله يمدحونه بها، ويُعدّدونها عليه، وهو يُعذب لسببها، وعلى هذا تُحمل رواية من رواه:"ببعض بكاء أهله"، إذ ليس كلّ ما يُعدّدونه من خصاله مذمومًا، فقد يكون من خصاله كَرَمٌ، وإعتاق رقاب، وكشف كرب، إلى آخر كلام القرطبيّ وقد تقدّم خلاصته
(1)
.
(1)
- "المفهم" ج 2 ص 581 - 583.
والحديث متفقٌ عليه، وقد تقدم تخريجه في 14/ 1848 - واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1856 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ، وَذُكِرَ لَهَا، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ، قَالَتْ: عَائِشَةُ يَغْفِرُ اللَّهُ لأَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنْ نَسِيَ، أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى يَهُودِيَّةٍ، يُبْكَى عَلَيْهَا، فَقَالَ:«إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس الإمام الحجة الثبت المدني [7] 7/ 7.
3 -
(عبد اللَّه بن أبي بكر) الأنصاريّ المدني القاضي، ثقة [5] 118/ 163.
4 -
(أبو بكر) بن محمد بن عمرو بن حزم، الأنصاريّ النجّاريّ المدني القاضي، اسمه وكنيته واحد، وقيل. يكنى أبا محمد، ثقة عابد [5] 118/ 163.
5 -
(عمرة) بن بنت عبد الرحمن المذكورة في الباب الماضي.
6 -
(عائشة) رضي الله عنها 5/ 5.
وقولها: "يغفر اللَّه لأبي عبد الرحمن": هو كنية عبد اللَّه بن عمر، قدمته تمهيدًا، أو دفعا لمن يُوحَش من نسبته إلى النسيان والخطأ، كما قال اللَّه تعالى. {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، فمن استغرب من غيره شيئًا ينبغي أن يوطّىء، ويمهّد له بالدعاء، إقامةً لعذره فيما وقع منه، وأنه لم يتعمده، ومن ثمّ زادت على ذلك بيانًا وأعتذارًا بقولها (أما) بفتح الهمزة، والتخفيف، أداة تنبيه، واستفتاح، يُلقَى بها إلى المخاطب تنبيها له، وإزالةً لغفلته (إنه لم يكذب) أي لم يرد الكذب، ولم يتعمّده (ولكنه نسي) أي مَورِدَهُ الخاصّ (أو أخطأ) أي في إرادته العامّ. وقوله. "يُبكَى عليها" بالبناء للمفعول، وقوله:"ليبكون" بالبناء للفاعل.
والحديث متفق عليه، وقد تقدم تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1857 -
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: قَصَّهُ لَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا، بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عبد الجبّار بن العلاء بن عبد الجبار) العطّار البصريّ، أبو بكر، نزيل مكة، لا بأس به، من صغار [10] 132/ 199.
2 -
(سفيان) بن عيينة، أبو محمد المكي الإمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.
3 -
(عمرو بن دينار) الأثرم المكيّ، ثقة ثبت [3] 122/ 154.
4 -
(ابن أبي مليكة) عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن أبي مليكة التيمي المكيّ الثقة الفقيه [3101/ 132].
والباقيان تقدما قريبًا.
وقوله: "إن اللَّه يزيد الكافر" قال السنديّ رحمه الله: فحملت الميت على الكافر، وأنكرت الإطلاق، وقد جاء فيه الزيادة، كقوله تعالى:{زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88]، وقوله:{فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ: 30]، لكن قد يقال: زيادة العذاب بعمل الغير أيضًا مشكلة، معارضة بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
فينبغي أن تحُمل الباء في قوله: "ببعض بكاء أهله" على المصاحبة، لا السبيية، وتخصيص الكافر حينئذ لأنه محلّ للزيادة، واللَّه تعالى أعلم انتهى
(1)
.
وقوله: "ببعض بكاء أهله" إنما قيده بالبعض لأن منه ما لا يكون سببا للتعذيب، كعتق الرقاب، وصلة الأرحام، ونحوهما، كما تقدم في كلام القرطبيّ -رحمه الله تعالى-.
والحديث متفق عليه، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجعِ والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1858 -
أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مَنْصُورٍ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْوَرْدِ، سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، يَقُولُ: لَمَّا هَلَكَتْ أُمُّ أَبَانَ، حَضَرْتُ مَعَ النَّاسِ، فَجَلَسْتُ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَبَكَيْنَ النِّسَاءُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَلَا تَنْهَى هَؤُلَاءِ عَنِ الْبُكَاءِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ، بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ كَانَ عُمَرُ، يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ، خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، رَأَى رَكْبًا، تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَقَالَ: انْظُرْ مَنِ الرَّكْبُ، فَذَهَبْتُ، فَإِذَا صُهَيْبٌ وَأَهْلُهُ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا صُهَيْبٌ وَأَهْلُهُ، فَقَالَ عَلَيَّ بِصُهَيْبٍ، فَلَمَّا دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ، أُصِيبَ عُمَرُ، فَجَلَسَ صُهَيْبٌ يَبْكِي عِنْدَهُ، يَقُولُ: وَاأُخَيَّاهُ، وَاأُخَيَّاهُ،
(1)
- "شرح السندي" ج 4 ص 18.
فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ، لَا تَبْكِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ، بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ مَا تُحَدِّثُونَ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ كَاذِبَيْنِ، مُكَذَّبَيْنِ، وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرْآنِ، لَمَا يَشْفِيكُمْ، {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38] ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا، بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» .
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هو سليمان بن منصور البَلْخيّ) البزّاز الدُّهْنيّ، لقبه زَرْغَنْده
(1)
لا بأس به [10] تقدم في 60/ 75 - من أفراد المصنف.
2 -
(عبد الجبار بن الوَرْد) بن أبي الورد، المخزومي مولاهم، أبو هشام المكيّ، صدوق يهم [7].
قال أحمد: ثقة لا بأس به. ووثقه ابن معين، وأبو حاتم، وأبو داود، ويعقوب بن سفيان، والعجليّ. وقال ابن المديني: لم يكن به بأس. وقال البخاريّ: يُخالف في بعض حديثه. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: يخطىء ويَهِم. وقال ابن عديّ: هو عندي لا بأس به، يكتب حديثه. وعن الدارقطنيّ: ليّن. أخرج له أبو داود، والمصنف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. واللَّه تعالى أعلم.
والباقون تقدموا قريبًا، واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من رباعيات المصنف، وهو (110) من رباعيات الكتاب، وهو أعلى ما عنده من الأسانيد، كما سبق غير مرّة، وفيه ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما، من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، ومن المشهورين بالفتوى. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن عبد الجبار بن الورد أنه قال: (سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ) عبد اللَّه بن عبيد اللَّه المذكور في السند الماضي (يَقُولُ: لَمَّا هَلَكَتْ أُمُّ أَبَانَ) هي بنت عثمان ين عفان رضي الله عنه، ماتت بمكة (حَضَرْتُ مَعَ النَّاسِ) أي للصلاة عليها، ودفنها (فَجَلَسْتُ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسِ) ولفظ البخاريّ من طريق ابن جريج، عن ابن أبي مليكة: "قال: توفيت ابنة لعثمان رضي الله عنه بمكة، وجئنا لنشهدها، وحَضَرَها ابنُ عمر وابن عباس رضي الله عنهما، وإني لجالس بينهما، أو قال: جلست إلى أحدهما، ثم جاء الآخر، فجلس إلى
(1)
- بفتح الزاي، وسكون الراء، بعدها غين معجمة، ثم ساكنة.
جنبي
…
"، ولمسلم من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة، قال: كنت جالسا إلى جنب ابن عمر، ونحن ننتظر جنازة أم أبان بنت عثمان، وعنده عمرو بن عثمان، فجاء ابن عباس، يقوده قائده، فأُراه أخبره بمكان ابن عمر، فجاء حتى جلس إلى جنبي، فكنت بينهما، فإذا صوت من الدار
…
".
قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: فيه دليل لجواز الجلوس، والاجتماع لانتظار الجنازة، واستحبابه. وأما جلوسه بين ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما، وهما أفضل بالصحبة، والعلم، والفضل، والصلاح، والنسب، والسنّ، وغير ذلك، مع أن الأدب أن المفضول لا يجلس بين الفاضلين إلا لعذر، فمحمول على عذر، إما لأن ذلك الموضع أرفق بابن عباس، وإما لغير ذلك انتهى
(1)
(فَبكَيْنَ النِّسَاءُ) تقدم أن مثل هذا يتخرّج على لغة "أكلوني البراغيث"(فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَلَا تَنْهَى هَؤُلَاءِ) هكذا رواية المصنف هنا، وفي "الكبرى" لم يذكر المخاطب، وقد ثبت في روية الشيخين، ولفظ البخاريّ:"فقال عبد اللَّه بن عمر لعَمْرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟ .... ".
وعمرو بن عثمان هو أكبر أولاد عثمان رضي الله عنه الذين أعقبوا، وإن معاوية زوّجه لما ولي الخلافة ابنته رملة. قاله الزبير بن بكّار. ويكنى أبا عثمان، مدنيّ ثقة، من كبار التابعين (عَنِ الْبُكَاءِ) أي بالصياح والنياح، وهو متعلق بـ "تنهى"(فَإِنِّي) الفاء للتعليل، أي لأني (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فيه أن ابن عمر رضي الله عنهما سمعه بنفسه، وهذا لا يعارض ما تقدم من أنه سمعه من أبيه، لاحتمال أن يسمعه من أبيه أوّلاً، ثم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يحدّث بهما. واللَّه تعالى أعلم.
(يَقُولُ: إِن الْمَيِّتَ لَيُعَذبُ، بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) هكذا نسخ "المجتبى""ببعض بكاء أهله عليه"، والذي في "الكبرى":"ببكاء أهله عليه"، وهو الذي في رواية الشيخين، والظاهر أنه الصواب بدليل قول ابن عباس رضي الله عنهما:"قد كان عمر يقول بعض ذلك"، فلو كان كلام ابن عمر "ببعض بكاء أهله"، لما استقام قول ابن عباس رضي الله عنهما هذا.
ومما يؤيد ذلك أيضًا زيادة في رواية مسلم، وهي:"قال: فأرسلها عبد اللَّه مرسلة، وأما عمر فقال: ببعض".
قال النووي: معناه أن ابن عمر أطلق في روايته تعذيب الميت ببكاء الحيّ، ولم يقيده بيهوديّ، كما قيّدته عائشة، ولا بوصيّة، كما قيده آخرون، ولا قال:"ببعض بكاء أهله"، كما رواه أبوه عمر انتهى. والحاصل أن الظاهر أن رواية ابن عمر رضي الله عنهما هنا غير مقيدة "ببعض". واللَّه تعالى أعلم.
(1)
- "شرح مسلم" ج 6 ص 470.
(فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ كَانَ عُمَرُ، يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ) أي العموم، وهو أن يكون بصوت، أو ندبة، أو يروي بعض ذلك الكلام، لأن في روايته "ببعض بكاء أهله"، كما سيأتي قريبًا (خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ) وفي رواية البخاريّ: "ثم حدّث، فقال: صَدَرتُ مع عمر من مكة حتى إذا كنا بالبيداء
…
" (حَتَّى إِذَا كُنَّا بالْبَيْدَاءِ) بفتح الموحّدة، وسكون التحتانية: مفازة بين مكة والمدينة، قاله العينيّ، وقالَ القاري: موضع قريب من ذي الحليفة (رَأَى رَكْبًا) بفتح، فسكون: أي جماعة راكبين (تَحْتَ شَجَرَةٍ) ولفظ الشيخين: "فإذا هو بركب تحت ظلّ سمرة" و "السمرة" بفتح المهملة، وضم الميم: شجرة عظيمة، من شجر العضاه (فَقَالَ) أي عمر رضي الله عنه (انْظرْ مَنِ الرَّكْبُ؟) أي تحقق لي هؤلاء الجماعة، من هم؟ (فَذَهَبْتُ، فَإِذَا) هي الْفُجَائِيَّةُ (صُهَيْبٌ) بصيغة التصغير ابن سنان بن قاسط، كان من السابقين الأولين المعذّبين في اللَّه تعالى، وقد تقدّمت ترجمته 89/ 1346 (وَأَهْلُهُ، فَرَجَعْتُ إِلَيهِ) أي إلى عمر (فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا) الركب (صُهَيبٌ وَأَهْلُهُ، فَقَالَ) عمر (عَلَيَّ بصُهَيْبٍ) وللبخاري: "ادعه لي"، و"عليّ" اسم فعل، بمعنى أحضره عندي. زاد في رواية البخاري: "فرجعت إلى صهيب، فقلت: ارتحل، فالحَقْ أمير المؤمنين" (فَلَمَّا دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ، أُصِيبَ عُمَرُ) رضي الله عنه، أي أصيب بالطعن، طعنه أبو لؤلؤة عبد للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وسبب ذلك ما رواه ابن سعد في "الطبقات" بإسناد صحيح إلى الزهري، قال: "كان عمر رضي الله عنه لا يَأذَن لسبي قد احتلم في دخول المدينة، حتى كتب المغيرة بن شعبة، وهو على الكوفة، يذكر له غلاما عنده صانعًا، ويستأذنه أن يُدخله المدينة، ويقول: إن عنده أعمالًا تنفع الناس، إنه حدّاد، نقّاش، نجّار، فأذن له، فضرب عليه المغيرة كلَّ شهر مائة، فشكى إلى عمر شدّة الخراج، فقال له: ما خراجك بكثير في جنب ما تعمل، فانصرف ساخطًا، فلبث عمر ليالي، فمرّ به العبد، فقال: ألم أُحَدَّث بأنك تقول: لو أشاء لصنعت رحًى، تَطحَن بالريح؟، فالتفت إليه عابسًا، فقال: لأصنعنّ لك رحى يتحدّث الناس بها، فأقبل عمر على من معه، فقال: توعّدني العبد، فلبث ليالي، ثم اشتمل على خنجر ذي رأسين نصابه وسطه، فكمن في زاوية من زوايا المسجد في الغلس حتى خرج عمر يوقظ الناس:"الصلاة الصلاة"، وكان عمر يفعل ذلك، فلما دنا منه عمر وثب إليه، فطعنه ثلاث طعنات، إحداهنّ تحت السرّة، قد خرقت الصفاق
(1)
، وهي التي قتلته".
وفي حديث أبي رافع: "كان أبو لؤلؤة عبدا للمغيرة بن شعبة، وكان يستغلّه أربعة دراهم -أي كلّ يوم- فلقي عمر، فقال: إن المغيرة أثقل عليّ، فقال: اتق اللَّه، وأحسن
(1)
"الصِّفَاق" ككتاب: الجلد الذي عليه الشعر، أو ما بين الجلد والْمُصْرَان، أو جلد البطن كله. قاله في "ق". ص 810 - 811.
إليه، ومن نيّة عمر أن يَلقَى المغيرةَ، فيكلّمه، فيخفّف عنه، فقال العبد: وَسِعَ الناسَ عدلُهُ غيري، وأضمر على قتله، فصنع له خنجرًا، له رأسان، وسَمَه، فتحرّى صلاة الغداة حتى قام عمر، فقال: أقيموا صفوفكم، فلما كبر طعنه في كتفه، وفي خاصرته، فسقط". وعند مسلم من طريق معدان بن أبي طلحة:"أن عمر خطب، فقال: رأيت ديكًا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلا حضور أجلي"، وزاد في رواية:"فما مرّ إلا تلك الجمعة، حتى طُعن".
وقد ساق البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- قصة قتله رضي الله عنه في "صحيحه" مطولة فقال:
3700 -
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن حصين، عن عمرو بن ميمون، قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قبل أن يُصاب بأيام بالمدينة، وقف على حذيفة بن اليمان، وعثمان بن حنيف، قال: كيف فعلتما، أتخافان أن تكونا، قد حملتما الأرض
(1)
ما لا تطيق، قالا: حَمَّلْناها أمرا، هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل، قال: انظرا، أن تكونا حملتما الأرض، ما لا تطيق، قال: قالا: لا، فقال عمر: لئن سلمني اللَّه، لأدعن أرامل أهل العراق، لا يحتجن، إلى رجل بعدي أبدا، قال: فما أتت عليه إلا رابعة، حتى أصيب، قال: إني لقائم، ما بيني وبينه، إلا عبد اللَّه بن عباس، غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين، قال: استووا، حتى إذا لم ير، فيهن خللا، تقدم، فكبر، وربما قرأ سورة يوسف، أو النحل، أو نحو ذلك، في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، فما هو، إلا أن كبر، فسمعته يقول: قتلني، أو أكلني الكلب، حين طعنه، فطار العِلْج
(2)
بسكين، ذات طرفين، لا يمر على أحد، يمينا ولا شمالا، إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين، طرح عليه بُرْنُسا، فلما ظن العلج أنه مأخوذ، نحر نفسه، وتناول عمرُ يد عبد الرحمن بن عوف، فقدمه، فمن يلي عمر، فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد، فإنهم لا يدرون، غير أنهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان اللَّه، سبحان اللَّه، فصلى بهم عبدالرحمن، صلاة خفيفة، فلما انصرفوا، قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعة، ثم جاء، فقال: غلام المغيرة، قال: الصَّنَعُ؟ قال: نعم، قال: قاتله اللَّه، لقد أمرت به معروفا، الحمد للَّه الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل، يَدَّعي الإسلام، قد كنتَ أنت وأبوك، تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس، أكثرهم رقيقا، فقال: إن شئت فعلتُ، أي إن شئت قتلنا، قال: كذبتَ، بعد ما تكلموا بلسانكم، وصلَّوا قبلتكم، وحجوا حجكم، فاحتُمل إلى بيته، فانطلقنا معه،
(1)
-هي أرض السواد، بعثهما إليها يضربان عليها الخراج، وعلى أهلها الجزية.
(2)
-بكسر، فسكون: الرجل من كفار العجم، جمعه عُلُوج، وأعلاج. "ق".
وكأن الناس، لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ، فشربه، فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن، فشربه، فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس، فجعلوا يُثنون عليه، وجاء رجل شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين، ببشرى اللَّه لك، من صحبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقدم في الإسلام، ما قد علمتَ، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، قال: وددت أن ذلك كفاف، لا علي، ولا لي، فلما أدبر، إذا إزاره يمس الأرض، قال: رُدُّوا عليّ الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك، فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك، يا عبد اللَّه بن عمر، انظر ما علي من الدين، فحسبوه، فوجدوه ستة وثمانين ألفا، أو نحوه، قال: إن وفى له مال آل عمر، فأدَّه من أموالهم، وإلا فسل فى بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم، فسل في قريش، ولا تَعْدُهم إلى غيرهم، فأدِّ عني هذا المال، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يَقرَأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب، أن يدفن مع صاحبيه، فسلَّمَ، واستأذَنَ، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرن به اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبد اللَّه بن عمر، قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب، يا أمير المؤمنين أذنت، قال: الحمد للَّه، ما كان من شيء، أهمّ إليّ من ذلك، فإذا أنا قضيت، فاحملوني، ثم سلم، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي، فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة، والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه، فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال، فولجتُ داخلا لهم، فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف، قال: ما أجد أحدا أحق بهذا الأمر، من هؤلاء النفر، أو الرهط الذين توفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راض، فسمى عليا، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعدا، وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم عبد اللَّه بن عمر، وليس له من الأمر شيء، كهيئة التعزية له، فإن أصابت الإمرة سعدا، فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أُمّر، فإني لم أعزله عن عجز، ولا خيانة، وقال: أوصي الخليفة من بعدي، بالمهاجرين الأولين، أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرا، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية [الحشر: 9]، أن يُقبَل من محسنهم، وأن يُعفَى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا، فإنهم رِدْءُ الإسلام، وجُبَاة المال، وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم، إلا فضلهم، عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرا،
فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم، ويرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة اللَّه، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم، فلما قُبض خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلم عبد اللَّه بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: أدخلوه، فأدخل، فوضع هنالك، مع صاحبيه، فلما فُرغ من دفنه، اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر، فنجعله إليه، واللَّه عليه والإسلام، لينظرن أفضلهم في نفسه، فأسكت الشيخان، فقال عبدالرحمن: أفتجعلونه إليّ؟ واللَّه علي أن لا آلُوَ عن أفضلكم، قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما، فقال: لك قرابة من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والقدم في الإسلام، ما قد علمت، فاللَّهُ عليك لئن أمّرتك، لتعدلن، ولئن أمّرت عثمان، لتسمعن، ولتطيعن، ثم خلا بالآخر، فقال له: مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق، قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه، فبايع له علي، وولج أهل الدار، فبايعوه انتهى
(1)
.
(فَجَلَسَ صُهَيْبٌ يَبْكِي عِنْدَهُ) جملة في محل نصب على الحال (يَقُولُ) بدل اشتمال من "يبكي"، أو حال، فيكون من الأحوال المترادفة، أو المتداخلة (وَا أُخَياهُ، وَا أُخَياهُ) لفظة "وا" للندبة، والألف في آخره زيدت للندبة، لتويل الصوت، والهاء للسكت، و"أُخَيَّا" بصيغة التصغير. ولفظ البخاريّ:"وا أخاه، وا صاحباه"(فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ، لَا تَبْكِ) قال السنديّ رحمه الله: خاف أن يفضي بكاؤه إلى البكاء بعد الموت، وإلا فالحديث في البكاء بعد الموت انتهى. وفي رواية البخاريّ: يا صهيب، أتبكي علي، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن الميت
…
" (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ، بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ") قيّده ببعض البكاء، فَيُحمَل على ما فيه نوح، وندبة، جمعًا بين الأحاديث، وقيل: المراد بالبعض ما يكون من وصيته، وقد تقدم تمام البحث في هذا، فلا تغفُل (قَالَ) أي ابن عباس رضي الله عنهما (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ) ولفظ البخاريّ: "فقال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرتُ ذلك لعائشة، فقالت: يرحم اللَّه عمر، لا، واللَّه ما حدّث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن اللَّه يعذّب المؤمن ببكاء أحد".
قال النووي رحمه الله في "شرحه": في هذا جواز الحلف بغلبة الظنّ بقرائن، وإن لم يقطع الإنسان، وهذا مذهبنا، ومِنْ هذا قالوا: له الحلف بدين رآه بخط أبيه الميت على
(1)
- انظر "صحيح البخاري" بنسخة "الفتح" ج 7 ص 419 - 421.
فلان، إذا ظنه.
فإن قيل: فلعلّ عائشة لم تحلف على ظنّ، بل على علم، وتكون سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أجزاء حياته. قلنا: هذا بعيد من وجهين:
أحدهما: أن عمر، وابن عمر سمعاه صلى الله عليه وسلم يقول:"يعذّب ببكاء أهله". والثاني: لو كان كذلك لاحتجّت به عائشة، وقالت: سمعته في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، ولم تحتجّ به، إنما احتجّت بالآية. واللَّه أعلم انتهى
(1)
.
(فَقَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ، مَا تُحَدِّثُونَ هَذَا الحَدِيثَ، عَنْ كَاذِبَيْنِ، مُكَذَّبَينِ) اسم مفعول من كذّبه مضعّفًا: إذا نسبه إلى الكذب، تعني أنهما لا يكذبان قصدًا، ولا يَنسُبُهما أحد إلى الكذب (وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ) تعني أن هذا مما أخطأ فيه سمعهما (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرْآنِ، لَمَا يَشْفِيكُمْ) أي يزيل إشكالكم في هذه المسألة، وهو قوله تعالى {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]، "أن" مخففة من الثقيلة، أدغمت في "لا" النافية، واسمها ضمير مقدر، وخبرها الجملة المنفية، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة"، حيث قال: وَإنْ تُخَفَّفْ "أَن" فَاسْمُهَا اسْتَكَنْ
…
وَالْخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلَة مِنْ بَعْدِ "أَنْ"
والمعنى أنه لا تحمل نفس وازرة وزر نفس أخرى (وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) يحتمل أن تشدد نون "لكن"، و"رسولُ اللَّه" اسمها، وأن تخفف، وما بعدها مبتدأ وخبر (قَالَ:"إِنَّ اللَهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا، ببُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" زاد في رواية الشّيخين: "وقالت: حسبكم القرآن: {وَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، قال ابن عباس رضي الله عنهما عند ذلك: واللَهُ {هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} ، قال ابن أبي مليكة: واللَّه ما قال ابن عمر رضي الله عنهما شيئًا انتهى.
قال في "الفتح": قوله: قال ابن عباس الخ: أي عند انتهاء حديثه عن عائشة: واللَهُ {هُوَ أَضحَكَ وَأَبكى} أي إن العَبْرة لا يملكها ابن آدم، ولا تسبب له فيها، فكيف يعاقب عليها، فضلا عن الميت. وقال الداوديّ: معناه أن اللَّه تعالى أَذِنَ في الجميل من البكاء، فلا يُعذِّب على ما أذن فيه. وقال الطيبي: غرضه تقرير قول عائشة، أي أن بكاء الإنسان، وضحكه من اللَّه يظهر فيه، فلا أثر له في ذلك انتهى.
وقوله: "ما قال ابن عمر شيئا" قال الطيبي وغيره: ظهرت لابن عمر الحجة، فسكت مُذعِنا. وقال الزين ابن المنير: سكوته لا يدلّ على الإذعان، فلعله كره المجادلة في ذلك المقام. وقال القرطبيّ: ليس سكوته لشكّ طرأ له بعد ما صرّح برفع الحديث، ولكن احتمل عنده أن يكون الحديث قابلا للتأويل، ولم يتعيّن له محمل يحمله عليه إذ
(1)
- "شرح مسلم" ج 6 ص 471.
ذاك، أو كان المجلس لا يقبل المماراة، ولم تتعين الحاجة إلى ذلك حينئذ. ويحتمل أن يكون ابن عمر فهم من استشهاد ابن عباس بالآية قبول روايته، لأنها يمكن أن يُتمسَّك بها في أن للَّه أن يعذّب بلا ذنب، فيكون بكاء الحي علامة لذلك، أشار إلى ذلك الكرماني. انتهى
(1)
.
والحديث أخرجه البخاريّ، وقد مرّ تخريجه برقم 1848 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
16 - بَابُ الرُّخْصَةِ فِي الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيّتِ
1859 -
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الأَزْرَقِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَاتَ مَيِّتٌ، مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ، يَبْكِينَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ يَنْهَاهُنَّ، وَيَطْرُدُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«دَعْهُنَّ يَا عُمَرُ، فَإِنَّ الْعَيْنَ دَامِعَةٌ، وَالْقَلْبَ مُصَابٌ، وَالْعَهْدَ قَرِيبٌ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(علي بن حجر) المروزي، ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 13.
2 -
(إسماعيل بن جعفر) بن أبي كثير المدني، نزيل بغداد، ثقة ثبت [8] 16/ 17.
3 -
(محمد بن عمرو بن حَلْحَلة) -بمهملتين بينهما لام ساكنة- الديليّ المدني، ثقة [6].
وثقه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان ذا هيئة، ملازما للمسجد، وكذا قال ابن سعد. روى له الجماعة، سوى الترمذي، وابن ماجه، وله عند المصنف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط.
(1)
- "فتح" ج 3 ص 507.
4 -
(محمد بن عمرو بن عطاء) القرشيّ العامريّ المدنيّ، ثقة [3] تقدم 96/ 1039.
5 -
(سلمة بن الأزرق) الحجازيّ مقبول [3].
لم يرو عنه غير محمد بن عمرو، قال ابن القطان: لا يعرف حاله، ولا أعرف أحدًا من المصنفين في كتب الرجال ذكره. وقال الذهبي في "المغني" 1/ 274: لا يُعرَف انتهى. انفرد به المصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديث الباب فقط، وسيأتي ترجيح أنه ثقة، إن شاء اللَّه تعالى.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ) القرشي العامري
(1)
(أَنَّ سَلَمَةَ بنَ الْأَزْرَقِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وفي الحديث قصّة ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
5855 -
حدثنا سليمان بن داود، أخبرنا إسماعيل، أخبرنى محمد بن عمرو بن حلحلة، عن محمد بن عمرو بن عطاء بن علقمة، أنه كان جالسا، مع ابن عمر بالسوق، ومعه سلمة بن الأزرق، إلى جنبه، فَمُرَّ بجنازة، يتبعها بكاء، فقال عبد اللَّه بن عمر. لو ترك أهل هذا الميت البكاء، لكان خيرا لميتهم، فقال سلمة بن الأزرق. تقول ذلك يا أبا عبد الرحمن؟، قال: نعم أقوله، قال: إني سمعت أبا هريرة، ومات ميت من أهل مروان، فاجتمع النساء، يبكين عليه، فقال مروان: قم يا عبد الملك، فانَههُنَّ أن يبكين، فقال أبو هريرة. دعهن، فإنه مات ميت من آل النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتمع النساء، يبكين عليه، فقام عمر بن الخطاب ينهاهن، ويطردهن، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: دعهن يا ابن الخطاب، فإن العين دامعة، والفؤاد مصاب، وإن العهد حديث، فقال ابن عمر: أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟، قال: نعم، قال، يأثره عن النبى صلى الله عليه وسلم؟، قال: نعم، قال: فاللَه ورسوله أعلم انتهى
(2)
.
(قَالَ: مَاتَ مَيِّتٌ، مِنْ ألِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) لم أعرف اسمه (فَاجْتَمَعَ النِّسَاء، يَبْكِينَ عَلَيْهِ) جملة في محل نصب على الحال (فَقَامَ عُمَرُ) ابن الخطاب رضي الله عنه (يَنهَاهُنَّ) أي عن البكاء (وَيَطْرُدُهُنَّ) من باب قتل، أي يبعدهنّ من محلّ الميت (فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"دَعْهُنَّ يَا عُمَرُ، فَإِنَّ الْعَيْنَ دَامِعَةٌ) الفاء للتعليل، أي لأن العين دامعة، أي سائل دمعها، يقال: دمعت العينُ دَمْعَا، من باب نَفَعَ، ودَمِعَت دَمَعَا، من تَعِب، لغة فيه. قاله في "المصباح".
(1)
هو محمد بن عمرو بن عطا بن عباس بن علقمة القرشي المدني ثقة من الثالثة، مات في حدود عشرين ومائة. اهـ "ت".
(2)
انظر "المسند" ج 2 ص 110.
قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: فيه أن بكاءهنّ كان بدمع العين، لا بالصياح، فلذلك رخّص في ذلك، وبه يحصل التوفيق بين أحاديث الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب انتهى
(1)
(وَالْقَلْبَ مُصَابٌ) أي أصابه الحزن، وفي نسخة، وهو الذي في "الكبرى""والفؤاد مصاب"، والمعنى واحد (وَالْعَهْدَ قَرِيبٌ) أي وقت مفارقته الميت قريب، بحيث لا يغيب عن ذهنهم، حتى يتسلَّوا عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح.
فإن قلت: كيف يصحّ، وفي سنده سلمة بن الأزرق، وهو مجهول، كما تقدّم في ترجمته؟
قلت: بل هو ثقة، بدليل أن ابن عمر رضي الله عنهما اعتمد على روايته عن أبي هريرة رضي الله عنه هذا الحديث، حتى قال بعد أن استوثق من سماعه من أبي هريرة، وأنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ما نصه: فاللَّه ورسوله أعلم، فلو لم يكن ثقة معتمدًا عليه، لما قال ذلك ابن عمر رضي الله عنهما.
قال العلامة أحمد محمد شاكر -رحمه اللَّه تعالى- فيما كتبه على "مسند الإمام أحمد" -رحمه اللَّه تعالى- عند تخريجه لهذا الحديث: ما ملخّصه: ونحن نرجّح جدّا أنه ثقة، لأن محمد بن عمرو بن عطاء شهد مجلسه من ابن عمر، وروايته لابن عمر حديث أبي هريرة، وسؤال ابن عمر إياه، مستوثقًا من سماعه من أبي هريرة ما حدّثه عنه، ومن رفع أبي هريرة للحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جواب ابن عمر بعد أن استوثق منه بقوله:"فاللَّه أعلم"، تسليمًا منه بصحة الرواية، وهو صريحٌ في ثقة ابن عمر بهذا الرجل، وعدله، وصدقه، فلو كان مجروحًا عنده، أو متهمًا في صدقه، وفي معرفته بما يروي لَمَا قَبِلَ منه روايته، ولردّها عليه، إن شاء اللَّه، وهذا واضح بيّن انتهى كلام ابن شاكر -رحمه اللَّه تعالى- باختصار
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قال العلامة أحمد شاكر -رحمه اللَّه تعالى- كلام نفيس جدًّا.
وحاصله أن سلمة بن الأزرق تابعي ثقة معروف عند ابن عمر، فلا شكّ في كون هذا
(1)
- (شرح السندي) ج 4 ص 19.
(2)
- انظر تحقيق أحمد شاكر للمسند ج 8 ص 149.
الحديث صحيحًا، على أن للحديث شواهد كثيرة، سنوردها في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-16/ 1859 - وفي "الكبرى" 16/ 1986 وأخرجه (ق) 1587 و (أحمد) 5855 و 7634 و 8196 و 9038 و9438 واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في ذكر شواهد حديث الباب من الأحاديث التي وردت بإباحة البكاء على الميت:
فمنها: حديث جابر رضي الله عنه في قصّة استشهاد أبيه في غزوة أحد، وقد تقدم للمصنف برقم 12/ 1842، وهو متفق عليه.
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال. "زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى، وأبكى من حوله .... " الحديث. أخرجه مسلم رقم 2256.
ومنها: حديث أنس: رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه لَمّا جعل ابنه إبراهيم في حجره، وهو يجود بنفسه، فقيل في ذلك؟ فقال. "إنها رحمة"، ثم قال:"العين تدمع، والقلب يَحزَن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا". متفق عليه.
وهو عند الترمذيّ، وحسّنه من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف، فانطلق به إلى ابنه إبراهيم، فوجده يجود بنفسه، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، فوضعه في حجره، فبكى، فقال له عبدالرحمن: أتبكي، أوَ لم تكن نهيت عن البكاء؟ فقال: "لا، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة، خَمْش وجوه
(1)
، وشَقّ جيوب، ورنّة شيطان".
ومنها: حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقبّل عثمان بن مظعون، وهو ميت، حتى رأيت الدموع تسيل". أخرجه أبو داود بإسناد صحيح، والترمذي رقم 989، وقال: حديث حسن صحيح. ومنها: ما أخرجه أحمد، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: لما مات عثمان بن مظعون، قالت امرأة: هنيئا لك الجنة عثمانَ بنَ مظعون، فنظر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إليها، نظر غضبان، فقال: "وما يدريك"، قالت: يا رسول اللَّه فارسك، وصاحبك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "واللَّه إني رسول اللَّه، وما أدري ما يفعل بي"، فأشفق الناس على عثمان، فلما ماتت زينب ابنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الحقي بسلفنا الصالح الخير، عثمان بن مظعون، فبكت النساء، فجعل عمر، يضربهن بسوطه، فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيده، وقال:"مهلا يا عمر"، ثم
(1)
- هكذا نسخة الترمذي، ولعله سقط منه العاطف، واللَّه تعالى أعلم.
قال: "ابكين، وإياكن، ونعيق الشيطان"، ثم قال:"إنه مهما كان من العين والقلب، فمن اللَّه عز وجل، ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان، فمن الشيطان" انتهى.
قال الحافظ أبو بكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" ج 3/ 17: وفيه علي بن زيد، وفيه كلام، وهو موثّق انتهى.
ومنها: ما أخرجه أحمد في "مسنده" عن عائشة: أن سعد بن معاذ لما مات حضره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، قالت: فوالذي نفسي بيده، لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر، وأنا في حجرتي انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الأحاديث شواهد لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في الباب.
والحاصل أن حديث الباب صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الرابعة: في أقوال أهل العلم في حكيم البكاء على الميت:
قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح المهذب": قال الشافعيّ، والأصحاب: البكاء على الميت جائز قبل الموت وبعده، ولكن قبله أولى، لحديث جابر بن عَتِيك رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد اللَّه بن ثابت
…
الحديث، وقد تقدّم للنسائي 14/ 1846.
ولفظ الشافعيّ في "الأمّ": وأُرخص في البكاء قبل الموت، فإذا مات أمسكن. وقال صاحب "الشامل" وطائفة: يكره البكاء بعد الموت، لظاهر الحديث في النهي، ولم يقل الجمهور: يكره، وإنما قالوا: الأولى تركه، قالوا: وهو مراد الحديث، ولفظ الشافعيّ محتمل، هذا كلّه في البكاء بلا ندب، ولا نياحة
(1)
، أما الندب والنياحة، ولَطْم الخدود، وشقّ الجيب، وخَمْش الوجه، ونَشْرُ الشَّعْر، والدعاء بالويل والثبور، فكلها محرّمة باتفاق الأصحاب، وصرّح الجمهور بالتحريم، ووقع في كلام بعضهم لفظ الكراهة، وكذا وقع لفظ الكراهة في نصّ الشافعي في "الأم"، وحَمَلَها الأصحاب على كراهة التحريم، وقد نقل جماعةٌ الإجماعَ في ذلك. قال إمام الحرمين رحمه الله: ورَفعُ الصوت بإفراط في معنى شقّ الجيب، قال غيره: هذا إذا كان مختارًا، فإن كان مغلوبًا لم يُؤاخَذ به، لأنه غير مكلّف، وأما قول الشافعيّ رحمه الله في "الأمّ": وأكره المآتم، وهي الجماعة، وإن لم يكن لهم بكاء، فمراده الجلوس للتعزية. انتهى كلام النووي -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
.
(1)
- "الندب": تعديد محاسن الميت مع البكاء، كقولها: واجبلاه، واسنداه، واكريماه، ونحوها. و"النياحة": رفع الصوت بالندب. اهـ "المجموع" ج 5 ص 280.
(2)
- انظر "المجموع" ج 5 ص 280 - 281.
وقال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى- في "التمهيد": وفي نهي جابر بن عتيك للنساء عن البكاء دليل على أنه قد كان سمع النهي عن ذلك، فتأوّله على العموم، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: دعهن -يعني يبكين حتى يموت، ثم لا تبكينّ باكية- يريد واللَّه أعلم لا تبكينّ نياحًا، ولا صِيَاحًا بعد وجوب موته، وعلى هذا جمهور الفقهاء أنه لا بأس بالبكاء على الميت، ما لم يُخلَط ذلك بنُدْبة، وبنياحة، وشقّ جيب، ونشر شَعْرٍ، وخَمْش وجه. قال ابن عباس رضي الله عنهما في مثل هذا من بكاء العين، دون نياحة: اللَّهُ أضحك، وأبكى.
وقال في "الاستذكار": ما حاصله: الصِّيَاح، والنَّيَاحة لا يجوز شيء منه بعد الموت، وأما دمع العين، وحزن القلب، فالسنّة ثابتة بإباحته، وعليه جماعة العلماء.
بكى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على إبراهيم ابنه، وقال:"إنها رحمة". أخرجه مسلم. وبكى على زينب ابنته، فقيل له: تبكي؟ فقال: "إنما هي رحمة، جعلها اللَّه في قلوب عباده".
أخرجه أبو داود. وعن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى جعفرًا، وزيدًا، وابن رواحة، نعاهم قبل أن يجيء خبرهم، وعيناه تَذْرِفَان". أخرجه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه:"زار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى، وأبكى مَن حوله". أخرجه مسلم. ورى أبو إسحاق السبيعيّ، عن عامر بن سعد البجليّ، عن أبي مسعود الأنصاريّ، وثابت ابن زيد، وقَرَظَة بن كعب، قالوا: رُخّص لنا في البكاء على الميت من غير نَوْح.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النَّوْح من حديث عمر، وعليّ، والمغيرة، وأم عطية، وأم سلمة، وأبي مالك الأشعريّ، وأبي هريرة، وغيرهم رضي الله عنه. وأجمع العلماء على أن النياحة لا تجوز للرجال والنساء، ورخّص الجمهور في بكاء العين في كلّ وقت.
وقد أخرج أحمد، وابن ماجه، واللفظ لأحمد بإسناد صحيح، عن عبد اللَّه بن عمر، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لما رجع من أحد، سمع نساء الأنصار، يبكين على أزواجهن، فقال:"لكن حمزة لا بواكي له"، فبلغ ذلك نساء الأنصار، فجئن يبكين على حمزة، قال: فانتبه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الليل، فسمعهن، وهن يبكين، فقال: ويحهن، لم يزلن يبكين بعدُ، منذ الليلة، مُرُوهن، فليرجعن، ولا يبكين على هالك بعد اليوم".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مُرّ على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة يُبكَى عليها، وأنا معه، وعمر ابن الخطاب
…
- الحديث المذكور في الباب-. انتهى كلام الحافظ أبي عمر -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
(1)
- "الاستذكار" ج 8 ص 312 - 314.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: تبيّن بما ذُكر من الأحاديث، وأقوال أهل العلم، أن البكاء على الميت مباح مطلقا، قبل الموت، وبعده، إذا خلا عن النياحة، وشَقِّ الجيب، وخَمْش الوجه، ونحو ذلك، مما ورد النهي عنه، وستأتي الأحاديث في ذلك في الأبواب التالية، إن شاء اللَّه تعالى.
ومنه يؤخذ الجمع بين الأحاديث الواردة في النهي عن البكاء، وإباحته.
وحاصله أن أحاديث النهي عن البكاء مطلقًا، ومقيّدًا بما بعد الموت تحمل على البكاء الذي يفضي إلى ما لا يجوز، من النوح، والصُّرَاخ، وغير ذلك، وأحاديث الإباحة تحمل على مجرّد البكاء الذي هو دمع العين، وما لا يمكن دفعه من الصوت، وقد أشار إلى هذا الجمع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدّم: "ولكن نهيت عن صوتين
…
". وقوله في حديث ابن عباس المتقدّم: "إنه مهما كان من العين والقلب، فمن اللَّه عز وجل، ومن الرحمة
…
". وقوله في حديث ابن عمر السابق: "إن اللَّه لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب
…
". فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبكين على هالك بعد اليوم"، وقوله: "فإذا وجب فلا تبكين باكية" النهي عن البكاء الذي يصحبه شيء مما حرّمه الشارع، هذا هو الجمع الصحيح.
وقيل: إنه يُجمَع بأن الإذن بالبكاء قبل الموت، والنهي عنه بعده. ويرده ما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في الباب، من قصّة زجر عمر للباكيات. وحديث عائشة رضي الله عنها في قصّة موت سعد بن معاذ، وبكاء أبي بكر وعمر رضي الله عنه المتقدّم، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند زيارة قبر أمه، وحديث جابر رضي الله عنه في قصة استشهاد أبيه، وبكاء عمته عليه، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة بكاء النساء على زينب ابنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكلها وقعت بعد الموت، فليُتنبّه.
وقيل: يجمع بحمل النهي عن البكاء بعد الموت على الكراهة، وقد تقدّم نقله عن الإمام الشافعي رحمه الله، لكن حمله أصحابه على كراهة التحريم.
والحاصل أن الجمع الأول هو الراجح، كما قاله العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- انظر "نيل الأوطار" ج 4 ص 123 - 124.
17 - دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أفرد هذا القدر بترجمة ليشعر بأن النفي الذي حاصله التبرّي يقع بكلّ واحدة من الخصال المذكورات في الحديث، لا بمجموعها، ويؤيّد ذلك رواية مسلم بلفظ:"أو شقّ الجيوب، أو دعا الخ". أفاده في "الفتح"
(1)
.
والدَّعْوى- بالفتح مقصورًا - مصدر دَعَا، كالدُّعاء. يقال: دعوت زيدًا أدعوه دعاءً ودَعْوَى: ناديته، وطلبت إقباله، ودعوت اللَّهَ: ابتهلت إليه بالسؤال، ورغبت فيما عنده من الخير. والمناسب هنا المعنى الأول.
وجمع الدَّعْوَى الدعَاوي بكسر الواو، وفتحها، قال بعضهم. الفتح أولى، لأن العرب آثرت التخفيف، ففتحت، وحافظت على ألف التأنيث التي بُني عليها المفرد، وبه يُشعر كلام أبي العباس أحمد بن ولاّد، ولفظه: وما كان على فُعْلَى بالضمّ، أو الفتح، أو الكسر، فجمعه الغالب الأكثر فَعَالَى بالفتح، وقد يكسرون اللام في كثير منه. وقال بعضهم. الكسر أولى، وهو المفهوم من كلام سيبويه، لأنه ثبت أن ما بعد ألف الجمع لا يكون إلا مكسورًا، وما فُتح منه فمسموع، لا يُقاس عليه، لأنه خارج عن القياس.
أفاده في "المصباح".
والمراد من الجاهلية زمن الفترة التي قبل الإسلام، والمراد بدعوى الجاهلية أن يدعو عند البكاء بالويل، والثبور، أو أن يقول: واكهفاه، واجبلاه، ونحو ذلك، مما كان يقوله الجاهلية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1860 -
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ الأَعْمَشِ ح أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدُعَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ» . وَاللَّفْظُ لِعَلِيٍّ، وَقَالَ الْحَسَنُ:«بِدَعْوَى» .
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(علي بن خَشْرم) المروزيّ، ثقة، من صغار [10] 8/ 8.
2 -
(الحسن بن إسماعيل) المُجَالديّ المصّيصيّ، ثقة [10] 26/ 432.
3 -
(عيسى) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي، ثقة مأمون [8] 8/ 8.
(1)
- "فتح" ج 3 ص 512.
4 -
(ابن إدريس) عبد اللَّه الأودي الكوفي الثقة الفقيه العابد [8] 85/ 102.
5 -
(الأعمش) سليمان بن مهران الإمام الحجة الشهير [5] 17/ 18.
6 -
(عبد اللَّه بن مُرّة) الهمدانيّ الخارفيّ -بمعجمة، وراء، وفاء- الكوفيّ، ثقة [3].
وثقه ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ، والعجليّ، وابن حبّان. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. وقال عمرو بن عليّ: سنة (100) وأرخه ابن قانع سنة (99) روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب تسعة أحاديث.
7 -
(مسروق) بن الأجدع الهمدانيّ الكوفي المخضرم، ثقة ثبت [2] 90/ 112.
8 -
(عبد اللَّه) بن مسعود رضي الله عنه 35/ 39. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه سداسيات المصنف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخيه، فعلي مروزيّ، والحسن مصيصي. وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عبد اللَّه بن مرّة، عن مسروق. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبدِ اللَّهِ) ابن مسعود رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا) أي من أهل سنتنا، وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الرَّدْع عن الوقوع في مثل ذلك، كما يقول الرجل لولده عند معاتبته: لستُ منك، ولستَ منّي، أي ما أنت على طريقتي.
وقال الزين ابن المنيّر رحمه الله: ما ملخّصه. التأويل الأول يستلزم أن يكون الخبر إنما ورد عن أمر وجوديّ، وهذا يُصان كلام الشارع عن الحمل عليه، والأولى أن يقال: المراد أن الواقع في ذلك يكون قد تعرّض لأن يهُجَر، ويُعرض عنه، فلا يَختلط بجماعة السنة، تأديبًا له على استصحابه حاله الجاهليّة التي قبّحها الإسلام، فهذا أولى من الحمل على ما لا يُستفاد منه قدر زائد على الفعل الموجود.
وحُكي عن سُفيان
(1)
أنه كان يكره الخوض في تأويله، ويقول: ينبغي أن يمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر.
وقيل: المعنى ليس على ديننا الكامل، أي أنه خرج من فرع من فروع الدين، وإن
(1)
- هو ابن عيينة، كما بينه النووي في "شرح مسلم" ج 2 ص 291.
كان معه أصله، حكاه ابن العربيّ.
قال الحافظ رحمه الله: ويظهر لي أن هذا النفي يفسّره التبرّي الآتي في حديث أبي موسى رضي الله عنه، حيث قال:"بريء منه النبي صلى الله عليه وسلم "، وأصل البراءة الانفصال من الشيء، وكأنه توعّده بأن لا يُدخله في شفاعته مثلاً. وقال المهلّب: قوله: "أنا بريء"، أي من فاعل ما ذُكر وقت ذلك الفعل، ولم يُرد نفيه عن الإسلام.
وهذا يدلّ على تحريم ما ذُكر من شقّ الجيب، وغيره، وكأن السبب في ذلك ما تضمّنه ذلك من عدم الرضا بالقضاء، فإن وقع التصريح بالاستحلال مع العلم بالتحريم، أو التسخّط مثلاً بما وقع، فلا مانع من حمل النفي على الإخراج من الدين. قاله في "الفتح"
(1)
.
(مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ) ولفظ البخاريّ: "من لَطَمَ الخدود". و"الخدود" جمع خدّ، قال المجد اللغوي رحمه الله: الخدان -بالفتح- والخُدَّان- بالضمّ-: ما جاوز مؤَخَّر العينين إلى منتهى الشِّدْق، أو اللذان يكتنفان الأنف عن يمين وشمال، أو من لدُن المَحْجِر
(2)
إلى اللَّحْيِ، مذكّر انتهى.
وخص الخدْ بذلك لكونه الغالب في ذلك، وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك (وَشَقَّ الْجُيُوبَ) جمع جَيب -بالجيم، والموحّدة- وهو ما يفتح من الثوب ليُدْخَل فيه الرأس، والمراد بشقّه إكمال فتحه إلى آخره، وهو من علامات التسخّط (وَدَعَا بِدُعَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ) في "الكبرى":"بدعاء أهل الجاهلية"، ولمسلم:"بدعوى أهل الجاهلية"، أي من النياحة، ونحوها، وكذا الندبة، كقولهم: واجبلاه، وكذا الدعاء بالويل والثبور، فقد أخرج ابن ماجه، وصححه ابن حبّان، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه:"إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعَنَ الخامشة وجهها، والشّاقّة جيبها، والداعية بالويل والثبور".
ثم إن عمومه يشمل الذكر والأنثى، وتخصيص الإناث في بعض الأحاديث خرج مخرج العادة، فإن هذه الأفعال إنما هي عادتهنّ، لا عادة الذكور، والواو فيهما بمعنى "أو"، فالحكم في كلّ واحد منها، لا في المجموع، لأن كلاّ منها دالّ على عدم الرضا، والتسليم للقضاء.
وقوله (وَاللَّفْظُ لِعَليٍّ) بيّن به اختلاف شيخيه في لفظ الحديث، فاللفظ المذكور هنا لشيخه عليّ بن خشرم، وأما شيخه الحسن بن إسماعيل، فيختلف لفظه عن لفظه قليلاً،
(1)
-ج 3 ص 512 - 513.
(2)
- الْمَحْجِر وزان مجلس، ومِنبَر: الحديقة، ومن العين ما دار بها، وبدا من البرقع، أو ما يظهر من نقابها. اهـ "ق".
كما بيّنه بقوله (وَقَالَ الْحَسَنُ: "بدَعْوَى") والدعاء بالضم، والدعوى بالفتح والقصر مصدران لدعا، يقال: دعوت فَلانًا: إذا ناديته، وطلبت إقباله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-17/ 1860 - و 19/ 1862 و 21/ 1864. وفي "الكبرى" 17/ 1987 و 19/ 1989 و 21/ 1991. وأخرجه (خ) 1297 و 1294 و 1298 (م) 103 (ت) 999 (ق) 1584 (أحمد) 3650 و 3100 و 4203 و 4348 و 4416. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فى فوائده:
منها: تحريم هذه الأشياء المذكورة في هذا الحديث، لأنها مشعرة بعدم الرضا بالقضاء. ومنها: أن هذه الأشياء من صنيع الجاهلية، وأن المسلم يجب عليه الابتعاد من صنيعهم. ومنها: وجوب الرضا بقضاء اللَّه تعالى، والتسليم لأمره، لأنه تعالى أعلم بمصالح عباده منهم، وإنما يبتليهم بالمصائب إما ليكفّر بها عنهم سيئاتهم، وإما ليرفع بها درجاتهم، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]، وقال:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]، فواجب العبد إذا أصيب بمصيبة، أن يسترجع، ويعلم أنه يعوّض من عند اللَّه تعالى خيرًا مما أصيب به، كما قال اللَّه تعالى:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .
وقد أخرج مسلم في "صحيحه" من حديث أم سلمة رضي الله عنها، أنها قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول: ما أمره اللَّه: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلِفْ لي خيرًا منها، إلا أخلف اللَّه له خيرًا منها"، وفي لفظ:"إلا أجره اللَّه في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها".
وأخرج البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"يقول اللَّه تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء، إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة". وأخرج مسلم في "صحيحه"، من حديث صهيب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"قال:"عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيرًا له". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
18 - السَّلْقُ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "السَّلْقُ" بفتح، فسكون، مصدر سَلَقَ، من باب ضرب، ويقال: بالصاد بدل السين. قال ابن منظور -رحمه اللَّه تعالى-: السَّلْقُ: شدة الصوْت، وسَلَقَ لغةٌ في صَلَقَ: أي صاح، قال الأصمعيّ: الصوت الشديد وغيره بالسين، وقال أبو عُبيد. سَلَقَ. يعني رفع صوته عند موت إنسان، أو عند المصيبة، وقيل: هو أن تصُكَّ المرأة وجهها، وتَمْرُسَهُ، والأول أصحّ، ويقال: بالصاد. وقال ابن المبارك: من سَلَقَ: أي خَمَشَ وجهَه عند المصيبة، ومن السَّلْقِ رفعِ الصوتِ قولُهُم: خَطِيب مِسْلَقٌ انتهى كلام ابن منظور باختصار
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1861 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ خَالِدٍ الأَحْدَبِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، قَالَ: أُغْمِىَ عَلَى أَبِي مُوسَى، فَبَكَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَبْرَأُ إِلَيْكُمْ، كَمَا بَرِئَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، "لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ، وَلَا خَرَقَ، وَلَا سَلَقَ".
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلاس البصري الحافظ الثبت [10] 4/ 4.
2 -
(سليمان بن حرب) الأزديّ الواشحيّ البصري، ثم المكيّ، ثقة ثبت [9] 181/ 288.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 26.
4 -
(عوف) بن أبي جميلة الأعرابي البصري، ثقة رمي بالقدر والتشيع [6] 46/ 57.
[تنبيه]: وقع في بعض نسخ "المجتبى": "عمرو" بدل عوف، وهو تصحيف فاحش، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
5 -
(خالد الأحدب) هو: ابن عبد اللَّه بن مُحرز ابن أخي صفوان بن مُحرز المازنيّ البصريّ، صدوق [7].
وثقه العجليّ، وابن حبّان. روى له مسلم، والمصنف، وله في هذا الكتاب هذا
(1)
- "لسان العرب" في مادة سلق.
الحديث فقط.
[تنبيه]: قوله: "الأحدب"، ويقال له أيضًا:"الأثبج"، بمثلثة، بعدها موحدة، وجيم، وهو كما في "ق": العريض الثَّبَج، أو الناتئه، والثَّبَج محرّكةً: ما بين الكاهل إلى الظهر انتهى.
6 -
(صفوان بن مُحرِز) بن زياد، المازنيّ، وقيل: الباهليّ، وقال الأصمعيّ: كان نازلاً في بني مازن، وليس منهم، ثقة عابد [4].
قال أبو حاتم: جليل. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله فضل وَرَع. وقال العجليّ: تابعي بصريّ ثقة. قال الواقديّ: توفي في ولاية بشر بن مروان. وقال ابن حبّان: مات سنة (74) في ولاية عبد الملك، وكان من العبّاد، اتخذ لنفسه سَرَبًا يبكي فيه. وروى محمد بن نصر في "قيام الليل" من طريق يزيد الرقاشي أن صفوان بن مُحرِز كان إذا قام إلى التهجّد قام معه سُكّان داره من الجنّ، فصلَّوا بصلاته. انتهى. لكن يزيد الرقاشي، وهو ابن أبان، مع زهده ضعيف.
روى له الجماعة سوى أبي داود، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
7 -
(أبو موسى الأشعريّ) عبد اللَّه بن قيس الصحابي المشهور رضي الله عنه 3/ 3. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): شيخه هو أحد مشايخ الأئمة السنة الذين رووا عنهما بلا واسطة، وأن فيه رواية الراوي، عن عمه. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ صَفْوَانَ بنِ مُحرِزِ) المازني، أنه (قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى أَبِي مُوسَى) الأشعريّ، وفي رواية "وجع أبو موسى وَجَعًا، فغُشي عليه"(فَبَكَوْا عَلَيْهِ) وفي رواية مسلم من طريق أبي بردة ابن أبي موسى، قال: وجع أبو موسى وجعًا، فغشي عليه، ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله
…
"، وفي رواية له من طريق عبد الرحمن بن يزيد، وأبي بردة بن أبي موسى، قالا: أغمي على أبي موسى، وأقبلت امرأته أم عبد اللَّه تصيح برَنَّة
…
".
قال الحافظ بعد ذكر هذه الاختلافات: فحصلنا على أنها أم عبد اللَّه بنت أبي دومة، وأفاد عمر بن شبّة في "تاريخ البصرة" أن اسمها صفية بنت دمون، وأنها والدة أبي بُردة ابن أبي موسى، وأن ذلك وقع حيث كان أبو موسى أميرًا على البصرة، من قِبَلِ عمر بن
الخطاب رضي الله عنه انتهى.
وهي صحابية هاجرت مع أبي موسى، ذكرها الحافظ، وابن عبد البرّ في الكنى من الصحابيات
(1)
.
(فَقَالَ: أَبْرَأُ إِلَيْكُمْ) وفي رواية مسلم المذكورة: "فلم يستطع أن يردّ عليها شيئًا، فلما أفاق قال: أنا بريء مما برىء منه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم برىء من الصالقة، والحالقة، والشاقّة"، وفي رواية له:"ثم أفاق، قال: ألم تعلمي -وكان يحدّثها- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء ممن حلق، وسلق، وخرق".
قال القرطبي رحمه الله: أصل البراءة الانفصال عن الشيء، والبينونة منه، ومنه البراءة من العيوب والدين، ويحتمل أن يريد به أنه متبرّىء من تصويب فعلهم هذا، أو من العهدة اللازمة له في التبليغ انتهى
(2)
.
وقال النوويّ نقلاً عن القاضي عياض -رحمهما اللَّه تعالى-: قوله: "أنا بريء ممن حلق"، أي بريء من فعلهنّ، أو ما يستوجبن من العقوبة، أو من عهدة ما لزمني من بيانه، وأصل البراءة الانفصال انتهى. قال النووي: ويجوز أن يراد به ظاهره، وهو البراءة من فاعل هذه الأمور، ولا يقدّر فيه حذف انتهى
(3)
.
(كَمَا بَرِئَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، "لَيْسَ مِنَّا) مقول لقول مقدّر، أي قائلاً ليس منّا، فالكلام للنبي صلى الله عليه وسلم، لا لأبي موسى رضي الله عنه (مَنْ حلَقَ) أي الذي حلق شعره عند المصيبة (وَلَا خَرَقَ) أي شقّ ثوبه عند المصيبة (وَلَا سَلَقَ) أي الذي رفع صوته عند المصيبة، ويقال: بالسين والصاد، كما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي موسى رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-18/ 1861 و 1863 و 1865 و 1866 و1867 وأخرجه (خ) 1296 تعليقا (م) 104 (د) 3130 (ق) 1586 (أحمد) 19041 و 19093 و 19119 و 19129 و 19191 و 19230 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
(1)
- راجع "الإصابة" ج13 ص 247.
(2)
- "المفهم" ج 1 ص301 - 302.
(3)
- "شرح مسلم" ج 2 ص 294.
19 - ضَرْبُ الْخُدُودِ
1862 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي زُبَيْدٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» .
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمد بن بشار) بُندار، أبو بكر البصريّ، ثقة حافظ [10] 24/ 27.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطّان الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ الإمام الثبت الحجة [7] 33/ 37.
4 -
(زبيد) بن الحارث اليامي الكوفيّ، ثقة ثبت عابد [6] 37/ 1420.
5 -
(إبراهيم) بن يزيد النخعي الكوفيّ الثقة الفقيه [5] 29/ 33.
6 -
(مسروق) بن الأجدع الهداني الكوفيّ المذكور قبل باب.
7 -
(عبد اللَّه) بن مسعود رضي الله عنه 35/ 39. واللَّه تعالى أعلم.
ومن لطائف هذا الإسناد أن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأنهم كوفيون، إلا شيخه، وشيخ شيخه، فهما بصريان، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
والحديث متفق عليه، وقد تقدم البحث فيه قبل باب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
20 - الْحَلْقُ
1863 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
(1)
جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَيْسٍ، عَنْ أَبِي صَخْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَبِي بُرْدَةَ، قَالَا: لَمَّا ثَقُلَ أَبُو مُوسَى، أَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ تَصِيحُ، قَالَا: فَأَفَاقَ، فَقَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْكِ
(2)
(1)
- وفي نسخة: "أخبرنا"، وفي أخرى:"أنبأنا".
