المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سُنن النّسَائي المُسَمَّى ذَخِيْرَة العُقَبى في شَرْحِ المجْتَبَى   لجَامِعه الفَقير إلى مَوْلَاه - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ١٩

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح سُنن النّسَائي

المُسَمَّى

ذَخِيْرَة العُقَبى في شَرْحِ المجْتَبَى

لجَامِعه الفَقير إلى مَوْلَاه الغَنيّ القَديْر

محمد ابن الشيخ العلامة على بن آدم بن موسى الأيتُوبي الوَلَّوِي

المُدرّس بدَار الحَديثْ الخيريَّة بمكّة المكرَّمة

عَفَا اللَّه عَنْه وَعَنْ والدَيه آمِينْ

الجزْء الثّامن عَشر

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

شرح سنن النسائي

ص: 3

جَمِيع الحقُوق مَحفُوظة

الطبعة الأولى

1424 هـ - 2003 م

دَار آل بُروم للِنشر وَالتّوزيع

المملكة العَربيّهَ السّعوديّة - مكّة المكرّمة - المكتب الرئيسي التنعيم

صَ بْ: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوّال 055541026)

ص: 4

‌32 - غَسْلُ الْمَيّتِ وِتْرًا

1885 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَتْنَا حَفْصَةُ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: مَاتَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا، فَقَالَ:«اغْسِلْنَهَا بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاغْسِلْنَهَا وَتْرًا، ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكِ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي» ، فَلَمَّا فَرَغْنَا، آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حَقْوَهُ، وَقَالَ:«أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» ، وَمَشَطْنَاهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، وَأَلْقَيْنَاهَا مِنْ خَلْفِهَا.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاّس البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان البصريّ الحافظ الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(هشام) بن حسّان القُرْدُوسيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة [6] 188/ 300.

والباقيتان تقدمتا قريبًا، والسند مسلسل بالبصريين، وفيه أن شيخ المصنف أحد مَن روى عنه الستة بلا واسطة، كما تقدم غير مرّة.

وقوله: "أشعرنها": أي اجعلن الحِقْو شعارًا لها، والشِّعَار هو الثوب الذي يلي الجسد، والدِّثَار ما فوقه، وسمي شعارًا لأنه يلي شعر الجسد. وقولها:"ومشطناها": بتخفيف المعجمة: أي سرّحناها بالمشط، قال في "المصباح": مَشَطتُ الشعرَ، مَشْطًا، من بابي قتل، وضرب: سَرَّحته، والتثقيل مبالغة انتهى. وقولها:"ثلاثة قرون": المراد بالقرنين جانبا الرأس، أي جعلناه ثلاث ضفائر: جانبا الرأس، وناصيتها.

وفيه حجة للشافعي، ومن وافقه على استحباب تسريح الشعر، واعتلّ من كرهه بتقطيع الشعر، لكن ذلك يؤمن إذا كان معه الرفق، ولو حصل يُلَفّ مع شعرها، ولا حرج في ذلك.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه وقد تقدم تمام شرحه، والكلام على مسائله في 28/ 1881، ودلالته على الترجمة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 5

‌33 - غَسْلُ الْمَيّتِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسٍ

1886 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، عَنْ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ:«اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكِ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا"، أَوْ "شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ، فَآذِنَّنِي» ، فَلَمَّا فَرَغْنَا، آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حَقْوَهُ، وَقَالَ:«أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجَحْدريّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(يزيد) بن زُريع البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.

والباقون تقدّموا قريبًا، وأيوب هو السَّخْتياني، والسند أيضًا مسلسل بالبصريين، والحديث متفق عليه، وقد تقدم شرحه والكلام على مسائله في 28/ 1881. ودلالته على الترجمة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌34 - غَسْلُ الْمَيّتِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة مشروعية الزيادة على السبعة، إن احتيج إلى ذلك خلافًا لمن نفى ذلك كما تقدم بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1887 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ

(1)

، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا، فَقَالَ:«اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ، إِنْ رَأَيْتُنَّ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي» ، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حَقْوَهُ، وَقَالَ:«أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» .

1888 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:«ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكِ» .

(1)

ووقع في نسخة: "عن حفصة" بدل "عن محمد"، والظاهر أن النسخة الأولى هي الصحيحة؛ لأنها التي في "الكبرى"، وفي "تحفة الأشراف" ص 12 ص 502 - 503.

ص: 6

رجال الإسناد تقدّموا قريبًا، وكذا شرح الحديث، والكلام على مسائله، ودلالته على الترجمة واضحة من رواية حفصة، وإنما ساق رواية محمد، وإن لم تكن مطابقة للترجمة إشارة إلى أن الحديث واحد، وأن الزيادة من بعض رواته الثقات مقبولة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1889 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ بَعْضِ إِخْوَتِهِ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: تُوُفِّيَتِ ابْنَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ

(1)

صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَنَا بِغَسْلِهَا، فَقَالَ:«اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ، إِنْ رَأَيْتُنَّ» . قَالَتْ: قُلْتُ: وِتْرًا؟ ، قَالَ: نَعَمْ، "وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا" أَوْ "شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ"، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي". فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَعْطَانَا حَقْوَهُ، وَقَالَ:«أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» .

رجال هذا الإسناد تقدموا في الذي قبله غير:

(سَلَمَة بن علقمة) التميميّ، أبي بشر البصريّ، ثقة [6].

قال أحمد: بخ ثقة. وقال ابن سعد، وابن معين: ثقة. وقال ابن المدينيّ: ثبت. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكر البخاريّ في "تاريخه" عن ابن عليّة، قال: كان سلمة أحفظ لحديث محمد -يعني ابن سيرين- من خالد -يعني الحذّاء- وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان حافظا متقنًا. وقال العجلي: ثقة فقيه. وذكره ابن المدينيّ في الطبقة السابعة من أصحاب نافع.

مات قبل (140) وقيل (139). روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله عند المصنف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط.

و (بشر) هو ابن المفضّل بن لاحق البصريّ، ثقة ثبت [8] 66/ 82.

وقوله: "عن بعض إخوته"، وفي نسخة "عن بعض أخواته"، كما ذكره الحافظ المزي في "تحفة الأشراف" ج 12 ص 516. وفي "الكبرى" "عن بعض إخوانه"، فعلى نسخة "بعض إخوته"، وكذا "بعض إخوانه"، فهو مجهول، وعلى نسخة "بعض أخواته" يحتمل أن تكون هي حفصة، فقد ثبت أن محمدًا رواه عنها، عن أم عطيّة، كما سيأتي -35/ 1891 - .

وعلى كلّ حال، فالحديث صحيح بالأسانيد السابقة، واللاحقة، فلا تضرّه الجهالة المذكورة.

وقولها: "قالت قلت: وترًا" القائلة هي أم عطية، يعني أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله:"ثلاثًا"، أو "خمسا" الخ هل المراد منه كونه وترًا، فأجابها بقوله:"نعم".

(1)

وفي نسخة: "ابنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" بالإضافة.

ص: 7

ودلالة الحديث على الترجمة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌35 - الْكَافورُ فِي غَسْلِ الْمَيّتِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدم معنى "الكافور" في 28/ 1881 - والمراد استعماله في آخر غسلات الميت. واللَّه أعلم بالصواب.

1890 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ:«اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكِ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا"، أَوْ" شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي"، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حَقْوَهُ، وَقَالَ: «أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» ، قَالَ: أَوْ قَالَتْ: حَفْصَةُ: "اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا"، قَالَ: وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: مَشَطْنَاهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ.

رجال الإسناد: خمسمة، تقدّموا قريبًا، غير:

1 -

(عمرو بن زرارة) أبي محمد النيسابوريّ، ثقة ثبت [10] 7/ 368.

و"إسماعيل": هو ابن علية. والحديث متفق عليه، وتقدم شرحه والكلام على مسائله، ومطابقته للترجمة واضحة.

وقوله: "قال: أو قالت حفصة الخ" وفي "الكبرى": "وقالت حفصة" بالواو، والظاهر أن "أو" بمعنى الواو، وقائل "قالت حفصة" هو أيوب، يعني أن في رواية محمد "ثلاثا، أو خمسا"، وفي رواية حفصة زادت "أو سبعا". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجعِ والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1891 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: وَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ.

رجال الإسناد: ستة تقدموا قريبًا، غير:

1 -

(محمد بن منصور) الجَوَّاز المكيّ، ثقة [10] 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحافظ الحجة [8] 1/ 1.

ص: 8

والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1892 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، وَقَالَتْ حَفْصَةُ: عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، وَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ.

رجال الإسناد: خمسة، كلهم تقدّموا قريبًا.

وقوله: "وقالت حفصة الخ" عطف على مقدر، أي قال فلان كذا، وقالت حفصة الخ.

والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌36 - الإِشْعَارُ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنف -رحمه اللَّه تعالى- أراد بهذه الترجمة بيان معنى قوله في الحديث: "أشعرنها إياه"، فكأنه يقول معنى الإشعار هو أن يُلَفّ بذلك الشعار جسدها، لا بمعنى أنه يجعل لها إزرًا يعقد على حقوها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم متزرًا به كذلك، وعلى هذا المعنى يدلّ كلام أيوب في جوابه الآتي لسؤال ابن جريج، عن معنى "أشعرنها إياه". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1893 -

أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ بْنُ أَبِي تَمِيمَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يَقُولُ: كَانَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ، امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، قَدِمَتْ تُبَادِرُ ابْنًا لَهَا، فَلَمْ تُدْرِكْهُ، حَدَّثَتْنَا، قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا، وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ:"اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا" أَوْ "شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي"، فَلَمَّا فَرَغْنَا أَلْقَى إِلَيْنَا حَقْوَهُ، وَقَالَ:«أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» . وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: لَا أَدْرِي؟ ، أَيُّ بَنَاتِهِ؟ ، قَالَ: قُلْتُ: مَا قَوْلُهُ: «أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» ، أَتُؤَزَّرُ بِهِ؟ قَالَ: لَا أُرَاهُ، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: الْفُفْنَهَا فِيهِ.

رجال هذا الإسناد: ستة، كلهم تقدّموا في 30/ 1883 - و"حجاج" هو ابن محمد الأعور. و"ابن أبي تميمة" والد أيوب السختياني، اسمه كيسان.

وقوله: "تُبَادر ابنا لها": أي تسابق موته، وكانه كان غازيا، فقدم البصرة، فبلغ أم

ص: 9

عطية، وهي بالمدينة قدومه، وهو مريض، فرحلت إليه، فمات قبل أن تلقاه، وفي بعض الروايات ما يدلّ على أن قدومها كان بعد موته بيوم، أو يومين، وهذا الابن لم يعرف اسمه، أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقوله: "ولم يزد على ذلك": أي قال أيوب: لم يزد ابن سيرين على المذكور شيئًا، بخلاف حفصة أخته، فإنها زادت أشياء، منها: قولها: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها"، كما سبق في-31/ 1884 - ومنها قولها:"ومشطناها ثلاثة قرون، وألقيناها خلفها". واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "قال: لا أدري أيُّ بناته"، أي قال أيوب أيضًا: لا أدري أيّ بنات النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت المغسولة"، فـ"أيُّ" مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير: أي بناته ماتت، أو مغسولة.

قال العينيّ رحمه الله: وهذا لا ينافي ما قاله الآخرون: إنها زينب، إذ عدم علمه لا ينافي علم غيره، وقد صرّح عاصم في روايته عن حفصة أنها زينب، وهي رواية مسلم. انتهى

(2)

.

وقوله: "قال: قلت: ما قوله: "أشعرنها إياه"، فاعل "قال" هو ابن جريج، كما بينه عبد الرزاق في روايته عن ابن جريج، قال: قلت لأيوب: قوله: "أشعرنها"، تؤزر به؟، قال: ما أراه إلا قال: الفُفْنها فيه انتهى

(3)

. وقوله: "أتؤزّر به" بهمزة الاستفهام، و"تؤزر" بضم التاء، وفتح الهمزة، وتشديد الزاي، من التأزير.

يعني هل معنى قوله في الحديث: "أشعرنها إياه" أن يُجعل لها ذلك الشعار مثل الإزار؟.

وقوله: "قال: لا أُراه إلا أن يقول: الفُفْنها فيه". فاعل "قال" هو أيوب أيضًا، و"أراه" بضم الهمزة، بمعنى أظنه. وقوله:"الففنها" بهمزة الوصل، من اللَّفِّ، يقال: لففته لَفًا، من باب قَتَلَ، فالتفّ، والتفّ النباتُ بعضُهُ ببعض: اختلط، ونَشِبَ، والتفّ بثوبه: اشتَمَلَ، واللّفَافَةُ بالكسر: ما يُلَفّ على الرِّجْلِ وغيرها، والجمع لَفَائف. قاله في "المصباح".

والمعنى: لا أظنه أراد بقوله: "أشعرنها إياه" إلا معنى الفُفْنها به، أي يجعل لها لفافة يُلَفّ بها جميع بدنها، لا أنه يجعل لها إزرًا. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- "فتح" ج 3 ص 366.

(2)

- "عمدة القاري" ج 6 ص 406.

(3)

- راجع "الفتح" ج 3 ص 474.

ص: 10

زاد في رواية البخاريّ: وكذلك كان ابن سيرين يأمر بالمرأة أن تُشعَر، ولا تُؤزّر انتهى.

والحديث أخرجه البخاريّ، وتقدم تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1894 -

أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ يُوسُفَ النَّسَائِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: تُوُفِّيَ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكِ، وَاغْسِلْنَهَا بِالسِّدْرِ وَالْمَاءِ، وَاجْعَلْنَ فِي آخِرِ ذَلِكِ كَافُورًا" أَوْ "شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي» ، قَالَتْ: فَآذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حَقْوَهُ، فَقَالَ:«أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شعيب بن يوسف النسائيّ) ثقة [10] 42/ 49.

2 -

(يزيد) بن هارون، أبو خالد الواسطيّ، ثقة متقن عابد، من كبار [9] 153/ 244.

3 -

(ابن عون) عبد اللَّه، أبو عون البصريّ، ثقة ثبت فاضل [5] 29/ 33.

والباقيان تقدما قريبًا، والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌37 - الأَمْرُ بِتَحْسِينِ الْكَفَنِ

1895 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ الرَّقِّيُّ الْقَطَّانُ، وَيُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا

(1)

حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ، مَاتَ، فَقُبِرَ لَيْلاً، وَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ، غَيْرِ طَائِلٍ، فَزَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يُقْبَرَ إِنْسَانٌ لَيْلاً، إِلاَّ أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا وَلِىَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ» .

(1)

وفي نسخة: "أنبأنا"

ص: 11

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبدالرحمن بن خالد الرَّقِّيُّ الْقَطَّان) واسطيّ الأصل، ثم الرقّيّ، صدوق [11] 7/ 753.

2 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم المكيّ، صدوق [4] 31/ 35.

3 -

(جابر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام رضي الله عنه 31/ 35

والباقون تقدموا في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال ثقات، وفيه جابر رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) من الأحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن ابن جريج -رحمه اللَّه تعالى- أنه (قال: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا) رضي الله عنه (يَقُولُ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ، مَاتَ، فَقُبِرَ لَيْلاً) بالبناء للمفعول، أي دُفن في الليل، يقال: قَبَرتُ الميتَ، من بابي قتلَ، وضربَ: دفنته، وأقبرتُهُ: أمرتُ أن يُقبَر، أو جعلتُ له قُبْرًا. قاله في "المصباح"(وَكُفِّنَ) بالبناء للمفعول أيضًا، والجملة في محل نصب على الحال، من نائب فاعل "قُبِرَ"(فِي كَفَنٍ، غَيْرِ طَائِلٍ) أي غير حسن، أو غير كامل الستر (فَزَجَرَ) أي منع، وبابه قَتَلَ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يُقْبَرَ) بالبناء للمفعول أيضًا: أي

يُدفن (إِنْسَانْ لَيلًا) ولفظ مسلم: "فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل، حتى يصلى عليه".

وقد جاء بصريح النهي في رواية ابن ماجه، من طريق وكيع، عن إبراهيم بن يزيد المكي، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تَدْفِنُوا موتاكم بالليل، إلا أن تضطرّوا".

قال النوويّ رحمه الله: وأما النهي عن القبر ليلا حتى يُصَلَّى عليه، فقيل سببه أن الدفن نهارا يحضره كثيرون من الناس، ويصلّون عليه، ولا يحضره في الليل إلا أفراد، وقيل: لأنهم كانوا يفعلون ذلك بالليل لرداءة الكفن، فلا يَبِين في الليل، ويؤيّده أول الحديث وآخره، قال القاضي: العلتان صحيحتان، قال: والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم قصدهما معًا، قال: وقد قيل هذا انتهى

(1)

.

(1)

- "شرح النووي" ج 7 ص 14.

ص: 12

(إِلاَّ أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى ذَلِكَ) ببناء الفعل للمفعول، وعند مسلم:"إلا أن يَضطرّ إنسان إلى ذلك"، وعليه فالفعل مبنيّ للفاعل، قال في "المصباح": وضَرَّه إلى كذا، واضطَرَّه: ألجأه إليه، وليس له منه بُدٌّ انتهى. قال النووي رحمه الله: فيه دليل أنه لا بأس به في وقت الضرورة، وقد اختَلَف العلماءُ في الدفن في الليل، فكرهه الحسن البصريّ، إلا لضرورة، وهذا الحديث مما يُستدلّ له به.

وقال جماهير العلماء، من السلف والخلف: لا يكره، واستدلّوا بأن أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه، وجماعة من السلف دُفنوا ليلًا، من غير إنكار، وبحديث المرأة السوداء، والرجل الذي كان يقمّ المسجد، فتوفّي بالليل، فدفنوه ليلاً، وسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه؟ فقالوا: توفي ليلًا، فدفنّاه في الليل، فقال:"ألا آذنتموني؟ "، قالوا: كانت ظلمة، ولم ينكر عليهم، وأجابوا عن هذا الحديث أن النهي كان لترك الصلاة، ولم ينه عن مجرّد الدفن بالليل، وإنما نهى لترك الصلاة، أو لقلة المصلين، أو عن إساءة الكفن، أو عن المجموع، كما سبق انتهى كلام النووي -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: أخذ به الحسن، فكره أن يُقبر الرجل بالليل، إلا لضرورة، وذهب الجمهور إلى جواز ذلك، وكأنهم رأوا أن ذلك النهي خاصّ بذلك الرجل، لئلا تفوته صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: يمكن أن يقصدوا بدفنه بالليل ستر إساءة ذلك الكفن الغير الطائل.

قال: وهذه التأويلات فيها بُعْدٌ، ولا تصلح لدفع ذلك الظاهر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صدر عنه النهي المطلق بعد دفن الرجل بالليل، فقد تناول النهي غيره قطعًا، فتأمله.

ويمكن أن يُعضد مذهب الحسن بأنه إن قبر ليلًا قلّ المصلون عليه، لأن عادة الناس في الليل ملازمة بيوتهم، ولا يتصرفون فيه، ولأنه إذا قبر ليلا تسومح في الكفن، لأن الليل يستره، ودلّ على صحته قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا كفّن أحدكم أخاه، فليُحسن كفنه". انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الحسن البصريّ -رحمه اللَّه تعالى-، هو الأرجح عندي، كما مال إليه القرطبيّ، لظاهر حديث الباب. وسيأتي تحقيق القول في ذلك في "باب الساعات التي نهُي عن إقبار الموتى فيهنّ" 89/ 2013 و 2014 - إن شاء اللَّه تعالى.

(وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَلِي) بفتح الواو، وكسر اللام المخففة، من الولاية، أي تولى (أَحَدُكُمْ أَخَاهُ) أي تجهيز أخيه، وتكفينه (فَلْيُحَسِّن) بضم الياء، من التحسين،

(1)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 14.

(2)

- "المفهم" ج 2 ص 601 - 602.

ص: 13

ويحتمل أن ايكون من الإحسان (كَفْنَهُ") قال القرطبيّ: ضبطه أبو بحر: كَفْنه بسكون الفاء، وغيره بفتحها، يعني الكفن نفسه، وهو الأولى انتهى

(1)

.

وقال النووي رحمه الله: ضبطوه بوجهين: فتح الفاء، وإسكانها، وكلاهما صحيح، قال القاضي: والفتح أصوب، وأظهر، وأقرب إلى لفظ الحديث انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فعلى تسكين الفاء يكون مصدر كَفَنَ، قال في "المصباح": كَفْنتُه في بُرْد، ونحوه، تكفينًا، وكَفَنتُهُ، كَفْنًا، من باب ضرب، لغةٌ انتهى.

أي يحسن فعلَ التكفين، فيشمل الثوب، وهيئته، وعمله. وعلى فتح الفاء يكون اسما للثوب الذي يكفّن فيه الميت، ويُجمع على أكفان، مثل سَبَب، وأسباب. أي يجعل كفنه حسنًا.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: قال العلماء: وليس المراد بإحسان الكفن السرف فيه، والمغالاة، ونفاسته، وإنما المراد نظافته، ونقاؤه، وكثافته، وستره، وتوسّطه، وكونه من جنس لباسه في الحياة غالبًا، لا أفخر منه، ولا أحقر انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-37/ 1895 و 89/ 2014 - وفي "الكبرى" 37/ 2022 - 89/ 2141 وأخرجه (م) 943 (د) 3148 (أحمد) 13733 و 14115 و 1435 و 14575 و14668 واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو الأمر بتحسين الكفن، فلا يكفّن الميت بكفن حقير، إلا إذا لم يوجد الكفن الحسن. ومنها: النهي عن الدفن ليلاً، تكثيرا للصلاة عليه، إلا للضرورة. ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مراعاة أحوال أصحابه رضي الله عنهم، أحياء وأمواتا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في أقوال أهل العلم في تحسين الكفن:

(1)

- "المفهم" ج 2 ص 602.

(2)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 15.

(3)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 15.

ص: 14

قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: وبحديث جابر قال الحسن البصريّ، وابن سيرين.

قال: وقد روينا عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: لا تغالوا بكفني، فإن يك لصاحبكم عند اللَّه خير بُدّلَ كسوةً خيرًا من كسوتكم، وإلا سُلبه سريعا. قال: وكان إسحاق يقول: لا تغالوا بالكفن، إذا كان في حياته صاحب إعواز

(1)

، فإن ذلك مما يُجحف بالورثة، وإن كان صاحب يسار، فَغَالَى فهو جائز. وقد أوصى ابن مسعود أن يكفّن في حلّة بمأتي درهم. وقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه قال: أحسنوا أكفان موتاكم، فإنهم يبعثون فيها يوم القيامة. وروينا عن معاذ بن جبل أنه قال: أحسنوا أكفان موتاكم، فإن الموتى يحشرون في أكفانهم. وقال محمد ابن الحنفية: ليس للميت في الكفن شيء، ولكنه تكرمة للحيّ انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أن القول بتحسين الكفن هو الحقّ، كما دلّ عليه حديث جابر رضي الله عنه المذكور في الباب، ولكن ليس معناه أن يُغالَى فيه، بل أن يكون نظيفا، نَقيّا، كثيفا، ساترا إلى آخر ما تقدم في كلام النووي -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: حديث: "لا تغالوا في الكفن، فإنه يُسلَب سريعًا". رواه أبو داود، وهو ضعيف، وإن سكت عنه أبو داود، وحسنه النوويّ، والمنذريّ، لأن في سنده عمرو بن هاشم، ضعفه مسلم، وغيره، وفيه انقطاع بين الشعبي، وبين علي رضي الله عنه، فإن الشعبيّ لم يسمع منه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌38 - أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ

1896 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ

(1)

- أي صاحب فقر. وكان في نسخة "الأسط""صاحب أعوزاز"، والظاهر أنه تصحيف.

(2)

- "الأوسط" ج 5 ص 358 - 359.

ص: 15

- صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا أَطْهَرُ، وَأَطْيَبُ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» .

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاس البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطان البصريّ الإمام الحجة المشهور [9] 4/ 4.

3 -

(سعيد بن أبي عروبة) مهران البصريّ، ثقة ثبت اختلط أخيرا [6] 34/ 38.

4 -

(أيوب) السختياني البصريّ المذكور قبل باب.

5 -

(أبو قلابة) عبد اللَّه بن زيد بن عمرو البصريّ، ثقة فاضل [3] 103/ 322.

6 -

(أبو المهلب) الجَرْميّ البصري، عم أبي قلابة، اسمه عمرو، أو عبد الرحمن بن معاوية، أو ابن عمرو، أو غيره، ثقة [2] 21/ 1236.

7 -

(سَمُرَة) بن جُندَب الفزاريّ، حليف الأنصار، صحابي مشهور، مات بالبصرة سنة (58) رضي الله عنه 25/ 393. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن شيخه هو أحد مشايخ الأئمة السنة الذين رووا عنهم بلا واسطة. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلّب. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَمُرَةَ) رضي الله عنه، وسقط في بعض النسخ لفظة "عن"، وهو غلط (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ:"الْبَسُوا) من باب تَعِبَ، ومصدره اللَّبْس بالضمّ (مِنْ ثِيَابِكُمُ) "من" تبعيضية، أو بيانية، مقدمة، فتتعلق بحال محذوف، من قوله (البَيَاضَ) مفعول "البسوا" على حذف مضاف، أي ذوات البياض، وفي "مسند أحمد": ""البيض" بكسر الباء، جمع الأبيض، وعليه فلا تجوّز، وكذا وقع عند أبي داود، والبيهقي (فَإنَّهَا) أي الثياب البياض (أَطْهَرُ، وَأَطْيَبُ) الفاء تعليلية، أي لأنها أطهر، وأطيب، لأنه يَلوح فيها أدنى وسخ، فيُزال، بخلاف سائر الألوان، وسيأتي في "الزينة" بلفظ:"فإنها من خير ثيابكم"(وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ") عطف على "البسوا"، أي البَسُوها في حياتكم، وأَلْبِسُوها موتاكم. وهذا محل الترجمة، حيث إنه نصّ في الأمر بتكفين الميت في البياض من الثياب، ولا يأمر الشارع إلا بما هو خير وأفضل من غيره.

والأمر في هذا الحديث -كما قال العلامة الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ليس للوجوب، بل للندب، أما اللبس في الحياة، فلما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من لبس غيره، فقد كان

ص: 16

أحبّ الثياب إليه الْحِبَرَةُ، وهي بُرود مخططة بالأخضر، ولبس ثوبين أخضرين، ولبس حُلَّة حمراء، وكلها ستأتي في "كتاب الزينة" إنشاء اللَّه تعالى، وكذلك إلباسه جماعة من الصحابة ثيابا غير بيض، وتقريره لجماعة منهم على لبس غير البياض، وأما في الكفن، فلما ثبت عند أبي داود -بإسناد حسن- من حديث جابر مرفوعًا:"إذا تُوفي أحدكم، فوَجَدَ شيئًا، فليُكَفَّن في ثوب حِبَرَة". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-38/ 1896 - و"في كتاب الزينة" 98/ 5322 و 5323 - وفي "الكبرى" 38/ 2023 - وفي "الزينة" 90/ 9643 و 9644 و 9645 وأخرجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (د) 3878 و 4061 (ت) 994 (ق)1472. وأخرجه (أحمد) من حديث سمرة، ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما 3027 و2220 و 3416 و 19627 و 19722. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أيُّ الكفن خير؟، وذلك لأن الحديث بين خير الكفن، وهو الأبيض من الثياب. ومنها: استحباب الثياب البيض للبس في الحياة، لكونها أطهر، وأطيب، ولدلالتها غالبًا على التواضع، وعدم الكبر، والعجب، والخيلاء، كذا قال بعضهم، وهو محلّ نظر. ومنها: وجوب تكفين الميت، وهو إجماع، ومحلّه أصل التركة، فإن لم يكن ففي بيت المال، أو على جماعة المسلمين، ومنها: أنه يستحبّ في لون الكفن البياض، وهو مجمع عليه، كما قال النوويّ، قالوا: ويجوز التكفين في سائر الألوان، إلا أنه لا يُكَفَّن بما لا يجوز لبسه في حياته، كالحرير.

قال ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أُحِلَّ لبسُ الحرير، والذهب لإناث أمتي، وحرّم على ذكورها". قال: فأكره للرجال لبس الحرير، وأكره أن يُكَفِّنُوا فيها موتاهم، إلا في حال ضرورة، يُلجأ إليها، حيث لا يوجد غيرها.

وممن كره ذلك من أهل العلم الحسن البصريّ، وعبد اللَّه بن المبارك، ومالك بن أنس، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، ولا نحفظ عن أحد من أهل العلم خلافهم

ص: 17

انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌39 - كَفَنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على عدد كفن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونوعه.

1897 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"كُفِّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ، سُحُولِيَّةٍ بِيضٍ".

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق) ابن راهويه الإمام الثبت الحجة [10] 2/ 2.

2 -

(عبد الرزّاق) بن همّام الصنعاني، ثقة حافظ مصنف تغير آخرًا [9] 61/ 77.

3 -

(معمر) بن راشد الصنعاني، ثقة ثبت [7] 10/ 10.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم الإمام الثبت الحجة [4] 1/ 1.

5 -

(عروة) بن الزبير المدني الفقيه الثبت [3] 40/ 44.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنه 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعيّ، ورواية الراوي عن خالته، وفيه أحد الفقهاء السبعة، وهو عروة، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنه أنها (قَالَتْ: "كُفِّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول، "والنبي" نائب فاعله (فِي ثَلَاَثةِ أَثوَابٍ) زاد في "طبقات ابن سعد":"إزار، ورداء، ولفافة"(سُحُولِيَّةٍ) وفي نسخة: "أثوابِ سَحُوليّ" بدون هاء، وعليه تكون "أثواب" مضافة إلى

(1)

- "الأوسط" ج 5 ص 360 - 361.

ص: 18

"سحول"، وسيأتي من معاني "السَّحُول" أنه القّصّار، فتكون الإضافة بمعنى اللام، وفي "الكبرى":"في ثلاثة أثواب سحول بلا ياء، وبالإضافة، وهو صحيح أيضًا، ووقع في رواية للبيهقيّ: "سحولية جُدُد".

و"السحولية": بفتح السين، وضمها، قال النوويّ رحمه الله: والفتح أشهر، وهي رواية الأكثرين، وقال في "النهاية" تبعا للْهرويّ: يُروى بفتح السين، وضمها، فالفتح منسوب إلى السَّحُول، وهو القَصَّار، لأنه يَسْحَلُها، أي يغسلها، أو إلى سَحُول، وهي قرية باليمن. وأما الضمّ، فهو جمع سَحْل، وهو الثوب الأبيض النَّقِيّ، ولا يكون إلا من قطن، وفيه شُذوذ، لأنه نُسب إلى الجمع. وقيل: إن اسم القرية بالضمّ أيضا انتهى

(1)

.

وقال في "الصحاح": السَّحْل الثوب الأبيض، من الكُرْسُف، من ثياب اليمن، قال المسَيّب بن عَلَس يذكر ظُعُنًا [من الكامل]:

وَلَقَدْ أَرَى ظُعُنًا أبَيّنُهَا

تُحْدَى كَأَنَّ زُهَاءَهَا الأَثْلُ

فِي الآلِ يَخْفِضُهَا وَيَرْفَعُهَا

رِيعٌ يَلُوحُ كَأَنَّهُ سَحْلُ

و"الريع" بالكسر، والفتح: الطريق، شَبَّهَ الطريق بثوب أبيض.

والجمع سُحُول، وسُحُلٌ، مثلُ سُقُف، ثم ذكر الحديث، ثم قال: ويُقال: سُحُول موضع باليمن، وهي تنسب إليه. وقال في "المحكم": السَّحْلُ ثوب أبيض، وخصّ بعضهم به الثوب من القطن، وقيل: السَّحْلُ ثوب أبيض رقيق، وجمع كل ذلك أَسْحَالٌ، وسُحُولٌ، وسُحُل.

قال الْمُتَنَخِّلُ الْهُذَليّ:

كَالسُّحُلِ الْبِيضِ جَلَا لَوْنَهَا

سَحُّ نِجَاءِ الْحَمَلِ الأَسْوَلِ

(2)

.

وقال الفيّومي رحمه الله: و"سَحُول" مثلُ رَسول، بلدة باليمن، يُجلب منها الثياب، وينسب إليها على لفظها، فيقال: أثواب سَحُولية، وبعضهم يقول: سُحُولية بالضمّ، نسبة إلى الجمع، وهو غلط، لأن النسبة إلى الجمع إذا لم يكن علمًا، وكان له واحد من لفظه، تَرُدّ إلى الواحد بالاتفاق انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:

(1)

- "النهاية" ج2 ص 347.

(2)

- انظر "لسان العرب" في مادة سحل.

(3)

- "المصباح" في مادة سحل.

ص: 19

وَالْوَاحِدَ اذْكُرْ نَاسِبًا لِلْجَمْعِ إِنْ لَمْ يُشَابِهْ وَاحَدًا بِالْوَضْعِ

(بِيض) بكسر الباء، جمع أبيض، ووزنه في الأصل فُعْلٌ، بضمّ الفاء، مثل حُمْر، كما قال في "الخلاصة":

فُعْلٌ لِنَحْوِ أَحْمَرٍ وَحَمرَا

وَفِعْلَةٌ جَمْعًا بِنَقْلٍ يُدْرَى.

ولكن أُبدل من ضمة الياء كسرة، كراهة انقلاب الياء واوًا.

فائدة: قيل: إن أصول الألوان أربعة، الابيضاض، والاحمرار، والاصفرار، والاسوداد، وما عدا ذلك من الألوان يتشعّب منها. ذكره ابن الملقن

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.

المسألة الثانيه: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

وأخرجه هنا-39/ 1897 و 1898 و 1899 - وفي "الكبرى" 39/ 2024 و 2025، 2026.

وأخرجه (خ) 1264 و 1271 و 1272 و 1273 و 1387 و 5814 (م) 941 (د) 3120 و 3151 (ت) 996 (ق) 1469 (الموطّأ) 521 و 522 (أحمد) 23602 و 24104 و 24348 و 24484 و 24795 و 25418. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في ذكر اختلاف الروايات في كفن النبي صلى الله عليه وسلم:

قال الحافظ وليّ الدين العراقي رحمه الله: اتفَقَ عليه -يعني حديث الباب- الأئمةُ الستةُ، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بزيادة "من كُرسف، ليس فيها قميص، ولا عمامة"، وليس قوله:"من كُرْسُف" عند الترمذيّ، ولا عند ابن ماجه، زاد مسلم:"أما الحلّة، فإنما شُبِّهَ على الناس فيها أنها اشتُريت له ليكفّن فيها، فتركت الحلّة، وكفّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، فأخذها عبد اللَّه بن أبي بكر، فقال: لأحبسنها حتى أُكَفِّن فيها نفسي، ثم قال: لو رضيها اللَّه عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، لكفنه فيها، فباعها، وتصدّق بثمنها". وفي رواية له: "أُدرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حُلّة يمانية، كانت لعبد اللَّه بن أبي بكر، ثم نُزعت منه، وكفّن في ثلاثة أثواب سحولية يمانية، ليس فيها عمامة، ولا قميص"

الحديث.

(1)

- "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" ج 4 ص 416.

ص: 20

وفي رواية أصحاب "السنن" الأربعة: "كفن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض يمانية، كُرْسُف، ليس فيها قميص، ولا عمامة"، فذُكِر لعائشة قولهم: في ثوبين، وبرد حبرة؟ فقالت: قد أُتي بالبرد، ولكنهم رَدُّوه، ولم يكفنوه فيه. وقال الترمذيّ: حسن صحيح، وفي رواية للبيهقيّ:"في ثلاثة أثواب سحولية جُدُد".

وأخرج أبو داود في "سننه" عنها: "أُدرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ثوب واحد، حِبَرة، ثم أخرج عنه". وهو حديث صحيح.

وفيه أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما: "في ثلاثة أثواب نجرانيّة، الحلّة ثوبان، وقميصه الذي مات فيه". قال عثمان -يعني ابن أبي شيبة-: "في ثلاثة أثواب، حلة حمراء، وقميصه الذي مات فيه". قال الحافظ رحمه الله: تفرد به يزيد بن أبي زياد، وقد تغير، وهذا من ضعيف حديثه.

وفي رواية لابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: "كُفِّنَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في ثلاثة رياط

(1)

، بيض، سحولية". وهو حديث حسن.

وفي رواية عن ابن عباس، قال:"كُفِّنَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب: قميصه الذي مات فيه، وحُلّة نجرانية". وهو حديث ضعيف، فيه يزيد بن أبي زياد، وقد تقدم الكلام عليه قريبًا.

وفي "مسند أحمد" عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كفّن في ثلاث رياط بيض يمانية". وفيه أيضًا، عن ابن عباس:"كُفن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ثوبين أبيض، وبرد أحمر". وانفرد أحمد بالحديثين.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أما الأول، فرجاله ثقات، وأما الثاني ففيه محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، سيئ الحفظ، وأيضًا لم يسمع الحكم عن مقسم إلا خمسة أحاديث، كما في ترجمته من "تهذيب التهذيب"، وليس هذا منها، فهو ضعيف.

وعند أبي سعيد بن الأعرابي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"كُفن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ريطتين، وبرد نجرانيّ". وعند ابن عساكر: "كفّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب، ليس فيها قميص، ولا قباء، ولا عمامة".

وروى ابن أبي شيبة، وأحمد، والبزّار عن علي: رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كفّن في سبعة أثواب".

قال الحافظ رحمه الله: وهو من رواية عبد اللَّه بن محمد بن عَقِيل، عن ابن الحنفية،

(1)

- جمع ريطة، وهي الملاءة، إذا كانت قطعة واحدة، ولم تكن لفقتين، وقيل: كل ثوب رقيق ليّن. اهـ سندي.

ص: 21

عن علي، وابنُ عَقِيل سيئ الحفظ، يصلح حديثه للمتابعات، فأما إذا انفرد، فيحسّن، وأما إذا خالف، فلا يقبل، وقد خالف هو رواية نفسه، فرَوَى عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم كفّن في ثوب نمرة.

وعند ابن سعد، عن الشعبيّ:"كفّن في ثلاثة أثواب، برد، يمانية غلاظ إزار، ورداء، ولفافة". وعن مرّة بن شُرَحبيل، عن ابن مسعود رضي الله عنه:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما ثقل، قلنا: فيم نكفّنك؟ قال: "في ثيابي هذه إن شئتم، أو في يمانية، أو ثياب مصر".

وعن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زُرّ عليه قميصه الذي كفن فيه"، قال ابن سيرين: أنا زررت على أبي هريرة. وعند أبي بشر الدّولابيّ، عن سالم، عن أبيه: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كفّن في ثلاثة أثواب: ثوبين صُحَارين

(1)

، وثوب حبرة". وعند ابن عديّ، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "كفن النبي صلى الله عليه وسلم في ثوبين أبيضين سحولتين".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد وردت روايات مختلفة، كما ذكرنا بعضها في كفن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحها -كما قال الترمذيّ، والحاكم، وغيرهما- حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان عدد كفن النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: استحباب كون الكفن ثلاثة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: استحباب كونها بِيضًا، لأن الأبيض أنظف، وأطيب، وهو إجماع، وقد تقديم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، لكن التكفين في غيرها من الألوان جائز، غير أنه لا يجوز أن يكفّن الرجل في الحرير، كما سيأتي. ومنها: عدم مشروعية القميص، والعمامة في الأكفان، لقولها في الرواية التالية:"ليس فيها قميص، ولا عمامة". ومنها: استحباب كون الأكفان من القطن، لقولها في الرواية الآتية أيضًا:"من كُرسف"، وهو القطن. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في اختلاف العلماء في عدد الكفن:

قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: قد اختلف أهل العلم في عدد ما يكفّن فيه الميت:

روينا عن ابن عمر أنه قال: كفّن عمر في ثلاث أثواب، ثوبين سحوليين، وثوبا كان يلبسه. وقالت عائشة: لا يكفّن الميت في أقلّ من ثلاثة أثواب لمن قدر. وكان طاوس

(1)

- في "النهاية": صُحَار، أي بالضمّ: قرية باليمن، نسب إليها الثوب، وقيل: هي حمرة خفية كالغُبْرة. اهـ. ج 3 ص 12.

ص: 22

يكفّن الرجل من أهله في ثلاثة أثواب، ليس فيهنّ عمامة. وممن رأى أن الميت يكفّن في ثلاثة أثواب: مالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقد روينا عن سُويد بن غفلة، قال: كفّن أبو بكر في معقدين.

قال: والذي رويناه عن عائشة أنه قال: "اغسلوا ثوبي هذا، واجعلوا معه ثوبين". أصح. وقال الأوزاعيّ: يجزئ ثوبان. وقال مالك: يكفي في ثوبين، إذا لم يوجد غيرهما. وكان ابن عمر يكفّن أهله في خمسة أثواب، عمامة، وقميص، وثلاث لفائف. وقال النعمان: يكفّن الرجل في ثوبين.

قال ابن المنذر رحمه الله: أحبّ الأكفان إليّ ما قدر اللَّه جَلَّ ذكرُهُ لنبيه صلى الله عليه وسلم أن كفّن فيه، ثلاثة أثواب بيض، يُدْرج فيها الميت إدراجًا، لا يكون فيما يكفّن فيه الميت قميص، ولا عمامة، فإن كفّن الميتُ في ثوب، أو في ثوبين لم أكره ذلك انتهى كلام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- باختصار

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم. وقال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: السنّة للرجل في الكفن ثلاثة أثواب، وبه قال مالك، والشافعيّ، وأحمد، وأبو حنيفة، والجمهور.

قال الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى-: روي في كفن النبي صلى الله عليه وسلم روايات مختلفة، وحديث عائشة أصحّ الروايات التي رويت في كفن النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل على حديث عائشة رضي الله عنها، عند أكثر أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم انتهى

(2)

.

وقال البيهقي في "الخلافيات": قال أبو عبد اللَّه -يعني الحاكم-: تواترت الأخبار عن علي بن أبي طالب، وابن عباس، وعائشة، وابن عمر، وعبد اللَّه بن مغفل في تكفين النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب، بيض، ليس فيها قميص، ولا عمامة.

وروى ابن أبي شيبة في "مصنّفه" التكفين في ثلاثة أثواب، عن أبي بكر، وعمر، وأبي هريرة، وعبد اللَّه بن عمرو، وإبراهيم النخعيّ، وعن ابن عباس، أنه قال: ثوب، أو ثلاثة، أو خمسة. وعن حذيفة أنه قال: كفنوني في ثوبيّ هذين. وعن ابن عمر أنه كفّن ابنه واقدًا في خمسة أثواب: قميص، وعمامة، وثلاث لفائف. وعن سُوَيد بن غَفَلَةَ: قال: الرجل والمرأة يكفنان في ثوبين، وكُفِّن أبو بكر في ثوبين. وعن غنيم بن قيس: كنا نكفّن في الثوبين، والثلاثة، والأربعة. وعن هشام بن عوف: أن غير واحد من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم كُفّن في ثوب واحد. وعن الحسن البصريّ: أن عثمان بن أبي

(1)

- "الأوسط" ج 5 ص 354 - 356.

(2)

- "جامع الترمذي" ج 4 ص 76. بشرح المباركفوريّ.

ص: 23

العاص كُفّن في خمسة أثواب.

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد قدّمت أن الأرجح ما قاله ابن المنذر رحمه الله تعالى، وحاصله أن الأفضل ما اختار اللَّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو التكفين في ثلاثة أثواب، بيضٍ، هذا إذا تيسّر، وإلا فما وُجد فهو الكفن، كما يأتي في قصة مُصعب بن عُمير رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السادسة: في اختلاف أهل العلم في عدد كفن المرأة:

قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: اختلفوا في عدد كفن المرأة، فقال كثيرون: تكفن المرأة في خمسة أثواب، كذلك قال النخعيّ، والشعبيّ، ومحمد بن سيرين، وبه قال الأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. قال: وكذلك نقول، يكون درع، وخمار، ولفافتان، وثوب لطيف، يشدّ على وسطها، يَجمع ثيابها.

وكان عطاء يقول: تكفّن في ثلاثة أثواب: درع، وثوب تحت الدرع تلف به، وثوب تلف فيه. وقال سليمان بن موسى: درع، وخمار، ولفافة تُدرَج فيها. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ ولي الدين رحمه الله: قال الفقهاء من الشافعية، والحنفية، والحنابلة، وغيرهم: يستحب تكفين المرأة في خمسة أثواب، ففرّقوا بينها وبين الرجال، لأنها تزيد في حياتها على الرجال في الستر، لزيادة عورتها، فكذلك بعد الموت. وفي "سنن أبي داود" ما يدلّ على ذلك في تكفين أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

، لكن قال الشافعيّة: ليست الخمسة في حقّ المرأة كالثلاثة في حقّ الرجل حتى نقول يخيّر الورثة، كما يخيّرون

(1)

"طرح التثريب" ج 3 ص 272.

(2)

الأوسط، ج 5 ص 356 - 357.

(3)

ونص أبي داود في "سننه":-3157 حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن إسحق، حدثني نوح بن حكيم الثقفي، وكان قارئا للقرآن، عن رجل من بني عروة ابن مسعود، يقال له: داود قد ولدته أم حبيبة، بنت أبي سفيان، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن ليلى بنت قانف الثقفية، قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم، بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، الحقاء، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر، قالت: ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس، عند الباب، معه كفنها، يناولناها ثوبا ثوبا.

ورجاله ثقات، غير نوح بن حكيم، قال ابن القطان: مجهول، ووثقه ابن حبان. وفي "ت": مجهول من السادسة. وفيه داود، فإن كان داود بن عاصم بن عروة بن مسعود، فهو ثقة، وقد جزم بذلك ابن حبان، وإن كان غيره، فيُنظر فيه.

والحاصل أن الحديث لا يصح. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 24

على الثلاثة. وقال المالكية: الزيادة على الثلاثة إلى الخمسة مستحبّة للرجال والنساء، وهي في حقّهنّ آكد.

وقال أحمد بن حنبل في الجارية إذا لم تبلغ: تكفّن في لفافتين، وقميص، لا خمار فيه، وظاهر هذا أنها لا تصير كالمرأة في الكفن إلا بعد البلوغ، ورَوَى عنه أكثر أصحابه أنها إذا كانت بنت تسع سنين يُصنع بها ما يصنع بالمرأة.

واختلف العلماء في الأثواب الخمسة التي تكفّن بها المرأة، فحُكي عن الشافعي في الجديد أنها إزار، وخمار، وثلاث لفائف، وعن القديم: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتان. وذكر الرافعيّ أن هذه المسألة مما يُفتى فيه على القديم، وأنه الأظهر عند الأكثرين. وحكى النوويّ عن الشيخ أبي حامد، والمحامليّ أن المعروف للشافعي في عامة كتبه أن يكون قميص، وأن القول الآخر لا يُعرف إلا عن المزنيّ، قال: فعلى هذا لا يكون إثبات القميص مختصّا بالقديم، وهذا مذهب مالك، وحكاه ابن قُدامة الحنبليّ عن أكثر أصحابه، وغيرهم، وصححه، ورواه ابن أبي شيبة عن الحسن البصريّ، وقال الخِرَقيّ منهم: قميص، وإزار، ومقنعة، ولفافة، وخامسة يُشدّ بها فخذاها، فجعل بدل اللفافة الأخرى خرقة تشد بها فخذاها، وأشار إليه أحمد، وكذا قال الحنفية: إن الأثواب الخمسة قميص، وإزار، وخمار، ولفافة، لكنهم قالوا في الخامسة خرقة تُربط فوق ثدييها، وهو غير هذه الرواية التي عند الحنابلة أن الخامسة خرقة تشدّ بها فخذاها، إلا أنه قريب منه.

وروى ابن أبي شيبة عن الشعبيّ: تكفّن المرأة في درع، وخمار، ولفافة، ومِنطقة، وخرقة، تكون على بطنها. وعن إبراهيم النخعيّ مثله، إلا أنه قال: والخرقة التي تشد عليها، وفي رواية عنه بدل المنطقة الإزار، وهو بمعناه. وعن ابن سيرين قال: تكفن المرأة في خمسة أثواب، في الدرع، والخمار، والرداء، والإزار، والخرقة. وعن ابن سيرين أيضًا توضع الخرقة على بطنها، ويُعصب بها فخذاها، وعنه أيضًا يُلفّ بها الفخذان تحت الدرع. وعن إبراهيم النخعيّ: تشد الخرقة فوق الثياب

(1)

.

وذكر ابن المنذر في تفسير الأثواب الخمسة أنها درع، وخمار، ولفافتان، وثوب لطيف يُشدّ على وسطها، يجمع ثيابها. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور، من استحباب كون كفن المرأة خمسة أثواب، هو الراجح، تؤيّده الزيادة التي في حديث أم عطية رضي الله عنها، فيما

(1)

- "مصنف ابن أبي شيبة" ج 3 ص 262 - 263.

(2)

- "طرح التثريب" ج 3 ص 273 - 275.

ص: 25

راه الجوزقيّ من طريق إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، عن هشام بن حسان، عن حفصة، عن أم عطية، أنها قالت:"وكفنّاها في خمسة أثواب، وخمرناها كما نخمّر الحيّ". قال الحافظ في "الفتح": وهذه الزيادة صحيحة الإسناد انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السابعة: في اختلاف أهل العلم في كفن الصبيّ:

قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: واختلفوا في عدد كفن الصبيّ، فكان سعيد ابن المسيب يقول: يكفن في ثوب. وقال أحمد: في خرقة، وإن كفنوه في ثلاثة، فلا بأس، وكذلك قال إسحاق. وقال أصحاب الرأي: يكفن في خرقتين، ويجزي إزار واحد. وقال الثوريّ: يجزيه ثوب واحد. وروي عن الحسن أنه قال: يكفّن في ثوبين.

قال ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: يكفن في ثلاثة أثواب، أو خرق على قدر الكفاية، ويجزي ثوب انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الأرجح ما قاله ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-، فالصبيّ في الكفن كالكبير، إذ ليس لنا دليل يخص الصبيّ بعدد من الكفن، مخالفٍ للكبير. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1898 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ، بِيضٍ، سُحُولِيَّةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ، وَلَا عِمَامَةٌ".

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقة الثبت [10] 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الثبت الحجة [7] 7/ 7.

3 -

(هشام بن عروة) بن الزبير المدنيّ الفقيه الثبت [5] 49/ 61.

والباقيان تقدما في الذي قبله، والحديث متَّفق عليه، وقد مضى شرحه، وما يتعلق به من المسائل، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقولها: "ليس فيها قميص، ولا عمامة": فيه دليل على أن القميص الذي غُسل فيه النبي صلى الله عليه وسلم نُزع عنه عند تكفينه. قال النوويّ في "شرح مسلم": وهذا هو الصواب الذي

(1)

- "فتح" ج 3 ص 474.

(2)

- "الأوسط" ج 5 ص 357.

ص: 26

لا يتجه غيره، لأنه لو أبقي مع رطوبته لأفسد الأكفان، قال: وأما الحديث الذي في "سنن أبي داود" عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كُفِّن في ثلاثة أثواب: الحلة ثوبان، وقميصه الذي توفي فيه". فحديث ضعيف، لا يصحّ الاحتجاج به، لأن يزيد بن أبي زياد أحد رواته مجمع على ضعفه، لا سيما، وقد خالف بروايته الثقات انتهى

(1)

.

[تنبيه]: اختلف العلماء في معنى قولها: "ليس فيها قميص، ولا عمامة": فحمله الشافعي، والجمهور على أنه ليس في الكفن موجودًا، فلا يستحبّ ذلك. وحمله مالك، وأبو حنيفة على أنه ليس معدودًا، بل يحتمل أن يكون ثلاثة أثواب، زيادة على القميص والعمامة، ومثله قوله تعالى:{رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} الآية [الرعد: 2] فإنه يدلّ على أن ثَمَّ عَمَدًا، إلا أنها غير مرئيّة، والتقدير بغير عمد مرئية لكم، ويحتمل أن يتناول الصفة والموصوف جميعًا.

قال العلامة ابن الملقّن رحمه الله: وهو حمل ضعيف، لعدم ثبوته في الحديث، بل يتضمن أن القميص الذي غُسل فيه النبي صلى الله عليه وسلم نزع عنه عند تكفينه، ولا يتجه غير ذلك، لأنه لو كفّن فيه مع رطوبته لأفسد الأكفان انتهى

(2)

.

وقال الحافظ ولي الدين رحمه الله: الصحيح أن معناه ليس في الكفن قميص، ولا عمامة أصلًا. وقيل: معناه أنه كفّن في ثلاثة أثواب خارجة عن القميص والعمامة. قال الشيخ تقيّ الدين رحمه الله: والأول أظهر في المراد.

وذكر النووي في "شرح مسلم" أن الأول تفسير الشافعيّ، وجمهور العلماء، قال: وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث، وقال: إن الثاني ضعيف، فلم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم كُفّن في قميص وعمامة انتهى.

وترتّب على هذا اختلافُهم في أنه هل يستحبّ أن يكون في الكفن قميص وعمامة، أم لا؟ فقال مالك، والشافعيّ، وأحمد: يستحبّ أن يكون الثلاثة لفائف، ليس فيها قميص، ولا عمامة، واختلفوا في زيادة القميص والعمامة، أو غيرهما على اللفائف الثلاثة، لتصير خمسة، فذكر الحنابلة أنه مكروه، وقالت الشافعية: إنه جائز غير مستحب، وقالت المالكية: إنه مستحبّ للرجال والنساء، وهو في حقّ النساء آكد، قالوا: والزيادة إلى السبعة غير مكروهة، وما زاد عليها سرف. وقالت الحنفية: إن الأثواب الثلاثة إزار، وقميص، ولفافة. ورواه ابن أبي شيبة في "مصنَّفه" عن عبد اللَّه بن عمرو، وإبراهيم النخعيّ، وذكر الحنابلة أنه لو كفّن في إزار، وقميص، ولفافة لم

(1)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 12.

(2)

- "الإعلام" ج 4 ص 416 - 417.

ص: 27

يكره، ولكن الأفضل الأول، وهذا جائز بلا كراهة. وقال بعض متأخري المالكيّة: يجزئ على قول مالك قميص وعمامة ولفافة، والمشهور عندهم أن الثلاثة لفائف، كما تقدم، وهو رواية ابن القاسم. وقال سفيان الثوريّ: إن شئت في قميص ولفافتين، وإن شئت في ثلاث لفائف.

وقد ظهر بذلك أن من قال: إن من الثلاثة قميصًا، فهو مخالف لهذا الحديث على الاحتمالين المتقدمين معًا، وكأنه تمسّك في استحباب القميص بإلباسه صلى الله عليه وسلم عبد اللَّه بن أُبَيّ قميصًا، وسيأتي ذكره.

وذكر الحنفية في توجيهه أنه الذي يعتاد لبسه في الحياة، فكذا بعد الموت، ويقتضي اختلافه باختلاف عادة ذلك الميت فيما كان يلبسه في حياته، لكن قد يقال: حمل الأمر على الأكثر الأغلب.

وقال النوويّ في "شرح مسلم": قال مالك، وأبو حنيفة: يستحبّ قميص وعمامة، وتأولوا الحديث على أن معناه: ليس القميص والعمامة من جملة الثلاثة، وإنما هما زائدان عليها، ثم ضعفه كما تقدم، وقد عرفت أن الحنفية يجعلون القميص من جملة الثلاثة.

وروى ابن أبي شيبة في "مصنّفه" كون الميت لا يُعمّم عن الشعبيّ، وأبي الشعثاء جابر بن زيد. وحكاه ابن بطّال وغيره عن جابر بن عبد اللَّه، وعطاء، ورَوَى ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أنه يُعَمّم، كما يُعَمَّمُ الحيُّ. وعن الحسن توضع العمامة وسط رأسه، ثم يُخَالَف بين طرفيها، هكذا على جسده. وقال مالك في "المدوّنة": من شأن الميت أن يعمّم عندنا. ورَوَى البيهقيّ في "الخلافيات" عن مالك أنه قال: ليس على هذا العمل عندنا. يعني تقميص الميت انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح الأقوال عندي قول من قال: إن السنة أن تكون الأثواب الثلاثةُ خالية عن القميص، والعمامة؛ لأنّ ظاهر هذا الحديث يدلّ على ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1899 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ، بِيضٍ يَمَانِيَةٍ، كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ، وَلَا عِمَامَةٌ"، فَذُكِرَ لِعَائِشَةَ قَوْلُهُمْ: فِي ثَوْبَيْنِ، وَبُرْدٍ، مِنْ حِبَرَةٍ، فَقَالَتْ: قَدْ أُتِيَ بِالْبُرْدِ، وَلَكِنَّهُمْ رَدُّوهُ، وَلَمْ يُكَفِّنُوهُ فِيهِ.

(1)

- راجع "طرح التثريب" ج 3 ص 275 - 277.

ص: 28

رجال هذا الإسناد: خمسة، كلهم ذكروا في الحديث الذي قبله، إلا:

1 -

(حفص) بن غياث بن طلق النخعي القاضي الكوفي، ثقة فقيه، تغير في الآخر قليلا [8] 86/ 105.

والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق شرحه، والكلام على مسائله، وأذكر هنا ما لم يتقدم شرحه:

فقولها: "يمانية" بتخفيف الياء على اللغة الفصيحة المشهورة، والأصل يمنيّة بتشديد الياء، لكنهم عوّضوا عن الياء الألفَ، فلا يجتمعان، وحكى سيبويه، والجوهريّ لغة في تشديدها. قاله ابن الملقّن -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال الفيومي رحمه الله: "اليَمَنُ" إقليم معروف، سمي بذلك لأنه عن يمين الشمس عند طلوعها، وقيل: لأنه عن يمين الكعبة، والنسبة إليه يَمَنيّ على القياس، ويَمَانٍ بالألف على غير قياس، وعلى هذا ففي الياء مذهبان:

أحدهما: وهو الأشهر تخفيفها، واقتصر عليه كثيرون، وبعضهم ينكر التثقيل، ووجهه أن الألف دخلت قبل الياء، لتكون عوضًا عن التثقيل، فلا يُثقّل، لئلا يُجمَع بين العوض والمعوّض عنه.

والثاني: التثقيل، لأن الألف زيدت بعد النسبة، فيبقى التثقيل الدّالّ على النسبة تنبيهًا على جواز حذفها انتهى

(2)

.

وقولها: "كُرْسُف": بالجرّ عطف بيان لـ "ثياب"، أو بدل منه، ولفظ مسلم:"من كرسف" بزيادة "من". وهو بضم الكاف، وسكون الراء، وضم المهملة، بعدها فاء: القطن.

وقوله: "فذكر لعائشة قولهم": ببناء الفعل للمفعول، أي ذَكَرَ بعضُهُم لعائشة رضي الله عنها أن الناس يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كُفّن في ثوبين، وبُردِ حِبَرَة، فقالت عائشة: قد أُتي بالبُرد ليكفّن فيه، ولكنهم ردّه، ولم يكفّنوه فيه.

ولفظ مسلم من طريق أبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: "كفن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، في ثلاثة أثواب، بيض سحولية، من كرسف، ليس فيها قميص، ولا عمامة، أما الْحُلّة فإنما شبه على الناس فيها، أنها اشتريت له، ليكفن فيها، فتُرِكَت الحلة، وكفن في ثلاثة أثواب، بيض سحولية، فأخذها عبد اللَّه بن أبي بكر،

(1)

- "الإعلام" ج4 ص 415.

(2)

-"المصباح المنير" في مادة يمن.

ص: 29

فقال: لأحبسنها، حتى أُكَفِّن فيها نفسي، ثم قال: لو رضيها اللَّه عز وجل لنبيه، لكفنه فيها، فباعها، وتصدق بثمنها".

ومعنى "شُبّه عليهم": أي اشتبه عليهم.

وقوله: "بُرْد" -بضم الوحّدة، وسكون الراء-: نوع من الثياب معروف، والجمع أَبْرادٌ، وبُرُودٌ، و"البُرْدة": الشَّمْلَة المخطّطةُ، وقيل: كساء أسود مُربّعٌ، فيه صورٌ، تلبسه الأعراب، وجمعها بُرَد -بضم، ففتح-. أفاده في "النهاية"

(1)

.

وفي "اللسان": قال ابن سِيدَهْ: البُرْدُ ثوبٌ فيه خُطُوطٌ، وخصّ بعضهم به الْوَشْيَ، والجمع أبرادٌ، وأَبْرُدٌ، وبُرُودٌ. والْبُرْدةُ: كساء يُلتحف به؛ وقيل: إذا جعل الصوف شُقَّةً، وله هُدْبٌ، فهي بُرْدَة، وجمعها بُرَدٌ انتهى باختصار

(2)

.

وقوله: "من حبرة" -بكسر الحاء المهملة، وفتح الموحّدة- هكذا نسخ "المجتبي" بزيادة "من"، فيكون الجارّ والمجرور صفة لـ"برد".

وفي "الكبرى": "برد حبرة" بدون لفظة "من": قال العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى-: روي بالإضافة، والقطع، حكاهما صاحب "النهاية"، والأول هو المشهور. انتهى.

وقال في "المصباح": "الْحِبَرَة" وِزَانُ عِنَبَة: ثوب يمانيّ، من قُطن، أو كتّان، مخَطّطٌ، يقال: بُرْدٌ حِبَرَةٌ، على الوصف، وبُرْدُ حَبَرَة، على الإضافة، والجمعُ حِبَرٌ، وحِبَرَاتٌ، مثلُ عِنَبٍ، وعِنَبَات. قال الأزهريّ: ليس حِبَرَةٌ موضعًا، أو شيئًا معلومًا، إنما هو وَشْيٌ معلوَم، أُضيف الثوبُ إليه، كما قيل: ثوبُ قِرْمِزٍ، بالإضافة، والْقِرْمِزُ صِبْغُهُ، فأُضيف الثوبُ إلى الوَشْيِ، والصِّبْغِ للتوضيح انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: يستفاد من قوله: "كرسف" استحباب كون الكفن من القطن، قاله النوويّ في شرح مسلم. وفي "مصنّف ابن أبي شيبة": عن الحسن البصريّ، ومحمد بن سيرين أنه كان يُعجبهما أن يكون الكفن كَتانًا. وقال أصحاب الشافعيّ: جنسه في كلّ ميت ما يجوز له لبسه في الحياة، فيجوز تكفين المرأة في الحرير، لكن يكره، ويحرم تكفين الرجل به، فأما المزعفر، والمعصفر، فلا يحرم تكفينها فيه، ولكن يكره على المذهب، وكذا قال الحنفية: ما جاز للإنسان لبسه في حياته جاز تكفينه به. وقال أحمد بن حنبل: لا يعجبني أن يكفّن في شيء من الحرير، وكره ذلك الحسن، وابن المبارك، وإسحاق، قال ابن المنذر: ولا أحفظ عن غيرهم خلافه. وذكر ابن قُدامة في جواز

(1)

- "النهاية" ج1 ص116.

(2)

- "لسان" في مادة برد.

(3)

- راجع "المصباح" في مادة حبر.

ص: 30

تكفين المرأة بالحرير احتمالين، وقال: أَقْيَسُهُما الجواز، لكن يكره، وكذلك يكره تكفينها بالمعصفر، ونحوه. وقال الأوزاعيّ: لا يكفّن الميت في الثياب المصبغة، إلا ما كان من الْعَصْب. يعني ما صُبغ بالعَصْب، وهو نبت ينبت باليمن.

وعند المالكية في التكفين بالحرير أقوال: (الجواز مطلقًا) لسقوط المنع بالموت، لكن يكره. (والمنع مطلقًا) إلا لضرورة، وهما محكيان عن مالك. (والثالث) قاله ابن حبيب: يجوز للنساء دون الرجال. وقال القاضي عياض، والنوويّ في "شرح مسلم": كره مالك، وعامة العلماء التكفين في الحرير مطلقًا انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌40 - الْقَمِيصُ فِي الْكَفَنِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أراد بما أورده في الباب، من الأحاديث على جواز استعمال القميص في الكفن، وتركه، فاستدلّ بقصة عبد اللَّه بن أُبيّ على جواز استعماله، واستدلّ بقصة مصعب بن عمير على جواز تركه، ومثله أحاديث الباب الماضي.

قال الحافظ ولي الدين العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى-: استدلّ الحنفية بقصة عبد اللَّه بن أُبيّ على استحباب التكفين في قميص، والمخالفون لهم يقولون: هذه واقعة، لم ندر كيف اتفق الحال فيها، يحتمل أن يكون هذا القميص أحد الأكفان الثلاثة، ويحتمل أنه زائد عليها، فإن كان أحَدَهَا، فنحن لا نقول بتحريمه، ولا كراهته، وغايته أن الأفضل خلافه، فبيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا جوازه، ولم يكن فعله صلى الله عليه وسلم مفضولاً، بل هو فاضل، لأنه بيّن به الجواز، ولأمر يختصّ بهذه القضية، وهو شيئان:

أحدهما: مكافاته إياه عن كسوته للعباس رضي الله عنه قميصًا، فجازاه من جنسه.

ثانيهما: إكرامه صلى الله عليه وسلم ولده بذلك، فإنه لم يفعل ذلك إلا بسؤاله، واقتراحه، طلب منه أن يُلبسه القميص الذي يلي جلده، كما في "صحيح البخاريّ"

(2)

، ففعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

- "طرح التثريب" ج 3 ص 275.

(2)

- ففي "صحيح البخاريّ": وكان على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قميصان، فقال له ابنه عبد اللَّه: يا رسول اللَّه، ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك

".

ص: 31

مكافأة له، وإكراما لابنه، وبيانا للجواز، وكان الأفضل ما اختاره اللَّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو ثلاثة أثواب خالية عن قميص.

وإن كان هذا القميص زائدًا على الأكفان، فالحنابلة القائلون بكراهته في هذه الصورة، يجيبون بمثل ما أجبنا فيما إذا كان أحدَهَا، والشافعية لا يرون كراهيته، بل يقتصرون فيه على الإباحة، والمالكية يستحبونه في هذه الحالة، وهي ما إذا كان زائدًا على الثلاثة. واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدم أن الأرجح أن تكون الأكفان ثلاثة أثواب خالية من القميص والعمامة، كما جاءت الأحاديث الصحيحة في كفن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. فتبصر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1900 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصَكَ، حَتَّى أُكَفِّنَهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ، ثُمَّ قَالَ:«إِذَا فَرَغْتُمْ فَآذِنُونِي، أُصَلِّي عَلَيْهِ» ، فَجَذَبَهُ عُمَرُ، وَقَالَ: قَدْ نَهَاكَ اللَّهُ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ:«أَنَا بَيْنَ خِيرَتَيْنِ» ، قَالَ:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عبيد اللَّه) بن عمر العمريّ المدنيّ، ثقة ثبت [5] 15/ 15.

2 -

(نافع) العدويّ، مولى ابن عمر المدني الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.

3 -

(عبد اللَّه بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما 12/ 12.

والباقيان تقدما قبل باب. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمديين، غير عمرو، ويحيى، فبصريان. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة الذين رووا عنهم بلا واسطة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. ومنها: أن صحابيه أحد العبادلة الأربعة، وأحد المشهورين بالفتوى، وأحد المكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- "طرح التثريب" ج 3 ص 278 - 279.

ص: 32

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ) ذكر الواقديّ، ثم الحاكم في "الإكليل" أنه مات بعد منصرفهم من تبوك، وذلك في ذي القعدة سنة تسع، وكانت مدة مرضه عشرين يومًا، ابتداؤها من ليال بقيت من شوّال، قالوا: وكان قد تخلّف هو، ومن تبعه عن غزوة تبوك، وفيهم نزلت:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47].

قال الحافظ: وهذا يدفع قولَ ابن التين: إن القصة كانت في أول الإسلام، قبل تقرير الأحكام انتهى

(1)

(جَاءَ ابْنُهُ) وقع في رواية الطبريّ، من طريق الشعبيّ: لما احتُضر عبد اللَّه، جاء ابنه عبد اللَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبيّ اللَّه، إن أَبِي قد احتُضر، فأحبّ أن تشهده، وتصلي عليه، قال:"ما اسمك؟ " قال: الْحُبَاب -يعني بضم المهملة، وموحّدتين مخففًا - قال: "بل أنت عبد اللَّه، الحُبَاب اسم الشيطان.

وكان عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أُبيّ هذا من فضلاء الصحابة، وشهد بدرًا، وما بعدها، واستُشهد يوم اليمامة، في خلافة أبي بكر الصدّيق. ومن مناقبه أنه بلغه بعض مقالات أبيه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يستأذنه في قتله، قال:"بل أَحْسِنْ صحبته". أخرجه ابن منده، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد حسن. وفي الطبراني من طريق عروة بن الزبير، عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبيّ أنه استأذن، نحوه، وهذا منقطع، لأن عروة لم يدركه. وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام، فلذلك التمس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر عنده، ويصلي عليه، ولا سيّما، وقد ورد ما يدلّ على أنه فعل ذلك بعهد من أبيه، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزّاق، عن معمر، والطبريُّ من طريق سعيد، كلاهما عن قتادة، قال: أرسل عبد اللَّه بن أُبَيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه، قال:"أهلكك حبّ يهود"، فقال: يا رسول اللَّه، إنما أرسلت إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتوبّخني، ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه، فأجابه"، وهذا مرسل، مع ثقة رجاله، ويعضده ما أخرجه الطبراني، من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: "لما مَرِضَ عبد اللَّه بن أُبيّ، جاءه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكلّمه، فقال: قد فَهمْتُ ما تقول، فامنن عليّ، فكفّنّي في قميصك، وصلّ عليّ، ففعل". وكان عبد اللَّه بن أُبيّ أراد بذلك دفع العار عن ولده، وعشيرته، بعد موته، فأظهر الرغبة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه،

(1)

- "فتح" ج 9 ص 232 - 233. نسخة مؤسسة الرسالة.

ص: 33

ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله، إلى أن كشف اللَّه الغطاء عن ذلك.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا من أحسن الأجوبة فيما يتعلّق بهذه القصة انتهى.

(إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) متعلق بـ "جاء"(فَقَالَ: أَعْطِني قَمِيصَكَ، حَتَّى أُكَفِّنَهُ) وفي نسخة: "حتى أكفّن" بدون ضمير النصب (فِيهِ) أي في ذلك القميص، رجاء بركة ما مسّ جسده صلى الله عليه وسلم (وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ) أي اطلب من اللَّه تعالى أن يغفر له (فَأعْطَاهُ) صلى الله عليه وسلم (قَمِيصَهُ)

هذا يدلّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى قميصه لعبد اللَّه بن أُبي بسبب طلب ولده له، وسيأتي في حديث جابر رضي الله عنه الآتي بعد حديث ما يدلّ على أنه إنما أعطاه مكافأة على إعطائه قميصه لعم النبي صلى الله عليه وسلم، عباس بن عبد المطلب، لكن لا تنافي بين السببين، إذ يمكن أن يعطيه لهما، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فإِذَا) وفي نسخة: "فإذا" بزيادة الفاء (فَرَغْتُمْ) أي من غسله، وتكفينه (فَآذِنُونِي) بمدّ الهمزة، من الإيذان، وهو الإعلام، أي أعلموني بفراغكم (أُصَلِّي عَلَيْهِ) بإثبات الياء، على الاستئناف، وليس جوابًا للأمر، وإلا لكان "أصل" بحذف الياء للجزم بالطلب، قال السنديّ: إلا أن يقال: الياء للإشباع، أو لمعاملة المعلّ معاملة الصحيح، وهو تكلف، بلا حاجة انتهى

(1)

(فَجَذَبَهُ عُمَرُ) وفي رواية للبخاري من هذا الوجه: "فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". وفي رواية له،

وهي الرواية الآتية للمصنف برقم (1966)، وهي في "الكبرى" في "كتاب التفسير"، من طريق ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه:"قال: لما مات عبد اللَّه بن أبيّ ابن سَلُولَ، دُعي له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَثَبْتُ إليه، فقلتُ: يا رسول اللَّه أتصلي على ابن أبيّ، وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟، قال: أُعدّد عليه قوله .... الحديث. يشير عمر رضي الله عنه بذلك إلى مثل قوله: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7]، وإلى مثل قوله: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]. قاله في "الفتح".

(وَقَالَ: قَدْ نَهَاكَ اللَّهُ، أَن تُصَلِّيَ عَلَى المُنَافِقِينَ) وفي رواية البخاريّ: "وقد نهاك ربك أن تصلي عليه". قال في "الفتح": كذا في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، وقد استُشكل جدًّا، حتى أقدم بعضهم، فقال: هذا وَهَمٌ من بعض رواته، وعاكسه غيره، فزعم أن عمر اطلع على نهي خاصّ في ذلك. وقال القرطبيّ: لعلّ ذلك وقع في خاطر عمر، فيكون من قبيل الإلهام، ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله تعالى: {مَا كَانَ

(1)

- "شرح السندي" ج 3 ص 37.

ص: 34

لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113].

قال الحافظ: قلت: الثاني -يعني ما قاله القرطبيّ- أقرب من الأول، لأنه لم يتقدّم النهي عن الصلاة على المنافقين، بدليل أنه قال في آخر هذا الحديث:"قال: فأنزل اللَّه: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 84]. والذي يظهر أن في رواية الباب تجوّزًا، بيّنَتْهُ رواية عبيد اللَّه بن عمر، بلفظ: "فقال: تصلي عليه، وقد نهاك اللَّه أن تستغفر لهم".

وروى عبد بن حميد، والطبريّ، من طريق الشعبيّ، عن ابن عمر، عن عمر، قال: لما أراد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يصلي على عبد اللَّه بن أُبيّ، فأخذتُ بثوبه، فقلت: واللَّه ما أمر اللَّه بهذا، لقد قال:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] ووقع عند ابن مردويه، من طريق سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: فقال عمر: أتصلي عليه، وقد نهاك اللَّه أن تصلي عليه؟، قال:"أين؟ " قال: {أسْتَغْفِر لَهُمْ} الآية. وهذا مثل رواية الباب.

فكأن عمر رضي الله عنه قد فهم من الآية المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب، من أن "أو" ليست للتخيير، بل للتسوية في عدم الوصف المذكور، أي إن الاستغفار لهم، وعدم الاستغفار سواء، وهو كقوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 6]، لكن الثانية أصرح، ولهذا ورد أنها نزلت بعد هذه القصة، كما سيأتي.

وفهم عمر أيضًا من قوله: {سَبْعِينَ مَرَّةً} أنها للمبالغة، وأن العدد المعيّن لا مفهوم له، بل المراد نفي المغفرة لهم، ولو كثر الاستغفار، فيحصل من ذلك النهي عن الاستغفار، فأطلقه.

وفهم أيضا أن المقصود من الصلاة على الميت طلب المغفرة للميت، والشفاعة له، فلذلك استلزم عنده النهيُ عن الاستغفار تركَ الصلاة، فلذلك جاء عنه في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، ولهذه الأمور استنكر إرادة الصلاة على عبد اللَّه بن أُبيّ.

وقال الحافظ رحمه الله في موضع آخر من "الفتح": وقد وقفت لأبي نعيم الحافظ، صاحب "حِلْية الأولياء" على جزء جمع فيه طرق هذا الحديث، وتكلم على معانيه، فلخصته: فمن ذلك أنه قال: وقع في رواية أبي أسامة وغيره، عن عبيد اللَّه العمري في قول عمر:"أتصلي عليه، وقد نهاك اللَّه عن الصلاة على المنافقين"، ولم يُبيّن محلّ النهي، فوقع بيانه في رواية أبي ضَمْرة، عن العُمَريّ، وهو أن مراده بالصلاة عليهم الاستغفار لهم، ولفظه:"وقد نهاك اللَّه أن تستغفر لهم"، قال: وفي قول ابن عمر:

ص: 35

"فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصلينا عليه" أن عمر ترك رأي نفسه، وتابع النبي صلى الله عليه وسلم، ونبّه على أن ابن عمر حمل هذه القصّة عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير واسطة، بخلاف ابن عباس، فإنه إنما حملها عن عمر، إذ لم يشهدها إلى آخر ما سيأتي في المسألة الثالثة، عند ذكر فوائد الحديث، إن شاء اللَّه تعالى.

قال: هذا تقرير ما صدر عن عمر، مع ما عُرف من شدة صلابته في الدين، وكثرة بغضه للكفار والمنافقين، وهو القائل في حقّ حاطب بن أبي بَلْتَعَة، مع ما كان له من الفصل، كشهوده بدرًا، وغير ذلك، لكونه كاتب قريشًا قبل الفتح: دعني يا رسول اللَّه، أضرب عنقه، فقد نافق. فلذلك أقدم على كلامه للنبي صلى الله عليه وسلم بما قال، ولم يلتفت إلى احتمال إجراء الكلام على ظاهره، لما غلب عليه من الصلابة المذكورة.

وقال الزين ابن المنيّر رحمه الله: وإنما قال ذلك عمر رضي الله عنه، حرصًا على النبي صلى الله عليه وسلم، ومشورةً، لا إلزامًا، وله عوائد بذلك، ولا يبعد أن يكون النبي رضي الله عنه كان أذن له في مثل ذلك، فلا يستلزم ما وقع من عمر أنه اجتهد مع وجود النصّ، كما تمسّك به قوم في جواز ذلك، وإنما أشار بالذي ظهر له فقط، ولهذا احتمل منه النبي صلى الله عليه وسلم أخذه بثوبه، ومخاطبته له في مثل ذلك المقام، حتى التفت إليه، متبسمًا، كما في حديث ابن عباس بذلك انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَنا بَيْنَ خِيرَتَيْنِ) بكسر الخاء، وفتح الياء، أو سكونها: أي بين اختيارين. قال الفيّوميّ رحمه الله: "الْخِيرةُ": اسم من الاختيار، مثلُ الفِدْيَة، من الافتداء، والْخِيَرَة -بفتح الياء- بمعنى الخِيَار، والْخِيَار هو الاختيار، ومنه يقال: له خيار الرؤية، ويقال: هي اسم من تخيّرت الشيءَ، مثلُ الطِّيَرَة، اسم من تَطَيَّر، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد، ويؤيده قول الأصمعي: الْخِيَرَةُ بالفتح، والإسكانُ ليس بمختار، وفي التنزيل:{مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} . وفي "البارع": خِرتُ الرجلَ على صاحبه، أَخِيرُهُ، من باب باع، خِيَرًا، وِزانُ عِنَبٍ، وخِيْرَةً، وخِيَرَةً: إذا فضّلته عليه. وخَيَّرتُهُ بين الشيئين: فوَضتُ إليه الاختيار، فاختار أحدهما، وتخَيَّره، واستخرتُ اللَّهَ: طلبت منه الْخِيَرَةَ، وهذه خَيْرَتي -بالفتح، والسكون-: أي ما أخذته انتهى

(2)

.

(قَالَ) أي اللَّه تعالى {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} هذا بيان، وتفسير للخِيرَتين، أي إن اللَّه تعالى خيّرني، بين الاستغفار، وعدمه، فاخترت الاستغفار. ولفظ البخاريّ من هذا الوجه: إنما خيّرني اللَّه، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ

(1)

- "فتح" ج 9 ص 233 - 234.

(2)

- "المصباح" في مادة خير.

ص: 36

إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وسأزيد على السبعين". ولفظه من طريق ابن عباس، عن عمر: فتبسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال: "أَخِّرْ عني يا عمر"، فلما أكثرت عليه قال: "إني خُيّرت، فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يُغفر له، لزدت عليها".

وعند عبد بن حميد، من طريق قتادة، قال: لما نزلت {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد خيّرني ربي، فواللَّه لأزيدنّ على السبعين"، وأخرجه الطبريّ، من طريق مجاهد مثلَهُ، والطبريّ أيضًا، وابن أبي حاتم، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه مثله.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذه طرق، وإن كانت مراسيل، فإن بعضها يعضد بعضًا.

ودلّ ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم أطال في حال الصلاة عليه، من الاستغفار له، وقد ورد ما يدلّ على ذلك، فذكر الواقديّ، أن مُجَمِّعَ بن جارية، قال: ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أطال على جنازة قطّ ما أطال على جنازة عبد اللَّه بن أُبيّ من الوقوف. وروى الطبريّ من طريق مغيرة، عن الشعبيّ، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قال اللَّه تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، فأنا أستغفر لهم سبعين، وسبعين، وسبعين".

(1)

(فَصَلَى عَلَيْهِ) أي صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد اللَّه بن أُبيّ، مخالفا لعمر رضي الله عنه.

وإنما لم يأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بقول عمر، وصلى عليه، إجراء له على ظاهر حكم الإسلام، واستصحابا لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحقّقت صلاحيته، ومصلحة الاستئلاف لقومه، ودفع المفسدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين، ويعفو، ويصفح، ثم أمر بقتال المشركين، فاستمرّ صفحه، وعفوه عمن يظهر الإسلام، ولو كان باطنه على خلاف ذلك، لمصلحة الاستئلاف، وعدم التنفير عنه، ولذلك قال:"لا يتحدّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"، فلما حصل الفتح، ودخل المشركون في الإسلام، وقلّ أهل الكفر، وذَلُّوا، أمر بمجاهرة المنافقين، وحملهم على حكم مُرّ الحقّ، ولا سيما، وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين، وغير ذلك، مما أمر فيه بمجاهرتهم.

قال الحافظ: وبهذا يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد اللَّه تعالى.

وقال الخطابي رحمه الله: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد اللَّه بن أبيّ ما فعل لكمال شفقته على من تعلّق بطرف من الدين، ولتطييب قلب ولده عبد اللَّه الرجل الصالح، ولتأليف

(1)

- "فتح" ج 9 ص 234 - 235.

ص: 37

قومه من الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يُجب سؤال ابنه، وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح، لكان سُبّةً على ابنه، وعارًا على قومه، فاستعمل أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهُي عنه، فانتهى.

وتبعه ابن بطّال، وعبّر بقوله: رجا أن يكون معتقدًا لبعض ما كان يظهره من

الإسلام. وتعقّبه ابن المنيّر بأن الإيمان لا يتبعّض، وهو كما قال، لكن مراد ابن بطال أن إيمانه كان ضعيفًا.

قال الحافظ: وقد مال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلام عبد اللَّه بن أُبيّ لكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وذَهِلَ عن الوارد من الآيات، والأحاديث المصرّحة في حقّه بما ينافي ذلك، ولم يقف على جواب شاف في ذلك، فأقدم على الدعوى المذكورة، وهو محجوج بإجماع من قبله على نقيض ما قال، وإطباقهم على ترك ذكره في كتب الصحابة، مع شهرته، وذكر من هو دونه في الشرف، والشهرة بأضعاف مضاعفة.

وقد أخرج الطبريّ من طريق سعيد، عن قتادة في هذه القصّة، قال: فأنزل اللَّه تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} ، قال: فذُكر لنا أن نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "وما يغني عنه قميصي من اللَّه، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه". انتهى. (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم}) متعلق بصفة لـ "أحد"، أو بحال من الضمير في قوله (مَاتَ) أي مات متصفا بصفة النفاق، كقولهم: أنت مني، يعني على طريقتي، وجملةُ "مات" صفة لـ "أحد" أيضا، أو حال منه، لوصفه بالجارّ والمجرور، إذ القاعدة أن الجملة وشبهها بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال (أَبَدًا) ظرف لـ "لا تصلّ"(وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) يعني لا تقف عليه، ولا تتولّ دفنه، من قولهم: قام فلان بأمر فلان: إذا كفاه أمره، وناب عنه فيه

(1)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": ظاهر الآية يدلّ على أنها نزلت في جميع المنافقين، لكن ورد ما يدلّ على أنها نزلت في عدد معيّن منهم، قال الواقديّ: أنبأنا معمر، عن الزهريّ، قال: حذيفة: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إني مسرّ إليك سرًّا، فلا تذكره لأحد، إني نُهيت أن أصلي على فلان وفلان، رهط، ذوي عدد، من المنافقين؛ قال: فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة، فإن مشى مشى معه، وإلا لم يصلّ عليه "، ومن طريق أخرى، عن جبير بن مطعم، أنهم اثنا عشر رجلًا. قال الحافظ: ولعل الحكمة في اختصاص المذكورين بذلك أن اللَّه علم أنهم يموتون على الكفر،

(1)

- انظر "تفسير الخازن" ج 3 ص 132.

ص: 38

بخلاف من سواهم، فإنهم تابوا. انتهى

(1)

.

(فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ) وفي حديث ابن عباس، عن عمر:"فصلى عليه، ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرًا حتى نزلت". زاد ابن إسحاق في "المغازي"، قال: حدثني الزهريّ بسنده، قال:"فما صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه اللَّه ". وزاد في رواية لابن إسحاق: "ولا قام على قبره". ورَوَى عبد الرزّاق، عن معمر، عن قتادة، قال:"لما نزلت {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأزيدنّ على السبعين، فأنزل اللَّه تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ، ورجاله ثقات، مع إرساله، ويحتمل أن تكون الآيتان نزلتا معًا في ذلك. وزاد في رواية ابن عباس، عن عمر، قال:"فعجبت بعدُ من جُرْأَتي على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه ورسوله أعلم".

وقوله: "واللَّه ورسوله أعلم" ظاهره أنه قول عمر، ويحتمل أن يكون قول ابن عباس، وقد روى الطبريّ من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس في نحو هذه القصّة: قال ابن عباس: "فاللَّه أعلم، أيَّ صلاة كانت، وما خادع محمد أحدًا قطّ". ذكره في "الفتح"

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 40/ 1900 وسيأتي مطوّلًا من حديث ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه في 69/ 1966، إن شاء اللَّه تعالى - وفي "الكبرى" 40/ 2027 - وفي "التفسير" 172/ 11224.

وأخرجه (خ) 1269 و4670 و 4672 و 5796 (م) 2400 و 2774 (ت) 3098 (ق) 1523 (أحمد)4666. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواز التكفين في القميص، وقد تقدم أقوال أهل العلم في أول الباب. ومنها: بيان مكارم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عَلِم ما كان من هذا المنافق، من الإيذاء له، وقابله بالحسنى، وألبسه قميصه كفنا،

(1)

- "فتح" ج 9 ص 237.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 235 - 237.

ص: 39

وصلى عليه، واستغفر له، فهو كما وصفه اللَّه سبحانه وتعالى بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . ومنها: أنه قد تمسك بهذه القصّة من جعل مفهوم العدد حجةً، وكذا مفهوم الصفة من باب أولى، ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم فهم أن ما زاد على السبعين بخلاف السبعين، قال:"سأزيده على السبعين". وأجاب من أنكر القول بالمفهوم بما وقع في بقية القصّة، وليس ذلك بدافع للحجّة، لأنه لو لم يقم الدليل على أن المقصود بالسبعين المبالغة لكان الاستدلال بالمفهوم باقيًا

(1)

. ومنها: النهي عن الصلاة على الكافر إذا مات على كفره. ومنها

(2)

: أن فيه جواز الشهادة على المرء بما كان عليه حيّا وميتًا، لقول عمر:"إن عبد اللَّه منافق"، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه قوله. ومنها: أنه يؤخذ منه أن المنهيّ عن سبّ الأموات ما قُصد به الشتم، لا التعريف. ومنها: أن المنافق تجرى عليه أحكام الإسلام الظاهرة. ومنها: أن الإعلام بوفاة الميت مجرّدًا لا يدخل في النعي المنهيّ عنه. ومنها: جواز سؤال الموسر من المال من تُرجى بركته

(3)

شيئًا من ماله لضرورة دينية. ومنها: رعاية الحيّ المطيع بالإحسان إلى الميت العاصي. ومنها: جواز التكفين بالمخيط. ومنها: جواز تأخير البيان عن وقت النزول إلى وقت الحاجة. ومنها: العمل بالظاهر إذا كان النصّ محتملًا. ومنها: تنبيه المفضول للفاضل على ما يظنّ أنه سها فيه. ومنها: تنبيه الفاضل المفضول على ما يشكل عليه. ومنها: استفسار السائل المسؤول، وعكسه عما يحتمل ما دار بينهما. ومنها: جواز التبسّم في حضور الجنازة

(4)

عند وجود ما يقتضيه، وقد استحبّ أهل العلم عدم التبسّم من أجل تمام الخشوع، فيستثنى منه ما تدعو إليه الحاجة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة:

استُشكِلَ فهمُ التخيير من قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية حتى أقدم جماعة من الأكابر على العن في صحة هذا الحديث، مع كثرة طرقه، واتفاق الشيخين، وسائر الذين خرّجوا الصحيح على تصحيحه، وذلك ينادي على منكري

(1)

- "فتح" ج 9 ص 235.

(2)

- ما بعد هذا من الفوائد هو تَتِمّة ما نقل عن أبي نعيم صاحب "الحلية" في كلامه على هذا الحديث، كما سبقت الإشارة إليه، فتنبه.

(3)

- لكن هذا لم يعمل به السلف مع غير النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوه مع أبي بكر، ولا مع عمر، ولا مع غيرهما، فمن أتانا بشيء مما صح عنهم في ذلك، فعلى الرأس والعين. واللَّه تعالى أعلم

(4)

- هكذا قيل، وفي استنباط هذه الفائدة من هذا الحديث نظر لا يخفى، إذ يمكن أن تبسمه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يأتي إلى الجنازة، بل هذا هو الظاهر، من مراجعة عمر رضي الله عنه له صلى الله عليه وسلم. فليتأمّل.

ص: 40

صحته بعدم معرفة الحديث، وقلّة الاطلاع على طرقه.

قال ابن المنيّر: مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام، حتى أنكر القاضي أبو بكر صحة الحديث، وقال: لا يجوز أن يُقبل هذا، ولا يصحّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله انتهى. ولفظ القاضي أبي بكر الباقلاّنيّ في "التقريب": هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يُعلم ثبوتها. وقال إمام الحرمين في "مختصره": هذا الحديث غير مخرّج في الصحيح، وقال في "البرهان": لا يصححه أهل الحديث. وقال الغزالي في "المستصفى": الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح. وقال الداوديّ الشارح: هذا الحديث غير محفوظ.

والسبب في إنكارهم صحته ما تقرّر عندهم مما قدمناه، وهو الذي فهمه عمر صلى الله عليه وسلم، من حمل "أو" على التسوية لما يقتضيه سياق القصّة، وحمل السبعين على المبالغة. قال ابن المنيّر: ليس عند أهل البيان تردد أن التخصيص بالعدد في هذا السياق غير مراد انتهى.

وأيضا فشرط القول بمفهوم الصفة، وكذا العدد عندهم مماثلة المنطوق للمسكوت، وعدم فائدة أخرى، وهنا للمبالغة فائدة واضحة، فأشكل قوله:"سأزيد على السبعين" مع أن حكم ما زاد عليها حكمها.

وقد أجاب بعض المتأخرين عن ذلك بأنه إنما قال: "سأزيد على السبعين" استمالةً لقلوب عشيرته، لا أنه إن زاد على السبعين يغفر له، ويؤيّده تردده في قوله:"لو أعلم أني إن زدت على السبعين يُغفر له لزدت"، لكن ثبتت الرواية بقوله:"سأزيد" ووعْدُهُ صادق، ولا سيما، وقد ثبت قوله:"لأزيدنّ" بصيغة المبالغة في التأكيد.

وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون فَعَلَ ذلك استصحابًا للحال، لأن جواز المغفرة بالزيادة كان ثابتًا قبل مجيء الآية، فجاز أن يكون باقيًا على أصله في الجواز، وهذا جواب حسن.

وحاصله أن العمل بالبقاء على حكم الأصل مع فهم المبالغة لا يتنافيان، فكأنه جوّز أن المغفرة تحصل بالزيادة على السبعين، لا أنه جازم بذلك، ولا يخفى ما فيه.

وقيل: إن الاستغفار يتنزّل منزلة الدعاء، والعبد إذا سأل ربّه حاجة، فسؤاله إياه يتنزّل منزلة الذكر، لكنه من حيث طلب تعجيل حصول المطلوب ليس عبادة، فإذا كان كذلك، والمغفرة في نفسها ممكنة، وتعلّق العلم بعدم نفعها لا بغير ذلك، فيكون طلبها لا لغرض حصولها، بل لتعظيم المدعوّ، فإذا تعذّرت المغفرة عُوّض الداعي عنها بما يليق به، من الثواب، أو دفع السوء، كما ثبت في الخبر، وقد يحصل بذلك عن المدعوّ لهم تخفيف، كما في قصّة أبي طالب. هذا معنى ما قاله ابن المنيّر.

ص: 41

قال الحافظ: وفيه نظر لأنه يستلزم مشروعية طلب المغفرة لمن تستحيل المغفرة له شرعًا، وقد ورد إنكار ذلك في قوله تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية.

ووقع في أصل القصّة إشكال آخر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أطلق أنه خُيّر بين الاستغفار لهم، وعدمه بقوله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، وأخذ بمفهوم العدد من السبعين، فقال:"سأزيد عليها" مع أنه سبق قبل ذلك بمدّة طويلة نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} فإن هذه الآية نزلت في قصّة أبي طالب، حين قال صلى الله عليه وسلم:"لأستغفرنّ لك، ما لم أُنْهَ عنك"، فنزلت، وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقًا، وقصة عبد اللَّه بن أُبيّ هذه في السنة التاسعة من الهجرة، كما تقدّم، فكيف يجوز مع ذلك الاستغفار للمنافقين مع الجزم بكفرهم في نفس الآية؟.

قال الحافظ: وقد وقفت على جواب لبعضهم عن هذا، حاصله أن المنهي عنه استغفارٌ تُرجَى إجابته حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة لهم، كما في قصّة أبي طالب، بخلاف الاستغفار لمثل عبد اللَّه بن أُبيّ، فإنه استغفار لقصد تطييب قلوب من بقي منهم.

قال الحافظ: وهذا الجواب ليس بمرضي عندي، ونحوه قول الزمخشريّ، فإنه قال:

فإن قلت: كيف خفي على أفصح الخلق، وأَخبَرِهم بأساليب الكلام، وتمثيلاته أن المِراد بهذا العدد أن الاستغفار، ولو كثر لا يُجدي، ولا سيما وقد تلاه قوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، فبين الصارف عن المغفرة لهم؟

قلت: لم يَخفَ عليه ذلك، ولكنه فعل ما فعل، وقال ما قال، إظهارًا لغاية رحمته، ورأفته على من بُعث إليهم، وهو كقول إبراهيم عليه السلام:{وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة المذكورة لطف بأمته، وباعث على رحمة بعضهم بعضًا انتهى.

وقد تعقبه ابن المنيّر وغيره، وقالوا: لا يجوز نسبة ما قاله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن اللَّه أخبر أنه لا يغفر للكفار، وإذا كان اللَّه لا يغفر لهم، فطلب المغفرة لهم مستحيل، وطلب المستحيل لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنهم من قال: إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركًا لا يستلزم النهي عن الاستغفار لمن مات مظهرًا للإسلام، لاحتمال أن يكون معتقده صحيحًا. وهذا جواب

ص: 42

جيّد، وقد رجّح الحافظ في تفسير "سورة القصص"

(1)

أن نزول الآية كان متراخيًا عن قصة أبي طالب جدًّا، وأن الذي نزل في قصته:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية [القصص: 56].

قال: إلا أن في بقية هذه الآية من التصريح بأنهم كفروا باللَّه ورسوله ما يدلّ على أن نزول ذلك وقع متراخيًا عن القصّة، ولعلّ الذي نزل أوّلا، وتمسّك به النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ} إلى هنا خاصّة، ولذلك اقتصر في جواب عمر على التخيير، وعلى ذكر السبعين، فلما وقعت القصّة المذكورة كشف اللَّه عنهم الغطاء، وفضحهم على رؤوس الملأ، ونادى عليهم بأنهم كفروا باللَّه، ورسوله.

قال: وإذا تأمل الِمنصف وجد الحامل لمن ردّ الحديث، أو تعسّف في التأويل ظَنُّهُ بأن قوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} نزل مع قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، أي نزلت الآية كاملة، لأنه لو فُرض نزولها كاملة لاقترن بالنهي العلة، وهي صريحة في أن قليل الاستغفار، وكثيره لا يُجدي، وإلا فإذا فُرض ما حرّرته أن هذا القدر نزل متراخيًا عن صدر الآية ارتفع الإشكال، وإذا كان الأمر كذلك، فحجة المتمسّك من القصّة بمفهوم العدد صحيح، وكون ذلك وقع من النبي صلى الله عليه وسلم متمسّكًا بالظاهر على ما هو المشروع في الأحكام إلى أن يقوم الدليل الصارف عن ذلك لا إشكال فيه، فللَّه الحمد على ما ألهم، وعلّم انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى ملخصًا

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي حرّره الحافظ حسنٌ جدًّا، وسيأتي زيادة البحث فيما يتعلّق بتأخر نزول آية {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآية عن وفاة أبي طالب في "باب النهي عن الاستغفار للمشركين" 102/ 2035 - إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1901 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا، يَقُولُ:"أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَبْرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَقَدْ وُضِعَ فِي حُفْرَتِهِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ لَهُ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

(1)

- هذا هو الصواب فما وقع في "الفتح" في تفسير "سورة التوبة"، من أنه ذكر هذا البحث، والترجيح في "كتاب الجنائز" غير صحيح، بل ذكر ذلك في تفسير"سورة القصص"، فتنبّه.

(2)

- "فتح" في تفسير "سورة التوبة"ج 9 ص 238 - 240.

ص: 43

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عبد الجبّار بن العلاء بن عبد الجبّار) العطار، أبو بكر البصريّ، نزيل مكة، لا بأس به، من صغار [10] 132/ 199.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة المشهور [8] 1/ 1.

3 -

(عمرو) بن دينار الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

4 -

(جابر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ رضي الله عنها 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو (112) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، فبصريّ. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمْرٍو) بن دينار، أنه (قَال: سَمِعْتُ جَابِرًا) رضي الله عنه (يَقُولُ: "أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَبْرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ، وَقَدْ وُضِعَ فِي حُفْرَتِهِ) أي في قبره (فَوَقَفَ عَلَيْهِ) أي قام على حافة قبره (فَأَمَرَ بِهِ) أي بإخراجه (فَأُخْرِجَ لَهُ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ) قال في "المصباح": نَفَثَه من فِيهِ، نفْثًا، من باب ضرب

(1)

: رَمَى به، ونَفَثَ: إذا بَزَق، ومنهم من يقول: إذا بَزَقَ، ولا ريق معه انتهى.

وقال ولي الدين: النَّفْث -بالنون، والفاء، والثاء-: شَبيه بالنفخ، وهو أقلّ من التفْل، قاله في "الصحاح "، و"المحكم"، و"النهاية"، زاد في "النهاية": لأن التَّفْل لا يكون إلا ومعه شيء من الطريق، وقال في "الصحاح": أولُهُ البَزْقُ، ثم التَّفْلُ، ثم النَّفْثُ، ثم النَّفْخُ، ثم قال: في "المحكم": وقيل: هو التفل بعينه، وحكى في "المشارق" كونَ التفل لا يكون إلا ومعه شيء من الطريق، عن أبي عُبيد، ثم قال: وقيل: هما سواء، يكون معهما ريق، وقيل: بعكس الأول انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قول من قال: إن النفث يكون معه ريق، هو الأشبه، لأنه يؤيّده قوله:(مِنْ رِيقِهِ) و"من" تبعيضية، أي نفث صلى الله عليه وسلم عليه بعض ريقه المبارك.

(1)

- وفي "ق" ما يفيد أنه من بابي قتل، وضرب، قال: وهو كالنفخ، وأقلّ من التَّفْلِ. اهـ.

(2)

- "طرح التثريب"ج 3 ص 381.

ص: 44

قال ابن بطال رحمه الله: فيه حجة على من قال: إن ريق ابن آدم، ونُخامته نجس، وهو قول يُروَى عن سلمان الفارسيّ، والعلماءُ كلهم على خلافه، والسننُ وردت بردّه، فمعاذ اللَّه أن يكون ريق النبي صلى الله عليه وسلم نجسًا، ونفثه على وجه التبرك به، وهو صلى الله عليه وسلم عَلَّمَنَا النظافة، والطهارة، وبه طهّرنا اللَّه تعالى من الأدناس انتهى

(1)

.

ثم إن ظاهر هذا الحديث يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم إنما ألبسه قميصه بعد إدخاله حفرته، وهو مخالف لما تقدّم من حديث ابن عمر رضي الله عنها، حيث إن ابنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله قميصه، فاعطاه له، وأمره أن يؤذنه بالصلاة، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه، جذبه عمر الخ، فإن ظاهره أنه أعطاه قميصه أول وفاته، قبل دفنه، وإدخاله في حفرته.

وقد جمُع بينهما بأن معنى قوله في حديث ابن عمر: "فأعطاه" أي أنعم له بذلك، فأطلق على الْعِدَةِ اسم العطية مجازًا، لتحقّق وقوعها، وكذا قوله في حديث جابر:"بعد ما دُفن عبد اللَّه بن أُبيّ" أي دُلّي في حفرته، وكأن أهل عبد اللَّه بن أبيّ خَشُوا على النبي صلى الله عليه وسلم المشقّة في حضوره، فبادروا إلى تجهيزه قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل وجدهم قد دلُّوه في حفرته، فأمر بإخراجه، إنجازًا لوعده في تكفينه في القميص، والصلاة عليه. واللَّه أعلم.

وقيل: أعطاه صلى الله عليه وسلم أحد قيميصه أوّلًا، ثم لما حضر أعطاه الثاني بسؤال ولده. وفي "الإكليل" للحاكم ما يؤيّد ذلك. وقيل: ليس في حديث جابر دلالة على أنه ألبسه قميصه بعد إخراجه من القبر، لأن لفظة "فوضعه على ركبتيه، وألبسه قميصه"، والواو لا ترتّب، فلعلّه أراد أن يذكر ما وقع في الجملة من إكرامه له من غير إرادة ترتيب.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا التأويل الأخير عندي حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم.

(وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ") أي بحال عبد اللَّه بن أبي، هل هو ممن يستحق قبول شفاعته صلى الله عليه وسلم؟ فيه، أم لا؟ وهذا من كلام جابر رضي الله عنه، كما سيأتي التصريح به في - 92/ 2020 - ولفظه: قال جابر: "وصلى عليه، واللَّه أعلم"، ولفظ "الكبرى":"قال جابر: واللَّه أعلم". وقد قدمنا مثله في حديث ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(1)

- المصدر المذكور.

ص: 45

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-40/ 2901 و 92/ 2019 و 2020 وفي "الكبرى" 40/ 2028 و 92/ 2146 و 2147 وأخرجه (خ) 1270 و1350 و 5795 (م) 2773 (أحمد) 14657 وبقية المسائل تقدمت في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1902 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: وَكَانَ الْعَبَّاسُ بِالْمَدِينَةِ، فَطَلَبَتِ الأَنْصَارُ ثَوْبًا، يَكْسُونَهُ، فَلَمْ يَجِدُوا قَمِيصًا، يَصْلُحُ عَلَيْهِ، إِلاَّ قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَكَسَوْهُ إِيَّاهُ.

رجال هذا الإسناد: أربعة أيضا، كلهم تقدّموا في السند الماضي إلا:

1 -

(عبد اللَّه بن محمد بن عبدالرحمن الزهريّ البصريّ) صدوق، من صغار [10] 24/ 48.

ومن لطائف السند أيضًا من رباعيات المصنف، كسابقه، وهو (113) من رباعيات الكتاب. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمْرٍو) بن دينار، أنه (سَمِعَ جَابِرًا) صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ: وَكَانَ الْعَبَّاسُ بِالْمَدِينَةِ) أي حينما أُسِرَ في بدر، وفي رواية البخاريّ في "الجهاد والسير" في 142/ 3008 - قال: لما كان يوم بدر أُتي بأسارى، وأتي بالعباس، ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم له قميصا، فوجدوا قميص عبد اللَّه بن أُبيّ، يَقْدُرُ عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه" انتهى (فَطَلَبَتِ الْأَنْصَارُ) هذا لا تنافي بينه، وبين ما قبله من رواية البخاريّ، إذ معناه أن الأنصار لما علموا طلب النبي صلى الله عليه وسلم قميصا لعمه العباس، أرادوا أن يكون لهم الفضل في ذلك، فطلبوا من قبيلتهم (ثَوْبًا، يَكْسُونَهُ) أي يكسون العباس ذلك الثوب (فَلَمْ يَجِدُوا قَمِيصًا، يَصْلُحُ عَلَيْه) أي يأتي على قدر العباس، لكونه مُفرطًا في الطول (إِلاَّ قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ) لكونه طويلا مثل العباس (فَكَسَوْهُ إِيَّاهُ) أي كست الأنصار العباس قميص عبد اللَّه بن أبيّ، فلذا نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبد اللَّه بن أبيّ حينما مات، وكفّنه به، مكافئة. ففي رواية البخاريّ في "الجهاد" 242/ 3508 - قال ابن عيينة: كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يدٌ، فأحبّ أن يكافئه. وفي رواية له في "الجنائز" 77/ 1350 - قال سفيان: فيرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد اللَّه قميصه، مكأفاة لما صنع بالعباس انتهى.

ص: 46

ولا تنافي بين هذه الرواية، والرواية المتقدمة حيث جعل هناك سبب إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبد اللَّه بن أُبَيِّ طَلَبَ ولده عبد اللَّه بن عبد اللَّه ذلك منه، لإمكان كون الأمرين سببا لذلك، وذلك أنه لما مات ابنُ أُبَيٍّ جاء ولده إلى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بذلك، وطلب منه أن يُعْطِيَهُ قميصه، ويصلي عليه، فأعطاه قميصه، مكأفاة لابن أبيّ، وإكراما لولده. وقد تقدم هذا الجمع قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر صلى الله عليه وسلم هذا أخرجه البخاريّ.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-40/ 192 - وفي "الكبرى" 40/ 20290 وأخرجه (خ)3008. وبقية المسائل تقدّمت قبل حديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1903 -

أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ الأَعْمَشِ ح وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، قَالَ: سَمِعْتُ الأَعْمَشَ، قَالَ: سَمِعْتُ شَقِيقًا، قَالَ: حَدَّثَنَا خَبَّابٌ، قَالَ:"هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ، لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا، نُكَفِّنُهُ فِيهِ، إِلاَّ نَمِرَةً، كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ، خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رِجْلَيْهِ، خَرَجَتْ رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ نُغَطِّىَ بِهَا رَأْسَهُ، وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ إِذْخِرًا، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدِبُهَا". وَاللَّفْظُ لإِسْمَاعِيلَ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبيد اللَّه بن سعيد) أبو قُدامة السرخسيّ، نزيل نيسابور، ثقة ثبت [10] 15/ 15.

2 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدَريّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

3 -

(يحى بن سعيد) القطّان البصريّ الإمام الثبت الحجة [9] 4/ 4.

4 -

(الأعمش) سليمان بن مهران الكوفيّ، ثقة ثبت فاضل، يدلس [5] 17/ 18.

5 -

(شيّق) بن سلمة، أبو وائل الكوفيّ، ثقة ثبت مخضرم فقيه [2] 2/ 2.

6 -

(خباب) بن الأرتّ، أبو عبد اللَّه التميمي الصحابي المشهور رضي الله عنه 2/ 497. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 47

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه إسماعيل، فإنه من أفراده، وهو ثقة. (ومنها): أن فيه كتابة ح إشارة إلى تحويل الإسناد، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وعبيدُ اللَّه سرخسيّ، ثم نيسابوري، وإسماعيل، ويحى بصريان، والباقون كوفيون. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن خبّاب رضي الله عنه أنه: (قال: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي بأمره وإذنه، أو المراد بالمعية الاشتراك في حكم الهجرة، إذ لم يكن معه حسّا إلا الصّدّيق، وعامرُ بن فُهَيرة رضي الله عنهما (نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى) أي نطلب بهجرتنا مرضاة اللَّه تعالى، لا عَرَضًا من الدنيا. وقال في "الفتح": أي جهة ما عنده، من الثواب، لا جهة الدنيا انتهى (فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ) وفي رواية للبخاريّ من طريق ابن عيينة، عن الأعمش:"فوقع أجرنا على اللَّه"، والمراد بالوجوب على اللَّه إيجابه على نفسه بمقتضى وعده الصادق، حيث قال:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} الآية [التوبة: 72]. وقال: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20](فَمِنَّا مَنْ مَاتَ، لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أجْرِهِ شَيئًا) أي من عرض الدنيا، وهو كناية عن الغنائم التي تناولها من أدرك زمن الفتوح، وكأن المراد بالأجر ثمرته، فليس مقصورًا على أجر الآخرة

(1)

.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا مشكل على ما تقدّم من تفسير ابتغاء وجه اللَّه، ويُجْمَع بأن إطلاق الأجر على المال في الدنيا بطريق المجاز بالنسبة لثواب الآخرة، وذلك أن القصد الأول هو ما تقدّم لكن منهم من مات قبل الفتوح، كمصعب بن عُمير، ومنهم من عاش إلى أن فُتح عليهم، ثمّ انقسموا، فمنهم من أعرض عنه، وواسى به المحاويج، أوّلًا، فأوّلًا، بحيث بقي على تلك الحالة الأولى، وهم قليل، منهم أبو ذرّ، وهؤلاء ملتحقون بالقسم الأول، ومنهم من تبسّط في بعض المباح فيما يتعلّق بكثرة النساء، والسراري، أو الخدم، والملابس، ونحو ذلك، ولم يستكثروا، وهم كثير، ومنهم ابن عمر، ومنهم من زاد، فاستكثر بالتجارة، وغيرها، مع القيام بالحقوق الواجبة والمندوبة، وهم كثير أيضًا، منهم عبد الرحمن بن عوف، وإلى هذين القسمين أشار

(1)

- "فتح" ج 3 ص 485.

ص: 48

خبّاب، فالقسم الأول، وما التحق به توفّر له أجره في الآخرة، والقسم الثاني مقتضى الخبر أنه يُحسب عليهم ما وصل إليهم، من مال الدنيا، من ثوابهم في الآخرة، ويؤيّده ما أخرجه مسلم، من حديث عبد اللَّه بن عمرو، رفعه: "ما من غازية، تغزو، فتغنَمُ، وتَسْلَمُ، إلا تعجّلوا ثلثي أجرهم

" الحديث. ومن ثَمَّ آثر كثير من السلف قلّة المال، وقنعوا به، إما ليتوفّر لهم ثوابهم في الآخرة، وإما ليكون أقلَّ لحسابهم عليه

(1)

.

(مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ) أي من هؤلاء الذين لم يأكلوا من أجرهم شيئًا مصعب بن عُمير -بصيغة التصغير- ابن هشام بن عبد مناف بن عبد الدار بن قُصيّ، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قُصيّ، وكان يُكنى أبا عبد اللَّه، من السابقين إلى الإسلام، وإلى هجرة المدينة، قال الحافظ ابن عبد البرّ: أسلم قديما، والنبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفا من أمه، فعَلِمَه عثمان بن طلحة، فأعلم أهله، فأوثقوه، فلم يزل محبوسًا، إلى أن هرب مع من هاجر إلى الحبشة، ثم رجع مع من رجع إلى مكة، فهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا، ثم أحدًا، ومعه اللواء، فاستُشهد. وقال البراء: أول من قدم علينا مُصعب ابن عمير، وابن أم مكتوم، وكانا يقرئان القرآن، أخرجه البخاريّ في "صحيحه". وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله مع أهل العقبة الأولى، يقرئهم، ويُعلّمهم، وكان مصعب، وهو بمكة في ثروة، ونعمة، فلما هاجر صار في قلّة، فأخرج الترمذيّ من طريق محمد بن كعب، حدثني من سمع عليًا، يقول:"بينما نحن في المسجد، إذ دخل علينا مصعب بن عُمير، وما عليه إلا بُردة، له مرقوعة بفروة، فبكى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما رآه للذي كان فيه من النعم، والذي هو فيه اليوم"

(2)

.

(قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ) جملة مستأنفة، أو في محلّ نصب على الحال من "مصعب"، أي استُشهد في غزوة أحد، وكان صاحب لواء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومئذ، ثبت ذلك في مرسل عُبيد بن عُمير بسند صحيح، عند ابن المبارك في "كتاب الجهاد". قاله في "الفتح"(فَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا، نكَفِّنُهُ فِيهِ، إِلَّا نَمِرَةً) بفتح النون، وكسر الميم، ثم راء: هي إزار، من صوف، مخطّط، أو بُردة. وفي "المصباح": والنّمِرَة" بفتح النون، وكسر الميم: كساء فيه خطوط، بِيض، وسُودٌ، تلبسه الأعراب، قال ابن الأثير: وجمعها نِمَار، كأنها أُخذت من لون النمر، لما فيها من السواد والبياض انتهى

(3)

(كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ) أي سترنا

(1)

- "فتح" ج 11 ص 282 - 283. طبعة دار الريان.

(2)

- راجع "الإصابة" ج 9 ص 208 - 209. و"الفتح" ج 11 ص 283.

(3)

- "المصباح" في مادة نمر، و "النهاية" ج5 ص 118.

ص: 49

بتلك النمرة رأس مصعب رضي الله عنه (خَرَجَتْ رِجْلَاهُ) لكونها قصيرة، لا تواري جسده كلّه (وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رِجْلَيْهِ، خَرَجَتْ رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ نُغَطِّيَ بِهَا رَأْسَهُ) فيه أنه إذا لم يواري الثوب جميع بدن الميت، فرأسه أولى بالستر (وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ إِذْخِرًا) بكسر الهمزة، وسكون الذال المعجمة، وكسر الخاء المعجمة، بعدها راء: نبات معروف، ذَكيّ الريح، وإذا جفّ ابيضّ. قاله في "المصباح". وقال ابن الأثير رحمه الله: حَشيشة طيّبة الرائحة، تسقّف بها البيوت فوق الخشب، وهمزتها زائدة، وإنما ذكرناها ههنا -يعني باب الهمزة- حملًا على ظاهر لفظها. انتهى

(1)

(وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ) بفتح الهمزة، وسكون التحتانية، وفتح النون والمهملة: أي نضِجَتْ، واستحقت القَطْفَ، وفي بعض الروايات:"يَنَعَت" بغير ألف، وهي لغة، قال القزّاز: وأينعت أكثرُ. قاله في "الفتح"

(2)

وفي "المصباح": يَنَعَتِ الثمارُ، يَنْعًا، من بابي نَفَعَ، وضَرَبَ: أدركت، والاسم اليُنْعُ بضمّ الياء، وفتحها، وبالفتح قرأ السبعة:{ويَنْعِهِ} فهي يانِعِةٌ، وأينعَتْ بالألف مثله، وهو أكثر استعمالًا من الثلاثيّ انتهى

(3)

(فَهُوَ يَهْدِيُهَا) بفتح أوله، وسكون ثانيه، وكسر المهملة، أي يجتنيها، ويقتطفها. وضبطه النوويّ بضم الدال، وحكى ابن التين تثليثها.

(4)

. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله (وَاللَّفْظُ لِإِسْمَاعِيلَ) أي لفظ هذا الحديث الذي ساقه لفظ شيخه إسماعيل بن مسعود، وأما شيخه عبيد اللَّه فرواه بمعناه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث خباب رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -40/ 1903 - وفي "الكبرى" 40/ 2535 - وأخرجه (خ) 1276 و 3897 و 3914 و 4047 و 6432 و 6448. (م) 940 (د) 2876 (ت) 3853 (أحمد) 10554 و 20550 و 20567. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- "المصباح" في مادة ذخر، و "النهاية" ج 1 ص 33.

(2)

- "فتح" ج 11 ص 283.

(3)

- "المصباح" في مادة ينع.

(4)

- هكذا نقل في "الفتح" عن النوويّ، وابن التين، والذي في "ق" و"اللسان" أنه بكسر الدال فقط، فليحرّر.

ص: 50

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو بيان مشروعية الكفن بدون القميص. ومنها: أن الكفن يكون سائرًا لجميع البدن، إن تيسّر، وإلا فستر رأسه أولى. ومنها: ما كان عليه السلف، من الصدق في وصف أحوالهم. ومنها: أن الصبر على مكابدة الفقر، وصعوبته من منازل الأبرار. ومنها: أن هجرة أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم تكن لدنيا، يصيبونها، ولا نعمة يتعجّلونها، وإنما كانت خالصة للَّه تعالى، ليثيبهم عليها في الآخرة أجرا عظيما، كما وعدهم بذلك، فمن مات منهم قبل فتح البلاد توفّر له ثوابه، ومن بقي حتى نال من طيبات الدنيا خَشِيَ أن يكون عُجّل له أجر طاعته، كما ثبت في قصة عبدالرحمن بن عوف، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

1275 -

حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد اللَّه، أخبرنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم، أن عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، أُتي بطعام، وكان صائما، فقال: قُتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كفن في بُردة، إن غُطي رأسه، بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه، بدا رأسه، وأُراه قال: وقُتل حمزةُ، وهو خير مني، ثم بُسط لنا، من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خَشِينا أن تكون حسناتنا، عجلت لنا، ثم جعل يبكي، حتى ترك الطعام.

وبالجملة فكانوا أحرص الناس على نعيم الآخرة، - رضي اللَّه تعالى عنهم -، وعنّا معهم برحمته، إنه أرحم الراحمين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: دلّ هذا الحديث على أن الكفن من جميع المال:

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "ذِكْرُ إخراج الكفن قبل قضاء الديون، والوصايا، والمواريث": اختلف أهل العلم في الكفن من أين يُخرَج؟ فقال أكثر أهل العلم: يُخرج من جميع المال، هكذا قال سعيد بن المسيّب، وعطاء، ومجاهد، والحسن البصريّ، وعمرو بن دينار، والزهريّ، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة، ومالك، وسفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وابن الحسن، وروينا ذلك عن الشعبيّ، والنخعيّ. قال: وبهذا نقول، لأن خبر مصعب بن عُمير دليل على ذلك، وهو قوله:"لم يترك إلا نمرة، كفّن فيها".

قال: وفي المسألة قولان شاذّان: أحدهما قول خِلَاس بن عمرو: إن الكفن من الثلث. والقول الثاني قول طاوس: إن الكفن من جميع المال، وإن كان المال قليلًا، فمن الثلث. وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة المحرم الذي مات دليل على أن

ص: 51

الكفن من رأس المال، وهو قوله:"وكفّنوه في ثوبيه " انتهى كلام ابن المنذر -رحمه الله تَعَالَى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن المنذر -رحمه الله تَعَالَى- حسنٌ جدًّا. وحاصله أن الكفن من جميع المال، وأنه مقدّم على الدين والوصية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ على تكفين مصعب بتلك النمرة، ولم يستفصل، هل عليه دين، أو وصية، أم لا؟ وكذلك في قصّة المحرم، كما سيأتي، إن شاء اللَّه تعالى، وقد ثبت عن الإمام الشافعي -رحمه الله تَعَالَى- مقالته المشهورة وهي، قاعدةٌ مسلّمة لَدَى المحقّقين في باب الاستدلال، وهي:"تركُ الاستفصال، في حكاية الحال، مع يّام الاحتمال، ينزّل منزلة العموم في المقال". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب"

‌41 - كَيْفَ يُكَفَّنُ الْمُحْرِمُ إِذَا مَاتَ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وهكذا ترجم الإمام البخاريّ -رحمه الله تَعَالَى-، فقال ابن المنيّر رحمه الله: تضمّنت الترجمة الاستفهام عن الكيفية، مع أنها مبيّنة، لكنها لما كانت تحتمل أن تكون خاصة بذلك الرجل، وأن تكون عامة لكلّ محرم آثر المصنّف الاستفهام انتهى.

قال الحافظ -رحمه الله تَعَالَى-: والذي يظهر لي أن المراد بقوله: "كيف يُكفّن" أي كيفية التكفين، ولم يرد الاستفهام، وكيف يُظنّ به أنه متردد فيه، وقد جزم قبل ذلك بأنه عامّ في حقّ كلّ أحد، حيث ترجم بجواز التكفين في ثوبين؟ انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الحافظ -رحمه الله تَعَالَى- حسنٌ جدًّا.

وحاصله أن مقصود الترجمة الإشارة إلى أن الحديث المذكور تحتها فيه بيان كيفية تكفين المحرم إذا مات في حال إحرامه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1904 -

أَخْبَرَنَا عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اغْسِلُوا الْمُحْرِمَ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ أَحْرَمَ فِيهِمَا، وَاغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُمِسُّوهُ بِطِيبٍ،

(1)

- "الأوسط" ج 5 ص 362 - 363.

ص: 52

وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُحْرِمًا».

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عتبة بن عبد اللَّه) بن عُتبة الْيُحْمِديّ، أبو عبد اللَّه المروزيّ، صدوق [10] 81/ 98.

2 -

(يونس بن نافع) الْخُراسانيّ، أبو غانم القاضي، صدوق يخطئ [8].

روى عن أبي سهل كثير بن زياد، وعمرو بن دينار، وأبي الزبير، ومنيع بن عبد اللَّه، وأبي إياس الشاميّ، والمثنى. وعنه حامد بن آدم، وابن المبارك، وعتبة بن عبد اللَّه، ومعاذ بن أسد، وأبو تُملية المروزبون. قال ابن المبارك: هو أول من اختلفت إليه. قال النسائي في "الكبرى" بعد إيراد حديث الباب: ما نصّه: قال أبو عبد الرحمن: يونس بن نافع، يُكنى أبا غانم، ثقة مروزيّ، روى عنه عبد اللَّه بن المبارك انتهى. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: يُخطىء، مات سنة (159). روى له أبو داود، والمصنف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

3 -

(عمرو بن دينار) هو المذكور في الباب الماضي.

4 -

(سعيد بن جُبير) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 28/ 436.

5 -

(ابن عبّاس) عبد اللَّه البحر رضي الله عنهما 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، يونس بن نافع، وقد وُثّق. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن عباس من المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة، ومن المشهورين بالفتوى. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اغْسِلُوا الْمُحْرِمَ) وفي بعض النسخ: "اغسلوا الميت"، و، "ال" فيهما للعهد الحضوريّ، أي الرجل الذي مات محرما عندهم في عرفة، كما يوضّحه سياق الحديث، فإنه مختصر، وسيأتي تاما في "كتاب مناسك الحجّ"، ولفظه في -99/ 2855 - من طريق أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينا رجل واقف بعرفة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذ وقع من راحلته، فأقعصه -أو قال فأقعصته- فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماء وسدر، وكفّنوه في ثوبين، ولا تحنّطوه، ولا تخمّروا رأسه، فإن اللَّه عز وجل يبعثه يوم القيامة ملبيًا".

ومعنى "أقعصه": أي قتله قتلًا سريعًا. وفي لفظ: "وقصت رجلًا محرما ناقته: أي

ص: 53

كسرت عنقه.

(فِي ثَوْبَيْهِ) متعلّق بـ "اغسلوا"(اللَّذَيْنِ أَحْرَمَ فِيهِمَا) فيه أن المحرم يغسل في ثوبيه، ولا يُنزعان منه عند الغسل، لئلا تنكشف عورته (وَاغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ) فيه أن السدر ليس من الطيب المحرّم على المحرم (وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ) هذا نصّ في أن كفن المحرم ثوباه اللذان أحرم بهما، ولا يزاد عليهما غيرهما.

وفي رواية أخرى: "في ثوبين" بدون الضمير، قال القاضي عياض: والأولى أكثر الروايات، قال القرطبيّ: فعلى الرواية الأولى يحتجّ الشافعيّ على بقاء حكم إحرامه، كما سيأتي، لأنه أمر أن يكفّن في ثيابه التي كانت عليه. والرواية الثانية يحتمل أن تُحمل على الأولى، ويحتمل أن يريد زيدوا على ثوبه الذي أحرم فيه ثوبين، ليكون كفنه وترًا، والأول أولى لأن إحدى الروايتين مفسِّرة للأخرى.

وقال المحبّ الطبريّ رحمه الله في "أحكامه": إنما لم يزده ثوبًا ثالثًا، تكرمةً له، كما في الشهيد، حيث قال:"زمّلوهم بدمائهم" انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": يحتمل اقتصاره له على التكفين في ثوبيه، لكونه مات فيهما، وهو متلبّس بتلك العبادة الفاضلة، ويحتمل أنه لم يجد له غيرهما انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الأول هو الظاهر، كما بينه المحبّ الطبريّ، ورجحه القرطبيّ -رحمهما اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم.

(وَلَا تَمَسُّوهُ) بفتح التاء، والميم، يقال: مَسّ الماء الجسدَ، من باب تَعِبَ، مَسًّا: أصابه، ويتعدى إلى ثان بالحرف، وبالهمزة، فيقال: مسِسْتُ الجسدَ بماء، وأمسَسْتُ الجسد الماءَ. قاله في "المصباح"، فالباء في قوله (بِطِيبٍ) للتعدية، فما وقع في شرح السيوطيّ، والسنديّ، من ضبطه بضم التاء، وكسر الميمَ، من الإمساس رباعيا فغلطٌ، لأن الرباعيّ يتعدى بنفسه، لا بالباء، ولفظ الرواية الآتية في- 98/ 2854 - :"ولا تُمسّوه طيبًا" وعليه فهو بضم التاءِ، وكسر الميم، من الإمساس. فتنبّه. وفي الرواية الآتية في- 99/ 2855 - :"ولا تُحَنِّطُوه": هو بالحاء المهملة: أي لا تمسوه حَنُوطًا، والْحَنُوط بفتح الحاء، ويقال له: الْحِنَاط بكسر الحاء، وهو أخلاط من طيب، تُجمع للميت خِاصّة، لا تُستعمل في غيره

(3)

.

(وَلَا تخُمِّرُوا رَأْسَهُ) أي لا تُغَطُّوا رأسه، ثم علّل النهي بقوله (فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

(1)

- راجع "الإعلام" ج 4 ص 450 - 451. و "الفتح" ج 3 ص 480.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 480.

(3)

- "شرح مسلم" ج 8 ص 367.

ص: 54

مُحْرِمًا") أي لأنه يُبعث يوم القيامة على الحالة التي مات عليها، وهي الإحرام. وفي الرواية الآتية - في - 99/ 2855 - "فإن اللَّه عز وجل يَبعثه يوم القيامة ملبّيًا". وفي لفظ: "يُبْعَثُ يُهِلُّ"، وفي لفظ: "يلبي".

قال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: معناه على الهيئة التي مات عليها، ومعه علامة لحجّه، وهي دلالة الفضيلة، كما يجيء الشهيد يوم القيامة، وأوداجه تَشْخَب دمًا انتهى.

ووقع في رواية: "يبعث يوم القيامة ملبّدًا" بدال بدل التحتانية، والتلبيد جمع الشعر بصمغ، أو غيره، ليخفّ شعثه، وكانت عادتهم في الإحرام أن يصنعوا ذلك. وقد أنكر عياض هذه الرواية، وقال: ليس للتلبيد معنى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لا وجه لإنكار القاضي عياض درواية "مُلَبِّدًا" بعد صحة نقلها، ودعواه عدم المعنى لها، غير صحيحة، بل لها معنى مقصود، وهو أن يكون التلبيد علامة على موته، وهو كذلك، كما أن الشهيد يأتي بدمه وكلمه علامة على

موته كذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -41/ 1904 - و 47/ 2713 و 98/ 2854 و 99/ 2855 و 2856 و 100/ 2857 و 101/ 28580 وفي "الكبرى" 41/ 2031 و 96/ 3836 و 97/ 3837 و 98/ 3838 و 3839 و 99/ 3840 و 100/ 3841. وأخرجه (خ) 1265 و 1266 و 1267 و 1850 و 1851 (م) 1206 (د) 3238 و 3084 (ق) 3084 (أحمد) 1853 و 1917 و2390 و 2586 (الدارمي) 1852 واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو بيان كيفية تكفين المحرم. ومنها: استحباب تكفين المحرم في ثياب إحرامه، وأن إحرامه باق. ومنها: أنه لا يكفّن في المخيط. ومنها: أن فيه التعليل بالفاء، لقوله:"فإنه يبعث الخ". ومنها: أن التكفين في الثياب الملبوسة جائز، قال النووي رحمه الله: وهو مجمع عليه انتهى. ومنها: جواز التكفين في ثوبين، والأفضل الثلاثة إذا تيسر، لغير المحرم. ومنها: أن الكفن يكون من

(1)

- "فتح" ج3 ص 479.

ص: 55

رأس المال، وأنه مقدّم على الدين وغيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتكفينه في ثوبيه، ولم يستفصل هل عليه دين مستغرق، أم لا؟ ومنها: أن التكفين واجب، قال النوويّ رحمه الله. وهو إجماع في حقّ المسلم، وكذلك غسله، والصلاة عليه، ودفنه انتهى.

(1)

ومنها: استحباب دوام التلبية في الإحرام، واستحباب التلبيد. ومنها: إباحة غسل المحرم الحيّ بالسدر، خلافًا لمن كرهه له. ومنها: أن الوتر في الكفن ليس بشرط في الصحّة، بل هو مستحبّ لغير المحرم، وهو قول الجمهور، واختلف فيما إذا شحّ بعض الورثة بالثاني، أو الثالث، والمرجّح أنه لا يلتفت إليه، وأما الواحد الساتر لجميع البدن، فلا بدّ منه بالاتفاق.

(2)

ومنها: أن الإحرام يتعلّق بالرأس، وسيأتي الكلام على ما وقع في -47/ 2714 - بلفظ:"ولا تخمروا وجهه، ورأسه الخ" في محله إن شاء اللَّه تعالى. ومنها: أن من شرع في عمل طاعة، ثم حال بينه وبين إتمامه الموت يُرجَى له أن اللَّه يكتبه في الآخرة من أهل ذلك العمل. ومنها: أنه يدلّ على ترك النيابة في الحجّ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدًا أن يُكَمِّل عن هذا المحرم أفعال الحجّ. هكذا قيل، وفيه نظر لا يخفى.

(3)

ومنها: أنه استنبط الإمام الشافعي، وتبعه المزنيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- من هذا الحديث جواز قطع شجر السدر، لقوله:"اغسلوه بماء وسدر". وأما حديث: "من قطع شجر سدر، صوّب اللَّه رأسه في النار". حديث صحيح أخرجه أبو داود، فمحمول على من قطع ما يَستَظِلُّ به ابنُ السبيل، والبهائم عبثا بغير حقّ، وقيل: غير ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: أغرب القرطبيّ، فحكى عن الشافعيّ أن المحرم لا يصلَّى عليه، وليس ذلك بمعروف عنه. ذكره في "الفتح"

(4)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف العلماء فيما يُفعل بالمحرم إذا مات:

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وقد اختلف أهل العلم في تخمير رأس المحرم الميت، وتطييبه، فقالت طائفة: يُصنع به كما يُصنع بسائر الموتى، هذا قول عائشة، وبه قال عمر، وطاوس، والأوزاعيّ، وأصحاب الرأي، وقال مالك: لا بأس بأن يُحنِّطَ الحلالُ المحرمَ الميتَ بالطيب.

وقالت طائفة: لا يُغطى رأسه، ولا يُمسّ طيبا، رُوي هذا القول عن عليّ رضي الله عنه،

(1)

- "شرح مسلم" ج 8 ص 366.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 377.

(3)

- "فتح" ج 3 ص 377.

(4)

- "فتح"ج 3 ص 480.

ص: 56

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يُغطّى رأسه، وقال الشافعيّ: لا يُمسّ طيبًا، ولا يُخمّر رأسه، وبه قال أحمد، وإسحاق.

قال ابن المنذر رحمه الله: وبما ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نقول -يعني حديث الباب-. قال: وكان الثوريّ يميل إلى القول بالحديث،

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وبما قاله ابن المنذر، ومال إليه الثوريّ -رحمهما اللَّه تعالى- أقول، لصحة المنقول.

وحاصله أن المحرم الميت يكفّن في ثوبيه، ولا يمسّ طيبًا، ولا يغطّى رأسه، كما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الباب. واللَّه تعالى أعلم.

قال: وروينا عن عطاء قولا ثالثًا، وهو أن يُغسل بالماء، ويكفّن، وُيغطّى رأسه، ولا يُحنّط.

قال: واختلفوا في تخمير وجهه، فأما من قال: إذا مات المحرم ذهب إحرامه، فلا معنى للمسألة على مذهبه، لأنه يَرى أن يُفعل به كما يُفعل بسائر الموتى، وقياس قول من رأى أن للمحرم الحيّ أن يُخمِّرَ وجهَهُ أن يقول: يُخَمِّرُ وجهُ المحرم الميت.

وممن كان لا يرى بأسًا أن يُخَمِّرَ المحرمُ وجهَهُ سعد بن أبي وقّاص، وجابر بن عبد اللَّه، والقاسم بن محمد، وطاوس، والثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.

وكرهت طائفة من أصحاب الحديث أن يُخَمِّرَ وجهَهُ، وأن يُخَمَّر وجهُ المحرم الميت. وحُجَّةُ هؤلاء حديثُ ابن عباس الآتي 47/ 2714 - بلفظ: "ولا تخمروا وجهه ورأسه

".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما عزاه إلى أصحاب الحديث هو الحقّ، لصحة الحديث بذلك كما سيأتي في محله إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه تعالى أعلم

(1)

.

وقال في "الفتح" عند قول البخاريّ: "باب الحنوط للميت ": أي غير المحرم، وأورد حديث ابن عباس المذكور في الباب، قال: وشاهد الترجمة قوله: "ولا تحنّطوه"، ثم علل بأنه يُبعث ملبيًا، فدلّ على أن سبب النهي أنه كان محرمًا، فإذا انتفت العلّة انتفى النهي، وكأن الحنوط للميت كان مقرّرا عندهم، وكذا قوله:"ولا تخمّروا رأسه"، أي لا

تُغَطُّوه.

قال البيهقيّ رحمه الله: فيه دليل على أن غير المحرم يُحنّط، كما يُخمّر رأسه، وأن

(1)

- "الأوسط" ج 5 ص 343 - 346.

ص: 57

النهي إنما وقع لأجل الإحرام، خلافا لمن قال من المالكيّة وغيرهم: إن الإحرام ينقطع بالموت، فيُصنع بالميت ما يُصنع بالحيّ. قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وهو مقتضى القياس، لكن الحديث بعد أن ثبت يقدّم على القياس. وقد قال بعض المالكية: إثبات الحنوط في هذا الخبر بطريق المفهوم من منع الحنوط للمحرم، ولكنها واقعة حال، يتطرّق الاحتمال إلى منطوقها، فلا يستدلّ بمفهومها.

وقال بعض الحنفية: هذا الحديث ليس عامّا بلفظه، لأنه في شخص معيّن، ولا بمعناه، لأنه لم يقل: يبعث ملبيا لأنه محرم، فلا يتعدى حكمه إلى غيره إلا بدليل منفصل. وقال ابن بزيزة: وأجاب بعض أصحابنا عن هذا الحديث بأن هذا مخصوص بذلك الرجل، لأن إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه يُبعث ملبيا شهادة بأن حجه قُبل، وذلك غير محقّق لغيره. وتعقّبه ابن دقيق العيد بان هذه العلة إنما ثبتت لأجل الإحرام، فتعمّ كلّ محرم، وأما القبول وعدمه فأمر مغيّب.

واعتلّ بعضهم بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"، وليس هذا منها، فينبغي أن ينقطع عمله بالموت.

وأجيب بأن تكفينه في ثوبي إحرامه، وتبقيته على هيئة إحرامه من عمل الحيّ بعده، كغسله، والصلاة عليه، فلا معنى لما ذكره.

وقال ابن المنيّر رحمه الله في "الحاشية": وقد قال صلى الله عليه وسلم في الشهداء: "زمّلوهم بدمائهم" مع قوله: "واللَّه أعلم بمن يُكلم في سبيله"، فعمّم الحكم في الظاهر، بناء على ظاهر السبب، فينبغي أن يُعمّم الحكم في كلّ محرم، وبين المجاهد والمحرم جامعٌ، لأن كلاّ منهما في سبيل اللَّه. وقد اعتذر الداوديّ عن مالك، فقال: لم يبلغه هذا الحديث. وأورد بعضهم أنه لو كان إحرامه باقيًا، لوجب أن يكمّل به المناسك، ولا قائل به.

وأجيب بأن ذلك ورد على خلاف الأصل، فيقتصر به على مورد النصّ، ولا سيّما وقد وضح أن الحكمة في ذلك استبقاء شعار الإحرام، كاستبقاء دم الشهيد انتهى ما قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أكثر هذه الأقوال آراء ساقطة، لأنها في مقابلة النصّ، واحتجاج على المنقول بالمعقول، وأحسن ما يُعتذر به عن الأئمة كمالك، ونحوه هو ما قاله الداوديّ، وهو أنه لم يبلغهم النصّ، وإلا لما خالفوه مع وضوحه.

(1)

- "فتح" ج 3 ص 478.

ص: 58

والحاصل أن الصواب العمل بما دلّ عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور في الباب، فلا يُخمّر رأسه المحرم الميت، ولا وجهه، ولا يحنّط، وأنه باق على إحرامه، وأن العلة هي الإحرام، وهي عامة في كل محرم، والأصل أن ما ثبت لشخص في زمنه صلى الله عليه وسلم ثابت لغيره حتى يدلّ الدليل على خلافه، ولم يثبت خلافه، كيف، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال:"يبعث كلّ عبد على ما مات عليه" رواه مسلم، وهذا عام في كل صورة ومعنى، فاقتضى ذلك تعلق هذا الحكم على الإحرام حيث مات محرما، فيعمّ كل محرم، كيف والتلبية من لوازم الإحرام، والعمل بالحديث مقدم على القياس، وهو متعين.

(1)

ولقد أجاد من قال، وأحسن في المقال [مِن الوافر]:

إِذأ جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا

تجُارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌42 - الْمِسْكُ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بهذه الترجمة الاستدلال على مشروعية استعمال المسك للميت، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصّة المحرم:"ولا تَمَسُّوه بطيبٍ"، فإن مفهومه أن غير المحرم من الأموات يُمَسُّ طيبًا، وحديث الباب نصّ في كون المسك من أطيب اليب، فدل على أن استعمال المسك للميت غيرِ المحرم مستحبّ، وهذا من دقيق فقه المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، فللَّه درّه ما أحدّ نظره، وما أصوب فكره.

وصنعيه هذا نظير صنيع الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- حيث ترجم بقوله: "باب الحنوط للميت"، ثم أورد قصة المحرم، وفيه:"ولا تحُنّطوه"، فاستنبط من مفهوم النهي استحبابَ الحنوط للميت غير المحرم، واستنباط المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أدقّ. واللَّه

(1)

- انظر "الإعلام" ج 4 ص 453.

ص: 59

تعالى أعلم.

قال الفيّوميّ -رحمه الله تَعَالَى-: الْمِسْكُ طيب معروف، وهو معرّبٌ، والعرب تسميه المشموم، وهو عندهم أفضل اليب، ولهذا ورد:"لخُلُوفُ فم الصائم عند اللَّه أطيب من ريح المسك"، ترغيبًا في إبقاء أثر الصوم. قال الفَرَّاء: المسك مذكّرٌ، وقال غيره: يذكّر، ويؤنّث، فيقال: هو المسكُ، وهي المسك، وأنشد أبو عُبيدة على التأنيث قولَ الشاعر [من الرجز]:

وَالْمِسْكُ وَالْعَنْبَرُ خَيْرُ طِيبِ

أُخِذَتَا بِالثَّمَنِ الرَّغِيب

وقال السجستانيّ: من أنّثَ المسك جعله جمعًا، فيكون تأنيثه بمنزلة تأنيث الذَّهَبِ والعَسَل، قال: وواحدته: مِسْكَةٌ، مثلُ ذَهَبٍ وذَهَبَة: قال ابن السِّكِّيت: وأصله: مِسِكٌ بكسرتين، قال رُؤْبَة [من الرجز]:

إِنْ تُشْفَ نَفْسِي مِنْ ذُبَابَاتِ الْحَسَكْ

أَحْرِ بِهَا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ الْمِسِكْ

وهكذا رواه ثَعْلَبٌ، عن ابن الأعرابيّ. وقال ابن الأنباريّ: قال السِّجِسْتَانيّ: أصله السكون، والكسر في البيت اضطرار، لإقامة الوزن، وكان الأصمعيّ يُنشد البيتَ بفتح السين، ويقول: هو جمع مِسْكَة، مثلُ خِرْقَة وخِرَق، وقِرْبَةٍ وقِرَب، ويؤيّد قول السجستانيّ أنه لا يوجد فِعِل بكسرتين إلا إِبِلٌ، وما ذُكر معه، فتكون الكسرة لإقامة الوزن، كما قيل [من الرجز]:

عَلَّمَنَا إِخْوَانُنَا بَنُو عِجِلْ

شُرْبَ النَّبِيذِ وَاعْتِقَالَا بِالرِّجِلْ

والأصل السكون باتفاق، أو تكون الكسرة حركة الكاف نُقلت إلى السين لأجل الوقف، وذلك سائغ انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1905 -

أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، وَشَبَابَةُ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُلَيْدِ بْنِ جَعْفَرٍ، سَمِعَ أَبَا نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَطْيَبُ الطِّيبِ الْمِسْكُ» .

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمود بن غَيلان) أبو أحمد المروزيّ، ثقة [10] 33/ 37.

2 -

(أبو داود) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقة حافظ [9] 13/ 343.

(1)

- "المصباح" في مادة مسك.

ص: 60

3 -

(شَبَابة) بن سَوَّار المدائنيّ، ثقة حافظ رمي بالإرجاء [9] 50/ 1743.

4 -

(شعبة) بن الحجّاج الإمام الثبت الحجة [7] 34/ 26.

5 -

(خُلَيد بن جعفر) بن طَريف الحنفيّ، أبو سليمان البصريّ، صدوق [6].

قال شعبة: حدثني خُليد بن جعفر، وكان من أصدق الناس، وأشدّهم اتقاءً. وقال يحيى بن سعيد: لم أره، ولكن بلغني أنه لا بأس به. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أحمد: أحاديثه حسان. ووثقه النسائيّ في "الكنى"، وحكى عن عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه أنه وثّقه. وكذا وثّقه الدولابيّ، وغيره. وقال الساجي: قال ابن معين: هو إلى الضعف أقرب. هكذا في "تت". وقال في "ت": لم يثبت أن ابن معين ضعفه انتهى.

روى له مسلم، وله في الترمذيّ، والنسائيّ حديث الباب فقط.

6 -

(أبو نضرة) العبديّ المنذر بن مالك بن قُطَعَة البصريّ، ثقة [3] 21/ 538.

7 -

(أبو سعيد) الخدريّ سعد بن مالك بن سِنَان الأنصاريّ رضي الله عنهما -169/ 262 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها). أنه من سداسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنهم ما بين مروزيّ، وهو محمود، ومدائِنيِّ، وهو شبابة، ومدنيّ، وهو الصحابيّ، وبصريينَ، وهم الباقون. وفيه الإخبار، والتحديث، والسماع، والعنعنة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ صلى الله عليه وسلم، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَطْيَبُ الطِّيبِ الْمِسْكُ"

(1)

) مبتدأ مؤخر، وخبر مقدم، ويجوز العكس، والأول أولى، لكون "المسك" هو المحدّث عنه. والكلام بتقدير "من": أي أنه من أطيب الطيب، ويدلّ على هذا قوله في الرواية التالية:"من خير طيبكم المسك".

وهذا الحديث أورد المصنّف هنا مختصرًا، وسيأتي بتمامه في "كتاب الزينة"، ولفظه في 5264 - من طريق عبد الرحمن بن غَزْوان عن شعبة عن خُليد بن جعفر والْمُسْتَمِرّ، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: "ذَكَر النبي صلى الله عليه وسلم امرأة حَشَتْ خاتمها بالْمِسْكِ، وهو

(1)

- أشار في هامش النسخة الهندية إلى أنه يوجد في بعض النسخ: "من خير طيبكم المسك" بدل: "أطيب اليب المسك". وليُحرَّر. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 61

أطيب الطيب".

وأتم منه لفظ مسلم من طريق أبي أسامة، عن شعبة، حدثني خُلَيد بن جعفر، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"كانت امرأة من بني إسرائيل، قصيرة، تمشي مع امرأتين، طويلتين، فاتخذت رِجْلين، من خشب، وخاتما من ذهب، مُغلَق، مُطَبَّق، ثم حشته مسكا، وهو أطيب الطيب، فمرت بين المرأتين، فلم يعرفوها، فقالت بيدها هكذا، ونفض شعبة يده". انتهى.

وقال الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-:

10971 -

حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا المستمر بن الرَّيَّان، حدثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال "كان في بني إسرائيل امرأة قصيرة، فصنعت رجلين، من خشب، فكانت تسير بين امرأتين، قصيرتين، واتخذت خاتما، من ذهب، وحَشَت تحت فصه أطيبَ الطيب المسكَ، فكانت إذا مرت بالمجلس حركته، فنفخ ريحه".

وقد بيّن في رواية أخرى سبب القصّة، وهو تحذير أمته من فتنة النساء، فقال:

11034 -

حدثنا عبد الصمد، حدثنا المستمر بن الريان الإيادي، حدثنا أبو نضرة العبدي، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكر الدنيا، فقال:"إن الدنيا خَضِرَة حُلْوَة، فاتقوها، واتقوا النساء"، ثم ذكر نسوةً ثلاثا من بني إسرائيل، امرأتين طويلتين، تُعرَفان، وامرأة قصيرة، لا تعرف، فاتخذت رجلين من خشب، وصاغت خاتما، فحشته من أطيب الطيب المسكِ، وجعلت له غَلَقًا، فإذا مرت بالملإ، أو بالمجلس، قالت به، ففتحته، ففاح ريحه"، قال المستمر، بخنصره اليسرى، فأشخصها، دون أصابعه الثلاث شيئا، وقبض الثلاثة".

وقد تقدم في أول الباب وجه إيراد المصنّف لهذا الحديث هنا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -42/ 1905 و 1906 و 33/ 5119 و 75/ 52640 وفي "الكبرى" 42/ 2032 و 2033 و 41/ 9412. وأخرجه (م) 2252 (د) 3158 (ت) 991 (أحمد) 15918 و 10971 و 11034 و 11196 و 11252 واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في استعمال المسك للميت:

ص: 62

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: واختلفوا في استعمال المسك في حنوط الميت، فكان ابن عمر رضي الله عنهما، يطيب الميت بالمسك، وجُعِل في حَنُوط أنس رضي الله عنه صُرَّةٌ من مسك، وروينا عن عليّ رضي الله عنه أنه أوصى أن يجعل في حنوطه مسك، وقال: هو فضل

(1)

حنوط النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال: وممن رأى أن الميت يُطيّب بالمسك محمدُ بن سيرين، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق. وكذلك نقول، وفي أمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة أن تاخذ عند اغتسالها من المحيض فِرْصَة ممسّكة دليل على طهارة المسك، مع ما روينا عنه أنه قال:"أطيب الطيب المسك"، ثم أخرج بسنده حديث الباب.

قال: وقد روينا عن عطاء، والحسن، ومجاهد، أنهم كرهوا ذلك.

قال: وكلّ من نحفظ عنه من أهل العلم يَستحبّون إجمار ثياب الميت. قال: واستحبّ كثير منهم أن يكون ذلك وترًا، والذي يُكَفَّن الميت، ويُحَنِّطه يجعل في حنوطه ما شاء من الطيب، إلا الزعفران، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتزعفر الرجل، وأحبّ ما استُعمِل في حنوطه الكافورُ، للثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: للنسوة اللواتي غسلن ابنته: "اجعلن كافورًا، أو شيئًا من كافوار" انتهى كلام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- باختصار

(2)

، وهو نفيسٌ بحثٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1906 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الدِّرْهَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ الْمُسْتَمِرِّ بْنِ الرَّيَّانِ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مِنْ خَيْرِ طِيبِكُمُ الْمِسْكُ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عليّ بن الحسين الدِّرْهميّ) البصريّ، صدوق [11] 17/ 1547.

2 -

(أُميّة بن خالد) بن الأسود بن هُدْبة، وقيل: ابن خالد بن هُدْبة بن عُتْبَة الأزديّ القيسيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، أخو هُدْبة، وكان أكبر منه، صدوق [9].

قال أبو زرعة، وأبو حاتم، والترمذيّ: ثقة. وقال العجليّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الدارقطنيّ: ما علمت إلا خيرًا. وروى العقيليّ في "الضعفاء" عن الأثرم، قال: سمعت أبا عبد اللَّه يُسال عن أميّة بن خالد، فلم أره يحمده في الحديث، قال: إنما كان يُحدّث من حفظه، لا يُخرج كتابًا، وما أبدى العقيليّ فيه غير حديث واحد وصله، وأرسله غيره. وذكره أبو العرب في "الضعفاء"، فلم يصنع شيئا.

مات سنة (200) وقيل: سنة (201). روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وابن

(1)

- هكذا نسخة "الأوسط"، ولعل الصواب "فضل الخ".

(2)

- "الأوسط" ج 5 ص 367 - 370.

ص: 63

ماجه، وله عند المصنف في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط.

3 -

(المُسْتَمِرّ بن الرَّيَّان) -بالتحتانيّة- الإياديّ الزهرانيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة عابد

(1)

[5].

قال علي بن المدينيّ، عن يحيى بن سعيد: ثقة. وكذا قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه، وزاد "شيخ"، وإسحاق بن منصور، عن ابن معين. وقال أبو داود الطيالسيّ: كان صدوقًا ثقة. وقال النسائيّ: ثقة، وكان من الأبدال. وذكره ابن حبّان في "الثقات".

وقال الحاكم: ثقة. وقال البزّار: مشهور. روى له الجماعة، سوى البخاري، وابن ماجه، وله عند المصنف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده برقم 5266.

والباقيان، تقدما في الذي قبله. والحديث صحيح، وقد تقدم شرحه، وبيان المسائل المتعلّقة به في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌43 - الإِذْنُ بِالْجَنَازَةِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف بهذه الترجمة الاستدلال على مشروعية إعلام الناس بكون الجنازة مهيَّأَةً للصلاة عليها، ودفنها، حتى يصلوا عليها، ويدفنوها، فأَطْلَقَ الإذن، وأراد الإيذان، فإن "الإذن": بالكسر: معناه العلم، يقال: أَذِن بالشيء، كسَمِعَ، إِذْنًا، بالكسر، وُيحرَّك، وأَذَانًا: عَلِمَ به. قاله في "ق".

فيكون مجازًا مرسلاً، من إطلاق المسبب، وإرادة السبب، فإن العلم بكون الجنازة مهيّأة للصلاة عليها يتسبب من الإعلام بذلك.

لكن كان الأولى له أن يذكر هذا الباب عقب باب النعي المتقدّم كما فعل الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، لأن هذا -كما قال ابن المنيّر- مرتب على السابق، لأن النعي هو إعلام من لم يتقدّم له علم بالميت، والإذن إعلام من عَلِمَ بتهيئة أمره، وتمام تجهيزه، لأجل أن يصلي عليه.

[تنبيه]: قال ابن رُشيد: "الإذن": ضبطناه بكسر الهمزة، وسكون المعجمة، وضبطه

(1)

- جعله في "ت" من الطبقة السادسة، والصواب أنه من الخامسة، لأنه رأى أنسا رضي الله عنه، كما في ترجمته من "تت" ج 3 ص 56.

ص: 64

ابن المرابط بمدّ الهمزة، وكسر الذال، على وزن الفاعل. قال الحافظ: والأول أوجه، والمعنى الإعلام بالجنازة، إذا انتهى أمرها، ليُصَلَّى عليها انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تفسير الإذن بالإعلام فيه نظر، وإنما هو العلم، لأن

أَذِن بالشيء معناه عَلِمَ به، كما قدّمنه قريبًا، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1907 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، فِي حَدِيثِهِ عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ مِسْكِينَةً، مَرِضَتْ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَرَضِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَعُودُ الْمَسَاكِينَ، وَيَسْأَلُ عَنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا مَاتَتْ فَآذِنُونِي» ،

فَأُخْرِجَ بِجَنَازَتِهَا لَيْلاً، وَكَرِهُوا، أَنْ يُوقِظُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أُخْبِرَ بِالَّذِي كَانَ مِنْهَا، فَقَالَ:«أَلَمْ آمُرْكُمْ أَنْ تُؤْذِنُونِي بِهَا؟» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ لَيْلاً، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى صَفَّ بِالنَّاسِ، عَلَى قَبْرِهَا، وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ.

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقة الثبت [10] 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام المدني الحجة المشهور [7] 7/ 7.

3 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري الإمام الحجة الشهير [4] 1/ 1.

4 -

(أبو أمامة بن سهل بن حُنيف) واسمه أسعد الأنصاريّ المدني، له رؤية، لا سماع، مات سنة (100) عن (92) سنة. روى له الجماعة 8/ 509 واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: هذا الإسناد ليس من رباعيات المصنف؛ لأنه مرسلٌ، فهو من خماسياته، فتنبه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) -بضم همزة "أمامة"، و"سهل" بفتح، فسكون، و"حُنيف" بضم المهملة، وفتح النون، وسكون التحتية، وبالفاء- وأبو أمامة هذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم لما وُلد قبل موته بسنتين باسم جدّه، أسعد بن زُرَارة، وكناه، فهو صحابي، من حيث الرؤية، تابعيّ، من حيث الرواية، وأبوه صحابي شهير بدريّ رضي الله عنه (أنَّهُ أَخْبَرَهُ) أي أخبر أبو أمامة ابنَ شهاب (أَنَّ مِسْكِينَةً) لا يُعرف اسمها، ويحتمل أن تكون هي المرأة التي كانت تكنُس المسجد النبويّ، فقد ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في

(1)

- "فتح" ج 3 ص 454.

ص: 65

"الصحيحين"، وغيرهما أن امرأة سوداء، كانت تقُمُّ المسجد -بقاف مضمومة، وميم مشددة- أي تجمع القُمامة، وهي الكناسة. وفي لفظ:"كانت تُنَقّي المسجد من الأذى"، ولابن خزيمة:"كانت تلتقط الْخِرَق من المسجد"، وللبيهقيّ بإسناد حسن، عن بُريدة: أن أم مِحْجَن كانت مولعة بلقط القَذَى من المسجد" -بقاف، ومعجمة مقصور- جمع قذاة، وهي ما يسقط في العين والشراب، ثم استعمل في كلّ شيء يقع في البيت وغيره، إذا كان يسيرًا وفي "الإصابة": محجنة، وقيل: أم محجن، امرأة سوداء، كانت تقمّ المسجد، ذُكرت في "الصحيح" بلا تسمية انتهى.

(مَرِضَتْ) وفي الرواية -71/ 1969 - "اشتكت امرأةٌ بالعو الي مسكينةٌ

"، وفي - 76/ 1981 - : "مَرِضَت امرأة من أهل العوالي

" (فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَرَضِهَا، وَكَانَ) وفي نسخة: "فكان" (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَعُودُ الْمَسَاكِينَ) أي يزورهم (وَيَسْأَلُ عَنْهُمْ) وفي الروية 71/ 1969 - : "فكان النبي صلى الله عليه وسلم، يسألهم عنها" (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا مَاتَتْ فَآذِنُونِي") بمد الهمزة، من الإيذان، وهو الإعلام، أي أعلموني بموتها، وفي الرواية المذكور: "إن ماتت فلا تدفنوها حتى أصلي عليها".

وهذا هو محلّ الترجمة، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بإعلامه بموتها حتى يصلي عليها، فدلّ على مشروعية الإعلام بالجنازة. واللَّه تعالى أعلم.

(فَأُخْرِجَ بِجَنَازَتِهَا لَيْلاً) وفي الرواية المذكورة: "فجاؤا بها إلى المدينة بعد العَتَمَة، فوجدوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد نام

" (وَكَرِهُوا، أَنْ يُوقِظُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) زاد في الرواية المذكورة: "فَصَلَّوا عليها، ودفنوها ببقيع الغَرْقَد

" (فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أُخْبرَ بالَّذِي كَانَ مِنْهَا) وفي الرواية المذكورة: "فلما أصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جاءوا، فسألهم عنها، فقالوا: قد دفنت يا رسول اللَّه

" (فَقَالَ: "أَلَمْ آمُرْكُمْ أَنْ تُؤْذِنُونِي بِها؟ ") أي بموتها، لأصلي عليها (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَرِهْنَا أنْ نُوقِظَكَ لَيلًا) أي إجلالا له، وتعظيمًا، لأنه لا يُدرَى ما يحدث له في نومه، من الوحي، أو غيره (فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي إلى البقيع. وفي الرواية المذكورة: "قال: فانطَلِقوا، فانطلق يمشي، ومشوا معه، حتى أروه قبرها، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصفّوا وراءه، فصلى عليها، وكبر أربعا" (حَتَّى صَفَّ بالنَّاسِ) لعلّ الباء على تضمين "صَفَّ" معنى أَمَرَ، لأن صفّ يتعدى بنفسه، لا بالباء، فَكأن المعنى أمر بالناس أن يصفّوا وراءه (عَلَى قَبْرِهَا، وَكبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ) هذا معطوف على محذوف، كما بينته الرواية المذكورة آنفًا، أي فصلى عليَها، وكبر أربع تكبيرات. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 66

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي أمامة بن سهل رضي الله عنه هذا صحيح.

فإن قلت: كيف يصحّ، وهو مرسل، لأن أبا أمامة، وإن كان له شرف الرؤية، إلا أنه تابعي من حيث الرواية؟.

قلت: له شواهد كثيرة، يصحّ بها، وقد استوفى الكلام عليه الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في كتابه "التمهيد"، ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: رُويت الصلاة على القبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، من ستة وجوه حسانٍ كلُّهَا، ثم قال أبو عمر: هي حديثُ سهل بن حُنيف، وحديثُ سعد بن عبادة، وحديث أبي هريرة، روي من طرق، وحديث عامر بن ربيعة، وحديث أنس، وحديث ابن عباس رضي الله عنهم، ثم خرّج أحاديث هؤلاء، فأجاد، وأفاد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. والحاصل أن حديث أبي أمامة، وإن كان مرسلًا، فهو صحيح، لما له من الشواهد المذكورة. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -43/ 1907 - و 71/ 1969 و 76/ 1981 وفي "الكبرى" 43/ 2034 و 71/ 2096 و 76/ 2107. وأخرجه (مالك في "الموطإ") 531.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو مشروعية الإذن بالجنازة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا ماتت، فآذنوني". ومنها: مشروعية عيادة المريض. ومنها: مشروعية عيادة الرجال النساء. ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع في عيادة الفقراء والمساكين. ومنها: أنه ينبغي للأشراف عيادة الفقراء، أسوة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الخلق الجميل في العفو، وأنه أمر أصحابه، فلم يفعلوا ما أمرهم به، فلم يعاتبهم. ومنها: أن عصيان الإنسان لأميره، سلطانا كان، أو غيره إذا أراد بعصيانه بِرَّه، وتعظيمه، وإكرامه، أن ذلك لا يُعدّ عليه ذنبًا. ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا ينتقم ممن يَعصيه، إلا أن تُنتهك حرمة من حرمات اللَّه سبحانه وتعالى، فينتقم للَّه بها، كما ثبت ذلك عن عائشة رضي الله عنها. ومنها: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يَعلَم الغيب عنه، إلا أن يُطلِعه اللَّه تعالى عليه. ومنها: جواز الدفن بالليل، وسيأتي له بحثٌ خاصّ في- 89/ 2013 و 2014 - إن شاء اللَّه تعالى. ومنها: الصلاة على القبر، وسيأتي له باب خاصّ به أيضًا في -94/ 2522 - ويأتي ذكر اختلاف العلماء هناك، إن شاء اللَّه تعالى. ومنها: أن التكبير على الجنائز أربع تكبيرات، وسيأتي له باب خاصّ أيضًا في 76/ 1980 و 1981 و 1982 - . ومنها: أن سنة الصلاة على القبر

ص: 67

كالصلاة على الجنازة. واللَّه تعالى أعلم. ومنها: أن فيه ردّا على من قال من السلف: لا تُشعِرُوا بموتي أحدًا، فقد نُقِلَ عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: لا تؤذنوا بموتي أحدًا، حسبي من يحملني إلى حفرتي، ونُقِل أيضًا كراهته عن إبراهيم، وعلقمة النخعيين.

وأجازه الجمهور، وهو الحقّ، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: شهود الجنائز أجر، وتقوى، وبرّ، والإذن بها تعاون على البرّ والتقوى، وإدخال الأجر على الشاهد، وعلى المتوفَّى، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"ما من مسلم يموت، فيصلي عليه أمة من المسلمين، يبلغون أن يكونوا مائة، يستغفرون له، إلا شُفِّعُوا فيه". -رواه أحمد، ومسلم، وغيرهما - ومعلوم أن هذا العدد لا يجتمعون لشهود جنازة، إلا أن يُؤذَنُوا لها انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌44 - السُّرْعَةُ بِالْجَنَازَةِ

1908 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا

(2)

عَبْدُ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِهْرَانَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ «إِذَا وُضِعَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ عَلَى سَرِيرِهِ، قَالَ: قَدِّمُونِي، قَدِّمُونِي، وَإِذَا وُضِعَ الرَّجُلُ يَعْنِي السُّوءَ عَلَى سَرِيرِهِ، قَالَ: يَا وَيْلِي، أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِي؟» .

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سُوَيد بن نصر) المروزيّ، ثقة [10] 45/ 55.

2 -

(عبد اللَّه) بن المبارك الإمام الحافظ الحجة [8] 32/ 36.

3 -

(ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث القرشي العامريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقة فقيه فاضل [7] 41/ 685.

4 -

(سعيد المقبريّ) ابن أبي سعيد كَيْسَان المدني، ثقة تغير آخرًا [3] 95/ 177.

5 -

(عبد الرحمن بن مِهْرَان) أبو محمد المدنيّ، مولى الأزد، ويقال: مولى مُزَينة، ويقال: مولى أبي هُريرة، مقبول [3].

(1)

- "التمهيد"ج 6 ص 257 - 258.

(2)

- وفي نسخة "حدثنا"، وفي أخرى:"أنبأنا".

ص: 68

قال أبو حاتم: صالح. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال أبو الفتح الأزديّ: مجهول. وقال البَرْقَانيّ، عن الدارقطنيّ: شخ مدنيّ يُعتبر به. انفرد به مسلم، والمصنف، وله عند مسدم حديث:"أحبّ البلاد إلى اللَّه مساجدها". وعند المصنّف حديث الباب فقط.

[تنبيه]: أشار في هامش الهنديّة إلى أنه وقع في بعض نسخ "المجتبى": "وعبد الرحمن ابن مهران" بالواو بدل "عن"، وهو غلط فاحش، فتنبّه. قال الحافظ ولي الدين -رحمه اللَّه تعالى-: ووقع في أصل سماعنا من "سنن النسائيّ الصغرى" رواية ابن السُّنّيّ: "عن سعيد المقبريّ، وعبد الرحمن بن مهران"، وهو وَهَمٌ، وفي "الكبرى" رواية ابن الأحمر على الصواب انتهى

(1)

.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من ابن أبي ذئب، وشيخه، وعبد اللَّه مروزيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وهو من رواية الأقران، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِهْرَانَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه.

[تنبيه]: قال الإمام ابن حبّان -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "صحيحه": رَوَى هذا الخبر سعيد المقبريّ، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدريّ، وعن عبد الرحمن بن مِهْرَان، عن أبي هريرة، فالطريقان جميعًا محفوظان، ومتن خبر أبي سعيد رضي الله عنه -يعني الذي يأتي بعد هذا- أتمّ من خبر أبي هريرة رضي الله عنه انتهى

(2)

.

(قَالَ) وفي رواية أحمد، عن يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب:"أن أبا هريرة قال حين حضره الموت: لا تضربوا عليّ فُسطاطًا، ولا تُتبِعُوني بمجمر، وأسرعوا بي، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا وُضع الرجل الصالح على سريره، قال: قدّموني، قدّموني، وإذا وضع الرجل السوء على سريره، قال: يا ويله، أين يذهبون بي". وفي رواية عن محمد بن عبد اللَّه بن الزبير، عن ابن أبي ذئب: "إن المؤمن إذا وُضع على سريره، قال: أسرعوا بي، وإذا وُضع الكافر على سريره، قال: يا ويلاه أين يذهبون بي" (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "إِذَا وُضِعَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ) ولفظ ابن حبّان في

(1)

- "طرح التثريب" ج 3 ص 289.

(2)

- "صحيح ابن حبان" ج 8 ص 379.

ص: 69

الموضعين: "إن العبد إذا وُضع

"، وقال في آخره: يريد المسلم والكافر" انتهى

(1)

(عَلَى سَرِيرِهِ) هو ما يوضع عليه الميت، وجمعه: أَسِرَّةٌ، وسُرُرٌ -بضمتين- وفتحُ الثاني للتخفيف لغةٌ. أفاده في "المصباح" (قَالَ) الضمير للرجل الصالح. قال في "الفتح": ظاهره أن قائل ذلك هو الجسد المحمول على الأعناق. وقال ابن بطال: إنما يقول ذلك الروحُ. وردّه ابن المنيّر بأنه لا مانع أن يردّ اللَّه الروح إلى الجسد في تلك الحال، ليكون ذلك زيادة في بُشرى المؤمن، وبؤس الكافر. وكذا قال غيره، وزاد: ويكون ذلك مجازًا باعتبار ما يؤول إليه الحال بعد إدخال القبر، وسؤال الملكين.

قال الحافظ: وهو بعيد، ولا حاجة إلى دعوى إعادة الروح إلى الجسد قبل الدفن، لأنه يحتاج إلى دليل، فمن الجائز أن يُحدث اللَّه النطق في الميت إذا شاء، وكلام ابن بطّال فيما يظهر لي أصوب. وقال ابن بزيزة: قوله في آخر الحديث -يعني في الرواية الآتية-: يسمع صوتها كلّ شيء" دالّ على أن ذلك بلسان المقال، لا بلسان الحال انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الحافظ فيه تناقض، لأن أول كلامه يفهم منه أن الكلام للجسد، وآخره أنه للروح، حيث صوّب كلام ابن بطال، والصواب عندي أن الكلام للجسد، فلا حاجة للعدول عن ظاهر النصّ، فإن قوله:"إذا وُضع الرجل الخ"، يدلّ على أن هذا الكلام للجسد، لأن الموضوع على السرير هو الجسد، فهو الذي يتكلّم، بلسان المقال بصوت مسموع لكل أحد، إلا الإنسان. واللَّه تعالى أعلم.

(قَدِّمُوني) أي للقاء ثواب العمل الصالح الذي كنت أعمله في حياتي. قال السنديّ رحمه الله: كأنه يعتقد أنهم يسمعون قوله، فيقول لهم ذلك، أو أنه تعالى يُجري على لسانه ذلك ليُخبر عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للناس، فتحصل الفائدة بواسطة ذلك الإخبار. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(3)

.

(قَدِّمُوني) كرّره للتاكيد (وَإِذَا وُضِعَ الرَّجُلُ يَغنِي السُّوءَ) هكذا نسخ "المجتبى" بزيادة لفظة "يعني"، وفي "الكبرى": "وإذا وُضع الرجل السوء

" بدون "يعني"، وهو الذي في روايات أحمد، في المواضع الثلاثة -2/ 292 و 2/ 474 و 2/ 550 - ولم يتبيّن لي معرفة من هو قائل: "يعني" في رواية المصنّف هنا؟ واللَّه تعالى أعلم (عَلَى سَرِيرِهِ، قَالَ: يَا وَيْلِي) أي يا هلاكي احضُرْ، فهذا أوانك، وفي نسخة: "يا ويلتي" (أَيْنَ تَذْهَبُونَ

(1)

- راجع صحيح ابن حبان ج 8 ص 378 رقم الحديث 3111.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 540.

(3)

- "شرح السندي" ج 3 ص 41.

ص: 70

بِي") إنما قاله لأنه علم أنه لم يقدّم خيرًا، وأنه سيَقدَم على ما يسوءه، فيَكرَه القدوم.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنّف، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -44/ 198 - وفي "الكبرى" 44/ 2035. وأخرجه (أحمد) 7854 و 9787 و 1011.

وفوائد الحديث تأتي قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1909 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ، عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً، قَالَتْ: قَدِّمُونِي، قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ، قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا

(1)

، إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ، إِلاَّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ لَصَعِقَ».

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الليث) بن سعد الإمام الفقيه الثبت الحجة المصريّ [7] 31/ 35.

2 -

(أبو سعيد) هو: كيسان المقبريّ المدنيّ، ثقة [3] 63/ 872.

والباقون تقدموا قريبا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه فبغلانيّ، والليث فمصريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي، والابن عن أبيه. (ومنها): أن فيه أبا سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَيِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ:

(1)

وفي نسخة: "يا ويلتا".

ص: 71

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ") يحتمل أن يراد بالجنازة نفس الميت، وبوضعه جعله في السرير، ويحتمل أن يريد السرير، والمراد وضعها على الكتف، والأول أولى، لقوله بعد ذلك: "فإن كانت صالحة، قالت

"، فإن المراد به الميت، ويؤيده ما في الرواية المتقدّمة: "إذا وضع الرجل الصالح على سريره، قال: قدّموني

". كذا قال في "الفتح".

وقال السنديّ رحمه الله: بل الوجه الأول هو المتعيّن، إذ على الثاني يكون قوله:"فاحتملها الرجال على أعناقهم" تكرارًا، ولا يمكن جعله تأكيدًا، إذ لا يناسبها الفاء، فليُتأمل، نعم ضمير "احتملها" بالسرير أنسب، إذ هو المحمول أصالة، والميت تبعًا، لكن يكفي في صحة إرادة الميت كونه محمولًا تبعًا، ويحتمل أن يكون المراد بالضمير السرير بالاستخدام انتهى.

(1)

وقد تقدّم الخلاف، هل المتكلّم جسد الميت -كما هو الراجح- أو روحه، في الحديث الذي قبله. وباللَّه تعالى التوفيق.

(فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ، عَلَى أَعنَاقِهِمْ، فَإِن كَانَتْ صَالِحَةً، قَالَتْ: قَدِّمُوني، قَدمُونِي، وَإِنْ كَانَث غَيرَ صَالِحَةٍ، قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا) أي ياويل الجنازة، أي هلاكها احضر، فهذا أوانك. ولفظ البخاريّ:"قالت لأهلها". قال الطيببيّ: أي لأجل أهلها، إظهارًا لوقوعه في الهَلَكَة، وكلّ من وقع في هلكة دعا بالويل.

وإنما أضاف الويل إلى ضمير الغائب، وإن كان القياس أن يقول: يا ويلي، حملا على المعنى، كراهة أن يضيف الويل إلى نفسه، أو كأنه لما أبصر نفسه غير صالحة نَفَر عنها، وجعلها كأنها غيره، ويؤيّد ذلك ما تقدّم في الرواية السابقة، بلفظ:"يا ويلي، أين يذهبون بي"، فدلّ على أن ذلك من تصرّف الرواة، انتهى.

(2)

(إِلَى أَيْنَ تذْهَبُونَ بِهَا) قالته لأنها تعلم أنها لم تقدّم خيرًا، وإنها تَقدَم على ما يسوؤها، فتكره القدوم عليه. وفي نسخة:"أين يذهبون بي"(يَسْمَعُ صَوْتَها) وفي نسخة: "صوته": أي الميت (كُلُّ شَيْءٍ)

أي حتى الجمادات، وقيل: الحيوانات (إِلاَّ الإِنْسَانَ) بالنصب على الاستثناء، لأن الكلام تام موجب، كما قال في "الخلاصة":

مَا اسْتَثْنَتِ الَّا مَعْ تَمَامٍ يَنْتَصِبْ

وَبَعْدَ نَفْيٍ أَوَ كَنَفيِ انْتُخِبْ

إِتْبَاعُ مَا اتَّصَلَ وَانْصِبْ مَا انْقَطَع

وَعَنْ تَمِيمٍ فِيهِ إِبدَالٌ وَقَعْ

(1)

- "شرح السنديّ" ج 3 ص 41.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 540.

ص: 72

(وَلَوْ سَمِعَهَا) الضمير للجنازة على حذف مضاف، أي لو سمع صوتها المُزْعِجَ بالويل ("الْإِنسَانُ لَصَعِقَ") بكسر العين المهملة، من باب تَعِبَ: أي لمات، أو غُشي عليه، من شدّة هول ذلك الصوت. قال ابن بزيزة رحمه الله: هو مختصّ بالميت الذي هو غير صالح، وأما الصالح، فمن شأنه اللطف، والرفق في كلامه، فلا يناسب الصعق من سماع كلامه انتهى.

ويحتمل أن يحصل الصعق من سماع كلام الصالح أيضًا لكونه غير مألوف. وقد روى أبو القاسم ابن منده هذا الحديث في "كتاب الأهوال" بلفظ: "لو سمعه الإنسان لصعق من المحسن والمسيء"، فإن كان المراد به المفعول دلّ على وجود الصعق عند سماع كلام الصالح أيضّا.

وقد استشكل هذا مع ما ورد في حديث السؤال في القبر: "فيضربه ضربةً، فيصعق صعقةً

(1)

، يسمعه كلّ شيء، إلا الثقلين". والجامع بينهما الميت والصعق، والأول استُثني فيه الإنس فقط، والثاني استثني فيه الجنّ والإنس.

والجواب أن كلام الميت بما ذُكر لا يقتضي وجود الصعق -وهو الفزع- إلا من الآدميّ، لكونه لم يألف سماع كلام الميت، بخلاف الجنّ في ذلك. وأما الصيحة التي يصيحها المضروب، فإنها غير مألوفة للإنس والجنّ جميعًا، لكون سببها عذاب اللَّه، ولا شيء أشدّ منه على كلّ مكلّف، فاشترك فيه الجنّ والإنس. واللَّه تعالى أعلم.

واستُدلّ به على أن كلام الميت يسمعه كلّ حيوان ناطق، وغير ناطق، لكن قال ابن بطّال: هو عامّ أريد به الخصوص، وأن المعنى يسمعه من له عقل، كالملائكة، والجن، والإنس، لأن المتكلّم روح، وإنما يسمع الروحَ من له روح مثله.

وتُعُقّب بمنع الملازمة، إذ لا ضرورة إلى التخصيص، بل يستثنى إلا الإنسان، كما هو ظاهر الخبر، وإنما اختصّ الإنسان بذلك إبقاء عليه، وبأنه لا مانع من إنطاق اللَّه الجسد بغير روح، كما تقدّم. انتهى

(2)

.

والحاصل الصواب أن جسد الميت يتكلّم، وأنه يسمعه كل شيء، إلا المستثنى، وهو الإنسان، كما هو ظاهر النصّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان ..

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

(1)

- الصعَقُ محرّكة: شدة الصوت، أي صاح صيحة شديدة.

(2)

- قال السنديّ رحمه الله: وهذا مبنيّ على أن المراد لو سمعه أحياناً، وإلا فلو سمعه على الدوام لما بقي غير مألوف، واللَّه أعلم انتهى "شرح السنديّ" ج 3 ص 41 ..

ص: 73

حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا أخرجه البخاريّ.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -44/ 1909 - وفي "الكبرى" 44/ 2036. وأخرجه (خ) 1314 و1380 (أحمد) 10979 و 11158 (ابن حبان) 3038 و 3039. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو السرعة بالجنازة، ووجه ذلك أن هذا الحديث في معنى الحديث الذي بعده، حيث إن فيه تقسيم الجنائز إلى قسمين، صالحة تقول: قدموني، قدموا، وغير صالحة، تقول: أين يذبون بها؟، فيطلب الإسراع بهما، لأن الصالح يستريح بلقاء ما قدّمه من أعماله الصالحة، وغير الصالح يستريح منه الرجال الذين يحملونه بوضعه عن رقابهم. ومنها: مشروعية حمل الجنازة للرجال، دون النساء. ومنها: إثبات كلام الميت، وهو على الجنازة. ومنها: أن كلامه يسمعه كل شيء، غير الإنسان. ومنها: لطف اللَّه تعالى بالإنسان، حيث لم يُسمعه كلام الموتى، إذ لو أسمعه، لمات، أو غشي عليه، ولو قُدِّر أنه يعيش لتعطلت مصالحه، فلا يُحسِن القيام بمعيشته الدنيويّة. ومنها: أن ما بعد الموت، من جملة أمور الآخرة التي لا يُوصَل إلى معرفتها إلا عن طريق الوحي، فلا مدخل للعقل فيها، فلا يقاس بعض أمورها على بعض، بل يُقتصر فيها على ما ورد عن الشارع الحكيم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة:

استدلّ الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بقوله: "فاحتملها الرجال" على منع النساء من حمل الجنازة، وإن كان الميت امرأةً، فقد بوّب على هذا الحديث بقوله:"باب حمل الرجال الجنازة، دون النساء". قال ابن رُشيد: ليست الحجة من حديث الباب ظاهرةً في منع النساء، لأنه من الحكم المعلّق على شرط، وليس فيه أن لا يكون الواقع إلا ذلك، ولو سُلّم فهو من مفهوم اللقب. ثم أجاب بأن كلام الشارع مهما أمكن حمله على التشريع، لا يُحمل على مجرّد الإخبار عن الواقع، ويؤيده العدول عن المشاكلة في الكلام، حيث قال:"إذا وُضعت، فاحتملها الرجال"، ولم يقل: فاحْتُمِلت، فلما قُطِعَ احتُملت عن مشاكلة وُضِعَت دلّ على قصد تخصيص الرجال بذلك، وأيضًا، فجواز ذلك للنساء، وإن كان يؤخذ بالبراءة الأصليّة، لكنه معارض بأن في الحمل على الأعناق، والأمر بالإسراع مظنّة للانكشاف غالبًا، وهو مباين للمطلوب منهنّ من التستّر مع ضعف نفوسهنّ عن مشاهدة الموتى غالبًا، فكيف بالحمل، مع ما يتوقّع من

ص: 74

صراخهنّ عند حمله، ووضعه، وغير ذلك، من وجوه المفاسد انتهى ملخّصًا.

قال الحافظ رحمه الله: وقد ورد ما هو أصرح من هذا في منعهنّ، ولكنه على غير شرط البخاريّ، ولعله أشار إليه، وهو ما أخرجه أبو يعلى من حديث أنس رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في جنازة، فرأى نسوة، فقال:"أتحملنه؟ "، قلن: لا، قال:"أتدفِنّه؟ " قلن: لا، قال: فارجعن مأزورات، غير مأجورات".

وقد نقل النوويّ في "شرح المهذّب" أنه لا خلاف في هذه المسألة بين العلماء، والسبب فيه ما تقدّم، ولأن الجنازة لا بدّ أن يشيّعها الرجال، فلو حملها النساء، لكان ذلك ذريعةً إلى اختلاطهنّ بالرجال، فيفضي إلى الفتنة انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1910 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً، فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ، عَنْ رِقَابِكُمْ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة المشهور المكيّ [8] 1/ 1.

2 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحافظ المشهور الحجة المدنيّ [4] 1/ 1.

3 -

(سعيد) بن المسيّب الإمام الفقيه العابد الحجة المشهور المدنيّ [2] 9/ 9.

والباقيان تقدّما في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وسفيان، فمكيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رَأْسُ المكثرين من الرواية، وفيه سعيد بن المسيب أحد الفقهاء السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أي يرفع هذا الحديث، فيوصله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والجملة في محل نصب على الحال، وهذه العبارة من صيغ الرفع حكمًا، وإنما لم يصرّح الراوي بصيغة، من الصيغ المستعملة للرفع، كـ"سمعت" و"حدثني"،

(1)

- "فتح" ج 3 ص 536 - 537.

ص: 75

ونحوهما، احتياطا، حيث شك فيها، هل هي "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم"، أو "قال النبي صلى الله عليه وسلم"، أو "عن النبي صلى الله عليه وسلم"، أو نحو ذلك، فأتى بصيغة تشمل جميع ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

قال الحافظ وليّ الدين -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ما حاصله: أخرج هذا الحديث الأئمة الستة من هذا الوجه، من رواية سفيان بن عُيينة، عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة، وفي روايتهم التصريح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن في رواية أبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ:"يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم"، كما هو اللفظ الأخير هنا

(1)

وقوله في اللفظ الأول هنا: "روايةً" كناية عن الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف أعلمه انتهى

(2)

.

(قَالَ: "أَسْرِعُوا) أمر من الإسراع، والمرد به الإسراع المتوسط بين شدة السعي، وبين المشي المعتاد، بدليل حديث أبي بكرة رضي الله عنه الآتي:"وإنا لنكاد نَرْمُلُ بالجنازة رملًا"، إذ مقاربة الرمل ليس بالسعي الشديد، كما قاله الحافظ العراقي رحمه الله تعالى، وسيأتي أقوال أهل العلم في الإسراع بالمشي في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.

(بِالْجَنَازَةِ) أي بحملها، متعلق بـ "أسرعوا".

قال العلامة ابن الملقّن رحمه الله: من قال: الجنازة بالفتح للميت، وبالكسر للنعش، كما قدّمنا أول الباب يتعيّن عنده هنا قراءة قوله:"أسرعوا بالجنازة" بالفتح، لأن المقصود الإسراع بالميت، لا النعش، ويدلّ على ذلك آخر الحديث انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن المناسب هنا الكسر، لأن الجِنَازة بالكسر اسم للنعش، وعليه الميت، كما هو القول الراجح من أقوال أهل اللغة، والمقصود هنا الإسراع بالنعش، وعليه الميت، إذ لا معنى للإسراع بحمل الميت إلا مع النعش، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

قال: المراد بالإسراع هنا الإسراع بالميت، كما قلناه، فيتضمّن الأمر بحمله إلى قبره، وهو فرض كفاية. وقيل: المراد به الإسراع بتجهيزه بعد موته، لئلا يتغيّر، والأول أظهر، وعليه الجمهور.

قال النوويّ: والثاني باطل، مردود بقوله صلى الله عليه وسلم:"فشرّ تضعونه عن رقابكم".

وقال القرطبيّ: لا يبعد أن يكون كلّ واحد منهما مطلوبا، إذ مقتضاه مطلق الإسراع، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقيّده بقيد.

(1)

-يعني اللفظ الواقع في متن "تقريب الأسانيد" لوالده الحافظ العراقي الذي شرح هو بعضه، وبعضه لوالده في شرح سماه "طرح التثريب".

(2)

- "طرح" ج 3 ص 288.

ص: 76

وقال الفاكهيّ: ما ردّه النوويّ جمود على ظاهر لفظ الحديث، وإلا فيحتمل حمله على المعنى، فإنه قد يُعبّر بالحمل على الظهر، أو العنق عن المعاني، دون الذوات، فيقال: حمل فلان على ظهره، أو على عنقه ذنبًا، أو نحو ذلك، ليكون المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم:"فشرّ تضعونه عن رقابكم"، إنكم تستريحون من نظر من لا خير فيه، أو من مجالسته، ونحو ذلك، فلا يكون في الحديث دليل على ردّ قول هذا القائل، ويقوّي هذا الاحتمال أن كلّ حاضري الميت لا يحملونه، إنما يحمله القليل منهم، لا سيّما اليوم، فإنما يحمله في الغالب مَن لا تعلّق له به. انتهى

(1)

.

قال الحافظ رحمه الله: ويؤيده -يعني كلام الفاكهيّ- حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مات أحدكم، فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره". أخرجه الطبرانيّ بإسناد حسن، ولأبي داود من حديث حصين بن وحوح، مرفوعًا: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله

" الحديث. انتهى

(2)

. وقال ابن قدامة رحمه الله: هذا الأمر بالإسراع للاستحباب، بلا خلاف بين العلماء، وشذّ ابن حزم، فقال بوجوبه انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أنه لا وجه للردّ على ابن حزم رحمه الله

تَعَالَى-، لأن ظاهر النصّ معه، إذ هو أمر، والأمر للوجوب، إلا لدليل، ولا دليل ذكروه هنا، إلا دعوى الإجماع الذي أشار إليه، فإن صحّ فذاك، وإلا فما قاله ابن حزم هو الحقّ، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(فَإِنْ تَكُ) هو في الموضعين بحذف النون، والأصل "تكون"، فدخل الجازم، فأسكن النون، فاجتمع ساكنان، الواو والنون، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، ثم حذفت النون تخفيفًا لكثرة الاستعمال، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:

وَمِنْ مُضَارعٍ لِكَانَ مُنْجَرِمْ

تُحْذَفُ نُون وَهْوَ حَذْفٌ مَا الْتُزِمْ

واسم "كان" المستترة يعود إلى الجنازة بمعنى الجثّة المحمولة، قال الطيبيّ: جُعلت الجنازة عين الميت، وجُعلت الجنازة التي هي مكان الميت مقدّمة إلى الخير الذي كُني به عن عمله الصالح انتهى (صَالِحَةً) خبر "كان"(فَخَيْرٌ) الظاهر أن التنوين فيه، وفي "شرّ" للتعظيم، أي خير عظيم، وشرّ عظيم.

قال العلامة ابن الملقّن -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "خير"، و"شرّ" فيه إعرابان:

(1)

- "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" ج 4 ص 469 - 470.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 539.

ص: 77

الأول: أن يكونا مبتدأين، والخبر محذوف، أي فلها خير، ولها شرّ، وساغ الابتداء بالنكرة، لكون فاء الجزاء وليتهما، فهما من باب قولهم: إن مضى عَيْرٌ، فعَيْرٌ في الرباط.

الثاني: أن يكونا خبرين محذوفي المبتدإ، والتقدير: فهي، وهي، أي ذات خير، وذات شرّ.

وأما الجملتان اللتان بعدهما، وهما "تقدّمونها"، و"تضعونها"، فصفة لهما انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "فخير" خبر مبتدإ محذوف، أي فهو خير، أو مبتدأ خبره محذوف، أي فلها خير، أو فهناك خير، ويؤيده رواية مسلم

(2)

بلفظ: "قرّبتموها إلى الخير"، ويأتي في قوله بعدُ "فشرّ" نظير ذلك انتهى

(3)

.

وقال السنديّ: الظاهر أن التقدير: فهي خير، أي الجنازة بمعنى الميت، لمقابلته بقوله:"فشرّ"، فحينئذ لا بدّ من اعتبار الاستخدام في ضمير "إليه" الراجع إلى الخير، ويمكن أن يقدّر: فلها خير، أو فهناك خير، لكن لا يُساعده المقابلة، واللَّه تعالى أعلم انتهى

(4)

.

(تُقَدِّمُونَهَا) بتشديد الدال، والجملة في محلّ رفع صفة لـ"خير" (إِلَيْهِ) أي إلى الخير الذي أعدّه اللَّه لها من النعيم المقيم. وقال في "الفتح": الضمير راجع إلى الخير، باعتبار الثواب، قال ابن مالك: روي: "تقدّمونه إليها" فأنث الضمير على تأويل الخير بالرحمة، أو الحسنى انتهى.

وقال القاري -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: أي فإن كان حال ذلك الميت حسنًا طيّبًا، فأسرعوا به حتى يصل إلى تلك الحالة الطيّبة عن قريب انتهى (وَإِنْ تَكُ) أي الجنازة (غَيْرَ ذَلِكَ) أي غير صالحة (فَشَرٌّ) إعرابه كإعراب نظيره، وهو قوله:"فخير"(تَضَعُونَهُ، عَنْ رِقَابِكُمْ") أي فلا مصلحة لكم في مصاحبتها، وملابستها، لأنها بعيدة عن -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-.

[تنبيه]: في هذا الحديث تعليل الأمر بالإسراع بتقديم الصالحة إلى الخير، والتعجيل بوضع غير الصالحة عن الرقاب، وقد أشير في حديث آخر إلى تعليل بعلة أخرى، وهي مخالفة أهل الكتاب، أو اليهود خاصّة:

ففي "مسند أحمد

(5)

" عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا تبع

(1)

- "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" ج 4 ص 471.

(2)

- وهي الرواية الآتية للمصنف بلفظ: "قدّمتموها إليه".

(3)

- "فتح" ج 3 ص 539.

(4)

- "شرح السندي" ج 3 ص 42 - 43.

(5)

- لكن الحديث لا يصحّ، لأن في سنده عبد الحكيم قائد سعيد بن أبي عروبة، قال الدارقطني: يُترك انتهى. انظر "ميزان الاعتدال" ج 2 ص 537 و"لسان الميرزان" ج 3 ص 394. وتصحّف في "المسند" إلى عبد الحَكِمَ. فليُتنبّه.

ص: 78

جنازة، قال:"ابسطوا بها، ولا تدِبُّوا دَبيب اليهود بجنائزها". وفي "مصنّف ابن أبي شيبة"، عن عمران بن حُصين، أنه أوصى: إذا أنا متّ، فأسرعوا، ولا تُهوّدوا

(1)

، كما تُهوّد اليهود والنصارى". وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع رجلا يقول: ارفقوا بها رحمكم اللَّه، فقال: هوّدوا

(2)

، لتسرعوا بها، أو لأرجعنّ. وعن إبراهيم النخعيّ: كان يقال: ابسطوا بجنائزكم، ولا تدبّوا بها دبّ اليهود. وعن علقمة: لا تدبّوا بالجنازة دبيب النصارى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا - 44/ 1910 و 1911 وفي "الكبرى" 537/ 244 و 2038 وأخرجه (خ) 1315 (م) 944 (د) 3181 (ت) 1015 (ق) 1477 (أحمد) 2730 و 7229 و 9959 (مالك في الموطإ)574. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنّف رحمه الله، وهو الإسراع بالجنازة، والمراد به الإسراع المتوسط الذي لا يُخشى معه سقوط الميت، ونحوه، لكن إن خُشي على الميت من التأخير تغيّر، أو انفجار، أو انتفاخ زيد في الإسراع، وعكسه، إن خشي من الإسراع أن يحدث انفجار مثلاً فلا يُسرع، قال الشافعي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: فإن كان بالميت علّة، يُخاف أن يتنجّس منه شيء، أحببت أن يُرفق بالمشي انتهى

(4)

.

قال ابن الملقّن رحمه الله: وكره بعضهم الإسراع، وهو محمول على الإسراع المحذور. قال: ولا تُؤخّر لزيادة مصلّين، ولا لانتظار أحد غير الوليّ، فيُنتظر لأجله، إن لم يُخَف تغيّرها انتهى.

ومنها: أنه يستدلّ به على أن حمل الجنازة يختصّ بالرجال، للإتيان فيه بضمير المذكر، ولا يخفى ما فيه. قاله في "الفتح"

(5)

. وقال ابن الملقّن رحمه الله: الخطاب

(1)

- من معاني التهويد على ما ذكره في "ق": الإبطاء في السير.

(2)

- قوله: "هوّدوا" هكذا نسخة "الطرح"، ولعل الصواب "لا تهودوا"، فليحرّر.

(3)

- انظر "المصنّف" ج 3 ص 281 - 282. و"طرح التثريب" ج 3 ص 292.

(4)

- نقله في "الطرح" ج 3 ص 292.

(5)

- "فتح" ج 3 ص 539.

ص: 79

بالإسراع للرجال، فإن النساء يضعفن عن الحمل، وربّما انكشف بعض أبدانهنّ انتهى.

(1)

ومنها: استحباب المبادرة إلى دفن الميت، لكن بعد أن يُتَحَقّق أنه مات، أما مثل المطعون، والمفلوج، والمسبوت

(2)

، فينبغي أن لا يُسرع بدفنهم حتى يمضي يوم وليلة، ليُتَحقّق موتهم، نبّه على ذلك ابن بزيزة.

(3)

ومنها: أن فيه إكرام أهل الخير والصلاح، إذا ماتوا بالمبادرة إلى الوصول إلى جزاء ما قدّموه، من الأعمال الصالحة، وجزؤها من فضل اللَّه تعالى ورحمته. ومنها: أن فيه تقليل مصاحبة أهل الشرّ، إلا فيما شُرع عند موتهم، كتجهيزهم، ودفنهم، وذلك لبعدهم عن رحمة اللَّه تعالى، فلا مصلحة في مصاحبتهم، وكذا ينبغي اجتناب مصاحبة أهل البَطَالة، وغير الصالحين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في مشروعية الإسراع بالجنازة، وفي حدّه: قال الحافظ وليّ الدين -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: حكى البيهقيّ في "المعرفة" عن الشافعيّ: أن الإسراع بالجنازة هو فوق سجيّة المشي، وحكى عنه ابن المنذر، وابن بطّال أنه سجيّة المشي، والأول أثبت، ويوافقه قول أصحابنا، وهذه عبارة الرافعيّ والنوويّ: المراد بالإسراع فوق المشي المعتاد، دون الخَبَب، وكذا قال الحنفيّة، وهذه عبارة صاحب "الهداية": ويمشون به مسرعين، دون الخبب. وحكى ابن قُدامة، عن القاضي، من الحنابلة أن المستحبّ إسراع، لا يخرج عن المشي المعتاد، قال: وهو قول الشافعيّ، قال: وقال أصحاب الرأي: يَخُبّ، ويرمُلُ.

وقال ابن المنذر بعد ذكره هذا الحديث: وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعمران ابن حُصين، وأبي هريرة، قال: وقال الشافعيّ: يسرع بالجنازة إسراع السجيّة، مشي الماشي، قال: وقال أصحاب الرأي: العجلة أحبّ إلينا من الإبطاء بها. وروى ابن أبي شيبة الوصيّةَ به عن عمر، وعمران بن حُصين، وأبي هريرة، وعلقمة، وأبي وائل،

(1)

- "الإعلام" ج4 ص 470.

(2)

- المطعون" هو المصاب بالاعون، وهو داء معروف. و"المفلوج": هو المصاب بالفالج. و "المسبوت": هو المصاب بالغشية، يقال: سُبت المريض: إذا غُشي عليه.

وقد اعترض بعض المحققين على تحديد تحقق موت مثل هؤلاء باليوم والليلة، وقال: الأولى عدم التحديد، بل يُرجَع إلى العلامات الدالة على الموت، فمتى وُجد منها ما يدلّ على يقين الموت اكتفي بذلك، وإن لم يمض يوم وليلة انتهى.

قال الجامع: هو وجيه حسنٌ. واللَّه تعالى أعلم.

(3)

- راجع "الفتح" ج 3 ص 539 - 540.

ص: 80

وعلي بن الحسين.

وعن أبي الصدّيق الناجيّ: إن كان الرجل ليتقطّع شِسْعُهُ في الجنازة، فما يدركها، وما يكاد أن يدركها. وعن ابن عمر: لَتُسرعنّ بها، أو لأرجعنّ. وعن الحسن، ومحمد

(1)

أنهما كانا يعجبهما أن يسرع بالجنازة. وكان الحسن إذا رأى منهم إبطاء قال: امضوا، لا تحبسوا ميتكم. وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أن أباه أوصاه، فقال: إذا أنت حملتني على السرير، فامش بي مشيًا بين الماشيين.

وحكى الطحاوي في المسألة خلافًا، فحكى عن قوم أن السرعة بالجنازة أفضل، قال: وهو قول أبي حنيفة، وصاحبيه، وجمهور العلماء، قال: وخالفهم آخرون، وقالوا: المشي بها مشيًا ليّنا أفضل.

وقال القاضي عياض: معنى هذا الإسراع عند بعضهم ترك التراخي في المشي بها، والتباطؤ، والزَّهْوِ في المشي، ويكره الإسراع الذي يشقّ على من تبعها، ويحرك الميت، وربما كان سبب خروج شيء منه، وعلى هذا حملو نهي مَن نهى من السلف عن الدَّبيب بها دبيب اليهود، وأمر بالإسراع، وجمعوا بينه وبين من رُوي عنه النهي عن الإسراع. واستدلّوا بما جاء في الحديث مفسّرًا عنه صلى الله عليه وسلم:"هو ما دون الْخَبَب"، وفي حديث آخر:"عليكم بالقصد في جنائزكم".

وهو قول جمهور العلماء، وأبي حنيفة، وأصحابه، والشافعيّ، وابن حبيب من أصحابنا، وحمل بعضهم ما جاء في ذلك من الآثار عن السلف على الخلاف في المسألة، والجمع بينهما على ما تقدّم انتهى.

ورجّح القاضي عياض نفي الخلاف في المسألة، وأن من أمر بالإسراع أراد به المتوسّط، ومن نهى عنه أراد المفرط، ويوافق هذا كلام النوويّ، فإنه بعد أن نقل عن الشافعية وغيرهم استحباب الإسراع، قال: وجاء عن بعض السلف كراهة الإسراع، وهو محمول على الإسراع المفرط الذي يُخاف معه انفجارها، أو خروج شيء منها انتهى.

قال الحافظ ولي الدين رحمه الله: ولنذكر الأحاديث في ذلك، فنقول:

روى أبو داود بسند صحيح من رواية عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه: أنه كان في جنازة عثمان بن أبي العاص، وكنا نمشي مشيًا خفيفًا، فلَحِقَنا أبو بكرة، فرفع سوطه، وقال:"لقد رأيتنا، ونحن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نرمُلُ رَمَلًا". وفي رواية له: "في جنازة

(1)

- أي الحسن البصري، ومحمد بن سيرين.

ص: 81

عبد الرحمن بن سمُرة"، بدل "عثمان بن أبي العاص"، ورواه النسائيّ

(1)

، وقال في روايته:"عبد الرحمن بن سمُرة"، وقال:"وإنا لنكاد نَرْمُلُ بها رَمَلاً". وروه الحاكم في "مستدركه" مختصرًا بدون القصّة التي في أوله، بلفظ:"وإنا لنكاد"، وصحّح إسناده.

وروى أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، من رواية أبي ماجدة، عن ابن مسعود، قال: سألنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة؟، فقال:"ما دون الخبب" الحديث. قال الترمذيّ: حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن مسعود، إلا من هذا الوجه، وسمعت محمد بن إسماعيل يضعّفه، وقال: قال الحميديّ: قال ابن عُيينة: قيل ليحيى: مَن أبو ماجدة هذا؟ قال: طائر طار، فحدّثنا.

وقال النوويّ: اتفقوا على ضعفه، وأن أبا ماجدة مجهول، منكر الحديث.

وفي "الصحيحين" عن عطاء، قال: حضرنا مع ابن عبّاس جنازة ميمونة رضي الله عنهما بسَرِفَ، فقال ابن عبّاس:"هذه ميمونة، إذا رفعتم نعشها، فلا تزعزعوه، ولا تزلزلوه، وارفُقُوا".

وفي "مصنّف ابن أبي شيبة" عن أبي موسى، قال: مُرّ على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، وهي تَمْخَضُ

(2)

كما يمخض الزِّقُّ، فقال:"عليكم بالقصد في جنائزكم". ورواه البيهقيّ في "سننه" بلفظ: "عليكم بالقصد في المشي بجنائزكم".

قال الجامع: وفي سنده ليث بن أبي سُليم، وهو متروك. واللَّه تعالى أعلم.

قال ولي الدين: واستدلّ والدي رحمه الله في "شرح الترمذيّ" على أن المراد التوسط بين شدّة السعي، وبين المشي المعتاد بقوله في حديث أبي بكرة:"وإنا لنكاد أن نرمل"، قال: ومقاربة الرمَل ليس بالسعي الشديد. قال ولي الدين: وقد عرفتَ أن لفظ أبي داود "نرمُلُ". وأجاب والدي عن قول ابن عباس أنه -واللَّه أعلم- أراد الرفق في كيفية الحمل، لا في كيفية المشي بها، فإنه خَشِي أن تسقط، أو تنكشف، أو نحو ذلك، قال: وإن أراد الرفق في السير، فيحتمل أنه كان حصل لها ما يُخشى معه انفجارها، إن أزعجوها في السير، أو أن هذا رأي لابن عباس، والحديث المرفوع أولى بالاتباع انتهى.

وجزم النووي في "الخلاصة" بذلك الاحتمال، فبوّب على هذه القضية "كراهة شدة الإسراع، مخافة انفجارها"، وكذا بوّب عليه قبله البيهقيّ انتهى كلام ولي الدين -رحمه اللَّه تعالى-

(3)

.

(1)

- هو الحديث الآتي بعد هذا.

(2)

- أي تتحرّك، وتضطرب.

(3)

- "طرح التثريب" ج 3 ص 290 - 291.

ص: 82

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تلخّص من هذه الأقوال، وأدلتِها أن الصواب مشروعية الإسراع بالجنازة، لصحة النصوص الواردة في ذلك، كما في أحاديث الباب، لكن يكون إسراعًا لا يؤدي إلى أمر محظور، من سقوط الميت، أو انفجاره، أو حصول الضرر لمن يتبع الجنازة، وبهذا يجمع بين مذهب القائلين بالإسراع، وبين من حُكِي عنهم النهي عنه، فلا اختلاف بينهم في الحقيقة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1911 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً، قَدَّمْتُمُوهَا

(1)

إِلَى الْخَيْرِ

(2)

، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَانَتْ شَرًّا تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ»).

رجال هذا الإسناد: ستة، وكلهم تقدّموا قريبًا. و"سويد": هو ابن نصر. و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك. و"يونس": هو ابن يزيد الأيلّي. و"الزهريّ": هو محمد بن مسلم. و"أبو أمامة بن سهل": هو أسعد بن سهل بن حُنيف.

والحديث متفق عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1912 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عُيَيْنَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يُونُسَ

(3)

، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: شَهِدْتُ جَنَازَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، وَخَرَجَ زِيَادٌ، يَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ السَّرِيرِ، فَجَعَلَ رِجَالٌ، مِنْ أَهْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَوَالِيهِمْ، يَسْتَقْبِلُونَ السَّرِيرَ، وَيَمْشُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَيَقُولُونَ: رُوَيْدًا، رُوَيْدًا، بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ، فَكَانُوا يَدِبُّونَ دَبِيبًا، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ طَرِيقِ الْمِرْبَدِ، لَحِقَنَا أَبُو بَكْرَةَ، عَلَى بَغْلَةٍ، فَلَمَّا رَأَى الَّذِي يَصْنَعُونَ، حَمَلَ عَلَيْهِمْ بِبَغْلَتِهِ، وَأَهْوَى إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ، وَقَالَ: خَلُّوا، فَوَالَّذِي أَكْرَمَ وَجْهَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّا لَنَكَادُ، نَرْمُلُ بِهَا رَمْلاً، فَانْبَسَطَ الْقَوْمُ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعانيّ البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

(1)

- وفي نسخة: "قرّبتموها".

(2)

- وفي نسخة: "إلى الجنة".

(3)

هكذا نسخة "المجتبى""ابن يونس" والظاهر أنه مُصَحَّفٌ من "ابن جَوْشَن".

ص: 83

3 -

(عُيينة بن عبدالرحمن بن يونس) بن جَوْشَن الغَطَفَانيّ الجَوْشنيّ

(1)

أبو مالك البصريّ، صدوق [7].

قال أحمد: ليس به بأس، صالح الحديث. وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ليس به بأس، وقال مرّة: ثقة. وقال ابن سعد: ثقة إن شاء اللَّه. وقال أبو حاتم: صدوق، وقال أيضًا: حدثنا علي بن محمد، ثنا وكيع، عن عيينة بن عبد الرحمن، وكان ثقة. وقال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". مات في حدود (250) روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب أربعة أحاديث.

[تنبيه]: قوله: "ابن يونس" هكذا وقع في نسخ "المجتبى"، والظاهر أنه غلطٌ، تصحّف، من "ابن جَوْشَن"، فقد ترجمه في "التقريب" ص 273 و"تهذيب التهذيب" ج 8 ص [240 - 241]، و"تهذيب الكمال" ج 23 ص [77 - 81] و"الخلاصة" ص [307] وكلهم ذكروه بأنه عُيينة بن عبد الرحمن بن جَوْشَن، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

4 -

(أبوه) عبد الرحمن بن جَوْشَن الْغَطَفَانيّ البصريّ، صِهْرُ أبي بكرة على ابنته، ثقة [3]. قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ليس بالمشهور. وقال أبو زرعة: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، إن شاء اللَّه تعالى. وقال العجليَ: عُيينة ثقة، وأبوه ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب أربعة أحاديث أيضًا.

5 -

(أبو بكرة) نُفيع بن الحارث بن كَلَدَة الثقفي صحابي مشهور نزل البصرة رضي الله عنه 41/ 836 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. (ومنها): أن أبا بكرة رضي الله عنه ممن اشتهر بهذه الكنية، وهي لقب بصورة الكنية؛ لُقب بها؛ لكونه تدلّى من حصن الطائف ببكرة البئر، فأسلم، وكنيته أبو عبد الرحمن. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن عبد الرحمن بن جَوْشَن أنه (قال: شَهِدْتُ جَنَازَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ) أي حضرتها، أو اطّلعت عليها، وعاينتها، يقال: شَهِدتُ المجلسَ، من باب علم، شهودًا:

(1)

- "عُيينة" بتحتانيتين، مصغّراً. و"جَوْشن" بجيم، ومعجمة مفتوحتين، بينهما واو ساكنة. و"الغطفانيّ" بفتح المعجمة، والمهملة، ثم فاء. اهـ "ت".

ص: 84

حضرته، فأنا شاهد، والجمع أشهاد، وشهود، وشَهِدت الشيء: اطلعت عليه، وعاينته، فأنا شاهد، وشَهِيدٌ، وعليه قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الآية [البقرة: 185]. أفاده في "المصباح".

وعبد الرحمن بن سَمُرة بن حبيب بن عبد شمس العبشميّ، أبو سعيد، صحابيّ من مسلمة الفتح، يقال: كان اسمه عبد كلال، افتتح سِجِسْتَان، ثم سكن البصرة، ومات رضي الله عنه بها سنة خمسين من الهجرة، أو بعدها، وتقدمت ترجمته في 2/ 1460.

[تنبيه]: قوله: "شهدت جنازة عبد الرحمن بن سمرة"، هذه رواية الجماعة: إسماعيل ابن علية، ويحى بن سعيد القطان، ووكيع بن الجرّاح، وخالد بن الحارث الهجيمي، وعيسى بن يونس، كلهم عن عُيينة، عن أبيه، فقالوا: "جنازة عبد الرحمن ابن سمرة، وخالفهم شعبة، عن عيينة، فقال: جنازة عثمان بن أبي العاص

(1)

وروايته شاذّة، والمحفوظ رواية الجماعة. واللَّه تعالى أعلم.

(وَخَرَجَ زِيَادٌ) لعله أراد زياد ابن أبيه، لأنه كان أميرًا (يَمْشِي بَينَ يَدَي السَّرِيرِ) أي أمام الجنازة (فَجَعَلَ رِجَالٌ، مِنْ أَهْل عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن سمرة رضي الله عنه (وَمَوَالِيَهِمْ) وفي نسخة: "ومواليه"(يَسْتَقْبِلُونَ السَّرِيرَ) أَي يواجهونه (وَيَمْشُونَ عَلَى أَعْقَابهمْ) أي وراءهم (وَيَقُولُونَ: رُوَيْدًا، رُوَيْدًا) أي أمهلوا، ولا تسرعوا في المشي (بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ) جملة دعائية، أرادوا بها حَثّ الناس على عدم الإسراع (فَكَانُوا) أي الناس الذين حملوا جنازته (يَدِبُّونَ دَبيبًا) أي يُبطئون في المشي، يقال: دب الصغير يَدِبّ، من باب ضرب، دَبيبًا، ودبّ الجَيشُ دَبيبًا أيضا: ساروا سيرًا ليّنا. قاله في "المصباح، ونحوُهُ في "ق" (حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ طَرِيقِ الْمِرْبَدِ) بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الباء: اسم موضع بالبصرة، سمي به لأنهم كانوا يَحبسون فيه الإبل. أفاده في "اللسان" (لَحِقَنَا أَبُو بَكْرَةَ) بكسر الحاء المهملة، يقال: لَحِقته، ولحقت به، من باب تَعِب، لَحَاقًا: أدركته. أي أدركَنَا أبو بكرة رضي الله عنه (عَلَى بَغْلَة) متعلّق بحال مقدّر، أي حال كونه راكبًا على بغلة.

والبَغلة بفتح، فسكون: الأنثى من ولد الفرس من الحمار، وجمعها بَغَلات، مثلُ سجْدَة، وسَجَدَات، وبِغَالٌ بالكسر، والذكر بَغْلٌ، وجمعه في القلّة أَبْغَالٌ، وفي الكثرة بغَالْ (فَلَمَّا رَأَى الَّذِي) وفي نسخة:"الذين"(يَصْنَعُونَ) أي لما رأى أبو بكرة رضي الله عنه عَمَلَ أَهلِ عبد الرحمن، من حملهم الناس على عدم الإسراع (حَمَلَ عَلَيْهِمْ بِبَغْلَتِهِ) أي شَدّ في ركوبه نحوهم، ليحثّهم على الإسراع (وَأَهْوَى إِلَيْهِمْ) وفي نسخة:"لهم"(بِالسَّوْطِ) أي

(1)

- انظر "السنن الكبرى" للبيهقيّ ج 4 ص 22.

ص: 85

مدّ يده بالسوط نحوَهم، ليسوقهم به، ويُهَدِّدهم، حيث تركوا السنة، وهو الإسراع بالجنازة (وَقَالَ: خَلُّوا) أي اتركوا فعلكم هذا، ودعوا الناس يسرعون بالجنازة، كما هو السنّة.

وفيه فضل أبي بكرة رضي الله عنه، حيث أزال المنكر، امتثالًا لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك، حيث قال:"من رأى منكم منكرًا، فليغيّره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". رواه مسلم (فَوَالَّذِي أَكْرَمَ وَجْهَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم) إنما خصّ الوجه، لأنه مجمع شرف الإنسان، ومظهر محاسنه، أو أراد به ذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم، وإنما آثر القسم بهذه الصيغة حثّا لهم، وتأكيدًا على أن هذا الأمر من سنته صلى الله عليه وسلم، فينبغي التمسّك به، والاهتمام باتباعه (لَقَدْ رَأَيْتُنَا) أي رأيت نفسي، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّا لَنَكَادُ) أي نقرُب (نَرْمُلُ بِهَا رَمَلاً) أي نسرع بالجناز، يقال: رَمَلَ رَمَلًا، من باب طَلَب، ورَمَلَانًا أيضًا: إذا هَرْوَل

(1)

. قاله في "المصباح"(فَانْبَسَطَ الْقَوْمُ) أي انشرحوا لما سمعوا من أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم في المشي بالجنازة هو الإسراع، خلاف ما هم عليه، ويحتمل أن يكون المعنى: فانبسطوا بسبب فتح الريق لهم، وتمكُّنِهِم من الإسراع بعد أن كانوا متضايقين بمنعهم عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي بكرة رضي الله عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -44/ 1912 و 1913 وفي "الكبرى" 44/ 2039 و 2040 وأخرجه (د) 3182 (أحمد) 19862 و 19875 و 19887، وبقية المسائل تقدّمت قريبًا، والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1913 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَهُشَيْمٍ، عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ:"لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّا لَنَكَادُ نَرْمُلُ بِهَا، رَمَلاً". وَاللَّفْظُ

(2)

حَدِيثُ هُشَيْمٍ.

(1)

- قال في "المصباح": هَرْول: أسرع في مشيه، دون الْخَبَب، ولهذا يقال: هو بين المشي والْعَدْو، وجعل جماعة الواوَ أصلا انتهى.

(2)

- وفي نسخة: "وهذا اللفظ".

ص: 86

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(علي بن حُجر) المروزيّ، ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 13.

2 -

(إسماعيل) بن إبراهيم ابن عُليّة البصريّ، ثقة ثبت [8] 18/ 19.

3 -

(هُشيم) بن بَشير الواسطيّ، ثقة حافظ يدلّس ويرسل [7] 88/ 109.

[تنبيه]: قوله: "وهُشيمٍ" بالجرّ عطفًا على إسماعيل، فكلاهما يروي عنهما علي بن حُجر، ويرويان عن عُيينة بن عبد الرحمن، فما يوجد في نسخ "المجتبى" مرفوعًا بضبط القلم، فغلط، فليُتنبّه.

والباقون تقدّموا في السند الذي قبله. والحديث صحيح، ومضى شرحه، وبيان مسائده في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1914 -

أَخْبَرَنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ دُرُسْتَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَحْيَى، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِذَا مَرَّتْ بِكُمْ جَنَازَةٌ، فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا، فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أورده المصنف، كما هو في نسخ "المجتبى" التي بين يديّ في هذا الباب، ولا مطابقة بينهما، وإنما هو من أحاديث الباب التالي، كما هو صنيعه في "السنن الكبرى" حيث أورده فيه ج 1 ص -625 - 626 - رقم -2044 - .