(2)
- وفي نسخة "ألا أخبرك"، وفي أخرى "ألم أخبركم".
أَنِّي بَرِىءٌ مِمَّنْ
(1)
بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَا: وَكَانَ يُحَدِّثُهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«أَنَا بَرِىءٌ مِمَّنْ حَلَقَ، وَخَرَقَ، وَسَلَقَ» .
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أحمد بن عثمان بن حَكيم) الأوديّ الكوفي، ثقة [11] 160/ 252.
2 -
(جعفر بن عون) بن جعفر بن عمرو بن حُريث المخزوميّ، أبو عون الكوفيّ، صدوق [9] 40/ 684.
[تنبيه]: وقع في بعض نسخ "المجتبى" جعفر بن عوف" بالفاء بدل النون، وهو تصحيف فاحش، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
3 -
(أبو العميس) - بصيغة التصغير- عتبة بن عبد اللَّه بن عُتبة بن عبد اللَّه بن مسعود الهُذَليّ المسعوديّ الكوفيّ ثقة [7] 40/ 684.
[تنبيه]: أبو العُمَيس هذا مشهور بكنيته، ذكره الحاكم في أفراد الكنى، يعني أنه لا يشاركه في كنيته أحد. واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(أبو صخرة) ويقال: "أبو صخر" بلاهاء. جامع بن شدّاد المحاربي، الكوفيّ، ثقة [5] 108/ 145.
5 -
(عبد الرحمن بن يزيد) بن قيس النخعيّ، أبو بكر الكوفيّ، ثقة من كبار [3] 37/ 41.
6 -
(أبو بردة) بن أبي موسى الأشعري: اختلف في اسمه، فقيل: الحارث، وقيل: عامر، ثقة [3] 3/ 3.
7 -
(أبو موسى) الأشعريّ رضي الله عنه المذكور قبل باب.
والإسناد كلهم كوفيون، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيين. والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدم البحث فيه قبل باب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- وفي نسخة "مما".
21 - شَقُّ الْجُيُوبِ
1864 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» .
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إسحاق بن منصور) الكوسج، أبو يعقوب المروزيّ ثقة ثبت [11] 72/ 88.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهديّ البصريّ الإمام المشهور [9] 42/ 49.
والباقون تقدّموا قبل باب، وسفيان هو الثوريّ. والحديث متفقٌ عليه، وقد سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1865 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
(1)
، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَبَكَتْ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: لَهَا أَمَا بَلَغَكِ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ ، فَسَأَلْنَاهَا؟ ، فَقَالَتْ: قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ سَلَقَ، وَحَلَقَ، وَخَرَقَ» .
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(محمد بن المثنى) البصريّ الحافظ الثبت [10] 64/ 80.
2 -
(محمد) بن جعفر المعروف بغندر البصريّ، ثقة [9] 21/ 22.
3 -
(شعبة) الإمام المذكور قبل بابين.
[تنبيه]: وقع في بعض النسخ: "سعيد" بدل "شعبة"، وهو غلط، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(منصور) بن المعتمر الكوفي الثقة الثبت [5] 2/ 2.
5 -
(إبراهيم) بن يزيد النخعيّ المذكور قبل باب.
6 -
(يزيد بن أوس) الكوفيّ مقبول [4].
روى عن أبي موسى، وامرأته، وثابت بن قيس النخعي، وعلقمة. وعنه إبراهيم النخعيّ. قال علي بن المديني: نظرت، فإذا قلّ رجل من الأئمة إلا قد حدّث عن رجل، لم يرو عنه غيره. فقال له رجل: فإبراهيم النخعيّ عمن روى عن المجهولين؟
(1)
- وفي نسخة "سعيد" بدل "شعبة"، وهو تصحيف.
قال: روى عن يزيد بن أوس، عن علقمة، فمن يزيد بن أوس؟ لا نعلم أحدًا روى عنه غير إبراهيم. انتهى. وذكره ابن حبان في "الثقات". انفرد به أبو داود، والمصنف، وله عندهما هذا الحديث، وله عند المصنّف حديث آخر تقدّم في "الصلاة" برقم (501).
7 -
(أم ولد أبي موسى) الأشعريّ هي أم عبد اللَّه الآتية في السند التالي، وهي بنت أبي دومة، لها صحبة، وحديث.
8 -
(أبو موسى) الأشعريّ رضي الله عنه 3/ 3.
وقوله: "فبكت أم ولدله"، أراد به زوجته أم عبد اللَّه بنت أبي دومة الآتية في الحديث التالي. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال الحافظ المزّيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف" 13/ 90 في مسند أم عبد اللَّه امرأة أبي موسى الأشعريّ: ما نصّه: حديث: "دخلت على أبي موسى، وهو ثقيل، فذهبت امرأته لتبكي .... " الحديث وفيه: "فلقيت المرأة، فقالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليس منّا من حلق
…
" (د) في "الجنائز عن عثمان، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن يزيد بن أوس، قال دخلت
…
فذكره. (س) فيه عن ابن المثنى، عن غندر، عن شعبة، عن مصور نحوه. وعن هنّاد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن سهم بن منجاب، عن القرثع، قال. لما ثقُل أبو موسى
صاحت امرأته
…
فذكر معناه. رواه زيد بن أبي أُنيسة، عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم النخعيّ، عن ثابت بن قيس، عن أم عبد اللَّه، عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورواه هُشيم، عن عياض بن غنم الأشعريّ، عن امرأة أبي موسى، ولم يسمّها، عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وكتب الحافظ في "النكت الظراف": ما نصّه: رواية جرير ظاهرها أن الحديث من مسند أم عبد اللَّه، ورواية شعبة ظاهرها أن الحديث من مسند أبي موسى، وأن أم عبد اللَّه إنما سمعته منه، كذلك أخرجه النسائيّ، ولفظه: عن يزيد بن أوس، عن أبي موسى أنه أغمي عليه، فبكت أم ولد له، فلما أفاق قال: أما بلغك ما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فسألناها، فقالت: قال: "ليس منا من سلق، وحلق، وخرق"، ثم أخرجه النسائيّ من طريق إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن يزيد بن أوس، عن أم عبد اللَّه امرأة أبي موسى، عن أبي موسى، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
…
فذكره. وقد أخرجه النسائيّ أيضًا من رواية القُرثُع، قال: لما ثقُل أبو موسى صاحت امرأته، فقال: أما علمت ما قال
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قالت: بلى، ثم سكتت، فقيل لها بعد ذلك: أيّ شيء قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قالت: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال
…
فذكرت الحديث. وهذا ظاهره كظاهر رواية جرير وشعبة، ومع ذلك ذكره المزّيّ في مسند أبي موسى. وذكره المزيّ من رواية ثابت ابن قيس، ومن رواية عياض الأشعريّ، كلاهما عن امرأة أبي موسى، عن أبي موسى، وروية ثابت في "فوائد أبي العباس بن نجيح"، ورواية عياض في "معجم الطبرانيّ"، وكلها يدلّ على أن أم عبد اللَّه إنما حمدته عن أبي موسى، فتُحمل الروايات المطلقة على ذلك، والحديث إنما هو من مسند أبي موسى. انتهى "النكت الظراف" 13/ 90 - 91.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: وهذا ظاهره كظاهر رواية جرير، وشعبة. فيه نظر؛ لأنه سبق له أن رواية شعبة ظاهرها أن الحديث من مسند أبي موسى، وأن أم عبد اللَّه إنما سمعته منه. فتنبّه.
وقوله ذكره المزيّ في مسند أبي موسى من رواية قرثع الخ. فيه نظر أيضًا؛ لأنه لم يذكره في مسند أبي موسى، وإنما ذكره في مسند امرأة أبي موسى، نَبَّهَ على هذا بعضهم.
والحاصل أن الأرجح كون الحديث من مسند أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وأن امرأته روته عنه، لا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم.
والحديث صحيح بما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1866 -
أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ
(1)
، امْرَأَةِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ، وَسَلَقَ، وَخَرَقَ» .
رجال هذا الإسناد: ثمانية أيضًا:
1 -
(عبدة بن عبد اللَّه) الصفّار الخزاعيّ البصريّ كوفي الأصل، ثقة [11] 18/ 800.
2 -
(يحيى بن آدم) أبو زكريا الكوفي الثقة الحافظ الفاضل من كبار [9] 1/ 451.
3 -
(إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الكوفيّ، ثقة [6] 75/ 1006.
4 -
(أم عبد اللَّه امرأة أبي موسى) الأشعريّ، بنت أبي دومة، لها صحبة، وحديث.
والباقون تقدموا في الذي قبله. والحديث أيضًا صحيح بما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(1)
وفي نسخة "عن أم لعبد اللَّه".
1867 -
أَخْبَرَنَا هَنَّادٌ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَهْمِ بْنِ مِنْجَابٍ، عَنِ الْقَرْثَعِ، قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ أَبُو مُوسَى، صَاحَتِ امْرَأَتُهُ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتِ، مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: بَلَى. ثُمَّ سَكَتَتْ، فَقِيلَ لَهَا، بَعْدَ ذَلِكَ: أَيُّ شَيْءٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَعَنَ مَنْ حَلَقَ، أَوْ سَلَقَ، أَوْ خَرَقَ.
رجال هذا الإسناد: ثمانية أيضًا:
1 -
(هناد) بن السريّ الكوفيّ، ثقة [10] 23/ 25.
2 -
(أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير البصريّ، ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهم في حديث غيره، من كبار [9] 26/ 30.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مهران الكوفي الإمام الحافظ الثبت [5] 17/ 18.
4 -
(إبراهيم) النخعي المذكور في الذي قبله.
5 -
(سهم بن مِنْجَاب) بن راشد الضّبيّ الكوفيّ، ثقة [6].
قال النسائيّ: ثقة. وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له مسلم، وأبو داود، والترمذيّ في "الشمائل"، والمصنّف، وابن ماجه، له عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
6 -
(قرثع)
(1)
بن أحمد الضبّيّ الكوفيّ، صدوق مخضرم [2] 23/ 1403.
7 -
(أبو موسى) رضي الله عنه المذكور قبله.
وقوله: "لما ثقل: بفتح، فضمّ: أى اشتدّ مرضه.
والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
22 - الأَمْرُ بِالاحْتِسَابِ وَالصَّبْرِ عِنْدَ نُزُولِ الْمُصِيبَةِ
(2)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الاحتساب": مصدر "احتسب"، يقال: احتسب الأجر على اللَّه: ادّخره عنده، لا يرجو ثواب الدنيا، والاسم الحِسْبَة. قاله في
(1)
بفتح القاف، وسكون الراء، وفتح الثاء المثلثة، وِزَانُ أحمد.
(2)
- وفي نسخة "عند المصيبة".
"المصباح". وقال ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى-: الاحتساب من الحَسَب، كالاعتداد من العَد، وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه اللَّه: احتسبه، لأن له حينئذ أن يعتدّ عملَه، فجُعِلَ في حال مباشرة الفعل كأنه معتدّ به، والحِسْبةُ اسم من الاحتساب، كالعدة من الاعتداد، والاحتسابُ في الأعمال الصالحة، وعند المكروهات: هو البِدَار إلى طلب الأجر، وتحصِيلِهِ بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البرّ والقيام بها على الوجه المرسوم فيها، طلبًا للثواب المرجوّة منها انتهى
(1)
.
و"الصبر": مصدر صَبَرَ، يقال: صَبَرتُ صَبْرًا، من باب ضَرَب: حَبَسْتُ النفس عن الْجَزَع. ذكره في "المصباح". وقال في "الفتح": وأحسن ما وصف به الصبر أنه حبس النفس عن المكروه، وعقد اللسان عن الشكوى، والمكابدة في تحمله، وانتظار الفرج، وقد أثنى اللَّه تعالى على الصابرين في عدّة آيات. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفًا:"اليقين الإيمان كلّه، والصبر نصف الإيمان"، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "الزهد" مرفوعًا، ولا يصحّ رفعه.
وقال الراغب: الصبر الإمساك في ضيق، صبرتُ الشيءَ حبستُهُ، فالصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل، أو الشرع، وتختلف معانيه بتعلقاته، فإن كان عن مصيبة، سمي صبرًا فقط، وإن كان في لقاء عدوّ سمي شجاعةً، وإن كان عن كلام سمي كتمانًا، وإن كان عن تعاطي ما نهُي عنه سمي عفّةً انتهى
(2)
.
و"المصيبة": الشدّة النازلة، وجمعها المشهور مَصَائب، قالوا: والأصل مَصَاوب، وقال الأصمعيّ: قد جمُعت على لفظها بالألف والتاء، فقيل: مصيبات، قال: وأرى أن جمعها على مَصَائب من كلام أهل الأمصار. ذكره في "المصباح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1868 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: أَرْسَلَتْ بِنْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ، أَنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ، فَأْتِنَا، فَأَرْسَلَ، يَقْرَأُ السَّلَامَ، وَيَقُولُ:«إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَ اللَّهِ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ، وَلْتَحْتَسِبْ» . فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ، تُقْسِمُ عَلَيْهِ، لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ، وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّبِيُّ، وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ قَالَ:«هَذَا رَحْمَةٌ، يَجْعَلُهَا اللَّهُ، فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» .
(1)
- "النهاية" ج 1 ص 382.
(2)
- راجع "الفتح" ج 13 ص 94.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُويد بن نصر) المروزيّ، ثقة [10] 45/ 55.
2 -
(عبد اللَّه) بن المبارك الإمام الجليل المشهور [8] 32/ 36.
3 -
(عاصم بن سليمان) الأحول البصريّ ثقة [4] 148/ 239.
4 -
(أبو عثمان) عبدالرحمن بن ملّ النهديّ المخضرم الثقة الثبت العابد الكوفيّ [2] 11/ 641.
[تنبيه]: كتب في "الكبرى" عقب هذا الحديث: ما نصّه: قال لنا أبو عبد الرحمن: أبو عثمان هو النهديّ، واسمه عبد الرحمن بن ملّ انتهى
(1)
.
5 -
(أسامة بن زيد) الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما 96/ 120. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف، ورجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم، وأن صحابيه حبُّ رسول صلى الله عليه وسلم وابن حِبِّه رضي الله عنهما. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) النهديّ وفي رواية للبخاري في أواخر "الطبّ" من طريق شعبة، عن عاصم، قال: سمعت أبا عثمان (قَالَ: حَدَّثَنى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ) الصحابيّ ابن الصحابيّ، حبّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وابن حبّه رضي الله عنه، تقدمت ترجمته في 96/ 120 (قَالَ: أَرْسَلَتْ بِنْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هي زينب، كما وقع في رواية أبي معاوية، عن عاصم المذكور في "مصنّف بن أبي شيبة، وكذا ذكره ابن بشكوال
(2)
(إِلَيْهِ، أَنَّ ابْنًا لِي) قيل: هو علي بن أبي العاص بن الربيع، وهو من زينب، كذا كتب الدمياطيّ بخطه في "الحاشية".
قال الحافظ: وفيه نظر
(3)
، لأنه لم يقع مسمّى في شيء من طرق هذا الحديث، وأيضًا فقد ذكر الزبير بن بكّار وغيره، من أهل العلم بالأخبار أن عليّا المذكور عاش حتى ناهز الحُلُم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه على راحلته يوم فتح مكة، ومثل هذا لا يقال:
في حقه صبي عرفا، وإن جاز من حيث اللغة.
قال: ووجدت في "الأنساب" للبلاذريّ أن عبد اللَّه بن عثمان بن عفّان من رقية بنت
(1)
- انظر "السنن الكبرى" ج 1 ص613.
(2)
- انظر "عمدة القاري" ج 6 ص 438.
(3)
- تعقّب العينيّ تعقّب الحافظ على الدمياطيّ، فانظر كلامه في "عمدة القاري" ج 6 ص 438 - 439.
النبي صلى الله عليه وسلم لَمّا مات وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره، وقال:"إنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء".
وفي "مسند البزّار" من حديث أبي هريرة، قال: ثقل ابن لفاطمة، فبعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث الباب، وفيه مراجعة سعد بن عبادة في البكاء، فعلى هذا، فالابن المذكور محسن بن عليّ بن أبي طالب، وقد اتفق أهل العلم بالأخبار أنه مات صغيرًا، في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا أولى أن يفسّر به الابن إن ثبت أن القصّة كانت لصبيّ، ولم يثبت أن المرسلة زينب، لكن الصواب في حديث الباب أن المرسلة زينب، وأن الولد صبيّة، كما ثبت في "مسند أحمد"، عن أبي معاوية، بالسند المذكور، ولفظه:"أُتِي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأمامة بنت زينب"، زاد سعدان بن نصر في الثاني من حديثه، عن أبي معاوية بهذا الإسناد:"وهي لأبي العاص بن الربيع، ونفسها تقعقع، كأنها في شنّ"، فذكر حديث الباب، وفيه مراجعة سعد بن عبادة، وهكذا أخرجه أبو سعيد بن الأعرابيّ في "معجمه"، عن سعدان، ووقع في رواية بعضهم "أُمينة" بالتصغير، وهى أمامة المذكورة، فقد اتفق أهل العلم بالنسب أن زينب لم تلد لأبي العاص إلا عليّا، وأمامة فقط.
وقد استُشكِل ذلك، من حيث إن أهل العلم بالأخبار اتفقوا على أن أمامة بنت أبي العاص من زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة، ثم عاشت عند عليّ حتى قُتل عنها.
ويجاب بأن المراد في حديث الباب: "أن ابنا لي قُبض"، أي قارب أن يُقبض، ويدلّ على ذلك أن في رواية حماد:"أرسلت تدعوه إلى ابنها في الموت"، وفي رواية شعبة:"أن ابنتي قد حُضِرَت"، وهو عند أبي داود من طريقه:"أن ابني"، أو "ابنتي"، وقد قدّمنا أن الصواب قول من قال:"ابنتي"، لا "ابني".
ويؤيدّه ما رواه الطبرانيّ في ترجمة عبد الرحمن بن عوف، في "المعجم الكبير" من طريق الوليد ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جدّه، قال: "استُعِزَّ بأمامة بنت أبي العاص، فبَعَثَت زينب بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إليه، تقول له
…
"، فذكر نحو حديث أسامة، وفيه مراجعة سعد في البكاء، وغير ذلك. وقوله في هذه الرواية: "استُعِزّ" -بضم المثناة، وكسر المهملة، وتشديد الزاي-: أي اشتدّ بها المرض، وأشرفت على الموت.
قال: والذي يظهر لي أن اللَّه تعالى أكرم نبيّه صلى الله عليه وسلم لَمَا سَلَّمَ لأمر ربه، وصبّر ابنته، ولم يملك مع ذلك عينيه من الرحمة، والشفقة، بأن عافى اللَّه ابنة ابنته في ذلك الوقت،
فخَلَصَت من تلك الشدّة، وعاشت تلك المدّة، وهذا ينبغي أن يُذكَر في دلائل النبوّة، واللَّه المستعان انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر في أن الجمع بين هذه الروايات بتعدد الواقعة أولى، من تخطئة الرواية الصحيحة، فالصواب في حديث الباب أن المحتضر "ابن"، لا "ابنة"، كما هو نصّ حديث الباب.
ثم رأيت القسطلاّنيّ نقل عن البرماويّ بأنه جمع بين ذلك باحتمال تعدد الواقعة في بنت، أو بنتين، أرسلت زينب في عليّ، أو أمامة، أو رقيّةُ في عبد اللَّه بن عثمان، أو فاطمة في ابنها محسن بن عليّ انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم.
(قُبِضَ) بالبناء للمفعول، أي قرب من أن يُقبض، أي هو في حالة القبض، ومعالجة الروح، فأطلق القبض مجازًا، باعتبار أنه في حالة كحالة النزع (فَأْتِنَا، فَأَرْسَلَ، يَقْرَأ) بفتح الياء (السَّلَامَ) بالنصب مفعول، ومتعلِّقُهُ محذوف: أي عليها، لأنه يتعدى إلى المفعول الثاني بـ "على". يقال: قرأت على زيد السلامَ، أقرؤه عليه، قراءةً، وإذا أمرت منه قلتَ: اقْرَأْ عليه السلام، قال الأصمعيّ: وتعديته بنفسه خطأ، فلا يقال: اقْرَأْه السلامَ، لأنه بمعنى اتلُ عليه، وحكَى ابن القطّاع أنه يتعدّى بنفسه، رباعيًا، فيقال: فلان يُقرِئك السلامَ. قاله في "المصباح". ورواية البخاريّ "يُقرىء" بضم الياء، وجملة "يقرأ" حال من فاعل "أرسل"(وَيَقُولُ) تسليةً لها (إِنَّ لِلهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى) أي فلا حيلة إلا الصبر، وقدّم ذكر الأخذ على الإعطاء، وإن كان متأخرًا في الواقع، لأن المقامَ يقتضيه، والمعنى أن الذي أراد أن يأخذه هو الذي كان أعطاه، فإن أخذه أخذ ما هو له، فلا ينبغي الجزع، لأن مُستَودَعَ الأمانة لا ينبغي له أن يجزع إذا استعيدت منه. ويحتمل أن يكون المراد بالإعطاء إعطاء الحياة لمن بقي بعد الميت، أو ثوابهم على المصيبة، أو ما هو أعمّ من ذلك. أفاده في "الفتح".
وقال النووي رحمه الله: قوله: "إن للَّه ما أخذ": معناه الحثّ على الصبر، والتسليم لقضاء اللَّه تعالى، وتقديره أن هذا الذي أُخذ منكم كان له، لا لكم، فلم يأخذ إلا ما هو له، فينبغي أن لا تَجزَعوا، كما لا يجزع من استُرِدّت منه وديعةٌ أو عاريةٌ.
وقوله: "وله ما أعطى": معناه: أن ما وهبه لكم ليس خارجًا عن ملكه، بل هو سبحانه وتعالى يفعل فيه ما يشاء. انتهى
(3)
.
(1)
- "فتح" ج 3 ص 502 - 503.
(2)
- "إرشاد الساري" ج 2 ص 401 ..
(3)
- "شرح مسلم" ج 6 ص 464.
ولفظ "ما" في الموضعين مصدريّة، أي إن للَّه الأخذ والإعطاء، ويحتمل أن تكون موصولة، والعائد محذوف للدلالة على العموم، فعلى الأول التقدير إن للَّه الأخذَ والإعطاءَ، أي أخذ الأولاد، وإعطاءهم، أو ما هو أعمّ من الأولاد، وعلى الثاني إن للَّه الذي أخذه من الأولاد، وله الذي أعطى منهم، أو ما هو أعمّ من ذلك.
(وَكُلُّ شَيْء) أي من الأخذ والإعطاء، أو من الأنفس، أو ما هو أعمّ من ذلك (عِنْدَ اللَّهِ) تعالى (بِأَجَلِ مُسَمَّى) أي مقدّر بأجل معلوم، و"الأجل" يطلق على الحدّ الأخير، وعلى مجموع العمر. وفي نسخة "وكلٌ عنده بأجل مسمّى".
وقال النووي رحمه الله: معنى قوله: "وكل شيء عنده بأجل مسمى": اصبروا، ولا تجزعوا، فمن كل من مات قد انقضى أجله المسمى، فمحال تقدّمه أو تأخّره عنه، فإذا علمتم هذا كله فاصبروا، واحتسبوا ما نزل بكم. وهذا الحديث من قواعد الإسلام المشتملة على جُمَل من أصول الدين، وفروعه، والآداب. واللَّه أعلم انتهى بتصرّف
(1)
. (فَلْتَصْبِرْ، وَلْتَحْتَسِبْ) أي تنوي بصبرها طلب الثواب من ربها، ليُحْسَبَ لها ذلك من عملها الصالح (فأرْسَلَتْ إِلَيهِ) أي أرسلت ابنة النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه مرةً أخرى (تُقْسِمُ عَلَيْهِ) بضمّ التاء، من الإقسام، والجملة في محلّ نصب على الحال، ووقع في حديث عبد الرحمن ابن عوف عند الطبرانيّ أنها راجعته مرتين، وأنه إنما قام في ثالث مرة، وكأنها ألَحَّت عليه في ذلك دفعًا لما يظنه بعض أهل الجهل أنها ناقصة المكانة عنده، أو ألهمها اللَّه تعالى أن حضور نبيه صلى الله عليه وسلم عندها يدفع عنها ما هي فيه من الألم ببركة دعائه، وحضوره، فحقّق اللَّه ظنها
(2)
.
والظاهر أنه امتنع أوّلًا مبالغة في إظهار التسليم لربه، أو ليبيّن الجواز في أن من دُعي لمثل ذلك لم تجب عليه الإجابة، بخلاف الوليمة مثلًا (لَيأْتِيَنَّهَا) بفتح اللام، ونون التأكيد المشددة، والجملة جواب القسم (فَقَامَ) صلى الله عليه وسلم (وَمعه) الواو للحال أي: والحال أن مع النبي صلى الله عليه وسلم (سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بنُ جَبَلِ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرِجَال آخرون) ذُكر منهم في غير هذه الرواية عبادةُ بن الصامت، وأَسامة بن زيد، راوي الحديث، وعبد الرحمن بن عوف (فَرُفِعَ) بالبناء للمفعول، قال في "الفتح": كذا هنا بالراء، وفي رواية حماد "فدُفع" بالدال، وبين في رواية شعبة أنه وُضع في حجره صلى الله عليه وسلم، قال: وفي هذا السياق حذف، والتقدير: فمشوا، إلى أن وصلوا إلى بيتها، فاستأذنوا،
(1)
- المصدر المذكور.
(2)
فيه أن ولدها شفي من مرضه.
فأُذن لهم، فدخلوا، فرُفِع، ووقع بعض هذا المحذوف في رواية عبد الواحد، ولفظه:
"فلما دخلنا، ناولوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصبيّ
…
(إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّبِيُّ) أي وضع في حجره صلى الله عليه وسلم (وَنَفْسُهُ) أي روحه (تَتَقَعْقَعُ) وفي نسخة "تقعقع" بحذف إحدى التاءين، أي تضطرب، وتتحرّك، ولا تثبت على حالة واحدة، كذا في "النهاية". والجملة في محلّ نصب على الحال من "الصبيّ".
وزاد في رواية للبخاري بعد قوله: "ونفسه تتقعقع": ما لفظه: "قال: حسبت كأنها شَنّ"، ولفظه في رواية:"ونفسه تقعقع، كأنها في شنّ". قال في "الفتح": والقعقعة صوت الشيء اليابس إذا حُرّك، والشّنّ بفتح المعجمة، وتشديد النون: القِرْبة الخَلَقَة اليابسة، وعلى الرواية الثانية شبّه البدن بالجلد اليابس الخَلَق، وحركةَ الروح فيه بما يُطرح في الجلد من حصاة ونحوها، وأما الرواية الأولى، فكأنه شبّه النفس بنفس الجلد، وهو أبلغ في الإشارة إلى شدة الضعف، وذلك أظهر في التشبيه انتهى
(1)
.
(فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) أي سألت بالدموع عينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ سَعْدٌ) أي ابن عبادة المتقدّم، ووقع في رواية ابن ماجه من طريق عبد الواحد:"فقال عبادة بن الصامت"، والصواب ما في "الصحيح". قاله في "الفتح"(يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟) أي أيّ شيء هذا البكاء الذي نشاهده منك؟. وفي رواية للبخاريّ: "فقال سعد بن عبادة: أتبكي؟ "، وزاد أبو نعيم في "المستخرج": وتنهى عن البكاء" (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (هَذَا رَحْمَةٌ) أي هذا الدمع الذي تراه أثر رحمه من اللَّه تعالى، وللبخاري: "هذه رحمة"، أي الدمعة.
(يَجْعَلُهَا اللَّهُ، فِي قُلُوب عِبَادِهِ) أي أن الذي يَفيض من الدمع من حزن القلب بغير تعقد من صاحبه، ولا استدعاء منه، لا مؤاخذة عليه، وإنما المنهي عنه الجزع، وعدم الصبر.
وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: "قوله: "هذه رحمة": أي هذه رقّة يجدها الإنسان في قلبه، تبعثه على البكاء من خشية اللَّه، وعلى أفعال البرّ والخير، وعلى الشفقة على المبتلَى والمُصاب، ومن كان كذلك جازاه اللَّه برحمته، وهو المعنيّ بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء"، وضدّ ذلك القسوة في القلوب الباعثةُ على الإعراض عن اللَّه تعالى، وعن أفعال الخير، ومن كان كذلك قيل فيه:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 22] انتهى
(2)
.
وقال النووي رحمه الله: قوله: "ففاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا؟ الخ": معناه:
(1)
- "فتح" ج 3 ص 504.
(2)
- "المفهم" ج 3 ص 575 - 576.
أن سعدًا رضي الله عنه ظنّ أن جميع أنواع البكاء حرام، وأن دمع العين حرامٌ، وظنّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نسي، فذكّره، فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن مجرّد البكاء، ودمع العين، ليس بحرام، ولا مكروه، بل هو رحمة، وفضيلة، وإنما المحرّم النوح، والندب، والبكاء المقرون بهما، أو بأحدهما انتهى
(1)
(وَإِنَّمَا يَرحَمُ اللَّهُ مِن عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) وفي رواية للبخاريّ في "كتاب الطبّ": "ولا يرحم اللَّه من عباده إلا الرحماء".
و"مِنْ" في قوله: "من عباده" بيانية، وهي حال من المفعول، وهو "الرحماء"، وقُدِّم عليه ليكون أوقع.
و"الرحماء": جمع رحيم، وهو من صيغ المبالغة، ومقتضاه أن رحمة اللَّه تختصّ بمن اتصف بالرحمة، وتحقّق بها، بخلاف من فيه أدنى رحمة، لكن ثبت في حديث عبد اللَّه ابن عمرو، عند أبي داود وغيره:"الراحمون يرحمهم الرحمن"، و"الراحمون" جمع راحم، فيدخل كلّ مَن فيه أدنى رحمة.
وقد ذكر الحربيّ مناسبة الإتيان بلفظ "الرحماء" في حديث الباب بما حاصله: أن
لفظ الجلالة دالّ على العظمة، وقد عُرف بالاستقراء أنه حيث ورد يكون الكلام مسوقًا للتعظيم، فلما ذُكر هنا ناسب ذكر من كثرت رحمته، وعظمته، ليكون الكلام جاريًا على نسق التعظيم، بخلاف الحديث الآخر، فإن لفظ الرحمن دالّ على العفو، فناسب أن يُذكر معه كلّ ذي رحمة، وإن قلّت، واللَّه تعالى أعلم، ذكره في "الفتح"
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا - 22/ 1868 - وفي "الكبرى" 22/ 1995 - وأخرجه (خ) 1284 و 5655 و 6602 و 6655 و 7377 و 7448 (م) 923 (د) 3125 (ف) 1588 (أحمد) 21282 و 21292. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو الحثّ على الاحتساب، والصبر عند نزول المصيبة. ومنها: مشروعيّة استحضار أهل الفضل، والصلاح عند المحتضر.