وقد جرت للمصنف عادة غريبة، حيث يورد في بعض المواضع في آخر الباب حديثًا من أحاديث الباب الذي يليه، ولعله لبيان المناسبة بين البابين، واللَّه تعالى أعلم.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يحى بن دُرُستَ

(2)

) بن زياد البصريّ، ثقة [10] 23/ 24.

2 -

(أبو إسماعيل) القَنَّاد إبراهيم بن عبدالملك البصريّ، صدوق في حفظه شيء [7] 23/ 24.

3 -

(يحى) بن أبي كثير، أبو نصر اليماميّ، ثقة ثبت، يدلّس، ويرسل [5] 23/ 24.

4 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، ثقة فقيه [3] 1/ 1.

5 -

(أبو سعيد) الخُدْريّ سعد بن مالك رضي الله عنهما 169/ 262. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- وفي نسخة: "أخبرني"

(2)

- بضمتين، وسكون المهملة. اهـ "التقريب".

ص: 87

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ يحيى، عن أبي سلمة. (ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو أبو سلمة. (ومنها): أن أبا سعيد رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة روى (1170) من الأحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي سَعِيدِ الخدريّ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِذَا مَرَّتْ بكُمْ جَنَازَةٌ) تقدّم ضبطه بالفتح، والكسر (فَقُومُوا) فيه الأمر بالقيام للجنازة، إذا مرّت بالمكلّف القاعد، وإن لم يقصد تشييعها، والمراد عموم كلّ جنازة، من مؤمن وغيره، كما سيأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام لجنازة يهوديّ مرّت به، وعلّل ذلك بأنها نفس، وفي رواية بأن الموت فَزَعٌ، كما سيأتي في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى (فَمَنْ تَبِعَهَا، فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ") يحتمل أن المراد حتى توضع على الأرض، أو توضع في اللحد. وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه باللفظين، إلا أن البخاريّ أشار إلى ترجيح رواية "حتى توضع بالأرض"، حيث قال:"باب من تبع جنازة، فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال"، وصرّح أبو داود بترجيحها، حيث قال بعد رواية حديث أبي سعيد رضي الله عنه من طريق سهيل بن أبي صالح، بلفظ:"إذا تبعتم الجنازة، فلا تجلسوا حتى توضع": ما نصّه: وروى الثوريّ هذا الحديث، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال فيه:"حتى توضع بالأرض"، ورواه أبو معاوية، عن سهيل، قال:"حتى توضع في اللحد"، وسفيان أحفظ من أبي معاوية انتهى.

وكذا قال الأثرم، قال الحافظ: رحمه الله: ورواه جرير، عن سهيل، أي عن أبي صالح، عن أبي سعيد، فقال:"حتى توضع" حسبُ، وزاد سهيل:"ورأيت أبا صالح لا يجلس حتى توضع عن مناكب الرجال". أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" بهذه الزيادة، والبيهقيّ ج 4 ص 26 وهو في مسلم بدونها. قال الحافظ: ورجح رواية "حتى توضع بالأرض" عند البخاريّ بفعل أبي صالح، لأنه رواي الخبر، وهو أعرف بالمراد منه.

ورواية أبي معاوية مرجوحة، كما قال أبو داود انتهى.

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- "فتح" ج 3 ص 532.

ص: 88

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي سعيد الخدريّ هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا - 45/ 1914 و 1917 و 1918 و 1919 و80/ 1998. وفي "الكبرى" 45/ 2043 و 2044 و 2045 و 2046 و 80/ 2125. وأخرجه (خ) 1309 و1310 (م) 962 (د) 3173 (ت)1043. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو الأمر بالقيام للجنازة

(1)

. ومنها: أن هذا الأمر للاستحباب على الراجح، وسيأتي تحقيق الخلاف، هل هو للوجوب، أم للاستحباب، أم هو منسوخ؟ في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. ومنها: أن ظاهر هذا الأمر يعمّ كل جنازة، سواء كانت لمسلم، أو لكافر، كما تدلّ عليه أحاديث الباب الثالث. ومنها: أن القيام للجنازة قد جاء تعليله في الحديث الآتي بقوله: "إن للموت فَزَعًا"، فدلّ على أن القيام لتذكر الموت، وإعظامه، وجعله من أهمّ ما يخطر بالإنسان، ولذا استوى فيه جنازة المؤمن والكافر، ويأتي أيضًا تعليله بقوله:"أليست نفسًا"، وثبت في رواية أحمد، وابن حبّان تعليله بقوله:"إنما تقومون إعظاما للذي يقبض النفوس"، وفي رواية الحاكم بقوله:"إنما قمنا للملائكة"، ولا تنافي بين هذه الروايات، كما سيأتي بيان ذلك قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى (ومنها): ما قاله في "الفتح" من أن حديث أبي سعيد هذا أبين سياقًا من حديث عامر بن ربيعة الآتي بعده، وهو يوضّح أن المراد بالغاية المذكورة مَن كان معها، أو مشاهدًا لها، وأما من مرّت به، فليس عليه القيام إلا قدر ما تمرّ عليه، أو توضع عنده بأن يكون بالمصلَّى مثلاً. وروى أحمد من طريق سعيد بن مَرْجَانة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"من صلى على جنازة، فلم يمش معها، فليقم حتى تغيب عنه، وإن مشى معها، فلا يجلس حتى توضع". وفي هذا السياق بيان لغاية القيام، وأنه لا يختصّ بمن مرّت به، ولفظ القيام يتناول من كان قاعدًا، فأما من كان راكبًا، فيحتمل أن يقال: ينبغي له أن يقف، ويكون الوقوف في حقّه كالقيام في حقّ القاعد انتهى.

(2)

ومنها: أنه يستفاد من قوله: "فمن تبعها فلا يقعد الخ" على أن شهود الجنازة لا يجب على الأعيان، ووجه ذلك أنه يدلّ على أن من لم يتبعها لا يقوم إلى أن توضع،

(1)

هذا بالنسبة لأصل وضعه، وهو الذي صنعه في "الكبرى" وإلا فقد ذكره هنا في "المجتبى" في آخر باب "السرعة بالجنازة" فتنبّه.

(2)

- "فتح" بتصرّف ج 3 ص 533.

ص: 89

بل حتى تخلّفه، فدلّ على أنه إن شاء اتبعها، ولا يجلس حتى توضع، وإن شاء لم يتبعها، ولكن يقوم حتى تخلّفه، وأصرح من هذا ما يأتي في حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه، بلفظ: "فلم يكن ماشيًا معها

". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في حكم القيام للجنازة:

قال الإمام أبو بكر ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: قد اختلف أهل العلم في القيام للجنائز إذا مرّت، فقالت طائفة: يقوم لها، فعل ذلك أبو مسعود البدريّ، وأبو سعيد الخدريّ، وقيس بن سعد، وسهل بن حُنيف، وسالم بن عبد اللَّه.

ورأت طائفة أن لا يقوم المرأ للجنازة تمرّ به، مُرَّ على سعيد بن المسيّب بجنازة، فلم يقم لها، وكان عروة بن الزبير يَعيب من يفعل ذلك، وقال مالك: ليس على الرجل أن يقوم للجنازة إذا رآها، ولا يقعد حتى تجاوزه، مسلما كان، أو كافرًا. وقال الشافعيّ: لا يقوم للجنازة من لا يشهدها، والقيام لها منسوخ. وقال أحمد: إن قام لم يقعد، وإن قعد فلا بأس، وكذلك قال إسحاق. وقال أحمد: قوله: "فليقم" إنما ذا على القاعد يقوم، وقال أحمد: من قام للجنازة فذاك، ومن لم يقم ذهب إلى حديث عليّ رضي الله عنه:"قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقمنا، وقعد، فقعدنا"، قال أبو عبد اللَّه: أما أنا فلا أقوم.

قال ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: مذهب أحمد، وإسحاق حسن في الوجهين انتهى

(1)

.

وقال النووي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "شرح مسلم": قال القاضي عياض: اختلف الناس في هذه المسألة، فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعيّ: القيام منسوخ، وقال أحمد، وإسحاق، وابن حبيب، وابن الماجشون: هو مخيّر. قال: واختلفوا في قيام من يشيّعها عند القبر، فقال جماعة من الصحابة والسلف: لا يقعد حتى توضع، قالوا: والنسخ إنما هو في قيام من مرّت به، وبهذا قال الأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن الحسن.

قال: واختلفوا في القيام على القبر حتى تدفن، فكرهه قوم، وعمل به آخرون، روي ذلك عن عثمان، وعليّ، وابن عمر، وغيرهم رضي الله عنهم. هذا كلام القاضي.

قال النوويّ: والمشهور في مذهبنا أن القيام ليس مستحبّا، وقالوا: هو منسوخ بحديث عليّ، واختار المتولي من أصحابنا أنه مستحبّ، وهذا هو المختار، فيكون الأمر به للندب، والقعودُ بيانًا للجواز، ولا يصحّ دعوى النسخ في مثل هذا، لأن النسخ

(1)

- "الأوسط" ج 5 ص 394 - 395.

ص: 90

إنما يكون إذا تعذّر الجمع بين الأحاديث، ولم يتعذر. واللَّه أعلم انتهى كلام النووي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

وقال في "الفتح": وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أكثر الصحابة، والتابعين باستحبابه، كما نقله ابن المنذر، وهو قول الأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن الحسن، ورَوَى البيهقيّ من طريق أبي حازم الأشجعيّ، عن أبي هريرة، وابن عمر، وغيرهما أن القائم مثل الحامل -يعني في الأجر- وقال الشعبيّ، والنخعيّ: يكره القعود قبل أن توضع. وقال بعض السلف: يجب القيام، واحتجّ له برواية سعيد، عن أبي هريرة، وأبي سعيد -يعني الآتية للمصنف بعد ثلاثة أحاديث-. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث علي رضي الله عنه الذي استدلّوا به على النسخ هو الآتي للمصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في - 81/ 1999 - ، ولفظه: عن علي بن أبي طالب، أنه ذُكر القيامُ على الجنازة حتى توضع، فقال عليّ بن أبي طالب: قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم قعد"، ورواه مسلم بلفظ: "قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم قعد". انظر "صحيحه" رقم - 2224 و 2225 و 2227 - .

ورواه أحمد، وابن حبّان، وغيرهما:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس". ولفظ البيهقيّ: "ثم قعد بعد ذلك، وأمرهم بالقعود".

ثم إن حديث علي باللفظ الأول لا يدلّ على النسخ، وإنما غايته أن يدلّ على أن الأمر ليس للوجوب، وأما حديثه باللفظ الثاني، فلو صحّ لكان دالّا على النسخ، لقوله فيه:"وأمرنا بالجلوس"، لكنه بهذا اللفظ لا يصحّ، لمخالفة محمد بن عمرو بن علقمة لمن هو أحفظ منه، وهو يحيى بن سعيد الأنصاريّ، كما أخرجه مسلم وغيره من طريقه، وتابعه شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن مسعود بن الحكم، وسيأتي للمصنف برقم -1999 و2000 - باللفظ الأول، وليس عندهما زيادةُ:"وأمرنا بالجلوس" وإنما هو حكاية فعله صلى الله عليه وسلم، وهو يدلّ على الندب، كما ذكرنا، لا على النسخ. وأما ما أخرجه أبو داود والترمذيّ، وابن ماجه، والبزّار عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمرّ حبر من اليهود، فقال: هكذا نفعل، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "اجلسوا، خالفوهم".

فإنه ضعيف، لأن في سنده بشر بن رافع، وقد ضعفه غير واحد، وقال عنه في

(1)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 32.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 532.

ص: 91

"ت": فقيه ضعيف الحديث، من السابعة، وفيه أيضًا عبد اللَّه بن سليمان، قال البخاريّ: فيه نظر، لا يتابع على حديثه، وأبوه سليمان، قال البخاريّ، وأبو حاتم: منكر الحديث.

وأما ما أخرجه أحمدج 1 ص 142، والحازمي في "الناسخ والمنسوخ" ص 121 من طريق أبي معمر، قال: كنا مع علي، فمر به جنازة، فقام لها ناس، فقال عليّ: من أفتاكم هذا؟ فقالوا: أبو موسى، قال: إنما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرّة، فكان يتشبه بأهل الكتاب، فلما نُهِي انتهى"، لفظ أحمد، ولفظ الحازميّ: "فلما نُسِخ ذلك، ونُهِي عنه انتهى". ففي سنده ليث بن أبي سُليم، وهو متروك.

والحاصل أن دعوى النسخ، غير صحيحة، فإن أحاديث الأمر بالجلوس، لا تصحّ، وكذا حديث عليّ المذكور الدالّ على النسخ، لا يثبت، فلا ينبغي الالتفات إليها، في نسخ تلك السنة الثابتة بالأحاديث الصحيحة من طرق جماعة من الصحابة، بل المتحتّم الأخذ بها، واعتقاد أنها مستحبّة، مَن فعلها، فقد أحسن، ومن لا، فلا لوم عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم قام، وقعد، وهذا هو الحقّ، كما تقدّم ترجيح النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- له، مخالفا لمشهور مذهبه، من دعوى النسخ، فجزاه اللَّه تعالى خيرًا على اتباعه الدليلَ، وعدم تعصّبه لمشهور مذهبه، كما هو ديدن المتفقهة، ولا سيما المتأخرون، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌45 - بَابُ الأَمْرِ بِالْقِيَامِ لِلْجَنَازَةِ

1915 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الْجَنَازَةَ، فَلَمْ يَكُنْ مَاشِيًا مَعَهَا، فَلْيَقُمْ، حَتَّى تُخَلِّفَهُ، أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخَلِّفَهُ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(نافع) مولى ابن عمر المدني الفقيه الثبت [3] 12/ 12.

2 -

(ابن عمر) عبد اللَّه رضي الله عنهما 12/ 12.

ص: 92

3 -

(عامر بن ربيعة) بن كعب بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مالك بن حُجْر بن سَلامان بن مالك بن ربيعة بن رُفيدة بن عَنْز -بسكون النون- ابن وائل بن قاسط بن هِنْب ابن أَفْصَى ابن دُعمى بن جَدِيلة بن أسد بن ربيعة بن نزار العَنْزِيّ، أبو عبد اللَّه العدويّ، وقيل: غير ذلك في نسبه، حليف آل الخطاب، كان من المهاجرين الأولين، أسلم قبل عمر، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا، والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر. وعنه ابنه عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن الزبير، وأبو أمامة بن سهل بن حُنيف، وعيسى الحكَميّ. وكان صاحب لواء عمر بن الخطاب لما قدم الجابية، واستخلفه عثمان على المدينة لما حجّ. وقال ابن إسحاق: كان أول من قدم المدينة مهاجرًا بعد أبي سلمة بن عبد الأسد. وقال ابن سعد: كان قد حالف الخطاب، فتبنّاه، فكان يقال: عامر بن الخطاب، حتى نزلت:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} الآية [الأحزاب: 5] فرجع عامر إلى نسبه، وهو صحيح النسب. وقال يحيى ابن سعيد الأنصاريّ، عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة: قام عامر بن ربيعة يصلي من الليل، وذلك حين شَغَبَ الناسُ في الطعن على عثمان، فصلى من الليل، ثم نام، فأُتي في منامه، فقيل له: قم، فسل اللَّه أن يُعِيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالح عباده، فقام، فصلى، ثم اشتكى، فما خرج بعدُ إلا جنازةً.

قال يعقوب بن سفيان: مات في خلافة عثمان، وقال مصعب الزبيريّ وغيره: مات سنة (32) وقيل: غير ذلك. روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده.

وأما قتيبة بن سعيد، والليث بن سعد، فقد ذُكرا في الباب الماضي.

والسند فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وفيه أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة، وهو عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وأما شرح الحديث فيعلم مما قبله.

وقوله: "فلم يكن ماشيا معها الخ" فيه بيان أن اتباع الجنائز ليس على الأعيان، وإنما هو على الكفاية، كما تقدّم، وفي رواية لمسلم من طريق ابن جريج، عن نافع بلفظ:"إذا رأى أحدكم الجنازة، فليقم حين يراها، حتى تخلّفه، إذا كان غير مُتَّبِعِها".

وقوله: "حتى تُخلّفكم" بضم أوله، وفتح المعجمة، وتشديد اللام المكسورة: أي تترككم وراءها، ونسبة ذلك إليها على سبيل المجاز، لأن المراد حاملها.

وقوله: "أو توضع""أو" ليست للشكّ، وإنما هي للتنويع، فإن من رأى الجنازة، إما أن لا يتبعها، فهذا يقوم حتى تتجاوزه، ويكون وراءها، أو توضع عنده بأن كان في المصلَّى، وإما أن يتبعها، فهذا لا يجلس حتى توضع. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 93

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه هذا متّفق عليه، أخرجه المصنّف هنا -45/ 1915 و 1916 وفي "الكبرى" 45/ 2041 و 20420 وأخرجه (خ) 1307 و 1308 (م) 2214 و 2215 و 2216 (د) 3172 (ت) 1042 (ق) 1542 (أحمد) 15255، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1916 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ الْعَدَوِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:«إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ، فَقُومُوا، حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ، أَوْ تُوضَعَ» .

رجال الإسناد: ستة، تقدّموا في الذي قبله، سوى:

1 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري المدني الحافظ الفقيه الحجة [4] 1/ 1.

29 -

(سالم) بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب العدويّ المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 32/ 490.

وهذا سند آخر لحديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه، وهو أنزل مما قبله، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، ورواية الابن عن أبيه، وفيه أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو سالم بن عبد اللَّه. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قوله: "العَدَوِيّ" الظاهر أنه نسبة إلى بني عدي؛ لأنه كما سبق آنفًا في ترجمته أنه كان حالف الخطاب والد عمر، فكان يُدْعَى عامر بن الخطاب، فنُسِبَ إلى قبيلته. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متفق عليه، كما سبق بيانه في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1928 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ هِشَامٍ ح وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ، فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا، فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ» .

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدَريّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(هشام) بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت رمي بالقدر، من كبار [7] 30/ 34.

والباقون تقدّموا قريبًا. و"إسماعيل" شيخ علي بن حجر: هو ابن عليّة. و"خالد" هو ابن الحارث الهجيميّ. و"يحيى": هو ابن أبي كثير.

والحديث متفق عليه، كما تقدّم شرحه، والكلام على مسائله في الباب الماضي.

ص: 94

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1918 -

أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، قَالَا: مَا رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهِدَ جَنَازَةً قَطُّ، فَجَلَسَ حَتَّى تُوضَعَ.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يوسف بن سعيد) المصّيصيّ، ثقة حافظ [11] 131/ 198.

2 -

(حجاج) بن محمد الأعور المصّيصيّ، ثقة ثبت [9] 28/ 32.

3 -

(ابن جريج) عبدالملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة فقيه فاضل مدلس [6] 28/ 32.

4 -

(ابن عجلان) محمد المدني، صدوق، اختلت عليه أحاديث أبي هريرة [5] 36/ 40.

والباقون تقدّموا قريبًا. و"سعيد" هو المقبريّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "ما رأينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شهد جنازة قطّ الخ". يُعارض هذا ما يأتي من حديث عليّ، وابن عباس، والحسن بن عليّ رضي الله عنهم، من أنه صلى الله عليه وسلم قام، ثم قعد، لكن أحاديث هؤلاء أصحّ من هذا، فتقدّم عليه، ويحتمل أن يعود النفي إلى علمهما، فلا ينافي ما رآه غيرهما، لكن فيه بعدٌ. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أخرجه هنا -45/ 1918 وفي "الكبرى" 45/ 2045. ورجاله وإن كانوا رجال الحسن، من أجل محمد بن عجلان، فإنه صدوق، لكن فيه عنعنة ابن جريج، وهو مدلّس، وفي متنه نكارة، كما أشرت إليه آنفًا، فالظاهر عدم صحته. واللَّه تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1919 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ ح وَأَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ، سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَرُّوا عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ، فَقَامَ، وَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ، فَقَامَ.

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاّس البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

2 -

(إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق) الْجُوزجانيّ، نزيل دمشق، ثقة حافظ رمي بالنصب [11] 122/ 174.

3 -

(يحيى بن سعيد) القطّان البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

ص: 95

4 -

(أبو زيد سعيد بن الربيع) العامريّ الْحَرَشيّ الهَرَويّ البصريّ، ثقة، من صغار [9] أقدم شيخ للبخاريّ وفاةً، مات سنة (211) 13/ 1481.

5 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الشهير الثبت الحجة [7] 24/ 26.

6 -

(زكريا) بن أبي زائدة الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة يدلّس [6] 93/ 115.

7 -

(عبد اللَّه بن أبي السَّفَر) -بفتح الفاء- سعيد بن يُحْمِد، ويقال: أحمد الهَمْدَانيّ الثوريّ الكوفيّ، ثقة [6].

قال أحمد، وابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال العجليّ: كوفيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات لا. وقال ابن سعدْ كان ثقة، وليس بكثير الحديث، مات في خلافة مروان ابن محمد.

روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله عند المصنّف في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط.

8 -

(الشعبي) عامر بن شَرَاحيل الهمدانيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة فقيه فاضل [3] 66/ 82.

والصحابي تقدّم في الذي قبله.

وقوله: "وقال عمرو" هو الفَلّاس، شيخه الأول، يعني أن اللفظ الأول لهذا الحديث لفظ شيخه إبراهيم، وأما لفظ شيخه عمرو:"إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرّت به جنازة، فقام".

وهذا يدلّ على شدة اهتمام المحدثين، وكمال احتياطهم، وورعهم، حيث يراعون ألفاظ شيوخهم، ويؤدونها، كما سمعوها، لينالوا الفضل الذي ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، في قوله:"نضر اللَّه امرؤا، سمع منا شيئًا، فبلّغه كما سمع، فربّ مبلّغ أوعى من سامع". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو صحيح الإسناد، أخرجه هنا -45/ 1919 وفي "الكبرى" 45/ 2046. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1920 -

أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَزَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهُمْ كَانُوا جُلُوسًا، مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَطَلَعَتْ جَنَازَةٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَامَ مَنْ مَعَهُ، فَلَمْ يَزَالُوا قِيَامًا حَتَّى نَفَذَتْ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أيوب بن محمد الوزّان) أبو محمد الرّقّيّ، ثقة [10] 28/ 32.

ص: 96

2 -

(مروان) بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفَزَاريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقة حافظ، كان يدلّس أسماء الشيوخ [8] 50/ 850.

3 -

(عثمان بن حَكِيم) بن عبّاد بن حُنَيف الأنصاريّ الأوسيّ، أبو سَهْل المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقة [5] 38/ 944.

4 -

(خارجة بن زيد بن ثابت) الأنصاريّ، أبو زيد المدنيّ، ثقة فقيه [3] 122/ 179.

5 -

(يزيد بن ثابت) بن الضحّاك الأنصاريّ. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال خليفة: شهد بدرًا، ورُمِي يوم اليمامة بسهم، فمات في الريق، وكان أكبر من أخيه زيد بن ثابت.

روى عنه ابن أخيه خارجة بن زيد بن ثابت، ويقال: لم يسمع منه. وقال ابن سعد، والبغويّ، وغير واحد: لم يشهد بدرًا.

علق عنه البخاريّ، وأخرج المصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (1920) و (2022). واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين من عثمان (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن عمه. ومنها: أن خارجة أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدّموا غير مرة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ يَزِيدَ بنِ ثَابِتٍ) الأنصاريّ (أَنَّهُمْ) أي الصحابة رضي الله عنهم، ولفظ أحمد:"أنه كان جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه"(كَانُوا جُلُوسًا) جمع جالس، خبر "كان"، ويحتمل أن يكون مصدرًا، فيكون على حذف مضاف، أي ذوي جلوس (مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَطَلَعَتْ) من باب قعد: أي ظهرت (جَنَازَةٌ) تقدم ضبطها بالفتح، والكسر، وهو اسم للميت، وقيل: بالفتح، اسم للميت، وبالكسر اسم للسرير، وعليه الميت (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَامَ مَنْ مَعَهُ) من الصحابة رضي الله عنهم. ولفظ "الكبِرى": "فثار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وثار من معه من أصحابه

". ومعنى "ثار": وَثَبَ، ونَهَض.

ولفظ أحمد: "فلما رآها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثار، وثار أصحابه معه

" (فَلَمْ يَزَالُوا قِيَامًا) أي قائمين، أو ذوي قيام (حَتَّى نَفَذَتْ) أي مرّت بهم، وجاوزتهم، يقال: نَفَذَ السهمُ، نُفُوذًا، من باب قعد، ونَفَاذًا: خَرَقَ الرَّمِيَّةَ، وخرج منها، ويتعدّى بالهمزة، والتضعيف. قاله في "المصباح".

ص: 97

زاد في رواية أحمد: "قال: واللَّه، ما أدري، مِنْ تَأذٍّ بها، أو من تضايق المكان، ولا أحسبها، إلا يهوديا، أو يهودية، وما سألنا عن قيامه صلى الله عليه وسلم ".

يعني أنه لم يعلم سبب قيام النبي صلى الله عليه وسلم، هل لأجل تأذيه بالجنازة، فأراد أن يبتعد عن أذاها، أو لأجل ضيق مكان مرورها، فأراد أن يُوسّع لها.

وهذا يدلّ على أن يزيد بن ثابت رضي الله عنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إذا رأيتم الجنازة، فقوموا"، وأيضا أنه لم يره قائمًا إلّا في ذلك اليوم، وهذا لا ينافي إثبات من نقله عنه صلى الله عليه وسلم قولا، وفعلاً من الصحابة الآخرين، كما تقدّم، فقدّم المثبتون عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث يزيد بن ثابت رضي الله عنه هذا صحيح الإسناد، إلا أنه اختلف في سماع خارجة عنه، والذي يظهر لي أنه لم يسمع منه؛ لأنه مات في حرب اليمامة زمن أبي بكر رضي الله عنه، ومات خارجة سنة (99) أو سنة (100) وهو ابن (70) سنة، كما يظهر من ترجمته في "تهذيب الكمال" جـ 8 ص 12، فتكون ولاته سنة (29) أو (30) في خلافة عثمان رضي الله عنه، فلا يمكن أن يلقى عمه. واللَّه تعالى أعلم.

وهو من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أخرجه هنا -45/ 1920 - وفي "الكبرى" 45/ 20470 وأخرجه أحمد -18959 - . واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌46 - (الْقِيَامُ لِجَنَازَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ

(1)

)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بأهل الشرك ما يعمّ الذمّيّين، من اليهود، والنصارى، والمشركين، وغيرهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1921 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، بِالْقَادِسِيَّةِ، فَمُرَّ عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ، فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، فَقَالَا: مُرَّ عَلَى

(1)

- وفي نسخة "لجنازة المشركين".

ص: 98

رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجَنَازَةٍ، فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ يَهُوديٌّ، فَقَالَ:«أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟» ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن مُرّة) الجَمَليّ، أبو عبد اللَّه الكوفّي، ثقة عابد، رُمي بالإرجاء [5] 171/ 265.

2 -

(عبد الرحمن بن أبي ليلى) الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقة [2] 86/ 104.

3 -

(سهل بن حُنَيف) بن واهب الأنصاريّ الأوسيّ، صحابيّ بدريّ، استخلفه عليّ على البصرة، مات رضي الله عنه في خلافته، تقدم 9/ 699.

4 -

(قيس بن سعد بن عُبادة) بن دُليم بن حارثة الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو عبد اللَّه، ويقال: أبو عبد الملك، ويقال: أبو الفضل المدنيّ. قال أنس بن مالك: كان قيس بن سعد من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشُّرْطة من الأمير. قال الحميديّ، عن سفيان، عن عمرو بن دينار: كان قيس بن سعد رجلا ضخما جسيمًا، وكان إذا ركب الحمار خَطَّت رجلاه الأرض. وقال بكر بن سَوَادة، عن أبي حمزة الحميريّ، عن جابر، فذكر حديثًا، قال: وكان عليهم قيس بن سعد، ونحر لهم تسع ركائب، وقال فيه: فلما قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكروا له من أمر قيس بن سعد، فقال:"إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت". وقال يونس، عن الزهريّ: كان من دُهَاة العرب. وقال عروة: قال قيس بن سعد: اللهم ارزقني مالا، فإنه لا تصلح الفعال إلا بالمال. قال خليفة وغيره: توفي بالمدينة في آخر خلافة معاوية. وقال ابن حبّان: يُكنى أبا القاسم، وكان على مقدمة علي يوم صفّين، ثم هرب من معاوية سنة (58) وسكن تفليس، ومات بها في ولاية عبد الملك بن مروان. انتهى. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن فيه رواية تابعي، عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى) الأنصاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وفي رواية للبخاريّ، ذكرها تعليقًا عن أبي حمزة السُّكّريّ، عن عمرو، عن ابن أبي ليلى، قال: كنت مع قيس، وسهل رضي الله عنهما، فقالا: "كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى. ففيها بيان سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى لهذا الحديث من سهل، وقيس.

ص: 99

(قَالَ: كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيفٍ، وَقَيسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) رضي الله عنهما (بِالْقَادِسِيَّةِ) موضع بقرب الكوفة، من جهة الغرب، على طرف البادية، نحو خمسة عشر فرسخًا، وهي آخر أرض العرب، وأول حَدّ سواد العراق، وكان هناك وقعة عظيمة في خلافة عمر رضي الله عنه، ويقال: إن إبراهيم الخليل عليه السلام دعا لتلك الأرض بالقُدُس، فسميت بذلك. ذكره في "المصباح". وقال في "القاموس":"القادسيّة": قرية قرب الكوفة، مرّ بها إبراهيم عليه السلام، فوجد بها عجوزًا، فغسلت رأسه، فقال: قُدَّستِ من أرض، فسميت بالقادسيّة انتهى.

واختلف في وقعة القادسية فذكر ابن إسحاق أنها كانت سنة (15) وزعم الواقديّ أنها سنة (16) وذكر سيف بن عمر، وابن جرير، وجماعة أنه سنة (14) وكانت وقعة القادسية وقعة عظيمة، لم يكن بالعراق أعجب منها، وكان عدد المسلمين على ما قال ابن إسحاق ما بين سبعة آلاف، إلى ثمانية آلاف، وكان قائدهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وأن الفرس كانوا ستين ألفا، وقيل: كان عددهم أكثر من ذلك، وقائد الفرس رجل اسمه رستم، وانتهت المعركة بانتصار المسلمين

(1)

.

(فَمُرَّ) بالبناء للمفعول (عَلَيْهِمَا) أي على سهل بن حُنيف، وقيس بن سعد رضي الله عنهما (بِجَنَازَةِ) متعقق بـ "مرّ"، وتقدّم ضبطها بالفتح والكسر (فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا) أي الجنازة، وفي نسخة "إنه"، أي الميت (مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ) أي من أهل الذمّة، وإنما سمي أهل الذمة بأهل الأرض، لأن المسلمين لما فتحوا البلاد أقرّوهم على عمل الأرض، وحمل الخراج إليهم (فَقَالَا: مُرَّ) بالبناء للمفعول أيضًا (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجَنَازَةٍ، فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنهَّ يُّهودِيٌّ) أي منسوب إلى يهود، القبيلة المعروفة، قال الفيّومي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ويقال: هو يهُودُ، غير منصرف، للعلمية، ووزن الفعل، ويجوز دخول الألف واللام، فيقال: اليهود، وعلى هذا، فلا يمتنع التنوين، لأنه نُقل عن وزن الفعل إلى باب الأسماء، وقيل: اليهوديّ نسبة إلى يهودا بن يعقوب عليه السلام، هكذا أورده الصغانيّ "يَهُودا" في باب المهملة انتهى.

والياء فيه للفرف بين اسم الجنس، وبين واحده، كما يقال: عرب وعربيّ، وعجم وعجميّ، وروم ورميّ، وترك وتركيّ. واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَالَ: "أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟ ") يعني أن القيام شرع لكونها نفسًا، لا لكونها مؤمنة، ومعنى القيام لكونها نفسَا أنها حلّ بها الموت الذي هو أمر عظيم، وخَطَر جسيم على الإنسان، فينبغي له أن يقابله بالفزع والرهبة، والخضوع والاستكانة، لا بالغفلة، والذهول،

(1)

- راجع قصة القادسية "البداية والنهاية" لابن كثير ج 7 ص 38 - 50 وغير من كتب التواريخ.

ص: 100

والتكبّر والأَنَفَة، وهذا المعنى لا يخصّ نفس المؤمن، بل يعمّ كل نفس حلّ بها الموت.

وهذا لا يعارض التعليل الآتي في الحديث التالي بقوله: "إن للموت فَزَعًا"، على ما سيأتي، وكذا ما أخرجه الحاكم من طريق قتادة، عن أنس رضي الله عنه، مرفوعًا، فقال:"إنما قمنا للملائكة"، ونحوه لأحمد من حديث أبي موسى رضي الله عنه، ولأحمد، وابن حبان، والحاكم من حديث عبد اللَّه بن عمرو، مرفوعًا:، "إنما تقومون إعظامًا للذي يقبض النفوس". ولفظ ابن حبّان:"إعظاما للذي يقبض الأرواح"

(1)

، فإن ذلك أيضا لا ينافي التعليل السابق، لأن القيام للفَزَع من الموت فيه تعظيم لأمر اللَّه، وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك، وهم الملائكة.

وأما ما أخرجه أحمد من حديث الحسن بن عليّ رضي الله عنهما، قال:"إنما قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تأذّيا بريح اليهوديّ"، زاد الطبرانيّ من حديث عبد اللَّه بن عياش -بالتحتانية، والمعجمة-:"فآذاه ريح بَخُورها"، وللطبرانيّ، والبيهقيّ من وجه آخر عن الحسن:"كراهية أن تعلو رأسه"، فإن ذلك لا يعارض الأخبار الأولى الصحيحة، أما أوّلًا، فلأن أسانيدها لا تقاوم تلك في الصحّة، وأما ثانيًا، فلأن التعليل بذلك راجع إلى ما فهمه الراوي، والتعليل الماضي صريح من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فكأن الراوي لم يسمع التصريح بالتعليل منه، فعلل باجتهاده.

وقد روى ابن أبي شيبة، من طريق خارجة بن زيد بن ثابت، عن عمه يزيد بن ثابت، قال:"كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فطلعت جنازة، فلما رآها قام، وقام أصحابه حتى بعدت، واللَّه ما أدري من شأنها، أو من تضايق المكان؟، وما سألناه عن قيامه".

ثم إن مقتضى التعليل بقوله: "أليست نفسًا" أن ذلك يستحبّ لكلّ جنازة.

وقد تقدّم في الباب الماضي بيانُ اختلاف أهل العلم في حكم القيام للجنازة، وأن الراجح هو القول بالاستحباب، جمعًا بين الأحاديث. وباللَّه تعالى التوفيق.

واستُدلّ بهذا الحديث على جواز إخراج جنائز أهل الذمة نهارًا غير متميّزة عن جنائز المسلمين، أشار إلى ذلك الزين ابن المنيّر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، قال: وإلزامهم بمخالفة رسوم المسلمين وقع اجتهادًا من الأئمّة. ويمكن أن يقال: إذا ثبت النسخ للقيام تبعه ما عداه، فيحمل على أن ذلك كان عند مشروعيّة القيام، فلما تُرك القيام منع من الإظهار. قاله في "الفتح"

(2)

.

(1)

- انظر "صحيح ابن حبان" ج 7 ص 324 - 325 رقم الحديث 3053.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 535.

ص: 101

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في هذا الكلام نظر؛ لأنه إذا لم يرد نصّ على أمر الذميّ بالتميّز، فمن أين أتى المنع من الإظهار؟، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1922 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ هِشَامٍ ح وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ

(1)

، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: مَرَّتْ بِنَا جَنَازَةٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا هِيَ جَنَازَةُ يَهُودِيَّةٍ، فَقَالَ:«إِنَّ لِلْمَوْتِ فَزَعًا، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ، فَقُومُوا» . اللَّفْظُ لِخَالِدٍ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية، كلهم تقدّموا في الباب الماضي، سوى:

1 -

(عبيد اللَّه بن مِقْسَم) القرشيّ، مولى ابن أبي نَمِر المدنيّ، ثقة مشهور [4].

قال أبو داود، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة لا بأس به. ووثقه يعقوب بن سفيان. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، إلا الترمذيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (1922) و (4200).

2 -

(جابر بن عبد اللَّه) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ رضي الله عنهما 31/ 35. و"إسماعيل" شيخ ابن حُجْر: هو ابن عُليّة. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ. و"هشام": هو الدستوائيّ.

وقوله: "إن للموت فَزَعًا". قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: معناه: إن الموت يُفزَع إليه، إشارة إلى استعظامه، ومقصودُ الحديث أن لا يستمرّ الإنسان على الغفلة بعد رؤية الميت، لما يُشعر ذلك من التساهل بأمر الموت، فمن ثَمَّ استوى فيه الميت مسلمًا، أو غير مسلم. وقال غيره: جَعَل نفس الموت فَزَعًا، مبالغةً، كما يقال: رجل عدلٌ.

وقال البيضاويّ: هو مصدرٌ، جَرَى مَجْرَى الوصف، للمبالغه، أو فيه تقديرٌ، أي الموت ذو فزَع. ويؤيّد الثاني -كما قال الحافظ رحمه الله رواية المصنّف، وابن ماجه بلفظ:"إن للمَوت فَزَعًا"، وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يَقْلَق من أجلها، ويضطرب، ولا يَظهر منه عدم الاحتفال

(2)

والمبالاة. قاله في "الفتح"

(3)

.

وقال السنديّ رحمه الله: قوله: "إن للموت فزعًا": أي فلا ينبغي الاستمرار على الغفلة على رؤية الميت، فالقيام لترك الغفلة، والتشمير للجدّ والاجتهاد في الخير. وفي بعض

(1)

- وفي نسخة "عن هشام".

(2)

- الاحتفال: حسن القيام بالأمور، ويقال: ما احتفل به: أي ما بالى. أفاده في "ق". فيكون قوله: والمبالاة عطف تفسير.

(3)

- "فتح" ج 3 ص 534.

ص: 102

النسخ: "إن الموت فَزَعٌ"، أي ذو فزع، أو هو من باب المبالغة.

وقوله: "فإذا رأيتم الجنازة، فقوموا"، أي تعظيما لهول الموت وفَزَعه، لا تعظيما للميت، فلا يختصّ القيام بميت دون ميت انتهى.

وقوله: "واللفظ لخالد": أي اللفظ المذكور هنا لخالد بن الحارث الهُجَيميّ، وأما إسماعيل ابن عُليّة، فرواه بالمعنى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وأخرجه المصنّف هنا - 46/ 1922 - و 47/ 1928 وفي "الكبرى" 46/ 2049 و 47/ 2056. وأخرجه (خ) 1311 (م) 960 (د) 3174 (ق) 543 (أحمد) 7800 و 8322 و 14398.

وتمام شرحه، وما يُستبط منه، ومذاهب العلماء في حكم العمل به قد تقدمت قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌47 - (الرُّخْصَةُ فِي تَرْكِ الْقِيَام)

1923 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَلِيٍّ، فَمَرَّتْ جَنَازَةٌ، فَقَامُوا لَهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا هَذَا؟ ، قَالُوا: أَمْرُ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: "إِنَّمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِجَنَازَةِ يَهُودِيَّةٍ، وَلَمْ يَعُدْ بَعْدَ ذَلِكَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن منصور) الجَوَّاز المكيّ، ثقة [10] 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الثبت الحجة المكيّ [8] 1/ 1.

3 -

(ابن أبي نَجِيح) عبد اللَّه بن يسار الثقفيّ مولاهم، أبو يسار المكيّ، ثقة، رُمي بالقدر، وربّما دلّسَ [6] 112/ 155.

4 -

(مجاهد) بن جَبْر، أبو الحجّاج المخزومي مولاهم المكيّ، ثقة إمام في التفسير والعلم [3] 27/ 31.

5 -

(أبو معمر) عبد اللَّه بن سَخْبَرَة الأزديّ الكوفيّ، ثقة [2] 23/ 807.

6 -

(علي) بن أبي طالب، أبو الحسن الهاشميّ أحد الخلفاء الراشدين، وأحد

ص: 103

المبشّرين بالجنة رضي الله عنه 72/ 91. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ) عبد اللَّه بن سَخْبَرَة، أنه (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَليٍّ) رضي الله عنه (فَمَرَّتْ بهِ جَنَازَةٌ، فَقَامُوا لَهَا) أي قام الناس الذين كانوا جالسين مع عليّ رضي الله عنه (فَقَالَ عَليٌّ:) رضي الله عنه (مَا هَذَا؟) أي أيّ شيء هذا القيام الذي قمتموه عند مرور الجنازة، أبحجة، أم بغير حجة؟ (قَالُوا: أَمْرُ أَبِي مُوسَى) خبر لمحذوف، أي هو أمر أبي موسى عبد اللَّه بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه، أي إنما قمنا لكون أبي موسى رضي الله عنه أمرنا به، وفي نسخة "أمر أبو موسى" بصيغة الماضي، فـ "أبو موسى" فاعل، أي أمرنا به أبو موسى.

والظاهر أنه أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ) علي رضي الله عنه (إِنَّمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِجَنَازَةِ يهُودِيَّةٍ) يعني أنه فعله مرّة واحدة لجنازة امرأة يهوديّة، ولا تنافي بينه، وبين ما يأتي في حديث الحسن، وجابر رضي الله عنهما، من أنها جنازة يهوديّ، لاحتمال أن تتعدد الواقعة، أو المراد باليهوديّ الشخص، وهو يشمل الرجل والمرأة، واللَّه تعالى أعلم (وَلَمْ يَعُدْ بَعْدَ ذَلِكَ") بفتح الياء، وضم العين، مضارع عاد، من باب قال: إذا رجع. يعني أنه لم يقم مرّة أخرى للجنازة.

واستَدَلّ به من قال بنسخ القيام للجنازة، وقد تقدم قبل باب أن الراجح أنه لا يدلّ على النسخ، وإنما يدلّ على أن الأمر ليس للوجوب، وهذا هو مذهب المصنّف رحمه الله تعالى، حيث ترجم بـ "الرخصة في ترك القيام"، ولم يترجم بـ "باب نسخ القيام"، ومثله في ذلك الإمام الترمذي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث علي رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم بنحوه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- هنا 47/ 1923 و 81/ 1999 و 2000 وفي "الكبرى" 47/ 2050 و 81/ 2126 و 2127. وأخرجه (م) 2224 و 2225 و 2227 (د) 3175 (ت) 1544 (أحمد) 624 و 1097 و 1171 (مالك في الموطإ) 549.

وقد تقدّم بيان مذاهب أهل العلم في حكم القيام للجنازة، وبيان أدلّتهم، وأن الراجح هو الاستحباب، مستوفًى قبل باب، فراجعه هناك تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 104

1924 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، أَنَّ جَنَازَةً، مَرَّتْ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَامَ الْحَسَنُ، وَلَمْ يَقُمِ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ الْحَسَنُ: أَلَيْسَ قَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ، قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، نَعَمْ، ثُمَّ جَلَسَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المتقدّم قريبًا.

2 -

(حماد) بن زيد، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت [8] 3/ 3.

3 -

(أيوب) بن أبي تميمة كَيْسَان السَّخْتياني البصريّ، ثقة ثبت فقيه [5] 42/ 48.

4 -

(محمد) بن سيرين الإمام الحجة البصريّ [3] 46/ 57.

5 -

(الحسن بن علي) بن أبي طالب، سِبْط رسول صلى الله عليه وسلم، ورَيحانته، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما -51/ 1745.

6 -

(ابن عباس) عبد اللَّه الحبر رضي الله عنهما 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مُحَمَّدِ) بن سيرين (أَنَّ جَنَازَةَ، مَرَّتْ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسِ) رضي الله عنهم (فَقَامَ الْحَسَنُ) بن علي رضي الله عنهما (وَلَمْ يَقُم ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فَقَالَ الْحَسَنُ: أَلَيسَ قَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِجَنَازَةِ يَهُودِيِّ؟، قَالَ: ابْنُ عَبَّاسِ: نَعَمْ، ثُمَّ جَلَسَ) وفي الرواية التالية: "قام لها،

ثم قعد". يعني أنه قام لها أوّلَا، ثم ترك القيام لها، والظاهر أن ابن عباس رضي الله عنهما، ممن يرى الأمر بالقيام منسوخا، وقد تقدّم الجواب عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أخرجه هنا -1924/ 47 و 1925 و 1926 و 1927 وفي "الكبرى" 47/ 2051 و 2052 و 2053 و 2054. واللَّه تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1925 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَنْصُورٌ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: مُرَّ بِجَنَازَةٍ، عَلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَامَ الْحَسَنُ، وَلَمْ يَقُمِ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ الْحَسَنُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: أَمَا قَامَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَامَ لَهَا، ثُمَّ قَعَدَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدَّوْرقيّ، أبو يوسف البغداديّ، ثقة حافظ [10] 21/ 22.

ص: 105

2 -

(هُشَيم) بن بَشِير، أبو معاوية بن أبي خازم، الواسطيّ، ثقة ثبت مدلس [7] 88/ 109.

3 -

(منصور) بن المعتمر، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقة ثبت [5] 2/ 2، والباقون تقدّموا في الذي قبله، وكذا شرح الحديث، وهو حديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1926 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، مَرَّتْ بِهِمَا جَنَازَةٌ، فَقَامَ أَحَدُهُمَا، وَقَعَدَ الآخَرُ، فَقَالَ الَّذِي قَامَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدْ قَامَ، قَالَ: لَهُ الَّذِي جَلَسَ: لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدْ جَلَسَ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابن علية) هو إسماعيل بن إبراهيم البصريّ الحافظ الحجة [8] 18/ 19.

2 -

(سليمان التيميّ) ابن طَرْخان البصريّ، ثقة [7] 87/ 107.

3 -

(أبو مِجْلَز) -بكسر الميم، وسكون الجيم، وفتح الزاي- لاحِق بن حُمَيد الضُّبعيّ البصريّ، ثقة [4] 188/ 296، والباقون تقدّموا في الذي قبله.

قوله: "فقام أحدهما" هو الحسن، كما بُيِّن في الذي قبله. وقوله:"لقد علمت" في الموضعين بضم التاء للمتكلّم، ويحتمل أن يكون بفتحها، للمخاطب.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1927 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَارُونَ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، كَانَ جَالِسًا، فَمُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ، فَقَامَ النَّاسُ، حَتَّى جَاوَزَتِ الْجَنَازَةُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا مُرَّ بِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى طَرِيقِهَا جَالِسًا، فَكَرِهَ أَنْ تَعْلُوَ رَأْسَهُ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَامَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إبراهيم بن هارون البَلْخِيّ) العابد، صدوق [11] 24/ 543.

2 -

(حاتم) بن إسماعيل الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوق يَهِم، صحيح الكتاب [8] 24/ 543.

3 -

(جعفر بن محمد) الصادق، أبو عبد اللَّه المدنيّ، صدوق فقيه إمام [6] 123/ 182.

4 -

(أبوه) محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر المدنيّ، ثقة فاضل [4] 123/ 182، والصحابي رضي الله عنه ذكر في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 106

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو والترمذي في "الشمائل". (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه أيضًا، فإنه بلخيّ. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن جعفر بن محمد، عَنْ أَبِيهِ،، أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَليٍّ) رضي الله عنهما (كَانَ جَالِسًا، فَمُرَّ عَلَيْهِ) ببناء الفعل للمفعول أي مرّ الناس على مكان قريب منه (بجَنَازَةٍ، فَقَامَ النَّاسُ) أي الذين كانوا جالسين مع الحسن رضي الله عنه (حَتَّى جَاوَزَتِ الْجَنَازَةُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا مُرَّ) ببناء الفعل للمفعول أيضًا (بِجَنَازَةِ يُهودِيٍّ، وَكانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى طَرِيقِهَا جَالِسا) الجارّ والمجرور خبر "كان"، و"جالسًا" منصوب على الحال، ويحتمل أن يكون خبرا لـ "كان"، والجارّ والمجرور متعلّقٌ به (فَكَرِهَ) صلى الله عليه وسلم (أَن تَعْلُوَ رَأْسَهُ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ) أي أن

تكون عالية فوق رأسه الشريف صلى الله عليه وسلم جنازة شخص، وهي جِيفَة قَذِرَة (فَقَامَ) تقذّرًا لها. قال السنديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: هذا تأويل وقع في خاطر الحسن رضي الله عنه، وإلا فمقتضى الأحاديث، أنه كان لتعظيم أمر الموت، وقد جاء به الأمر أيضًا، إلا أن يقال: هذا مما يُضمّ إلى دواعي القيام أيضًا، وكانت الدواعي متعدّدة، واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما سبق من التعليلات، بكونها نفسا، وبأن للموت فزعًا، وكذا ما يأتي في حديث جابر رضي الله عنه:"إنما قمنا للملائكة" مرفوعة، صحيحة، فلا يعارضها ما قاله الحسن، إذ لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكره من فهمه. واللَّه تعالى أعلم.

ثم إن رواية الحسن هذه فيها إشكال، من حيث إنها تخالف الروايتين السابقتين له، فإنهما تدلان على أن الحسن كان يقوم للجنازة، وهذه تدلّ على أنه أنكر على من قام لها، وعلّل أن قيام النبي صلى الله عليه وسلم كان لئلا تعلو رأسه جنازة يهوديّ!!!.

ويمكن أن يجاب بأن الحسن لما خالفه ابن عباس رضي الله عنهما، تتبّع قضيّة قيام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعلم أنه إنما قام مرّة لجنازة يهوديّ، ثم لم يقم بعدُ، ولعله أخذه عن أبيه، فقد تقدّم أول الباب، من رواية مجاهد، عنه بلفظ:"إنما قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لجنازة يهوديّة، ولم يَعُد بعد ذلك". فلعلّ الحسن لما سمع هذا حمله على أنه قام لئلا تعلو رأسه جنازة يهوديّ.

(1)

- "شرح السندي" ج 3 ص 47.

ص: 107

والحديث صحيح، وقد تقدّم تخريجه قبل حديثين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1928 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ:"قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ، مَرَّتْ بِهِ، حَتَّى تَوَارَتْ".

وَأَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَيْضًا، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه، يَقُولُ:"قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَصْحَابُهُ، لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ، حَتَّى تَوَارَتْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن رافع) أبو عبد اللَّه النيسابوريّ، ثقة عابد [11] 92/ 114.

2 -

(عبد الرزّاق) بن هَمّام الصنعانيّ، ثقة حافظ مصنّف [9] 61/ 77.

3 -

(ابن جريج) عبدالملك بن عبدالعزيز بن جُريج المكيّ، ثقة فقيه فاضل يدلّس [6] 28/ 32.

4 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوق [4] 31/ 35.

5 -

(جابر) بن عبد اللَّه رضي الله عنهما.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم شرحه، والكلام على مسائله في الباب الماضي، فلا حاجة إلى إعادتهما، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: "حتى توارت": أي تباعدت، واختفت عن أعينهم. وقوله:"وأخبرني أبو الزبير الخ" عطف على قوله: "أخبرني أبو الزبير" الماضي، فالقائل:"وأخبرني" هو ابن جُريج، والفرق بيّن الإخبارين أن في الأول الإقتصار على قيام النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف الثاني، فقد بيّن فيه قيام أصحابه رضي الله عنهم معه. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: كان الأولى للمصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أن يورد حديث جابر رضي الله عنه هذا في الباب الماضي، لأنه لا مطابقة بينه وبين هذا الباب، وإنما يطابق الباب الماضي، ومثله حديث أنس رضي الله عنه الآتي بعده. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1929 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا النَّضْرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ جَنَازَةً مَرَّتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ، فَقِيلَ: إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: «إِنَّمَا قُمْنَا لِلْمَلَائِكَةِ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق) بن إبراهيم الحنظلي المروزيّ الإمام الحافظ الحجة [10] 2/ 2.

ص: 108

2 -

(النضر) بن شُمَيل، أبو الحسن البصريّ، نزيل مرو، ثقة ثبت، من كبار [9] 41/

45.

3 -

(حماد بن سَلَمة) بن دينار البصريّ، ثقة عابد [8] 181/ 288.

4 -

(قتادة) بن دِعامة السَّدُوسيّ البصريّ، ثقة ثبت، مدلس، رأس [4] 30/ 34.

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله عنه 6/ 6.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أنس رضي الله عنه هذا صحيح، انفرد به المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أخرجه هنا 47/ 1929 - وفي "الكبرى" 47/ 2055 وشرحه يعلم مما سبق.

وقوله: "إنما قمنا للملائكة" أي لاحترامهم، حيث قاموا بأمر عظيم، وهو قبض الروح، ولا تعارض بينه وبين ما تقدّم من التعليل بكونها نفسًا، وبأن للموت فَزَعًا، إذ يجوز تعدّد الأغراض والعلل، فيكون القيام مطلوبا لكونها نفسًا، ولكون الموت فَزَعًا، ولاحترام الملائكة، وقد تقدّم في الحديث الذي قبله أنه كان الأولى للمصنّف إيراده في الباب الذي قبله، إذ هو المناسب له. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌48 - (اسْتِرَاحَةُ الْمُؤْمِنِ بِالْمَوْتِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر من صنغ المصنّف رحمه الله أنه يرى حمل المؤمن على عمومه، مطيعًا كان، أو عاصيًا، حيث أطلق هذه الترجمة، بخلاف الفاجر، فحمله على الكافر، حيث قيد به الترجمة التالية، وسيأتي ما قاله الشُّرَّاح قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1930 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ، فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ» ، فَقَالُوا: مَا الْمُسْتَرِيحُ؟ ، وَمَا الْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ ، قَالَ: «الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ، يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَأَذَاهَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ، يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ»).

ص: 109

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد، تقدّم قريبًا.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام الفقيه المجتهد الحجة المدنيّ [7] 7/ 7.

3 -

(محمد بن عمرو بن حَلْحَة) -بمهملتين مفتوحتين، ولامين، الأولى ساكنة، والثانية مفتوحة- الدِّيليّ المدنيّ، ثقة [6] 16/ 1859.

4 -

(مَعْبَد بن كعب بن مالك) الأنصاريّ السَّلَميّ ببفتحتين- المدنيّ، مقبول [3].

ذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وروى له أبو داود في "الناسخ والمنسوخ "، له في "صحيح البخاريّ" حديث واحد، حديث الباب فقط، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، هذا وأعاده بعده، و (4462) حديث: "إياكم وكثرة الحلف

" الحديث، و (5421) حديث: "من اقتطع حقّ امرىء مسلم بيمينه

" الحديث.

5 -

(أبو قتادة بن رِبْعيّ) الأنصاريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه 23/ 24. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، وشيخه، وإن كان بغلانيا إلا أن الظاهر أنه دخل المدينة للأخذ عن مالك. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) اسمه الحارث، ويقال: عمرو، ويقال: النعمان (بْنِ رِبْعِيِّ) بكسر الراء، وسكون الموحّدة، وعين مهملة السَّلَميّ الأنصاريّ، شهد أحدًا، وما بعدها، ولم يصحّ شهوده بدرًا، مات سنة (54) وقيل:(38) والأول أصحّ، وأشهر.

قال الحافظ أبو عمر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: هكذا الحديث في "الموطّآت" بهذا الإسناد، وأخطأ فيه سُويد بن سعيد، عن مالك، فقال:"عن معبد بن كعب، عن أبيه"، وليس بشيء انتهى (أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ، أَنَّ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مُرَّ) بضم الميم، مبنيّا للمفعول، قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: لم أقف على اسم المارّ، ولا الممرور بجنازته انتهى

(1)

(عَلَيْهِ) أي على النبي صلى الله عليه وسلم. ووقع في "الموطآت" للدارقطنيّ، من طريق إسحاق بن

(1)

- "فتح" ج 11 ص 372.

ص: 110

عيسى، عن مالك بلفظ:"مَرَّ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جنازة"، والباء على هذا بمعنى "على"، وذكّر الجنازة باعتبار الميت. قاله في "الفتح"(بِجَنَازَةٍ) متعلّق بـ "مُرّ"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مُسْتَرِيحٌ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ") قال ابن الأثير رحمه الله: يقال: أراح الرجلُ، واستراح: إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعياء انتهى

(1)

.

والواو فيه بمعنى "أو"، والتقدير: هذا الميت، أو كلّ ميت إمْا مستريح، أو مستراح منه، أو بمعناها، على أن هذا الكلام بيان لمقدّر، يقتضيه الكلام، كأنه قال: هذا الميت، أو كلّ ميت أحد رجلين، فقال: مستريح، ومستراح منه. وقال السيوطي: الواو فيه بمعنى "أو"، وهي للتقسيم، وقال أبو البقاء في إعرابه: التقدير الناس، أو الموتى مسريح، أو مستراح منه.

قال السندي: ولا يخفى ما فيه من عدم المطابقة بين المبتدإ والخبر، فليُتأمّل انتهى.

(فَقَالُوا) أي الصحابة رضي الله عنهم، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسم السائل منهم، إلا أن في رواية إبراهيم الحربيّ، عند أبي نُعيم:"قلنا"، فيدخل فيهم أبو قتادة، فيحتمل أن يكون هو السائل انتهى (مَا الْمُسْتَرِيحُ؟، وَمَا الْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟، قَالَ: "الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ) قال ابن التين -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: يحتمل أن يريد بـ "المؤمن" التقيّ خاصّة، ويحتمل كلّ مؤمن. انتهى (يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا) بفتح النون، والصاد المهملة: التعَب وزنا ومعنى، وفي نسخة:"من تعب الدنيا"(وَأَذَاهَا) من عطف العامّ على الخاصّ. قاله في "الفتح". وقال السنديّ رحمه الله: ما أشبهه بعطف المتساويين انتهى.

وفي رواية لمسلم: "يستريح من أذى الدنيا، ونَصَبِها إلى رحمه الله "(وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ) قال ابن التين رحمه الله: يحتمل أن يريدب "الفاجر" الكافر، ويحتمل أن يدخل فيه العاصي انتهى.

(يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ) قال الداوديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: أما استراحة العباد، فلما يأتي به من المنكرات، فإن أنكروا عليه آذاهم، وإن تركوه أثموا، واستراحة البلاد مما يأتى به من المعاصى، فإن ذلك مما يحصل به الْجَدْب، فيقتضي هلاك الحرث والنسل.

وتعقّب الباجي أوّلَ كلامه بأن من ناله أذاه لا يأثم بتركه، لأنه بعد أن ينكر بقلبه، أو ينكر بوجه، لا يناله به أذى.

ويحتمل أن يكون المراد براحة العباد منه، لما يقع لهم من ظلمه، وراحةُ الأرض منه

(1)

- "النهاية" ج 2 ص 274.

ص: 111

لما يقع عليها من غصبها، ومنعها من حقّها، وصرفه في غير وجهه، وراحة الدوابّ منه مما لا يجوز من إتعابها. ذكره في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "شرح مسلم": معنى استراحة العباد من الفاجر، اندفاع أذاه عنهم، وأذاه يكون من وجوه: منها ظلمه لهم، ومنها ارتكابه للمنكرات، فإن أنكروها قاسَوْا مشقّة من ذلك، وربما نالهم ضرره، وإن سكتوا عنه أثموا. واستراحة الدوابّ منه كذلك، لأنه يؤذيها بضربها، وتحميلها ما لا تطيقه، ويُجيعها في بعض الأوقات، وغير ذلك. واستراحة البلاد والشجر، فقيل: لأنها تُمنَع القطرَ بمعصيته. قاله الداوديّ. وقال الباجيّ: لأنه يَغصِبها، ويمنعها حقّها، من الشرب، وغيره انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن جميع ما ذكروه من أنواع الأذى صالح للدخول في معنى الحديث، فالأودى حمل الحديث عدى جميع أنواع الأذى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي قتادة صلى الله عليه وسلم متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وفيمن أخرجه معه: أخرجه هنا -48/ 1930 و 49/ 1931 وفي "الكبرى" 48/ 2057 و 49/ 2058 وأخرجه (خ) 6512 و 6513 (م) 2199 و2200 (أحمد) 22030 و 22086 و 32070 واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو بيان استراحة المؤمن من تعب الدنيا، وهمومها بموته (ومنها) تقسيم الناس إلى قسمين: مؤمن، وفاجر (ومنها): بيان فضل الإيمان (ومنها): بيان قبح الفجور، وأنه سبب البلايا والمصائب (ومنها): أن فجور الفاجر يتسبّب منه ضررالعباد، والبلاد، كما قال اللَّه تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} الآية [الروم: 41]. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

(1)

- "فتح" ج 11 ص 372. طبعة دار الريّان.

(2)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 24.

ص: 112

‌49 - (الاسْتِرَاحَة مِن الْكَافِرِ)

1931 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَهُوَ الْحَرَّانِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنِي زَيْدٌ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا، عِنْدَ

(1)

رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ طَلَعَتْ جَنَازَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مُسْتَرِيحٌ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ، فَيَسْتَرِيحُ مِنْ أَوْصَابِ الدُّنْيَا، وَنَصَبِهَا، وَأَذَاهَا، وَالْفَاجِرُ يَمُوتُ، فَيَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ» ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن وهب بن أبي كَرِيمة الْحَرَّانيّ) هو: محمد بن وهب بن عُمَر بن أبي كريمة، أبو المعافَى الحَرَّانيّ، صدوق [10] 191/ 306.

2 -

(محمد بن سلمة الحرّانيّ) الباهليّ مولاهم، ثقة [9] 191/ 306.

3 -

(أبو عبد الرحيم) خالد بن أبي يزيد سماك، أو رُستَم الأمويّ مولاهم، الحرّاني، ثقة [6] 191/ 306.

4 -

(زيد) بن أبي أُنيسة زيد، أبو أسامة الجَزَريّ،، كوفي الأصل، ثم سكن الرُّهَا، ثقة، له أفراد [6] 191/ 306.

5 -

(وهب بن كيسان) القرشيّ مولاهم، أبو نُعيم المدنيّ، ثقة، من كبار [4] 32/ 1592.

والباقيان تقدما في السند الذي قبله، والحديث متَّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به في الحديث الماضي، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: "إذ طَلَعت" -بفتح الطاء المهملة، واللام-: أي ظهرت. وقوله: "من أوصاب الدنيا": جمع وَصَب -بفتح الواو، والمهملة، آخره موحّدة: وهو دوام الوجع، ويطلق أيضًا على فتور البدن، وفي نسخة "من مصائب الدنيا". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- وفي نسخة "مع".

ص: 113

‌50 - (بَابُ الثَّنَاءِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد جواز ثناء الناس على الميت، وقد ترجم الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، بنحو من ترجمته، حيث قال:"باب ثناء الناس على الميت". أي مشروعية الثناء على الميت، وجوازه مطلقًا، بخلاف الحيّ، فإنه منهيّ عنه، إذا أفضى إلى الإطراء، خشيةً عليه من الزَّهْوِ، أشار إلى ذلك الزين ابن المُنَيِّر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1932 أ- (أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: مُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ» ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ». فَقَالَ عُمَرُ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، مُرَّ بِجَنَازَةِ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقُلْتَ: وَجَبَتْ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا، فَقُلْتَ: وَجَبَتْ، فَقَالَ: «مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ»).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(زياد بن أيّوب) أبو هاشم الطُّوسيّ، نزيل بغداد، يُلقب دَلُّويَهْ، وكان يَغضَب منها، ولقبه أحمد شعبةَ الصغير، ثقة حافظ [10] 101/ 132.

2 -

(إسماعيل) ابن عُليّة البصريّ الحافظ الحجة [8] 18/ 19.

3 -

(عبد العزيز) بن صُهَيب البُنَانيّ البصريّ، ثقة [4] 17/ 1643.

4 -

(أنس) بن مالك رضي الله عنه 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو (114) وهو أعلى الأسانيد له، كما تقدّم غير مرّة، وأنه مسلسل بثقات البصريين، غير شيخه، فطوسيّ، ثم بغداديّ، وفيه أنس صلى الله عليه وسلم أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أنَسِ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (قَالَ: مُرَّ) بضمّ الميم، على البناء للمفعول (بِجَنَازَةٍ) تقدّم ضبطه بالكسر والفتح، واختلاف العلماء في معناه (فَأُثنِيَ عَلَيْهَا) قال الفيّوميّ -رحمه

(1)

- "فتح" ج 3 ص 595.

ص: 114

اللَّه تعالى-: الثناء بالفتح والمدّ، يقال: أثنيت عليه خيرًا، وبخير، وأثنيت عليه شرّا، وبشرّ، لأنه بمعنى وَصَفْتُهُ، هكذا نصّ عليه جماعة، منهم صاحب "المحكم"، وكذلك صاحب "البارع"، وعزاه إلى الخليل، ومنهم محمد بن القُوطِيّة، وهو الحبر الذي ليس في منقوله غَمْزٌ، والبحر الذي ليس في منقوده لَمْز، وكأن الشاعر عَنَاه بقوله:

إِذَا قَالَتْ: حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا

فَإنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَتْ: حَذَامِ

وقد قيل فيه: هو العالم النَّحْرير، ذو الإتقان والتحرير، والحجّةُ لمن بعده، والبُرْهان الذي يوقَف عنده.

وتبعه على ذلك مَن عُرف بالعدالة، واشتَهَرَ بالضبط، وصحّة المقالة، وهو السَّرَقُسْطِيُّ، وابن القَطّاع، واقتصر جماعة على قولهم: أثنيت عليه بخير، ولم يَنفُوا غيرَه، ومن هذا اجترأ بعضهم، فقال: لا يُستعمَل إلا في الحسن، وفيه نظر؛ لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدلّ على نفيه عما عداه، والزيادة من الثقة مقبولة، ولو كان الثناء لا يُستعمل إلا في الخير كان قول القائل: أثنيت على زيد كافيًا في المدح، وكان قوله:"له الثناء الحسن"، لا يُفيد إلا التاكيد، والتأسيسُ أولى، فكان في قوله:"الحسن" احترازٌ عن غير الحسن، فإنه يُستعمل في النوعين، كما قال:"والخير في يديك، والشرّ ليس إليك". وفي "الصحيحين": مَرُّوا بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا

"، فقال صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَت"، ثم مرّوا بأخرى، فأثنوا عليها شرّا، فقال صلى الله عليه وسلم: "وَجبت"، وسُئل عن قوله: "وجبت؟ "، فقال: "هذا أثنيتم عليه خيرّا، فوجبت له الجنّة، وهذا أثنيتم عليه شرّا، فوجبت له النار

" الحديث. وقد نُقِل النوعان في واقعتين، تراخت إحداهما عن الأخرى، من العدل الضابط، عن العدل الضابط، عن العرب الفصحاء، عن أفصح العرب، فكان أوثق من نقل أهل اللغة، فإنهم قد يَكتفون بالنقل عن واحد، ولا يُعرَف حاله، فإنه قد يَعْرِض له ما يُخرجه عن حيِّزِ الاعتدال، من دَهَشٍ، وسُكْرٍ، وغير ذلك، فإذا عُرِف حاله لم يُحتجّ بقوله.

وَيرجِع قول من قال: لا يُستعمل إلا في الشرّ إلى النفي، وكأنه قال: لم يُسمع، فلا يقال، والإثبات أولى، ولله درّ من قال:

وَإِنَّ الْحَقَّ سُلْطَانٌ مُطَاعُ

وَمَا لِخِلَافِهِ أَبدًا سَبِيلُ

وقال بعض المتأخرين: إنما استُعمل في الشرّ في الحديث للازدواج. وهذا كلام من لا يَعرف اصطلاح أهل العلم بهذه اللفظة. انتهى كلام الفيّوميّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

(1)

- "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" في مادة ثنى.

ص: 115

(خَيْرًا) صفة لمصدر محذوف، أي ثناءً خيرًا، أو هو منصوب بنزع الخافض، أي أُثني عليها بخير.

وفي رواية النضر بن أنس، عن أبيه، عند الحاكم:"كنتُ قاعدًا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمُرّ بجنازة، فقال: "ما هذه الجنازة؟ "، قالوا: جنازة فلان ابن فلان الفلانيّ، كان يحبّ اللَّه ورسوله، ويَعمل بطاعة اللَّه، وَيسعَى فيها، وقال ضدّ ذلك في التي أثنوا عليها شرّا". ففيه تفسير ما أبهم من الخير والشرّ في رواية عبد العزيز. وللحاكم أيضًا من حديث جابر رضي الله عنه: "فقال بعضهم: لنعم المرءُ، لقد كان عفيفًا مسلمًا"، وفيه أيضًا:"فقال بعضهم: "بئس المرءُ كان، إن كان لَفَظًّا غليظًا".

(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَتْ") أي ثبتت له الجنّة. وفي رواية لمسلم: "وجبت، وجبت، وجبت" ثلاث مرّات. قال النوويّ: والتكرار فيه لتأكيد الكلام المهتمّ بتكراره، ليُحفَظَ، ويكون أبلغ انتهى.

(وَمُرَّ بجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا) قال الطيبيّ: استعمال الثناء في الشرّ مشاكلة، أو تهكّم انتهى. وقال القاري: ويمكن أن يكون أثنوا في الموضعين بمعنى وصفوا، فيحتاج إلى القيد، ففي "القاموس": الثناء وصف بمدح، أو ذمّ، أو خاصّ بالمدح انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم في كلام الفيّوميّ أن الصواب عند أهل اللغة أنّ الثناء هو الوصف مطلقًا، وأما كونه خاصّا بالمدح فغير ثابت عنهم، وقد اعترض الشارح على صاحب "القاموس" قولَه: أو خاصّ بالمدح بأنه لم يَقُل به أحد ممن يوثق به

(1)

.

فما ادعاه الطيبيّ من المشاكلة، وكذا ما أجاب به القاري غير صحيح. فتبصّر بالتحقيق، واللَّه تعالى الهادي إلى أقوم الطريق.

(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَتْ"، فَقَالَ عُمَرُ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمَّي) فيه جواز التفدية بالأبوين (مُرَّ بِجَنَازَةِ) ببناء الفعل للمفعول، وكذا قوله (فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقُلْتَ: وَجَبَتْ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَاُثْنِيَ عَلَيهَا شَرًّا، فَقُلْتَ: وَجَبَتْ) يعني ما المراد بقولك: "وجبت" في هاتين الجنازتين (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَثْنَيتُمْ عَلَيهِ خَيْرًا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ) يعني أن المراد بقوله: "وجبت" أي الجنّة لذي الخير، والنار لذي الشرّ، والمراد بالوجوب الثبوت، إذ هي في صحّة الوقوع كالشيء الواجب، والأصل أنه لا يجب على اللَّه شيء، بل الثواب فضله، والعقاب عدله، لا يسأل عما يفعل.

(1)

- انظر ما كتبه نصر الهُورينيّ على هامش "ق" ص 1141.

ص: 116

ورواية المصنّف -وهي لمسلم أيضًا- بلفظ "من أثنيتم الخ" أبين قي العموم من رواية البخاريّ، بلفظ:"هذا أثنيتم عليه خيرًا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرّا، فوجبت له النار".

وفيها ردٌّ على من زعم أن ذلك خاصّ بالميتين المذكورين، لغيب أطلع اللَّه نبيه صلى الله عليه وسلم عليه، فالصواب أنه خبر عن حكم أعلمه اللَّه تعالى به. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قوله صلى الله عليه وسلم: "من أثنيتم شرّا الخ" يشكل عليه النهي عن سبّ الأموات -الآتي بعد باب- وأجيب عن هذا الإشكال بأوجه:

(أحدها): أن الذي تحُدّث عنه بالشرّ كان مستظهرًا له، ومشهورًا به. (الثاني): أن محمل النهي إنما هو فيما بعد الدفن، وأما قبله، فيجوز، ليتعظ به الفسّاق، وهذا كما يُكره لأهل الفضل الصلاة على المعلن بالبدَع والكبائر. (الثالث): أن الذي أثنى عليه الصحابة بالشرّ يحتمل أن يكون من المنافقين، ظهرت عليه دلائل النفاق، فشهدت الصحابة بما ظهر لهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"وجبت له النار"، والمسلم لا تجب له النار، وهذا هو مختار القاضي عياض -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (الرابع): أن النهي عن سبّ الأموات متأخر عن هذا الحديث، فيكون ناسخا. أفاده القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الوجه الأول أرجح. واللَّه تعالى أعلم.

(أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ") وفي رواية مسلم تكراره ثلاث مرّات، "أنتم شهداء اللَّه في الأرض، أنتم شهداء اللَّه في الأرض، أنتم شهداء اللَّه في الأرض".

والخطاب للصحابة، ومن كان على صفتهم من الإيمان. وحكى ابن التين أن ذلك مخصوص بالصحابة، لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة، بخلاف من بعدهم. قال: والصواب أن ذلك يختصّ بالثقات والمتقين انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحق كونه عاما للصحابة، وغيرهم من المؤمنين، فقد ثبت في "صحيح البخاريّ" في "كتاب الشهادات" بلفظ:"المؤمنون شهداء اللَّه في الأرض". وللمصنف من حديث أبي هريرة التالية: "الملائكة شهداء اللَّه في السماء، وأنتم شهداء اللَّه في الأرض"، ولأبي داود، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا في نحو هذه القصّة:"إن بعضكم عدى بعض لشهيد". واللَّه تعالى أعلم.

وقال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: والظاهر أن الذي أثنوا عليه شرّا كان من المنافقين. انتهى.

(1)

- "المفهم" 2 ص 607 - 608.

ص: 117

قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: يرشد إلى ذلك ما رواه أحمد من حديث أبي قتادة رحمه الله بإسناد صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم لم يصلّ على الذي أثنوا عليه شرّا، وصلى على الآخر انتهى

(1)

.

وقال الداوديّ رحمه الله: المعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق، لا الفَسَقَة، لأنهم يُثنون على من يكون مثلهم، ولا من بينه وبين الميت عداوة، لأن شهادة العدوّ لا تقبل انتهى.

ونقل الطيبيّ عن بعض شرّاح "المصابيح" قال: ليس معنى قوله: "أنتم شهداء اللَّه في الأرض" أن الذي يقولونه في حقّ شخص يكون كذلك حتى يصير من يستحقّ الجنة من أهل النار بقولهم، ولا بالعكس، بل معناه أن الذي أثنوا عليه خيرًا رأوه منه كان ذلك علامة كونه من أهل الجنّة، وبالعكس.

وتعقّبه الطيبيّ بأن قوله: "وجبت" بعد الثناء حُكْمٌ عَقَبَ وصفًا مناسبًا، فأشعر بالعلّيّة، وكذا قوده:"أنتم شُهداء اللَّه في الأرض"، لأن الإضافة فيه للتشريف، لأنهم بمنزدة عالية عند اللَّه، فهو كالتزكية للأمّة بعد أداء شهادتهم، فينبغي أن يكون لها أثرٌ، قال: وإلى هذا يومىء قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الآية [البقرة: 143].

قال الحافظ: وقد استشهد محمد بن كعب القُرَظيّ لما روى عن جابر نحو حديث أنس رضي الله عنه بهذه الآية، أخرجه الحاكم. وقد وقع ذلك في حديث مرفوع غيرِه عند ابن أبي حاتم في التفسير، وفيه أن الذي قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما قولك: وجبت" هو أُبَيّ بن كعب.

وقال النوويّ: قال بعضهم: معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أَثْنَى عليه أهل الفضل، وكان ذلك مطابقًا للواقع، فهو من أهل الجنّة، فإن كان غير مطابق فلا، وكذا عكسه. قال: والصحيح أنه على عمومه، وأن من مات منهم، فألهم اللَّه تعالى الناس الثناء عليه بخير، كان دليلًا على أنه من أهل الجنّة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك، أولا، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة، وهذا إلهام، يُستدلّ به على تعيينها، وبهذا تظهر فائدة الثناء انتهى.

قال الحافظ: وهذا في جانب الخير واضح، ويؤيده ما رواه أحمد، وابن حبّان، والحاكم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه، مرفوعًا: "ما من مسلم

(1)

- "فتح" ج 3 ص 596.

ص: 118

يموت، فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعدمون منه إلا خيرًا، إلا قال اللَّه تعالى: قد قبِلتُ قولكم، وغفرت له ما لا تعلمون". ولأحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، وقال: "ثلاثة" بدل "أربعة"، وفي إسناده من لم يُسمّ، وله شاهد من مراسيل بُشير بن كعب، أخرجه أبو مسلم الكجيّ.

وأما جانب الشرّ فظاهر الأحاديث أنه كذلك، لكن إنما يقع ذلك في حقّ من غلب شرّه على خيره. وقد وقع في رواية النضر المشار إليها أوّلًا في آخر حديث أنس:"إن للَّه ملائكة، تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشرّ". انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -50/ 1930 وفي "الكبرى" 50/ 20590 وأخرجه (خ) 1368 و 2642 (م) 2197 و 21978. (ت) 1058 (ق) 1491. (أحمد) 1491 و 12426 و 125226 و 12627 و 12791. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو مشروعيّة الثناء على الميت بما فيه من خير وشر، للحاجة، ولا يكون ذلك من الغيبة المحرّمة (ومنها): فضيلة هذه الأمة، حيث كانت شهداء اللَّه تعالى في أرضه، كما قال اللَّه تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} الآية [البقرة: 143]. (ومنها): إعمال الحكم بالظاهر (ومنها): أنه أصل في قبول الشهادة بالاستفاضة، وأن أقلها اثنان، لقوله في حديث عمر رضي الله عنه الآتي:"فقلنا: واثنان؟ قال: واثنان". (ومنها): ما قاله ابن العربي رحمه الله: فيه جواز الشهادة قبل الاستشهاد، وقبولها قبل الاستفصال (ومنها): قيل: فيه استعمال الثناء في الشرّ للمؤاخاة والمشاكلة، وحقيقته إنما هو في الخير.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا قيل، لكن تقدّم أن الصواب استعمال الثناء في الخير والشرّ، ولم يثبت عمن يعتبر قوله من أهل اللغة عدم استعماله في الشرّ، فقوله: للمؤاخاة والمشاكلة الخ غير صحيح، كما تقدّم، فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّرْ

(1)

- "فتح" ج 3 ص 598.

ص: 119

بتقديد ذوي الاعتساف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1933 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَامِرٍ، وَجَدُّهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ». ثُمَّ مَرُّوا بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْلُكَ الأُولَى وَالأُخْرَى: «وَجَبَتْ» ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْمَلَائِكَةُ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ، وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن بشّار) بُندار البصريّ الحافظ الثبت [10] 24/ 27.

2 -

(هشام بن عبد الملك) أبو الوليد الطيالسيّ البصريّ، ثقة ثبت [9] 122/ 172.

3 -

(شعبة) بن الحجّاج الإمام الحافظ الثبت الحجة البصريّ [7] 24/ 26.

4 -

(ابراهيم بن عامر) بن مسعود بن أميّة بن خلف بن وهب بن حُذَافة بن جُمَح القرشيّ الجمحيّ الكوفيّ، ثقة [6].

قال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق، لا بأس به. روى له أبو داود، والمصنف. وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: قوله: "وجدّه أميه بن خَلَف" جملة من مبتدإ وخبر، أتى بها، تنبيهًا على أنه وقع في جدّه وَهَمٌ لأبي داود الطيالسيّ، فقال: هو إبراهيم بن عامر بن سعد بن أبي وقّاص.

فقد ذكر في "تت" في ترجمة إبراهيم بن عامر: ما نصّه: في كتاب ابن أبي حاتم: سألت أبي، قلت: فإن أبا داود الطيالسيّ روى عن شعبة، عن إبراهيم بن عامر بن سعد بن أبي وقّاص؟، فقال: هذا وَهَمٌ من أبي داود، وإنما هو إبراهيم بن عامر بن مسعود انتهى

(1)

.

والحاصل أن الصواب أنه حفيد مسعود بن أمية بن خلف، لا حفيد سعد بن أبي وقّاص. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(عامر بن سعد) البجلي، مقبول [3].

روى عن أبي مسعود، وأبي قتادة، وأبي هريرة، وغيرهم. وعنه أبو إسحاق السبيعي، والْعَيْزار بن حُريث، وإبراهيم بن عامر الْجُمَحيّ. ذكره ابن حبانّ في "الثقات". أخرج له مسلم حديثًا واحدًا، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، وحديث اللَّهو عند الْعُرْس يأتي برقم (180/ 3384).

(1)

- "تت" ج 1 ص 70 طبعة مؤسسة الرسالة.

ص: 120

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1.

وقوله: "قولك للأولى والأخرى وجبت": مبتدأ، وخبره محذوف، أي قولك للجنازة الأولى، والجنازة الأخرى: وجبت ما معناه؟.

وهذا هو الذي وقع في بعض النسخ، كما أشار إليه في هامش "الهندية"، ووقع في معظم نسخ "المجتبى":"قولك الأولى والأخرى وجبت" بتأنيث "الأولى، والأخرى" وفيه بُعدٌ، ووقع في "الكبرى":"قولك الأول والآخر" وهو صحيح.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، ولا يقال: في سنده عامر بن سعد، وهو مقبول، لأنا نقول: رَوَى عنه جماعة، ووثقه ابن حبّان وأحاديث الباب تشهد لحديثه. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث أخرجه المصنّف هنا -51/ 1933 - وفي "الكبرى" 50/ 2060 - وأخرجه (د) 3233 (ق) 1492 (أحمد) 7499 و 9684 و 9726 و 10593 و 10455. وشرحه يُعلم مما قبله، وكذا فوائده. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1934 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، قَالَا: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَمُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى، فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثِ، فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شَرًّا، فَقَالَ عُمَرُ: وَجَبَتْ. فَقُلْتُ: وَمَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: قُلْتُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ، شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ، قَالُوا: خَيْرًا، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ» ، قُلْنَا: أَوْ ثَلَاثَةٌ؟ قَالَ: «أَوْ ثَلَاثَةٌ». قُلْنَا: أَوِ اثْنَانِ؟ قَالَ: «أَوِ اثْنَانِ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المذكور قبل بابين.

2 -

(هشام بن عبدالملك) المذكور في الذي قبله.

3 -

(عبد اللَّه بن يزيد) المقرىء المكيّ، ثقة فاضل [9] 4/ 746.

4 -

(داود بن أبي الفُرَات) عَمْرِو بن الفُرات، الكنديّ، أبو عمرو المروزيّ، قدم البصرة، ثقة [8].

وثّقه ابن المبارك، وابن معين، وأبو داود، والعجليّ، وقال الدارقطنيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات ". مات سنة (167). روى له البخاريّ، والترمذيّ، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: قال في "الفتح": قوله: "حدثنا داود بن أبي الْفُرَات" هو بلفظ النهر

ص: 121

المشهور، واسمه عمرو، وهو كنديّ، من أهل مروَ، ولهم شيخ آخر، يقال له: داود ابن أبي الفرات، اسم أبيه بكر، وأبو الفرات اسم جدّه، وهو أشجعيّ، من أهل المدينة، أقدمُ من الكنديّ انتهى

(1)

.

5 -

(عبد اللَّه بن بُريدة) بن الحُصَيب الأسلميّ، أبو سهل المروزيّ قاضيها، ثقة [3] 25/ 393.

6 -

(أبو الأسود الديليّ) -بكسر المهملة، وسكون التحتانيّة- ويقال: الدُّؤَليّ - بالضمّ، بعدها همزة مفتوحة- البصريّ القاضي، اسمه ظالم بن عمرو بن سُفيان بن جَنْدَل بن يَعمَر بن حِلْس بن نُفاثة بن عديّ بن الدِّيل، ويقال: اسمه عمرو بن ظالم، ويقال: بالتصغير فيهما، ويقال: عمرو بن عُثمان، أو عثمان بن عمرو، ثقة فاضل مخضرم [2].

قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة. وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقة، وهو أول من تكلّم في النحو. وقال ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل البصرة: كان شاعرًا متشيّعًا، وكان ثقة في حديثه، إن شاء اللَّه تعالى، وكان ابن عباس لما خرج من البصرة استخلف عليها أبا الأسود، فأقرّه عليّ رضي الله عنهم. وذكره ابن عبد البرّ في "الاستيعاب"، فقال: كان ذا دين، وعقل، ولسان، وبيان، وفَهْم، وذَكاء، وحَزْم، وكان من كبار التابعين. وذكره ابن حبّان في ثقات التابعين.

وقال الواقديّ: كان ممن أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقاتل مع عليّ يوم الجمل، وهلك في ولاية عُبيد اللَّه بن زياد.

وقال يحيى بن معين وغيره: مات في طاعون الجارف سنة (69) وفيها أرّخه ابن أبي خَيثَمة، والْمَرزُبَانيّ، وزاد: وكان له يوم مات (85) سنة. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان، هذا وحديث "إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم"، كرره "ثلاث مرات برقم 5080 و 5081 و 5082.

7 -

(عمر بن الخطّاب) رضي الله عنه 60/ 75. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كدهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- "فتح" ج 3 ص 596.

ص: 122

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدَّيْلى) التابعيّ الكبير المشهور، قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: لم أره من رواية عبد اللَّه بن بُرَيدة عنه إلا معنعنًا، وقد حكى الدارقطنيّ في "كتاب التتبّع" عن عليّ بن المديني أن ابن بُريدة إنما يروي عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود، ولم يقل في هذا الحديث: سمعت أبا الأسود.

قال الحافظ: وابن بريدة وُلد في عهد عمر، فقد أدرك أبا الأسود بلا ريب، لكن البخاريّ لا يكتفي بالمعاصرة، فلعلّه أخرجه شاهدّا، واكتفى للأصل بحديث الذي قبله. واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

(قَالَ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ) وفي رواية البخاريّ، من روايته عن عفّان بن مسلم، عن داود بن أبي الفرات:"قَدِمتُ المدينة، وقد وقع بها مرض"، وزاد في "الشهادات" عن موسى بن إسماعيل، عن داود:"وهم يموتون موتا ذَرِيعًا". وهو بالذال المعجمة، أي سريعًا.

(فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) يحتمل أن تكون "إلى" هنا على بابها لانتهاء الغاية، والمعنى: انتهى جلوسي إلى عمر رضي الله عنه، ويحتمل أن تكون بمعنى "عند"، أي جلست عنده، على حدّ قول الشاعر [من البسيط]:

أَمْ لَا سَبِيلَ إِلَى الشَّبَابِ وَذِكْرُهُ

أَشْهَى إِلَيَّ مِنَ الرَّحِيقِ السَّلْسَلِ

أي عندي

(2)

.

(فَمُرَّ بجَنَازَةِ) ببناء الفعل للمفعول (فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا) قال في "الفتح": كذا في جميع اَلأصول "خيرًا" بالنصب، وكذا "شرّا" وقد غَلِطَ من ضبط "أثنى" بفتح الهمزة، على البناء للفاعل، فإنه في جميع الأصول مبنيّ للمفعول. قال ابن التين: والصواب الرفع، وفي نصبه بُعْدٌ في اللسان. ووجّهه غيره بأن الجارّ والمجرور أُقيم مقام المفعول الأول، و"خيرا" مقام الثاني، وهو جائز، وإن كان المشهور عكسه، كما قال في "الخلاصة":

وَقَابِلٌ مِنْ ظَرْفٍ أَوْ مِنْ مَصْدَرِ

أَوْ حَرْفِ جَرٍّ بِنِيَابَةٍ حَرِي

وَلَا يَنُوبُ بَعْضُ هَذِي إِنْ وُجِدْ

فِي اللَّفْظِ مَفْعُولْ بِهِ وَقَدْ يَرِدْ

وقال النوويّ رحمه الله: منصوب بنزع الخافض، أي أُثني عليه بخير. وقال ابن مالك

(1)

- "فتح" ج 3 ص 597.

(2)

- انظر "مغني اللبيب" ج 1 ص 75. و"عمدة القاري" ج 7 ص 116.

ص: 123

-رحمه الله: "خيرًا" صفة لمصدر محذوف، فأقيمت مقامه، فنُصبت، لأن أُثني مسند إلى الجارّ والمجرور، قال: والتفاوت بين الإسناد إلى المصدر، والإسناد إلى الجارّ والمجرور قليل انتهى.

(فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (وَجَبَتْ) أي ثبتت الجنّة (ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى) أي بجنازة أخرى (فَأُثْنيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ: وَجَبَث، ثُمَّ مُرَّ بالثَّالِثِ) هكذا نسخ "المجتبى""بالثالث" بالتذكير، وإنما ذكّره، وإن كان صفة لجنازة، لَأنها بمعنى الميت، وقد تقدّم أن الجنازة تطلق على الميت، على خلاف في فتح الجيم، وكسرها، والذي في "الكبرى"، و"صحيحِ البخاري":"بالثالثة"، ولا إشكال فيه، لأنه صفة لجنازة (فَأثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شَرًّا، فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (وَجَبَتْ، فَقُلْتُ) القائل هو أبو الأسود المذكور -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- (وَمَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟) هو معطوف على مقدّر، أي قلت: هذا شيء عجيب، وما معنى قولك لكلّ منها: وجبت مع اختلاف الثناء بالخير والشرّ.

(قَالَ) عمر رضي الله عنه (قُلْتُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا مُسْلِمٍ) قال في "الفتح": الظاهر أن قوله: "أيما مسلم" هو المقول، فحينئذ يكون قول عمر لكلّ منها:"وجبت" قاله بناء على اعتقاده صِدقَ الوعدِ المستفادِ من قوله صلى الله عليه وسلم: "أدخله اللَّه الجنة".

وأما اقتصار عمر على ذكر أحد الشقّين، فهو إما للاختصار، وإما لإحالته السامع على القياس، والأول أظهر.

وعُرِف من القصّة أن المُثْنِيَ على كلٍّ من الجنائز المذكورة كان أكثر من واحد، وكذا في قول عمر: قلنا: "وما وجبت" إشارةٌ إلى أن السائل عن ذلك هو وغيره. وقد وقع في تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: آية 143] عند ابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن أبيّ بن كعب ممن سأل عن ذلك

(1)

.

(شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ) أي من المسلمين، وظاهره العموم، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك، أو لا، كما اختاره النووي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وقد تقدم ذلك (قَالُوا: خَيْرًا) تفسير لشهادتهم، أي أثنوا عليه خيرًا. واللَّه تعالى أعلم (أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ"، قُلْنَا: أَوْ ثَلَاثَةٌ؟)

وفي رواية البخاريّ: "وثلاثة" بالواو، أي أو شهد له ثلاثة، فما الحكم؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَوْ ثَلَاثَةٌ") أي أو شهد له ثلاثة، أدخله اللَّه الجنة.

وفيه اعتبار مفهوم الموافقة، لأنهم سالوا عن الثلاثة، ولم يسألوا عما فوق الأربعة، كالخمسة مثلاً. وفيه أن مفهوم العدد ليس دليلًا قطعيّا، بل هو في مقام الاحتمال. قاله

(1)

- "فتح" ج 3 ص 597.

ص: 124

في "الفتح".

(قُلْنَا: أَوِ اثْنَانِ؟ قَالَ: "أَوِ اثْنَانِ") زاد في رواية البخاريّ: "ثم لم نسأله عن الواحد". وإنما لم يسألوا عن الواحد، استبعادًا منهم أن يُكتفَى في مثل هذا المقام العظيم بأقلّ من النصاب. أفاده ابن المنيّر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-.

وقد استدلّ به البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- على أن أقلّ ما يُكتفَى به في الشهادات اثنان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عمر رضي الله عنه هذا أخرجه المصنّف هنا - 50/ 1934 - وفي "الكبرى" -50/ 2561 - وأخرجه (خ) 1328 و 2643 (ت) 1059 (أحمد) 140 و 204 و 320. وبقية متعلقات الحديث تقدمت قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطلت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌51 - (النَّهْيُ عَنْ ذِكْرِ الْهَلْكَى إِلَّا بِخَيْرٍ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على النهي عن ذكر الأموات إلا بخير أعمالهم.

فـ "ذكر" مصدر مضاف إلى المفعول، وحُذِفَ فاعله، أي ذكر الناس الهلكى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1935 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَالِكٌ بِسُوءٍ، فَقَالَ: «لَا تَذْكُرُوا هَلْكَاكُمْ، إِلاَّ بِخَيْرٍ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إبراهيم بن يعقوب) الْجُوزَجانيّ الثقة الحافظ [11] 122/ 174.

2 -

(أحمد بن إسحاق) بن زيد بن عبد اللَّه الحضرمي، أبو إسحاق البصريّ، ثقة حافظ [11] 4/ 1827.

3 -

(وُهيب) بن خالد الباهليّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، تغيّر قليلاً بآخره [7] 21/ 427.

ص: 125

4 -

(منصور بن عبد الرحمن) بن طلحة العَبْدَريّ الحَجَبيّ المكيّ، ثقة [5] 159/ 251.

5 -

(صفية) بنت شيبة بن عثمان بن طلحة العبدرية، لها رؤية، وفي "صحيح البخاري" التصريح بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أنكر ذلك الدارقطنيّ 159/ 251.

6 -

(عائشة) رضي الله عنها 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. ومنها: أن رجاله كلهم رجال الصحيح. ومنها: أن فيه رواية الابن عن أمه، ورواية تابعي، عن تابعيّة، أو صحابيّة، عن صحابية، كما تقدم الخلاف في سماع صفية رضي الله عنها، من النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: أن فيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَالِكٌ) أي شخص ميت (بسُوءٍ) متعلّق بـ "ذُكر"، لا بـ "هالك"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا تَذْكُرُوا هَلْكَاكُمْ) أي أمواتكم. و"الهَلكى" -بفتح الهاء، وسكون اللام، وفتح الكاف- بوزن "فَعْلَى": جمع "هالك"، كما قال ابن مالك -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "الخلاصة":

فَعْلَى لِوَصْفٍ كقَتِيلٍ وَزَمِنْ

وَهَالِكٍ وَمَيِّتٌ بِهِ قَمِنْ

(إِلَّا بِخَيرِ") فإن قيل: هذا يشكل على ما تقدّم في الباب الماضي من قوله: "ومُرّ بجنازة، فأُثْنِي عليها شرّا"، حيث لم ينههم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الثناء بالشرّ.

أجيب بأن النهي عن سبّ الأموات هو في غير المنافق، وسائر الكفار، وفي غير المتظاهر بفسق، أو بدعة، فأما هؤلاء، فلا يحرم ذكرهم بالشرّ، للتحذير من طريقتهم، ومن الاقتداء بآثارهم، والتخلّق بأخلاقهم، والحديث الآخر محمول على أن الذي أثنوا عليه شرّا، كان مشهورًا بنفاق، أو نحوه، مما ذكرنا. قاله النووي في "شرح مسلم" انتهى

(1)

. واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عائشة رضي الله عنها هذا حديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أخرجه هنا -51/ 1935 - وفي "الكبرى"- 51/ 2062. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- "شرح صحيح مسلم" ج 7 ص 23.

ص: 126

‌52 - (النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الأَمْوَاتِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأولى أن تكون "ال" في "الأموات" عهديّة، أي أموات المسلمين، جمعًا بين أحاديث النهي عن السبّ، والأحاديث المبيحة له، كما سبق.

وإشارةً إلى هذا ترجم الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بقوله: "باب ما يُنْهَى عن سبّ الأموات".

قال الزين ابن الْمُنَيِّر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: لفظ الترجمة يشعر بانقسام السبّ إلى منهيّ عنه، وغير منهيّ، ولفظ الخبر مضمونه النهي عن السبّ مطلقًا، والجواب أن عمومه مخصوص بحديث أنس رضي الله عنه السابق، حيث قال صلى الله عليه وسلم عند ثنائهم بالخير والشرّ:"وجبت، وأنتم شهداء اللَّه في الأرض"، ولم ينكر عليهم.

ويحتمل أنّ اللام في "الأموات" عهدية، والمراد به المسلمون، لأن الكفّار مما يُتقرّب إلى اللَّه بسبّهم انتهى.

وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: في الكلام على حديث "وجبت": يحتمل أجوبةً: [الأول]: أن الذي كأن يُحَدَّث عنه بالشرّ كأن مستظهرّا به، فيكون من باب "لا غيبة لفاسق"

(1)

، أو كان منافقًا.

[ثانيها]: يحمل النهي على ما بعد الدفن، والجواز على ما قبله، ليتعظ به من سمعه.

[ثالثها]: يكون النهي العامّ متأخرًا، فيكون ناسخًا. وهذا ضعيف.

وقال ابن رُشيد رحمه الله: ما مُحَصَّله: أن السبّ ينقسم في حقّ الكفّار، وفي حقّ المسلمين، أما الكافر، فيُمنع إذا تأذّى به الحيّ المسلم، وأما المسلم، فحيث تدعو الضرورة إلى ذلك، كأن يصير من قبيل الشهادة، وقد يجب في بعض المواضع، وقد يكون فيه مصلحة للميت، كمن علم أنه أخذ ماله بشهادة زور، ومات الشاهد، فإن ذكر ذلك ينفع الميت، إن علم أن ذلك المال يُردّ إلى صاحبه، قال: ولأجل الغفلة عن هذا التفصيل ظنّ بعضهم أن البخاريّ سها عن حديث الثناء بالخير والشرّ. وإنما قصد البخاريّ أن يبيّن أن ذلك الجائز كأن على معنى الشهادة، وهذا الممنوع هو على معنى

(1)

- تقدّم أنه حديث ضعيف.

ص: 127

السبّ، ولَمّا كان المتن قد يُشعر بالعموم أتبعه بالترجمة التي بعده -يعني "باب ذكر شرار الموتى"- وتأول بعضهم الترجمة الأولى على المسلمين خاصّة، والوجه عندي حمله على العموم، إلا ما خصّه الدليل، بل لقائل أن يمنع أن ما كان على جهة الشهادة، وقصد التحذير يسمّى سبًا في اللغة.

وقال ابن بطّال -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: سب الأموات يجري مجرى الغيبة، فإن كان أغلب أحوال المرء الخيرَ، وقد تكون منه الفَلْتَة، فالاغتياب له ممنوع، وإن كان فاسقًا مُعلنًا، فلا غيبة له، فكذلك الميت.

ويحتمل أن يكون النهي على عمومه فيما بعد الدفن، والمباح ذكر الرجل بما فيه قبل الدفن، ليتّعظ بذلك فُساق الأحياء، فإذا صار إلى قبره أُمسك عنه لإفضائه إلى ما قَدَّم. وقد عَلِمَت عائشة راوية هذا الحديث بذلك في حقّ من استحقّ عندها اللعن، فكانت تلعنه، وهو حيّ، فلما مات تركت ذلك، ونهت عن لعنه. قاله في "الفتح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب

1936 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ بِشْرٍ، وَهُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا، إِلَى مَا قَدَّمُوا»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حُميد بن مسعدة) البصريّ، صدوق [10] 5/ 5.

2 -

(بشر بن المفضّل) أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت عابد [8] 66/ 82.

3 -

(شعبة) الإمام الحجة الثبت المشهور المذكور قبل باب.

4 -

(سليمان الأعمش) ابن مهران الكوفيّ الإمام الحافظ الحجة [5] 17/ 18.

5 -

(مجاهد) بن جَبْر الإمام المكيّ المفسّر الثبت [3] 27/ 31.

6 -

(عائشة) رضي الله عنه 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وبعده بالكوفيين إلا مجاهدًا فمكي، وعائشة، فمدنية. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ) ذَكَروا لذِكْرِ عاثشة رضي الله عنها لهذا الحديث سببًا، وهو ما أخرجه عُمر بن شبّة في

ص: 128

"كتاب أخبار البصريين" عن محمد بن يزيد الرفاعيّ، عن محمد بن فُضيل، عن الأعمش، عن مجاهد: أن عائشة قالت: ما فَعَل يزيد الأَرْحَبِيّ لعنه اللَّه؟ قالوا: مات، قالت: أستغفر اللَّه، قالوا: ما هذا؟، فذكرت الحديث. وأخرجه من طريق مسروق: أن عليّا بعث يزيد بن قيس الأَزحَبِيَّ في أيّام الجمل برسالة، فلم تردّ عليه جوابًا، فبلغها أنه عاب عليها ذلك، فكانت تلعنه، ثم لما بلغها موته نهت عن لعنه، وقالت:"إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهانا عن سبّ الأموات". وصححه ابن حبّان

(1)

من وجه آخر عن الأعمش، عن مجاهد بالقصّة. قاله في "الفتح"

(2)

.

(فَإِنَّهُمْ) الفاء للتعليل، أي لأنهم (قَدْ أَفْضَوْا) أي وَصَلوا (إِلَى مَا قَدَّمُوا") من التقديم، أي لأنفسهم من الأعمال، والمراد جزاؤها، أي فلا ينفع سبّهم فيهم، كما ينفع سبّ الحيّ في النهي والزجر، حتى لا يقعَ في الهلاك، نعم قد يتضمّن سبهم مصلحة الحيّ، كما إذا كان لتحذيره عن طريقتهم مثلاً، فيجوز لذلك، كما تقدّم، قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-

(3)

. وقال في "الفتح": واستُدلّ به عدى منع سبّ الأموات مطلقًا، وقد تقدّم أن عمومه مخصوص، وأصحّ ما قيل في ذلك أن أموات الكفّار، والفسّاق يجوز ذكر مساويهم، للتحذير منهم، والتنفير عنهم، وقد أجمع العلماء على جواز جرح المجروحين، من الرواة أحياء، وأمواتا انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسالتان تتعلّقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه البخاريّ.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -52/ 1936 - وفي "الكبرى" 52/ 2063. وأخرجه (خ) 1393 و 6516 (1) 4899 (أحمد) 1942 و 2494 (الدارميّ) 2511 (ابن حبّان في صحيحه) 3021.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1937 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ

(1)

- انظر "صحيح ابن حبان" ج 7 ص 29 - 291 رقم الحديث 3021. وقال في آخره: قال أبو حاتم: ماتت عائشة سنة (57) وولد مجاهد سنة (21) في خلافة عمر، فدلّك هذا على أن من زعم أن مجاهدا لم يسمع من عائشة كان واهماً في قوله ذلك انتهى.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 633.

(3)

- "شرح السندي" ج 3 ص 53.

ص: 129

أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ: أَهْلُهُ، وَمَالُهُ، وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، أَهْلُهُ، وَمَالُهُ، وَيَبْقَى وَاحِدٌ، عَمَلُهُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لم يظهر دي إيراد المصنف رحمه الله لهذا الحديث في هذا الباب؛ لأنه ليس فيه النهي عن سبّ الأموات، اللَّهم إلا إذا قيل: إن فيه بيان تفسير قوله في الحديث الماضي: "ما قدّموا" بأنه العمل، ولا يخفى ما فيه، إذ لا خفاء في معناه حتى يُحتَاج إلى تفسيره.

ويحتمل أن يكون سقط من الناسخ الترجمة المناسبة لهذا الحديث، وهذا فيه بُعدٌ أيضًا، إذ ليس هذا خاصّا بـ "المجتبى"، بل هو كذلك في "الكبرى". ويأتي الإشكال أيضًا في الحديث التالي، كما سأذكره، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

ورجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قيبة) بن سعيد الحافظ الثبت [10] 1/ 1.

2 -

(سفيان) بن عُيينة الإمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.

3 -

(عبد اللَّه بن أبي بكر) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ، أبو محمد المدنيّ القاضي، ثقة [5] 118/ 163.

4 -

(أنس بن مالك) رضي الله عنه 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو (115) من رباعيات الكتاب، وهو أعلى الأسانيد له، كما تقدّم غير مرّة. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وأنه خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، وأنه آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ) بن محمد بن عمرو بن حزم، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أنَسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يتْبَعُ الْمَيِّتَ) أي إلى القبر (ثَلَاَثةٌ) قال الحافظ رحمه الله: هذا يقع في الأغلب، ورب ميت لا يتبعه إلا عمله فقط. والمراد من يتبع جنازته، من أهله، ورفقته، ودوابّه، على ما جرت به عادة العرب، وإذا انقضى أمر الحزن عليه رجعوا، سواء أقاموا بعد الدفن أم لا انتهى

(1)

(أَهْلُهُ) بالرفع بدل تفصيل من

(1)

- "فتح" ج 13 ص 173.

ص: 130

"ثلاثة"، أهله إن كان له أهل (وَمَالُهُ) أي عبيده، ودوابّه، إن كان له ذلك (وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، أَهْلُهُ، وَمَالُهُ، ويبْقَى وَاحِدٌ، عَمَلُهُ") بالرفع بدل من "واحد"، أي يبقى مع الميت أحد الثلاثة التي تبعته، وهو عَمَلُه الذي عَمِلَه، فينبغي الاهتمام بصلاحه، لا بصلاح الاثنين الباقيين، إلا فيما يتعلّق بأمور الآخرة، كتعليم أهله دينهم، والقيام بماله، لينفقه في سبيل اللَّه تعالى.

وقال الكرمانيّ: التبيعية في حديث أنس رضي الله عنه، بعضُها حقيقة، وبعضها مجاز، فيستفاد منه استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه.

قال الحافظ: هو في الأصل حقيقة في الحسّ، ويطرقه المجاز في البعض، وهو المال

(1)

، وأما العمل فعلى الحقيقة في الجميع، وهو مجاز بالنسبة إلى التبعيّة في الحسّ انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درحته:

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -52/ 1937 - وفي "الكبرى"-52/ 2064 - وأخرجه (خ) 6514 (م) 2960 (ت) 2379 (أحمد)11670. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: فى فوائده:

(منها): أن العمل يدخل القبر مع الإنسان، فينتفع به إن كان صالحا، ويتضرّر به، إن كان غير صالح، وقد ورد ذلك في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما الطويل في صفة المسألة في القبر عند أحمد وغيره، ففيه:"وبأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت تُوعَد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي".

وقال في الكافر: "ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، مُنتِنُ الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت تُوعَد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة"

الحديث. وقد

(1)

- وقع في نسخة "الفتح": "وكذا المال"، والظاهر أن الصواب، "وهو كالمال"، لأنه مثال للبعض الذي يطرقه المجاز، وهو حسّيّ. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

- "فتح" ج 13 ص 173.

ص: 131

ذكرت الحديث بطوله في هذا الشرح في "باب ما يُلَقَّى به المؤمن من الكرامة عند خروج نفسه" 9/ 1833. وباللَّه تعالى التوفيق.

(ومنها): التنبيه على الاهتمام بإصلاح العمل، حيث إنه لا يفارق عامله في دار البقاء (ومنها): أن مما يجب على العاقل عدمَ الاشتغال بالأهل والمال عن الأعمال الصالحات، إلا فيما له تعلّق بالآخرة، كتعليم أهله دينهم، وتوجيههم إلى الخير، والقيام بماله، ليصل به رحمه، ويواسي به الفقراء والمحتاجين، وينفقه في سبيل اللَّه تعالى، فإنه هذا يعدّ من أعماله الصالحات التي تدخل معه القبر، وينتفع بها، وما عدا ذلك فهو فتنة، وقد حذّر اللَّه تعالى منها، حيث قال:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28]، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} الآية [التغابن: 14] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1938 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتُّ خِصَالٍ، يَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ، وَيَشْهَدُهُ إِذَا مَاتَ، وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ، وَيَنْصَحُ لَهُ إِذَا غَابَ، أَوْ شَهِدَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث ذُكر في نُسَخ "المجتبى" التي بين يديّ، وكذا في "الكبرى" في هذا الباب، وهذا يحتمل أن يكون من صنيع المصنّف رحمه الله تعالى، ولكن لم تظهر لي المناسبة بينه وبين الباب

(1)

، إذ هو مما يناسب الباب التالي، فكان الأولى ذكره هناك، غير أن المصنف اتفق له غير مرّة أن يذكر في آخر أَيِّ باب حديثًا من أحاديث الباب الذي يليه، كما نبّهت عليه فى مواضعه. ويحتمل أن يكون من تصرّف النّسّاخ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) المذكور في الذي قبله.

3 -

(محمد بن موسى) الفِطْريّ المدنيّ، صدوق رُمي بالتشيّع [7] 1/ 1600.

3 -

(سعيد بن أبي سعيد) كَيْسان المقبريّ، أبو سَعْدٍ المدني، ثقة، تغيّر قبل موته بأربع سنين [3] 95/ 117.

4 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

اللهم إلا أن يقال: إنه أخذ المناسبة من قوله: "وينصح له إذا غاب، أو شهد"؛ لأن الميت غائب، فمن النصح له أن لا يسبَّه. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 132

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- وهو (116) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فبغلانيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ الصحابة، رَوَى (5374) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتُّ خِصَالٍ) أتى بـ "على" إشارةً إلى أن هذه الخصال واجبة، وقد جاء التصريح بالوجوب في رواية مسلم من طريق عبد الرزّاق، عن معمر، عن الزهريّ، بلفظ:"خمس تجب للمسلم على المسلم، وله من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: "حق المسلم على المسلم ستّ

".

قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وقد تبين أن معنى "الحقّ" هنا الوجوب، خلافًا لقول ابن بطّال: المراد حقّ الحرمة والصحبة، والظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بالكفاية على الإطلاق فيه نظر، فإن بعضها على الأعيان، كتشميت العاطس، كما سنحقّقه، إن شاء اللَّه تعالى.

(يَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ) برفع "يعودُ"، ويجوز نصبه على مذهب الكوفيين، وهو في تأويل المصدر بان مقدّرة، بدل من "ست"، أي عيادةُ المريض، أي زيارته، والسؤال عن حاله.

وفيه دلالة على مشروعية عيادة المريض، وهي مشروعة بالإجماع، وجزم البخاريّ رحمه الله بوجوبها، فقال:"باب وجوب عيادة المريض". قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الوجوب للكفاية، كإطعام الجائع، وفكّ الأسير، ويحتمل أن يكون الوارد فيها محمولًا على الندب، وجزم الداوديّ بالأول، وقال الجمهور بالندب، وقد تصل إلى الوجوب في حقّ بعض دون بعض. وعن الطبريّ تتاكد في حقّ من تُرجى بركته، وتسنّ فيمن يُراعى حاله، وتباح فيما عدا ذلك، وفي حقّ الكافر خلاف، ونقل النوويّ الإجماع على عدم الوجوب. قال الحافظ: يعني على الأعيان. انتهى.

[فائدة]: حذف "أن" ورفع الفعل جائز عند الأخفش، وجعل منه قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ

(1)

- "فتح" ج 3 ص 448.

ص: 133

اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} الآية [الزمر: 64] و"تسمعُ بالمُعَيديّ خير من أن تراه" برفع {أعبدُ} و"تسمعُ".

وقد وافق ابن مالك الأخفشَ في شرح التسهيل، حيث قال في قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْق} الآية [الروم: 24] أن {يريكم} صلة "أن" حُذفت، وبقي الفعل مرفوعًا، وهذا هو القياس، لأن الحرف عامل ضعيف، فحذفه يُبطل عمله انتهى.

وأما حذف "أن"، ونصب الفعل، فقياس عند الكوفيين أيضًا، وشاذّ عند البصريين، وأيدّه ابن مالك، حيث قال في "الخلاصة":

وَشّذّ حَذْفُ "أَنْ" وَنَصْبٌ فِي سِوَى

مَا مَرَّ فَاقْبَلْ مِنْهُ مَا عَدْلٌ رَوَى

وذهب قوم إلى أن الحذف في غير مواضع التي أجازوا الحذف فيها سماعيّ مطلقا، سواء رُفِعَ الفعلُ، أو نصب

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الصحيح أن حذف "أن" ورفعَ الفعل جائز، كما ذهب إليه الأخفش؛ لوقوعه في القرآن الكريم، كما مرّ آنفًا، وتخريجُ الآية على وجه شاذّ غير صحيح. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيهات]:

(الأول): عموم هذا الحديث يدلّ على مشروعية عيادة كلّ مريض، لكن استثنى بعضهم الأرمد، لكون عائده قد يرى ما لا يراه هو، وهذا الأمر خارجيّ، قد يأتي مثله في بقية الأمراض، كالْمُغمَى عليه، وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصه حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، قال:"عادني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، من وجع كان بعيني". أخرجه أبو داود، وصححه الحاكم، وهو عند البخاريّ في "الأدب المفرد"، وسياقه أتم.

وأما ما أخرجه البيهقيّ، والبراني مرفوعًا:"ثلاثة ليس لهم عيادة: العين، والدُّمَّلُ، والضِّرْس"، فصحح البيهقيّ أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير.

[الثاني]: يؤخذ من إطلاق الحديث عدم تقييد العيادة بزمان يمضي، من ابتداء مرضه، وهو قول الجمهور، وجزم الغزاليّ في "الإحياء" بأنه لا يُعاد إلا بعد ثلاث، واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه، عن أنس رضي الله عنه، "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يعود إلا بعد ثلاث". وهذا حديث ضعيف جدًّا، تفرّد به مسلمة بن عليّ، وهو متروك، وقد سئل عنه أبو حاتم؟ فقال: هو حديث باطل، وله شاهد من حديث أبي هريرة، عند الطبرانيّ في "الأوسط"، لكن فيه راو متروك، فلا يثبت الحديث أصلاً. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- انظر "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة" في "باب إعراب الفعل" ج 2 ص 183.

ص: 134

ويلتحق بعادة المريض تعهّده، وتفقّد أحواله، والتلطّف به، وربما كان ذلك في العادة سببًا لوجود نشاطه، وانتعاش قوّته.

وفي إطلاق الحديث أيضا أن العيادة لا تتقيّد بوقت دون وقت، لكن جرت العادة بها في طرفي النهار، وترجم البخاريّ رحمه الله، في "الأدب المفرد""العيادة في الليل"، وساق عن خالد بن الربيع، قال: "لما ثقُل حذيفة أتوه في جوف الليل، أو عند الصبح، فقال: أيّ ساعة هذه؟ فأخبروه، فقال: أعوذ باللَّه من صباح إلى النار

؟ " الحديث. ونقل الأثرم عن أحمد أنه قيل له بعد ارتفاع النهار في الصيف: تعود فلانًا؟ قال: ليس هذا وقت عيافى ة. ونقل ابن الصلاح عن الفُرَاويّ أن العيادة تستحبّ في الشتاء ليلاً، وفي الصيف نهارًا، وهو غريب.

[الثالث]: من آداب العيادة أن لا يُطيل الجلوس حتى يُضجر المريض، أو يشقّ على أهله، فإن اقتضت ذلك ضرورة، فلا بأس، كما في حديث جابر رضي الله عنه حيث عاده النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه، فوجداه أغمي عليه، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صبّ وَضُوءه عليه، فأفاق، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم عنده، فقاله: كيف أصنع في مالي؟ الحديث، أخرجه البخاريّ. أفاده في "الفتح"

(1)

.

[الرابع]: قد ورد في فضل عيادة المريض أحاديث كثيرة جياد، منها عند مسلم، والترمذيّ، من حديث ثوبان رضي الله عنه، مرفوعًا:"إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم، لم يزل في خُرْفة الجنّة". و"الخرفة" بضم المعجمة، وسكون الراء بعدها فاء، ثم هاء: هي الثمرة، إذا نضِجَت، شُبّه ما يحوزه عائد المريض من الثواب بما يحوزه الذي يجتني الثمر. وقيل: المراد بها هنا الطريق، والمعنى أن العائد يمشي في طريق تؤديه إلى الجنّة، والتفسير الأول أولى، فقد أخرجه البخاري فى "الأدب المفرد" من هذا الوجه، وفيه فقلت لأبي قلابة: ما خرفة الجنّة؟ قال: جَنَاها، وهو عند مسلم من جملة المرفوع. وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" أيضًا من طريق عمر بن الحكم، عن جابر، رفعه:"من عاد مريضًا خاض في الرحمة، حتى إذا قعد استقرّ فيها"، وأخرجه أحمد، والبزّار، وصححه ابن حبّان، والحاكم من هذا الوجه، وألفاظهم مختلفة، ولأحمد نحوه من حديث كعب بن مالك بسند حسن

(2)

.

وسيأتي بيان اختلاف العلماء في حكم عيادة المريض في المسائل الآتية في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى.

(1)

- "فتح" ج 11 ص 251 - 0252 "كتاب المرضى".

(2)

- "فتح" ج 11 ص 252 كتاب المرضى.

ص: 135

(وَيَشْهَدُهُ إِذَا مَاتَ) إعرابه كسابقه، أي وحضور جنازة المسلم إذا مات، ليقوم بتجهيزه، والصلاة عليه، ودفنه.

(وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ) وإعرابه كسابقيه، أي وإجابة دعوته إذ دعاه. وظاهره عموم وجوب الإجابةَ لكل دعوة، عُرْسًا كانت، أوغيرها، وبه كان يقول ابن عمر رضي الله عنهما، وهو الحقّ، وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسائل الآتية في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى.

(وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ) أي وسلامه عليه إذا لقيه، وهو واجب على الكفاية، أما وجوبه، فلوقوله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} الآية [النساء: 86]، وأما كونه على الكفاية، فلحديث عليّ رضي الله عنه، رفعه:"يجزىء عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلّم أحدهم، وبجزىء عن الجُلُوس أن يردّ أحدهم". أخرجه أبو داود، والبزّار، وفي سنده ضعف، لكن له شاهد من حديث الحسن بن عليّ رضي الله عنهما عند الطبرانيّ، وفي سنده مقال، وآخر مرسل في "الموطإ" عن زيد بن أسلم. قاله في "الفتح"

(1)

.

(وُيشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ) التشميت بالسين المهملة، والشين المعجمة، لغتان مشهورتان، قال ابن منظور -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: والتسميت ذكر اللَّه على الشيء، وقيل: التسميتُ ذكر اللَّه عز وجل على كلّ حال، والتسميت الدعاء للعاطس، وهو قولك له: يرحمك اللَّه. وقيل: معناه هداك اللَّه إلى السمت، وذلك لما في العاطس من الانزعاج، والْقَلَق، هذا قول الفارسيّ.

وقد سمَّتَهُ: إذا عطس، فقال له يرحمك اللَّه، أُخِذَ من السمت إلى الطريق، والقصدِ، كأنه قصده بذلك الدعاء، أي جعلك اللَّه على سمت حسن. وقد يجعلون السين شينًا، كسمّر السفينةَ، وشمّرها: إذا أرساها. وقال النضر بن شُميل: التسميتُ الدعاء بالبركة، يقول: بارك اللَّه فيه. وقال أبو العباس: يقال: سَمَّتَ العاطسَ تسميتًا، وشمّته تشميتًا: إذا دعا له بالهديِ، وقصدِ السَّمْتِ المستقيمِ، والأصل فيه السين، فقُلبت شينًا. انتهى

(2)

.

وقال صاحب "المحكم": التسميت: الدعاء للعاطس، وقال الهرويّ في باب الشين المعجمة: قال أبو عبيد: يقال: سمّت العاطسَ، وشمّته بالسين، والشين: إذا دعا له بالخير، والسين أعلى اللغتين. وقال أبو بكر: يقال: سمَّتُّ فلانا، وسَمَّتُّ عليه: إذا دعوت له، وكلّ داع بالخير، فهو مسمّتٌ، ومشمّتٌ. وقال أحمد بن يحيى: الأصل

(1)

- "فتح" ج 12 ص 266 - 267. "كتاب الاستئذان".

(2)

- "لسان العرب" في مادّة سمت.

ص: 136

فيها السين، من السمت، وهو القصد، والهدي، قال ثعلب: ومعناه بالمعجمة: أبعد اللَّه عنك الشماتة انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": ما نصّه: قال الخليل، وأبو عبيد، وغيرهما: يقال بالمعجمة، وبالمهملة، وقال ابن الأنباريّ: كلّ داع بالخير مشمّت بالمعجمة، وبالمهملة، والعرب تجعل الشين والسين في اللفظ الواحد بمعنى، انتهى.

وهذا ليس مطّرادًا، بل هو في مواضع معدودة، وقد جمعها شيخنا شمس الدين الشيرازيّ صاحب "القاموس" في جزء لطيف، قال أبو عبيد: التشميت بالمعجمة أعلى وأكثر، وقال عياض: هو كذلك للأكثر من أهل العربية، وفي الرواية. وقال ثعلب: الاختيار بالمهملة، لأنه مأخوذ من السمت، وهو القصد، والطريق القويم، وأشار ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" إلى ترجيحه. وقال القزّاز: التشميت التبريك، والعرب تقول: شَمَّتَهُ: إذا دعا له بالبركة، وشَمَّتَ عليه: إذا برّك عليه. وفي الحديث في قصّة تزويج علي بفاطمة رضي الله عنهما: "شَمَّتَ عليهما": إذا دعا لهما بالبركة.

ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك، قال: التسميت بالمهملة أفصح، وهو من سُمَّتِ الإبلُ في المرعى إذا جُمِعَت، فمعناه على هذا جمع اللَّه شملك، وتعقّبه بأن سمت الإبل إنما هو بالمعجمة، وكذا نقله غير واحد أنه بالمعجمة، فيكون معنى سَمَّتَه دعا له بأن يُجمَع شمله. وقيل: هو بالمعجمة من الشماتة، وهو فرح الشخص بما يسوء عدوّه، فكأنه دعا له أن يكون في حال من يُشْمَتُ به، أو أنه إذا حمد اللَّه أدخل على الشيطان ما يسوؤه، فشَمَّت هو بالشيطان. وقيل: هو من الشوامت، جمع شامتة، وهي القائمة، يقال: لا ترك اللَّه له شامتة، أي قائمة.

وقال ابن العربي في "شرح الترمذيّ": تكلّم أهل اللغة على اشتقاق اللفظين، ولم يُبَيّنوا المعنى فيه، وهو بديع، وذلك أن العاطس يَنْحَلّ كلّ عضو في رأسه، وما يتّصل به من العنق، ونحوه، فكأنه إذا قيل: رحمك اللَّه، كان معناه أعطاه اللَّه رحمة يرجع بها بذلك

(2)

إلى حاله قبل العطاس، ويقيم على حاله من غير تغيير، فإن كان التسميت بالمهملة، فمعناه رجع كلّ عضو إلى سَمْته الذي كان عليه، وإن كان بالمعجمة، فمعناه صان اللَّه شوامته، أي قوائمه التي بها قوام بدنه عن خروجها عن الاعتدال، قال: وشوامت كلّ شيء قوامه، فقوام الدابّة بسلامة قوامها التي يُنتَفع بها إذا سلمت، وقوائم الآدميّ بسلامة قوائمه التي بها قوامه، وهي رأسه، وما

(1)

- "تهذيب الأسماء واللغات" ج 3 ص 154 - 155.

(2)

- هكذا نسخة "الفتح""بذلك"، ولعلّ الصواب:"بدنه". واللَّه أعلم.

ص: 137

يتّصل به من عنق وصدر انتهى ملخّصًا

(1)

.

[تنبيه]: من آداب العاطس أن يَخفِض صوته بالعُطاس، ويرفع بالحمد، وأن يُغطّي وجهه، لئلا يبدو من فيه، أو أنفه ما يتأذّى به جليسه، ولا يَلْوِي عنقه يمينا، ولا شمالًا، لئلا يتضرّر بذلك.

قال ابن العربيّ رحمه الله: الحكمة في خفض الصوت بالعطاس أن في رفعه إزعاجًا للأعضاء، وفي تغطية الوجه أنه لو بدر منه شيء آذى جليسه، ولو لوى عنقه صيانة لجليسه لم يَأْمَن من الالتواء، وقد شاهدنا مَن وقع له ذلك.

وقد أخرج أبو داود، والترمذيّ بسند جيّد عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده على فيه، وخفض صوته". وله شاهد من حديث ابن عمر بنحوه عند الطبرانيّ.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: ومن وفوائد التشميت تحصيل المودّة، والتأليف بين المسلمين، وتأديب العاطس بكسر النفس عن الكبر، والحملِ على التواضع، لما في ذكر الرحمة من الإشعار بالذنب الذي لا يَعْرَى عنه أكثر المكلّفين، انتهى

(2)

.

(وَيَنْصَحُ لَهُ) أي يريد له الخير، أو يُصَفِّي له الودّ، قال المازريّ: النصيحة مشتقة من نَصَحتُ العسل: إذا صفّيته، يقال: نصح الشيءُ: إذا خلُص، ونصح له القولَ: إذا أخلصه له، أو مشتقّة من النصح، وهي الخياطة بالْمِنْصَحة، وهي الإبرة، والمعنى أنه يَلُمّ شعث أخيه بالنصح، كما تلُمّ الْمِنصَحَة، ومنه التوبة النصوح، كأن الذنب يُمَزّق الدين، والتوبة تخيطه. وقال الخطابيّ: النصحية كلمة جامعة معناها حِيَازة الحظّ للمنصوح له، وهي من وجيز الكلام، بل ليس في الكلام كلمة مفردة تُسْتَوفَى بها العبارةُ عن معنى هذه الكلمة انتهى

(3)

.

(إِذَا غَابَ، أَوْ شَهِدَ") أي في جميع أحواله، إذ الأحوال لا تخلو عن غَيبَة وحضور، والمقصود أنه لا يقصِّر النصح على الحضور فقط، كحال كثير من الناس، يُراعون النصيحة في الحضور، ويهملونها في الغيبة، بل الواجب أن ينصح في كلّ الأحوال، في الحضور والغيبة، والسرّ والعَلَن، لأن الدين النصحية، فقد أخرج مسلم رحمه الله تعالى في "صحيحه" عن تميم الداريّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"الدين النصيحة"، قلنا: لمن؟ قال: "للَّه، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم".

(1)

- راجع "الفتح" ج 13 ص 247 "كتاب الأدب".

(2)

- "فتح" ج 12 ص 248 "كتاب الأدب".

(3)

- راجع "الفتح" ج 1 ص 167 "كتاب الإيمان". نسخة دار الريان.

ص: 138

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا - 52/ 1938 - وفي "الكبرى" -52/ 2065 - وأخرجه (خ) 1240 (م) 2162 (د) 5030 (ت) 2737 (ق) 1435 (أحمد) 27511 و 10583. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

(منها): وجوب التناصر، والتعاون بين المؤمنين، لأنهم كالبنيان، كما شبههم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال:"المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدّ بعضه بعضًا، وشبّك بين أصابعه"، متفق عليه. وكالجسد الواحد، كما شبههم به أيضًا، حيث قال صلى الله عليه وسلم،:"مثل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثلُ الجسد، إذا اشتكى عضوٌ منه تداعى له سائر الجسد بالسَّهَرِ والحمّى". متفق عليه أيضًا، واللفظ لمسلم.

(ومنها): وجوب عيادة المريض (ومنها): شهوده إذا مات، لتجهيزه، والصلاة عليه ودفنه، وهو على الكفاية (ومنها): إجابة دعوته، ويأتي بيان مذاهب العلماء في حكمه في المسائل الآتية في الباب التالي. (ومنها): إلقاء السلام عليه إذا لقيه، وهو على الكفاية، كما تقدّم (ومنها): تشميته إذا عطس، وحمد اللَّه تعالى، وسيأتي تمام الكلام عليه في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى (ومنها): النصيحة له في جميع أحواله، في الغيب والشهادة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌53 - الأمْرُ بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ

1939 -

(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مَنْصُورٍ الْبَلْخِيُّ

(1)

، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ ح وَأَنْبَأَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، فِي حَدِيثِهِ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ

(1)

- وفي نسخة إسقاط قوله: "البلخيّ".

ص: 139

هَنَّادٌ: قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ: عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ:"أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَعَنِ الْمَيَاثِرِ، وَالْقَسِّيَّةِ، وَالإِسْتَبْرَقِ، وَالْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ".

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سليمان بن منصور الَبَلْخِيُّ) البزّاز الْجَرْميّ، الملقّب زَرْغَنْدَه، ثقة، لا بأس به [10] 60/ 75.

2 -

(هنّاد بن السَّريّ) بن مصعب التميميّ، أبو السريّ الكوفيّ، ثقة [10] 23/ 25.

3 -

(أبو الأحوص) سلاّم بن سُلَيم الحنفي مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت [7] 79/ 96.

4 -

(أشعث) بن أبي الشّعثاء المحاربيّ الكوفيّ، ثقة [6] 90/ 112.

5 -

(معاوية بن سُويد) بن مُقَرِّن المُزَنيّ، أبو سُويد الكوفيّ، ابن أخي النعمان بن مقّرِّن، ثقة [3] لم يصب من زعم أن له صحبة.

قال العجلي: كوفيّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكره أبو أحمد العسكريّ في "الصحابة"، وقال: ليسوا يصححون سماعه، وقد روى مرسلًا. روى له الجماعة، له عندهم حديثان، (أحدهما): حديث الباب، (والثاني): في عتق الجارية التي لَطَمَها أحد مواليها.

[تنبيه]: وقع في بعض نسخ "المجتبى""معاوية بن سَعْد"، وهو تصحيف فاحش، فتنبّه. 6 - (البراء بن عازب) رضي الله عنه 86/ 105.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، إلا شيخه الأول، فمن أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالكويين، إلا شيخه الأول، فبَلْخيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ) أي سبع خصال (وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ) قال العلامة ابن دقيق العيد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: إخبار الصحابيّ عن الأمر والنهي على ثلاث مراتب:

الأولى: أن يأتي بالصيغة، كقوله: افعلوا، أو لا تفعلوا.

الثانية: قوله: أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكذا، ونهانا عن كذا، وهو كالمرتبة الأولى في العمل به، أمرًا ونهيًا، وإنما نزل عنها لاحتمال أن يكون ظنّ ما ليس بأمرٍ أمرًا، إلا أن

ص: 140

هذا الاحتمال مرجوح، للعلم بعدالته، ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة.

الثالثة: قوله: أُمرنا، ونُهينا على البناء للمجهول، وهي كالثانية، وإنما نزلت عنها، لاحتمال أن يكون الآمر غير النبي صلى الله عليه وسلم انتهى

(1)

.

(أَمَرَنَا) بدل تفصيل من قوله: "أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بدلُ فعل من فعل، كما قال في "الخلاصة":

وَيُبْدَلُ الْفِعْلُ مِنَ الْفِعْلِ كَمَنْ

بَصِلْ إِلَيْنَا يَسْتَعِنْ بِنَا يُعَنْ

(بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ) متعلّق بـ "أمرنا"، وهو بكسر العين المهملة، وتخفيف التحتانيّة مصدر عاده، يقال: عُدتُ المريضَ عِيَادةً: زُرتُهُ، فالرجل عائد، وجمعه عُوّاد، والمرأة عائدةٌ، وجمعها عُوَّد بغير ألف، قال الأزهريّ: هكذا كلام العرب. قاله في "المصباح". وقد أشار ابن مالك رحمه الله إلى أن فُعّالاً بالألف للمذكّر فقط، دون الفُعَّل بلا ألف، فإنه للمذكر والمؤنث، حيث قال في "خلاصته":

وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ

وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ

وِمِثْلُهُ الْفُعَّالُ فِيمَا ذُكَّرَا

وَذَانِ فِي الْمُعَلِّ لَامّا نَدَرَا

(وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ) تقدّم في الباب الماضي ضبطه بالمعجمة، والمهملة، واختلاف العلماء في تفسيره (وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ) بكسر الهمزة، مصدر أبَرّه، و"القسم" بفتحتين: اليمين، ومعنى "إبرار القسم": فعل ما أراده الحالف ليصير بذلك بارّا، ووقع في "الكبرى"، بلفظ:"وإبرار المقسم"، وظاهر كلام السنديّ أنه يوجد بهذا الضبط أيضًا في بعض نسخ "المجتبى".

وقال الإمام ابن دقيق العيد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: قوده: "إبرار القَسَم، أو المقسم": فيه وجهان: "أحدهما": أن يكون "المقسم" مضموم الميم، مكسور السين، ويكون في الكلام حذف مضاف، تقديره يمين المقسم. "والثاني": بفتح الميم

(2)

والسين، على أن يكون بمعنى القسم، وإبراره هو الوفاء بمقتضاه، وعدم التحنيث فيه، فإن كان ذلك على سبيل اليمين، كما إذا قال: واللَّه لتفعلنّ كذا، فهو آكد مما إذا كان على سبيل التحليف، كقوله: باللَّه افعل كذا، لأن في الأول إيجاب الكفارة

(3)

على الحالف، وفيه تغريم للمال، وذلك إضرار به انتهى

(4)

. ووقع في بعض روايات

(1)

- راجع "الفتح" ج 11 ص 502 "كتاب اللباس" رقم الحديث 5863.

(2)

- يحتمل أن يكون بضم الميم أيضا، كما هو مقتضى ما يأتي عن عبارة الحافظ، فتنبّه.

(3)

- هذا مبنيّ على أنها تنعقد اليمين على الغير انتهى "عدة حاشية العمدة" ج 4 ص 493.

(4)

- "إحكام الأحكام" ج 4 ص 494 بنسخة الحاشية.

ص: 141

"صحيح البخاري" باللفظ الثاني.

قال الحافظ عند قوله: "وإبرار المقسم": واختُلف في ضبط السين، فالمشهور أنها بالكسر، وضمّ أوله على أنه اسم فاعل، وقيل: بفتحها، أي الإقسام، والمصدر قد يأتي للمفعول، مثل أدخلته مُدْخَلًا بمعنى الإدخال، وكذا أخرجته. انتهى.

(1)

[تنبيه]: إبرار القسم إنما يلزم فيما إذا كان جائزا، ولا يمنع منه مانع، وإلا فلا يلزم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقسم أبو بكر عليه لَيُخبرنه بما أصاب في تعبير الرؤيا، وما أخطأ، قال له:"لا تُقسم"، ولم يبرّ صلى الله عليه وسلم قسمه، لحكمة لا نعلمها، قاله الصنعانيّ. ومعنى قوله:"لا تقسم": أي لا تكرر القسم، وإلا فإنه قد أقسم، حيث قال: "أقسمت عليك يا رسول اللَّه لتخبرنّي بالذي أصبت من الذي أخطات

". قاله الكرمانيّ. والحديث أخرجه البخاريّ. وسيأتي تمام البحث في إبرار القسم في "كتاب الأيمان"، في باب "إبرار المقسم" -13/ 3778 - إن شاء اللَّه تعالى.

(وَنُصْرَةِ الْمَظْلُوم) أي إعانته، وهو فرض كفاية، وهو عامّ في المظلومين، وكذلك في الناصرين، بناءً على أن فرض الكفاية مخاطب به الجميع، وهو الراجح، ويتعيّن أحيانا على من له القدرة عليه وحده، إذا لم يترتّب على إنكاره مفسدة، أشدّ من مفسدة المنكر، فلو علم، أو غلب على ظنه أنه لا يُفيد سقط الوجوب، وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور، فلو تساوت المفسدتان تخيّر.

وشَرْطُ الناصرِ أن يكون عالمًا بكون الفعل ظلمًا، ويقع النصر مع وقوع الظلم، وهو حينئذ حقيقة، وقد يقع قبل وقوعه، كمن أنقذ إنسانًا، من يد إنسان طالبه بمال ظلما، وهدّده إن لم يبذله، وقد يقع بَعْدُ، وهو كثير. قاله في "الفتح"

(2)

.

وقد جاء الأمر بنصر الأخ ظالما، أو مظلومًا، وذلك فيما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن حميد، عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالمًا، أو مظلومًا، قالوا: يا رسول اللَّه، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: "تأخذ فوق يديه". وللإسماعيليّ من رواية معاذ، عن حميد: "فقال: "يَكُفّه عن الظلم، فذاك نصره إياه"، ولمسلم من حديث جابر رضي الله عنه نحوه، وفيه:"إن كان ظالمًا، فليَنْهَه، فإنه له نصرةٌ".

(وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ) وفي رواية للبخاريّ في "الجنائز" من طريق شعبة، عن الأشعث بلفظ:"ورَدِّ السلام"، ولا مغايرة بين الروايتين في المعنى، لأن ابتداء السلام وردَّه

(1)

- "فتح" ج 13 ص 392. "كتاب الأيمان والنذور"

(2)

- "فتح" ج 5 ص 388 "كتاب المظالم" رقم الحديث 2445.

ص: 142

متلازمان، وإفشاء السلام ابتداءً يستلزم إفشاءَهُ جوابًا. أفاده في "الفتح"

(1)

.

والمراد من إفشاء السلام نشره بين الناس ليُحْيُوا سنته، وقد جاء إفشاء السلام من حديث البراء رضي الله عنه بلفظ آخر، أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وصححه ابن حبّان، من طريق عبد الرحمن بن عَوْسَجة، عنه رفعه:"أفشوا السلام تسلموا"، وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"ألا أدلّكم على ما تحَابّون به؟ أفشوا السلام بينكم".

وعن عبد اللَّه بن سَلَام رضي الله عنه رفعه: "أطعموا العام، وأفشوا السلام

" الحديث، وفيه: "تدخلوا الجنّة بسلام". أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد"، وصححه الترمذيّ، والحاكم، وللأودين، وصححه ابن حبّان، من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه، رفعه: "اعبدوا الرحمن، وأفشوا السلام

" الحديث، وفيه: "تدخلوا الجنّة".

ومن الأحاديث في إفشاء السلام ما أخرجه النسائيّ في "عمل اليوم والليلة"

(2)

، عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"إذا جاء أحدكم إلى القوم، فليُسلّم، وإذا قام فليسلّم، فليست الأولى بأحقّ من الآخرة". وأخرج ابن أبي شيبة، من طريق مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"إن كنت لأخرج إلى السوق، وما لي حاجة إلا أن أسلّم، ويُسلَّم عليّ".

والأحاديث في إفشاء السلام كثيرة، منها عند البزّار، من حديث ابن الزبير، وعند أحمد من حديث عبد اللَّه بن الزبير، وعند الطبرانيّ من حديث ابن مسعود، وأبي موسى، وغيرهم.

وأخرج البخاريّ رحمه الله في "الأدب المفرد" بسند صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"إذا سلمتَ، فأسمع، فإنها تحيّة من عند اللَّه".

واستدلّ بالأمر بإفشاء السلام أنه لا يكفي السلام سرّا، بل يُشترط الجهر، وأقلّه أن يُسمَع في الابتداء، وفي الجواب.

قال النووي رحمه الله: وأقلّه أن يرفع صوته بحيث يُسمِع المسلَّمَ عليه، فإن لم يُسمعه لم يكن آتيًا بالسنة، ويستحبّ أن يرفع صوته بقدر ما يتحقّق أنه سمعه، فإن شكّ استظهر، ويُستثنى من رفع الصوت بالسلام ما إذا دخل على مكان، فيه أيقاظ، ونيام، فالستة فيه ما ثبت في "صحيح مسلم" عن المقداد رضي الله عنه، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيء من الليل، فيسلّم تسليمًا، لا يُوقظ نائمًا، وُيسمِع اليقظان".

(1)

- ج 12 ص 281. "كتاب الاستئذان".

(2)

- "عمل اليوم والليلة" رقم 342.

ص: 143

ولا تكفي الإشارة باليد ونحوه، وقد أخرج النسائيّ في "عمل اليوم والليلة" بسند جيّد، عن جابر رضي الله عنه، رفعه:"لا تسلّموا تسليم اليهود، فإن تسليمهم بالرؤوس والأكفّ"

(1)

.

ويُستثنى من ذلك حالة الصلاة، فقد وردت أحاديث جيّدة أنه صلى الله عليه وسلم ردّ السلام، وهو يصلي إشارةً، منهاة حديث أبي سعيد رضي الله عنه:"أن رجلاً سلّم على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يُصلي، فردّ عليه إشارةً". ومن حديث ابن مسعود نحوه.

وكذا من كان بعيدًا، بحيث لا يسمع التسليم يجوز السلام عليه إشارةً، ويتلفّظ مع ذلك بالسلام. وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء، قال: يكره السلام باليد، ولا يكره بالرأس.

ونقل النوويّ، عن المتولي أنه قال: يُكره إذا لقي جماعة أن يخصّ بعضهم بالسلام، لأن القصد بمشروعيّة السلام تحصيل الألفة، وفي التخصيص إيحاشٌ لغير من خصّ بالسلام انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى: ويدلّ لما قاله المتودي ما أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه مرّ رجل، فقال: السلام عليك يا أبا عبدالرحمن، فردّ عليه، ثم قال:"إنه سيأتي على الناس زمان يكون السلام فيه للمعرفة"، وأخرجه الطحاويّ، والطبرانيّ، والبيهقيّ في "الشعب" من وجه آخر عن ابن مسعود مرفوعًا، ولفظه:"إن من أشراط الساعة أن يمرّ الرجل بالمسجد، لا يُصلي فيه، وأن لا يُسلّم إلا على من يعرفه"، ولفظ الطحاويّ:"إن من أشراط الساعة السلام للمعرفة".

(2)

وسيأتي تمام البحث عنه في المسائل، إن شاء اللَّه تعالى.

(وَإِجَابَةِ الدَّاعِي) تقدّم شرحه فى الباب الماضي، ويأتي تمام البحث عنه في المسائل، إن شاء اللَّه تعالى (وَاتَّبَاعِ الْجَنَائِزِ) هذا محلّ الترجمة، حيث إن فيه الأمر باتباع الجنائز.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "اتباع الجنائز" يحتمل أن يراد به اتباعها للصلاة، فإن عبّر به عن الصلاة، فذلك فرض من فروض الكفاية عند الجمهور، ويكون التعبير بالاتباع عن الصلاة من باب مجاز الملازمة في الغالب، لأنه ليس من الغالب أن يصلى على الميت، ويدفن في محلّ موته. ويحتمل أن يراد بالاتباع الرواح إلى محلّ الدفن

(1)

- "عمل اليوم والليلة" رقم 340.

(2)

- المصدر السابق ج 12 ص 280 "كتاب الاستئذان" رقم الحديث 6235. وص 284 رقم 6236 - 6237.