(1)
- "شرح مسلم" ج 6 ص 464 - 465.
(2)
- "فتح"ج 3 ص 504 - 505.
ليدعوا له، وجواز القسم عليهم لذلك. ومنها: جواز المشي إلى التعزية، والعيادة بغير إذن، بخلاف الوليمة. ومنها: جواز إطلاق اللفظ الموهم لما وقع على ما سيقع، وذلك حيث قالت: أن ابنًا لي قُبض، مبالغة في ذلك، لينبعث خاطر المسؤول في المجيء للإجابة إلى ذلك. ومنها: مشروعيّة إبرار القسم. ومنها: أَمْرُ صاحب المصيبة بالصبر قبل وقوع الموت ليقع، وهو مستشعر بالرضا، مقاومًا للحزن بالصبر. ومنها: إخبار من يُسْتَدْعَى بالأمر الذي يُسْتَدْعَى من أجله. ومنها: تقديم السلام على الكلام. ومنها: عيادة المريض، ولو كان مفضولاً، أو صبيًا صغيرًا. ومنها: أن أهل الفضل لا ينبغي أن يَقطعوا الناس عن فضلهم، ولو رَدُّوا أول مرّة. ومنها: استفهام التابع من إمامه عما أشكل عليه، مما يتعارض ظاهره. ومنها: حسن الأدب في السؤال، لتقديمه قوله:"يا رسول اللَّه" على الاستفهام. ومنها: الترغيب في الشفقة على خلق اللَّه، والرحمة لهم، والترهيب من قساوة القلب، وجمود العين. ومنها: جواز البكاء من غير نوح ونحوه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1869 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى» .
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفيّ الحافظ الثبت [10] 4/ 4.
2 -
(محمد بن جعفر) غُندر البصريّ المذكور قبل باب.
3 -
(شعبة) الإمام المشهور المذكور قبل باب.
4 -
(ثابت) بن أسلم البنانيّ البصريّ، ثقة عابد [4] 45/ 47.
5 -
(أنس) بن مالك رضي الله عنه 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف، وأنه مسلسل بالبصريين، وفيه "عمرو بن عليّ" الفلّاس، أحد مشايخ السنة الذين رووا عنهم بلا واسطة، وفيه ثابت من ألزم الناس لأنس رضي الله عنه، لزمه أربعين سنة، وفيه أنس أحد المكثرين السبعة روى (2286) حديثًا، وأنه آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم كل بالبصرة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ ثَابِتٍ) البنانيّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى) مبتدأ وخبر، وفي رواية للشيخين:"عند أول صَدْمة". وهي مرّة من الصدم، وهو ضرب الشيء الصلب بمثله، ثم استعمل في كلّ مكروه حصل
بغتة، والمعنى: أن الصبر الكامل الذي يُحمَد عليه صاحبه، ويثاب عليه فاعله بجزيل الأجر ما كان منه عند مفاجاة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك، فإنه على مدى الأيام يسلو، وينسى.
وقال في "الفتح": المعنى: إذا وقع الثبات أولَ شيء يهَجُمُ على القلب، من مقتضيات الجَزَع، فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر، وأصل الصدم ضربك الشيء الصلب بمثله، فاستعير للمصيبة الواردة على القلب. وحكى الخطابي عن بعضهم: أن المرأ لا يؤجر على المصيبة لأنها ليست من صنعه، وإنما يؤجر على حسن تثبته، وجميل صبره. وقال ابن بطال: أراد أن لا يجتمع على المصاب مصيبة الهلاك، وفقد الأجر. انتهى
(1)
.
وهذا الحديث فيه قصَّةٌ، وقد ساقها البخاري في "صحيحه"، قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا ثابت، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي، عند قبر، فقال:"اتقي اللَّه، واصبري"، قالت: إليك عني
(2)
، فإنك لم تصب بمصيبتي
(3)
، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بوَّابِين، فقالت: لم أعرفك، فقال:"إنما الصبر عند الصدمة الأولى".
قال الطبيبي رحمه الله: صدر هذا الجواب منه صلى الله عليه وسلم من قولها: لم أعرفك على أسلوب حكيم، كأنه قال لها: دعي الاعتذار، فإن من شِيمَتي أن لا أغضب إلا للَّه، وانظري لنفسك.
وقال الزين ابن المنيّر: فائدة جواب المرأة بذلك أنها لما جاءت طائعة لما أمرها به من التقوى والصبر، معتذرةً عن قولها الصادر عن الحزن بيّن لها أن حقّ هذا الصبر أن يكون في أول الحال، فهو الذي يترتّب عليه الثواب. انتهى.
قال الحافظ: ويؤيده أن في رواية أبي هريرة: فقالت: أنا أصبر، أنا أصبر. وفي مرسل يحيى بن أبي كثير، فقهال:"اذهبي إليك، فإن الصبر عند الصدمة الأولى"، وزاد عبد الرزاق فيه من مرسل الحسن:"العَبْرة لا يملكها ابن آدم". انتهى
(4)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
- "فتح" بتصرّف ج 3 ص 494 - 495.
(2)
- اسم فعل، بمعنى ابعُد عني.
(3)
- وعند أبي يعلى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنها قال:"يا عبد اللَّه إني أنا الحريّ الثكلى، ولو كنت مصابا عذرتني".
(4)
-"فتح"ج 3 ص 495.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
السألة الأولى: في درجته: حديث أنس رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرحه هنا -22/ 1869 - وفي "الكبرى" 22/ 1996 وأخرجه (خ) 1283 و 1302 و 7154 (م) 926 و 987 (د) 3124 (ت) 988 (ق) 1596 (أحمد)12860. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في ذكر الفوائد التي اشتمل عليها الحديث بطوله:
منها: ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو الأمر بالاحتساب، والصبر عند المصيبة، فإن قوله:"الصبر عند الصدمة الأولى" فيه الحثّ على التَغَلُّب على الجزع عند أول نزول المصيبة، واحتسابها على اللَّه تعالى. ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع والرفق بالجاهل. ومنها: مسامحة المصاب، وقبول اعتذاره. ومنها: أن القاضي لا ينبغي له أن يتخذ من يحجبه عن حوائج الناس. ومنها: أن من أُمِر بمعروف ينبغي له أن يقبل، ولو لم يعرف الآمر. ومنها. كونُ الجزع من المنهيات، لأمره صلى الله عليه وسلم لها بالتقوى، مقرونا بالصبر. ومنها: الترغيب في احتمال الأذى عند بذل النصيحة، ونشر الموعظة. ومنها: أن المواجهة بالخطاب إذا لم تُصادف المنويَّ لا أثر لها، وبَنَى عليه بعضهم ما إذا قال: يا هند أنت طالق، فصادف عمرة، أن عمرة لا تطلق. ومنها: جواز زيارة القبور، سواء كان الزائر رجلاً، أو امرأةً، وسواء كان المزور مسلمًا أو كافرًا، لعدم الاستفصال في ذلك، قال النوويّ رحمه الله: وبالجواز قطع الجمهور، وقال صاحب "الحاوي": لا تجوز زيارة قبر الكافر، وهو غلط انتهى وسيأتي اختلاف العلماء في زيارة القبور في بابه [100/ 2032و2033]، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1870 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِيَاسٍ، وَهُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ:«أَتُحِبُّهُ؟» . فَقَالَ: أَحَبَّكَ اللَّهُ، كَمَا أُحِبُّهُ، فَمَاتَ، فَفَقَدَهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ؟ فَقَالَ:«مَا يَسُرُّكَ، أَنْ لَا تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، إِلاَّ وَجَدْتَهُ، عِنْدَهُ يَسْعَى، يَفْتَحُ لَكَ» .
رجال هذا الإسناد: خمسة.
1 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصريّ الإمام الحجة [9] 4/ 4.
2 -
(معاوية بن قرّة) بن إياس بن هلال المزنيّ، أبو إياس البصريّ، ثقة عالم [3].
وثقه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ، وابن سعد، وابن حبّان، وقال: كان من
عقلاء الرجال. وقال مطر الأعنق، عن معاوية بن قرّة: لقيت من الصحابة كثيرًا، منهم خمسة وعشرون من مزينة. مات سنة (113) وهو ابن (76) سنة. قال أبو زرعة: معاوية بن قرة عن عليّ مرسل. وقال أبو حاتم: لم يلق ابن عمر. وقال الشافعيّ: روايته عن عثمان منقطعة. أخرج له الجماعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث: هذا، وقد كرره مرتين، و 2610 حديث:"ابن أخت القوم من أنفسهم .... و 3227 حديث: "تزوجوا الولود الودود
…
".
3 -
(أبوه) قرة بن إياس بن هلال بن رئاب المزنيّ، أبو معاوية البصريّ، صحابيّ روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه معاوية. قال ابن عبد البرّ: سكن البصرة، ولم يرو عنه غير ابنه، ويقال له: قرة بن الأغرّ، قتل في حرب الأزارقة مع عبد الرحمن بن عُبيس في زمن معاوية رضي الله عنه. قال الحافظ: وقد أرخه ابن سعد، وخليفة، وأبو عروبة، وابن حبّان، وغيرهم سنة (64) فيكون ذلك في زمن معاوية بن يزيد بن معاوية، وذكره ابن سعد في طبقات الخندقيين. انتهى. علّق له البخاريّ أثرًا، وأخرج له في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله عند المصنّف هذا الحديث فقط، وقد أعاده برقم 2088. والباقيان تقدما في السند الماضي.
وقوله: "أحبك اللَّه الخ" دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بزيادة محبّة اللَّه له، كما يحب هو ولده، وأراد بذلك أنه يحبّ ولده حبّا شديدًا، بلغ الغاية، بحيث إنه يَطلَب أن يحب اللَّه تعالى النبي صلى الله عليه وسلم مثله، أي في بلوغ الغاية، وإلا فشتان بين المحبتين.
وقوله: "ففقده" أي فقد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل، كما تدلّ عليه الرواية الآتية في "باب التعزية"، ويحتمل أن يكون المراد الابن، والأول أظهر.
وقوله: "فقال ما يسرك الخ" مرتب على محذوف، أي فلقيه، فقال له الخ. وقوله:"ما يسرك" بتقدير همزة الاستفهام، أي أما يسرّك الخ. واللَّه تعالى أعلم.
والحديث صحيح، وسيأتي مطوّلاً في "باب التعزية"-120/ 2088 - وسيأتي تمام شرحه، وبيان مسائله هناك، إن شاء اللَّه تعالى، ومطابقته للباب واضحة، إذ فيه الحثّ على احتساب الأجر، والأمر بلاصبر على المصيبة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
23 - ثَوَابُ مَنْ صَبَرَ، واحْتَسَبَ
1871 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ
(1)
، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ، كَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، يُعَزِّيهِ بِابْنٍ لَهُ هَلَكَ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يُحَدِّثُ عَنْ جَدِّهِ، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، إِذَا ذَهَبَ بِصَفِيِّهِ، مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، فَصَبَرَ، وَاحْتَسَبَ، وَقَالَ مَا أُمِرَ بِهِ، بِثَوَابٍ دُونَ الْجَنَّةِ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عمر بن سعيد بن أبي حُسين) النوفليّ المكيّ، ثقة [6] 104/ 1365.
[تنبيه]: وقع في بعض نسخ "المجتبى""عَمرو" بفتح العين، بدل عُمر بضمها، وهو تصحيف، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
2 -
(عمرو بن شُعيب) بن محمد، صدوق [5] 105/ 140.
3 -
(أبوه) شُعيب بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو صدوق ثبت سماعه من جده [3] 105/ 140.
4 -
(عبد اللَّه) بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما 89/ 111.
والباقيان تقدما في الباب الماضي. وعبد اللَّه: هو ابن المبارك. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن جده. (ومنها). أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن عبد اللَّه بن المبارك أنه (قال: أنبأَنا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ) النوفلي (أَنَّ عَمْرَو بنَ شُعَيبٍ، كَتَبَ إِلَى عَبدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحمَنِ بْنِ أَبِي حْسَيْنٍ) بن الحارث بن عامر بن نوفل ابن عبد مناف النوفليّ المكيّ، وثقه أحمد، والنسائيّ، وأبو زرعة، والعجلي. وقال أبو حاتم: صالح. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال ابن عبد البرّ: ثقة عند الجميع، فقيه، عالم بالمناسك. وقال
(1)
- سقط من بعض النسخ "ابن نصر".
في "ت " ثقة عالم بالمناسك من الخامسة. انتهى. روى له الجماعة. وهو ابن عمّ عمر الراوي المذكور (يُعَزِّيهِ) حال من الفاعل، يقال: عزّيته تعزيةً: قلت له: أحسن اللَّه عزاءك، أي رزقك الصبر الحسن. قاله في "المصباح"(بِابْنٍ لَهُ) الجار الأول متعلق بـ "يعزّي"، والثاني بصفة لـ"ابن" (هَلَكَ) أي مات (وَذَكَر) وفي بعض النسخ:"فذكر" بالفاء: أي ذكر عمرو (فِي كِتَابِهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ) شعيبًا (يُحَدِّثُ عَنْ جَدِّهِ، عَبدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ) بجرّ "عبد اللَّهَ" بدلاً من "جده"(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِن اللَّهَ لَا يَرْضَى لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، إِذَا ذَهَبَ بِصَفِيِّهِ) أي قبض صفيّه، و"الصفيّ" بفتح الصاد المهملة، وكسر الفاء، وتشديد التحتانيّة: هو الحبيب المصافَى، كالولد، والأخ، وكلِّ من يُحبّه الإنسان، قال في "النهاية": صَفِيّ الرجل الذي يُصافيه الودَّ، ويُخلصه له، فَعيل بمعنى فاعل، أو مفعول انتهى
(1)
.
(مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ) متعلق بصفة لـ"صفيّه"(فَصَبَرَ) على ذلك (وَاحْتَسَبَ) أي ادّخر أجره عند اللَّه تعالى، وأصل الحسبة الأُجْرة، والاحتساب طلب الأجر من اللَّه تعالى (وَقَالَ مَا أُمِرَ بهِ) في قوله:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155 - 156]، وإنما قال:"ما أُمر به"، وإن كان ظاهر الآية إخبارًا، وليس أمرًا، إشارةً إلى أن المقصود بالإخبار هنا الأمر، واللَّه تعالى أعلم.
وفي بعض النسخ: "وقال: ما أرضى له" بدل "وقال: ما أمر به"، والظاهر أنه تصحيف. واللَّه تعالى أعلم.
وقال الأبّيّ: يحتمل أن الأمر بوحي في غير القرآن، ويحتمل أن الأمر مفهوم من الثناء على قائل ذلك، لأن المدح على الفعل يستلزم الأمر به. وقال الباجيّ: لم يُرد لفظ الأمر بهذا القول، لأنه إنما ورد القرآن بتبشير من قاله، والثناء عليه، ويحتمل أن يُشير إلى غير القرآن، فيخبر صلى الله عليه وسلم عن أمر الباري لنا بذلك. وقال الطيبيّ: فإن قلت: أين الأمر في الآية؟ قلت: لما أمره بالبشارة، وأطلقها ليعمّ كلّ مبشَّر به، وأخرجه مخرج الخطاب، ليعمّ كل أحد نَبَّهَ على تفخيم الأمر، وتعظيم شأن هذا القول، فنبّه على كون القول مطلوبًا، وليس الأمر إلا طلب الفعل. وقال القاري: والأقرب أن كلّ ما مَدَح اللَّه تعالى في كتابه من خصلة يتضمّن الأمر بها، كما أن المذمومة فيه تقتضي النهي عنها انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله القاري -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ جدَّا،
(1)
- "النهاية" ج 3 ص 40.
(2)
- انظر "المرعاة" ج 5 ص 903 - 13.
واللَّه تعالى أعلم.
(بثَوَابٍ) متعلق بـ "يرضى"(دُونَ الْجَنَّةِ") متعلق بمحذوف صفة لـ"ثواب"، أي بثواب غيرِ اَلجنةَ، فجزاؤه الجنّة، أي دخولها أوّلًا، ويلزم منه مغفرة الذنوب أجمع، صغيرة، أو كبيرة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا -32/ 1871 - وفي "الكبرى" 32/ 1998 - وزاد في آخره: قال أبو عبدالرحمن: عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وهم ثلاثة إخوة: عمرو، وعُمَر، وشعيب، بنو شُعيب انتهى. واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ويشهد لحديث الباب ما أخرجه البخاري -رحمه اللَّه تعالى- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في "كتاب الرقاق" من "صحيحه"، ولفظه:
6424 -
حدثنا قتيبة، حدثنا يعقوب بن عبدالرحمن، عن عمرو، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"يقول اللَّه تعالى: ما لعبدي المؤمن، عندي جزاء، إذا قبضت صفيه، من أهل الدنيا، ثم احتسبه، إلا الجنة". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الثانية: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ثواب من صبر على المصيبة، واحتسب الأجر عند اللَّه تعالى. ومنها: ما كان عليه السلف من تعزية بعضهم بعضا إذا أصابته مصيبة، وما كانوا عليه من شدة الحرص على نشر السنة، ولو بالمكاتبة. ومنها: بيان فضل اللَّه تعالى على عبده المؤمن حيث يثيبه على قبض صفيه بثواب عظيم، ألا، وهو الفوز بدخول الجنة، كما قال تعالى:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
24 - ثَوَابُ مَنِ احْتَسَبَ ثَلَاَثةَ مِنْ صُلْبِهِ
1872 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنِي بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنِ احْتَسَبَ ثَلَاثَةً، مِنْ صُلْبِهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ» ، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: أَوِ اثْنَانِ؟ قَالَ: «أَوِ اثْنَانِ» . قَالَتِ الْمَرْأَةُ: يَا لَيْتَنِي قُلْتُ وَاحِدًا.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أحمد بن عمرو بن السَّرْح) المصريّ، ثقة [10] 35/ 39.
2 -
(ابن وهب) عبد اللَّه المصريّ الحافظ الثقة [9] 9/ 9.
3 -
(عمرو) بن الحارث بن يعقوب المصريّ، ثقة ثبت [7] 63/ 79.
4 -
(بُكير بن عبد اللَّه) بن الأشجّ المدنيّ، ثم المصريّ، ثقة [5] 135/ 211.
5 -
(عمران بن نافع) المدنيّ، روى عن حفص بن عبيد اللَّه بن أنس، وعنه بُكير بن الأشجّ، ووثقه النسائيّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، كما في "تت"، وقال في "ت": ثقة
(1)
من [7]. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. واللَّه تعالى أعلم.
6 -
(حفص بن عبيد اللَّه) بن أنس بن مالك، ويقال فيه: عبيد اللَّه بن حفص، ولا يصحّ، صدوق [3].
قال أبو حاتم: لا يثبت له السماع إلا من جده. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: هو أحب إلي من حفص بن عمر، ولا ندري أسمع من جابر، وأبي هريرة أم لا؟، وذكره ابن حبّان في "الثقات". أخرج له الجماعة، سوى أبي داود، وله عند المصنف هذا الحديث فقط.
7 -
(أنس) بن مالك رضي الله عنه 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير عمران. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين إلى بكير. (ومنها): أن فيه رواية الكبير، عن الصغير، فبكير تابعيّ صغير، وعمران من تابع التابعين. (ومنها): أن
(1)
- وقال في "التقريب": مقبول، والصواب أنه ثقة، فقد وثقه المصنف، وابن حبّان. فتنبّه.
فيه رواية الراوي، عن جده، فأنس رضي الله عنه جدّ لحفص. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: زاد في "الكبرى" بعد إخراج الحديث: ما نصه: قال أبو عبد الرحمن: بكير هو ابن عبد اللَّه بن الأشجّ، وهم ثلاثة إخوة: يعقوب، وبُكير، وعمَر، وأجلّهم، وأكثرهم حديثًا بُكير انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ احْتَسَبَ ثَلَاَثةً) أي صبر راضيًا بقضاء اللَّه تعالى، راجيًا فضله، ووقع التقييد بالاحتساب في هذا الحديث، ومثله حديث مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا: "لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد، فتحتسبهم، إلا دخلت الجنّة
…
" الحديث، ولأحمد، والطبرانيّ، من حديث عُقبة بن عامر، رفعه: "من أَعْطَى ثلاثة من صلبه، فاحتسبهم على اللَّه، وجبت له الجنّة"، وفي "الموطإ" عن أبي النضر السلميّ، رفعه: "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فيحتسبهم، إلا كانوا جُنّةً من النار
…
"، ولم يقع التقييد بالاحتساب في شىء من الأحاديث الآتية في الباب التالي.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وقد عرف من القواعد الشرعية أن الثواب لا يترتّب إلا على النيّة، فلا بدّ من قيد الاحتساب، والأحاديث المطلقة محمولة على المقيدة.
ولكن أشار الإسماعيليّ إلى اعتراض لفظيّ، فقال يقال في البالغ: احتسب، وفي الصغير: افترط انتهى. وبذلك قال الكثير من أهل اللغة، لكن لا يلزم من كون ذلك هو الأصل أن لا يستعمل هذا موضع هذا، بل ذكر ابن دُرَيد وغيره احتسب فلان بكذا: طلب أجرًا عند اللَّه، وهذا أعمّ من أن يكون لكبير، أو صغير، وقد ثبت ذلك في الأحاديث التي ذكرناها، وهي حجة في صحّة هذا الاستعمال انتهى
(2)
.
(مِن صُلْبِهِ) أي من ظهره، قال الفيّومي رحمه الله: الصُّلْب -أي بضم، فسكونه-: كلُّ ظهر له فَقَار، وتضمّ لامه للاتباع انتهى. وقال ابن منظور رحمه الله: وكلُّ شيء من الظهر فيه فَقَارٌ، فذلك الصُّلْب -أي بضم، فسكون- والصَّلَب بالتحريك لغة فيه، وقال أيضًا: ويقال للظهر: صُلْبٌ، وصَلَبٌ، وصَالَبٌ -أي بفتح اللام- انتهى
(3)
وقيّد بالصلب
(1)
- راجع "الكبرى" ج 1 ص 614.
(2)
- "فتح"ج 3 ص 456.
(3)
- راجع "المصباح المنير"، و"لسان العرب" في مادة "صلب".
لإخراج أولاد الأولاد، سواء كانوا أولاد بنين، أو أولاد بنات (دَخَلَ الْجَنَّةَ") أي دخولا أوّليّا، ولا ينافيه ما سيأتي من استثناء تحلّة القسم، لما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.
[تنبيه] قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: ظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون شديد المحبة لأولاده، أو خفيفها، أو خاليا من محبتهم، أو كارها لهم، لأن الولد مظنة المحبة والشفقة، فنيط الحكم به، وإن تخلف في بعض الأفراد، وقد يحبّ الشخص بعض أقاربه، أو أصدقائه أكثر من محبة ولده، ومع ذلك فلم يَرِدْ ترتيب هذا الأمر على موت القريب والصديق، ولا على موت الأب والأمّ، لكن في "معجم الطبراني الأسط" بإسناد ضعيف، عن سهل بن حُنيف رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من لم يكن له فَرَط لم يدخل الجنة إلا تصريدًا"، قال رجل: يا رسول اللَّه ما لكلنا فرط، قال: أو ليس من فرط أحدكم أن يفقد أخاه المسلم؟ ".
وقوله: "تصريدًا" بالصاد المهملة، أي قليلاً، وأصله السقي دون الرّيّ، ومنه صرّد له العطاء: قَلَّله انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله وليّ الدين ظاهر في حديث: "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسه النار إلا تحلّة القسم"، الآتي في الباب التالي، وأما حديث الباب فيفيد التقييد بالمحبة، حيث قال:"من احتسب"، لأن الاحتساب معناه الصبر راضيا بقضاء اللَّه تعالى، ولا يكون ذلك إلا حيث يتألم قلبه بمصيبته، وأما من مات له من لا يحبه، فلا يتصور منه الصبر عليه.
والحاصل أن تقييد الأحاديث المطلقة عن الاحتساب لا بد منه، كما تقدم التنبيه عليه في كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم.
(فَقَامَتِ امْرَأَةٌ) يحتمل أن تكون أمَّ سليم، وهي أمَّ أنس الراوي رضي الله عنها، كما رواه الطبرانيّ بإسناد جيّد عنها، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وأنا عنده:"ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة، لم يبلغوا الحلم، إلا أدخله الجنّة بفضل رحمته إياهم"، فقلت: واثنان؟ قال: "واثنان". وأخرجه أحمد، لكن الحديثَ دون القصّة، ووقع لأمّ مبشر الأنصارية أيضًا السؤال عن ذلك، فروى الطبرى أيضًا من طريق ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم مبشر، فقال:"يا أم مبشّر، من مات له ثلاثة من الولد دخل الجنة"، فقلت: يا رسول اللَّه واثنان؟ فسكت، ثم قال:"نعم، واثنان"، وفي حديث جابر بن سمرة، أن أم أيمن ممن سأل عن ذلك، ومن حديث ابن
(1)
-"طرح التثريب"ج 3 ص 246 - 247.
عباس أن عائشة أيضًا منهنّ، وحكى ابن بشكوال أن أم هانىء أيضًا سألت عن ذلك.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ويحتمل أن يكون كلّ منهن سأل عن ذلك في ذلك المجلس، وأما تعدد القصّة ففيه بُعْدٌ، لأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الاثنين بعد ذكر الثلاثة، وأجاب بأن الاثنين كذلك، فالظاهر أنه كان أوحي إليه ذلك في الحال، وبذلك جزم ابن بطال وغيره، وإذا كان كذلك كان الاقتصار على الثلاثة بعد ذلك مستبعدًا جدًّا، لأن مفهومه يخرج الاثنين اللذين ثبت لهما ذلك الحكم بالوحي، بناء على القول بمفهوم العدد، وهو معتبر هنا، كما سيأتي البحث فيه، نعم في حديث جابر بن عبد اللَّه أنه ممن سأل عن ذلك، وروى الحاكم، والبزّار من حديث بُريدة أن عمر سأل عن ذلك أيضْا، ولفظه:"ما من امرىء، ولا امرأة يموت له ثلاثة أولاد إلا أدخله اللَّه الجنة"، فقال عمر: يا رسول اللَّه واثنان؟ قال: "واثنان". قال الحاكم: صحيح الإسناد، وهذا لا بعد في تعدده، لأن خطاب النساء بذلك لا يستلزم علم الرجال به انتهى
(1)
.
(فَقَالَتْ: أَوِ اثْنَانِ؟) وفي رواية البخاريّ من حديث أبي سعيد الخدريّ: رضي الله عنه قالت: واثنان؟، بالواو، أي أو إن مات اثنان، فما الحكم؟ وفي رواية مسلم:"واثنين" بالنصب (قَالَ: "أَوِ اثْنَانِ) أي أو إن مات اثنان، فالحكم كذلك.
ويحتمل أن يكون قوله: "أواثنان" معطوفًا على "ثلاثة"، ومثله يسمى العطف التلقينيّ، أي قل يا رسول اللَّه: أو اثنان، ونظيره قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام:{مِنْ ذُرِّيَّتِي} . وارتضى هذا الوجه العينيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
.
وقال في "الفتح": وهو ظاهر في التسوية بين حكم الثلاثة والاثنين، وقد تقدم النقل عن ابن بطال أنه محمول على أنه أوحي إليه بذلك في الحال، ولا بُعد أن ينزل عليه الوحي في أسرع من طرفة عين، ويحتمل أن يكون كان العلم عنده بذلك حاصلاً، لكنه أشفق عليهم أن يتّكلوا لأن موت الاثنين غالبًا أكثر من موت الثلاثة، كما وقع في حديث معاذ وغيره في الشهادة بالتوحيد، ثم لما سئل عن ذلك لم يكن بُدٌّ من الجواب. واللَّه
أعلم.
وقال ابن التين تبعًا لعياض -رحمهما اللَّه تعالى-: هذا يدلّ على أن مفهوم العدد ليس بحجة، لأن الصحابيّة من أهل اللسان، ولم تَعتبره، إذ لو اعتبرته لانتفى الحكم عندها عما عدا الثلاثة، لكنها جوّزت ذلك، فسألته.
قال الحافظ رحمه للَّهُ: كذا قال، والظاهر أنها اعتبرت مفهوم العدد، إذ لو لم تعتبره لم
(1)
- "فتح" ج3 ص 459.
(2)
- عمدة القاري ج 6 ص 389.
تسأل، والتحقيق أن دلالة مفهوم العدد ليست يقينية، وإنما هي محتملة، ومن ثَمّ وقع السؤال عن ذلك.
وقال الحافظ ولي الدين -رحمه اللَّه تعالى-: ما حاصله: ثبت في الصحيح من غير وجه أنه قيل: يا رسول اللَّه، واثنان؟ فقال:"واثنان". ورَوَى الترمذيّ عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان له فَرَطَان من أمتي أدخله اللَّه بهما الجنة"، فقالت عائشة: فمن كان له فَرَطٌ من أمتك؟ فقال: "ومن كان له فَرَطٌ يا موفّقة" قالت: فمن لم يكن له فرط من أمتك؟ قال: "أنا فَرَط أمتي، لن يُصابوا بمثلي". قال الترمذيّ: حسنٌ غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد ربه بن بارق، وقد رَوَى عنه غير واحد من الأئمة انتهى.
قال وليّ الدين: وعبد ربه هذا مختلف فيه، ضعفه ابن معين، والنسائيّ، وقال أحمد: ما به بأس، ووثقه ابن حبّان. ورَوَى الترمذيّ، وابن ماجه عن أبي عُبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من قدّم ثلاثة، لم يبلغوا الحنث، كانوا له حصنًا حصينًا"، قال أبو ذرّ: قدمت اثنين، قال:"واثنين"، فقال أبيّ بن كعب، سيد القرّاء: قدّمت واحدًا، قال:"وواحدًا، ولكن إنما الصبر عند الصدمة الأولى". قال الترمذيّ: حسن غريب، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه.
ورُوي ذكرُ الواحد من حديث جماعة من الصحابة أيضًا، وهو محمول عند العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم أوحي إليه ذلك عند سؤالهم عن الاثنين، وعن الواحد إن صحّ، ولا يمتنع نزول الوحي عليه في أسرع من طرفة عين، كما في نزول قوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] لما قام ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول اللَّه إني رجل ضرير البصر، فنزلت:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ، هذا. على أن العلماء يختلفون في مفهوم العدد، هل هو حجة، أم لا، فمن لم يجعله حجة لا يحتاج إلى ذكر هذا الجواب، ويقول: ذكر هذا العدد لا ينافي حصول ذلك بأقل منه، بل ولو جعلناه حجة، فليس نصا قاطعًا، بل دلالته ضعيفة، يقدّم عليها غيرها عند معارضتها.
وقال أبو العباس القرطبيّ بعد ذكره نحو ما قلناه: ويحتمل أن يقال: إن ذلك بحسب شدة وجد الوالدة، وقوّة صبرها، فقد لا يبعد أن يكون مَن فَقَدت واحدًا، أو اثنين أشدّ ممن فقدت ثلاثة، أو مساوية لها، فتُلحَق بها في درجاتها.
قال ولي الدين: ظاهر الحديث حَمْلُ ذلك على كلّ فاقد اثنين، وعلى كلّ فاقد واحد، فالتقييد بشدّة الوجد الذي يصيّره كفاقد ثلاثة يحتاج إلى دليل.
وقال القاضي عياض: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قاله ابتداء لأتمّ الأشياء، لأن ثلاثًا أول الكثرة،
فأخبرهم بذلك، لئلا يتكل من مات له ولد على ولده في شفاعته، وسكت عما وراءه، فلما سئل أَعْلَمَ بما عنده في ذلك، قال: وفى قولها: "أو اثنان" بعد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الثلاثة، وهي من أهل اللسان دليل على أن تعليق الحكم بعددٍ مّا لا ينافيه
(1)
من جهة دليل الخطاب عما عداه من العدد، كان أقلّ، أو أكثر إلا بنصّ انتهى.
وقال أبو العباس القرطبي: إنما خصّ الولد بثلاثة، لأن الثلاثة أول مراتب الكثرة، فبعظم المصائب تكثر الأجور، فأما إذا زادت على الثلاثة، فقد يخفّ أجر المصيبة بالزائد، لأنها كأنها صارت عادة ودَيدَنا، كما قال المتنبي [من الكامل]:
أَنْكَرْتُ طَارِقَةَ الْحَوَادِثِ مَرَّةً
…
ثُمَّ اعْتَرَفْتُ بِهَا فَصَارَتْ دَيْدَنَا
وقَال آخر [من البسيط]:
رُوعْتُ بِالبَيْنِ حَتَّى مَا أُرَاعُ لَهُ
…
وَبِالْمَصَائِبِ فِي أَهْلي وَجِيرَانِي
ثم قال: ويحتمل أن يقال: إنما لم يذكر ما بعد الثلاثة لأنه من باب الأحرى والأولى، إذ من المعلوم أن مَن كثرت مصائبه كثر ثوابه، فاكتفى بذلك عن ذكره.
قال الحافظ ولي الدين: إذا جعلنا لمفهوم العدد دلالة، فدلالته في هذه الصورة في منع النقصان، لا في منع الزيادة، فإن من مات له أربعة، فبالضرورة قد مات له ثلاثة، فلا معنى لهذا الكلام الذي ذكره القرطبيّ، وإذا أخبر الصادق بأن من مات له ثلاثة لم يَلِجِ النارَ إلا تحِلَّةَ القسم، فمات لشخص ثلاثة، فحصلت له هذه البشرى، ثم مات له أربع انقطعت هذه البشرى بموت هذا الرابع، وصار على خطر دخول النار بعد تلك البشرى، وهَبْ أن حزنه بهذا الرابع خفيف لاعتياده المصائب، فهل يزيد ذلك على كونه لم تحدث له هذه المصيبة أصلًا، وكيف السبيل إلى إحباط ثواب ما مضى من المصائب بهذه المصيبة الرابعة، هذا ما لا يتخيّله ذو فهم، فإن فُرض أن الأربعة ماتوا دفعة واحدةَ كموت نفس واحدة على خلاف ما أجرى اللَّه تعالى العادة ترتبت البشرى بعدم دخول النار على موت ثلاثة، ويثيب اللَّه تعالى على موت الرابع بما يشاء، وقد دخلت هذه الصورة في هذا الحديث، لكونه صَدَقَ أنه مات له ثلاثة من الولد، واللَّه أعلم انتهى
(2)
.
وقال الحافظ رحمه الله بعد نقل كلام القرطبيّ المذكور: ما نصه: وهذا مصير منه إلى انحصار الأجر المذكور في الثلاثة، ثم في الاثنين، بخلاف الأربعة والخمسة، وهو جمود شديد، فإن من مات له أربعة، فقد مات له ثلاثة ضرورةً، لأنهم إن ماتوا دفعة
(1)
- أي لا ينافي الحكم عما عدى العدد المعلق به ذلك الحكم.
(2)
- "طرح التثريب" ج 3 ص 243 - 245.
واحدة، فقد مات له ثلاثة وزيادة، ولا خفاء أن المصيبة بذلك أشدّ، وإن ماتوا واحدًا بعد واحد، فإن الأجر يحصل له عند موت الثالث بمقتضى وعد الصادق، فيلزم على قول القرطبيّ أنه إن مات له الرابع أن يرتفع عنه ذلك الأجر، مع تجدد المصيبة، وكفى بهذا فسادًا، والحقّ أن تناول الخبر الأربعةَ، فما فوقها من باب أولى، وأحرى، ويؤيد ذلك أنهم لم يسألوا عن الأربعة، ولا ما فوقها، لأنه كالمعلوم عندهم، إذ المصيبة إذا كثرت كان الأجر أعظم، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تَعَقُّبُ الحافظين: ولي الدين وابن حجر على ما ذكره القرطبي فيما زاد على الثلاثة تعقب جميل، ومما يؤيده أنه قد ورد النصّ على الأربعة، فيما أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، ونصه:
17403 -
حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن عبد اللَّه بن قيس، عن الحارث بن أُقَيش، قال: كنا عند أبي برزة ليلة، فحدث ليلتئذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"ما من مسلمين، يموت لهما أربعة أفراط، إلا أدخلهما اللَّه الجنة، بفضل رحمته"، قالوا: يا رسول اللَّه وثلاثة؟ قال: "وثلاثة"، قالوا: واثنان؟ قال: "واثنان" قال" "وإنّ من أمتي لمن يدخل الجنة بشفاعته مثل مضر"، قال: "وإن من أمتي، لمن يَعظُمُ للنار حتى يكون أحدَ زواياها". انتهى.
ورجاله إسناده ثقات، غير عبد اللَّه بن قيس، وقد وثقه ابن حبان، وجهله ابن المدينيّ، و"داود" هو ابن أبي هند، والحارث بن أقيش صحابيّ مقلّ. واللَّه تعالى أعلم.
(قَالَتِ الْمَرأَةُ: يَا لَيْتَنِي قُلْتُ وَاحِدًا) أي سألت حكم موت واحد من الولد.
وهذا الحديث نصّ في كونه صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن حكم الواحد، ومثله ما أخرجه أحمد من طريق محمود بن لبيد، عن جابر، رضي الله عنه، رفعه:"من مات له ثلاثة من الولد، فاحتسبهم دخل الجنة"، قلنا: يا رسول اللَّه، واثنان؟ قال:"واثنان"، قال محمود: قلت لجابر: أراكم لو قلتم: وواحد، لقال: وواحد؟ قال: وأنا واللَّه أظنّ ذلك".
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن عبد الرحمن بن الأصفهاني، قال: أتاني أبو صالح يُعَزّيني عن ابن لي، فأخذ يحدّثني عن أبي سعيد، وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من امرأة تدفِنُ ثلاثة أفراط، إلا كانوا لها حجابا من النار"، فقالت امرأة: يا رسول اللَّه قدمت اثنين، قال:"واثنين"، ولم تسأله عن الواحد انتهى.
(1)
- "فتح" ج 3 ص 460.
وقد تقدم حديث أبيّ بن كعب، وعائشة، وأم أيمن في سؤالهم عن الواحد، لكنها ليس في شيء من طرقها ما يصلح للاحتجاج بها، بل أحاديث عدم السؤال مقدمة عليها لصحتها.
لكن يشهد لأحاديث السؤال عن الواحد ما تقدم قبل باب من حديث معاوية بن قرّة، عن أبيه، في قصة الرجل الذي مات ولده، وفيه:"ما يسرّك أن لا تأتي بابًا من أبواب الجنّة إلا وجدته عنده، يسعى، يفتح لك"، فإنه صريح في كون الولد الواحد كالثلاثة والاثنين، ويشهد لها أيضًا ما تقدم في الباب الماضي من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه، مرفوعًا: "إن اللَّه لا يرضى لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيه من أهل الأرض
…
" الحديث، وهو عند البخاريّ في "كتاب الرقَاقِ" من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، بلفظ: "ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة"، وهو أصحّ ما ورد في ذلك، كما قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-.
والحاصل أن أحاديث السؤال عن الولد الواحد، قويّة بما ذُكر لها من الشواهد، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أنس رضي الله عنه هذا حديث صحيح.
فإن قلت: كيف يصحّ، وفيه عمران بن نافع، لم يرو عنه غير بكير بن عبد اللَّه؟. قلت: الحديث صححه ابن حبّان برقم -2943 - وعمران قد وثقه النسائيّ، وابن حبّان، ولحديثه هذا شواهد:
منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لنسوة من الأنصار: "لا يموت لإحداكنّ ثلاثة من الولد، فتحتسبه، إلا دخلت الجنة، فقالت امرأة منهنّ: أو اثنتين يا رسول اللَّه؟ قال: "أو اثنين". أخرجه مسلم 8/ 39، وأحمد 2/ 246 و 378.
ومنها: حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه مرفوعًا نحوه، وفيه: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "واثنين، واثنين، واثنين". أخرجه مسلم أيضا، وكذا البخاري 3/ 455 نسخة الفتح دون تكرار "واثنين". واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا-23/ 1872 - وفي "الكبرى" 23/ 1999، وهو من أفراده -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه ابن حبّان في "صحيحه"2943. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فى فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ثواب من احتسب ثلاثة من صلبه. ومنها: أن من احتسب اثنين، فهو كالثلاثة. ومنها: ما كان عليه الصحابيات من الحرص في معرفة أحكام الشرع، حيث إن هذه المرأة سألت عن الاثنين، ثم لما فاتها السؤال عن الواحد تأسفت على ذلك، فقالت: ياليتني قلت: واحدًا. ومنها: بيان فضل اللَّه تعالى على المسلمين، حيث جعل لهم الجنة عوضا عما يصيبهم من البلاء بموت أولادهم. ومنها: أن المصيبة بمن لم يبلغ الحلم أشدّ من غيره، فلذا كان الأجر عليه أعظم. ومنها: أن أولاد المسلمين في الجنّة، لأن من يكون سببا في حجب النار عن أبويه أولى بأن يُحجَبَ هو، لأنه أصل الرحمة، وسببها، بل جاء التصريح به في الحديث الأخير من الأحاديث الآتية في الباب التالى، ولفظه:"فيقال: ادخلوا الجنّة أنتم وآباؤكم". واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: كون أولاد المسلمين في الجنّة هو الذي عليه الجمهور، وتوقفت طائفة قليلة في ذلك:
قال النووي رحمه الله: أجمع من يُعتدّ به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين، فهو من أهل الجنة، وتوقف فيه بعضهم، لما أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنه، قالت: أُتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بصبي من صبيان الأنصار، فصلى عليه، قالت عائشة: فقلت: طوبى لهذا، عصفور، من عصافير الجنة، لم يعمل سوءا، ولم يدركه، قال:"أو غير ذلك يا عائشة، خلق اللَّه عز وجل الجنة، وخلق لها أهلا، وخلقهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار، وخلق لها أهلا، وخلقهم في أصلاب آبائهم".
قال: والجواب عنه أنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير دليل، أو قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
25 - مَنْ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثَةٌ
1873 -
أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ، يُتَوَفَّى لَهُ، ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ» .
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يوسف بن حماد) الْمَعْنِيّ -بفتح الميم، وسكون المهملة، ثم نون، وتشديد الياء- أبو يعقوب البصريّ، ثقة [10].
وثقه النسائي، وابن حبّان، وأبو بكر البزّار، ومسلمة بن قاسم. قال ابن أبي عاصم: مات سنة (245) روى عن مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه. وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، بوقم (1873) و (2823) و (4485) و (4651) و (5187) و (5500).
2 -
(عبد الوارث) بن سعيد التَّنُّوريّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 6/ 6.
3 -
(عبد العزيز) بن صُهيب البُنَانيّ البصريّ، ثقة [4] 17/ 1643.
4 -
(أنس) بن مالك رضي الله عنه 6/ 6.
لطائف هذا الإسناد:
منها. أنه من رباعيات المصنف رحمه الله، وهو (111) من رباعيات الكتاب. ومنها: أنه مسلسل بثقاة البصريين. ومنها. أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ)"من" زائدة، و"مسلم" اسم "ما" الحَجازية، أو مبتدأ على أنها تميمية، والخبر جملة الاستثناء، لأنه مفرّغ. وللبخاريّ:"ما من الناس من مسلم"، فقال في "الفتح":"من" الأولى بيانية، والثانية زائدة انتهى.
والحديث ظاهر في اختصاص ذلك بالمسلم، وهو واضح، فإن الكافر ليس من أهل الأجور، لكن لو مات له أولاد في حال الكفر، ثم أسلم بعد ذلك، هل ينفعه ما مضى من موتهم في زمن كفره، أو لا بدّ أن يكون موتهم في حالة إسلامه؟ قد يدلّ للأول قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه:"أسلمت على ما أسلفت من خير" لَمَّا قال له: أرأيتَ أمورًا كنتُ أتحنّث بها في الجاهلية، هل لي فيها من شيء؟.
لكن قد جاءت أحاديث فيها تقييد ذلك بكونه في الإسلام، فالرجوع إليها أولى، ففي "مسند أحمد" بإسناد صحيح عن امرأة، يقال لها: رجاء، قالت: كنت عند رسول اللَّه
- صلى الله عليه وسلم، إذ جاءته امرأته بابن لها، فقالت: يا رسول اللَّه ادع اللَّه لي فيه بالبركة، فإنه قد توفي لي ثلاثة، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أمنذ أسلمت؟ " قالت: نعم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"جُنّة حَصِينة"، فقال لي رجل: اسمعي يا رجاء ما يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وفي "مسند أحمد" وغيره بإسناد لا بأس به، عن عمرو بن عَبَسَة، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من وُلِد له ثلاثة أولاد في الإسلام، فماتوا قبل يبلغوا الحنث، أدخله اللَّه الجنّة برحمته إياهم".
وفي "مسند أحمد"، و "معجم الطبراني الكبير" بإسناد فيه مجهول، عن أبي ثعلبة الأشجعي، قال: قلت: يا رسول اللَّه مات لي ولدان في الإسلام، فقال:"من مات له ولدان في الإسلام أدخله اللَّه الجنة".
قال الحافظ ولي الدين رحمه الله: ما حاصله: وفي حديث عمرو بن عَبَسَة زيادة على غيره، وهي أن تكون ولادتهم في الإسلام، ومقتضاه أنهم لو وُلدوا له قبل أن يسلم، وماتوا بعد إسلامه لم يكن له هذا الثواب انتهى
(1)
.
(يُتَوَفَّى لَهُ) بالبناء للمفعول، ووقع في رواية ابن ماجه: "ما من مسلمين يَتَوَفَّى لهما
…
" (ثَلَاَثَةٌ مِنَ الْوَلَد، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ) بكسر المهملة، وسكون النون، بعدها مثلّثة، وحكى ابن قرقول، عن الداوديّ أنه ضبطه "الْخَبَثَ" بفتح المعجمة، والموحّدة، وفسّره بأن المراد لم يبلغوا أن يعملوا المعاصي، قال: ولم يذكره كذلك غيره، والمحفوظ الأول، والمعنى لم يبلغوا الْحُلُمَ، فتكتبَ عليهم الآثام. قال الخليل: بلغ الغلام الحنث: إذا جرى عليه القلم، والحنث الذنب، قال اللَّه تعالى:{وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 46]. وقيل: المراد بلغ إلى زمانٍ يؤاخذ بيمينه إذا حنث. وقال الراغب: عبّر بالحنث عن البلوغ، لما كان الإنسان يؤاخذ بما يرتكبه فيه بخلاف ما قبله، وخصّ الإثم بالذكر لأنه الذي يحصل بالبلوغ، لأن الصبيّ قد يثاب، وخصّ الصغير بذلك لأن الشفقة عليه أعظم، والحبّ له أشدّ، والرحمة له أوفر، وعلى هذا فمن بلغ الحنث لا يحصل لمن فقده ما ذكر من هذا الثواب، وإن كان في فقد الولد أجر في الجملة، وبهذا صرّح كثير من العلماء، وفرقوا بين البالغ وغيره بأنه يتصوّر منه العقوق المقتضي لعدم الرحمة، بخلاف الصغير، فإنه لا يتصوّر منه ذلك، إذ ليس بمخاطب.
وقال الزين ابن المنيّر رحمه الله: بل يدخل الكبير في ذلك من طريق الفحوى، لأنه إذا
(1)
- "طرح التثريب" ج 3 ص 249.
ثبت ذلك في الطفل الذي هو كَلٌّ على أبويه، فكيف لا يثبت في الكبير الذي بلغ معه السعي، ووصل له من النفع، وتوجه إليه الخطاب بالحقوق؟ ن قال: ولعلّ هذا هو السرّ في إلغاء البخاريّ التقييد بذلك في الترجمة انتهى. أي حيث قال: "باب فضل من مات له ولد، فاحتسب".
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ويقويّ الأول قوله في بقية الحديث: "بفضل رحمته إياهم"، لأن الرحمة للصغار أكثر، لعدم حصول الإثم منهم، وهل يلتحق بالصغار من بلغ مجنونا مثلًا، واستمرّ على ذلك، فمات؟ فيه نظر، لأن كونهم لا إثم عليهم يقتضي الإلحاق، وكون الامتحان بهم يَخِفُّ بموتهم يقتضي عدمه.
ولم يقع التقييد في طرق الحديث بشدّة الحب ولا عدمه، وكان القياس يقتضي ذلك، لما يوجد من كراهة بعض الناس لولده، وتبرّمه منه، ولا سيما من كان ضيّق الحال، لكن لما كان الولد مظنة المحبّة، والشفقة، نِيطَ به الحكم، وإن تخلّف في بعض الأفراد. انتهى
(1)
.
(إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ) تقدم أن هذا الاستثناء، وما بعده خبر "ما" الحجازية، أو خبر المبتدإ. وفي حديث عُتبة بن عبد اللَّه السلميّ، عند ابن ماجه بإسناد حسن، نحو حديث الباب، لكن فيه:"إلا تلقّوه من أبواب الجنة الثمانية، من أيها شاء دخل"، وهذا أمر زائد على مطلق دخول الجنة، ويشهد له ما تقدم للمصنّف قبل بابين بإسناد صحيح، من حديث معاوية بن قرّة، عن أبيه، مرفوعًا، وفيه:"ما يسرّك أن لا تأتي بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك"(بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ") أي بفضل رحمة اللَّه تعالى للأولاد. وقال ابن التين: قيل: إن الضمير في "رحمته" للأب، لكونه كان يرحمهم في الدنيا، فيُجازَى بالرحمة في الآخرة، والأول أولى، ويؤيده أن في رواية ابن ماجه من هذا الوجه "بفضل رحمة اللَّه إياهم"، وللمصنف من حديث أبي ذر رضي الله عنه الحديثُ التالي لهذا الحديث بلفظ:"إلا غفر اللَّه لهما بفضل رحمته إياهم". ولأحمد والطبراني، من حديث الحارث بن أُقَيش -بقاف ومعجمة مصغّرًا - عن أبي برزة رضي الله عنه مرفوعًا:"ما من مسلين يموت لهما أربعة أفراط، إلا أدخلهما اللَّه الجنة بفضل رحمته"، وقد تقدم في الباب الماضي
وكذا في حديث عمرو بن عَبَسَة، كما تقدم.
وقال الكرماني: الظاهر أن المراد بقوله: "إياهم" جنس المسلم الذي مات أولاده،
(1)
- "فتح" ج 3 ص 457 - 458.
لا الأولاد، أي بفضل رحمة اللَّه لمن مات لهم، قال: وساغ الجمع لكونه نكرة في
سياق النفي، فتعمّ انتهى.
قال الحافظ: وهذا الذي زعم أنه ظاهر ليس بظاهر، بل في غير هذا الطريق ما يدلّ على أن الضمير للأولاد، ففي حديث عمرو بن عَبَسَة عند الطبرانيّ:"إلا أدخله اللَّه برحمته هو وإياهم الجنة"، وفي حديث أبي ثعلبة الأشجعيّ المتقدم ذكره:"أدخله اللَّه الجنة بفضل رحمته إياهم"، قاله بعد قوله:"من مات له ولدان"، فوضح بذلك أن الضمير في قوله:"إياهم" للأولاد، لا للآباء، واللَّه أعلم انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عمرو بن عَبَسَة، وحديث أبي ثعلبة قد تقدم أنهما متكلم فيهما، فالأولى في الردّ على الكرماني حديث أبي ذرّ، وأبي هريرة رضي الله عنه المذكوران في هذا الباب، مرفوعًا:"ما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة أولاد، لم يبلغوا الحنث إلا غفر اللَّه لهما بفضل رحمته إياهم"، لفظ أبي ذرّ رضي الله عنه، ولفظ أبي هريرة:"إلا أدخلهما اللَّه بفضل رحمته إياهم الجنة". ففيه بيان واضح أن الضمير للأولاد لا للآباء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أنس رضي الله عنه هذا أخرجه البخاريّ.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-23/ 1873 - وفي "الكبرى" 25/ 2001 - وأخرجه (خ) 1248 و 1381 (ق) 1605 (أحمد) 12126 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1874 -
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ، قُلْتُ: حَدِّثْنِي، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ، يَمُوتُ بَيْنَهُمَا، ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا، بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدريّ البصريّ ثقة [10] 42/ 47.
2 -
(بشر بن المفضّل) بن لاحق الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت عابد [8] 66/ 82.
3 -
(يونس) بن عُبيد بن دينار العبديّ البصريّ، ثقة ثبت فاضل وَرع [5] 88/ 109.
(1)
- "فتح" ج 3 ص 458.
4 -
(الحسن) بن أبي الحسن يَسَار البصريّ الإمام الحجة الفقيه الثبت [3] 32/ 36.
5 -
(صعصعة بن معاوية) بن حُصين التميميّ السعديّ، عم الأحنف بن قيس، له صحبة، وقيل: إنه مخضرم، وقال النسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان في ولاية الحجّاج على العراق. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والنسائيّ، وابن ماجه. وله فى هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (1874) و (3185).
6 -
(أبو ذرّ) جُنْدب بن جُنَادة، وقيل: غير ذلك رضي الله عنه -203/ 322.
وفي هذا السند ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، يونس، والحسن، وصعصعة، على الخلاف الذي تقدم فيه. وشرح الحديث يعلم مما قبله.
وأما تخريجه: فقد أخرجه المصنف هنا -23/ 1874 - وفي "الكبرى" 25/ 2002 - وأخرجه (أحمد) 20834 و 27699 و 27749 و 25942. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1875 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا يَمُوتُ لأَحَدٍ
(1)
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، فَتَمَسَّهُ النَّارُ، إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ».
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد البَغْلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس الإمام الفقيه الحجة المدنيّ [7] 7/ 7.
3 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري المدنيّ الإمام الحجة الحافظ [4] 1/ 1.
4 -
(سعيد) بن المسيّب القرشيّ المدني الإمام الفقيه الحجة من كبار [3] 1/ 1.
5 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1.
والسند مسلسل بالمدنيّين، غير شيخه، فبغلانيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه سعيد بن المسيّب أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة أحد المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.
وشرح الحديث يعلم مما تقدّم.
وقوله: "فتمسّه النار" المشهور عندهم نصب "فتمسَّه" على أنه جواب النفي، لكن يشكل ذلك بأن الفاء في جواب النفي، تدلّ على سببية الأول للثاني، قال اللَّه تعالى:{لَا يُقْضَي عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36]، وموت الأولاد ليس سببا لدخول النار، بل
(1)
- وفي نسخة: "لرجل".
سبب للنجاة عنها، وعدمِ الدخول فيها، بل لو فُرض صحّة السببية فهي غير مرادة ههنا، لأن المطلوب أن من مات له ثلاثة ولد لا يدخل بعد ذلك النار، إلا تحلّة القسم، وعلى تقدير كونه جوابًا يصير المعنى فاسدًا قطعًا، إذ لازمه أن موت ثلاثة من الولد لا يتحقّق لمسلم قطعًا، وأنه لو تحقّق لدخل ذلك المسلم النار دائمًا، إلا قدر تحلّة القسم، فالوجه الرفع، على أن الفاء عاطفة للتعقيب، والمعنى أنه بعد موت ثلاثة ولد لا يتحقّق الدخول في النار إلا تحلّة القسم، وأقرب ما قيل في توجيه النصب أن الفاء بمعنى الواو المفيدة للجمع، وهي تنصب المضارع بعد النفي، كالفاء، والمعنى لا يجتمع موت ثلاثة من الولد، ومسّ النار، إلا تحلّة القسم. قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
وقوله: "إلا تحَلَّةَ القسم". -بفتح المثناة، وكسر المهملة، وتشديد اللام- أي ما تنحَلّ به القسم، وهو اليمين، وهو مصدر حَلَّلَ اليمينَ، أي كفّرها، يقال: حلّل تحَليلاً، وتَحِلّةً، وتحَلاّ، بغير هاء، والثالث شاذّ. وقال الخطابيّ: حلّلت القسم تحلّةً: أي أبررتها. واللَّه تعالى أعلم.
فائدة: يستفاد من هذا الحديث أن من حلف أن يفعل كذا، ثم فعل منه شيئًا، ولو قلّ برّت يميمنه، خلافا لمالك،، قاله عياض وغيره. واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -25/ 1875 - وفي "الكبرى" 25/ 2003 - وأخرجه (خ) 1250 و 1256 و 102 و 7310 (م) 2632 (ت) 1060 (ق) 1603 (مالك في الموطإ) 554 (أحمد) 17022 و 10903 و 11289.
المسألة الثالثة: قال القرطبيّ: اختُلِفَ في المراد بالقسم في قوله: "إلا تحلّة القسم":
فقيل: هو معيّن، وقيل: غير معيّن، فالجمهور على الأول، وقيل: لم يُعنَ به قسم بعينه، وإنما معناه التقليل لأمر وردوها، وهذا اللفظ يُستعمل في هذا، تقول: لا ينام هذا إلا لتحليل الأَلِيّةِ، وتقول: ما ضربته إلا تحليلاً، إذا لم تُبالغ في الضرب، أي قدرًا يصيبه منه مكروه. وقيل: الاستثناء بمعنى الواو، أي لا تمسّه النار قليلاً، ولا كثيرًا، ولا تحلّة القسم، وقد جوّز الفرّاء والأخفش مجيء "إلا" بمعنى الواو، وجعلوا منه قوله
(1)
- "شرح السندي" ج 4 ص 25.
تعالى: {لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} ، والأول قول الجمهور، وبه جزم أبو عبيد وغيره، وقالوا: المراد به قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ، قال الخطابيّ: معناه لا يدخل النار ليُعاقَبَ بها، ولكنه يدخلها مُجتازًا، ولا يكون ذلك الجواز إلا قدر ما يُحَلِّل به الرجل يمينه، ويدلّ على ذلك ما وقع عند عبد الرزّاق، عن معمر، عن الزهريّ في آخر هذا الحديث:"إلا تحلّة القسَم" يعني الورود.
وفي "سنن سعيد بن منصور"، عن سفيان بن عُيينة في آخره: ثم قرأ سفيان: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ، ومن طريق زمْعَةَ بن صالح، عن الزهريّ في آخره: قيل: وما تحلّة القسم؟ قال: قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} . قال في "الفتح": وكذا وقع في رواية كريمة في الأصل: قال أبو عبد اللَّه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ، وكذا حكاه عبد الملك بن حبيب، عن مالك في تفسير هذا الحديث، وورد نحوه من طريق أخرى في هذا الحديث، رواه الطبرانيّ من حديث عبد الرحمن بن بشر الأنصاريّ، مرفوعًا:"من مات له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث، لم يرد النار إلا عابر سبيل"، يعني الجواز على الصراط، وجاء مثله من حديث آخر، أخرجه الطبراني، من حديث سهل بن معاذ ابن أنس الجهنيّ، عن أبيه مرفوعًا: "من حَرَسَ وراء المسلمين في سبيل اللَّه، متطوّعًا، لم يَرَ النارَ بعينه، إلا تحلّة القسم، فإن اللَّه عز وجل قال:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} انتهى.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
المسألة الرابعة: اختلف في موضع القسم من الآية، فقيل: هو مقدّر، أي واللَّه إن منكم، وقيل: معطوف على القسم الماضي في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} أي قسمًا واجبًا، كذا رواه الطبرانيّ وغيره من طريق مرة، عن ابن مسعود، ومن طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد، ومن طريق سعيد، عن قتادة في تفسير هذه الآية. وقال الطيبيّ: يحتمل أن يكون المراد بالقسم ما دلّ على القطع والبتّ من السياق، فمن قوله:{كَانَ عَلَى رَبِّكَ} تذييل، وتقرير لقوله:{وَإِنْ مِنْكُمْ} فهذا بمنزلة القسم، بل أبلغ لمجيء الاستثناء بالنفي والإثبات. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الخامسة: اختلف السلف في المراد بالورود في الآية، فقيل: هو الدخول، روى عبد الرزّاق، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، أخبرني من سمع ابن عباس، فذكره. وروى أحمد، والنسائيّ، والحاكم، من حديث جابر مرفوعًا:"الورود الدخول، لا يبقى بَرّ، ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردًا وسلامًا". وروى الترمذيّ، وابن أبي حاتم، من طريق السُّدّيّ، سمعت مرة، يحدث عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: يردونها، أو يَلِجونها، ثم يصدرون عنها بأعمالهم، قال عبد الرحمن بن
مهديّ: قلت لشعبة: إن إسرائيل يرفعه، قال: صدق، وعمدًا أدعه، ثم رواه الترمذيّ، عن عبد بن حميد، عن عبيد اللَّه بن موسى، عن إسرائيل، مرفوعًا. وقيل: المراد بالورود الممرّ عليها، روه الطبريّ وغيره من طريق بشر بن سعيد، عن أبي هريرة، ومن طريق أبي الأحوص، عن عبد اللَّه بن مسعود، ومن طريق معمر، وسعيد، عن قتادة، ومن طريق كعب الأحبار، وزاد:"يستوون كلهم على متنها، ثم ينادي مناد أمسكي أصحابك، ودعي أصحابي، فيخرج المؤمنون نَديّة أبدانهم". وهذان القولان أصحّ ما ورد في ذلك.