ص: 144

لمواراته، والمواراة أيضًا من فروض الكفايات، لا تسقط إلا بمن تتأدى به انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني هو الأقرب، لأنه حقيقة، فالحمل عليه أولى، كما أشار إلى ذلك الصنعاني رحمه الله في "حاشيته"(وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ) أي عن لبسها، وهي جمع خاتم، ويجمع أيضًا على خواتم بلا ياء، وعلى خياتيم بياء بدل الواو، وبلا ياء أيضًا، وفي الخاتم ثماني لغات: فتح التاء، وكسرها، وهما واضحتان، وبتقديمها على الألف، مع كسر الخاء، خِتَام، وبفتحها، وسكون التحتانيّة، وضمّ المثنّاة، بعدها واو، وبحذف الياء والواو، مع سكون المثنّاة، خَتْم، وبألف بعد الخاء، وأخرى بعد التاء، خاتام، وبزيادة تحتانيّة بعد المثناة المكسورة، خاتِيَام، وبحذف الأولى، وتقديم التحتانية، خَيْتَام، وقد جمعها الحافظ

(2)

رحمه الله بقوله

[من البسيط]:

خُذْ نَظْمَ عَدِّ لُغَاتِ الْخَاتَمِ انْتَظَمَتْ

ثَمَانِيًا مَا حَوَاهَا قَبْلُ نِظَامُ

خَاتَامُ خَاتَمُ خَتْمْ خَاتِمْ وَخِتَا

مْ خَاتِيَامٌ وَخَيْتُومٌ وَخَيْتَامُ

وَهَمْزُ مَقتُوحِ تَاءِ تَاسِعٌ وَإِذَا

سَاغَ الْقِيَاسُ أَتَمَّ الْعَشْرَ خَأتامُ

قال في "الفتح": أما الأول، فذكر أبو البقاء في إعراب الشواذّ في الكلام على من قرأ "العألمين" بالهمز، قال: ومثله الْخَأتَم، وأما الثاني فهو على الاحتمال، واقتصر كثيرون منهم النوويّ على أربعة

(3)

، والحقّ أن الختم، والختام مختصّ بما يُختم به، فتكمل الثمان به، وأما ما يُتزيّن به فليس فيه إلا ستّة، وأنشدوا في "الخاتيام"، وهو أغربها:

أَخَذتَ مِنْ سُعْدَاكَ خَاتِيَامَا

لِمَوْعِدٍ تَكْتَسِبُ الآثَامَا

ثم إن النهي عن لبسه للتحريم، وهو خاصّ بالرجال.

(وَعَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ) أي ونهانا عن استعمال آنية الفضة. والنهي فيه للتحريم، وهو عامّ في الرجال والنساء، فيحرم استعمال آنية الفضّة، ومثله الذهب في الأكل، والشرب، ونحوهما على كلّ مكلف، رجلا كان أو امرأة، ولا يلتحق ذلك بالحليّ للنساء، لأنه ليس من التزيّن الذي أُبيح لهنّ في شيء.

(1)

- "إحكام الأحكام" ج 4 ص 491 بنسخة الحاشية.

(2)

- هكذا نسب الأبيات الحافظ في "الفتح" إلى نفسه، لكن رأيت في "تاج العروس شرح القاموس" في مادة "ختم" أن الأبيات للحافظ العراقي، فلا أدري الخطأ ممن هو؟ فليحرّر.

(3)

- وعبارة النووي في "تهذبب الأسماء واللغات" ج 3 ص 88: الخاتم، والخاتم، بفتح التاء، وكسرها، والخيتام، والخاتام، كله بمعنى، والجمع خواتيم، هذه اللغات الأربع مشهورة انتهى.

ص: 145

(وَعَنِ الْمَيَاثِرِ) وفي رواية للبخاريّ، من طريق الثوريّ، عن أشعث:"والمياثير الحُمْرِ".

و"المياثير": جمع مِيثرة، قال ابن الأثير: المِيثرة بالكسر، مِفْعلَةٌ، من الْوَثَارَة، يقال: وَثُرَ وَثَارَةَ، فهو وَثِيرٌ: أي وَطِىءٌ لَيِّنٌ، وأصلها مِوْثَرَةٌ، فقُلِبت الواو ياءً، لكسرة الميم، وهي من مراكب العجم، تُعمل من حرير، أو ديباجٍ انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": "الميثرة": بكسر الميم، وسكون التحتانيّة، وفتح المثلة، بعدها راء، ثم هاء، ولا همز فيها أصلًا، وأصلها من الوَثَارة، أو الوِثْرَة بكسر الواو، وسكون المثلّثة، والوَثِيرُ هو الفراش الوطئ وامرأة وَثيرة، كثيرة اللحم انتهى. وفي "صحيح البخاريّ " أن أبا بردة سأل عليّا عن عن الميثرة؟ فقال: كانت النساء تصنعنه لبعولتهنّ، مثل القَطَائف

(2)

، يَصُفُّونها انتهى.

قال في "الفتح": "يصفّونها" أي يجعلونها كالصُّفَّة، وحَكَى عياض في رواية "يصَفِّرْنَها" بكسر الفاء، ثم راء، وأظنّه تصحيفا، وإنما قال:"يصفّونها" بلفظ المذكّر للإشارة إلى أن النساء يصنعن ذلك، والرجال هو الذين يستعملونها في ذلك. وقال الزبيديّ اللغويّ: و"الميثرة" مِرْفَقَة، كصُفَّةِ السرج. وقال الطبريّ: هو وِطَاء يوضع على سرج الفرس، أو رَحْل البعير، كانت النساء تصنعنه لأزواجهنّ، من الأرجوان الأحمر

(3)

، ومن الديباج، وكانت مراكبَ العجم. وقيل: هي أغشية للسروج من الحرير. وقيل: هي سروج من الديباج. فحصّلنا على أربعة أقوال في تفسير "الميثرة"، هل هي وطاء للدائة، أو لراكبها، أو هي السرج نفسه، أو غشاوته

(4)

.

وقال في "الفتح" أيضًا عند شرح قوله: "والمياثير الْحُمْر": ما نصّه: قال أبو عُبيد: المياثر الحمر التي جاء النهي عنها، كانت من مراكب العجم، من ديباج، أو حرير. وقال الطبريّ: هي وعاء يوضع على سرج الفرس، أو رحل البعير، من الأُرْجُوَان.

وحكى في "المشارق" قولًا: إنها سروج من ديباج، وقولًا: إنها أغشية للسروج من

(1)

- "النهاية" ج 5 ص 150.

(2)

- جمع قطيفة: دثار مُخمل، يضعونه فوق الرحال. اهـ "طرح التثريب" ج 3 ص 230.

(3)

- "الأرجوان" بضم الهمزة، والجيم، بينهما راء ساكنة، ثم واو خفيفة، وحكى عياض، ثم القرطبيّ "فتح" الهمزة، وأنكره النوويّ، وصوّب أن الضمّ هو المعروف في كتب الحديث، واللغة، والغريب، واختلفوا في المراد به، فقيل: هو صبغ أحمر شديد الحمرة، وهو نور شجر من أحسن الألوان، وقيل: الصوف الأحمر، وقيل: كل شيء أحمر، فهو أرجوان. انتهى "فتح" ج 11ص 491.

(4)

- انظر "الفتح" ج 11 ص 473 - 474.

ص: 146

حرير، وقولا: إنها تُشبه المِخَدَّة، تُحشَى بقطن، أو ريش، يَجعلها الراكب تحته، وهذا يوافق تفسير الطبريّ، والأقوال الثلاثة يحتمل أن لا تكون متخالفةً، بل الميثرة تطلق على كلّ منها، وتفسير أبي عبيد يحتمل الثاني، والثالث.

وعلى كلّ تقدير، فالميثرة، إن كانت من حرير، فالنهي فيها كالنهي عن الجلوس على الحرير، ولكن تقييدها بالأحمر أخصّ من مطلق الحرير، فيمتنع إن كانت حريرًا، ويتأكد المنع إن كانت مع ذلك حمراء، وإن كانت من غير حرير، فالنهي فيها للزجر عن التشبّه بالأعاجم.

قال ابن بطّال: كلام الطبريّ يقتضي التسوية في المنع من الركوب عليه، سواء كانت من حرير، أم من غيره، فكان النهي عنها إذا لم يكن من حرير للتشبّه، أو للسرف، أو التزيّن، وبحسب ذلك تفصيل الكراهة بين التحريم والتنزيه، وأما تقييدها بالحمرة، فمن يَحمل المطلق على المقيّد وهم الأكثرون يخصّ المنع بما كان أحمر انتهى

(1)

.

وقال الحافظ ولي الدين رحمه الله: قال النوويّ: قال العلماء: الميثرة، وإن كانت من الحرير، كما هو الغالب فيما كان من عادتهم، فهي حرام، لأنه جلوس على حرير، واستعمال له، وهو حرام على الرجال، سواء كان على رحل، أو سرج، أو غيرهما، وإن كانت ميثرة من غير حرير، فليست بحرام، ومذهبنا أنها ليست مكروهة أيضًا، فإن الثوب الأحمر، لا كراهة فيه، فسواء كانت حمراء، أم لا، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس حُلَّة حمراء. وحكى القاضي عياض، عن بعض العلماء كراهتها، لئلا يظنها الرائي من بُعُد حريرًا انتهى.

وقال ابن قدامة: قال أصحابنا: يكره لبس الأحمر، وهو مذهب ابن عمر، والصحيح أنه لا بأس به، وأحاديث الإباحة أصحّ.

وقال أبو العباس القرطبيّ: وأما من كانت عنده الميثرة من جلود السباع، فوجه النهي عنها أنها لا تَعْمَل الذّكاة فيها، وهو أحد القولين عند أصحابنا، أو لأنها لا تُذكَّى غالبًا.

قال ولي الدين: لكنها تطهر بالدباغ، إلا أن العلماء اختلفوا في طهارة الشعر تبعًا للجلد، إذا دُبغ، والمشهور عند الشافعية عدم طهارته، وقالت الحنفية بطهارته، والأغلب في المياثير أنها لا شعر عليها، واللَّه أعلم.

وقد يقال: إن المعنى في النهي عن المياثير ما فيه من الترفّه، وقد يتعذّر في بعض الأوقات، فيشقّ تركها على من اعتادها، فيكون حينئذ إرشادًا، نُهي عنه لمصلحة

(1)

- "فتح" ج 11ص 490 - 491. "كتاب اللباس" رقم الحديث 5839.

ص: 147

دنيوية، وقد يكون لمصلحة دينيّة، وهي ترك التشبّه بعظماء الفرس، لأنه كان شعارهم ذلك الوقت، فلما لم يصر شعارًا لهم، وزال ذلك المعنى زالت الكراهة، واللَّه تعالى أعلم.

قال: وقد عرفت أن الميثرة قُيّدت تارة بكونها حمراء، وأطلقت تارة، فمن يحمل المطلق على المقيّد يخصّ النهي بالحمراء، ومن يأخذ بالمطلق، وهم الحنفيّة، والظاهريّة، فمقتضى مذهبهم طرد النهي عنها، وإن لم تكن حمراء.

ووقع في حديث علي رضي الله عنه عند أبي داود: "ونُهي عن مَيَاثير الأُرْجُوان". فإن فُسّر الأرجوان بمطلق الأحمر ساوى الرواية التي فيها المياثر الحمر، وإن فسّرناه بالمصبوغ بصبغ مخصوص، فمقتضاه اختصاصه بالمصبوغ بذلك الصبغ المخصوص خاصّة، وأنه لا يتعدّى لما سواه إلا أن تكون تعديته بطريق القياس، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: التعليلات التي ذكروها في سبب النهي عن المياثر، من كونها حريرًا، أو غير ذلك، لم تُذكر في الحديث، فالظاهر أن النهي عام في جميع أنواع المياثر، سواء كانت من حرير، أو من غيره، وسواء كانت حمراء، أو غيرها، كما تقدّم عن الطبريّ، وأن النهي للتحريم في الجميع، إذ النصّ لم يفرّق بين نوع ونوع، واللَّه تعالى أعلم.

(وَالقَسِّيَّةِ) أي نهى عن لبس الثياب القَسّيّة، وهي بفتح القاف، وتشديد المهملة، بعدها ياء النسبة. وقد ذكر البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "صحيحه" تفسيرها فيما علّقه عن عاصم يعني ابن كُليب عن أبي بُردة، قال: قلت لعلي: ما القسّيّة؟ قال: ثيابٌ أتتنا من الشام -أو من مصر- مُضَلَّعَةٌ

(2)

فيها حرير، وفيها أمثال الأُتْرُتْجِ

(3)

انتهى.

وقال في "الفتح": وذكر أبو عبيد في "غريب الحديث" أن أهل الحديث يقولونه بكسر القاف، وأهل مصر يفتحونها، وهي نسبة إلى بلدة، يقال لها: القَسّ، رأيتها، ولم يعرفها الأصمعيّ، وكذا قال الأكثر: هي نسبة للقَسّ بمصر، منهم الطبريّ، وابن سِيدَهْ، وقال الحازميّ: هي من بلاد الساحل، وقال المهلّب: هي على ساحل مصر، وهي حصن بالقرب من الْفَرَمَا، من جهة الشام، وكذا وقع في حديث ابن وهب أنها تلي الفرَمَا -والْفَرَمَا بالفاء، وراء مفتوحة- وقال النوويّ: هي بقرب تِنِّيس، وهو متقاربٌ.

وحكى أبو عبيد الهرويّ عن شَمِر اللغويّ أنها بالزاي، لا بالسين، نسبة إلى الْقَزّ، وهو

(1)

- "طرح التثريب" ج 3 ص 231.

(2)

- أي فيها خطوط عريضة كالأضلاع.

(3)

- أي إن الأضلاع التي فيها غليظة معوجّة.

ص: 148

الحرير، فأبدلت الزاي سينًا. وحكى ابن الأثير في "النهاية" أن القَسّ الذي نسب إليه هو الصقيع، سمي بذلك لبياضه، وهو، والذي قبله كلام من لم يعرف القَسّ القرية انتهى

(1)

.

وقيل: هي ثياب من كَتّان مخلوط بحرير، وقيل: هي ثياب من القّزّ، وأصله الْقَزّيّ، بالزاي، منسوب إلى القَزّ، وهو رديء الحرير، فأبدلت الزاي سينًا، ذكره في "الطرح"

(2)

.

(وَالْإِسْتَبْرَقِ) بكسر الهمزة، هي -كما في "المصباح" غَليظ الديباج، فارسيّ مُعَرَّب.

وقال ابن الأثير رحمه الله: قد تكرر ذكر الإستبرق في الحديث، وهو ما غَلُظ من الحرير، والإِبْرَيْسَمِ، وهي لفظة أعجميّة، معرَّبَةٌ، أصلها اسْتَبْرَه، وقد ذكرها الجوهريّ في الباء من القاف، على أن الهمزة، والسين، والتاء زوائد، وأعاد ذكرها في السين من الراء، وذكرها الأزهريّ في خُماسيّ القاف، على أن همزتها وحدها زائدة، وقال: أصلها بالفارسية اسْتَفرَه، وقال أيضًا: إنها، وأمثالها من الألفاظ حروفٌ عربيّة، وقع فيها وفاق بين العجمية والعربية، وقال ة هذا عندي هو الصواب انتهى

(3)

.

(وَالْحَرِيرِ) بفتح الحاء المهملة، معروف، وهو عربيّ، سمي بذلك لخلوصه، يقال لكك خالص مُحرَّر، وحرّرتُ الشيءَ خلّصته من الاختلاط بغيره. وقيل: هو فارسيّ معرَّبٌ

(4)

.

(وَالدِّيبَاجِ") بكسر الدال المهملة، وقد تفتح، وبعضهم قال: الكسر أصوب من الفتح: هي الثياب المتّخذة من الإبرَيسَم، فارسيّ معرّب. أفاده في "اللسان"، وقال في "المصباح": الدِّيبَاجُ: ثوب سَدَاه ولُحْمَتُهُ إِبْرَيْسَم، ويقال: هو معَرَّبٌ انتهى. و"الإبريسم": معرّبٌ، وفيها لغات، كسر الهمزة، والراء، والسين، وابن السِّكِّيت يمنعها، ويقول: ليس في الكلام إِفْعِيلِلٌ بكسر اللام، بل بالفتح، مثلُ إِهْلِيلَجٍ، وإِطْرِيف، والثانية فتح الثلاثة، والثالثة كسر الهمزة، وفتح الراء والسين، قاله في "المصباح" أيضًا. وقال في "القاموس" "الإبريسم" بفتح السين وضمها: الحرير، أو معرّب انتهى.

وقال وليّ الدين رحمه الله: ذِكرُ الديباج، والاستبرق بعد الحرير -أي في بعض

(1)

- "فتح" ج 11 ص 473 "كتاب اللباس" رقم الحديث 5838.

(2)

- "طرح التثريب" ج 3 ص 232.

(3)

- "النهاية" ج 1 ص 47.

(4)

- "فتح" ج 11 ص 463.

ص: 149

الروايات- من ذكر الخاصّ بعد العامّ، وكأنه أشار بذلك إلى أنه لا فرق في تحريم الحرير بين جيّده، وهو الديباج، ورديئه، وهو الإستبرق. واللَّه أعلم انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: النهي عن دبس الحرير، والإستبرق، والديباج، مختصّ بالرجال، فيجوز لبسه للنساء. واللَّه تعالى أعلم.

وسيأتي البحث عن خواتيم الذهب، وما بعدها مستوفًى في "كتاب الزينة"، إن شاء اللَّه تعالى، أسأل اللَّه تعالى أن يمنّ عليّ بالتوفيق لشرحها، وشرح تمام الكتاب، إنه سميع قريب مجيب الدعوات، وغافر الذنوب والسيئات، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث البراء بن عازب رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسال الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -53/ 1939 - و 13/ 3778 و 91/ 5309 - وفي "الكبرى" 53/ 2066 و 13/ 4721 و 81/ 9612 و 9613. وأخرجه (خ) 1239 و 5635 و 5650 و 5838 و 5849 و 5863 و 6225 و 6235 و 6654 و 2445 و 5175 (م) 2066 (ت) 1760 و 2809 (ق) 2115 و 3589 (أحمد) 18170 و 18061 و 18034. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو وجوب اتباع الجنائز، وهو على الكفاية، كما تقدّم. ومنها: وجوب نصرة المظلوم، وهو على الكفاية، كما تقدّم أيضًا.

ومنها: الأمر بإفشاء السلام، وقد تقدّم أن المراد بإفشائه نشره بين الناس. ومنها: تحريم استعمال خواتيم الذهب، وهو خاصّ بالرجال، كما تقدّم. ومنها: تحريم استعمال آنية الفضّة، ومثلها الذهب، وهو عامّ للرجال والنساء، كما تقدّم. ومنها: تحريم استعمال المياثر، وقد تقدّم اختلاف أهل اللغة في معناها. ومنها: تحريم استعمال القَسّيّة، وهي الثياب المخطّطة بالحرير. ومنها: تحريم لبس الإستبرق، وهو ما غلظ من الديباج، والحرير، والديباج، وقد تقدّم بيان الفرق بينها في خلال شرحها. وما عدا ذلك من الفوائد تقدم في المسألة الرابعة من شرح الحديث المذكور آخر الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في وجوب عيادة المريض:

قال الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "صحيحه": "باب وجوب عيادة المريض"،

ص: 150

ثم أخرج بسنده عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفُكُّوا العاني". وأخرج أيضًا حديث البراء رضي الله عنه المذكور في الباب.

قال في "الفتح": قوله: "باب وجوب عيادة المريض" كذا جزم بالوجوب على ظاهر الأمر بالعيادة. قال ابن بطّال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية، كإطعام الجائع، وفكّ الأسير، ويحتمل أن يكون للندب، للحثّ على التواصل والألفة، وجزم الداوديّ بالأول، فقال: هي فرض، يحمله بعض الناس عن بعض.

وقال الجمهور: هي في الأصل ندب، وقد تصل إلى الوجوب في حقّ بعض دون بعض. وعن الطبريّ: تتأكّد في حقّ من تُرجى بركته، وتُسنّ فيمن يراعى حاله، وتباح فيما عدا ذلك.

ونقل النوويّ الإجماع على عدم الوجوب. يعني على الأعيان. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي ما جزم به الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، من وجوب عيادة المريض، لصريح الأمر في قوله:"وعودوا المريض"، لكنه على الكفاية كما قال الداوديّ، وأما ما ذهب إليه الجمهور من الندب، فيحتاج إلى صارف للأمر عن الوجوب إلى الندب، ولم يذكروا ذلك، وأما ما قاله الطبريّ من التفصيل بين من تُرجى بركته وغيره، فمما لا دليل عليه، وأما ما ادعاه النوويّ من الإجماع، فقد أجاب عنه الحافظ بأنه يقصد عدم الوجوب على الأعيان، فلا يخالف القول الأول. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: يستحبّ عيادة الذميّ، قال الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "صحيحه":"باب عيادة المشرك"، ثم أخرج بسنده عن أنس رضي الله عنه أن غلاما ليهود، كان يخدُم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه يعوده، فقال:"أسلم" فأسلم انتهى.

قال ابن بطال رضي الله عنه: إنما تشرع عيادته إذا رُجِي أن يجيب إلى الدخول في الإسلام، فاما إذا لم يُطمَع في ذلك، فلا انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى، قال الماورديّ رحمه الله: عيادة الذميّ جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة، تقترن بها، من جوار، أو قرابة انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن استحباب عيادة الذميّ هو الأرجح، اقتداء

(1)

- "فتح" ج 11 ص 259 - 260.

ص: 151

بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورجاء إسلامه، وقول ابن بطال: فإذا لم يُطمع الخ فيه نظر، لأن ذلك غير محقّق، إذ ربما يظهر عليه الآن عدم الرغبة في الإسلام، ثم يتحوّل بعده، فيرغب، فلا ينبغي اليأس نظرا لأول حاله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في اختلاف أهل العلم في حكم تشميت العاطس:

ذهبت طائفة إلى أنه فرض عين، قال في "الفتح": وقد أخذ بظاهرها -يعني الأحاديث المذكورة في الباب- ابن مزين من المالكية، وقال به جمهور أهل الظاهر، وقال ابن أبي جمرة: قال جماعة من علمائنا: إنه فرض عين. وقوّى ابن القيّم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- هذا المذهب، كما سيأتي ذكر كلامه قريبًا. وذهب آخرون إلى أنه فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجحه أبو الوليد ابن رشد، وأبو بكر ابن العربي، وبه قالت الحنفيّة، وجمهور الحنابلة.

وذهب عبد الوهّاب، وجماعة من المالكيّة إلى أنه مستحبّ، ويجزىء الواحد عن الجماعة، وهو قول الشافعيّة. احتجّ الأولون بأحاديث كثيرة، منها حديث الباب: "للمؤمن على المؤمن ست خصال

"، ولفظ مسلم: "حقّ المسلم على المسلم ستّ، فذكر فيها:"وإذا عَطَس، فحمد اللَّه، فشمّته".

وأخرج البخاريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا: "خمس تجب للمسلم على المسلم

"، وأخرج من حديث أبي هريرة أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن اللَّه يُحِبّ العطاس، ويَكْرَه التثاؤب، فإذا عطس، فحمِد اللَّه، فحقّ على كلّ مسلم سمعه أن يشمته

" الحديث. وأخرج من حديثه أيضًا، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا عطس أحدكم، فليقل: الحمد للَّه، وليقل له أخوه، -أو صاحبه- يرحمك اللَّه، فإذا قال له: يرحمك اللَّه، فليقل: يهديكم اللَّه، وُيصلح بالكم.

وفي حديث عائشة رضي الله عنهما عند أحمد، وأبي يعلى:"إذا عطَس أحدكم، فليقل: الحمد للَّه، وليقل له مَنْ عنده يرحمك اللَّه"، ونحوه عند الطبرانيّ، من حديث أبي مالك.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بهذه الأحاديث الصحيحة أن المذهب الراجح وجوب تشميت العاطس على الأعيان، كما هو المذهب الأول. وقد قَوَّى العلامة ابن القيّم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- هذا المذهب، في "حواشي السنن"، فقال: جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ "الحقّ" الدالّ عليه، وبلفظ "عَلَى" الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابيّ:"أَمَرَنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، قال: ولا ريب أن الفقهاء أثبتوا وجوب أشياء كثيرةً بدون مجموع هذه الأشياء انتهى.

ص: 152

وأما ترجيح الحافظ القولَ بأنه فرض كفاية، قائلًا: إن الأحاديث الصحيحة الدالّة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية إلى آخر كلامه، فيردّه ما تقدّم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عند البخاريّ بلفظ:"فحقّ على كلّ مسلم سمعه أن يشمّته"، فإنه صريح في كونه فرض عين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: ثم إن شرط فرض التشميت أن يَحمَد العاطسُ اللَّهَ تعالى، لما أخرجه مسلم في "صحيحه"، من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا عَطَسَ أحدكم، فحمد اللَّه، فشمّتوه، وإن لم يحمد، فلا تشمتوه". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السادسة: في اختلاف العلماء في حكم الابتداء بالسلام:

ذهب بعض أهل العلم إلى أن الابتداء بالسلام واجب، لظاهر الأمر، وذهب آخرون إلى استحبابه: قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله: استَدَلّ بالأمر بإفشاء السلام من قال بوجوب الابتداء بالسلام، وفيه نظر، إذ لا سبيل إلى القول بأنه فرض عين على التعميم من الجانبين، وهو أن يجب على كلّ أحد أن يسلّم على كلّ من لقيه، لما في ذلك من الحرج والمشقّة، فإذا سقط من جانبي العمومين سقط من جانبي الخصوصين، إذ لا قائل: يجب على واحد دون الباقين، ولا يجب السلام على واحد دون الباقين، قال: وإذا سقط على هذه الصورة، لم يسقط الاستحباب، لأن العموم بالنسبة إلى كلا الفريقين ممكن انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: وهذا البحث ظاهر في حقّ من قال: إن ابتداء السلام فرض عين، وأما من قال: فرض كفاية، فلا يرد عليه إذا قلنا فرض الكفاية ليس واجبا على واحد بعينه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن قول من قال بالوجوب هو الأرجح، لظاهر النصوص الواردة بصيغة الأمر، ولكنه وجوب كفائيّ، لما تقدّم من حديث عليّ رضي الله عنه، وغيره. وما ذكره ابن دقيق العيد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- من الحرج والمشقّة في الإيجاب على كل أحد أن يسلم على كل من لقيه، فليس كذلك، فإن الراجح أنه كفائيّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السابعة: في اختلاف أهل العلم في حكم إجابة الدعوة:

قال الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "باب حقّ إجابة الوليمة والدعوة"، فقال في "الفتح": ما حاصله: قوله: "حَقٌّ إجابة الدعوة" يشر به إلى وجوب الإجابة، وقد نقل ابن عبد البرّ، ثم عياض، ثم النوويّ الاتفاق على القول بوجوب الإجابة لوليمة العرس،

ص: 153

وفيه نظر، نعم المشهور من أقوال العلماء الوجوب، وصرّح جمهور الشافعية، والحنابلة بأنها فرض عين، ونصّ عليه مالك، وعن بعض الشافعية، والحنابلة أنها مستحبّة، وذكر اللخميّ من المالكية أنه المذهب، وكلام صاحب الهداية يقتضي الوجوب مع تصريحه بأنها سنّة، فكأنه أراد أنها وجبت بالسنّة، وليست فرضًا، كما عُرف من قاعدتهم، وعن بعض الشافعيّة، والحنابلة هي فرض كفاية، وحكى ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" أن محلّ ذلك إذا عمّت الدعوة، أما لو خصّ كلَّ واحد بالدعوة، فإن الإجابة تتعيّن.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحقّ أن إجابة الدعوة واجبة؛ لصراحة الأدلّة في ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا دعا أحدكم أخاه، فليُجب". رواه مسلم. وقوله: "إذا دُعي أحدكم إلى وليمة عُرس، فليُجب"، وقوله:"من دُعي إلى عرس، أو نحوه فليجب". رواهما مسلم أيضًا. وكقوله: "من دُعي، فلم يُجب، فقد عصى اللَّه ورسوله". رواه أبو داود، إلى غير ذلك من الأدلّة التي تدلّ على الوجوب، ولا صارف لها عنه. واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "الفتح" أيضًا: وشرط وجوبها أن يكون الداعي مكلّفًا حرّا رَشِيدًا، وأن لا يخصّ الأغنياء دون الفقراء، وأن لا يُظهر قصد التودّد لشخص بعينه لرغبة فيه، أو رهبة منه، وأن يكون الداعي مسلمًا على الأصحّ، وأن يخصّ باليوم الأول على المشهور، وأن لا يُسبَقَ، فمن سَبَقَ تعينت الإجابة له، دون الثاني، وإن جاءا معًا قُدّم الأقرب رحمًا على الأقرب جوارًا على الأصحّ، فإن استويا أُقرع، وأن لا يكون هناك ما يتأذّى بحضوره، من منكر وغيره، وأن لا يكون له عذرٌ، وضبطه المارديّ بما يُرخّص به في ترك الجماعة. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ستكون لنا عودة إلى هذا البحث في محله من "كتاب النكاح"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثامنة: في اختلاف أهل العلم، هل الدعوة، تخصّ وليمة العرس، أم تعمّ غيرها؟:

قال الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "صحيحه": "باب إجابة الدعوة في العُرس، وغيره".

ثم أخرج بسنده عن نافع، قال: سمعت عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أجيبوا هذه الدعوة، إذا دُعيتم لها"، قال: كان عبد اللَّه يأتي الدعوة في العُرس وغير العُرس، وهو صائم انتهى.

(1)

- "فتح" ج 10 ص 302. طبعة دار الفكر.

ص: 154

وأخرج مسلم من طريق عبد اللَّه بن نمير، عن عُبيد اللَّه بن عمر العمريّ، عن نافع، بلفظ:"إذا دُعي أحدكم إلى وليمة عرس، فليجب". وأخرجه مسلم، وأبو داود من طريق أيوب، عن نافع، بلفظ:"إذا دعا أحدكم أخاه، فليجب، عرسا كان، أو نحوه"، ولمسلم من طريق الزبيديّ، عن نافع، بلفظ:"من دُعي إلى عُرس، أو نحوه، فليُجب".

قال الحافظ رحمه الله: وهذا يؤيّد ما فهمه ابن عمر أن الأمر بالإجابة لا يختصّ بطعام العرس، وقد أخذ بظاهر الحديث بعض الشافعيّة، فقال بوجوب الإجابة إلى الدعوة مطلقًا، عُرسًا كان، أو غيره بشرطه، ونقده ابن عبد البرّ عن عُبيد اللَّه بن الحسن العنبريّ، قاضي البصرة، وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين، ويعكر عليه ما نقلناه عن عثمان ابن أبي العاص، وهو من مشاهير الصحابة، أنه قال في وليمة الختان: لم يكن يُدعى لها، لكن يمكن الانفصال عنه بأن ذلك لا يمنع القول بالوجوب لو دَعَوا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: اعتراض الحافظ على ابن حزم غير صحيح، لأنه لم يدّعي الإجماعَ، وإنما قال: إنه قول الجمهور، فكيف يَعترض عليه بقول عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه؟: إن هذا لغريب من مثله!. واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

وأخرج عبد الرزّاق بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه دعا بالطعام، فقال رجل من القوم: أعفني، فقال ابن عمر: إنه لا عافية لك من هذا، فقم. وأخرج الشافعيّ، وعبد الرزّاق بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن صفوان دعاه، فقال: إني مشغول، وإن لم تُعفني جئتُهُ. وجزم بعدم الوجوب في غير وليمة النكاح المالكيةُ والحنفيّة، والحنابلة، وجمهور الشافعية، وبالغ السرخسيّ منهم، فنقل فيه الإجماع، ولفظ الشافعيّ رحمه الله: إتيان دعوة الوليمة حقّ، والوليمة التي تُعرف وليمة العرس، وكلّ دعوة دُعي إليها رجل وليمة، فلا أرخّص لأحد في تركها، ولو تركها لم يتبيّن لي أنه عاص في تركها، كما تبيّن لي في وليمة العرس انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر من الأحاديث الصحيحة، أن المذهب الراجح وجوب إجابة الدعوة، مطلقًا، عُرْسًا كانت، أو غيرها. وسنعود إلى تحقيق البحث في محله من "كتاب النكاح"، إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- "فتح" ج 10 ص 308 رقم الحديث 5179.

ص: 155

‌54 - فَضْلُ مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً

أي هذا باب ذكر فضل من تَبِعَ جنازة، وهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، و"مَنْ" موصولة، و"تَبِعَ" من باب تَعِبَ صلتها، وفي نسخة "يتبع" بصيغة المضارع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1940 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ، عَنْ بُرْدٍ، أَخِي يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً، حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ قِيرَاطٌ، وَمَنْ مَشَى مَعَ الْجَنَازَةِ، حَتَّى تُدْفَنَ، كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ قِيرَاطَانِ، وَالْقِيرَاطُ مِثْلُ أُحُدٍ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور قريبًا.

2 -

(عَبْثَر) بن القاسم الزُّبَيديّ، أبو زُبيد -بالضم فيهما- الكوفيّ، ثقة [8] 190/ 1164.

3 -

(بُرْد) -بضم أوله، وسكون الراء المهملة- ابن أبي زياد الهاشميّ مولاهم، أخو يزيد، أبو عَمْرو، أو أبو عُمَرَ، أو أبو العلاء الكوفيّ، مولى عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل، ثقة [5].

قال العجليّ: ثقة أرفع من أخيه يزيد. وقال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". انفرد به المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بهذا الحديث فقط.

4 -

(المسَيَّب بن رافع) الأسديّ الكاهليّ، أبو العلاء الكوفيّ الأعمى، ثقة [4] 5/ 1184.

والصحابيّ تقدم في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير برد، فمن أفراد المصنف. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فبغلانّي. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ) -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ البَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ) رضي الله عنهما -

ص: 156

(يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) شرطيّة، أو موصولة (تَبِعَ) يقال: تَبِعَ زيد عمرًا، من باب تَعِبَ: مشى خلفه، أو مرّ به، فمضى معه، قاله في "المصباح". وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ بلفظ:"اتّبِع" بالتشديد، من الاتباع. وللأصيلي "تبع" بحذف الألف، وكسر الموحّدة، كلفظ المصنف هنا.

قال في "الفتح": وقد تمسّك بهذا اللفظ من زعم أن المشي خلفها أفضل، ولا حجّة فيه، لأنه يقال: تبعه، إذا مشى خلفه، أو إذا مَرَّ به، فمشى معه، وكذلك اتبعه بالتشديد، وهو افتعل منه، فإذًا هو مقول بالاشتراك، وقد بيّن المرادَ الحديثُ الآخر المصحّح عند ابن حبّان وغيره، من حديث ابن عمر في المشي أمامها، وأما أتبعه بالإسكان، فهو بمعنى لَحِقه، إذا كان سبقه، ولم تأت به الرواية هنا انتهى

(1)

.

أتئبيه]: لم يُبَيَّن في هذا الحديث ابتداءُ الاتباع، وقد بُيِّن في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم، ولفظه:"من خرج مع جنازة من بيتها"، ولأحمد في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه:"فمشى معها من أهلها". ومقتضاه أن القيراط يختصّ بمن حضر من أول الأمر إلى انقضاء الصلاة، وبذلك صرّح المحبّ الطبريّ وغيره.

قال الحافظ: والذي يظهر لي أن القيراط يحصل لمن صلى فقط، لأن كلّ ما قبل الصلاة وسيلة إليها، لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من شيّع مثلاً، وصلّى، ورواية مسلم من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة بلفظ:"أصغرهما مثل أحد" تدلّ على أن القراريط تتفاوت.

ووقع أيضًا في رواية أبي صالح المذكورة عند مسلم: "من صلى على جنازة، ولم يتبعها، فله قيراط"، وفي رواية نافع بن جُبير، عن أبي هريرة، عند أحمد:"من صلى، ولم يتبع، فله قيراط"، فدلّ على أن الصلاة تحُصِّلُ القيراطَ، وإن لم يقع اتباع. ويمكن أن يُحمَل الاتباع هنا على ما بعد الصلاة، وهل يأتي نظير هذا في قيراط الدفن؟ فيه بحث.

قال النوويّ في "شرح البخاريّ" عند الكلام على طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، في "كتاب الإيمان" بلفظ: "من اتبع جنازة مسلم، إيمانًا، واحتسابًا، وكان معها حتى يُصلّي عليها، وُيفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين

" الحديث: ومقتضى هذا أن القيراطين إنما يَحْصُلان لمن كان معها في جميع الطريق حتى تدفن، فإن صلى مثلًا، وذهب إلى القبر وحده، فحضر الدفن لم يحصل له إلا قيراط واحد انتهى.

(1)

- "فتح" ج 1 ص 150 "كتاب الإيمان" رقم الحديث 47.

ص: 157

قال الحافظ: وليس فى الحديث ما يقتضي ذلك، إلا من طريق المفهوم، فإن ورد منطوق بحصول القيراط لشهود الدفن وحده كان مقدّما، ويُجمع حينئذ بتفاوت القيراط، والذين أبوا ذلك، جعلوه من باب المطلق والمقيّد، نعم مقتضى جميع الأحاديث أن من اقتصر على التشييع، فلم يصل، ولم يشهد الدفن، فلا قيراط له، إلا على الريقة التي ذكرناها

(1)

عن ابن عقيل، لكن الحديث الذي أوردناه عن البراء في ذلك ضعيف. وأما التقييد بالإيمان، والاحتساب فلا بدّ منه، لأن ترتُّبَ الثواب على العمل يستدعي سبق النيّة فيه، فيخرج مَن فعل ذلك على سبيل المكافأة المجرّدة، أو على سبيل المحاباة، واللَّه أعلم انتهى

(2)

.

(جَنَارةً) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من اتبع جنازة مسلم، إيمانا، واحتسابًا

".

(حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيهَا) بكسر اللام، بالبناء للفاعل، ويحتمل أن تكون بالفتح على البناء للمفعول. قال في "الفتح" في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: واللام للأكثر مفتوحة، وفي بعض الروايات بكسرها، ورواية الفتح محمولة عليها، فإنّ حصول القيراط متوقف على وجود الصلاة من الذي يحصل له انتهى

(3)

.

وقال في موضع آخر: قوله: "حتى يصلي" بكسر اللام، ويروى بفتحها، فعلى الأول لا يحصل الموعود به، إلا لمن توجد منه الصلاة، وعلى الثاني قد يقال: يحصل له ذلك، ولو لم يُصَلِّ، أما إذا قصد الصلاة، وحال دونه مانع، فالظاهر حصول الثواب له مطلقًا، واللَّه أعلم انتهى

(4)

.

(كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ قِيرَاطٌ) بكسر القاف. قال الجوهريّ: أصله قِرّاط بالتشديد، لأن جمعه قراريط، فأبدل من أحد حرفي تضعيفه ياء، قال: والقيراط نصف دانِق، وقال قبل ذلك: الدانق سدس الدرهم، فعلى هذا يكون القيراط جزءا من اثني عشر جزءا من الدراهم، وأما صاحب "النهاية"، فقال: القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشره في أكثر البلاد، وفي الشام جزء من أربعة وعشرين جزءا.

ونقل ابن الجوزيّ عن ابن عَقِيل أنه كان يقول: القيراط نصف سدس درهم، أو نصف عشر دينار، والإشارة بهذا المقدار إلى الأجر المتعلّق بالميت في تجهيزه،

(1)

- سيأتي ما نقله عن ابن عقيل قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 555 - 556.

(3)

- "فتح" ج 3 ص 555. كتاب الجنائز.

(4)

- "فتح" ج 1 ص 150 "كتاب الإيمان".

ص: 158

وغسله، وجميع ما يتعلّق به، فللمصلي عليه قيراط من ذلك، ولمن شهد الدفن قيراط، وذكر القيراط تقريبًا للفهم لما كان الإنسان يعرف القيراط، ويعمل العمل في مقابلته، وعدّ من جنس ما يعرف، وضرب له المثل بما يعلم انتهى. قال الحافظ: وليس الذي قاله سعيد، وقد روى البزّار من طريق عجلان، عن أبي هريرة، مرفوعًا:"من أتى جنازة في أهلها، فله قيراط، فإن تبعها، فله قيراط، فإن صلى عليها، فله قيراط، فإن انتظرها حتى تدفن، فله قيراط". فهذا يدلّ على أن لكلّ عمل من أعمال الجنازة قيراطًا، وإن اختلفت مقادير القراريط، ولا سيّما بالنسبة إلى مشقّة ذلك العمل، وسهولته، وعلى هذا فيقال: إنما خصّ قيراطي الصلاة والدفن بالذكر لكونهما المقصودين، بخلاف باقي أحوال الميت، فإنها وسائل.

ولكن هذا يخالف ظاهر سياق الحديث الذي عند البخاريّ في "كتاب الإيمان"، فإن فيه إن لمن تبعها حتى يصلى عليها، ويفرغ من دفنها قيراطين فقط. ويجاب عن هذا بأن القيراطين المذكورين لمن شهد، والذي ذكره ابن عقيل لمن باشر الأعمال التي يَحتَاج إليها الميتُ، فافترقا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث الذي ذكره الحافظ عن البزّار ضعيف، كما اعترف به هو في "الفتح" ج 3 ص 559، فكيف يؤيد به ما نقله عن ابن عَقيل؟، وكيف يستشكله مع حديث البخاريّ، فتفطّن.

قال: وقد ورد لفظ القيراط في عدّة أحاديث، فمنها ما يُحمل على القيراط المتعارف، ومنها ما يُحمل على الجزء في الجملة، وان لم تُعرف النسبة: فمن الأول حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، مرفوعًا:"إنكم ستفتحون بلدًا يُذكر فيها القيراط".

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"كنتُ أرعى غنما لأهل مكة بالقراريط". قال ابن ماجه عن بعض شيوخه: يعني كل شاة بقيراط. وقال غيره: قراريط جبل بمكة. ومن المحتمل حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الذين أُوتوا التوراة: "أعطوا قيراطًا قيراطًا"، وحديث الباب، وحديث أبي هريرة:"من اقتنى كلبا نقص من عمله كلّ يوم قيراط".

وقد جاء تعيين مقدار القيراط في حديث الباب بأنه مثل أُحُد. وفي رواية عند أحمد، والطبرانيّ في "الأوسط" من حديث ابن عمر: قالوا: يا رسول اللَّه، مثل قراريطنا هذه؟ قال:"بل مثلُ أحد".

قال النوويّ وغيره: لا يلزم من ذكر القيراط في الحديثين تساويهما، لأن عادة الشارع تعظيم الحسنات، وتخفيف مقابلها، واللَّه أعلم.

وقال ابن العربي القاضي: الذّرّة جزء من ألف وأربعة وعشرين جزءا من حبّة،

ص: 159

والحبّة ثلث القيراط، فإذا كانت الذّرّة تخُرِج من النار، فكيف بالقيراط قال: وهذا قدر قيراط الحسنات، فأما قيراط السيئات فلا. وقال غيره: القيراط فى اقتناء الكلب جزء من أجزاء عمل المقتني له في ذلك اليوم. وذهب الأكثر إلى أن المراد بالقيراط في حديث الباب جزء من أجزاء معدومة عند اللَّه، وقد قربها النبيّ صلى الله عليه وسلم للفهم بتمثيله القيراط بأُحُد.

قال الطيبيّ: قوله: "مثل أُحُد" تفسير للمقصود من الكلام، لا للفظ القيراط، والمراد منه أنه يرجع بنصيب كبير من الأجر، وذلك لأن لفظ القيراط مبهم من وجهين، فبين الموزون بقوله:"من الأجر"، وبيّن المقدار منه بقوله:"مثل أحد".

وقال الزين ابن المنيّر: أراد تعظيم الثواب، فمَثَّلَه للعيان بأعظم الجبال خَلْقًا، وأكثرها إلى النفوس المؤمنة حبّا، لأنه الذي قال في حقّه: إنه جبل يحبنا، ونحبّه انتهى. ولأنه أيضًا قريب من المخاطبين، يشترك أكثرهم في معرفته.

وخصّ القيراط بالذكر لأنه كان أقلّ ما تقع به الإجارة في ذلك الوقت، أو جرى ذلك مجرى العادة من تقليل الأجر بتقليل العمل. واستُدِلَّ بقوله:"من تَبعَ" على أن المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها، لأن ذلك هو حقيقة الاتباع حسّا.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: الذين رجحوا المشي أمامها حملوا الاتباع هنا على الاتباع المعنويّ، أي المصاحبة، وهو أعمّ من أن يكون أمامها، أو خلفها، أو غير ذلك، وهذا مجاز يحتاج إلى أن يكون الدليل الدالّ على استحباب التقدّم راجحًا انتهى

(1)

. وسيأتي تحقيق القول في ذلك، وبيان اختلاف العلماء فيه، وترجيح الراجح بدليله في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى.

(وَمَنْ مَشَى مَعَ الْجَنَازَةِ، حَتَّى تُدْفَنَ) أي بعد صلاته عليها، كما بينه في القسم الأول بقوله:"حتى يُصَلِّيَ عليها". وقد جاء التصريح بالصلاة في القسمين في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الشيخين، ولفظ البخاريّ:"من اتبع جنازة مسلم إيمانا، واحتسابًا، وكان معه حتى يصلَّى عليها، وُيفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كلّ قيراط مثلُ أحد، ومن صلّى عليها، ثم رجع قبل أن تُدفن، فإنه يرجع بقيراط".

وفي حديث عبد اللَّه بن المغفّل الآتي بعد هذا: "حتى يُفرخ منها"، وفي حديث أبي هريرة عند البخاريّ:"ويفرغ من دفنها".

قال في "الفتح ": قوله: "ويُفرغ" بضم أوله، وفتح الراء، ويروى بالعكس، وقد

(1)

- راجع "الفتح" ج 3 ص 551 - 553. "كتاب الجنائز" رقم الحديث 1323.

ص: 160

أثبتت هذه الرواية أن القيراطين إنما يحصلان بمجموع الصلاة والدفن، وأن الصلاة دون الدفن يحصل بها قيراط واحد، وهذا هو المعتمد، خلافًا لمن تمسّك بظاهر بعض الروايات، فزعم أنه يحصل بالمجموع ثلاثة قراريط انتهى

(1)

.

وقال في موضع آخر: قوله: "حتى تُدفن": ظاهره أن حصول القيراط متوقف على فراغ الدفن، وهو أصحّ الأوجه عند الشافعية وغيرهم، وقيل: يحصل بمجرد الوضع في اللحد. وقيل: عند انتهاء الدفن قبل إهالة التراب. وقد وردت الأخبار بكلّ ذلك، ويترجّح الأول للزيادة، ففي هذه الرواية:"حتى يُفرغ منها"، وفي رواية عند مسلم:"حتى توضع في اللحد"، وفي رواية له:"حتى توضع في القبر"، وفي رواية لأحمد:"حتى يُقضى قضاؤها"، وللترمذي:"حتى يُقضى دفنها"، ولأبي عوانة:"حتى يُسوّى عليها" أي التراب، وهي أصرح الروايات في ذلك. ويحتمل حصول القيراط بكلّ من ذلك، لكن يتفات القيراط، كما تقدّم. انتهى ما قاله في "الفتح" بتصرّف

(2)

.

(كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ قِيرَاطَانِ، وَالْقِيرَاطُ مِثلُ أُحُدِ") بضمتين: جبل الجبل المعروف بقرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، من جهة الشام، وكانت به الوقعة المشهورة، في أوائل شوّال، سنة ثلاث من الهجرة، وهو مذكّر، فينصرف، وقيل: يجوز تأنيثه على توهّم البقعة، فيُمنع من الصرف، وليس بالقويّ. أفاده في "المصباح".

وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين، والمصنف

(3)

: قيل: وما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين". وفي رواية لمسلم: قيل: وما القيراطان"؟ قال: "أصغرهما مثل أحد"، وللنسائيّ

(4)

: "فله قيراطان من الأجر، كل واحد منهما أعظم من أحد"، ولابن ماجه من حديث أبيّ بن كعب:"القيراط أعظم من أحد هذا"، ولابن عديّ من حديث واثلة:"كتب له قيراطان من أجر، أخفهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أحد". فأفادت هذه الروايات بيان وجه التمثيل بجبل أحد، وأن المراد به زنة الثواب المرتّب على ذلك العمل، أفاده الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(5)

.

وقال السنديّ في "شرحه": عند قوله: كان له من الأجر قيراط": وهو عبارة عن ثواب معلوم عند اللَّه تعالى، عُبّر عنه ببعض أسماء المقادير، وفُسّر بجبل عظيم،

(1)

- "فتح" ج 1 ص150 "كتاب الإيمان" رقم 47.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 556.

(3)

- يأتي برقم (79/ 1994).

(4)

- يأتي برقم (79/ 1997).

(5)

- "فتح" ج 3 ص 557.

ص: 161

تعظيما له، وهو أحد -بضمتين- ويحتمل أن ذلك العمل يتجسّم على قدر جِرْم الجبل المذكور، تثقيلًا للميزان انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني يردّه قوله: "من الأجر"، فإنه صريح في أن الذي يكون مثل أحد هو الأجر نفسه، فالأولى أن الأجر يُجسّد، فيوضع في الميزان، كما أفاده الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في كلامه المذكور آنفًا. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: في هذا الحديث قصة جرت بين أبي هريرة الراوي للحديث، وبين ابن عمر رضي الله عنهم، وذلك فيما رواه الشيخان، من طريق جرير بن حازم، قال: سمعت نافعًا، يقول: حُدّث ابنُ عمر أن أبا هريرة رضي الله عنه يقول: "من تبع جنازة، فله قيراط"، فقال: أكثر أبو هريرة علينا، فصدّقت -يعني عائشة- أبا هريرة، وقالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقوله، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: لقد فرّطنا في قراريط". وفي رواية لمسلم من طريق داود بن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه، أنه كان قاعدًا عند عبد اللَّه بن عمر، إذ طلع خَبَّاب صاحب المقصورة، فقال: يا عبد اللَّه بن عمر، ألا تسمع ما يقوله أبو هريرة؟ إنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من خرج مع جنازةٍ من بيتها، ثم تبعها، حتى تدفن، كان له قيراطان من أجر، كلّ قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها، ثم رجع، كان له من الأجر مثل أحد"، فأرسل ابن عمر خبابا، إلى عائشة يسألها، عن قول أبي هريرة، ثم يرجع إليه، فيخبره ما قالت، وأخذ ابن عمر قَبْضَة من حصباء المسجد، يقلبها في يده، حتى رجع إليه الرسول، فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة، فضرب ابن عمر بالحصى، الذي كان في يده الأرض، ثم قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة. انتهى

(2)

.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث البراء بن عازب - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح، انفر به المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أخرجه هنا -54/ 1940 - وفي "الكبرى" 54/ 2067 - وأخرجه (أحمد)18133.

المسألة الثانية: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو بيان فضل من تبع جنازةً. ومنها: الترغيب في شهود الميت، والقيام بأمره، والحضّ على الاجتماع له. ومنها: التنبيه

(1)

- "شرح السندي" ج 3 ص 56.

(2)

- راجع "صحيح مسلم" بشرح النووي ج 7 ص 19 رقم الحديث 2192.

ص: 162

على عظيم فضل اللَّه تعالى، وتكريمه للمسلم في تكثير الثواب لمن يَتَوَلّى أمره بعد موته. ومنها: تقدير الأعمال بنسبة الأوزان، إما تقريبًا للأفهام، وإما على حقيقته. ومنها: أن في قصة أبي هريرة رضي الله عنه المتقدمة دلالة على تَمَيُّز أبي هريرة في الحفظ.

ومنها: أن فيها دلالة على فضيلة ابن عمر رضي الله عنهما من حرصه على العلم، والعمل الصالح. ومنها: أن إنكار العلماء بعضهم على بعض قديم. ومنها: أن فيها استغراب العالم ما لم يصل إلى علمه. ومنها: عدم مبالاة الحافظ بإنكار من لم يحفظ. ومنها: ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، من التثبّت في الحديث النبويّ، والتحرّز فيه، والتنقيب عليه. ومنها: ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، من الرغبة في الطاعات حين يبلغهم، والتأسّف على ما فاتهم منها، وإن كانوا لا يعلمون عظم موقعه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثالثة: قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وقع لي حديث الباب من رواية عشرة من الصحابة، غير أبي هريرة، وعائشة، من حديث ثوبان، عند مسلم، والبراء، وعبد اللَّه بن مغفّل عند النسائيّ، وأبي سعيد، عند أحمد، وابن مسعود عند أبي عوانة، وأسانيد هؤلاء الخمسة صحاح، ومن حديث أُبيّ بن كعب، عند ابن ماجه، وابن عباس عند البيهقيّ في "الشُّعَب"، وأنس عند الطبرانيّ في "الأوسط"، وواثلة بن الأسقع عند ابن عديّ، وحفصة، عند حميد بن زنجويه في "فضائل الأعمال"، وفي كلّ من أسانيد هؤلاء الخمسة ضعف انتهى

(1)

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1941 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْعَثُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً، حَتَّى يُفْرَغَ مِنْهَا، فَلَهُ قِيرَاطَانِ، فَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَغَ مِنْهَا، فَلَهُ قِيرَاطٌ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(أشعث) بن عبد الملك الْحُمراني، أبو هانئ البصريّ، ثقة فقيه [6] مات سنة (142)(خت 4) تقدم في 129/ 191.

[تنبيه]: يحتمل أن يكون أشعث هنا هو ابن عبد اللَّه بن جابر الْحُدَّانيّ، أبو عبد اللَّه

(1)

- "فتح" ج 3 ص 554.

ص: 163

الأعمى البصريّ، وقد يُنسب إلى جدّه، وهو الْحُمْليّ، والأزديّ، وحُدّان من الأزد، صدوق [5].

قال النسائيّ: ثقة. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة. وقال أحمد: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال البزّار: ليس به بأس، مستقيم الحديث. وفرق بين الحدّاني هذا، وبين أشعث الأعمى، فقال فيه: ليّن الحديث. وقال ابن حبّان في "الثقات": ما أُراه سمع من أنس. وقال العقيليّ: في حديثه وَهَم. وقال الدارقطنيّ: يُعتبر به. عَلَّق له البخاريّ، وأخرج الباقون، سوى مسلم.

وذلك لأن كلا منهما يروي عن الحسن البصريّ، ويروي عنهما خالد الْهُجَيميّ، راجع ترجمتيهما في "تهذيب الكمال"، وهذا التردّد لا يضرّ في صحة الحديث، لأن كلّا منهما ثقة. فتنبّه. واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

4 -

(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصريّ الإمام الحجة الفقيه الثبت [3] 32/ 36.

5 -

(عبد اللَّه بن المُغَفّل) بن عُبيد بن نَهْم، أبو عبد الرحمن المزنيّ صحابيّ بايع تحت الشجرة، ثم نزل البصرة، مات رضي الله عنه سنة (57) وقيل: بعد ذلك 32/ 36. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عبد اللَّه بن المغفّل - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أخرجه هنا -54/ 1941 - وفي "الكبرى" 54/ 2068. وشرحه، وسائر المسائل المتعلّقة به تُعلَم مما سبق في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 164

‌55 - مَكَانُ الرَّاكِبِ مِنَ الْجَنَازَةِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على موضع الشخص الذي يتبع الجنازة، وهو خلفها.

1942 -

أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ وَاصِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأَخُوهُ الْمُغِيرَةُ جَمِيعًا، عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ، وَالْمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا، وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ» .

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زياد بن أيوب) بن زياد البغداديّ، أبو هاشم الطُّوسيّ الأصل، الملقّب دلّويه، وكان يغضب منها، ولقّبه أحمد شعبةَ الصغير، ثقة حافظ [10] مات سنة (252)، وله (86) سنة 101/ 132.

2 -

(عبد الواحد بن واصل) السَّدُوسيّ مولاهم، أبو عُبيدة الحدّاد البصريّ، نزيل بغداد، ثقة تكلّم فيه الأزديّ بغير حجة [9] مات سنة (150) 55/ 972.

3 -

(سعيد بن عُبيد اللَّه) بن جبير بن حيّة -بالمهملة، والتحتانية- الثقفيّ الجُبَيريّ- بضم الجيم، والموحّدة- البصريّ، صدوق ربما وهم [6].

قال أحمد، وابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الحاكم، عن الدارقطنيّ: ليس بالقويّ، يحدّث بأحاديث، يسندها، وغيره يوقفها. واستنكر له البخاريّ له حديثًا في "تاريخه".

روى له البخاريّ، والترمذيّ، والمصنف، وابن ماجه، وله فى هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وكرره ثلاث مرّات برقم 1942 و 1943 و 1948.

[تنبيه]: وقع في "الكبرى""سعيد بن عبد اللَّه" مكبّرًا، وهو تصحيف، والصواب ما في "المجتبى""ابن عبيد اللَّه" مصغّرًا، فتنبّه.

4 -

(المغيرة) بن عُبيد اللَّه بن جُبير بن حيّة الثقفيّ، مقبول [7].

روى عن عمه زياد بن جبير، وعنه أبو عبيدة الحدّاد، وذكره ابن حبّان في "الثقات". انفرد به المصنّف، فأخرج له حديث الباب فقط.

5 -

(زياد بن جُبير) بن حيّة بن مسعو بن مُعَتِّب الثقفيّ البصريّ، ثقة، كان يرسل [3].

ص: 165

قال أبو طالب، عن أحمد: من الثقات، وقال مرةً: رجل معروف. وقال ابن معين، وأبو رزعة، والنسائيّ: ثقة. ووثقه العجليّ. وسئل عنه أبو داود؟ فقال: هذا زياد الْجِهْبِذ. وقال الدارقطنيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في الطبقة الثالثة، من "الثقات". روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وكرره بالأرقام المذكورة في الترجمة السابقة.

6 -

(جُبير بن حيّة) بن مسعود بن مُعَتِّب بن مالك بن كعب بن عَمْرو بن سَعْد بن عَوْف بن ثَقيف، الثقفيّ البصريّ، ابن أخي عروة بن مسعود، ثقة جليل [3].

ذكره ابن حبّان في ثقات التابعين. وقال أبو نعيم في "تاريخه": يُكنى أبا فرشاد.

وذكره أبو موسى في "الصحابة"، وأخرج له حديثًا مرسلاً، وصحح أنه تابعيّ.

ومال الحافظ إلى إثبات صحبته، فذكره في القسم الأول من "الإصابة"، وقال: ثبت في "صحيح البخاريّ" أنه شهد الفتوح في عهد عمر رضي الله عنه، وأخرج البخاريّ ذلك، من رواية ولده زياد بن جبير، عنه، ولم أر من ذكر جبيرًا في الصحابة، وهو من شرطهم، لأن ثقيفًا لم يبق منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ممن كان موجودا أحد، إلا أسلم، وشهد حجة الوداع، وقد ذكره أبو موسى في الصحابة، وأخرج له حديثًا، وزعم أنه مرسل، وصحح أنه تابعيّ، وليست صحبته عندي بمندفعة، فمن يشهد الفتوح في عهد عمر لا بدّ أن يكون إذ ذاك رجلاً، إذ القصّة التي شهدها كانت بعد الوفاة النبويّة بدون عشر سنين، فأقلّ أحواله أن يكون له رؤية انتهى

(1)

.

وقال أبو الشيخ: كان يسكن الطائف، وكان معلّم كُتَّاب، ثم قدم العراق، فصار من كَتَبَة الديوان، فلما ولي زياد أكرمه، وعظّمه، وقرّبه، فعظم شأنه، وولّاه أصبهان، توفي في خلافة عبد الملك بن مروان.

روى له الجماعة، سوى مسلم، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، كرره بالأرقام المذكورة قبل ترجمة.

7 -

(المغيرة بن شعبة) بن مسعود بن معتّب الثقفي صحابي مشهور، أسلم قبل الحديبية، وولي إمرة البصرة، ثم الكوفة، مات رضي الله عنه سنة (50) على الصحيح 16/ 17. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم

(1)

- "الإصابة" ج2 ص 65.

ص: 166

رجال الصحيح، غير المغيرة بن عبيد اللَّه، فمن أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فبغدادي. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن زياد بن جُبير، عن أبيه) هكذا جميع نسخ "المجتبى" التي بين يديّ، بزيادة "عن أبيه"، ووقع في "الكبرى" "عن زياد بن جبير، عن المغيرة

"، وأشار الحافظ أبو الحجاج المزّيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "تحفة الأشراف" جـ 8 ص 471 إلى أن نسخ "المجتبى" بإسقاط "عن أبيه"، مثل ما وقع في "الكبرى".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن نسخ "المجتبى" التي أثبتت "عن أبيه" هي الصحيحة، لأنه قال في "تهذيب الكمال" ج 2 ص 944 و"تهذيب التهذيب"ج 1 ص 634 في ترجمة زياد المذكور أنه: روى عن المغيرة بن شعبة، والمحفوظ "عن أبيه"، عنه انتهى.

وأيضًا رواية بشر بن السَّريّ، عن سعيد بن عبيد اللَّه الآتية في الباب التالي، وروايةُ خالد الْهُجَيمي، عن سعيد الآتية في 59/ 1948 بإثبات "عن أبيه"، فتأمل.

(عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ) "الراكب" مبتدأ والظرف متعلق بمحذوف، خبر عنه، أي الراكب يمشي خلف الجنازة، قال السنديّ رحمه الله: أي اللائق بحاله أن يكون خلف الجنازة (وَالْمَاشِي حَيثُ شَاءَ مِنْهَا) إعرابه كسابقه، أي يمشي في أي مكان تيسّر له، أمامَ الجنازة، أو خلفها، أو يمينها، أو شمالها، لأن حاجة الحمل تدعو إلى أن ينتقل في هذه الجهات (وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ") جملة من مبتدأ وخبر، والفعل مبنيّ للمفعول، بَيَّنَ به أن الصلاة على الطفل إذا مات مشروعة، وهذا بعمومه يشمل من استهلّ، ومن لم يستهلّ، وبه قال أحمد، وغيره، وهو الراجح، وقال الجمهور: يُصَلَّى عليه، إن استهلّ"، لحديث جابر رضي الله عنه، مرفوعًا: "الطفل لا يصلّى عليه، ولا يَرث، ولا يورث، حتى يَستهلّ". روه الترمذيّ، وابن ماجه، لكن الحديث ضعيف، لأنه من رواية إسماعيل بن مسلم المكيّ، وهو ضعيف، وسيأتي تمام البحث فيه في 59/ 1948 - باب "الصلاة على الأطفال"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه هذا صحيح.

ص: 167

[تنبيه]: مدار هذا الحديث على زياد بن جُبير، وقد اختَلَف عليه أصحابه، فرواه عنه يونس بن عُبيد موقوفًا، أو شكّ في رفعه، كما عند أبي داود، والحاكم ج 1/ 363 وأحمد ج 4/ 249 وأبي داود الطيالسيّ، وابن أبي شيبة، ورواه عنه سعيد بن عُبيد اللَّه، فرفعه، كما وقع عند أحمد 4/ 252 والمصنّف هنا، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم 1/ 355 و 363 وابن أبي شيبة، وابن عبد البرّ في "التمهيد"، وكذا رواه المغيره بن عُبيد اللَّه عند المصنّف، والمبارك بن فَضَالَة عند أحمد 4/ 248 والجزم مقدّم على الشكّ، فالراجح رفعه، والمحفوظ أنه رواه زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة، كما وقع عند جميع المخرّجين.

وأما ما وقع عند ابن ماجه في "باب شهود الجنائز""عن زياد بن جبير، سمع المغيرة ابن شعبة" فهو شاذّ، ويحتمل أن يكون رواه زياد عن أبيه، عن المغيرة، ثم سمعه، عن المغيرة مباشرةً، أو سمعه عن المغيرة، فثبّته أبوه. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -55/ 1942 و 56/ 1943 و59/ 1948 - وفي "الكبرى" 55/ 2069 و 56/ 2070 و 59/ 2065 - وأخرجه (د) 3180 (ت) 1031 (ق) 1481 و 1507 (أحمد) 17697 و 17709 و 17742. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في سير الراكب مع الجنازة:

قال الإمام أبو بكر ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: قد اختُلِف في هذا الباب، فروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان على بَغْل راكبًا أمام الجنازة. وكان علقمة، والنخعيّ يكرهان أن يتقدّم الراكب أمام الجنازة، وقال أحمد، وإسحاق: الراكب خلف الجنازة.

وكرهت طائفة الركوب في الجنازة، روينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الراكب مع الجنازة كالجالس في أهله. ورُوي عن ثوبان أنه قال لرجل راكب في جنازة: تركب، وعبادُ اللَّه يمشون، وأخذ بلجام دابّته، فجعل يَكْبَحُها

(1)

. ورُوِيَ عن الشعبيّ أنه قال كقول ابن عباس. وقد روينا عن ابن عباس رواية أخرى أنه رئي راكبا في جنازة. وقال عبد اللَّه بن رباح الأنصاريّ: للماشي في الجنازة قيراطان، وللراكب قيراط انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح الأقوال عندي في هذه المسألة القول الأول، وحاصله أنه يجوز الركوب لمن يتبع الجنازة، وأن الأولى أن يكون خلفها؛ لحديث الباب، وغيره، كما سيأتي في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب،

(1)

- كبح الدّابة باللجام كَبْحًا، من باب نَفَع: جذبها به لتقف.

(2)

- "الأوسط" ج 5 ص 384 - 386.

ص: 168

وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌56 - مَكَانُ الْمَاشِي مِنَ الْجَنَازَةِ

1943 -

أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ بَكَّارٍ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عَمِّهِ، زِيَادِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ، وَالْمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا، وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ» .

رجال هذا الإسناد: ستة، كلهم تقدموا في الباب الماضي، سوى اثنين:

1 -

(أحمد بن بكّار الْحَرَّانيّ) ابن أبي ميمونة الأمويّ مولاهم، أبو عبدالرحمن، صدوق، وكان له حفظ [10] 104/ 1365، وهو من أفراد المصنّف.

2 -

(بشر بن السّريّ) أبو عَمرو الأَفْوَهُ البصريّ، سكن مكة، وكان واعظا، فلُقِّبَ بالأفوه، ثقة متقن، طُعِن فيه برأي جهم، ثم اعتذر، وتاب [9] 104/ 1365.

والحديث صحيح، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله، وبقي الكلام على ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو مكان الماشي من الجنازة، فأقول -مستعينًا باللَّه تعالى-:

مسألة: قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: قد اختلف أهل العلم في المشي أمام الجنازة، وخلفها، فممن كان يرى المشي أمام الجنازة: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وابن عمر، وأبو هريرة، والحسن بن علي، وابن الزبير، وأبو أُسَيد الساعديّ، وأبو قتادة، وقال عبدالرحمن بن أبي ليلى: لقد كنّا مع أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نمشي بين يدي الجنازة، ولا يرون بذلك بأسًا. وهو قول عُبيد بن عُمير، وشُريح، والقاسم بن محمد، وسالم، والزهريّ، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، واحتَجَّ

ص: 169

بتقديم عمر بن الخطاب الناس أمام جنازة زينب بنت جحش

(1)

.

وقال أصحاب الرأي: لا بأس بالمشي قدّامها، والمشيُ خلفها أحبّ إلينا. وقال إسحاق ابن راهويه: يتاخر أحبّ إلينا، وقد روينا عن عليّ أنه مشى خلفها. وسئل الأوزاعيّ عن المشي أمام الجنازة؟ فقال: هو سعة، والأفضل عندنا خلفها.

وقالت طائفة: إنما أنتم مُتَّبِعُون، تكونون بين يديها، وخلفها، وعن يمينها، وعن شمالها، هذا قول مالك بن أنَس، وبه قال معاوية بن قرّة، وسعيد بن جبير. وقال إسحاق في موضع آخر: لا بأس أن يمشي الرجل أمام الجنازة، وخلفها قريبًا.

قال ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: المشي أمام الجنازة، وخلفها، وعن شمالها

(2)

جائز، والمشي أمامها أحبّ إليّ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما -يعني حديثه الآتي عند المصنّف بعد هذا- ولأن عليه الأكثرَ من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والتابعين، ومن بعدهم.

فليُكثِر مع تبع الجنازة، حيث مشى منها ذكرَ الموت، والفكر في صاحبهم، وأنهم صائرون إلى ما صار إليه، وليستعدّوا للموت، ولِمَا بعده، سَهَّل اللَّه لنا حسن الاستعداد، واللقاء به انتهى كلام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(3)

.

وقال الحافظ ابن عبدالبرّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بعد أن ذكر الاختلاف بين العلماء في هذه المسألة: ما نصّه:

قال أبو عمر: المشي أمام الجنازة أكثر عن العلماء، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين، وهو مذهب الحجازيين، وهو الأفضل -إن شاء اللَّه- ولا بأس عندي بالمشي خلفها، وحيث شاء الماشي منها، لأن اللَّه عز وجل لم يَحظُر ذلك، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أعلمُ أحدًا من العلماء كره ذلك، ولا ذكر أن مشي الماشي خلف الجنازة يُحبط أجره فيها، ويكون كمن لم يشهدها، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من شهد الجنازة، حتى يصلي، فله قيراط، ومن شهدها حتى تُدفن كان له قيراطان". ولم يخصّ الماشي خلفها من الماشي أمامها انتهى كلام ابن عبد البر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- (4).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الإمامان الحافظان: أبو بكر ابن المنذر، وأبو عمر ابن عبد البرّ -رحمهما اللَّه تعالى- هو الحقّ عندي.

وحاصله أن المشي أمام الجنازة، أفضل، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي بعد هذا، وهو حديث صحيح، والجواب عن إعلاله سيأتي قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى، ولأنه عَمَلُ

(1)

- قال ابن المنذر: حدثنا إسحاق، عن عبد الثوريّ، عن الثوريّ، عن محمد بن المنكدر، قال: أخبرني شيخ لنا يقال له: ربيعة بن عبد اللَّه بن الحدير، قال: رأيت عمر بن الخطاب يضرب الناس يقدّمهم أمام جنازة زينب بنت جحش انتهى. وإسناده صحيح، وربيعة بن عبد اللَّه من رجال البخاريّ.

(2)

- الظاهر أنه سقط من النسخة لفظة "وعن يمينها". واللَّه تعالى أعلم.

(3)

- "الأوسط" باختصار ج 5 ص 380 - 384.

(4)

- "الاستذكار" ج 8 ص 222 - 223. بتغيير نصّ الحديث بنصّ حديث البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-.

ص: 170

أكثر الصحابة، والتابعين، ومَن بعدهم، هذا من حيث الأفضليةُ، وإلا فالمشي حيث تيسر: أمامها، وخلفها، ويمينها، وشمالها جائز؛ لحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه المذكور في هذا الباب، والذي قبله، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1944 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، وَقُتَيْبَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، "أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ رضي الله عنهما، يَمْشُونَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ".

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المروزيّ الإمام الثبت الحجة الفقيه [10] 2/ 2.

2 -

(علي بن حُجْر) السعديّ المروزيّ، ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 13.

3 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رَجَاء البَغْلَانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

4 -

(سفيان) بن عيينة، أبو محمد الهلالي مولاهم المكي الإمام الثبت الحجة [8] 1/ 1.

5 -

(الزهري) محمد بن مسلم، أبو بكر المدنيّ الإمام الثبت الحجة [4] 1/ 1.

6 -

(سالم) بن عبد اللَّه بن عمر العدويّ المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 23/ 490.

7 -

(عبد اللَّه بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهري، وسفيان مكي، وقتيبة بغلاني، والباقيان مروزيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أحد الفقهاء السبعة، وهو سالم، وفيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ) عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما ("أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ رضي الله عنهما) وفي الرواية التالية ذكر عثمان رضي الله عنه معهم (يَمْشُونَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ") فيه دليل على أن المشي أمام الجنازة أفضل؛ لأنه حكاية عادة، وكانت عادتهم اختيارَ الأفضل، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الذي قبله، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 171

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما هذا صحيح على الراجح.

المسألة الثانية: اختُلِف في وصل هذا الحديث، وإرساله:

قال المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "الكبرى" بعد ذكر هذا الحديث: قال أبو عبدالرحمن: هذا الحديث خطأ، وهم فيه ابن عُيينة، خالفه مالك، رواه عن الزهريّ مرسلاً. وقال أيضًا بعد الحديث الثاني: قال أبو عبدالرحمن: وهذا أيضًا خطأ، والصواب مرسلاً

(1)

، وإنما أتى هذا، لأن الحديث رواه الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، أنه كان يمشي أمام الجنازة، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر يمشون أما الجنازة، وقال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم" إنما هو من قول الزهريّ.

قال ابن المبارك: الحفّاظ عن ابن شهاب ثلاثة: مالك، ومعمر، وابن عُيينة، فإذا اجتمع اثنان على قول أخذنا به، وتركنا قول الآخر. قال أبو عبدالرحمن: وذَكَرَ ابنُ المبارك هذا الكلام عند أهل الحديث انتهى كلام المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(2)

.

وقال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "التلخيص الحبير": ما نصّه: حديث ابن عمر: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، يمشون أمام الجنازة".

رواه أحمد، وأصحاب السنن، والدارقطنيّ، وابن حبّان، والبيهقيّ، من حديث ابن عيينة، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، به. قال أحمد: إنما هو عن الزهريّ مرسل، وحديث سالم فعل ابن عمر، وحديث ابن عيينة وَهَمٌ. قال الترمذيّ: أهل الحديث يرون المرسل أصحّ، قاله ابن المبارك، قال: وروى معمر، ويونس، ومالك، عن الزهريّ:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي أمام الجنازة". قال الترمذيّ: ورواه ابن جريج، عن الزهريّ، مثل ابن عيينة، ثم روى عن ابن المبارك أنه قال: أرى ابن جُريج أخذه عن ابن عيينة. وقال النسائيّ: وَصْلُه خطأ، والصواب مرسل. وقال أحمد: ثنا حجاج، قرأت على ابن جريج، ثنا زياد بن سعد، أن ابن شهاب أخبره، حدثني سالم، عن ابن عمر، أنه كان يمشي بين يدي الجنازة، وقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر يمشون أمامها". قال عبد اللَّه: قال أبي: ما معناه: القائل: وقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى آخره

هو الزهريّ، وحديث سالم فعل ابن عمر. وأخرجه ابن حبّان في "صحيحه"

(1)

- هكذا بالنصب، وهو جائز، تقديره والصواب كونه مرسلاً.

(2)

- "السنن الكبرى" للمصنف ج 1 ص 632 رقم الحديث 2071.

ص: 172

من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، عن سالم: أن عبد اللَّه بن عمر، كان يمشي بين يديها، وأبا بكر، وعمر، وعثمان، قال الزهريّ: وكذلك السنّة. فهذا أصحّ من ابن عيينة

(1)

.

وقد ذكر الدارقطنيّ في "العلل" اختلافًا كثيرًا فيه على الزهريّ، قال: والصحيح قول من قال: عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه: أنه كان يمشي. قال: وقد مشى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر.

واختار البيهقيّ ترجيح الموصول، لأنه من رواية ابن عيينة، وهو ثقة حافظ، وعن عليّ بن المدينيّ، قال: قلت لابن عيينة: يا أبا محمد خالفك الناس في هذا الحديث، فقال: أستيقن الزهريّ حدثني مرارًا، لست أحصيه، يعيد، ويبديه، سمعته من فيه، عن سالم، عن أبيه.

قال الحافظ: وهذا لا ينفي عنه الوهم، فإنه سمعه منه، عن سالم، عن أبيه، والأمر كذلك، إلا أن فيه إدراجًا، لعلّ الزهريّ أدمجه إذ حدّث به ابن عيينة، وفصله لغيره، وقد أوضحته في "المدرج" بأتمّ من هذا. وجزم أيضًا بصحته ابن المنذر، وابن حزم، وقد رُوي عن يونس، عن الزهريّ، عن أنس مثله، أخرجه الترمذيّ، وقال: سألت عنه البخاريّ، فقال: هذا خطأ، أخطأ فيه محمد بن بكر انتهى كلام الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن الموصول أصحّ، كما رجّحه البيهقيّ، وممن صححه أيضًا ابن حبّان، فقال في "صحيحه":

"ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر أخطأ فيه سفيان بن عيينة"، ثم أخرج بسنده عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، عن سالم بن عبد اللَّه، أن عبد اللَّه ابن عمر كان يمشي بين يدي الجنازة، قال: وإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يمشي بين يديها، وأبا بكر، وعمر، وعثمان"، قال الزهريّ: وكذلك السنّة انتهى.

وممن صححه أيضًا ابن المنذر، كما تقدّم في استدلاله به، وابن حزم، فقال في "المحلى" بعد أن ذكر رواية المصنّف الآتية بعد هذا من طريق همام بن يحيى: ولم يَخْفَ علينا قول جمهور أصحاب الحديث أن خبر همام هذا خطأ، لكنا لا نلتفت إلى دعوى الخطإ في رواية الثقة إلا ببيان، لا يُشكّ فيه انتهى

(3)

.

(1)

- هذه الجملة، أعني قوله:"فهذا أصحّ من ابن عيينة" ليس في "صحيح ابن حبان"، انظر "صحيحه" ج 7 ص 320 رقم الحديث 3048، تحقيق الأرنؤوط.

(2)

- "التلخيص الحبير" ج 2 ص 226 - 227.

(3)

- "المحلى" ج 5 ص 164 - 165.

ص: 173

وقد تابع ابن عيينة فيه ابن أخي الزهريّ -واسمه محمد بن عبد اللَّه بن مسلم- عن عمه، قال الإمام أحمد في "مسنده" جـ2 ص 122 رحمه الله: ثنا سليمان بن داود الهاشميّ، أنا إبراهيم بن سعد، حدثني ابن أخي الزهريّ، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان يمشون أمام الجنازة". وإسناده صحيح على شرط مسلم، وهو صريح في الرفع

(1)

. والحاصل أن رواية ابن عيينة بالوصل صحيحة. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -56/ 1944 و 1945 - وفي "الكبرى" 56/ 2071 و 2072 - وأخرجه (د) 3179 (ت) 1007 و 1008 و 1009 و 1010 (ق) 1482 و 1483 (أحمد) 4525 (مالك في الموطإ)524. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

1945 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَمَنْصُورٌ، وَزِيَادٌ وَبَكْرٌ -هُوَ ابْنُ وَائِلٍ- كُلُّهُمْ ذَكَرُوا، أَنَّهُمْ سَمِعُوا مِنَ الزُّهْرِيِّ، يُحَدِّثُ، أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، "أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، يَمْشُونَ بَيْنَ يَدَيِ الْجَنَازَةِ". بَكْرٌ وَحْدَهُ لَمْ يَذْكُرْ عُثْمَانَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ مُرْسَلٌ.

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه بن يزيد) أبو يحيى المكيّ، ثقة [10] 11/ 11.

2 -

(عبد اللَّه بن يزيد) المقرئ، أبو عبد الرحمن المكيّ، بصري الأصل، أو الأهواز، ثقة فاضل [9] 4/ 746.

3 -

(همام) بن يحى بن دينار العَوْذيّ البصريّ، ثقة، ربما وهم [7] 5/ 465.

4 -

(منصور) بن المعتمر، أبو عَتَّاب الكوفيّ، ثقة ثبت حجة [5] 2/ 2.

5 -

(زياد) بن سعد بن عبدالرحمن الخراسانيّ، نزيل مكة، ثم اليمن، ثقة ثبت [6] 51/ 64.

6 -

(بكر بن وائل) بن داود التيمي الكوفيّ، صدوق [8].

قال أبو حاتم: صالح. وقال النسائيّ: ليس به بأس، مات قبل أبيه. وقال الحاكم:

(1)

- وقد أحسن الشيخ الألباني في "الإرواء" ج 3 ص 186 - 192 في ذكر متابعات كثيرة لابن عيينة، فأجاد، وأفاد، فراجعه، تستفد.

ص: 174

وائل وابنه ثقتان. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال عبدالحقّ في "الأحكام": ضعيف. وردّ ذلك عليه ابن القطّان، فأجاد، وقال: لم يذكره أحد ممن صنّف في الضعفاء، ولا قال فيه أحد: إنه ضعيف.

روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، و 3663 حديث:"اقضه عنها"، وأعاده برقم 3819.

والباقون ذُكِرُوا في الذي قبله، والحديث صحيح كما سبق إيضاحه في الحديث الماضي، ومضى شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به هناك.

وقوله: "بَكْرٌ وحده لم يذكر عثمان" يعني أن بكر بن وائل لم يذكر في روايته عن الزهريّ عثمان بن عفان مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعم رضي الله عنهم، وإنما ذكره معهم سفيان، ومنصور، وزياد. وقوله:"قال أبو عبدالرحمن: هذا خطأ الخ" قد تقدّم الجواب عنه في الذي قبله، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌57 - الأَمْرُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيّتِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المراد بالصلاة هنا هي الصلاة الشرعية المعهودة، لا الصلاة اللغوية التي هي الدعاء، كما زعمه بعضهم، وقد أشار الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى إلى الردّ على هذا الزعم، فبوَّب له في "صحيحه"، فقال:"باب سنة الصلاة". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1946 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَخَاكُمْ قَدْ مَاتَ، فَقُومُوا، فَصَلُّوا عَلَيْهِ» .

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(علي بن حُجر) السَّعْدي المروزيّ المذكور في الباب الماضي.

2 -

(عمرو بن زُرَارة النيسابوريّ) ثقة ثبت [10] 7/ 368.

3 -

(إسماعيل) ابن عُليّة الحافظ الثبت البصريّ [8] 18/ 19.

4 -

(أيوب) بن أبي تميمة السختيانيّ، الحجة الثبت الفقيه [5] 48/ 42.

5 -

(أبو قلابة) عبد اللَّه بن زيد بن عمرو الْجَرْميّ البصريّ، ثقة فاضل كثير الإرسال

ص: 175

[3]

103/ 322.

6 -

(أبو المهَلَّب) الْجَرْميْ البصريّ، عم أبي قلابة، اسمه عمرو، أو عبد الرحمن بن معاوية، وقيل غيره، ثقة [2] 23/ 1236.

7 -

(عمران بن حصين) بن عُبيد بن خَلَف الخزاعيّ، أبو نُجَيد الصحابي ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 200/ 321. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الاسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخيه، فالأول مروزيّ، والثاني نيسابوريّ، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم، عن بعض، وفيه من اشتهر بالكنية، أبو قلابة، وأبو المهلّب، وفيه رواية الراوي، عن عمه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنِ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِن أَخَاكُمْ قَدْ مَاتَ) يعني النجاشي، ففي حديث جابر رضي الله عنه الآتي في 72/ 1970: "إن أخاكم النجاشيّ قد مات

" (فَقُومُوا) فيه الأمر بالقيام في الصلاة على الجنازة، وسيأتي في باب خاصّ - 73/ 1976 - إن شاء اللَّه تعالى (فَصَلُّوا عَلَيْهِ") فيه الأمر بالصلاة على الميت، وهو محلّ الترجمة، وفيه الصلاة على الغائب، وفيه خلاف سيأتي قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عمران بن حُصين - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -57/ 1946 و70/ 1970 و 1973 و 1975 - وفي "الكبرى" 57/ 2073 و 72/ 2097 و 2100 و 2102. وأخرجه (م) 952 و 953 و 1039 (ت) 1536 (أحمد) 19390 و 19439 و 19440. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو الأمر بالصلاة على الميت، والأمر للوجوب، لكن وجوبًا كفائيًّا. ومنها: القيام في الصلاة على الجنازة، وسيأتي في باب خاصّ، كما أشرت إليه قريبًا. ومنها: مشروعية الصلاة على الميت الغائب،

ص: 176

وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في المراد بالصلاة على الميت:

(اعلم): أن المراد بالصلاة هنا هي الصلاة المعهودة الشرعية، لا الصلاة اللغوية، التي هي الدعاء، كما زعم بعضهم، وقد أشار الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- إلى الرّدّ على هذا الزعم، فبوّب له في "صحيحه"، فقال:"باب سنة الصلاة على الجنائز"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من صلى على الجنازة"، وقال:"صلوا على صاحبكم"،

وقال: "صلوا على النجاشيّ" سماها صلاة، ليس فيها ركوع ولا سجود، ولا يُتكَلَّمُ فيها، وفيها تكبير وتسليم. وكان ابن عمر لا يصلي إلا طاهرًا، ولا يصلي عند طلوع الشمس، ولا غروبها، ويرفع يديه. وقال الحسن: أدركت الناس، وأحقهم على جنائزهم من رضوه لفرائضهم. وإذا أحدث يوم العيد، أو عند الجنازة يطلب الماء ولا يتيمم، وإذا انتهى إلى الجنازة، وهم يصلون يدخل معهم بتكبيرة. وقال ابن المسيب: يكبر بالليل والنهار، والسفر والحضر أربعًا. وقال أنس رضي الله عنه: تكبيرة الواحد استفتاح الصلاة. {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} الآية [التوبة: 84]. وفيه صفوف، وإمام. ثم أخرج بسنده عن الشعبي قال: أخبرني من مرّ مع نبيكم صلى الله عليه وسلم على قبر منبوذ، فأمنا، فصففنا خلفه، فقلنا: يا أبا عمرو من حدثك؟ قال: ابن عباس رضي الله عنهما. انتهى كلام البخاري رحمه الله.

قال في "الفتح": قال الزين ابن المنيِّر: المراد بالسنة ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم فيها يعني فهو أعم من الواجب والمندوب، ومراده بما ذكره هنا من الآثار والأحاديث أن لها حكم غيرها من الصلوات من الشرائط والأركان، وليست مجرد دعاء، فلا تجزئ بغير طهارة مثلًا. وقال في "الفتح" أيضًا: قال ابن رشد نقلًا عن ابن المرابط وغيره: ما محصّله: مراد هذا الباب الرد على من يقول: إن الصلاة على الجنازة إنما هي دعاء لها، واستغفار، فتجوز على غير طهارة. فحاول المصنف الردّ عليه من جهة التسمية التي سماها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولو كان الغرض الدعاء وحده لما أخرجهم إلى البقيع، ولدعا في المسجد، وأمرهم بالدعاء معه، أو التأمين على دعائه، ولما صفهم خلفه، كما يصنع في الصلاة المفروضة والمسنونة. وكذا وقوفه في الصلاة، وتكبيره في افتتاحه، وتسليمه في التحلل منها، كل ذلك دالّ على أنها على الأبدان، لا على اللسان وحده، وكذا امتناع الكلام فيها، وإنما لم يكن فيها ركوع ولا سجود؛ لئلا يتوهم بعض الجهلة أنها عبادة للميت، فيضل بذلك. انتهى ما في "الفتح"، وهو بحث نفيس جدًّا. واللَّه

ص: 177

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة على الميت:

قال الحافظ أبو عمر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ما حاصله: اختلف العلماء في حكم الصلاة على الجنائز، فقال أكثرهم: هي فرض على الكفاية، يسقط وجوبها بمن حضرها عمن لم يحضرها، وقال بعضهم: هي سنة واجبة على الكفاية.

وقال أيضًا: وفي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي، إذ لم يصلّ عليه أحد من قومه، وأمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصلاة عليه معه دليل على تأكيد الصلاة على الجنائز، وعلى أنه لا يجوز أن تترك الصلاة على مسلم مات، ولا يجوز دفنه دون أن يصلّى عليه لمن قدر على ذلك.

وعلى هذا جمهور علماء المسلمين، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، من فقهاء الأمصار، إلا أنهم اختلفوا في الصلاة على الشهداء، وعلى البغاة، وعلى أهل الأهواء، لمعان مختلفة متباينة، على ما نذكره في مواضعه، إن شاء اللَّه تعالى.

وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على المسلمين المذنبين من أجل ذنوبهم، وإن كانوا أصحاب كبائر انتهى كلام ابن عبد البرّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- ببعض تصرّف

(1)

.

وقال العلامة القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: فيه- أي في قوله: "فقوموا، فصلوا عليه "- دليل على وجوب الصلاة على الميت المسلم، وهو المشهور من مذاهب العلماء أنه واجب على الكفاية، ومن مذهب مالك، وقيل عنه: إنه سنة مؤكدة انتهى

(2)

.

وقال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: الصلاة على ميت فرض كفاية بلا خلاف عندنا، وهو إجماع، والمرويّ عن بعض المالكية مردود انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بهذا أن الصلاة على الميت المسلم، وكذا المسلمة فرض على الكفاية، للأدلة الواردة في ذلك، كحديث الباب، والأحاديث الأخرى الصحيحة في صلاته صلى الله عليه وسلم على الأموات، وأجمع على ذلك أهل العلم، فلا اختلاف بينهم في ذلك، إلا ما نُقل عن مالك، وهو مردود، كما بيّنه النوويّ رحمه الله تعالى آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السادسة: في اختلاف أهل العلم في الصلاة على الميت الغائب عن البلد: ذهب جمهور السلف، إلى مشروعية الصلاة عليه، وإليه ذهب الشافعيّ، وأحمد.

(1)

- "الاستذكار" ج 7 ص 236 - 238.

(2)

- "المفهم" ج 2 ص 609.

(3)

- ""المجموع" شرح المهذّب" ج 5 ص 169.

ص: 178

قال أبو محمد بن حزم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ويصلّى على الميت الغائب بإمام وجماعة، قد صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على النجاشيّ رضي الله عنه، ومات بأرض الحبشة، وصلى معه أصحابه عليه صفوفًا، وهذا إجماع منهم، لا يجوز تعدّيه انتهى

(1)

.

وقال الإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: الصلاة على الميت دعاء له، فكيف لا يُدعَى له، وهو غائب، أو في القبر.

وذهبت الحنفيّة، والمالكية إلى أنه لا تشرع الصلاة عليه مطلقًا.

وذهب بعض أهل العلم: إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه، أو ما قرب منه، لا إذا طالت المدة، حكاه ابن عبد البرّ. وذهب ابن حِبّان إلى أنه إنما يجوز ذلك لمن كان في جهة القبلة، قال المحبّ الطبريّ: لم أر ذلك لغيره. واعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشيّ بأعذار، منها أنه كان بأرض لم يصلّ عليه بها أحد، ومن ثمّ قال الخطابيّ: لا يُصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض، ليس فيها من يصلي عليه، واستحسنه الرويانيّ، وترجم بذلك أبو داود في "السنن"، فقال:"باب الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك في بلد آخر". قال الحافظ: وهذا محتمل إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار أنه لم يصلّ عليه في بلده أحد انتهى.

وممن اختار هذا التفصيل شيخ الإسلام ابن تيميّة، والمقبليّ، واستدلّ له بما أخرجه الطيالسيّ، وأحمد، وابن ماجه، وابن قانع، والطبرانيّ، والضياء المقدسيّ، عن أبي الفيل، عن حذيفة بن أَسِيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن أخاكم مات بغير أرضكم، فقوموا، فصلّوا عليه".

ومن الأعذار قولهم: كُشف له صلى الله عليه وسلم حتى رآى، فيكون حكمه حكم الحاضرين بين يدي الإمام الذي لا يراه المؤتمون، ولا خلاف في جواز الصلاة على من كان كذلك.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا يحتاج إلى نقل، ولا يثبت بالاحتمال. وتعقّبه بعض الحنفية بأن الاحتمال كاف في مثل هذا من جهة المانع.

قال الحافظ: وكأن مستند القائل بذلك ما ذكره الواحديّ في أسباب النزول بغير إسناد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"كُشف للنبي صلى الله عليه وسلم عن سرير النجاشيّ، حتى رآه، وصلى عليه". ولابن حبّان من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما: "فقاموا، وصفّوا خلفه، وهم لا يظنّون إلا أن جنازته بين يديه". ولأبي عوانة من طريق أبان وغيره، عن يحيى:"فصلينا خلفه، ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قُدّامنا".

(1)

- "المحلى" ج 5 ص 169.

ص: 179

ومن الأعذار أن ذلك خاصّ بالنجاشيّ، لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ميت غائب غيره. وتعقّب بأنه صلى الله عليه وسلم صلى على معاوية بن معاوية الليثيّ، وهو مات بالمدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذ ذاك بتبوك، ذكر ذلك في "الاستيعاب".

وروي أيضًا عن أبي أمامة الباهليّ مثل هذه القصّة في حقّ معاوية بن مقرّن. وأخرج مثلها أيضًا عن أنس في ترجمة معاوية بن معاوية المزنيّ، ثم قال بعد ذلك: أسانيد هذه الأحاديث ليست بالقويّة، ولو أنها في الأحكام لم يكن شيء منها حجة.

وقال الحافظ في "الفتح"، متعقّبًا لمن قال: إنه لم يصلّ على غير النجاشيّ، قال: وكأنه لم يثبت عنده قصّة معاوية بن معاوية الليثيّ، وقد ذكرت في ترجمته في الصحابة أن خبره قويّ بالنظر إلى مجموع طرقه انتهى.

وقال الذهبيّ: لا نعلم في الصحابة معاوية بن معاوية، وكذلك تكلّم فيه البخاريّ.

وقال ابن القيّم: لا يصحّ حديث صلاته صلى الله عليه وسلم على معاوية بن معاوية، لأن في إسناده العلاء بن يزيد، قال ابن المدينيّ: كان يضع الحديث.

وقال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- مجيبًا عمن قال بأن ذلك خاصّ بالنجاشيّ: إنه لو فُتح باب هذا الخصوص لا نسدّ كثير من ظواهر الشرع، مع أنه لو كان شيء مما ذكروه لتوفّرت الدواعي إلى نقله انتهى.

وقال ابن العربيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: قال المالكيّة: ليس ذلك إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم. قلنا: وما عمل به محمد صلى الله عليه وسلم تعمل به أمته. -يعني لأنَّ الأصل عدم الخصوص- قالوا: طُوِيت له الأرضُ، وأُحضرت الجنازة بين يديه. قلنا: إن ربّنا عليه لقادر، وإن نبيّنا صلى الله عليه وسلم لأهلٌ لذلك، ولكن لا تقولوا: إلا ما رويتم، ولا تخترعوا حديثًا من عند أنفسكم، ولا تحدثوا إلا بالثابت، ودعوا الضعاف، فإنه سبيل إتلاف، إلى ما ليس له تلاف انتهى.

وقال الكرمانيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: قولهم: رُفع الحجاب عنه. ممنوع، ولئن سلّمنا، فكان غائبًا عن الصحابة الذين صلّوا عليه مع النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال العلامة الشوكانيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بعد ذكر ما تقدّم:

والحاصل أنه لم يأت المانعون من الصلاة على الغائب بشيء يعتدّ به، سوى الاعتذار بأن ذلك مختصّ بمن كان في أرض لا يصلّي عليه فيها أحد، وهو أيضًا جمود على قصّة النجاشيّ، يدفعه الأثر، والنظر انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجّح عندي في هذه المسألة قول من قال

(1)

- "نيل الأوطار" ج 4 ص 60 - 63.

ص: 180

بجواز الصلاة على الغائب، وأقوى دليل على ذلك قصّة النجاشيّ رضي الله عنه، فإن أقلّ ما يستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان الجواز، وأما ما عداها مما يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم صلى على غائب غيره، فلا يثبت شيء منها:

فقد ذُكر أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ثلاثة غير النجاشيّ، معاوية بن معاوية المزنيّ، وزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، لكنها كلها لم تثبت:

أما حديث صلاته على معاوية بن معاوية المزنيّ، فقد وردت قصته من حديث أنس، وأبي أمامة، مسندةً، ومن طريق ابن المسيّب، والحسن البصريّ مرسلة.

فأما حديث أنس، ففي سندها محبوب بن هلال المزني، قال في "الميزان": لا يعرف، وحديثه منكر. وقال البخاريّ: لا يتابع على حديثه. وله طريق آخر فيه يحيى بن أبي محمد قد ضُعّف، وبقية بن الوليد مدلّس تدليس التسوية، وله طريق ثالث، وفيها العلاء بن يزيد الثقفيّ، متفق على ضعفه، بل قال ابن المدينيّ: يضع الحديث. وقال ابن حبّان: روى عن أنس نسخة موضوعة، منها الصلاة بتبوك صلاة الغائب على معاوية بن معاوية الليثيّ.

وأما حديث أبي أمامة، ففيه نوح بن عمرو السكسكيّ، قال ابن حبّان: إنه سرق هذا الحديث، وفيه بقية المذكور أيضًا. فقد تبيّن لك مما سقناه من كلام أهل العلم على أسانيدها، وبيانهم شدة ضعفها أنها غير صالحة للاحتجاج بها.

وقد تعب صاحب "عون المعبود" في الكلام عليها، وحاول أن يقويها، فلم يأت بشيء له طائل، فتأمله بإنصاف، ولا تَتَهَوَّرْ بالاعتساف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌58 - الصَّلَاةُ عَلَى الصِّبْيَانِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الصبيان" -بكسر الصاد المهملة، وضمها-، جمع صبيّ: الصغير، وُيجمع على صِبْية بالكسر. وفي "اللسان": والصبيّ: من لَدُن يُولَد إلى أن يُفطَمَ، والجمع أَصْبِيةٌ، وصِبْوَةٌ، وصَبْيةٌ، وصِبْوانٌ، وصُبْوانٌ، وصِبْيان انتهى. وفي "القاموس": و"الصبيّ": من لم يُفطَم بَعدُ، والجمع أَصْبِيَةٌ، وأَصْبٍ، وصِبْوَة، وصَبْيةٌ، وصِنية، وصِبْوان، وصِبْيَانٌ، وتُضَمّ هذه الثلاثة انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1947 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ

ص: 181

عَمَّتِهِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ خَالَتِهَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَبِيٍّ، مِنْ صِبْيَانِ الأَنْصَارِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، قَالَتْ: عَائِشَةُ، فَقُلْتُ: طُوبَى لِهَذَا، عُصْفُورٌ، مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا، وَلَمْ يُدْرِكْهُ، قَالَ:«أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ، يَا عَائِشَةُ، خَلَقَ اللَّهُ عز وجل الْجَنَّةَ، وَخَلَقَ لَهَا أَهْلاً، وَخَلَقَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ النَّارَ، وَخَلَقَ لَهَا أَهْلاً، وَخَلَقَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائي، ثقة ثبت [11] 108/ 147.

[تنبيه]: قوله "عمرو بن منصور" هكذا نسخ، المجتبى" وقع فيها "عمرو بن منصور" ووقع في "الكبرى" جـ 1 ص 633 "محمد بن منصور" وهو الذي في "تحفة الأشراف" جـ 12 ص 403 وكتب في هامشه: ما نصه: وقع في النسخة المطبوعة: "عمرو بن منصور" بدل "محمد" وهو تصحيف. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي في دعوى التحصيف نظر؛ إِذْ دلاليل على ذلك؛ إذ كل من عمرو بن منصور، ومحمد بن منصور، وهو الجوّاز - شيخ للمصنف، وكلاهما يرويان عن ابن عيينة، فلا دليل لترجيح أحدهما على الآخر، ولكن الحديث لا يتأثر بهذا؛ إذ كلاهما ثقة فتنبَّه. واللَّه تعالى أعلم.

2 -

(سفيان) بن عيينة المذكور قبل باب.

3 -

(طلحة بن يحيى) بن طلحة بن عبيد اللَّه التيميّ المدنيّ، نزيل الكوفة، صدوق يخطىء [6] 36/ 580.

4 -

(عائشة بنت طلحة) بن عبيد اللَّه التيمية، أم عمران، أمها أم كلثوم بنت أبي بكر، كانت فائقة الجمال، ثقة [3].

قال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقة حَجَّة. وقال العجليّ: مدنيّة تابعيّة ثقة. وقال أبو زرعة الدمشقيّ: حدث عنها الناس لفضلها وأدبها. وذكرها ابن حبّان في "الثقات". روى لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب ثمانية أحاديث.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه فإنه من أفراده. (ومنها): أن فيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَبِيِّ، مِنْ

ص: 182

صِبْيَانِ الْأَنْصَارِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ) هذا محلّ الترجمة، ففيه مشروعية الصلاة على الصبيان، وسيأتي بيان اختلاف أهل العلم فيه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى (قَالَتْ: عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: طُوبَى لِهَذَا) قال ابن منظور رحمه الله: طُوبَى فُعلَى من الطِّيب، كأنّ أصله طُيْبَى، فقلبوا الياء واوًا للضمّة قبلها. وفي "التهذيب": والعرب تقول: طُوبَى لكَ، ولا تقول: طوباك، وهذا قول أكثر النحويين، إلا الأخفش، فإنه قال: من العرب مَن يُضيفها، فيقول: طوباك. وقال أبو بكر: طوباك إن فعلتَ كذا، قال: هذا مما يَلْحَن فيه العوامّ، والصواب طوبى لك إن فعلتَ كذا وكذا.

وطوبَى شجرة في الجنّة، وفي التنزيل العزيز:{طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 69]، وذهب سيبويه بالآية مذهب الدعاء، قال: هو في موضع رفع، يدلّك على رفعه رفعُ {وَحُسْنَ مَآبٍ}. قال ثعلب: وقرئ: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} -أي بالنصب- فجَعَل طوبى مصدرًا، كقولك: سَقْيًا له، ونظيرُهُ من المصادر الرُّجعَى، واستَدَلَّ على أن موضعه نَصْبٌ بقوله:{وَحُسْنَ مَآبٍ} .

قال الزجّاج: جاء في التفسيرِ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن طُوبَى شجرة في الجنّة. وقيل: طوبى لهم حُسنَى لهم. وقيل: خيرٌ لهم. وقيل: خِيرَةٌ لهم. وقيل: طوبى اسم الجنّة بالهندية. وفي "الصحاح": طوبى اسم شجرة في الجنّة. قال أبو إسحاق: طُوبى فُعلَى من الطِّيبِ، والمعنى أن العيش الطيّب لهم، وكلّ ما قيل من التفسير يُسدِّد قول النحويين: إنها فُعلَى من الطيب. ورُوي عن سعيد بن جبير أنه قال: طوبى اسم الجنّة بالحبشيّة. وقال عكرمة: طوبى لهم: معناه الحسنى لهم. وقال قتادة: طوبى كلمة عربيّة، تقول العرب: طوبى لك إت فعلت كذا وكذا؛ وأنشد [من الطويل]

(1)

:

طُوبَى لِمَنْ يَسْتَبْدِلُ الطَّوْدَ بِالْقُرَى

وَرِسْلاً بِيَقْطِينِ الْعِرَاقِ وَفُومِهَا

"الرَّسْلُ": اللبن، و"الطَّوْدُ": الجبلُ، و"اليَقْطِينُ": القَرْعُ، وقال أبو عبيدة: كلّ ورقة اتّسعت، وسترت فهي يَقْطِين. و"الْفُومُ": الخبز، والحنطة، ويقال: هو الثُّوم. وفي الحديث: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء"

(2)

. طوبى اسم الجنّة، وقيل: شجرة فيها، وأصلها فُعْلَى من الطيب، فلما ضُمَّت الطاء، انقلبت الياء واوا. وفي الحديث:"طوبى للشام، لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها"

(3)

. والمراد بها ههنا فُعلَى من الطِّيب، لا الجنّة، ولا الشجرة انتهى كلام ابن منظور ببعض اختصار

(4)

.

(عُصْفُورٌ، مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ) بضم العين طائر ذَكَر، والأنثى بالهاء، أي هو مثل

(1)

دخله الخزم في أوله، فصار "عولن" فتنبّه.

(2)

- أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب الإيمان" رقم الحديث 145.

(3)

- حديث صحيح، أخرجه أحمد، والترمذي، والحاكم، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.

(4)

- "لسان العرب" في مادة طيب.

ص: 183

العصفور في عدم المؤاخذة بالذنب (لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا) أي لم يَجرِ عليه القلمُ بسبب سوء عمله، لكونه مرفوع القلم، لقوله صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاثة:، وعن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبيّ حتى يحتلم". حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم (وَلَمْ يُدْرِكْهُ) أي لم يدرك وقت السوء، وهو ما بعد البلوغ.

قال العلامة القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: إنما قالت عائشة رضي الله عنهما هذا؛ لأنها بَنَت الأمرَ على أن كلّ مودود يودد على فطرة الإسلام، وأن اللَّه تعالى لا يعذّب حتى يبعث رسولاً، فحَكَمَت بذلك، فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكر انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَوَ غَيْرُ ذَلِكِ) بفتح الواو، والهمزة للاستفهام، والواو عاطفة على محذوف، أي أتسكتين عن هذا، وتقولين غير ذلك، ويحتمل أن تكون "أو" بسكون الواو، بمعنى "بل"، و"غير" بالنصب، أو الرفع، أي بل قولي غير ذلك، أو غيرُ ذلكِ أولى وأحسن، والظاهر أن المراد بغير ذلك أن تقول: اللَّه أعلم بما يصير أمره إليه، فتفوّض الأمر إلى اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم (يَا عَائِشَةُ، خَلَقَ اللَّهُ عز وجل الجَنَّةَ، وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا، وَخَلَقَهُمْ) حُذف متعلّقه، أي للجنة (فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ) أي قبل أن يولدوا، ويخرجوا إلى دار التكليف (وَخَلَقَ النَّارَ، وَخَلَقَ لَهَا أَهْلاً، وَخَلَقَهُمْ) حذف متعلقه أيضًا: أي للنار (فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ") ولفظ مسلم في الموضعين: "خلقهم لها، وهم في أصلاب آبائهم".

قال النووي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: أجمع من يُعتدّ به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين، فهو من أهل الجنّة، والجواب عن هذا الحديث أنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير دليل، أو قال ذلك قبل أن يَعلَم أن أطفال المسلمين في الجنّة. انتهى.

وقال السنديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: قلت: وقد صرّح كثير من أهل التحقيق أن التوقّف في مثله أحوط، إذ ليست المسألة مما يتعلّق بها عمل، ولا عليها إجماع، وهي خارجة عن محلّ الإجماع على قواعد الأصول، إذ محلّ الإجماع هو ما يدرك بالاجتهاد، دون الأمور المغيبة، فلا اعتداد بالإجماع في مثله لو تمّ على قواعدهم، فالتوقّف أسلم، على أن الإجماع لو تمّ وثبت لا يصحّ الجزم في مخصوص، لأن إيمان الأبوين تحقيقًا غيب، وهو المناط عند اللَّه تعالى، واللَّه تعالى أعلم انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "المفهم": هذا لا يُعارِض ما تقدّم من قوله: إنه يكتب، وهو في بطن أمّه شقيّ، أو سعيد؛ لما قدّمناه من أن قضاء اللَّه، وقدره راجع

(1)

- "المفهم" ج 6 ص 679.

(2)

- "شرح السندي" ج 3 ص 58.

ص: 184

إلى علمه وقُدرته، وهما أزليّان، لا أول لهما، ومقصود هذه الأحاديث كلها أنّ قدر اللَّه سبق على حدوث المخلوقات، وأن اللَّه تعالى يُظهر من ذلك ما شاء، لمن شاء، متى شاء، قبل وجود الأشياء انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -58/ 1947 - وفي "الكبرى" 58/ 2074 - وأخرجه (م) 6710 (د) 4713 (ق) 82 (أحمد) 2361 و 25214. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو مشروعية الصلاة على الصبيان.

ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من شدّة العناية بأمور المسلمين، ولو كانوا صغارًا. ومنها: عدم القطع لأحد بالجنّة، ولو صغيرًا، تأدبًا مع اللَّه تعالى، فإنه الذي يعلم من هو أهل الجنة؟ ومنها: أن الجنة، والنار مخلوقتان الآن، وأن لهما أهلاً، لا يعلمهم إلا اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في الصلاة على الصبيان:

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: أجمع أهل العلم على أن الطفل إذا عرفت حياته، واستهلّ، صلّي عليه. واختلفوا في الصلاة على الطفل الذي لم يُعرف له حياة، فروينا عن ابن عمر، وابن عباس، وجابر أنه قالوا: إذا استهلّ المولود صلي عليه. وبه قال النخعيّ، والحسن، وعطاء، والزهريّ. وقال أحمد

(2)

، والحكم، وحماد، ومالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ: إذا لم يستهلّ لم يصلّ عليه، وبه قال أصحاب الرأي.

وقالت طائفة: يصلى عليه، وإن لم يستهلّ، يروى ذلك عن ابن عمر. وبه قال محمد بن سيرين، وسعيد بن المسيّب، وقال أحمد بن حنبل: إذا عُلم أنه ولد يغسل، ويصلّى عليه، وقال إسحاق: كما نُفخ فيه الروح صلي عليه، وكذلك قال أحمد، قال: إذا تمت أربعة أشهر يصلى عليه، لأنه قد نفخ فيه الروح، وقال إسحاق: مضت السنّة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الصبيّ إذا سقط من بطن أمه ميتًا، بعد تمام خلقه، ونُفِخَ فيه الروح، وهو أن يمضي أربعة أشهر وعشرًا أنه يصلّى عليه، إنما الميراث في الاستهلال،

(1)

- "المفهم" ج 6 ص 680.

(2)

- لعل أحمد رحمه الله له قولان، وإلا فسيأتي أنه ممن يرى الصلاة، وإن لم يستهلّ، فتأمل.

ص: 185

وأما ما يُبعث يوم القيامة نسمةً تامّةً، وقد كُتب عليه الشقاء والسعادة، فلأيّ شيء يترك الصلاة عليه؟، وقد ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم:"صلوا على أطفالكم"، رواه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه -يعني الحديث الآتي في الباب التالي، وتقدّم أيضًا وثبت أن ابن عمر رضي الله عنهما صلى على مولود، ذكر نافع أنه لم يكن استهلّ، وصلى أبو هريرة رضي الله عنه على المنقوص الذي لم يعمل خطيئة، وقال:"اللَّهم أعذه من عذاب القبر" انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى باختصار

(1)

.

وقد رجّح المجد ابن تيمية في "المنتقى" قول أحمد، وإسحاق، حيث قال: وإنما يُصلّى عليه إذا نُفخت فيه الروح، وهو أن يستكمل أربعة أشهر، فأما إن سقط لدونها فلا، لأنه ليس بميت، إذ لم يُنفخ فيه روح، وأصل ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق:"إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون عَلَقَة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث اللَّه إليه ملكًا بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وشقيّ، أو سعيد، ثم يُنفخ فيه الروح". متفق عليه. انتهى.

قال الشوكاني بعد ذكر كلام ابن تيمية هذا: ومحلّ الخلاف فيمن سقط بعد أربعة أشهر، ولم يستهلّ، وظاهر حديث الاستهلال أنه لا يُصَلّى عليه، وهو الحقّ، لأن الاستهلال يدلّ على وجود الحياة قبل خروج السقط، كما يدلّ على وجودها بعده، فاعتبار الاستهلال من الشارع دليل على أن الحياة بعد الخروج من البطن معتبرة في مشروعية الصلاة على الطفل، وأنه لا يكتفى بمجرّد العلم بحياته في البطن فقط انتهى كلام الشوكاني -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الأرجح مذهب القائلين بالصلاة على المودود مطلقًا، سواء استهلّ، أو لم يستهلّ، بعد أن تمّ له أربعة أشهر، كما هو مذهب أحمد، وإسحاق، ورجحه المجد ابن تيمية -رحمهم اللَّه تعالى-، لحديث المغيرة بن شعبة الآتي في الباب التالي، وقد تقدّم أيضًا، مرفوعًا:"الطفل يُصلّى عليه"، ولفظ أبي داود:"السقط يُصلى عليه". وهو حديث صحيح، كما تقدّم الكلام عليه في 55/ 1942.

وأما حديث الاستهلال الذي رجح به الشوكانيّ عدم الصلاة إذا لم يستهلّ، وهو ما أخرجه الترمذيّ، من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطفل لا يصلى عليه، ولا

(1)

- "الأوسط" ج 5 ص 403 - 406.

(2)

- "نيل الأوطار" ج 4 ص 57 - 58.

ص: 186

يَرِث، ولا يورث، حتى يستهلّ"

(1)

، ورواه ابن ماجه أيضًا، ولكنه لم يذكر "ولا يورث"، فلا يصحّ الاحتجاج به؛ لأن في إسناد الترمذيّ إسماعيل بن مسلم المكيّ، عن أبي الزبير، وإسماعيل ضعيف، وفي إسناد ابن ماجه الربيع بن بدر، عن أبي الزبير، والربيع متروك أيضًا.

والصحيح أنه موقوف على جابر رضي الله عنه، فقد رواه ابن جريج وغيره، موقوفا عليه. فتبيّن بهذا أن اشتراط الاستهلال للصلاة على الطفل مما لا دليل عليه، بل الدليل الصحيح هو حديث المغيرة رضي الله عنه المذكور، بلفظ:"والطفل يُصلّى عليه"، وبلفظ:"والسقط يُصلّى عليه"، وهو على إطلاقه يعمّ المستهلّ، وغيره.

فالحاصل أن المذهب الراجح هو القول بالصلاة على الطفل مطلقًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌59 - الصَّلَاةُ عَلَى الأَطْفَالِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الأطفال": جمع طفل -بكسر، فسكون-: الصغير من كلّ شيء، أو المولود. قاله في "ق".

وقال في "المصباح": الطفل: الولد الصغير، من الإنسان، والدوابّ. قال ابن الأنباريّ: ويكون الطفل بلفظِ واحدٍ للمذكْر، والمؤنّث، والجمع، قال اللَّه تعالى:{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]، ويجوز المطابقة في التثنية، والجمع، والتأنيث، فيقال: طِفْلَة، وأطفال، وطِفْلَاتٌ، وأَطفَلَتْ كلُّ أنثى: إذا ولدت، فهي مُطفِلٌ، قال بعضهم: ويبقى هذا الاسم للولد حتى يميّز، ثم لا يقال له بعد ذلك: طفل، بل صبيٌّ، وحَزَوَّرٌ، ويافِعٌ، ومُراهِقٌ، وبالغٌ. وفي "التهذيب": يقال له: طفل إلى أن يحتلم انتهى

(2)

.

(1)

- استهلال الصبي تصويته عند ولادته، والمراد به أن يوجد ما يعلم به حياته، من صياح، أو اختلاج، أو نَفَس، أو حركة، أو عُطاس. أفاده في "مجمع البحار".

(2)

- "القاموس المحيط"، و"المصباح المنير" في مادة طفل.

ص: 187

والظاهر أن المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- ترجم للصلاة على الصبيان بباب، وللصلاة على الأطفال بباب آخر، مراعاةً للفظ الحديث، وإلا فلا فرق بينهما يؤدي إلى أن يُفْرَدَ كلٌّ منهما بباب مستقلّ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1948 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ جُبَيْرٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ، وَالْمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا، وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم سندًا ومتنًا في 55/ 1942 و 56/ 1943 - وتقدّم الكلام عليه هناك مستوفى، فلا حاجة إلى إعادته هنا، لقرب محل ذكره، فمن شاء فليرجع إليه، وباللَّه تعالى التوفيق.

وممن لم يُذكر هناك من رجاله:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدَريّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

وأما ما يتعلّق بما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو مشروعيّة الصلاة على الأطفال، فقد تقدم في الباب الذي قبله، وأن الراجح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة، هو القول بمشروعية الصلاة على الأطفال، وإن لم يستهلّوا، إذا تم لهم أربعة أشهر مدة نفخ الروح، وهو ظاهر مذهب المصنّف، حيث ترجم بقوله:"الصلاة على الأطفال"، ثم أورد حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، مرفوعًا:"والطفل يصلى عليه"، فإنه يدلّ على أن مراده بالترجمة إثبات الصلاة على الأطفال، لا نفيها، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌60 - أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: يحتمل أن يكون غرض المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بهذه الترجمة الإشارة إلى الاختلاف في حكم الصلاة على أولاد المشركين، فإنه مما اختَلف فيه أهل العلم، كما سنبيّنه، ويحتمل أن يكون غرضه الإشارة إلى الخلاف في كونهم من أهل الجنة، أو من أهل النار، والاحتمال الأول هو الظاهر؛ لأنه ذكر هذه

ص: 188

الترجمة خلال التراجم التي وضعها لبيان أحكام الصلاة على الجنائز. ثم إن ظاهر مذهبه -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أنه يختار التوقّف في أولاد المشركين، حيث أورد في الباب أربعة أحاديث كلها تدلّ على التوقّف.

وأما الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وإن كانت ترجمته قريبة من ترجمة المصنّف، حيث قال:"باب ما قيل في أولاد المشركين"، إلا أن صنيعه يدلّ على أنه يختار القول بأنهم من أهل الجنّة.

قال في "الفتح" عند الكلام على الترجمة المذكورة: هذه الترجمة تشعر بأنه كان متوقفًا في ذلك، وقد جزم بعد هذا في تفسير "سورة الروم" بما يدلّ على اختيار القول الصائر إلىِ أنهم في الجنّة، حيث قال: "باب {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] لدين اللَّه {خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 137] دين الأولين. والفطرة الإسلام. واللَّه تعالى أعلم.

وقد رَتَّبَ أيضًا أحاديث هذا الباب ترتيبًا يشير إلى المذهب المختار فإنه صدره بالحديث الدالّ على التوقف، وهو حديث الباب، وثنى بالحديث المرجّح لكونهم في الجنّة، وهو حديث: "كلّ مولود يولد على الفطرة

" ثم ثلّث بالحديث المصرّح بذلك، وهو حديث سمرة بن جندب في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: "وأما الصبيان حوله، فأولاد الناس"، وقد أخرجه في "التعبير" بلفظ: "وأما الولدان الذين حوله، فكل مولود يولد على الفطرة"، فقال بعض المسلمين: وأولاد المشركين؟، فقال: "وأولاد المشركين".

قال الحافظ: ويؤيّده ما رواه أبو يعلى من حديث أنس رضي الله عنه، مرفوعًا:"سألت ربي اللاهين من ذرّية البشر أن لا يعذّبهم، فأعطانيهم". إسناده حسن. وورد تفسير "اللاهين" بأنهم الأطفال، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعًا، أخرجه البزّار. وروى أحمد من طريق خنساء بنت معاوية بن صريم، عن عمها

(1)

، قال: قلت: يا رسول اللَّه، من في الجنة؟ قال:"النبيّ في الجنّة، والشهيد في الجنّة، والمولود في الجنّة". إسناده حسن.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الراجح في المسألة هو ما مال إليه البخاريّ رحمه الله تعالى، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1949 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(2)

سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: «اللَّهُ

(1)

- وقع في نسخة "الفتح""عمتها"، والذي في مسند أحمد، وسنن أبي داود "عمها"، فتنبّه.

(2)

- وفي نسخة: "أخبرنا"، وفي أخرى:"أنبأنا".

ص: 189

أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ".

رجال هذا الإسناد: خمسة، تقدّموا قريبًا، سوى:

1 -

(عطاء بن يزيد الليثيّ) الْجُندَعيّ المدني، نزيل الشام، ثقة [3] 20/ 21.

2 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ولم أقف في شيء من الطرق على تسمية هذا السائل، لكن عند أحمد، وأبي داود عن عائشة رضي الله عنها ما يحتمل أن تكون هي السائلة، فأخرجا من طريق عبد اللَّه بن أبي قيس، عنها، قالت: قدت: يا رسول اللَّه ذراريّ المؤمنين؟ فقال: "هم من آبائهم"، فقلت: يا رسول اللَّه بلا عمل؟ قال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين"، قلت: يا رسول اللَّه، فذراريّ المشركيين؟ قال:"من آبائهم"، قلت: بلا عمل؟ قال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين

" اللفظ لأبي داود. وروى عبدالرزّاق من طريق أبي معاذ، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، قال: سألتْ خديجةُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين؟ فقال: "هم مع آبائهم"، ثم سألته بعد ذلك؟ فقال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين"، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام، فنزل: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]، قال: "هم على الفطرة"، أو قال: "في الجنة". وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم، وهو ضعيف، ولو صحّ هذا لكان قاطعًا للنزاع، رافعًا لكثير من الإشكال انتهى

(1)

.

(عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ؟) أي مصيرهم، أهي الجنة، أم النار؟ (فَقَالَ:"اللَهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ") قال ابن قُتيبة: معنى "بما كانوا عاملين" أي لو أبقاهم، فلا تحكموا عليهم بشيء. وقال غيره: أي علم أنهم لا يعملون شيئًا، ولا يرجعون، فيعملون، أو أخبر بعلم شيء لو وُجِد كيف يكون، مثل قوله:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28] ولكن لم يُرد أنهم يُجَازَون بذلك في الآخرة، لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل انتهى.

(1)

- "فتح" ج 3 ص 618.

ص: 190

وقال القرطبيّ رحمه الله: معناه: اللَّه أعلم بما جبلهم عليه، وطبعهم عليه، فمن خلقه اللَّه تعالى على جِبِلّة المطيعين كان من أهل الجنة، ومن خلقه اللَّه على جِبلّة الكفّار، من القسوة، والمخالفة، كان من أهل النار، وهذا كما قال في غلام الخضر. "طُبع يوم طُبع كافرًا". وهذا الثواب والعقاب ليس مرتّبًا على تكليف، ولا مرتبطًا به، وإنما هو بحكم علمه ومشيئته.

وأما من قال: إنهم في النار مع آبائهم، فمعتمده قوله صلى الله عليه وسلم:"هم من آبائهم". ولا حجة فيه لوجهين: "أحدهما": أن المسألة علميّة، وهذا خبر واحد، وليس نصّا في الفرض.

"وثانيهما": سلمناه، لكنّا نقول: ذلك في أحكام الدنيا، وعنها سئل، وعليها خُرِّج الحديث، وذلك أنهم قالوا: يا رسول اللَّه، إنا نُبيِّتُ أهل الدار من المشركين، وفيهم الذراريّ؟، فقال:"هم من آبائهم". يعني في جواز القتل في حال التبييت، وفي غير ذلك من أحكام آبائهم الدنيوية. واللَّه تعالى أعلم انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "أن المسألة علمية الخ" فيه نظر لا يخفى؛ إذ يُفهَم منه أن المسألة الإعتقادية لا تؤخذ من آخبار الآحاد، وهو خلاف الصواب، وقد ذكرناه في غير هذا المحلّ، وإنما الجواب الصحيح مما ذكره هو الوجه الثاني، فتبصّر. واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[تنبيه]: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا طرف من حديثٍ ساقه البخاريّ رحمه الله تعالى بتمامه في "كتاب القدر" من طريق همام، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، وينصّرانه، كما تُنتجون البهيمة، هل تجدون فيها من جَدْعَاء

(2)

، حتى تكونوا أنتم تجَدَعونها؟ "، قالوا يا رسول اللَّه، أفرأيت من يموت صغيرًا؟ قال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين".

وأخرج أبو داود عقب حديث أبي هريرة رضي الله عنه بسنده، عن ابن وهب، سمعت مالكًا، وقيل له: إن أهل الأهواء يحتجّون علينا بهذا الحديث -يعني قوله: "فأبواه يهوّدانه، أو يُنصّرانه"- فقال مالك: احتَجَّ عليهم بآخره "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين".

قال في "الفتح": ووجه ذلك أن أهل القدر استدلّوا على أن اللَّه فَطَر العباد على الإسلام، وأنه لا يضلّ أحدًا، وإنما يُضل الكافرَ أبواه، فأشار مالك إلى الردّ عليهم

(1)

- "المفهم" ج 6 ص 678 - 679.

(2)

- أي مقطوعة الأذن.

ص: 191

بقوده: "اللَّه أعلم"، فهو دالّ على أنه يعلم بما يصيرون إليه بعد إيجادهم على الفطرة، فهو دليل على تقدّم العلم الذي ينكره غلاتهم، ومن ثَمّ قال الشافعيّ: أهل القدر، إن أثبتوا العلم خُصِموا انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا - 60/ 1949 و1950 و 1951 و 1952 وفي "الكبرى" 60/ 2076 و 2077 و 2078 و 2079. وأخرجه (خ) 1384 و 6597 و 6598 و 6599 (م) 2658 و 2659 و 2660 (د) 4711 و 4712 و 4714 و 4715 (ت) 2138 (أحمد) 1848 و 3026 و 7281 و 7396 و 7468 (مالك في الموطإ) 569. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: مشروعيّة السؤال عما لا يعلمه الشخص، سواء كان يتعلّق بأمور الدنيا، أو بأمور الآخرة. ومنها: إضافة العلم إلى اللَّه تعالى، فإنه أعلم بأحوال من خلقهم، وبمن هو أهل للجنّة، أو أهل للنار. ومنها: أن اللَّه تعالى يعلم بما يصير إليه عباده بعد أن يخلقهم. ومنها: أن فيه الردّ على القدرية الضالين الذين ينفون سبق علم اللَّه تعالى على وقوع الأشياء. ومنها: أن هذا الجواب قاله النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلم أنهم من أهل الجنة، وهذا هو القول المختار، جمعا بينه وبين حديث:"وأما الولدان حوله، فكلّ مولود يولد على الفطرة"، فقيل له: وأولاد المشركين؟ فقال: "وأولاد المشركين"، كما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في الصلاة على أولاد المشركين:

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: اختلف أهل العلم في الصلاة على أطفال المشركين، من السبي وغيره: فقالت طائفة: إذا كان الطفل بين أبويه، وهما مشركان، لم يصلَّ عليه، وإن لم يكن بين أبويه، فهو مسلم صلي عليه، هذا قول حمّاد بن أبي سليمان، والشافعي، وحكى أبو ثور ذلك عن الكوفيّ، وحكى عن مالك أنه قال: لا يُصَلى على صبيّ اشتُري، أو سُبي، إلا أن يكون أجاب إلى الإسلام بشيء يُعرف، ولا يُصَلِّ على جارية اشتراها، من غير أهل الكتاب

(2)

حتى تسلم، وإسلامها أن تشهد أن لا

(1)

- "فتح"ج 3 ص 618.

(2)

- لا معنى بتقييده بغير أهل الكتاب، بل الكتابية كذلك، فليُتأمّل.

ص: 192

إله إلا اللَّه، وأن محمدا عبده ورسوله، أو صلّت، فقد أجابت ما يعرفون أنها دخلت في الإسلام، حكى ذلك المزنيّ عنه.

وقال أبو ثور: إذا سُبي الصبيّ مع أبويه، أو أحدهما، أو وحده، ثم مات قبل أن يختار الإسلام لم يصلّ عليه، وكان الشعبيّ يقول فيمن جَلَب الرقيق، فيموت بعضهم إن صلى فصلّ عليه، وإن لم يُصلّ فلا تصلّ عليه، وقال الحسن: إذا قال لا إله إلا اللَّه صلي عليه انتهى كلام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول الأول هو الراجح عندي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في اختلاف أهل العلم في أولاد المشركين، هل هم من أهل الجنّة، أم لا؟:

اعلم: أن الخلاف مخصوص بأطفال المشركين، فأما أولاد المؤمنين، فلا خلاف بين العلماء، كما حكاه القاضي أبو يعلى الفرّاء الحنبلي، عن الإمام أحمد، أنه قال: لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة، وهذا هو المشهور بين الناس، وأما ما نقل عن بعضهم أنهم توقّفوا بأن الولدان كلهم تحت المشيئة، فغريب جدًّا، كما نبّه عليه الحافظ ابن كثير في تفسيره، فتنبّه

(2)

.

إذا عرفت هذا فاعلم أنه اختلف العلماء قديمًا وحديثًا في هذه المسألة على أقوال:

أحدها: أنهم في مشيئة اللَّه تعالى، وهو منقول عن الحمّادين، وابن المبارك، وإسحاق، ونقله البيهقيّ في "الاعتقاد" عن الشافعيّ في حقّ أولاد الكفّار خاصّة، قال ابن عبد البرّ: وهو مقتضى صنيع مالك، وليس عنده في هذه المسألة شيء منصوص، إلا أن أصحابه صرّحوا بأن أطفال المسلمين في الجنّة، وأطفال الكفّار خاصّة في المشيئة.

والحجة فيه حديث: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين".

ثانيهما: أنهم تبع لآبائهم، فاولاد المسلمين في الجنّة، وأولاد الكفّار في النار، وحكاه ابن حزم عن الأزارقة من الخوارج، واحتجّوا بقوله تعالى:{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وتعقّبه بأن المراد قوم نوح خاصّة، وإنما دعا بذلك لما أوحى اللَّه إليه:{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، وأما حديث:"هم من آبائهم"، أو "منهم"، فذاك في حكم الحربيّ.

وروى أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين؟

(1)

- "الأوسط" ج 5 ص 409 - 410.

(2)

- راجع تفسير "سورة الإسراء" للحافظ ابن كثير ج 3 ص 35.

ص: 193

قال: "في الجنّة"، وعن أولاد المشركين؟ قال:"في النار"، فقلت: يا رسول اللَّه، لم يُدركوا الأعمال، قال: "ربكِ أعلم بما كانوا عاملين، لو شئت أسمعتك تضاغيهم

(1)

في النار". وهو حديث ضعيف جدًّا، لأن في إسناده أبا عَقيل، مولى بُهَيّة، وهو متروك.

ثالثها: أنهم يكونون في برزخ بين الجنّة والنار، لأنهم لم يعملوا حسنات يدخلون بها الجنّة، ولا سيآت يدخلون بها النار. قال ابن القيّم رحمه الله: وهذا ليس بشيء، فإنه لا دار للقرار إلا الجنّة والنار، وأما الأعراف، فإن مآل أصحابها إلى الجنّة، كما قاله الصحابة.

رابعها: خَدَم أهل الجنّة، وفيه حديث عن أنس رضي الله عنه ضعيف، أخرجه أبو داود الطيالسيّ، وأبو يعلى، وللطبرانيّ، والبزّار من حديث سمرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"أولاد المشركين خدم أهل الجنّة"، وإسناده ضعيف.

خامسها: أنهم يصيرون ترابًا، روي عن ثمامة بن أشرس.

سادسها: أنهم في النار، حكاه عياض عن أحمد، وغلّطه ابن تيميّة بأنه قول لبعض أصحابه، ولا يُحفظ عن الإمام أصلاً.

سابعها: أنهم يُمتحنون في الآخرة بأن تُرفع لهم نار، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلامًا، ومن أبَى عُذّب، أخرجه البزّار من حديث أنس، وأبي سعيد، وأخرجه الطبرانيّ من حديث معاذ بن جبل. وقد صحّت مسالة الامتحان في حقّ المجنون، ومن مات في الفترة من طرق صحيحة، وحكى البيهقيّ في "كتاب الاعتقاد" أنه المذهب الصحيح، ومال إليه ابن القيّم، قال: وهذا أعدل الأقوال، وبه يجتمع شمل الأدلة، وتتّفق الأحاديث في هذا الباب.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لو صحت أحاديث امتحان الأطفال لكان هذا المذهب أعدل الأقوال، وأرجحها كما قال ابن القيّم، لكنها غير ثابتة، فقد أخرجها أبو يعلى الموصليّ من حديث أنس، وفي سنده ليث بن أبي سليم، وهو متروك، وأخرجها الذهليّ، والبزّار من حديث أبي سعيد الخدريّ، وفي سندها عطية العوفي، ضعيف جدًّا، وروي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وفي سنده عمرو بن واقد الدمشقيّ، متروك.

والحاصل أن أحاديث امتحان الأطفال غير صحيحة، وإنما يصحّ حديث امتحان الأصمّ، والأحمق، والهَرِم، وأهل الفترة، فقد أخرجه الإمام أحمد من حديث الأسود ابن سَرِيع رضي الله عنه، فقال في "مسنده":

حدثنا علي بن عبد اللَّه، حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سَرِيع، أن نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة يحتجّون يوم

(1)

- أي صياحهم.

ص: 194

القيامة: رجل أصم، لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هَرِم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم، فيقول: رب لقد جاء الإسلام، وما أسمع شيئا، وأما الأحمق، فيقول: رب لقد جاء الإسلام، والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربي لقد جاء الإسلام، وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة، فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم، ليُطيعُنَّه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده، لو دخلوها، لكانت عليهم بردا وسلاما".

قال حدثنا علي، حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، مثل هذا، غير أنه قال في آخره:"فمن دخلها، كانت عليه بردا وسلاما، ومن لم يدخلها يُسحب إليها".

وهذا إسناد صحيح، فظهر بهذا أن ترجيح القول بالامتحان للأطفال بحديث الامتحان ليس له وجه، لأن طرقه واهية، فلا يمكن تصحيحها بتعدد طرقها، ولا يمكن أيضًا كون الحديث الصحيح المذكور آنفًا شاهدًا لها، للمخالفة الواضحة، فإنها تدلّ على النكارة، والوهاء، فتبصّر.

[تنبيه]: تُعُقِّب القول بالامتحان المذكور بأن الآخرة ليست دار تكليف، فلا عمل فيها، ولا ابتلاء.

وأجيب عنه: بأن ذلك بعد أن يقع الاستقرار في الجنّة، أو النار، وأما في عرصات القيامة، فلا مانع سن ذلك، وقد قال اللَّه:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] وفي "الصحيحين": "إن الناس يؤمرون بالسجود، فيصير ظهر المنافق طبقًا، فلا يستطيع أن يسجد".

ثامنها: أنهم في الجنّة، وقد تقدّم القول فيه في "باب فضل من مات له ولد". قال النوويّ: وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون، لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وإذا كان لا يُعذّبُ العاقلُ لكونه لم تبلغه الدعوة، فلأن لا يُعذّب غير العاقل من باب الأولى. ولحديث سمرة المذكور في هذا الباب

(1)

، ولحديث عمة خنساء

(2)

المتقدّم، ولحديث عائشة الآتي قريبًا

(3)

.

(1)

- هو الحديث الطويل في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه البخاريّ في "الجائز" بطوله، وفيه: "والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام، والصبيان حوله، فأولاد الناس

".

(2)

- تقدّم حديثها في الشرح قريبًا، وفيه:"والمولود في الجنة"، وإسناده حسن، كما مرّ.

(3)

- تقدّم حديثها أيضًا، وفيه: "فنزلت: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]، لكن الحديث ضعيف، كما مرّ.

ص: 195

تاسعها: الوقف. عاشرها: الامساك. قال الحافظ: وفي الفرق بينهما دقّة انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح الأقوال عندي هو قول من قال: إنهم في الجنّة، كما هو ظاهر مذهب البخاريّ، وذكر النوويّ أنه المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون، للآية المذكورة. فإن قال قائل: إنها في عذاب الدنيا. قلنا: اللفظ عامّ، فلا ينفي دخول عذاب الآخرة.

ومن الحجج لهذا القول أيضًا قوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الملك: 8 - 9]، فهذا دليل على أن كلّ فوج يُلقى في النار لا بدّ وأن يكونوا قد جاءهم النذير، وكذّبوه، وهذا ممتنع في حقّ الأطفال. ولقوله تعالى لإبليس:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]؛ لأنه إذا امتلأت جهنم منه، ومن أتباعه لم يبق فيها موضع لغيرهم.

وبالجملة فاللَّه تعالى لا يعذّب أحدًا إلا بذنبه، فالنار دار عدله لا يدخلها أحد إلا بعمل، وأما الجنة، فدار فضله، يدخلها بغير عمل، ودهذا ينشىء اللَّه تعالى للفضل الذي يبقى فيها أقوامّا يسكنهم فضلها.

ومن الحجج أيضًا حديثُ سمرة رضي الله عنه المتقدّم في قصة رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم عليه السلام، وحوله الولدان، وحديثُ الفطرة، لأنه إذا ولد على الإسلام، ثم مات قبل أن يتغير عن فطرته، فإنه من أهل الجنة، وليس عليه من أوزار أبويه شيء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة السادسة: اختلف السلف -رحمهم اللَّه تعالى- في المراد بالفطرة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي تقدم ذكره في الشرح على أقوال كثيرة:

الأول: ما حكاه أبو عبيد أنه سأل محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة عن ذلك؟ فقال: كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، وقبل الأمر بالجهاد. قال أبو عبيد: كأنه عَنَى أنه لو كان يولد على الإسلام، فمات قبل أن يهوّده أبواه مثلاً لم يرثاه، والواقع في الحكم أنهما يرثانه، فدلّ على تغير الحكم. وقد تعقّبه ابن عبد البرّ وغيره. وسبب الاشتباه أنه حمله على أحكام الدنيا، فلذلك ادعى فيه النسخ، والحقّ أنه إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر، ولم يُرد به إثبات أحكام الدنيا.

الثاني: أن المراد بالفطرة الإسلام، وهذا أشهر الأقوال، قال ابن عبد البرّ: وهو المعروف عند عامّة السلف، وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى:

(1)

- منقولًا من "الفتح" ج 3 ص 617 - 618 بتصرّف وزيادة.

ص: 196

{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] الإسلام، واحتجّوا بقول أبي هريرة رضي الله عنه في آخر الحديث: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ، وبحديث عياض بن حمار رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه: "إني خلقت عبادي حُنَفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم

" الحديث، وقد رواه غيره، فزاد فيه: "حنفاء مسلمين

"، ورجحه بعض المتأخرين بقوله تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ} لأنها إضافة مدح، وقد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بلزومها، فعُلم أنه الإسلام.

وقال ابن جرير: قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} أي سدّد لطاعته {حَنِيفًا} أي مستقيمًا {فِطْرَتَ اللَّهِ} أي صبغةَ اللَّه، وهو منصوب على المصدر الذي دلّ عليه الفعل الأول، أو منصوب بفعل مقدّر، أي الزم.

وقال الزهريّ رحمه الله في الصلاة على المولود: من أجل أنه وُلد على فطرة الإسلام. وقد جزم البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في تفسير "سورة الروم" بأن الفطرة الإسلام. وقد قال أحمد: من مات أبواه، وهما كافران حكم بإسلامه، واستدلّ بحديث "كلّ مولود يولد على الفطرة

"، فدلّ على أنه فسّر الفطرة بالإسلام. وتعقّبه بعضهم بأنه كان يلزم أن لا يصحّ استرقاقه، ولا يحكم بإسلامه إذا أسلم أحد أبويه.

والحقّ أن الحديث سيق لبيان ما هو في نفس الأمر، لا لبيان الأحكام في الدنيا. وحكى محمد بن نصر أن آخر قولي أحمد أن المراد بالفطرة الإسلام. قال ابن القيّم: وقد جاء عن أحمد أجوبة كثيرة، يحتجّ فيها بهذا الحديث على أن الطفل إنما يُحكم بكفره بأبويه، فإذا لم يكن بين أبوين كافرين فهو مسلم.

الثالث: ما رواه أبو داود عن حماد بن سلمة أنه قال: المراد أن ذلك حيث أخذ اللَّه عليهم العهد، حيث قال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [لأعراف: 172]، ونقله ابن عبد البرّ عن الأوزاعيّ، وعن سحنون، ونقله أبو يعلى الفرّاء عن إحدى الروايتين عن أحمد، وهو ما حكاه الميمونيّ عنه، وذكره ابن بطّة.

الرابع

(1)

: أن المراد به تمكن الناس من الهدى في أصل الجِبِلَّة، والتهيّؤ لقبول الدين، فلو تُرك المرء عليها لاستمرّ على لزومها، ولم يُفارقها إلى غيرها، لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس، وإنما يُعدل عنه لآفة من الآفات البشريّة كالتقليد انتهى.

وإلى هذا مال القرطبيّ في "المفهم"، فقال: المعنى أن اللَّه خلق قلوب بني آدم

(1)

- ظاهر ما في "الفتح" جعل هذا القول داخلا في الذي قبله، والظاهر أنهما مختلفان، فإن حماد بن سلمة حمله على العهد الذي في يوم الميثاق، وهذا حمل الفطرة على كون المولود مؤهلًا لقبول الإسلام والهدى، ومتهيا لذلك، فلهذا جعلتهما قولين، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 197

مؤهلة لقبول الحقّ، كما خلق أعينهم، وأسماعهم قابلة للمرئيّات، والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول، وعلى تلك الهيئة أدركت الحقّ، ودينُ الإسلام هو الدينُ الحقّ، وقد دلّ على هذا المعنى بقية الحديث، حيث قال:"كما تُنتَجُ البهيمة" يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئًا من العيب، لكنهم تصرّفوا فيه بقطع أذنه مثلاً، فخرج عن الأصل، وهو تشبيه واقع، ووجهه واضح، واللَّه أعلم.

وقال ابن القيّم: ليس المراد بقوله: "يولد على الفطرة" أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين، لأن اللَّه يقول:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78]، ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبّة، وليس المراد مجرّد قبول الفطرة لذلك، لأنه لا يتغيّر بتهويد الأبوين مثلًا، بحيث يُخرجان الفطرة عن القبول، وإنما المراد أن كلّ مولود يولد على إقراره بالربوبية، فلو خلّي، وعدم المعارض لم يَعدِل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبّة ما يلائم بدنه، من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف، ومن ثمّ شبّهت الفطرة باللبن، بل كانت إياه في تأويل الرؤيا، واللَّه أعلم.

الخامس: قول ابن المبارك: إن المراد أنه يولد على ما يصير إليه، من شقاوة أو سعادة، فمن علم اللَّه أنه يصير مسلمًا وُلد على الإسلام، ومن علم اللَّه أنه يصير كافرًا ولد على الكفر، فكأنه أَوَّلَ الفطرةَ بالعِلْم. وتُعُقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله:"فأبواه يهوّدانه الخ" معنى، لأنهما فعلا به ما هو الفطرة التي وُلد عليها، فينافي التمثيل بحال البهيمة.

السادس: أن المراد أن اللَّه خلق فيهم المعرفة والإنكار، فلما أخذ الميثاق من الذرّيّة قالوا جميعًا:{بَلَى} [الأعراف: 172] أما أهل السعادة، فقالوها طوعًا، وأما أهل الشقاوة فقالوها كرهًا. وقال محمد بن نصر: سمعت إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى، ويرجّحه. وتعقّب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح، فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السديّ، ولم يسنده، وكأنه أخذه من الإسرائيليات، حكاه ابن القيّم عن شيخه.