ولا تنافي بينهما، لأن من عبّر بالدخول تجوّز به عن المرور، ووجهه أن المارّ عليها فوق الصراط في معنى من دخلها، لكن تختلف أحوال المارّة باختلاف أعمالهم، فأعلاهم درجةً من يمرّ كلمع البرق، ويؤيّد صحّةَ هذا التأويل ما رواه مسلم من حديث أمّ مبشّر، أن حفصة قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لَما قال: "لا يدخل أحد شهد الحديبية النار": أليس اللَّه يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فقال لها: "أليس اللَّه تعالى يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} " الآية.
وفي هذا بيانُ ضعفِ قول من قال: الورود مختصّ بالكفّار، ومن قال: معنى الورود الدنوّ منها، ومن قال: معناه الإشراف عليها، ومن قال: معنى ورودها ما يصيب المؤمن في الدنيا من الحمّى، على أن هذا الأخير ليس ببعيد، ولا ينافيه بقية الأحاديث، واللَّهأعلم. قاله في "الفتح"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1876 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، وَهُوَ الأَزْرَقُ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ، يَمُوتُ بَيْنَهُمَا، ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلاَّ أَدْخَلَهُمَا اللَّهُ، بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمُ
(2)
الْجَنَّةَ» ، قَالَ:«يُقَالُ لَهُمُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُونَ: حَتَّى يَدْخُلَ آبَاؤُنَا، فَيُقَالُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ابن عُليّة) الدمشقي القاضي، ثقة [11] 22/ 489.
2 -
(عبدالرحمن بن محمد) بن سلاّم بن ناصح البغداديّ، ثم الطُّوسيّ، أبو
(1)
- "فتح" ج3 ص 461 - 463.
(2)
- وفي نسخة: "إياهما".
القاسم، مولى بني هشام، وقد ينسب إلى جدّه، لا بأس به [11] 172/ 1141.
3 -
(إسحاق) بن يوسف بن مِرداس المخزوميّ الأزْرق الواسطيّ، ثقة [9] 22/ 489.
4 -
(عوف) بن أبي جمَيلَة الأعرابيّ البصريّ، ثقة رمي بالقدر وبالتشيع [6] 46/ 57.
5 -
(محمد) بن سيرين أبو بكر البصريّ الإمام الحجة الثبت [3] 46/ 57.
وشرح الحديث يعلم مما سبق.
وهو حديث صحيح، انفرد به المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا- 25/ 1876 وفي "الكبرى" 25/ 2004. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
26 - مَنْ قَدَّمَ ثَلَاَثةً
1877 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا
(1)
جَرِيرٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي طَلْقُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي طَلْقُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِابْنٍ لَهَا يَشْتَكِي، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَافُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ ثَلَاثَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَقَدِ احْتَظَرْتِ، بِحِظَارٍ شَدِيدٍ مِنَ النَّارِ» .
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إسحاق) بن إبراهيم ابن راهويه الإمام الحجة [10] 2/ 2.
2 -
(جرير) بن عبد الحميد الضبّيّ الكوفيّ، نزيل الرَّيّ، ثقة ثبت [8] 2/ 2.
3 -
(حفص بن غياث) بن طَلْق معاوية النخعي، أبو عمر الكوفي القاضي، ثقة فقيه، تغير قليلاً في الآخر [8] 86/ 105.
[تنبيه]: قوله: "وحفص" بالرفع عطف على "جرير"، فكلاهما يرويان عن جدّ الثاني، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(طلق بن معاوية) النخعيّ، أبو غياث الكوفيّ، تابعي كبير مخضرم
(2)
مقبول [2].
روى عن شُريح القاضي، وأبي زرعة بن عمرو بن جرير. وعنه حفيده حفص بن
(1)
- وفي نسخة: "أخبرنا".
(2)
- هكذا في "ت" تابعي كبير مخضرم، وهو محلّ نظر، واللَّه تعالى أعلم.
غياث، وسفيان الثوريّ، وشريك القاضي، ومحمد بن جابر السُّحَيميّ. ذكره ابن حبّان في "الثقات".
قال الحافظ: ونسبه ابن خلفون، فقال: طلق بن معاوية بن الحارث بن ثعلبة، كان معاوية ممن شهد القادسية. وفي "الأربعين" للجَوْزَقيّ: عن عمر بن حفص بن طلق بن معاوية بن الحارث بن ثعلبة، وكان ممن شهد بدرًا انتهى.
روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم، والمصنف حديثَ الباب فقط.
5 -
(أبو زرعة) بن عمرو بن جرير، اسمه هَرِم، وقيل: غيره البجليّ الكوفي، ثقة [3] 43/ 50.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فمروزيّ، وفيه رواية الراوي، عن جدّه، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة أحد المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: جَاءَتَ امْرَأَةْ) لم تُسمّ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِابْنِ لَهَا يَشْتَكِي) أي يتوجع من مرض حلّ به (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّه، أَخافُ عَلَيْهِ) أي الموتَ (وَقَدْ قَدَّمْتُ ثَلَاَثةً) أي مات لي قبله ثلاثة من الأولاد (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدِ احْتَظَرْتِ) أي احتميت، وامتنعتِ، قال المجد اللغويّ رحمه الله: حَظَرَ الشيءَ، وعليه: مَنَعَه، وحَجَرَه، واتخذ حَظِيرةً، كاحتَظَرَ، والمالَ حبسه فيها، والشيءَ حازه، والْحَظِيرةُ: جَرِينُ التمرِ، والمحيطُ بالشيء، خشبًا، أو قصبًا. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: والاحتظار فِعلُ الحِظَار، أراد لقد احتميت بحمى عظيم من النار، يَقِيك حَرَّها، ويؤمّنك دخولها انتهى
(2)
.
(بِحِظَارٍ شَدِيد) بفتح الحاء المهملة، وكسرها: هو ما يُجعل حول البستان، من شجر ونحوه، وقال المجد رحمه الله: الْحِظَارَ، ككتاب: الحائط، وُيفتَحُ، وما يُعمَل للإبل من شجر، ليقيها البرد انتهى. وفي نسخة:"بحظارة شديدة"(مِنَ النَّارِ) متعلق بـ "احتظرت". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
- "ق" في مادة حظر.
(2)
- "النهاية" ج 1 ص 404.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
المسألة الأولى. في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: فى بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-26/ 7781 - وفي "الكبرى" 24/ 2000. وأخرجه (م) 2636 (أحمد) 9150 و 905450 واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
27 - بَابُ النَّعْيِ
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: "النعي" بفتح ، فسكون، وكغنيّ: الإخبار بالموت، يقال: نَعَاه نَعْيًا، ونَعِيا، ونعْيَانًا بالضمّ: أخبر بموته، والنَّعِيّ، كغنيّ: الناعي، والْمَنْعِيّ. قاله في "ق"
وقال في "المصباح": نَعَيتُ الميتَ نَعْيًا، من باب نفع: أخبرتُ بموته، فهو مَنْعِيّ، واسم الفعل الْمَنْعَى، والْمَنْعَاةُ بفتح الميم فيهما، مع القصر، والفاعل: نَعِيّ، على فعيل، يقال: جاء نَعِيّه، أي ناعيه، وهو الذي يُخبر بموته، ويكون النَّعِيّ خَبَرًا أيضًا انتهى.
وقال في "اللسان": قال ابن سِيدَهْ: والنَّعْيُ، والنَّعِيُّ، بوزن فَعِيلِ: نداءُ الداعي، وقيل: هو الدعاء بموت الميت، والإشعارُ به، وجاء نَعِيُّ فلان: وهو خبر موته. وقال أبو زيد: النَّعِيُّ -أي كغنيّ- الرجل الميتُ، والنَّعْيُ -أي بفتح، فسكون- الفِعلُ انتهى
(1)
.
وقد ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بقوله: "باب الرجل يَنْعَى إلى أهل الميت بنفسه" انتهى.
فقال في "الفتح" بعد ذكر ما يتعلّق بالترجمة: ما نصه: وفائدة هذه الترجمة الإشارة إلى أن النعي ليس ممنوعًا كله، وإنما نهُي عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، فكانوا يرسلون من يُعلنُ بخبر موت الميت على أبواب الدُّور والأسواق.
وقال ابن المرابط: مراده أن النعي الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح، وإن كان فيه إدخال الكرب والمصائب على أهله، لكن في تلك المفسدة مصالح جمّة، لما يترتّب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته، وتهيئة أمره، والصلاة عليه، والدعاء له، والاستغفار، وتنفيذ وصاياه، وما يترتّب على ذلك من الأحكام.
(1)
- راجع "ق" و"المصباح" و"اللسان" في مادة نعى.
وأما نعي الجاهلية، فقال سعيد بن منصور: أخبرنا ابن عُليّة، عن ابن عون، قال: قلت لإبراهيم: أكانوا يكرهون النعي؟ قال: نعم، قال ابن عون: كانوا إذا تُوُفي الرجل ركب رجل دابّة، ثم صاح في الناس: أنعى فلانًا. وبه إلى ابن عون قال: قال ابن سيرين: لا أعلم بأسًا أن يُؤذِن الرجل صديقه وحميمه.
وحاصله أن محض الإعلام بذلك لا يكره، فمن زاد على ذلك فلا. وقد كان بعض السلف يشدّد في ذلك حتى كان حذيفة إذا مات له الميت يقول: لا تؤذنوا به أحدًا، إني أخاف أن يكون نعيًا، إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأذنيّ هاتين ينهى عن النعي. أخرجه الترمذيّ، وابن ماجه بإسناد حسن.
قال ابن العربيّ: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات:
الأولى: إعلام الأهل والأصحاب، وأهل الصلاح، فهذا سنة. الثانية: دعوة الْحَفْل للمفاخرة، فهذه تكره. الثالثة: الإعلام بنوع آخر، كالنياحة، ونحو ذلك، فهذا يحرم. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1878 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَنَسٍ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَعَى زَيْدًا، وَجَعْفَرًا، قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ خَبَرُهُمْ، فَنَعَاهُمْ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إسحاق) بن إبراهيم المذكور قبله.
2 -
(سليمان بن حرب) الأزديّ البصريّ، ثم المكيّ، ثقة ثبت حجة [9] 181/ 288.
3 -
(حماد بن زيد) بن درهم، أبو إسماعيل البصري الحافظ الثبت [8] 3/ 3.
4 -
(أيوب) بن أبي تميمة السختياني البصريّ الفقيه الحافظ الحجة [5] 42/ 48.
5 -
(حميد بن هلال) البصريّ، ثقة [3] 4/ 4.
6 -
(أنس) بن مالك رضي الله عنه 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأنه ومسلسل بالبصريين، غير شيخه، فمروزيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أنس أحد المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
- "فتح" ج 3 ص 453.
شرح الحديث
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَعَى) تقدم إيضاح معنى النعي في أول الباب (زَيْدًا) أي زيد بن حارثة، والد أسامة رضي الله عنه (وَجَعْفَرًا) أي ابن أبي طالب رضي الله عنه (قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ خَبَرُهُمْ) أي قبل مجيء خبر موتهم.
وذكر موسى بن عقبة في "المغازي" أن يعلى بن أميّة قدم بخبر أهلِ مُؤْتَة، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن شئت، فأخبرني، وإن شئت أخبرك"، قال: فأخبرني، فأخبره خبرهم، فقال: والذي بعثك بالحقّ ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره، وعند الطبراني من حديث أبي الْيَسَر الأنصاريّ أن أبا عامر الأشعريّ هو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمُصَابهم. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: لم يُذكَر في رواية المصنف عبدُ اللَّه بن رواحة، وكان معهما، وقد ذُكِر في رواية البخاريّ، وغيره، ولفظ البخاريّ عن شيخه أحمد بن واقد، عن حماد بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم، نعى زيدا، وجعفرا، وابن رواحة، للناس، قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال:"أخذ الراية زيد، فأصيب، ثم أخذ جعفر، فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة، فأصيب"، وعيناه تذرفان، حتى أخذ الراية سيف من سيوف اللَّه، حتى فتح اللَّه عليهم". انتهى.
[تنبيه آخر]: كان إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بموتهم في غزوة مؤتة -بالهمزة مكان بالقرب من البلقاء، وقيل: على مرحلتين من بيت المقدس- قال البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-:
4261 -
أخبرنا أحمد بن أبي بكر، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن، عن عبد اللَّه بن سعيد، عن نافع، عن عبد اللَّه بن عمر، رضي الله عنه قال: أَمَّرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، في غزوة مؤتة، زيد بن حارثة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر، فعبد اللَّه بن رواحة"، قال عبد اللَّه: كنت فيهم، في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب، فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين، من طعنة ورمية.
وسبب تلك الغزوة أن شرحبيل بن عمرو الغسّاني -وهو من أمراء قيصر على الشام- قتل رسولا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحب بُصرى، واسم الرسول الحارثُ بن عُمير، فجهز إليهم رسول النبي صلى الله عليه وسلم عسكرًا في ثلاثة آلاف في جمادى، من سنة ثمان من الهجرة
(2)
.
(فَنَعَاهُمْ) وفي نسخة: "نعاهم" بدون فاء (وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ") بكسر الراء، يقال: ذَرَفَت العين، ذَرْفًا، من باب ضَرَبَ: دَمِعَت، وَذَرَفَ الدمعُ: سأل، وذَرَفَت العين الدمعَ. قاله
(1)
- المصدر المذكور ج 7 ص 585.
(2)
- راجع "الفتح" ج 7 ص 583. طبعة دار الريان.
في "المصباح". والجملة الاسميّة حال من فاعل "نعى"، أي أخبر صلى الله عليه وسلم بموتهم، والحال أن عينيه تسيلان دمعا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أنس رضي الله عنه هذا أخرجه البخاريّ.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-27/ 1878 - وفي "الكبرى" 26/ 2005 - وأخرجه (خ) 1246 و 2798 و3630 و 3757 و 4262 (أحمد) 11704 و 4107 و 22494. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في فوائده:
منها: ما بوّب له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواز الإخبار بموت الشخص، ليقوم الناس بتجهيزه، والصلاة عليه، ودفنه، وغير ذلك، والنهي الوارد عن النعي محمول على ما كان من نعي الجاهلية، كما سبق تفصيله. ومنها: أن فيه علما من أعلام النبوة، ومعجزةً من معجزات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بموتهم بالشام، وهو بالمدينة قبل أن يأتي الخبر بذلك. ومنها: جواز البكاء على الميت، وقد تقدم البحث فيه مُستَوْفًى. ومنها: جواز ظهور الحزن على الإنسان عند المصيبة، والجلوس في المسجد لذلك، ففي رواية عائشة رضي الله عنها لهذا الحديث، كما تقدم -14/ 1847 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه قتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن رواحة رضي الله عنه جلس يعرف فيه الحزن، زاد في رواية البيهقيّ:"جلس في المسجد". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1879 -
أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، أَخْبَرَهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَعَى لَهُمُ النَّجَاشِيَّ، صَاحِبَ الْحَبَشَةِ، الْيَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَقَالَ:«اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ» .
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أبو داود) سليمان بن سَيْف الحرّانيّ، ثقة حافظ [11] 103/ 136.
2 -
(يعقوب) بن إبراهيم بن سعد الزهري المدنيّ، ثم البغداديّ، ثقة، من صغار [9] 196/ 314.
3 -
(أبوه) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدني، ثم البغداديّ، ثقة حجة [8] 196/ 314.
4 -
(صالح) بن كيسان الغفاريّ مولاهم المدنيّ، ثقة ثبت [4] 196/ 314.
5 -
(ابن شهاب) الزهريّ الإمام الحافظ الحجة المدنيّ [4] 1/ 1.
6 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة فقيه [3] 1/ 1.
7 -
(ابن المسيب) سعيد القرشيّ المدني الفقيه الثبت الحجة من كبار [3] 9/ 9.
8 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1.
والسند مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فحرّانيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعي، عن تابعيين، وفيه اثنان من الفقهاء السبعة؛ وفيه أبو هريرة أحد المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.
وسيأتى شرح الحديث، والكلام على مسائله في "باب الصفوف على الجنازة" 72/ 1970 إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
1880 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَعِيدٌ
(1)
: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ سَيْفٍ، الْمَعَافِرِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ، نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ بَصُرَ بِامْرَأَةٍ، لَا تَظُنُّ أَنَّهُ عَرَفَهَا، فَلَمَّا تَوَسَّطَ الطَّرِيقَ، وَقَفَ، حَتَّى انْتَهَتْ إِلَيْهِ، فَإِذَا فَاطِمَةُ، بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لَهَا:«مَا أَخْرَجَكِ مِنْ بَيْتِكِ، يَا فَاطِمَةُ؟» . قَالَتْ: أَتَيْتُ أَهْلَ هَذَا الْمَيِّتِ، فَتَرَحَّمْتُ إِلَيْهِمْ، وَعَزَّيْتُهُمْ بِمَيِّتِهِمْ، قَالَ:«لَعَلَّكِ بَلَغْتِ، مَعَهُمُ الْكُدَى» ، قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ، أَنْ أَكُونَ بَلَغْتُهَا، وَقَدْ سَمِعْتُكَ، تَذْكُرُ فِي ذَلِكَ، مَا تَذْكُرُ، فَقَالَ لَهَا:«لَوْ بَلَغْتِهَا مَعَهُمْ، مَا رَأَيْتِ الْجَنَّةَ، حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيكِ» .
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: رَبِيعَةُ ضَعِيفٌ.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُبيد اللَّه بن فَضَالة بن إبراهيم) النسائي، ثقة ثبت [11] 170/ 898.
2 -
(محمد بن عبد اللَّه بن يزيد المقرئ) أبو يحيى المكيّ، ثقة [10] 11/ 11.
3 -
(عبد اللَّه بن يزيد المقرئ) المكيّ، ثقة فاضل [9] 4/ 746.
4 -
(سعيد) بن أبي أيوب مِقْلاص الْخُزَاعيّ مولاهم، أبو يحيى المصريّ، ثقة ثبت [7]. قال أحمد: لا بأس به. وقال ابن معين: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتًا. وقال ابن
(1)
- وفي بعض النسخ "قال: قال سعيد: حدثني الخ".
يونس: كان فقيهًا. وقال ابن وهب: كان فَهِمًا حُلْوًا، فقيل له: كان فقيهًا؟ فقال: نعم واللَّه. وقال الساجيّ: صدوق. ووثقه يحيى بن بكير. وذكره ابن حبان في "الثقات".
مات سنة (161) وقيل: غير ذلك. وكان مولده سنة (100) روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث.
5 -
(ربيعة بن سيف) بن ماتع -بكسر المثناة- الْمَعَافريّ
(1)
الصَّنَّمِيّ
(2)
الإسكندارانيّ، صدوق له مناكير [4].
قال البخاريّ: عنده مناكير، وقال أيضًا في "الأوسط": روى أحاديث لا يُتابع عليها. وقال النسائيّ: ليس به بأس، وضعّفه في "المجتبى" هنا. وقال الدارقطنيّ: مصريّ صالح. وقال العجليّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: يُخطىء كثيرًا. وقال ابن يونس: في حديثه مناكير، توفي قريبًا من سنة (120).
روى له أبو داود، والنسائيّ، حديث الباب، وروى له الترمذيّ آخَرَ من روايته عن عبد اللَّه بن عمرو في الموت يوم الجمعة، وقال: غريب، وليس إسناده بمتصل، ربيعة إنما يروي عن الْحُبُليّ، عن عبد اللَّه بن عمرو، ولا نعرف لربيعة سماعًا من ابن عمرو انتهى.
6 -
(أبوعبد الرحمن الْحُبُليّ"
(3)
عبد اللَّه يزيد الْمَعَافريّ المصري، ثقة [3] 60/ 1303.
7 -
(عبد اللَّه بن عمرو) بن العاص رضي الله عنهما 89/ 111.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأنه مسلسل بالمصريين، غير شيخه عبيد اللَّه، فنسائيّ، ومحمد، وأبوه مكيان، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَن عَبدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: بَينَمَا نَحْنُ، نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أبي داود من طريق المفضّل بن فضالة، عن ربيعة: "قبرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعني ميتًا - فلما فرغنا انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وانصرفنا معه، فلما حاذى بابه وقف، فإذا نحن بامرأة مُقبلة
…
الحديث (إِذ بَصُرَ بامرَأَةٍ) بضم الصاد، وكسرها، من بابي
(1)
- "المعافري"- بفتح الميم، وكسر الفاء والراء: نسبة إلى المعافر بطن من قحطان. انتهى "لب اللباب" ج 2 ص 264.
(2)
- "الصِّنَّمِيّ" بفتحتين: نسبة إلى صَنَّم، بطن من الأشعريين في المعافر انتهى "لب اللباب". ج 2 ص 264.
(3)
- "الْحُبُليّ" -بضم المهملة، والموحّدة- ووقع في بعض نسخ "المجتبى":"الجبلي" بالجيم بدل الحاء، وهو تصحيف. فتنبّه.
كَرُم، وفرِحَ، بصَرًا، وبَصَارة، وُيكسَر: صار مبصرًا. قاله في "ق"، وقال في "المصباح": بَصُرتُ بالشيء -بالضمّ، والكسرُ لغةٌ- بَصَرًا -بفتحتين-: علمتُ، فأنا بصير به، يتعدّى بالباء في اللغة الفصحى، وقد يتعدّى بنفسه انتهى
(1)
(لَا تَظُنُّ أَنَّهُ عَرَفَهَا) أي لا تظنّ تلك المرأة أن النبي صلى الله عليه وسلم عرفها. وفي نسخة: "لا نظنّ". وفي أخرى: "لا يُظَنّ"، وعليها فالفعل مبنيّ للمفعول. ولفظ رواية أبي داود المذكورة:"أظنّه عرفها"، والظان على هذا هو عبد اللَّه بن عمرو. واللَّه تعالى أعلم.
(فَلَما تَوَسَّطَ الطَّرِيقَ) وفي رواية أبي داود المذكورة: "فلما حاذى بابه
…
" ولا تنافي بينهما أيضا، لأن المحاذاة لا تستلزم وصوله إلى الباب، بل كان وقوفه في وسط الطريق المحاذي لبابه، واللَّه تعالى أعلم.
(وَقَفَ، حَتَّى انْتَهَتْ إِلَيْهِ) أي وصلت تلك المرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم (فَإِذَا فَاطِمَةُ)"إذا" للمفاجاة، أي ففاجأه كونها فاطمة رضي الله عنها (بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بدل من "فاطمة" (قَالَ: لَهَا) صلى الله عليه وسلم (مَا أَخْرَجَكِ مِنْ بَيْتِكِ، يَا فَاطِمَةُ؟)"ما" استفهامية، أي أيّ شيء جعلك تخرجين من بيتك الذي أمرك اللَّه بأن تَقَرّي فيه، حيث قال تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} الآية [الأحزاب: 33]، (قَالَتْ: أَتَيْتُ أَهْلَ هَذَا الْمَيَّتِ) أي الذي دفنه هو وأصحابه، كما تقدم في رواية أبي داود، ولفظ "الكبرى":"أهل البيت" بالباء بدل الميم (فَتَرَحَّمْتُ إِلَيْهِمْ) أي دعوت بالرحمة لميتهم، فقلت فيه: رحم اللَّه ميتكم، فأوصلت ذلك إليهم، حتى يفرحوا به (وَعَزَّيتُهُمْ بِمَيِّتِهِمْ) أي قلت لهم: أحسن اللَّه عَزَاءَكُم، يقال: عَزِي يَعْزَى، من باب تَعِبَ: صَبَرَ على ما نابه، وعَزّيته تَعْزية: قلت له: أحسن اللَّه عَزَاءك، أي رَزَقَك الصبر الحسن. قاله في "المصباح"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَعَلَّكِ بَلَغْتِ، مَعَهُمُ الْكُدَى؟) زاد في رواية ابن حبّان: فسألتُ ربيعة عن الكُدَى؟ فقال: القبور انتهى
(2)
.
و"الكُدُى" بضمّ الكاف، جمع كُدْية، وهي في الأصل القطعة من الأرض، سميت قبورهم بها، لأنها كانت تحُفر في المواضع الصلبة، خشية السقوط. قال ابن الأثير رحمه الله: وُيروَى "الكُرَا" بالراء، جمع كُرية، أو كُروة، من كريت الأرض، وكروتها: إذا حفرتها، كالحُفْرَة، من حَفَرْتُ انتهى
(3)
. والحديث يدلّ على مشروعية التعزية، وعلى جواز خروج النساء لها.
(قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ) منصوب على أنه مصدر لفعل مقدّر، أي أعوذ معاذَ اللَّه (أَنْ أَكُونَ بَلَغْتُهَا) في تأويل المصدر مجرور بحرف جرّ محذوف قياسًا، أي من كوني بلغت تلك
(1)
- راجع "ق" و "المصباح" في مادة بصر.
(2)
- انظر "صحيح ابن حبان" ج 7 ص 451. رقم الحديث 3177.
(3)
- "النهاية" ج 4 ص 156 وص 169.
الكُدَى (وَقَدْ سَمِعْتُكَ، تَذْكُرُ فِي ذَلِكَ، مَا تَذْكُرُ) أي من الوعيد، من نحو قوله صلى الله عليه وسلم:"لعن اللَّه زَوَّارات القبور" حديث حسن أخرجه الترمذي، وابن ماجه (فَقَالَ لَهَا: لَوْ بَلَغْتِهَا) أي الكدى (مَعَهُمْ) مع أهل هذا الميت (مَا رَأَيْتِ الْجَنَّةَ، حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيكِ) يعني عبد المطّلب، قال الإمام ابن حبّان -رحمه اللَّه تعالى-: يريد ما رأيت الجنّة العاليةَ التي يدخلها مَن لم يرتكب ما نَهَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عنه، لأن فاطمة علمت النهي قبل ذلك، والجنةُ هي جنان كثيرة، لا جنة واحدة، والمشرك لا يدخل جنّة من الجنان أصلاً، لا عالية، ولا سافلة، ولا ما بينهما انتهى
(1)
.
وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: ظاهر السياق، يفيد أن المراد ما رأيت أبدًا، كما لم يرها فلان، وأن هذه الغاية من قبيل {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، ومعلوم أن المعصية غيرَ الشرك لا تؤدي إلى ذلك، فإما أن يحمل على التغليظ في حقها، وإما أن يحمل على أنه علم في حقها أنها لو ارتكبت تلك المعصية لأفضت بها إلى معصية تكون مؤدية إلى ما ذُكر انتهى.
وقال السيوطي رحمه الله: أقول: لا دلالة في هذا على ما توهمه المتوهمون، لأنه لو مشت امرأة مع جنازة إلى المقابر، لم يكن ذلك كفرًا، موجبًا للخلود في النار، كما هو واضح، وغاية ما في ذلك أن يكون من جملة الكبائر التي يُعذّب صاحبها، ثم يكون آخر أمره إلى الجنة، وأهل السنّة يؤولون ما ورد من الحديث في أهل الكبائر، أنهم لا يدخلون الجنة، والمراد لا يدخلونها مع السابقين الذين يدخلونها أوّلاً بغير عذاب، فغاية ما يدلّ عليه الحديث المذكور هو أنها لو بلغت معهم الكُدَى لم تر الجنة مع السابقين،
بل يتقدم ذلك عذاب، أو شدة، أو ما شاء اللَّه، من أنواع المشاقّ، ثم يَؤُول أمرها إلى دخول الجنة قطعًا، ويكون عبد المطلب كذلك لا يرى الجنة مع السابقين، بل يتقدّم ذلك الامتحان وحده، أو مع مشاقّ أخر، ويكون معنى الحديث لم تَرَي الجنةَ حتى يجيء الوقت الذي يراها فيه جدّ أبيك، فترينها حينئذ، فتكون رؤيتك لها متأخّرة عن رؤية غيرك من السابقين لها. هذا مدلو الحديث، لا دلالة له على قواعد أهل السنة غير ذلك، والذي سمعتُهُ من شيخنا شيخ الإسلام شرف الدين المناويّ، وقد سئل عن عبد المطلب، فقال: هو من أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة، وحكمهم في المذهب معروف انتهى
(2)
.
(1)
- راجع "صحيح ابن حبان" ج 7 ص 451 - 452 رقم الحديث 3177.
(2)
- راجع "زهر الربى"، و "شرح السنديّ" ج 4 ص 27 - 28.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى منه: عندي ما تقدم من تأويل ابن حبان هو الأولى، وحاصله أن الجنة المنفي رؤيتها هي نوع أعلى من أنوع الجنان، بمعنى أنها تحُرَم منها لارتكابها المنهيّ عنه، لا أنها تحرم من أصل الجنة. واللَّه تعالى أعلم.
وأما ما نقله السيوطيّ عن شيخه مما يدلّ على نجاة عبد المطلب، فإنه محل نظر، إذ يحتاج إلى نصّ صحيح صريح في ذلك، فقد صحّ أنه صلى الله عليه وسلم استأذن ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له، حتى بكى، وأبكى من حوله، وهي ماتت قبل عبد المطلب، وقبل مبعثه صلى الله عليه وسلم بزمان، وسيترجم المصنّف رحمه الله لقصة الاستغفار لها بقوله:"باب زيارة قبر المشرك" في [101/ 2034]، وسيكون لنا عودة إلى إتمام البحث في المسألة هناك، إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(قال أبو عبدالرحمن) أي المصنف (ربيعة) يعني بن سيف الراوي عن أبي عبد الرحمن الحُبُليّ (ضعيف) وكذا قال البخاريّ عنده مناكير، وقال ابن يونس: في حديثه مناكير، وقال البخاريّ أيضا في "الأوسط": روى أحاديث لا يتابع عليها، وقال ابن حبان: يخطىء كثيرًا.
وقال الذهبيّ في "الميزان": وضعفه عبد الحقّ الأزديّ عند ما روى له حديث: "يا فاطمة أبلغت معهم الكدى
…
"، فقال: هو ضعيف الحديث، عنده مناكير. وقال ابن حبّان: لا يتابع ربيعة على هذا، في حديثه مناكير، فأما النسائيّ في "كتابه التمييز"، فأورد له هذا، وقال: ليس به بأس انتهى
(1)
.
[تنبيه]: وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة، من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهب إلى دفن الميت المذكور إلا بعد النعي له بموته، وإعلامهم إياه بذلك، ففيه دليل على جواز النعي.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث عبد اللَّه بن عَمْرٍو رضي الله عنه هذا ضعيف؛ لضعف ربيعة بن سبق.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا - 27/ 1880 - وفي "الكبرى" 27/ 2007 - وأخرجه (د) 3123 (أحمد)6538. (ابن حبّان) 3177 (الحاكم) ج1 ص373 - 374 (البيهقي) ج 4 ص 77 - 78 - وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وهو غير صحيح، فإن ربيعة ليس من رجالهما، وقد ضعفه الأكثرون، كما تقدم قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
- راجع ميزان الاعتدال ج 2 ص 43 - 44.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
28 - غَسْلُ الْمَيّتِ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قال المجد اللغويّ -رحمه اللَّه تعالى-: "السِّدْر" -بكسر فسكون-: شجر النبِقِ، الواحدة بهاء، جمعه سِدرَات-بكسر فسكون- وسِدِرَات- بكسرتين- وسِدَرَات -بكسر ففتح- وسِدَر- كذلك- وسُدُرٌ -بضمتين- انتهى بإيضاح
(1)
.
وقال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: "السِّدْرّة": شجرة النَّبِقِ، والجمع سِدَرٌ -بكسر ففتح- ثم يُجمعُ على سِدَرَات، فهو جمع الجمع، وتجُمَع السدرة أيضًا على سِدْرَات - بالسكون- حملاً على لفظ الواحد، قال ابن السَّرَّاج: وقد يقولون: سِدْرٌ -بكسر فسكون- ويريدون الأقلّ، لقلّة استعمالهم التاء في هذا الباب، وإذا أطلق السِّدْر في الغَسْل فالمراد به الوَرَقُ المطحون، قال الحجّة في التفسير: والسدر نوعان: أحدهما ينبت في الأَرْياف، فيُنتَفَع بوَرَقه في الغَسْل، وثمرته طيّبة، والآخر ينبت في البّرّ، ولا يُنتفع بوَرَقه في الغَسْل، وثمرته عَفِصَةٌ
(2)
. انتهى
(3)
.
قال الزين ابن المنيّر -رحمه اللَّه تعالى-: جعلهما معا آلة لغسل الميت، وهو مطابق لحديث الباب، لأن قوله:"بماء وسدر" يتعلّق بقوله: "اغسلنها"، وظاهره أن السدر يُخلَط في كلّ مرّة من مرّات الغسل، وهو مشعر بأن غسل الميت للتنظيف، لا للتطهير، لأن الماء المضاف لا يُتطهّر به انتهى.
قال الجامع: قوله: "لأن الماء المضاف لا يتطهّر به" غير صحيح، لأن حديث الباب ظاهر في كونه مطهّرًا، ولا يُعدل عن هذا الظاهر إلا لدليل صحيح صريح، فالماء المضاف إليه السدر ونحوه من الأشياء الطاهرة مطهّر ما دام اسم الماء ثابتا له، كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيّم -رحمهما اللَّه تعالى-
(4)
.
وقال في "الفتح" بعد نقل كلام ابن المنيّر المذكور: وقد يُمنع لزوم كون الماء يصير مضافا بذلك، لاحتمال أن لا يُغَيِّر السدرُ وصف الماء بأن يُمعَك بالسدر، ثم يغسل
(1)
- "ق" في مادة س د ر.
(2)
- يقال: طعام عَفِصٌ: فيه تقبّض. قاله في "المصباح".
(3)
- "المصباح" في مادة س د ر.
(4)
- أجاد الشيخ العلامة ابن باز حفظه اللَّه تعالى في هذا فيما علقه على هامش "فتح الباري" فراجع ما كتبه ج 3 ص 464 طبعة مؤسسة الرسالة.
بالماء في كلّ مرة، فإن لفظ الخبر لا يأبى ذلك. انتهى.
قال الجامع: لكن الأول هو الظاهر، فلا داعي إلى أن يعدل عنه، كما علمت. واللَّه أعلم.
وقال القرطبيّ: يُجعل السدر في ماء، ويُخَضخَض
(1)
إلى أن تخرج رغوته
(2)
، ويدلك به جسده، ثم يصب عليه الماء القَرَاح
(3)
، فهذه غسلة.
وحكى ابن المنذر أن قوما قالوا: تُطرح ورقات السدر في الماء، أي لئلا يمازج الماء، فيتغير وصفه المطلق. وحكي عن أحمد أنه أنكر ذلك، وقال: يغسل في كلّ مرّة بالماء والسدر.
قال الجامع: هذا الذي حُكِي عن الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- هو الحقّ، الذي يجب المصير إليه، وما عداه من التأويلات التي ذكروها، فآراء ساقطة، لا أثارة عليها من الأدلة، واللَّه تعالى أعلم.
قال الحافظ: وأعلى ما ورد في ذلك ما رواه أبو داود من طريق قتادة، عن ابن سيرين أنه كان يأخذ الغُسل، عن أمّ عطيّة، فيغسل بالماء والسدر مرتين، والثالثة بالماء والكافور. قال ابن عبد البرّ. كان يقال. كان ابن سيرين من أعلم التابعين بذلك.
قال الجامع: هذا الذي نُقل عن ابن سيرين هو الذي ينبغي اتباعه، لكونه أعلم التابعين بذلك، لكن الثالثة تكون بالماء والسدر، والكافور، لظاهر النصّ، واللَّه تعالى أعلم.
وقال ابن العربىّ: من قال: الأولى بالماء القَرَاح، والثانية بالماء والسدر، أو العكس، والثالثة بالماء والكافور، فليس هو في لفظ الحديث انتهى. وكان قائله أراد أن تقع إحدى الغسلات بالماء الصرف المطلق، لأنه المطهّر في الحقيقة، وأما المضاف فلا.
قال الجامع: قوله: وأما المضاف فلا غير صحيح، لأن الشارع جعل الماء والسدر مطهّرًا حقيقة، فكيف يقال: إن المضاف لا يطهّر، إن هذا لشيء عجيب!!!.
قال: وتمسّك بظاهر الحديث ابن شعبان، وابن الفرضي، وغيرهما من المالكيّة، فقالوا: غسل الميت إنما هو للتنظيف، فيجزئ بالماء المضاف، كماء الورد، ونحوه، قالوا: وإنما يكره من جهة السرف، والمشهور عند الجمهور أنه غسل تعبّديّ يشترط فيه ما يشترط في بقية الأغسال الواجبة والمندوبة. وقيل: شُرع احتياطًا، لاحتمال أن يكون
(1)
- أي يُحرّك.
(2)
- الرغوة مثلث الراء: الزَّبَد يعلو الشيء عند غَلَيَانه. اهـ "المصباح".
(3)
- القراح وِزانُ كَلَام: الماء الخالص الذي لم يُخالطه شيء.
عليه جنابة، وفيه نظر، لأن لازمه أن لا يُشرَع غسل من هو دون البلوغ، وهو خلاف الإجماع. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1881 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، أَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ، فَقَالَ:«اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكِ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ، كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي» . فَلَمَّا فَرَغْنَا، آذَنَّاهُ، فَأَعْطَانَا حَقْوَهُ، وَقَالَ:«أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» .
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة الثبت [7] 7/ 7.
3 -
(أيوب) بن أبي تيمة/ كَيسَان السَّخْتِيَاني، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت فقيه [5] 42/ 48.
4 -
(محمد بن سيرين) أبو بكر ابن أبي عمرة الأنصاريّ مولاهم البصري الإمام الثبت الحجة [3] 46/ 57.
5 -
(أم عَطيّة الأنصارية) نُسيبة -بالتصغير، ويقال: بفتح النون
(2)
-بنت كعب، أو بنت الحارث، صحابية مشهورة، نزلت البصرة 7/ 368. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه فبغلانيّ، ومالك، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) وفي رواية للبخاري، من طريق ابن جُريج، عن أيوب، سمعت ابن سيرين، وقد رواه أيوب أيضًا عن حفصة بنت سيرين، كما سيأتي بعد باب - 30/ 1883 - ومدار حديث أم عطيّة على محمد، وحفصة، ابني سيرين، وحفظت منه
(1)
- "فتح"ج 3 ص 464 - 465.
(2)
- ذكر الحافظ في "الهدي" أن اسمها بنون، ومهملة، وموحّدة، والمشهور فيها التصغير، وقيل: بفتح أوله، وقع ذلك في رواية أبي ذرّ، عن السرخسيّ، وكذا ضبطه الأصيليّ، عن يحيى بن معين، وطاهر بن عبد العزيز في "السيرة الهشامية" انتهى.
حفصة ما لم يحفظه محمد،، كما سيأتي مبيّنًا.
قال ابن المنذر رحمه الله: ليس في أحاديث الغسل للميت أعلى من حديث أم عطيّة، وعليه عَوَّلَ الأئمّة انتهى
(1)
.
(أَنَّ أُمَّ عَطِيَةَ الأَنْصَارِيَّةَ) رضي الله عنها، وفي رواية ابن جريج: جاءت أم عطية، امرأة من الأنصار اللاتي بايعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قدمت البصرة، تُبَادر ابنا لها، فلم تُدركه.
قال الحافظ رحمه الله: وهذا الابن ما عَرفتُ اسمه، وكأنه كان غازيًا، فقدم البصرة، فبلغ أم عطيّة، وهي بالمدينة قُدومه، وهو مريض، فرحلت إليه، فمات قبل أن تلقاه، ودلت بعض الروايات أن قدومها كان بعد موته بيوم، أو يومين انتهى (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ تُوُفِّيَتِ ابنَتُهُ) وفي الروية الآتية -33/ 1886 - : "قالت دخل علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ونحن نغسل ابنته
…
" قال في "الفتح ": ويجمع بينهما بأن المراد أنه دخل حين شرع النسوة في الغسل، وسيأتي للمصنف -32/ 1885 - من طريق هشام بن حسان، عن حفصة أن مجيئهنّ إليها كان بأمره صلى الله عليه وسلم، ولفظه: ماتت إحدى بنات النبي
صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلينا، فقال: "اغسلنها
…
".
[تنييه]: قوله: "ابنته" قال في "الفتح": لم تقع في شيء من رواية البخاريّ مسماة، والمشهور أنها زينب زوج أبي العاص بن الربيع، والدة أُمَامة التي تقدّم ذكرها في "الصلاة"، وهي أكبر بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاتها فيما حكاه الطبريّ في "الذيل" في أول سنة ثمان، وقد وردت مسماة في هذا عند مسلم، من طريق عاصم الأحول، عن حفصة، عن أم عطيّة، قالت: لما ماتت زينب بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اغسلنها
…
"، فذكر الحديث، قال الحافظ: ولم أرها في شيء من الطرق، عن حفصة، ولا عن محمد مسماة إلا في رواية عاصم هذه، وقد خولف في ذلك، فحكى ابن التين، عن الداوديّ الشارح، أنه جزم بأن البنت المذكورة أم كلثوم، زوج عثمان، ولم يذكر مستنده، وتعقّبه المنذريّ بأن أم كلثوم توفيت، والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر، فلم يشهدها، وهو غلط منه، فإن التي توفيت حينئذ رُقَيَّة. وعزاه النوويّ، تبعًا لعياض لبعض أهل السير، وهو قصور شديد، فقد أخرجه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الوهاب الثقفيّ، عن أيوب، ولفظه: "دخل علينا، ونحن نغسل ابنته، أم كلثوم"، وهذا الإسناد على شرط الشيخين، وفيه نظر
(2)
.
(1)
- المصدر الذكور ج 3 ص 466.
(2)
- ووجه النظر أنه ذكر البخاري في "باب كيف الإشعار": "ولا أدري أيّ بناته" انتهى. فإنه يدل على أنه لم يسمع تسميتها.
وكذا وقع في "المبهمات" لابن بشكوال، من طريق الأوزاعيّ، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية، قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم
…
الحديث، وقرأت بخطّ مغلطاي: زعم الترمذيّ أنها أم كلثوم، وفيه نظر. كذا قال، ولم أر في الترمذيّ شيئًا من ذلك.
وقد روى الدُّولابي في "الذرية الطاهرة" من طريق أبي الرجال، عن عمرة، أن أم عطية كانت ممن غسل أم كلثوم، ابنة النبي صلى الله عليه وسلم
…
الحديث.
فيمكن ترجيح ذلك لمجيئه من طرق متعددة، ويمكن الجمع بأن تكون حضرتهما جميعًا، فقد جزم ابن عبد البر رحمه الله في ترجمتها بأنها كانت غاسلة الميتات.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: طريقة الجمع أولى من الترجيح، إذ فيه العمل بالحديثين، بخلاف الثاني، فإن فيه إدعاءَ أحدهما. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ووقع لي من تسمية النسوة اللاتي حضرن معها يعني أم عطيّة ثلاث غيرها، ففي "الذرّيّة الطاهرة" أيضًا من طريق أسماء بنت عُمَيس أنها كانت ممن غسلها، قالت: ومعنا صفية بنت عبد المطّلب، ولأبي داود من حديث ليلى بنت قَانِف -بقاف، ونون، وفاء- الثقفيّة، قالت: كنت فيمن غسلها، وروى الطبرانيّ من حديث أم سلمة شيئًا يومىء إلى أنها حضرت ذلك أيضًا انتهى
(1)
.
(فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا) قال ابن بزيزة: استُدِلّ به على وجوب غسل الميت، وهو مبنيّ على أن قوله فيما بعدُ:"إن رأيتنّ ذلك" هل يرجع إلى الغسل، أو العدد، والثانى أرجح، فثبت الْمُدَّعَى. قال ابن دقيق العيد: لكن قوله: "ثلاثًا" ليس للوجوب على المشهور من مذاهب العلماء، فيتوقّف الاستدلال به على تجويز إرادة المعنيين المختلفين بلفظ واحد، لأن قوله:"ثلاثا" غير مستقلّ بنفسه، فلا بدّ أن يكون داخلا تحت صيغة الأمر، فيراد بلفظ الأمر الوجوب بالنسبة إلى أصل الغسل، والندب بالنسبة إلى الإيتار انتهى. وقواعد الشافعية لا تأبى ذلك، ومن ثمّ ذهب الكوفيون، وأهل الظاهر، والمزنيّ إلى إيجاب الثلاث، وقالوا: إن خرج منه شيء بعد ذلك يغسل موضعه، ولا يعاد غسل الميت، وهو مخالف لظاهر الحديث. وجاء عن الحسن مثله، أخرجه عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، قال: يغسل ثلاثًا، فإن خرج منه شيء بعدُ فخمسًا، فإن خرج منه شيء غسل سبعا. قال هشام: وقال الحسن: يغسل ثلاثًا، فإن خرج منه شيء غسل ما خرج، ولم يُزد على ثلاث انتهى.
(1)
- "فتح" ج 3 ص 467.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الكوفيون، والظاهرية، والمزني من وجوب غسل الثلاث هو الذي يظهر لي، لظاهر حديث الباب، وأما إعادة الغسل فيما إذا خرج منه شيء، فمما لا دليل عليه، بل الظاهر أن يغسل الخارج فقط. واللَّه تعالى أعلم.
(ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا) وفي رواية هشام بن حسان، عن حفصة الآتية:"واغسلنها وترًا، ثلاثًا، أو خمسًا"، و"أو" هنا للترتيب، لا للتخيير، قال النووي رحمه الله: المراد اغسلنها وترًا، وليكن ثلاثًا، فإن احتجتنّ إلى زيادة، فخمسًا، وحاصله أن الإيتار مطلوب، والثلاث مستحبّة، فإن حصل الإنقاء بها لم يشرع ما فوقها، وإلا زيد وترًا، حتى يحصل الإنقاء، والواجب من ذلك مرة واحدة عامّة للبدن انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: قد علمت أن الراجح وجوب الثلاث، فتنبّه.
وقال ابن العربي: في قوله: "أو خمسًا" إشارة إلى أن المشروع هو الإيتار، لأنه نَقَلَهُنّ من الثلاث إلى الخمس، وسكت عن الأربع انتهى.
(أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ) بكسر الكاف لأنه خطاب للمؤنّث، إذ القاعدة العربية أن يُجعل أول الكلام لمن يُسأل عنه، وآخره لمن يخاطبه، فيقول: كيف ذلك الرجل يا امرأة، وكيف تلك المرأة يا رجل. قاله ابن الملقّن -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
وفي رواية أيوب، عن حفصة الآتية:"ثلاثا، أو خمسًا، أو سبعًا".
قال الحافظ: رحمه الله: ولم أر في شيء من الروايات بعد قوله: "سبعا" التعبير بأكثر من ذلك إلا في رواية لأبي داود
(2)
، وأما ما سواها، فإما "أو سبعًا"، وإما "أو أكثر من ذلك"، فيحتمل تفسير قوله:"أو أكثر من ذلك" بالسبع، وبه قال أحمد، فكره الزيادة على السبع. وقال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدًا قال بمجاوزة السبع، وساق من طريق قتادة، أن ابن سيرين كان يأخذ الغسل عن أم عطيّة، ثلاثا، وإلا فخمسًا، وإلا فأكثر، قال: فرأينا أن أكثر من ذلك سبع. وقال الماورديّ: الزيادة على السبع سرف. وقال ابن المنذر: بلغني أن جسد الميت يسترخي بالماء، فلا أحبّ الزيادة على ذلك انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الأقوال كلها مخالفة للنصّ الصحيح الصريح في الزيادة على السبع، إن دعت الحاجة إليها، فإن رواية: "ثلاثا، أو خمسًا، أو سبعًا، أو
(1)
- "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" ج 4 ص 429.
(2)
- قلت: يردّه أنها في "صحيح البخاريّ" برقم-1258 - وعند المصنّف أيضًا، كما سيأتي رقم 34/ 1888 و 1889. فتنبّه.
أكثر من ذلك" صحيحة، أخرجها البخاريّ برقم [1258]، ومسلم برقم [2168] والمصنّف كما سيأتي [34/ 1888/ و 1889]، فلا التفات إلى خلاف من خالفها، فإن السنّة إذا صحّت فهي الحجة برأسها، وإن خالفها الجلّ، إلا لدليل ينسخها، أو يقدّم عليها، وليس هنا شيء من ذلك، فوجب المصير إليها.
وسيأتي للمصنف -رحمه اللَّه تعالى- ترجمة خاصّة بمشروعية الزيادة في الغسل على السبعة [34]، "غسل الميت أكثر من سبعة"، ويستدل بالزيادة المذكورة، فللَّه درّه، ما أحسن استنباطه -رحمه اللَّه تعالى-!!!.
وأما قول الحافظ: لم أر التعبير بقوله: "أكثر من ذلك" بعد قوله: "أو سبعا" الخ، فهو سهو منه، فقد عرفت أن التعبير به ثابت في "الصحيحين". واللَّه تعالى أعلم.
(إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكِ) قال العلامة ابن الملقّن رحمه الله: وأتى صلى الله عليه وسلم بالنون الثقيلة لجماعة النساء من حيث إن الغسل لا يتعاطاه إلا جماعة منهنّ، لكن نظرًا للمصلحة الشرعية قد يكون لواحدة منهنّ، فحسن جمعهنّ في الرواية، وإفراد أم عطيّة في الخطاب.
قال: ومعنى "إن رأيتنّ" أي إن رأيتنّ الزيادة في العدد، وعند الاحتياج، وليس معناه التخيير والتفويض إلى شهوتهنّ، وقيل: معناه إن رأيتنّ الغسل، وما أبعده، وبنى المالكية على ذلك منهم المازريّ الخلاف عندهم في وجوب الغسل، فمن قال بالثاني قال: إن غسله سنة، ومن قال بالأول قال: إنه واجب، وهذا مبنيّ على الخلاف في أن التقييد، والاستثناء، والشرط إذا تعقب جمُلاً، هل يعود إلى جميعها، إلا ما أخرجه الدليل، أو إلى أقربها.
وتعجّب بعضهم من النوويّ في نقله الإجماع على أن غسل الميت فرض كفاية، فإن الخلاف فيه عندهم، حكاه المازريّ وغيره، وقال القرطبيّ: الأولى أنه سنّة.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كونه فرضا هو الحقّ، كما هو قول الجمهور، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو للوجوب عند عدم الصارف، كما هنا. واللَّه تعالى أعلم.
قال: وليس عند مالك، وبعض أصحابه في غسل الميت تحديد بعدد معيّن، ولكن يُنقّى الميت، ولا يقتصر مع ذلك على ما دون الثلاث، فإن احتيج إلى الزيادة استحبّ الوتر، وليس لذلك عنده حدّ.
قال القاضي عياض: وإلى هذا يرجع قول الشافعيّ وغيره من العلماء، وكذا إذا احتاج الغاسل إلى أكثر من ذلك، لقوله:"إن رأيتنّ ذلك"، ونحا أحمد، وإسحاق إلى أن لا يزاد على سبع، والرواية التي أسلفناها تردّ ذلك انتهى كلام ابن الملقّن
-رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: الحاصل أن القول بالزيادة على السبع إذا احتيج إليه هو الصواب، لما تقدم من رواية الشخين وغيرهما "أو سبعًا، أو أكثر من ذلك". واللَّه تعالى أعلم.
وقال ابن المنذر: إنما فوّض الرأي إليه بالشرط المذكور، وهو الإيتار. وحكى ابن التين عن بعضهم، قال: يحتمل قوله: "إن رأيتنّ" أن يرجع إلى الأعداد المذكورة، ويحتمل أن يكون معناه إن رأيتنّ أن تفعلن ذلك، وإلا فالإنقاء يكفي انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: قد عرفت الردّ على هذا القول فيما تقدّم، فلا تغفل، وباللَّه تعالى التوفيق.
(بمَاءٍ وَسدْرٍ) قال ابن العربيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا أصل في جواز التطهّر بالماء المضاف إذا لم يُسلب الماء الإطلاق انتهى. قال الحافظ رحمه الله: وهو مبنيّ على أن الصحيح أن غسل الميت للتطهير، كما تقدّم انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله العلامة ابن العربي -رحمه اللَّه تعالى- هو الحقّ الذي يدلّ عليه حديث الباب وغيره، وقد تقدّم الردّ على الأقوال المخالفة له، فلا تغفل، وباللَّه تعالى التوفيق.
(وَاجْعَلنَ فِي الآخِرَةِ، كَافُورًا) قال المجد رحمه الله عند تعداد معاني الكافور: ما نصّه: وطيب معروف، يكون في شجر بجبال بحر الهند والصين، يُظِلُّ خلقا كثيرًا، وتَألَفُهُ النُّمُورة، وخشبه أبيض هَشٌّ، ويوجد في أجوافه الكافور، وهو أنواع انتهى
(3)
(أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ) هو شكّ من الراوي، أيَّ اللفظين قال، والأول محمول على الثاني، لأنه
نكرة في سياق الإثبات، فيصدق بكلّ شيء منه.
وظاهره جعل الكافور في الماء، وبه قال الجمهور. وقال النخعيّ، والكوفيّون: إنما يجعل في الحنوط، أي بعد إنهاء الغسل والتجفيف. قاله في "الفتح".
وعبارة ابن الملقّن: انفرد أبو حنيفة، فقال: لا يستحبّ استعمال الكافور
(4)
، وخالفه الثلاثة والجمهور، وهذا الحديث حجة عليه. وروي عن النخعيّ: إنما ذلك في الحنوط، لا في الغسل، وعزاه القرطبيّ إلى الأوزاعيّ، ويمكن أن يتأول من قال هذا "في الأخيرة"، أي بعد تمامها، والظاهر بخلافه انتهى
(5)
.
(1)
- انظر "الإعلام بقواعد عمدة الأحكام" ج 4 ص 429 - 430.
(2)
"فتح" جـ3 ص 468.
(3)
- انظر "ق" في مادة ك ف ر.
(4)
- الذي رأيته في كتب الحنفية أن قولهم في ذلك نحو قول النخعيّ، فليتأمل.
(5)
- "الإعلام" ج4 ص 433 - 434.
قال الجامع: هذه الأقوال كلها يردها ظاهر الحديث، كما أشار إليه ابن الملقّن، فالصواب مشروعية استعمال الكافور فى المرة الأخيرة من الغسلات. واللَّه تعالى أعلم.
قيل: الحكمة في الكافور مع كونه يَطيّب رائحة الموضع لأجل من يحضر من الملائكة وغيرهم، أن فيه تجفيفًا، وتبريدًا، وقوّة نفوذ، وخاصيّةً في تصليب بدن الميت، وطرد الهوامّ عنه، وردع ما يتحلل من الفضلات، ومنع إسراع الفساد إليه، وهو أقوى الأراييح الطيّبة في ذلك، وهذا هو السرّ في جعله في الأخيرة، إذ لو كان في الأولى مثلا لأذهبه الماء.
وهل يقوم المسك مثلاً مقام الكافور؟ إن نظر إلى مجرّد التطييب، فنعم، وإلا فلا، وقد يقال: إذا عُدم الكافور قام غيره مقامه، ولو بخاصيّة واحدة مثلا. قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحقّ أن غير الكافور لا يقوم مقامه، عند وجوده، بل يجب استعماله، لأمر النبى صلى الله عليه وسلم بذلك، حيث قال:"واجعلن فى الآخرة كافورًا". واللَّه تعالى أعلم.
(فَإِذَا فَرَغْتُنَّ) أي من غسلها على الكيفية المذكورة (فَآذِنَّنِي) أي أعلمنني، وهو بمد الهمزة، وتشديد النون الأولى من الإيذان، وهو الإعلام، قال السنديّ: ويحتمل أن يُجعل من التأذين، والمشهور الأول انتهى (فَلَمَّا فَرَغْنَا، آذَنَّاهُ) أي أعلمناه بفراغنا من الغسل المذكور (فَأعْطَانَا حَقْوَهُ) بفتح المهملة، -ويجوز كسرها، وهي لغةُ هُذيل- بعدها قاف ساكنة، والمراد به هنا الإزار، كما وقع مفسّرًا في آخر هذه الرواية عند البخاريّ، والحقو في الأصل مَعْقِد الإزار، وأطلق على الإزار مجازا.
وقال ابن الملقّن رحمه الله: الحقو بالكسر، وفتحها لغتان، والمعروف من كلام العرب الثاني، وقالته هذيل بالأول، كما أفاده القرطبيّ، وهو الإزار، والأصل فيه الخصر
(2)
معقد الإزار، وسمي الإزار مجازًا، لملازمته إياه، وهو من باب تسمية الشىء بما يلازمه، كما قالوا للمَزَادة راوية، والراوية اسم للجمل الحامل لها. انتهى
(3)
.
(1)
- ج3 ص 468 - 469.
(2)
- الْخَصْرُ: بفتح، فسكون: من الإنسان وسطه، وهو المستدقّ فوق الوركين، والجمع خُصُور، كفلس وفلوس. اهـ "المصباح".
(3)
- "الإعلام" ج4 ص 435 - 436.
وقال في "المصباح": الْحَقوُ موضع شَدّ الإزار، وهو الخاصرة، ثم توسّعوا حتى سَمَّوُا الإزار الذي يُشدّ على العورة حَقْوًا، والجمع أَحْقٍ، وحُقِيٍّ، مثل فلس وفُلُوس، وقد يُجمع على حِقَاءٍ، مثل سَهْم وسِهَام انتهى.
ووقع عند البخاريّ من رواية ابن عون، عن محمد بن سيرين بلفظ:"فنزع من حقوه إزاره"، والحقو في هذا على حقيقته. قاله في "الفتح".
(وَقَال: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ) أي اجعلنه شِعارَها، أي الثوب الذي يلي جسدها، وسيأتي للمصنف رحمه الله باب مفرد للإشعار.
قيل: الحكمة في تأخير الإزار معه إلى أن يفرغن من الغسل، ولم يناولهنّ إياه أوّلاً، ليكون قريب العهد من جسده الكريم صلى الله عليه وسلم، حتى لا يكون بين انتقاله من جسده إلى جسدها فاصل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته: حديث أم عطيّة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -18/ 1881 و 1883 و 1884 و 1885 و 1887 و 1888 و 1889 و1890 و 1891 و 1892 و 1893 و 1894 - وفي "الكبرى" 2008 و 2010 و 2011. و 2012 و 2013 و 2014 و2015 و 2016 و 2017 و 2018 و 2020 و 2021.
وأخرجه (خ) 167 و 1253 و 1254 و 1257 و 1259 و 1261 (م) 2165 و 2166 و 2167 و 2168 و 2169 و 2170 و 2171 و 2172 و 2173. (د) 3142 (ت) 990 (ق) 1455 (مالك في الموطإ) 518 (أحمد) 20266 و 26752. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في فوائده:
منها: ما بوب له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعية غسل الميت، وكون الغسل بالماء والسدر. ومنها: استعمال الكافور في الغسلة الأخيرة. ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من تعليم أمور الدين لأمته رجالا ونساءً. ومنها: أنه ينبغي للعالم إذا علّم أمرا يتعلّق بالمأمورية، لا يمكن الائتمار به إلا بالفعل على سورة أن يقيّد الأمر، والتعليم بغاية، لتوضع موضعه. ومنها: أنه ينبغي للمأمور التقيّد بالأمر فورًا وغايةً.
(1)
ومنها: أن على العالم أن يبتدىء بتعليم العلم إذا علم أن العامل يجهل ذلك العلم، أو يقصّر في
(1)
- نبه على هاتين الفائدتين العلامة ابن الملقّن -رحمه اللَّه تعالى- في "الإعلام" ج 4 ص 435.
العمل به. ومنها: مشروعية الإيتار في غسل الميت على حسب الحاجة، كما سبق.
ومنها: تفويض الحاجة في ذلك إلى العامل على حسب المصلحة الشرعية، من غير إسراف. ومنها: التبرّك بآثار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. ومنها: جواز تكفين المرأة في ثوب الرجل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في وجوب غسل من غسل ميتًا:
(اعلم): أنه استدلّ بعض أهل العلم بهذا الحديث على أنه لا يجب الغُسل على من غَسَلَ الميت، من حيث إنه موضع تعليم، فلو وجب لذكره النبي صلى الله عليه وسلم، قال العلامة ابن الملَقِّن رحمه الله: وعدم الوجوب هو الصحيح، من مذهب الشافعي، ورواية المدنيين عن مالك، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد، والجمهور، لكن قال الخطابي: لا أعلم أحدًا قال بوجوبه
(1)
. وأوجب أحمد، وإسحاق الوضوء منه، والجمهور على استحبابه.
والحديث المرويّ فيه من طريق أبي هريرة رضي الله عنه: "من غسل ميتا فليغتسل، ومن مسّه فليتوضأ". ضعيف بالاتفاق، كذا قال النووي في "شرح مسلم"، وتبعه بعض شراح هذا الكتاب يعني "عمدة الأحكام" وليس بجيد، فقد حسّنه الترمذيّ، وصححه ابن حبّان، وابن السكن. وقال البخاريّ: الأشبه وقفه على أبي هريرة.
ويحمل على الاستحباب بدليل حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل، إذا غسلتموه، فإن ميتكم ليس بنجس". رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: صحيح على شرط البخاريّ، ثم قال: وفيه ردّ لحديث أبي هريرة الذي أسلفناه، وليس كما قال، بل يُعمل بهما، فيستحبّ الغسل، فإذا قلنا بالوجوب، فقيل: تعبّد، وقيل: محمول على نجاسة بدن الآدمي بالموت، وهو قول بعضهم. وقيل: المعنى فيه حرمة الميت، حكاه الماورديّ. انتهى كلام ابن الملقّن -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
.
وقال البغويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح السنة":
واختلف أهل العلم في الغسل من غسل الميت، فذهب بعضهم إلى وجوبه، وذهب أكثرهم إلى أنه غير واجب، قال ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما: ليس على غاسل الميت غسل. وروي عن عبد اللَّه بن أبي بكر، عن أسماء بنت عُميس امرأة أبي بكر أنها غسلت أبا بكر حين توفي، فسألت من حضرها من المهاجرين، فقالت: إني صائمة، وهذا يوم
(1)
- سيأتي أن بعضهم قال بوجوبه، فتنبّه.
(2)
- "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" ج 4 ص 439 - 443.
شديد البرد، فهل عليّ من غسل؟ فقالوا: لا
(1)
.
وقال مالك، والشافعيّ: يستحب له الغسل، ولا يجب. وقال النخعي، وأحمد، وإسحاق: يتوضأ غاسل الميت. وقال أحمد: لا يثبت في الاغتسال من غسل الميت حديث. وقال ابن المبارك: لا يغتسل، ولا يتوضأ انتهى كلام البغوي رحمه الله تعالى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث: "من غسل ميتا فليغتسل
…
" قال الحافظ في الفتح": رواه أبو داود، من طريق عمرو بن عمير، ورواته ثقات، إلا عمرو بن عمير، فليس بمعروف، وروى الترمذيّ، وابن حبّان، من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة نحوه، وهو معلول، لأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة رضي الله عنه. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: الصواب عن أبي هريرة موقوف. وقال أبو داود بعد تخريجه: هذا منسوخ، ولم يبين ناسخه. وقال الذهليّ فيما حكاه الحاكم في "تاريخه": ليس فيمن غسل ميتًا حديث ثابت انتهى
(3)
.
وقد استوفى الكلام عليه الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "التلخيص الحبير"، ودونك عبارته: قال رحمه الله: حديث: "من غسل ميتا فليغتسل" رواه أحمد، والبيهقيّ، من رواية ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة بهذا، وزاد:"ومن حمله فليتوضأ". وصالح ضعيف. ورواه البزار، من رواية العلاء، عن أبيه، ومن رواية محمد ابن عبد الرحمن بن ثوبان، ومن رواية أبي بحر البكراويّ، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، كلهم عن أبي هريرة. ورواه الترمذيّ، وابن ماجه، من حديث عبد العزيز ابن المختار، وابن حبان من رواية حماد بن سلمة، كلاهما عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه أبو داود، من رواية عمرو بن عُمير، وأحمد من رواية شيخ، يقال له: أبو إسحاق، كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. وذكر البيهقيّ له طرقا، وضعّفها، ثم قال: والصحيح أنه موقوف. وقال البخاري: الأشبه موقوف. وقال عليّ، وأحمد: لا يصحّ في الباب شيء، نقله الترمذيّ عن البخاريّ، عنهما. وعلّق الشافعيّ القول به على صحّة الخبر، وهذا في "البويطيّ". وقال الذهليّ: لا أعلم فيه حديثا ثابتًا، ولو ثبت للزمنا استعماله. وقال ابن المنذر: ليس في الباب حديث
(1)
- أخرجه مالك في "الموطإ" 1/ 223 ورجاله ثقات، لكنه منقطع، عبد اللَّه بن أبي بكر، هو ابن محمد بن عمرو بن حزم لم يدرك أسماء.
(2)
- "شرح السنة"ج 2 ص 169 - 170.
(3)
- "فتح" ج 3 ص 465.
يثبت. وقال ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه: لا يرفعه الثقات، إنما هو موقوف.
وذكر الدارقطني الخلاف في حديث ابن أبي ذئب، هل هو عن صالح، أو عن المقبري، أو عن سهيل، عن أبيه، أو عن القاسم بن عباس، عن عمرو بن عمير، ثم قال: وقوله: عن المقبريّ أصحّ. وقال الرافعي: لم يصحح علماء الحديث في هذا الباب شيئًا مرفوعًا. قلت: قد حسنه الترمذيّ، وصححه ابن حبان.
وله طريق أخرى، قال عبد اللَّه بن صالح: ثنا يحيى بن أيوب، عن عُقيل، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، رفعه:"من غسل ميتا، فليغتسل". ذكره الدارقطنيّ، وقال: فيه نظر. قلت: رواته موثقون. وقال ابن دقيق العيد في "الإمام": حاصل ما يُعلُّ به وجهان: أحدهما من جهة الرجال، ولا يخلو إسناد منها من متكلّم فيه، ثم ذكر ما معناه أن أحسنها رواية سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، وهي معلولة، وإن صححها ابن حبّان، وابن حزم، فقد رواها سفيان، عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة. قلت: إسحاق مولى زائدة أخرج له مسلم، فينبغي أن يصحح الحديث. قال: وأما رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فإسناد حسن، إلا أن الحفّاظ من أصحاب محمد بن عمرو رووه عنه موقوفًا.
وفي الجملة هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسنا، فإنكار النووي على الترمذيّ تحسينه معترض. وقد قال الذهبيّ في "مختصر البيهقي": طرق هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث، احتجّ بها الفقهاء، ولم يُعلّوها بالوقف، بل قدّموا رواية الرفع. واللَّه أعلم.
وفي الباب عن عائشة، رواه أحمد، وأبو داود، والبيهقيّ، وفي إسناده مصعب بن شيبة، وفيه مقال، وضعفه أبو زرعة، وأحمد، والبخاري، وصححه ابن خزيمة. وفيه عن عليّ، وسيأتي في "الجنائز"
(1)
، وعن حذيفة ذكره ابن أبي حاتم، والدارقطنيّ في "العلل"، وقالا: لا يثبت. قلت: ونفيهما الثبوت على طريقة المحدثين، وإلا فهو على طريقة الفقهاء قويّ، لأن رواته ثقات، أخرجه البيهقيّ، من طريق معمر، عن أبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة، وأعلّه بأن أبا بكر بن إسحاق الصبغيّ، قال: هو ساقط، قال: وقال علي بن المدينيّ: لا يثبت فيه حديث انتهى. وهذا التعليل ليس بقادح، لما قدمناه. وعن أبي سعيد، رواه ابن وهب في "جامعه"، وعن المغيرة، رواه أحمد في "مسنده".
(1)
- هكذا قال في "التلخيص"، ولم أره في الجنائز منه، فليحرر.
وذكر الماورديّ أن بعض أصحاب الحديث خرّج لهذا الحديث مائة وعشرين طريقًا.
قال الحافظ: وليس ذلك ببعيد. وقد أجاب أحمد عنه بأنه منسوخ، وكذا جزم بذلك أبو داود، ويدلّ له ما رواه البيهقيّ عن الحاكم، عن أبي عليّ الحافظ، عن أبي العباس الهمدانيّ الحافظ، ثنا أبو شيبة، ثنا خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليس عليكم في غَسل ميتكم غُسْل، إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهرًا، وليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم". قال البيهقيّ: هذا ضعيف، والحمل فيه على أبي شيبة.
قال الحافظ: أبو شيبة هو إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة، احتجّ به النسائيّ، ووثقه الناس، ومَن فوقه احتجّ بهم البخاريّ، وأبو العباس، هو ابن عقدة حافظ كبير، إنما تكلّموا فيه بسبب المذهب، ولأمور أخرى، ولم يضعفه بسبب المتون أصلاً، فالإسناد حسن، فيجمع بينه وبين الأمر في حديث أبي هريرة بأن الأمر على الندب، أو المراد بالغسل غسل الأيدي، كما صرّح به في هذا.
قلت
(1)
: ويؤيد أن الأمر فيه للندب ما رواه الخطيب في ترجمة محمد بن عبد اللَّه المخرِّميّ من طريق عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، قال: قال لي أبي: كتبتَ حديث عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر:"كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل"؟. قال: قلت: لا، قال: في ذلك الجانب شابّ، يقال له: محمد بن عبد اللَّه، يحدّث به، عن أبي هشام المخزوميّ، عن وهيب، فاكتبه عنه.
قلت: وهذا إسناد صحيح، وهو أحسن ما جمع به بين مختلف هذه الأحاديث، واللَّه أعلم انتهى كلام الحافظ في التلخيص"
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لقد أجاد الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في تحقيق الكلام على هذا الحديث، وأفاد، وخلاصته أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"من غسل ميتا، فليغتسل .... " حسنه الترمذيّ، وصححه ابن حبّان، وابن القطان، واحتجّ به ابن حزم، فالراجح أنه صحيح، لكنه محمول على الاستحباب لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعًا: "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل
…
" الحديث، وأثر ابن عمر رضي الله عنهما: "كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل
…
" الحديث، وكلاهما ثابتان، فالعمل بكلها متعيّن.
والحاصل أن المذهب الصحيح هو القول باستحباب الغسل من غسل الميت، والوضوء من حمله عملا بكلّ الأحاديث. ثم إن الراجح أن الأمر فيه تعبّديّ، والقول
(1)
القائل هو الحافظ ابن حجر.
(2)
- "التخليص الحبير" ج1 ص 136 - 138.
بكون الميت نجسا باطل، لما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الخامسة: في اختلاف أهل العلم في غسل أحد الزوجين للآخر إذا مات: (اعلم): أنه استدلَ بعض أهل العلم بحديث الباب على أن النساء أحقّ بغسل الميتة من زوجها، وأنه لا يغسلها، إلا عند عدمهنّ، وهو مذهب الحسن، قال ابن الملقّن رحمه الله: وقد يمنع من ذلك حتى يتحقق أن زوج زينب كان حاضرًا إذ ذاك، لا مانع له من غسلها، وأنه لم يفوّض الأمر إلى النسوة، وجمهور العلماء على خلافه، وأنه أحقّ، وذهب الشعبيّ، والثوريّ، وأبو حنيفة إلى أنه لا يغسلها جملة. وقال سحنون: الأولياء أحق. واختلف الشافعيّة في أن النساء أحقّ بغسل الميتة من زوجها على وجهين، أصحهما نعم، لأنهنّ أليق. وأجمعَ العلماء على أن لها غسل زوجها، وإن كان فيه رواية عن أحمد، والأصحّ أنها تغسله أبدًا. انتهى.
وقال الإمام أبو بكر ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: أجمع أهل العلم على أن للمرأة أن تغسل زوجها إذا مات، وقد روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أوصى أن تغسله أسماء بنت عميس زوجته، قال: وذلك بحضرة المهاجرين والأنصار، لم ينكر ذلك منهم منكر، وإن أبا موسى غسلته امرأته.
قال: واختلفوا في الرجل يغسل زوجته، فقالت طائفة: يغسلها، هكذا قال علقمة، وجابر بن زيد، وعبد الرحمن بن الأسود، وسليمان بن يسار، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، ومالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق. وكرهت طائفة ذلك، كرهه الشعبيّ، وقال الثوريّ، وأصحاب الرأي: لا يغسلها.
قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول، ولا فرق بين غسل الرجل زوجته، وبين غسلها إياه، وليس فيما يحلّ لكلّ واحد بينهما، ويحرم من صاحبه في حياته، وبعد مماته فرق، فإن قال قائل: إن أبا بكر غسلته أسماء؟ قيل له: وغسل عليّ فاطمة، وليست العلة التي اعتلّ بها ناس، من باب غسل الموتى بسبيل، لأنه يطلقها ثلاثًا، فتكون في عدة منه، وتموت، فلا تغسله عند من خالفنا، فبطل لما كان هذا مذهب من خالفنا أن يكون لقوله: هي فى عدة منه، وليس هو في عدة منها معنى، واللَّه أعلم انتهى كلام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-، من ترجيح القول بأن لكل واحد من الزوجين غسلَ الآخر هو الحقّ، لما ذكره، واللَّه تعالى
(1)
- "الأوسط" ج 5 ص 334 - 336.
أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
29 - غَسْلُ الْمَيّتِ بِالْحَمِيمِ
قال الجامع اللَّه تعالى عنه: "الحميم" بفتح أوله. الماء الحارّ، أراد المصنف -رحمه اللَّه تعالى- الاستدلال بحديث الباب على استحباب غسل الميت بالماء الحارّ، لكن الحديث ضعيف، لا يصلح للاستدلال به، كما سيأتي الكلام عليه، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1882 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، مَوْلَى أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ، عَنْ أُمِّ قَيْسٍ، قَالَتْ: تُوُفِّىَ ابْنِي، فَجَزِعْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لِلَّذِى يَغْسِلُهُ: لَا تَغْسِلِ ابْنِى بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، فَتَقْتُلَهُ، فَانْطَلَقَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهَا، فَتَبَسَّمَ، ثُمَّ قَالَ:«مَا قَالَتْ، طَالَ عُمْرُهَا؟» . فَلَا نَعْلَمُ امْرَأَةً، عُمِرَتْ مَا عُمِرَتْ.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد المذكور في الباب السابق.
2 -
(الليث) بن سعد الإمام الحافظ الحجة الفقيه المصريّ [7] 31/ 35.
3 -
(يزيد بن أبي حبيب) سُويد، أبو رجاء المصري، ثقة فقيه [5] 134/ 207.
4 -
(أبو الحسن مولى أم قيس بنت مِحصَن) مقبول [3].
روى عن مولاته أم قيس بنت محصن الأسدية، وعنه يزيد بن أبي حبيب، جهّله ابن القطان انتهى. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنف، وله عنده هذا الحديث فقط.
5 -
(أم قيس بنت مِحْصن) يقال: اسمها آمنة، صحابية رضي الله عنها 185/ 292. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الاسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن مولاته، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أُمِّ قَيْسٍ) رضي الله عنه، أنها (قَالَتْ: توُفْيَ ابْنِي، فَجَزِعْتُ عَلَيه) بكسر الزاي، من الجَزَع بالتحريك، وهو نقيض الصبر، وقد جزع، كفرِحَ، جَزَعًا، وجُزُوعًا، فهو جازع، وجَزعٌ، ككتف، ورَجُلٍ، وصَبُور، وغُرَاب قاله في "ق".
(فَقُلْتُ لِلّذِي يَغْسِلُهُ: لَا تَغْسِلِ ابْنِي بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، فَتَقْتُلَهُ) إنما قالت ذلك لشدة جزعها، وغلبة الحزن على قلبها، فذهلت عن موته (فَانْطَلَقَ عُكَاشَةُ) بضم العين المهملة، وتشديد الكاف، وتخفيفها. أيضًا (ابْنُ مِحْصَنٍ) -بكسر الميم، وسكون الحاء المهملة، وفتح الصاد المهملة- بن حُرْثان بن قيس بن مُرّة بن بُكير بن غَنْم بن دُودان بن أسد بن خُزيمة الأسديّ، حليف بني عبد شمس، من السابقين الأولين، وشهد بدرًا، ووقع ذكره في "الصحيحين"، في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فقال عكاشة. ادع اللَّه أن يجعلني منهم، قال:"أنت منهم"، فقام آخر، فقال:"سبقك بها عكاشة"، وقد ضُرِب بها المثل، يقال للسبق في الأمر: سبقك بها عكاشة. قيل: استُشهِد عكاشة في قتل أهل الردة، قتله طُليحة بن خُويلد الذي تنبأ
(1)
. ذكره في "الإصابة"
(2)
.
(إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأخبَرَهُ بِقَولِهَا) لا تغسل ابني بالماء البارد، فتقتلَه (فَتَبَسَّمَ) صلى الله عليه وسلم، قال الفيّوميّ: بَسَم بَسْمًا، من باب ضرب: ضَحِكَ قليلًا، من غير صوت، وابتسم، وتَبَسّم كذلك، ويقال: هو دون الضَّحِكِ انتهى (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا قَالَتْ) استفهام للتعجّب من قولها المذكور.
وهذا محلّ استدلال المصنّف رحمه الله على الترجمة، حيث لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليها أن لا يُغسَل ابْنُهَا بالماء البارد، فمنه يدلّ على استحباب الغسل بالماء الحارّ، لكن الحديث ضعيف، فلا وجه للاستدلال به، فلا فرق في جواز الغسل ببين الماء البار، والحارّ، واللَّه تعالى أعلم.
(طَالَ عُمْرُهَا؟) جملة دعائية، دعا لها النبي صلى الله عليه وسلم بطول العمر (فَلَا نَعْلَمُ امْرَأَةً) والظاهر أن هذا من قول أبي الحسن مولى أم قيس (عُمِرَتْ مَا عُمِرَتْ) ببناء الفعلين للمفعول، من الْعَمْر، أو التعمير، يقال: عَمَرَهُ اللَّه، يَعْمُرُه، من باب قتل، وعَمَّرَه تَعْمِيرًا: أي أطال عُمْرَه. قاله في "المصباح". والجملة صفة لـ"امرأة". وْفيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث طال عمر أم قيس رضي الله عنها بسبب دعائه لها. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
- وقد ثبت أن طليحة عاد إلى الإسلام. قاله في "الإصابة".
(2)
- "الإصابة" ج 7 ص 32.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أم قيس رضي الله عنها هذا ضعيف، لجهالة مولاها، فإنه لا يعرف إلا بهذا الحديث، ولم يرو عنه غير يزيد بن أبي حبيب، كما قاله الحافظ الذهبي في "الميزان"
(1)
.
وهو من أفراد المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-29/ 882 - وفي "الكبرى" 29/ 2009. وأخرجه (أحمد) 26459. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
30 - نَقْضُ رَأْسِ الْمَيّتِ
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -. أراد المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بهذه الترجمة مشروعية نقض الرأس قبل الغسل، لتبليغ الماء إلى البشرة، ولتنظيف الشعر من الأوساخ، وسواء في ذلك كون الميت رجلاً، أو امرأة.
وترجمته أولى من ترجمة الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- بقوله: "باب نقض شعر المرأة"، حيث خصه بالمرأة، ولذا قال في "الفتح": والتقييد بالمرأة خرج مخرج الغالب، أو الأكثر، وإلا فالرجل إذا كان له شعر يُنقض لأجل التنظيف، وليبلغ الماء البشرة، وذهب من منعه إلى أنه قد يفضي إلى انتتاف شعره، وأجاب من أثبته بأنه يضمّ إلى ما انتثر منه انتهى
(2)
.
وقوله: "نقض الرأس" من إضافة المصدر إلى المفعول، والمراد بالرأس شعر الرأس، فهو من مجاز المجاورة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
1883 -
(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَيُّوبُ سَمِعْتُ حَفْصَةَ، تَقُولُ: حَدَّثَتْنَا أُمُّ عَطِيَّةَ، أَنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأْسَ ابْنَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، قُلْتُ: نَقَضْنَهُ، وَجَعَلْنَهُ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ؟ ، قَالَتْ: نَعَمْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يوسف بن سعيد) المصّيصيّ، ثقة حافظ [11] 131/ 198.
(1)
- انظر "ميزان الاعتدال" ج 4 ص 515.
(2)
- "فتح" ج 3 ص 472 - 473.
2 -
(حجاج) بن محمد المصيصي الأعور، ثقة ثبت [9] 28/ 32.
3 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة فقيه فاضل مدلس [6] 28/ 32.
4 -
(حفصة) بنت سيرين الأنصارية، أم الْهُذيل البصريّة، ثقة [3] 22/ 390. والباقيان تقدّما قبل باب. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده وهو ثقة. (ومنها): فيه رواية تابعي، عن تابعية. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: يقدر بعد قوله: عن ابن جريج، ما: نصه: "أنه قال"، وفاعل "قال" الأول ضمير ابن جريج، وفاعل "قال" الثاني "أيوب"، أي قال ابن جريج. قال أيوب: سمعت حفصة الخ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن أيوب السخياني أنه (قال: سَمِعْتُ حَفْصَةَ) بنت سيرين (تَقُولُ: حَدَّثَتنَا أُمُّ عَطِيَّةَ) نُسيبة بنت كعب رضي الله عنها (أَنَّهُنَّ) أي النسوة اللاتي حضرن غسل بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدّم قبل باب بيان أسماء من عُرِف اسمها منهنّ (جَعَلْنَ رَأْس ابنْة) وفي نسخة:"بنت"(النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) تقدم الخلاف في أنها زينب، أو غيرها (ثَلَاثَةَ قُرُونٍ) أي ثلاث ضفائر، ضفيرتين، وناصيتها، كما جاء مبيّنا في رواية أخرى، فعند عبد الرزاق، من طريق أيوب، عن حفصة:"ضفرنا رأسها ثلاثة قرون، ناصيتها، وقرنيها، وألقيناه إلى خلفها"(قُلْتُ) الظاهر أن القائلة هي حفصة (نَقَضْنَهُ، وَجَعَلْنَهُ ثَلَاَثةَ قُرُونٍ؟، قَالَتْ: نَعَمْ) أي قالت أم عطية: نعم فعلن ذلك.
وفي الرواية الآتية بعد باب: "ومشطناها ثلاثة قرون، وألقيناها من خلفها".
وفيه استحباب تسريح المرأة الميتة، وتضفيرها، والقاؤها خلف ظهرها. واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متَّفق عليه وتقدم الكلام على تخريجه، وسائر ما يتعلّق به من المسائل، وبقي الكلام على ما بوّب له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو حكم نقض رأس الميت، وقد اختلف أهل العلم في ذلك:
قال العلامة ابن الملقّن -رحمه اللَّه تعالى- عند الكلام على قوله: "وجَعَلْنا رأسها ثلاثة قرون": ما حاصله: أي ثلاث ضفائر، ضفيرتين، وناصيتها، كما جاء مبينًا في رواية
أخرى، وتضمّن ذلك التسريحَ، والضَّفْرَ، بناء على أن الغالب في أن الضفر بعد التسريح، وإن كان هذا اللفظ لا يُشعر به صريحًا، وقد جاء في رواية في "الصحيح":"فمَشَطْناها ثلاثة قرون"، وبه قال الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وابن حبيب المالكي.
وقال الأوزاعيّ، والكوفيون: لا يستحبّ المشط، ولا الضَّفْر، بل يُرسَل شعرها على جانبيها مفرّقًا. ونقل القرطبيّ عن الأوزاعيّ أنه لا يجب الْمَشْطُ، وما نقلناه عن الأوزاعيّ تبعنا فيه النووي رحمه الله، ولم يَعرِف ابنُ القاسم الضَّفْر، وقال: يُلَفّ. وقال بعض الشافعية -فيما حكاه الشيخ تقي الدين-: تُجعَل الثلاث خلف ظهرها، قال: ورَوَى في ذلك حديثًا أثبت استحبابه به، وهو ثابت من فعل من غَسَل بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أي كما أخرجه البخاريّ من حديث أم عطيّة
(1)
رضي الله عنها.
وقال ابن الجوزيّ: إنه السنّة، قال القاضي: ومن حجة مَن مَنَعَ الاستحباب أنه ليس في الحديث معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بفعل أم عطية، فيُجعلَ سنةً وحجةً. قال النوويّ: الظاهر اطلاعه عليه، واستبيانه فيه كما في غيرها. واعترض عليه الفاكهيّ، فقال: هذا الظاهر عنده، غير ظاهر.
قال ابن الملقّن: قلت: عجيب منه، ومن القاضي عياض، ففي "صحيح ابن حبّان" أنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، ولفظ روايته:"واجعلن لها ثلاثة قرون"، وترجم عليه:"باب ذكر البيان بأنّ أم عطيّة إنما مَشَطَت قرونها بأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم، لا من تلقاء نفسها"، فاستفيد ذلك، ولم يطّلع القرطبيّ أيضًا على هذه الرواية، فادعى أن ذلك لم يرد مرفوعًا انتهى كلام ابن الملقن -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
.
وقال في "الفتح": وقد رواه سعيد بن منصور بلفظ الأمر من رواية هشام، عن حفصة، عن أم عطيّة، قالت: قال لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "اغسلنها وترًا، واجعلن شعرها ضفائر". انتهى
(3)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن المذهب الراجح مشروعية نقض شعر رأس الميت، وتسريحه، وجعله ثلاث ضفائر، وإلقاؤه خلف ظهره، لصحة الأحاديث بذلك، على قدّمنا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- وقع في نسخة ابن الملقّن "عائشة" بدل أم عطية، وهو غلط، فتنبّه.
(2)
- "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" ج 4 ص 443 - 445.
(3)
- "فتح" ج 3 ص 475.
31 - مَيَامِنُ الْمَيّتِ وَمَوَاضِعُ الْوُضُوءِ مِنْهُ
أي باب ذكر الحديث الدالّ على مشروعية البداءة بميامن الميت، وبمواضع الوضوء منه.
1884 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ: «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا» .
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عمرو بن منصور) النسائي، ثقة ثبت [11] 108/ 141.
2 -
(أحمد محمد بن حنبل) الشيباني، أبو عبد اللَّه المروزي، نزيل بغداد، أحد الأئمة، ثقة حافظ فقيه حجة، رأس [10] 49/ 958.
3 -
(إسماعيل) بن إبراهيم ابن عليّة البصريّ، ثقة ثبت [8] 18/ 19.
4 -
(خالد) بن مهران الحذّاء البصريّ، ثقة يرسل [5] 7/ 634.
والباقيتان تقدمتا قريبًا، وكذا الكلام على الحديث تقدّم في 28/ 1881.
وقوله: (ابدأن) أمر لجماعة النسوة اللاتي حضرن غسل ابنة النبي صلى الله عليه وسلم (بميامنها) جمع ميمنة، أي بالأيمن من بدنها، من اليد، والجنب، والرجل، يعني ابدأن بالأعضاء اليمنى منها قبل اليسرى في الغسل والوضوء (ومواضع الوضوء منها) أي ابدأن بغسل مواضع الوضوء منها قبل باقي الأعضاء.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ليس بين الأمرين تناف، لإمكان البداءة بمواضع الوضوء، وبالميامن معًا. قال الزين ابن المنيّر: قوله: "ابدأن بميامنها" أي في الغسلات التي لا وضوء فيها، "ومواضع الوضوء منها" أي في الغسلة المتصلة بالوضوء، وكأن المصنف أشار بذلك إلى مخالفة أبي قلابة في قوله: يبدأ بالرأس، ثم باللحية. قال: والحكمة في الأمر بالوضوء تجديد أثر سمة المؤمنين في ظهور أثر الغرّة والتحجيل انتهى. واستدلّ به على استحباب المضمضمة، والاستنشاق في غسل الميت، خلافًا للحنفية، بل قالوا: لا يستحبّ وضوءه أصلاً.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: نسبة عدم استحباب الوضوء إلى الحنفية غلط، فقد قالوا باستحباب الوضوء، لكن بلا مضمضمة ولا استنشاق، كما بينه العيني
-رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الحافظ رحمه الله: وإذا قلنا باستحبابه، فهل يكون وضوءًا حقيقيا، بحيث يعاد غسل تلك الأعضاء في الغسل، أو جزءًا من الغسل، بُدئت به هذه الأعضاء تشريفًا؟
الثاني أظهر من سياق الحديث، والبداءة بالميامن، وبمواضع الوضوء مما زادته حفصة في روايتها عن أم عطية على أخيها محمد، وكذا المشط، والضَّفْرُ انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الراجح من أقوال أهل العلم مشروعية الوضوء للميت مع المضمضة والاستنشاق، على ظاهر حديث الباب، فإن الوضوء الشرعي إذا أطلق ينصرف إلى ما يشملهما.
وقيل: لا يشرعان، قال العينيّ رحمه الله: وضوء الميت سنة، كما في الاغتسال في حالة الحياة، غير أنه لا يمضمض، ولا يستنشق، لأنهما متعسران، لتعذر إخراج الماء من الأنف والفم
(3)
.
وقال ابن قدامة رحمه الله في "المغني": يُوَضِّؤه وضوءه للصلاة، فيغسل كفيه، ثم يأخذ خرقة خشنة، فيبلّها، ويجعلها على إصبعه، فيمسح أسنانه وأنفه حتى ينظفهما، ويكون ذلك في رفق، ثم يغسل وجهه، ويُتم وضوءه، قال: ولا يدخل الماء فاه، ولا منخريه في قول أكثر أهل العلم، كذلك قال سعيد بن جبير، والنخعي، والثوريّ، وأبو حنيفة، وقال الشافعيّ: يمضمض، ويستنشق، كما يفعل بالحيّ انتهى
(4)
.
قال الجامع: ما قاله الشافعي -رحمه اللَّه تعالى- هو الأولى لموافقته لظاهر النصّ.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإِتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، - عفا اللَّه تعالى عنه - وعن والديه ومشايخه آمين: قد انتهيت من كتابة الجزء الثامن عشر من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي
(1)
- فقال ردًّا على الحافظ: هذا تقول على الحنفية، ومذهب أبي حنيفة أن الميت يوضأ، لكن لا يمضمض، ولا يستنشق. انتهى "عمدة القاري" ج 6 ص 402.
(2)
- "فتح" ج 3 ص470 - 471.
(3)
- "عمدة القاري" ج 6 ص 393.
(4)
- "المغني" ج 3 ص 374.
عبد الرحمن النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى-، المسمّى "ذخيرةَ العُقْبَى في شرح المجتبى"، أو "غاية المنى في شرح المجتبى".
وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، في مكة المكرمة زادها اللَّه تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني من خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأَعْظِمْ به تكريمًا.
وأخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة اللَّه، وبركاته".
ويليه- إن شاء اللَّه تعالى- الجزء التاسع عشر مفتتحًا بالباب 32 "غسلُ الميت وترًا" الحديث رقم 1885.
"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".