السابع: أن المراد بالفطرة الخلقة، أي يولد سالمًا لا يَعرف كفرًا ولا إيمانًا، ثم يعتقد إذا بلغ التكليف، ورجحه ابن عبد البرّ، وقال: إنه يطابق التمثيل بالبهيمة، ولا يخالف حديث عياض، لأن المراد بقوله {حَنِيفَا} [الروم: 30] أي على استقامة. وتعقّب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على ملل الكفر دون ملّة الإسلام، ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى.

ص: 198

الثامن: قول بعضهم: إن اللام في "الفطرة" للعهد، أي فطرة أبويه. وهو متعقّب بما ذُكر في الذي قبله.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح الأقوال عندي هو القول الرابع، كما تقدّم بيانه في شرح حديث خصال الفطرة في أوائل هذا الشرح، وهو الذي صححه النوويّ رحمه الله في "شرح مسلم"، حيث قال: والأصحّ أن معناه أن كلّ مولود يولد متهيأ للإسلام، فمن كان أبواه، أو أحدهما مسلمًا استمرّ على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا، وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما في أحكام الدنيا، وهذا معنى "يهوّدانه، وينصّرانه، ويمجّسانه"، أي يُحكم له بحكمهما في الدنيا، فإن بلغ استمرّ عليه حكم الكفر، ودينهما، فإن كانت سبقت له سعادة أسلم، وإلا مات على كفره، وإن مات قبل بلوغه، فالأصحّ أنه من أهل الجنّة.

والجواب عن حديث "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين": أنه ليس فيه تصريح بأنهم في النار، وحقيقة لفظة:"اللَّه أعلم بما كانوا يعملون" لو بلغوا، ولم يبلغوا، إذ التكليف لا يكون إلا بالبلوغ.

وأما غلام الخضر فيجب تأويله قطعًا، لأن أبويه كانا مؤمنين، فيكون مسلمًا، فيتأول على أن معناه: إن اللَّه أعلم أنه لو بلغ لكان كافرًا، لا أنه كافر في الحال، ولا يجري عليه في الحال أحكام الكفار. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال العلامة ابن القيّم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: سبب اختلاف العلماء في معنى "الفطرة" في هذا الحديث أن القدريّة كانوا يحتجّون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء اللَّه، بل مما ابتدأ الناس إحداثه، فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل "الفطرة على غير معنى الإسلام، ولا حاجة لذلك، لأن الآثار المنقولة عن السلف تدلّ على أنهم لم يفهموا من لفظ "الفطرة" إلا الإسلام، ولا يلزم من حملها على ذلك موافقة مذهب القدرية، لأن قوله: "فأبواه يهوّدانه الخ" محمول على أن ذلك يقع بتقدير اللَّه تعالى، ومن ثمّ احتجّ عليهم مالك بقوله في آخر الحديث: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين" انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1950 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ:

(1)

- "شرح مسلم" ج 16 ص 424 ببعض اختصار.

(2)

- ذكره في "الفتح" ج 3 ص 619 - 621.

ص: 199

حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ قَيْسٍ -هُوَ ابْنُ سَعْدٍ- عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ:«اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثان لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو بهذا السند من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، كما أشار إليه الحافظ أبو الحجاج المزّيّ في "تحفة الأشراف" 10 ص 122 - 123 والمتن متفق عليه.

ورجال هذا إسناده: ستة:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه بن المبارك) الْمُخَرِّيّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقة حافظ [11] 43/ 50.

2 -

(الأسود بن عامر) الشاميّ، نزيل بغداد، أبو عبدالرحمن، يُلقّب شاذان، ثقة [9] 7/ 407.

3 -

(حماد) بن سلمة بن دينار البصريّ، ثقة عابد [8] 181/ 288.

4 -

(قيس بن سعد) المكيّ، ثقة [6] 115/ 1066.

5 -

(طاوس) بن كيسان الحِمْيَريّ مولاهم، أبو عبدالرحمن اليمانيّ، ثقة فقيه فاضل [3] 27/ 31.

والصحابيّ، تقدّم في الذي قبله، وكذا شرح الحديث، والكلام على مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1951 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: «خَلَقَهُمُ اللَّهُ حِينَ خَلَقَهُمْ، وَهُوَ يَعْلَمُ

(1)

بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ».

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن المثنى) أبو موسى الْعَنَزيّ، ثقة حافظ [10] 64/ 80.

2 -

(عبدالرحمن) بن مهديّ البصريّ الإمام الحافظ الحجة [9] 24/ 49.

3 -

(شعبة) بن الحجّاج البصريّ الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 26.

4 -

(أبو بشر) بن أبي وحشيّة جعفر بن إياس الواسطيّ، ثقة ثبت [5] 13/ 520.

5 -

(سعيد بن جُبير) الكوفيّ الثبت الفقيه العابد [3] 27/ 436.

6 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر الحبر رضي الله عنهما 27/ 31.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه المصنّف هنا - 60/ 1951

(1)

- وفي نسخة: "أعلم".

ص: 200

و 1952 - وفي "الكبرى" 60/ 2078 و 2079. وأخرجه (خ) 1383 و 6597 (م) 2660 (د) 4711 (أحمد) 3026 و 3155 و 3357. وشرحه يعلم من شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: لم يسمع ابن عباس رضي الله عنهما هذا الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم، بيّن ذلك أحمد من طريق عمّار بن أبي عمّار، عن ابن عباس، قال: كنت أقول في أولاد المشركين: هم منهم، حتى حدّثني رجل، عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلقيته، فحدثني عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ربهم أعلم بهم، هو خلقهم، وهو أعلم بما كانوا عاملين"، فأمسكت عن قولي انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح؛ لأنه مرسل صحابيّ، ومراسيلهم موصولة حكمًا؛ ولا سيما وقد بين ابن عباس -كما في رواية أحمد- أنه حدثه رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال السيوطي رحمه الله في "ألفية الحديث"، مبينًا حكم مراسيل الصحابة رضي الله عنهم:

وَمُرْسَلُ الصَّاحِبِ وَصْلٌ فِي الأَصَحُّ ..................................

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1952 -

أَخْبَرَنِي

(2)

مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ:«اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» .

هذا طريق ثان لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، ورجاله تقدّموا في الذي قبله، سوى:

1 -

(مجاهد بن موسى) الْخُوَارَزْميّ الْخُتَّليّ، أبو عليّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 85/

102.

2 -

(هُشيم) بن بَشير الواسطيّ، ثقة ثبت، كثير التدليس، والإرسال الخفيّ [8] 88/ 109. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- "فتح" ج 3 ص 618.

(2)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 201

‌61 - الصَّلَاةُ عَلَى الشُّهَدَاءِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر من صنيع المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أنه يرى جواز الصلاة على الشهداء، وجواز تركها، حيث ترجم بـ "الصلاة على الشهداء"، ثم أورد حديثين، كلّ منهما يدلّ على جواز الصلاة عليهم، ثم ترجم بعد هذا بـ "ترك الصلاة عليهم"، وأورد حديثًا يدلّ على ترك الصلاة عليهم، فدلّ على أنه يرى أنه إن صُلي عليهم، فحسن، وإن ترك، فحسن، وهو المنقول عن أحمد، وإسحاق بن راهويه، وهو المذهب الراجح، كما سيأتي بيان ذلك في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى.

و"الشُهداء": جمع شَهِيد، كما قال في "الخلاصة":

وَلِكَرِيمٍ وَبَخِيلٍ فُعَلَا

كَذَا لِمَا ضَاهَاهُمَا قَدْ جُعِلَا

وهو فَعيل، بمعنى فاعل، أو بمعنى مفعول، على اختلاف التأويل التالي.

قال ابن الأنباريّ: سمي الشهيد شهيدًا، لأن اللَّه، وملائكته شُهُود له بالجنّة. وقيل: سمُّوا شهداء، لأنهم ممن يُستَشهَد يوم القيامة مع النبي صلى الله عليه وسلم على الأمم الخالية.

وقال أبو منصور: والشهادة تكون للأفضل، فالأفضل من الأمة، فأفضلهم من قُتل في سبيل اللَّه، مُيّزوا عن الخلق بالفضل، وبيّن اللَّه أنهم {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169 - 170]، ثم يتلوهم في الفضل من عدّه النبي صلى الله عليه وسلم شهيدًا، فإنه قال:"المبطون شهيد، والمطعون شهيد". وقيل: سمي شهيدًا لأنه حيّ لم يمت، كأنه شاهد أي حاضر. وقيل: لأن ملائكة الرحمة تشهده. وقيل: لقيامه بشهادة الحق في أمر اللَّه حتى قُتل. وقيل: لأنه يشهد ما أعدّ اللَّه له من الكرامة بالقتل. وقيل: غير ذلك. أفاده ابن منظور -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1953 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ، أَنَّ ابْنَ أَبِي عَمَّارٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَآمَنَ بِهِ، وَاتَّبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ، فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ، غَنِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبْيًا

(2)

، فَقَسَمَ، وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: قِسْمٌ،

(1)

- "لسان العرب" باختصار.

(2)

- وفي نسخة: "شيئا".

ص: 202

قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَهُ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: قَسَمْتُهُ لَكَ، قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ، عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ، فَأَمُوتَ، فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ:«إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ» ، فَلَبِثُوا قَلِيلاً، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحْمَلُ، قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ، حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَهُوَ هُوَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ» ، ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَدَّمَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ، «اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ، خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ» .

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سويد بن نصر) المروزيّ، ثقة [10] 45/ 55.

2 -

(عبد اللَّه) بن المبارك المروزيّ الإمام الحجة الثبت [8] 32/ 36.

3 -

(ابن جُريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل مدلس [6] 28/ 32.

4 -

(عكرمة بن خالد) بن العاص بن هشام المخزوميّ المكيّ، ثقة [3] 37/ 940.

5 -

(ابن أبي عمّار) عبدالرحمن بن عبد اللَّه بن أبي عمّار المكيّ، الملقّب بالقَسّ، ثقة عابد [3] 1/ 1433.

6 -

(شدّاد بن الهاد) الليثيّ، صحابيّ شهد الخندق، وما بعدها [172/ 1141]. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، والصحابي، فإنهما من أفراده. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ) قيل: اسمه أُسامة، ولقبه شدّاد، واسم الهاد عمرو، وقال خليفة ابن خياط: اسم الهاد أسامة بن عمرو بن عبد اللَّه بن جابر بن بشر بن عتوارة بن عامر بن مالك ابن ليث بن بكر

(1)

. وإنما قيل له: الهاد لأنه كان يوقد النار بالليل للأضياف

(2)

.

(1)

- "تت" ج2 ص 156.

(2)

- "تحفة الأشراف" ج 4 ص 148.

ص: 203

(أَن رَجُلاً مِنَ الْأَعْرَابِ) لم أر من سماه (جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَآمَنَ بِهِ، وَاتَّبَعَهُ) من عطف اللازم على الملزوَم، لأن الإيمان يستلزم الاتباع (ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ) أي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أترك بلدي، وأكون معك في المدينة، وإنما طلب ذلك منه رغبةً فيما أعدّ للمهاجرين من الثواب، وليتمكّن من الخروج للجهاد ونحوه، بسهولة (فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بَعْضَ أَصْحَابِهِ) عطف على مقدّر، أي أذن له صلى الله عليه وسلم في أن يهاجر، وأن يكون معه، ثم أوصى، أي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة، ليقوم بأمره، حيث إنه غريب، يحتاج إلى من يساعده في أموره.

فإن قلت: ظاهر هذا الحديث يعارض ما أخرجه الشيخان، وأبو داود، والمصنّف

(1)

من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أن أعرابيا، سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الهجرة؟، فقال:"ويحك، إن شأن الهجرة شديد، فهل لك من إبل؟ "، قال: نعم، قال:"فهل تؤدي صدقتها"، قال: نعم، قال: "فاعمل من وراء البحار

(2)

، فإن اللَّه عز وجل، لن يَتِرَك

(3)

من عملك شيئا".

فإنه يدلّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يأذن لهذا الأعرابيّ في الهجرة، بخلاف الأعرابي المذكور في حديث الباب، فقد أذن له فيها، فكيف توفّق بينهما؟.

قلت: يجمع بينهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل كلّ أحد بما يناسب حاله، فالأعرابيّ في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه كان ممن لا يتحمّل مشقة الغربة عى أهله، ووطنه، بخلاف الأعرابيّ الذي في حديث الباب، فإنه كان ممن يتحمّل المشاقّ في سبيل اللَّه، كما ظهر مصداق ذلك في إعراضه عن الغنائم، واشتياقه إلى النعيم المقيم الدائم، فمنع الأول من الهجرة، وأذن للثاني فيها، نظرًا لمصلحة كلّ منهما، واللَّه تعالى أعلم.

(فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةْ) لم أعرف هذه الغزوة، و"كان" هنا تامّة، ولذا اكتفت بمرفوعها، كما قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

.....................

وَذُو تَمَامٍ مَا بِرَفْعٍ يَكْتَفِي

وقال الحريري رحمه الله في "ملحته":

وَإِنْ تَقُلْ يَا قَوْمِ قَدْ كَانَ الْمَطَرْ

فَلَسْتَ تَحْتَاجُ لَهَا إِلَى خَبَرْ

(غَنِمَ) بكسر النون، يقال: غَنِمْتُ الشيءَ أَغْنَمُهُ، من باب تَعِبَ، غُنْمًا بالضمّ: أَصَبْتُهُ

(1)

- سيأتي للمصنف في "كتاب الجهاد" برقم 11/ 4164.

(2)

- أي من وراء القرى والمدن.

(3)

- أي لن يَنقُصك، كما في قوله تعالى:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [سورة محمد صلى الله عليه وسلم: 35].

ص: 204

غَنيمَة. أفاده في "المصباح". وفي "ق": والغَنِيمُ، والغَنِيمةُ، والغُنْمُ بالضمّ: الفَيءُ، غَنِمَ بالكسر، غُنْمًا بالضمّ، وبالفتح، وبالتحريك، وغَنِيمَةً، وغُنْمَانًا، بالضمّ، والفَوْزُ بالشيء بلا مشقّةٍ، أو هذا الغُنْمُ، والفَيْىءُ: الغنيمة انتهى (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبْيًا) أي أُسارَى، يقال: سَبَى العدوَّ سَبْيًا، وسِبَاءً: أسَرَه، كاستباه، فهو سَبِيٌّ، وهي سبيٌّ أيضًا. قاله في "ق". وفي "المصباح": سبيت العدوَّ سَبْيًا، من باب رَمَى، والاسم السِّبَاء، وزانُ كتاب، والقصر لغةٌ، وأسبيته مثلهُ، فالغلام سبيّ، والجارية سبيّةٌ، ومسبيّةٌ، وجمعها سبايا، مثل عطيّة وعَطَايا، وقومٌ سَبْيٌ، وَصْفٌ بالمصدر انتهى

(1)

. ووقع في نسخة "شيئًا" بدل "سبيًا".

(فَقَسَمَ) صلى الله عليه وسلم ذلك السبي، يقال: قسمته قَسْمًا، من باب ضرب: فَرَزْتُهُ أجزاءً، والاسم القِسْم بالكسر، ثم أطلق القِسْم على الحصّة والنصيب، فيقال: هذا قِسْمي، والجمع أقسام، مثلُ حِمْلٍ، وأَحْمَال. أفاده في "المصباح"(وَقَسَمَ لَهُ) أي لذلك الأعرابي (فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ) أي أعطى النبي صلى الله عليه وسلم حظَّ ذلك الأعرابي من الغنية لأصحابه، والضمير في "أصحابه" يحتمل أن يعود لذلك الأعرابيّ، ومعناه: رُفقته الذين يلازمونه في حال سفره، ويحتمل أن يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم (وَكَانَ) ذلك الرجل (يَرْعَى ظَهْرَهُمْ) أي يَحرُس ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، لئلا يأتيهم العدوّ من جهته بغتةً (فَلَمَّا جَاءَ) من محلّ حراسته (دَفَعُوهُ إِلَيْهِ) أي أعطوه حظه الذي أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليحفظوه له (فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: قِسْمٌ) بكسر القاف: أي نصيب، كما تقدم ضبطه قريبًا (قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَهُ) أي ذلك القِسم (فَجَاءَ بهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: قَسَمْتُهُ لَكَ، قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ) أي لم أتبعك لَأجل أن أصيب عَرَضًا دنيويا (وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ، عَلَى أَنْ أُرْمَى) بالبناء للمفعول (إِلَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ) متعلّق بـ "أشار"، أو بـ "أُرْمَى"(فَأَمُوتَ، فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ) أي إنما اتبعتك لأجل أن أدخل الجنَّة بالاستشهاد في سبيل اللَّه تعالى (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقكَ) بتخفيف الدال المهملة في الموضعين، من باب نصر، يقال: صدَقَ صِدقًا: خلاف كَذَبَ، فهو صادق، وصَدُوقٌ مبالغةٌ، وصدقته في القول، يتعدّى، ولا يتعدّى. قاله في "المصباح".

والمعنى: إن كنتَ صادقًا ومخلصًا فيما تقول، وتُعاهد اللَّه تعالى عليه، يجازيك على صدقك بإعطاء ما رغبت فيه (فَلَبِثُوا قَلِيلاً، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ) أي قاموا مُسرِعين، يقال: نَهَضَ إلى العدوّ: أسرع إليه. قاله الفيّوميّ، فـ"في" بمعنى "إلى"(فَأُتِيَ بهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحْمَلُ) بالبناء للمفعول، والجملة في محلّ نصب على الحال، أي حال كونه محمولا (قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ، حَيْثُ أَشَارَ) أي في المحلّ الذي أشار إليه حينما قال

(1)

-: "ق" و "المصباح" في مادة سبى.

ص: 205

للنبي صلى الله عليه وسلم: "ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ههنا"(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَهُوَ هُوَ؟) أي أهذا المحمول هو ذلك الرجل الذي قال مقالته التي سبقت؟ (قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: صَدَقَ اللَّهَ) بتخفيف الدال في الموضعين، أي أخلص للَّه في قوله، وعهده (فَصَدَقَهُ) أي جازاه بتحقيق رغبته (ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) والظاهر أن تكفينه في جبته صلى الله عليه وسلم لبركتها، وإلا فالسنة أن يُكفّن الشهيد في ثيابه، فقد أمر صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد أن يُنزع عنهم الحديد، والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم، وثيابهم، رواه أبو داود، وابن ماجه، وفي سنده ضعف، لكن يشهد له ما أخرجه أبو داود بإسناد على شرط مسلم، عن جابر رضي اللَّه قال: "رُمي رجل بسهم في صدره، فمات، فأُدرج في ثيابه، كما هو، ونحن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) (ثُمَّ قَدَّمَهُ) أي وضعه بين يديه (فَصَلَّى عَلَيْهِ) هذا محلّ الترجمة، حيث يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم صلّى على شهيد (فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ) أي تبيّن لمن صلّى معه من الدعاء لذلك الميت (اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ، خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ) أي على المذكور من هجرته في سبيل اللَّه، ثم قتله شهيدًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث شدّاد بن الهاد رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أخرجه هنا 61/ 1953 - وفي "الكبرى" 61/ 2080. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "الكبرى" بعد إخراجه لهذا الحديث: ما نصّه:

قال أبو عبدالرحمن: ما نعلم أحدًا تابع ابن المبارك على هذا، والصواب ابن أبي عَمَّار، عن ابن شدّاد بن الهاد، وابن المبارك أحد الأئمة، ولعلّ الخطأ من غيره. واللَّه أعلم انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف رحمه الله يريد إعلال الحديث بالإرسال، فإن ابن شدّاد تابعيّ، لكن الذي يظهر أن انفراد ابن المبارك بوصله كاف، لأنه إمام ثبت، فزيادته مقبولة، فلا يؤثّر مخالفة غيره له بالإرسال، فلعل المصنف رحمه الله أعرض عن ذكر هذا الإعلال لما اختصر "المجتبى"، لعدم تأثيره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثانية: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو مشروعيّة الصلاة على الشهداء.

ص: 206

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل كلّ أحد على حسب حاله، فقد أذن لهذا الأعرابيّ في الهجرة، لكونه ممن يقوم بحقّها، ومنع منها الأعرابي الذي قد منا ذكره، لكونه ممن لا يقوم بحقها. ومنها: شدة عنايته صلى الله عليه وسلم بأصحابه، ولا سيما الغرباء، فقد أمر بعض أصحابه أن يقوم بشان هذا الأعرابيّ، لئلا يناله مشقة الغربة، فيحمله على أن يبغض الإسلام، كما وقع لبعضهم، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، أن أعرابيا، بايع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأصاب الأعرابيَّ وَعْكٌ

(1)

بالمدينة، فجاء الأعرابي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، أقلني بيعتي، فأبى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه، فقال: أقلني بيعتي، فابى، ثم جاءه، فقال: أقلني بيعتي، فأبى، فخرج الأعرابي، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنما المدينة كالكِير، تَنفِي خَبَثَها، ويَنصَعُ

(2)

طيبها".

ومنها: كون الغنيمة حلالاً. ومنها: أن الغنيمة تقسم بين من حضر الوقعة. ومنها: أن الإمام يقسم الغنيمة، لمان لم يجتمع الغزاة، فمن حضر أعطاه حظّه، ومن غاب حفظه له. ومنها: مشروعية حِرَاسة ظهور الجيش، لئلا يفاجئهم العدوّ من جهتها. ومنها: استحباب الإعراض عن الغنيمة، وإن كانت حلالاً، لئلا ينقص من أجر الغزو شيء، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" عن عبد اللَّه بن عمرو، رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"ما من غازية تغزو، في سبيل اللَّه، فَيُصيبون الغنيمة، إلا تعجلوا ثلثي أجرهم، من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة، تَمَّ لهم أجرهم". ومنها: فضل صدق العبد ربّه في معاملته، ليجازيه على صدقه، فإن هذا الرجل لما صَدَق في كونه غزا ليفوز بالجنة، لا لعَرَض الدنيا، حقق اللَّه تعالى رغبته في ذلك، فاستُشهِد، ودخل الجنّة. ومنها: عدم مشروعية غسل الشهيد، حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يغسل هذا الشهيد. ومنها: مشروعية تكفين الشهيد. ومنها: مشروعيّة الدعاء للميت في الصلاة عليه، وقد ثبت الأمر بذلك، فيما رواه أبو داود، وصححه ابن حبّان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلّيتم على الميت، فأخلصوا له الدعاء". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في الصلاة على الشهداء:

قال الإمام الترمذيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وقد اختلف أهل العلم في الصلاة على الشهيد، فقال بعضهم: لا يصلى على الشهيد، وهو قول أهل المدينة، وبه يقول الشافعيّ، وأحمد. وقال بعضهم: يصلّى على الشهيد، واحتجّوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه

(1)

- بفتح، فسكون: أي وجع الحُمّى.

(2)

- من باب نفع: أي يخلُص.

ص: 207

صلى على حمزة، وهو قول الثوريّ، وأهل الكوفة، وبه يقول إسحاق انتهى كلام الترمذيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

وقال الحافظ وليّ الدين العراقيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، والجمهور إلى أنه لا يصلى عليهم. وذهب أبو حنيفة إلى الصلاة عليهم كغيرهم، وبه قال المزنيّ، وهو رواية عن أحمد، اختارها الخلّال، وحكاه ابن بطّال عن الثوريّ، والأوزاعيّ، وعكرمة، ومكحول انتهى

(2)

.

وقد وردت أحاديث تدلّ لما ذهب إليه الفريقان، ولنذكرها، مع بيان ما لها، وما عليها:

فمنها: حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، يجمع بين الرجلين، من قتلى أحد، في ثوب واحد، ثم يقول:"أيهم أكثر أخذًا للقرآن"، فإذا أشير له إلى أحدهما، قدّمه في اللحد، وقال:"أنا شهيد على هؤلاء، يوم القيامة"، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم. متفق عليه.

ومنها: حديث أنس رضي الله عنه إن شهداء أحد لم يغسّلوا، ودفنوا بدمائهم، ولم يصلّ عليهم. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وقال: إنه غريب، لا نعرفه من حديث أنس إلا من هذا الوجه، وأخرجه أبو داود في "المراسيل"، والحاكم من حديثه، قال:"مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة، وقد مُثل به، ولم يصلّ على أحد من الشهداء غيره". وأعلّه البخاريّ، والترمذيّ، والدارقطنيّ بأنه غَلِطَ فيه أسامةُ بن زيد -يعني الليثيّ- فرواه عن الزهريّ، عن أنس، ورجّحوا رواية الليث، عن الزهريّ، عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر رضي الله عنه.

ومنها: ما أخرجه الحاكم من حديث جابر رضي الله عنه، قال: فَقَدَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حمزة حين جاء الناس من القتال، فقال رجل: رأيته عند تلك الشجيرات، فلما رآه، ورأى ما مُثل به شَهِق، وبكى، فقام رجل من الأنصار، فرمى عليه بثوب، ثم جيء بحمزة، فصلى عليه

"

الحديث. وفي إسناده أبو حماد الحنفيّ، وهو متروك.

ومنها: حديث شدّاد بن الهاد رضي الله عنه المذكور في الباب. لكن حمله البيهقيّ على أنه لم يمت في المعركة. وفيه نظر، إذ ظاهر الحديث على خلافه.

(1)

- راجع "الجامع" ج 4 ص 127 - 128. بنسخة شرح المباركفوريّ.

(2)

- "طرح التثريب" ج 3 ص 294 - 295.

ص: 208

ومنها: حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه الآتي للمصنّف بعد هذا.

ومنها: حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن إسحاق، قال:"أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحمزة، فسُجِّي ببردة، ثم صلى عليه، وكبّر سبع تكبيرات، ثم أُتي بالقتلى، فيوضعون إلى حمزة، فيصلي عليهم وعليه معهم، حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاةً". وفي إسناده رجل مبهم، لأن ابن إسحاق قال: حدثني من لا أتّهم، عن مقسم، مولى ابن عباس، عن ابن عباس.

قال السهيليّ: إن كان الذي أبهمه ابن إسحاق هو الحسنَ بنَ عُمَارة، فهو ضعيف، وإلا فهو مجهول، لا حجة فيه.

قال الحافظ: الحامل للسهيليّ على ذلك ما وقع في مقدّمة مسلم، عن شعبة أن الحسن بن عمارة حدّثه، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد"، فسألت الحكم؟ فقال: لم يصلّ عليهم انتهى.

لكن حديث ابن عباس رُوي من طرق أخرى:

منها: ما أخرجه الحاكم، وابن ماجه، والطبرانيّ، والبيهقيّ، من طريق يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس مثله، وأتمّ منه. ويزيد فيه ضعيف يسير.

وفي الباب أيضًا عن أبي مالك الغفاريّ عند أبي داود في "المراسيل" من طريقه، وهو تابعيّ، اسمه غزوان، ولفظه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد، عشرةً، عشرةً، في كلّ عشرة حمزة، حتى صلى عليه سبعين صلاة". قال الحافظ: ورجاله ثقات. وقد أعلّه الشافعيّ بأنه متدافع، لأن الشهداء كانوا سبعين، فإذا أُتي بهم عشرةً، عشرةً يكون قد صلى سبع صلوات، فكيف تكون سبعين؟ قال: وإن أراد التكبير، فيكون ثمانية وعشرين تكبيرة. وأجيب بان المراد صلى على سبعين نفسًا، وحمزة معهم كلهم، فكأنه صلى عليه سبعين صلاة.

قال الجامع: في هذا التأويل نظر. واللَّه تعالى أعلم.

وعن ابن مسعود عند أحمد بلفظ: "فوضع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حمزة، فصلى عليه، وجيء برجل من الأنصار، فوضع إلى جنبه، فصلى عليه، فرُفع الأنصاريّ، وتُرك حمزة، ثم جيء بآخر، فوضعه إلى جنب حمزة، فصلى عليه، ثم رُفع، وتُرك حمزة حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة".

قال الجامع: فيه عطاء بن السائب، مختل، والراوي عنه حماد بن سلمة، وهو ممن سمع منه قبل الاختلاط، وبعده

(1)

، فلا يعتمد على روايته. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- انظر ما كتبه في "تت" في ترجمة عطاء بن السائب.

ص: 209

ومنها: حديث أبي سَلّام، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أغرنا على حيّ من جُهينة، فطلب رجل من المسلمين رجلا منهم، فضربه، فأخطأه، وأصاب نفسه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أخوكم يا معشر المسلمين"، فابتدره الناس، فوجدوه قد مات، فلفّه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بثيابه، ودمائه، وصلى عليه، ودفنه، فقالوا: يا رسول اللَّه أشهيد هو؟ قال: "نعم، وأنا له شهيد". رواه أبو داود، وفي إسناده سلّام بن أبي سلّام، وهو مجهول، وقال أبو داود بعد إخراجه عن سلّام المذكور: إنما هو عن زيد بن سلّام، عن جدّه أبي سلّام انتهى.

احتجّ القائلون بمشروعية الصلاة على الشهيد بهذه الأحاديث، وأجاب عنها القائلون بعدم الصلاة عليه، فقالوا: أما حديث جابر، ففيه متروك، كما تقدّم، وأما حديث شدّاد بن الهاد، فهو مرسل، لأن شدادًا تابعيّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الكلام خطأ، لأنه لم يقل أحد: إن شدّادًا تابعيّ، فقد تقدم أنه ممن شهد الخندق، وإنما الكلام هو الذي تقدّم عن المصنف في "الكبرى" أن هذا الحديث عن عبد اللَّه بن شدّاد، وهو تابعيّ، لا عن شدّاد، وقد تقدّم الجواب عنه، فلا تغفل.

وأجاب البيهقي عنه أيضًا بأنه لم يمت في المعركة، وقد تقدم الجواب عن هذا بأنه مخالف لظاهر النصّ. وأجيب أيضًا بأن المراد بالصلاة الدعاء، والجواب عنه أيضًا أنه خلاف الظاهر. واللَّه تعالى أعلم.

وأما حديث أنس، فقد تقدّم أن البخاريّ، والترمذيّ، والدارقطنيّ، قالوا: بأنه غلط فيه أسامة، وقد قال البيهقيّ، عن الدارقطنيّ: إن قوله فيه: "ولم يصلّ على أحد من الشهداء غيره"، ليست بمحفوظة. على أنه يقال: الحديث حجة عليهم، لا لهم لأنها لو كانت واجبة لما خَصّ بها واحدا من سبعين.

وأما حديث عقبة، فلنبدأ بتقرير الاستدلال به، ثم نذكر جوابه، وتقريرُه: ما قاله الحاويْ: إن معنى صلاته صلى الله عليه وسلم عليهم، لا يخلو من ثلاثة معان: إما أن يكون ناسخًا لما تقدّم من ترك الصلاة عليهم، أو يكون من سنتهم أن يصلى عليهم إلا بعد هذه المدة، أو تكون الصلاة عليهم جائزة بخلاف غيرهم، فإنها واجبة، وأيها كان فقد ثبت بصلاته عليهم صلاته على الشهداء، ثم الكلام بين المختلفين في عصرنا إنما هو في الصلاة عليهم قبل دفنهم، وإذا ثبتت الصلاة عليهم بعد الدفن كانت قبل الدفن أولى انتهى. وأجيب بأن صلاته عليهم تحتمل أمورًا أُخر: منها أن تكون من خصائصه، ومنها أن تكون بمعنى الدعاء، ثم هي واقعة عين لا عموم لها، فكيف ينتهض الاحتجاج بها لدفع

ص: 210

حكم قد ثبت. وأيضًا لم يقل أحد من العلماء بالاحتمال الثاني الذي ذكره الطحاويّ، كذا قال الحافظ.

قال العلامة الشوكانيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وأنت خبير بأن دعوى الاختصاص خلاف الأصل، ودعوى أن الصلاة بمعنى الدعاء يردّها قوله في الحديث:"صلاتَهُ على الميت". وأيضًا قد تقرّر في الأصول أن الحقائق الشرعيّة مقدّمة على اللغويّة، فلو فُرض عدم ورود هذه الزيادة لكان المتعيّنُ المصيرَ إلى حمل الصلاة على حقيقتها الشرعيّة، وهي ذات الأذكار والأركان. ودعوى أنها واقعة عين لا عموم لها يردّها أن الأصل فيما ثبت لواحد، أو لجماعة في عصره صلى الله عليه وسلم ثبوته للغير. على أنه يمكن معارضة هذه الدعوى بمثلها، فيقال: ترك الصلاة على الشهداء في يوم أحد واقعة عين، لا عموم لها، فلا تصلح للاستدلال بها على مطلق الترك بعد ثبوت مطلق الصلاة على الميت، ووقوعِ الصلاة منه على خصوص الشهيد في غيرها، كما في حديث شدّاد بن الهاد، وأبي سلّام.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وما ورد في معناه من الصلاة على قتلى أحد قبل دفنهم، فأجاب عن ذلك الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بأن الأخبار جاءت كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلّ على قتلى أُحُد، قال: وما روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليهم، وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصحّ، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث أن يستحي على نفسه انتهى.

وأجيب أيضًا بأن تلك الحالة الضيّقة لا تتسع لسبعين صلاة، وبأنها مضطربة، وبأن الأصل عدم الصلاة.

قال الشوكانيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ولا يخفى عليك أنها رُويت من طرق يشدّ بعضها بعضًا

(1)

، وضيق تلك الحالة لا يمنع من إيقاع الصلاة، فإنها لو ضاقت عن الصلاة لكان ضيقها عن الدفن أولى.

ودعوى الاضطراب غير قادحة، لأن جميع الطرق قد أثبتت الصلاة، وهي محلّ النزاع. ودعوى أن الأصل عدم الصلاة مُسَلَّمَة قبل ورود الشرع، وأما بعد وروده فالأصل الصلاة على مطلق الميت، والتخصيص ممنوع. وأيضًا أحاديث الصلاة قد شَدّ من عضدها كونُها مثبتة، والإثبات مقدّم على النفي، وهذا مرجّح معتبر.

والقدح في اعتباره في المقام ببُعْد غفلة الصحابة عن إيقاع الصلاة على أولئك

(1)

- قد عرفت ما فيها من الضعف الشديد، فلا تصلح لمعارضة الأحاديث الصحيحة، فتفطّن.

ص: 211

الشهداء مُعارَض بمثله، وهو بُعْدُ غفلة الصحابة عن الترك الواقع على خلاف ما كان ثابتًا عنه صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الأموات، فكيف يرجّح ناقله، وهو أقلّ عددًا من نقلة الإثبات الذي هو مظنّة الغُفُول عنه، لكونه واقعًا على مقتضى عادته صلى الله عليه وسلم من الصلاة على مطلق الميت.

ومن مرجّحات الإثبات الخاصة بهذا المقام أنه لم يُرو النفي إلا عن أنس، وجابر، وأنس عند تلك الواقعة من صغار الصبيان، وجابر قد روى أنه صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة، وكذلك أنس، كما تقدّم

(1)

، فقد وافقا غيرهما في وقوع مطلق الصلاة على الشهيد في تلك الواقعة، ويبعد كلّ البعد أن يخصّ النبي صلى الله عليه وسلم بصلاته حمزة لمزيّة القرابة، ويدع بقية الشهداء، ومع هذا فلو سلّمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليهم حال الواقعة، وتركنا جميع هذه المرجحات لكانت صلاته عليهم بعد ذلك مفيدة للمطلوب

(2)

، لأنها كالاستدراك لما فات، مع اشتمالها على فائدة أخرى، وهي أن الصلاة على الشهيد لا ينبغي أن تترك بحال، وإن طالت المدّة، وتراخت إلى غاية بعيدة. قال: وأما حديث أبي سلّام، فلم أقف للمانعين من الصلاة على جوابٍ عليه

(3)

، وهو من أدلّة المثبتين، لأنه قُتل في المعركة بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسماه شهيدًا، وصلى عليه. نعم لو كان النفي عامّا غير مقيّد بوقعة أحُد، ولم يرد في الإثبات كير هذا الحديث لكان مختصّا بمن قُتل على مثل صفته انتهى كلام الشوكانيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(4)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تلخّص مما تقدّم من مناقشة هذه الأحاديث أن أحاديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على قتلى أُحُد يومَ أُحد لا تثبت، ولا تصلح لمعارضة ما في "الصحيح" من حديث جابر رضي الله عنه أنه لم يصلّ عليهم، وإن حاول الشوكانيّ إثباتهَا، وذَكَرَ المرجحات لذلك، فهي كما قال الإمام الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: كان ينبغي لمن عارض بهذه الأحاديث أن يستحي على نفسه انتهى.

(1)

- لكن قد عرفت أن رواية الإثبات عنهما ضعيفة، لا تقاوم النفي الثابت عنهما في الصحاح، فتبصّر.

(2)

-يعني صلاته على قتلى أحد بعد ثمان سنين، وهذا الوجه هو المعتبر المعوّل عليه مما ذكره الشوكاني لإثبات الصلاة على الشهيد، وحاول إثباته مع الضعف المعارَض بما صحّ في "صحيح البخاريّ" وغيره، فتنبّه.

(3)

- قد تقدّم أن راويه سلّام بن أبي سلّام مجهول، فهذا هو الجواب عنه، فلو ثبت لكان هو الثالث لحديثي جابر، وشداد الذين اعتمدنا عليهما في صحة مذهب القائلين بجواز الصلاة على الشهيد، كما يأتي قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

(4)

- "نيل الأوطار" ج 4 ص 52 - 56.

ص: 212

وإنما العمدة في هذا الباب حديثان:

أحدهما: ما أخرجه البخاريّ وغيره من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين صلاته على الميت"، وقد تقدّم أن دعوى كون المراد بالصلاة الدعاء غير صحيحة، بل المراد الصلاة المشروعة على الأموات، بدليل قوله: "صلاتَهُ على الميت".

والثاني: حديث شداد بن الهاد رضي الله عنه المذكور في هذا الباب، وقد عرفت أنه حديث صحيح. فهذان الحديثان يكفيان لإثبات مشروعية الصلاة على الشهيد، فالمذهب الراجح هو مذهب من أثبت الصلاة عليه، لكن على سبيل الجواز، لا على سبيل الوجوب، كما نقل عن الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، فإنه قال في رواية المروزيّ عنه: الصلاة عليه أجود، وإن لم يصلوا عليه أجزأ. انتهى. وقال أبو محمد ابن حزم رحمه الله: إن صُلي على الشهيد، فحسن، وإن لم يصلّ عليه فحسن، واستَدَلَّ بحديثي جابر، وعقبة رضي الله عنهما المذكورين، وقال: ليس يجوز أن يُترك أحد الأثرين المذكورين للآخر، بل كلاهما حقّ مباح، وليس هذا مكان نسخ، لأن استعمالهما معًا ممكن في أحوال مختلفة انتهى

(1)

.

والحاصل أن الصواب جواز الصلاة على الشهيد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: اختلف في الشهيد الذي وقع الخلاف في غسله، والصلاة عليه، هل هو مختصّ بمن قُتل في المعركة في حرب الكفّار، أو أعم من ذلك؟: فعند الشافعي أن المراد بالشهيد قتيل المعركة في حرب الكفّار، ولا فرق في ذلك بين الرجل، والمرأة، والكبير، والصغير، والحرّ، والعبد، والصالح، وغيره. وخرج بقوله:"في المعركة" من جُرح في المعركة، وعاش بعد ذلك حياة مستقرّة، وخرج بـ "حرب الكفّار" من مات بقتال المسلمين، كأهل البغي، وخرج بجميع ذلك من يسمّى شهيدًا بسببٍ غير السبب المذكور، كمن مات مبطونًا، أو مطعونًا، فإنما يقال له: شهيد بمعنى ثواب الآخرة، وهذا كله هو القول الراجح من مذاهب العلماء.

وروي عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد أن من جُرح في المعركة إن مات قبل الارتثاث، فشهيد، والارتثاث أن يُحمَل، أو يأكل، أويشرب، أو يوصي، أو يَبقَى في المعركة يوما وليلة حيًّا.

(1)

- "المحلى" ج 5 ص 115 - 116.

ص: 213

وأما من قُتل مدافعًا عن نفس، أو مال، أو في المصر ظلمًا، فعند أبي حنيفة، وأبي يوسف شهيد، وقال الشافعيّ: إنه وان قيل له: شهيد، فليس من الشهداء الذين لا يُغسلون

(1)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله أرجح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في غسل الشهداء

(2)

:

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: قد اختلفوا في غسل الشهيد، فقال عامّة أهل العلم: لا يُغسَل، كذلك قال مالك بن أنس، ومن تبعه، من أهل المدينة، وبه قال الحكم، وحماد، وأصحاب الرأي، ومن وافقهم من أهل الكوفة، وبه قال الشافعيّ، وأصحابه، وكذلك قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وكذلك قال عطاء، وسليمان بن موسى، ويحيى الأنصاريّ، وإبراهيم النخعيّ.

وكان الحسن، وسعيد بن المسيّب، يقولان: يغسل، فإن كلّ ميت يُجنب، وسئل ابن عمر عن غسل الشهيد، فقال: قد غُسل عمرُ، وكُفّن، وحنّط، وصُلّي عليه، وكان شهيدًا.

قال ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ثابت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه لم يَغسِل شُهداء أُحُد، ولم يُصلّ عليهم. قال: واختلفوا في الصبيّ، والمرأة يُقتلان، فكان الشافعيّ يقول: يُصنع بهما ما يُصنع بالشهداء، لا يُغسلان، ولا يصلّى عليهما، وكذلك قال أبو ثور، وقال يعقوب، ومحمد: يُصنع بالولدان ما يُصنع بالشهداء، ولا يغسلون. وكان النعمان يقول: أما النساء، والرجال، فلا يغسلون، ويصنع بهم ما يصنع بالشهيد، وأما الولدان الذين ليست لهم ذنوب فيغسلون.

قال ابن المنذر: لما كانت السُّنَّة في غسل الرجال، والنساء، والولدان، والصلاة عليهم سبيلاً واحدًا، حيث يغسلون، وُيصلى عليهم، كان كذلك سبيلهم في الموضع الذي يوقف عنه عن غسلهم، والصلاة عليهم سبيلاً واحدًا، استدلالاً بالسنّة، لا فرق بين الأخيار والأشرار، والذين لهم ذنوب، والذين لا ذنوب لهم في ذلك، إن شاء اللَّه.

قال: واختلفوا فيمن قتله غير أهل الشرك، فكان الشعبيّ يقول: من قتله اللصوص لم يغسل، وقال سفيان الثوريّ: من قُتل مظلوما لم يغسل، وكذلك قال الأوزاعيّ فيمن قتله اللصوص. وكان مالك، والشافعيّ يقولان: يغسلون، ويصلّى عليهم، قال الشافعيّ: الغسل، والصلاة سنة بني آدم لا يخرج منها إلا من تركه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم،

(1)

- أفاده في "الفتح" ج 3 ص 571 و "نيل الأوطار" ج 4 ص 56، ونقلته باختصار.

(2)

- حق هذه المسألة أن تذكر قبل المسألة السابقة، لكن أخرتها لكون تلك موضوع ترجمة المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-.

ص: 214

وهم الذين قتلهم المشركون خاصّة في المعركة.

قال ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وهذا الذي قاله مالك، والشافعيّ حسن، وروينا عن أسماء بنت أبي بكر أنها غسلت عبد اللَّه بن الزبير بعد ما تقطّعت أوصاله. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم في المسألة الماضية ترجيح القول بجواز الصلاة على الشهداء، وأما غسلهم، فالأرجح عندي عدم مشروعيته، لعدم ثبوت دليل يُعْتَمد عليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، دىاليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1954 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ، صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ:«إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد، أبو الحارث الفَهْميّ المصريّ الإمام الثبت الحجة الفقيه [7] 31/ 35.

3 -

(يزيد) بن أبي حبيب سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقة فقيه يرسل [5] 134/ 207.

4 -

(أبو الخير) مَرْثَد بن عبد اللَّه اليَزَنيّ المصريّ، ثقة فقيه [3] 38/ 582.

5 -

(عقبة) بن عامر الْجُهَنيّ، صحابيّ مشهور، ولي إِمْرَة مصر لمعاوية ثلاث سنين، وكان فقيها فاضلاً، مات قرب الستين 108/ 144. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وأنه مسلسل بالمصريين، سوى شيخه، فبغلانيّ، وأنه أصح أسانيد عقبة بن عامر - رضي اللَّه تعالى عنه -، وأن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، يزيد، عن أبي الخير، وأن أبا الخير مشهور بكنيته. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُقْبَةَ) بن عامر - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدِ، صَلَاَتهُ عَلَى المَيِّتِ) أي مثل صلاته، زاد البخاريّ في "غزوة أُحُد"، من طريق حيوة بن شُريح، عن يزيد:"بعد ثمان سنين، كالموَدِّع للأحياء والأموات"، وزاد فيه:"فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ". وكانت أحد في شوّال سنة ثلاث،

(1)

- "الأوسط" ج 5 ص 346 - 348.

ص: 215

ومات صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، فعلى هذا فقوله:"بعد ثمان سنين" تجوّز على طريق جبر الكسر، وإلا فهي سبع سنين، ودون النصف.

وهذا محلّ استدلال المصنّف رحمه الله على الترجمة، ففيه مشروعية الصلاة على الشهداء، ويؤيّد كون الصلاة على حقيقتها قوله:"صلاتَهُ على الميت"، فلا يصحّ تأويل الصلاة بالدعاء، كما تقدّم (ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَرِ، فَقَالَ: "إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ) وفي بعض النسخ: "فرطكم". قال أهل اللغة: الفَرَط -بفتح الفاء، والراء- والفارط هو الذي يتقدّم رُوّادَ الماء، ليُصلح لهم الحياض، والدَّلاء، ونحوها، من أمور الاستسقاء، فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم:"إني فَرَط لكم" أي سابقكم إلى الحوض كالمهيّء لهم، ولهذا قال في رواية البخاريّ:"وإن موعدكم الحوض"، ولهذا المعنى ذكره في رواية أخرى، فقال:"إني واللَّه لأنظر إلى حوضي الآن"، وفيه إشارة إلى قرب وفاته صلى الله عليه وسلم، وتقدّمه أصحابَهُ.

(وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ") هو موافق لقوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، ولقوله تعالى:{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

زاد في رواية البخاريّ: "وإني واللَّه لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني واللَّه ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها".

وقوده: "وإني واللَّه" فيه الحلف لتأكيد الخبر، وتعظيمه. وقوده:"لأنظر إلى حوضي الآن" هو على ظاهره، وكأنه كُشف له عنه في تلك الحالة.

وفيه إثبات حوضه صلى الله عليه وسلم، وأنه حوض حقيقيّ على ظاهره، مخلوق، موجودٌ اليومَ، وهو كذلك عند أهل السنّة والجماعة، لا يتأولونه، ويجعلون الإيمان به فرضّا، وأحاديثه قد بلغت التواتر. قال القاضي عياض رحمه الله بعد الإشارة إلى كثير منها: وفي بعض هذا ما يقتضي كون الحديث متواترًا، وقد عرفت أنه في رواية مسلم:"وأن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة"، وفي رواية "بين ناحتيه كما بين جَرْباء وأذرح"، وفي رواية:"عرضه مثل طوله، ما بين عمان إلى المدينة"، وفي رواية:"من مقامي إلى عمان"، وفي رواية:"قدر حوضي ما بين أيلة، وصنعاء اليمن"، وفي رواية:"ما بين ناحيتي حوضي كما بين صنعاء والمدينة"، وفي رواية:"حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء"، وكلّ هذه الروايات في "الصحيح"، قال القاضي عياض: وهذا الاختلاف في قدر عرض الحوض ليس موجبا للاضطراب، فإنه لم يأت في حديث واحد، بل في أحاديث مختلفة الرواة، عن جماعة من الصحابة، سمعوها في مواطن مختلفة، ضربها النبي صلى الله عليه وسلم في كلّ منها مثلاً لبُعد أقطار الحوض، وسعته، وقَرَّبَ ذلك من الأفهام ببعد ما بين البلاد

ص: 216

المذكورة، لا على التقدير الموضوع للتحديد، بل للإعلام بعظم بعد المسافة، فبهذا تجتمع الروايات. وقال النوويّ بعد حكايته: وليس في القليل من هذه المسافات منع الكثير، فالكثير ثابت على ظاهر الحديث، ولا معارضة، واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

وقوله: "وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض"، أو "مفاتيح الأرض"، هكذا الرواية، وكأنه شكّ من بعض الرواة في اللفظ المقول، وأشار صلى الله عليه وسلم بذلك إلى ما فُتح على أمته من الملك والخزائن.

وقوله: "وإني واللَّه ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي" أي على مجموعكم، لأن ذلك قد وقع من البعض، أعاذنا اللَّه تعالى منه.

وقوله: "ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها" أي في خزائن الأرض المتقدم ذكرها، ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا، وإن لم يتقدّم ذكرها صريحا، ويدلّ لذلك قوله في رواية مسلم:"ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها"

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عقبة بن عامر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه:

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا - 61/ 1954 - وفي "الكبرى" 61/ 2081. وأخرجه (خ) 1344 و 3596 و 4042 و 4085 و6590 (م) 2296 (د) 3223 (أحمد) 16893 و 16946 و 16949. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده

(3)

:

منها: ما ترجم له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو مشروعية الصلاة على الشهداء، وقد استوفينا بحثه في شرح الحديث السابق. ومنها: بيان فضل هذه الأمة، حيث كان نبيهاء صلى الله عليه وسلم فَرَطا لها، يتقدّمها، وينتظرها على حوضه الشريف، فلها البشرى العظيمة. ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم سيشهد على أمته في الآخرة بما عملت. ومنها: ما قاله وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: إن في هذا الحديث معجزات للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن معناه الإخبارُ بأن أمته تملك خزائن الأرض، وقد وقع ذلك، وأنها لا ترتدّ جملة، وقد عصمهم اللَّه تعالى من ذلك،

وأنها تتنافس في الدنيا، وتقتتل عليها، وقد وقع ذلك، عصمنا اللَّه تعالى منه آمين. قاله

(1)

- "طرح التثريب" ج 3 ص 296 - 297.

(2)

- "طرح" ج 3 ص 297 و"فتح" ج 7 ص 320.

(3)

- المراد فوائد الحديث كله، لا خصوص رواية المصنّف، فتنبّه.

ص: 217

في "الطرح"

(1)

.

وقال في "الفتح": وفيه إنذار بما سيقع، فوقع كما قال صلى الله عليه وسلم، وقد فتحت عليهم الفتوح بَعْدُ، وآل الأمر إلى أن تحاسدوا، وتقاتلوا، ووقع ما هو المشاهد المحسوس لكلّ أحد مما شهد بمصداق خبره صلى الله عليه وسلم، ووقع من ذلك في هذا الحديث إخباره بأنه فرط، أي سابقهم، وكان كذلك، وأن أصحابه لا يشركون بعده، فكان كذلك، ووقع ما أنذر به من التنافس في الدنيا، وقد ثبت معنى ذلك فيما أخرجه البخاريّ من حديث عمرو بن عوف، مرفوعًا:"ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بُسطت على من كان قبلكم، فتتنافسوها، كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم"، وفي حديث أبي سعيد عند البخاريّ أيضًا: "إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج اللَّه لكم من بركات الأرض

" الحديث، فوقع كما أخبر به، وفتحت عديهم الفتوح الكثيرة، وصُبّت عليهم الدنيا صبّا

(2)

. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌62 - تَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَيهِمْ

1955 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ، فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «أَيُّهُمَا

(3)

أَكْثَرُ، أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ ، فَإِذَا أُشِيرَ إِلَى أَحَدِهِمَا، قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، قَالَ:«أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ» ، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ

(4)

، فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا.

رجال هذا الاسناد: خمسة، تقدّموا قريبًا، سوى:

1 -

(عبدالرحمن بن كعب بن مالك) الأنصاريّ، أبو الخطّاب المدنيّ، ثقة، من كبار

(1)

- "طرح التثريب" ج 3 ص 297.

(2)

- "فتح" ج 7 ص 320 بزيادة، وتصرّف.

(3)

- وفي نسخة: "أيهم".

(4)

- وفي نسخة: "بدمائهم".

ص: 218

التابعين، ويقال: وُلد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم 38/ 731.

2 -

(جابر بن عبد اللَّه) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السلميّ رضي الله عنهما 31/ 35.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): من خماسيات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فبغلانيّ، والليث، فمصريّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه جابر بن عبد اللَّه صحابي ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1170). واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) كذا يقول الليث، عن ابن شهاب، قال المصنّف في "الكبرى": لا أعلم أحدًا من ثقات أصحاب ابن شهاب تابع الليث على ذلك، ثم ساقه من طريق عبد اللَّه بن المبارك، عن معمر، عن ابن شهاب، عن عبد اللَّه بن ثعلبة، فذكر الحديث مختصرًا. قال الحافظ: وكذا أخرجه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، والطبرانيّ من طريق عبدالرحمن بن إسحاق، وعمرِو بنِ الحارث، كلهم عن ابن شهاب، عن عبد اللَّه بن ثعدبة، وعبد اللَّه له رؤية، فحديثه من حيث السماع مرسل، وقد رواه عبد الرزّاق، عن معمر، فزاد فيه جابرًا، وهو مما يقوّي اختيار البخاريّ، فإن ابن شهاب صاحب حديث، فيحمل على أن الحديث عنده عن شيخين، ولا سيّما أن في رواية عبدالرحمن بن كعب ما ليس في رواية عبد اللَّه بن ثعلبة.

وعلى ابن شهاب فيه اختلاف آخر، رواه أسامة بن زيد الليثيّ عنه، عن أنس، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وأسامة سَيِّء الحفظ، وقد حكى الترمذيّ في "العلل" عن البخاريّ أن أسامة غَلِط في إسناده، وأخرجه البيهقيّ من طريق عبدالرحمن بن عبد العزيز الأنصاريّ، عن ابن شهاب، فقال:"عن عبدالرحمن بن كعب، عن أبيه"، وابنُ عبد العزيز ضعيف، وقد أخطأ في قوله:"عن أبيه".

وقد ذكر البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فيه اختلافا آخر، فقال بعد إخراجه من طريق ابن المبارك، عن الليث: ما نصّه: قال ابن المبارك: وأخبرنا الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول لقتلى أحد: "أيُّ هؤلاء أكثر أخذًا للقران؟ "، فإذا أشير له إلى رجل قدّمه في اللحد قبل صاحبه -وقال جابر-: فكفّن أبي وعمي في نَمِرَة واحدة.

وقال سليمان بن كثير: حدثني الزهريّ، حدثني من سمع جابرًا رضي الله عنه انتهى ما ذكره

ص: 219

البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

قال في "الفتح": قوله: "وقال سليمان بن كثير الخ" هو موصول في "الزهريات" للذهليّ، وفي رواية سليمان المذكور إبهام شيخ الزهريّ، قال الدارقطنيّ في "التتبّع": اضطرب فيه الزهريّ. وأجيب بمنع الاضطراب، لأن الحاصل من الاختلاف فيه على الثقات أن الزهريّ حمله عن شيخين، وأما إبهام سليمان لشيخ الزهريّ، وحذف الأوزاعيّ له، فلا يؤثّر في رواية من سمّاه، لأن الحجّة لمن ضبط، وزاد، إذا كان ثقة، لا سيما إذا كان حافظا، وأما رواية أسامة، وعبدالعزيز، فلا تقدح في الرواية الصحيحة لضعفهما، وقد بينّا أن البخاريّ صرّح بغلط أسامة فيه انتهى

(2)

.

(أَخْبَرَهُ أَن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَجمَعُ بَينَ الرَّجُلَيْنِ، مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ) جمع قتيل، وإضافته إلى "أحد" بمعنى "في"(فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) أي من الكفن، للضرورة، ولا يلزم منه تلاقي بشرتهما، إذ يمكن حيلولتهما بَنحو إذخر، ويحتمل أن الثوب كان طويلاً، فقطعه بينهما نصفين، وكفّن كلّ واحد على حياله، ويؤيّد الأول، بل يُعيّنه قول جابر في تمام الحديث عند البخاريّ:"فكفّن أبي وعمّي في نمرة واحدة".

وقال المظهريّ في "شرح المصابيح": قوله: "في ثوب واحد" أي في قبر واحد، إذ لا يجوز تجريدهما في ثوب واحد، بحيث تتلاقى بشرتاهما.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تأويل المظهريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فيه نظر لا يخفى، إذ هو بعيد عن سياق الحديث، بل يبطله قول جابر رضي الله عنه في آخر الحديث:"فكفّن أبي وعمّي في نمرة واحدة"، وكذا قول بعضهم: معناه أنه قطّع الثوب الواحد باثنين، فكفّن كلّ واحد بقطعة بعيدٌ أيضًا.

بل الصواب أن يحمل على أن تكفين الاثنين كان في ثوب واحد، كما هو ظاهر الحديث، وهو محمول على الضرورة، فتأمل بإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف.

(ثُمَّ يَقُولُ: " أَيُّهمَا) وفي نسخة: "أيهم"(أَكْثَرُ، أَخْذًا) منصوب على التمييز (لِلقُرْآنِ) متعلق بـ "أخذًا"، وفي رواية الترمذيّ:"أيهم أكثر حفظًا للقرآن"(فَإِذَا أُشِيرَ إِلَى أَحَدِهِمَا، قَدَّمَهُ) أي ذلك الأحدَ المشارَ إليه (فِي اللَّحْدِ) بفتح اللام، وسكون المهملة: هو الشَّقُّ في عرض القبر في جانب القبلة، وسمي لحدًا لأنه يُشقّ في ناحية من القبر، مائلًا عن وسطه قدر ما يوضع الميت في جهة القبلة، والإلحاد لغة الميل.

وفي حديث عبد اللَّه بن ثعلبة، عند ابن إسحاق، فكان يقول: "انظروا أكثر هؤلاء

(1)

- "صحيح البخاري" ج 3 ص 574 - 575 بنسخة الفتح.

(2)

- "فتح" ج 3 ص 574 - 576.

ص: 220

جمعًا للقرآن، فاجعلوه أمامَ أصحابه، وذكر ابن إسحاق ممن دُفن جميعًا عبد اللَّه بن جحش، وخاله حمزة بن عبد المطلب، ومن وجه آخرها أنه أمر بدفن عمرو بن الْجَمُوح، وعبد اللَّه بن عمرو، والد جابر انتهى

(1)

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ) الظاهر أن "على" بمعنى اللام، أي أنا أشهد لهم بأنهم بذلوا أرواحهم، وتركوا حياتهم للَّه تعالى (وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ) وفي نسخة:"بدمائهم"(وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ) قال في "الفتح": هو مضبوط في روايتنا بفتح اللام، وهو اللائق بقوله بعد ذلك:"ولم يُغسَّلُوا"، وفي رواية للبخاري من وجه آخر:"ولم يصلِّ عليهم، ولم يغسلهم"، وهذه بكسر اللام، والمعنى: ولم يفعل ذلك بنفسه، ولا بأمره. وهذا محلّ الترجمة، حيث صرّح بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلّ عليهم، فدلّ على ترك الصلاة على الشهداء.

قال الحافظ: وقد أجاب بعض الحنفيّة عنه بأنه ناف، وغيره مثبت. وأجيب بأن الإثبات مقدّم على النفي غير المحصور، وأما نفي الشيء المحصور إذا كان راويه حافظًا، فإنه يترجّح على الإثبات، إذا كان راويه ضعيفًا، كالحديث الذي فيه إثبات الصلاة على الشهيد.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في هذا الكلام نظر لا يخفى؛ لأنه قد سبق أن حديث عقبة بن عامر، وحديث شدّاد بن الهاد صحيحان، فكيف يطلق القول بالضعف؟ اللَّهم إلا إذا أراد الحديث المتعلّق بصلاته على حمزة وغيره يوم أحد، فإنها ضعاف، كما سبق بيانه.

قال: وعلى تقدير التسليم، فالأحاديث التي فيها ذلك إنما هي في قصّة حمزة، فيحتمل أن يكون ذلك مما خُصّ به حمزة من الفضل. وأجيب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال. ويجاب بأنه يوقف الاستدلال.

قالوا: ويمكن الجمع بأنه لم يصلّ عليهم ذلك اليوم، كما قال جابر، ثم صلى عليهم في ثاني يوم، كما قال غيره انتهى

(2)

.

(وَلَمْ يُغَسَّلُوا) بالبناء للمفعول، من التغسيل، أو الغَسْل،

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم البحث في الصلاة على الشهداء، وغسلهم مُستوفًى في الباب الماضي، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- "فتح" ج 8 ص 127. "كتاب المغازي" رقم الحديث 4080.

(2)

- "فتح" ج 8 ص 127 "كتاب المغازي" رقم الحديث 4080.

ص: 221

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذا أخرجه البخاريّ.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -62/ 1955 وفي، "الكبرى" 62/ 2082. وأخرجه (خ) 1343 و1345 و 1346 و 1348 و 1353 و4080 (د) 3138 (ت) 1036 (ق) 1514 (أحمد) 13777. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو جواز ترك الصلاة على الشهداء الذين قُتلوا في معركة حرب الكفّار. ومنها: عدم مشروعية غسلهم. ومنها: جواز تكفين الرجلين في ثوب واحد للضرورة. ومنها: جواز الجمع بين الرجلين، فصاعدًا في لحد واحد للضرورة أيضًا، ففي رواية عبد الرزّاق:"كان يَدْفِن الرجلين، والثلاثة في قبر واحد". ورَوَى أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ

(1)

، بأسانيد صحيحة، من حديث هشام بن عامر الأنصاريّ، قال: جاءت الأنصار إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقالوا: أصابنا قَرْح، وجَهْد، فكيف تأمرنا؟ قال: "احفروا، وأوسعوا، واجعلوا الرجلين، والثلاثة في قبر

" الحديث. ومثله في ذلك المرأتان، والثلاث.

ومنها: أنه يقدّم الأكثر أخذًا للقرآن على غيره، لفضيلة القرآن، كنظيره في الإمامة في الحياة. قيل: ويقاس عليه سائرُ جهات الفضل، إذا جمعوا في اللحد.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في هذا القياس نظر، إذ لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم من جهات الفضل غير القرآن، مع أنه يوجد في الصحابة فاضل ومفضول في خصال متعدّدة، غير حفظ القرآن. فتأمل.

ومنها: إظهار تشريف الشهداء، حيث يشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم عند اللَّه تعالى شهادة خاصّة، وذلك تعظيمًا لشؤونهم، وإلا فالأمور كلها معلومة للَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- يأتي برقم 2011.

ص: 222

‌63 - بَابُ تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَرْجُومِ

1956 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، وَنُوحُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاعْتَرَفَ بِالزِّنَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ اعْتَرَفَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ اعْتَرَفَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ، أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَبِكَ جُنُونٌ؟» ، قَالَ: لَا. قَالَ: «أَحْصَنْتَ؟» . قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَرُجِمَ، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ، فَرَّ، فَأُدْرِكَ، فَرُجِمَ، فَمَاتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خَيْرًا، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن يحيى) بن عبد اللَّه بن خالد بن فارس الذُّهْليّ النيسابوريّ، ثقة حافظ جليل [11] 196/ 314.

2 -

(نوح بن حبيب) أبو محمد الْقُومَسِيّ، ثقة سنيّ [10] 79/ 1010.

3 -

(عبد الرّزّاق) بن هقام بن نافع، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظ مصنّفٌ شهير، عمي في آخره عمره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9] 61/ 77.

4 -

(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عُروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، من كبار [7] 10/ 10.

5 -

(أبو سلمة بن عبدالرحمن) بن عوف الزهريّ المدني، ثقة فقيه [3] 1/ 1.

والباقيات تقدما في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سُداسيات المصنّف رحمه الله. وأن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أحد الفقهاء السبعة، على بعض الأقوال، وفيه أحد المكثرين السبعة، من الصحابة، وفيه شيخان للمصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبدِ اللَّهِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ) أي من بني أسلم القبيلةِ المشهورة، واسم هذا الرجل ماعز بن مالك، وفي رواية جابر بن سمرة عند مسلم: "رأيت ماعز بن مالك الأسلميّ حين جيء به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

" الحديث،

ص: 223

وفيه: "رجل قصير، أعضل، ليس عليه رداء"، وفي لفظ "ذو عَضَلات". بفتح المهملة، ثم المعجمة، جمع عضلة: هو ما اجتمع من اللحم في أعلى باطن الساق.

(جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاعْتَرَفَ بِالزِّنَا) أي أقرّ على نفسه أنه زنى، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ: "أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجل من الناس، وهو في المسجد، فناداه، يا رسول اللَّه، إني زنيت، يريد نفسه

" الحديث (فَأَعْرَضَ عَنْهُ) يقال: أعرضتُ عنه: أضربتُ، وولّيت عنه، وحقيقته جعل الهمزة للصيرورة، أي أخذتُ عُرضًا، أي جانبًا غيرَ الجانب الذي هو فيه

(1)

أي حوّل النبي صلى الله عليه وسلم وجهَه إلى جهة أخرى، كراهيةً لما قاله، وسترًا عليه. وفي حديث بُريدة عند مسلم

(2)

: "قال: ويحك، ارجع، فاستغفر اللَّه، وتب إليه "، فرجع غير بعيد:"فقال: يا رسول اللَّه طهّرني"، وفي لفظ:"فلما كان من الغد أتاه"، ووقع في مرسل سعيد بن المسيّب عند مالك، والنسائيّ

(3)

، من رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن سعيد: "أن رجلًا من أسلم قال لأبي بكر الصدّيق: إن الآخر زنى، قال: فتب إلى اللَّه، واستتر بستر اللَّه، ثم أتى عمر كذلك، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنه ثلاث مرار، حتى إذا أكثر عليه بعث إلى أهله

".

(ثُمَّ اعْتَرَفَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ اعْتَرَفَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ) وفي حديث أبي هريرة المذكور: "فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فتنحّى لشقّ وجهه الذي أعرض قِبَلَه، فقال: يا رسول اللَّه إني زنيت، فأعرض عنه، فجاء لشقّ وجه النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعرض عنه

" الحديث (حَتَّى شَهِدَ عَلَى نَفسِهِ، أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) وفي حديث أبي هريرة "حتى ردّد على نفسه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات"، وفي رواية بُريدة المذكورة: "حتى إذا كانت الرابعة، قال: فيم أطهّرك؟ ". ووقع في رواية لمسلم: "فردّه مرتين"، وفي أخرى: "مرتين، أو ثلاثا"، قال شعبة: قال سماك: فذكرته لسعيد بن جبير، فقال: إنه ردّه أربع مرّات. ووقع عند مسلم أيضًا: "فاعترف بالزنا ثلاث مرّات".

ووجه الجمع بينها -كما قال في "الفتح"- أن تُحمَل رواية "مرتين"، على أنه اعترف مرتين في يوم، ومرتين في يوم آخر، لما يُشعر به قول بريدة:"فلما كان من الغد"، فاقتصر الراوي على أحدهما، أو مراده اعترف مرتين في يومين، فيكون من ضرب اثنين في اثنين.

(1)

- "المصباح" في مادة عرض.

(2)

- وهو في "الكبرى" للمصنف برقم 7163.

(3)

- أي في "الكبرى" رقم 7179.

ص: 224

وقد وقع عند أبي داود من طريق إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما:"جاء ما عز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاعترف بالزنا مرتين، فطرده، ثم جاء، فاعترف بالزنا مرتين"

(1)

.

وأما رواية الثلاث، فكان المراد الاقتصار على المرّات التي ردّه فيها، وأما الرابعة، فإنه لم يردّه، بل استثبت فيه، وسأله عن عقله. لكن وقع في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود

(2)

، من طريق عبدالرحمن بن الصامت ما يدلّ على أن الاستثبات فيه إنما وقع بعد الرابعة، ولفظه:"جاء الأسلميّ، فشهد على نفسه أنه أصاب امرأةً حرامًا أربع مرّات، كلّ ذلك يُعرض عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأقبل في الخامسة، فقال: "تدري ما الزاني" إلى آخره، والمراد بالخامسة الصفة التي وقعت منه عند السؤال والاستثبات، لأن صفة الإعراض وقعت أربع مرّات، وصفة الإقبال للسؤال وقع بعدها انتهى

(3)

.

(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَبِكَ جُنُونٌ؟، قَالَ: لَا) وفي حديث بُريدة: "فسأل أبه جنون؟ فأُخبر بأنه ليس بمجنون"، وفي لفظ:"فأرسل إلى قومه، فقالوا: ما نعلمه إلا وَفِيَّ العقل، من صالحينا"، وفي حديث أبي سعيد:"ثم سأل قومه؟ فقالوا: ما نعلم به بأسًا، إلا أنه أصاب شيئًا، يَرى أنه لا يُخرجه منه إلا أن يُقام فيه الحدّ للَّه"، وفي مرسل سعيد ابن المسيّب:"بَعَث إلى أهله، فقال: أيشتكي؟ أبه جنّة؟ فقالوا: يا رسول اللَّه إنه لصحيح"

(4)

.

ويجمع بينها بأنه سأله، ثم سأل عنه احتياطًا، فإن فائدة سؤاله أنه لو ادعى الجنون لكان في ذلك دفعٌ لإقامة الحدّ عليه، حتى يظهر خلاف دعواه، فلما أجاب بأنه لا جنون به، سأل عنه، لاحتمال أن يكون كذلك، ولا يُعتدّ بقوله.

وعند أبي داود، من طريق نُعيم بن هَزَّال، قال: "كان ماعز بن مالك يتيمًا في حجر أبي، فأصاب جارية من الحيّ، فقال له أبي: ائت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما صنعت، لعله يستغفر لك، ورجا أن يكون له مخرج

"، فذكر الحديث.

وقال القاضي عياض -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: فائدة سؤاله "أبك جنون" سترٌ لحاله، واستبعاد أن يُلحّ عاقل بالاعتراف بما يقتضي إهلاكه، ولعلّه يرجع عن قوله، أو لأنه

(1)

- ونحوه للمصنف في "الكبرى" رقم 7173.

(2)

- وهو في "الكبرى" رقم 7165.

(3)

- "فتح" ج 14 ص 82، "كتاب الحدود" رقم الحديث 6815.

(4)

- "الكبرى" ج 4 ص 281 رقم 7179.

ص: 225

سمعه وحده، أو ليتمّ إقراره أربعًا عند من يشترطه، وأما سؤاله قومه عنه بعد ذلك، فمبالغة في الاستثبات. وتَعَقّب بعض الشرّاح قوله:"أو لأنه سمعه وحده" بأنه كلام ساقط، لأنه وقع في نفس الخبر أن ذلك كان بمحضر الصحابة في المسجد.

قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وُيردّ بوجه آخر، وهو أن انفراده صلى الله عليه وسلم بسماع إقرار المقرّ كاف في الحكم عليه بعلمه اتفاقًا، إذ لا ينطق عن الهوى، بخلاف غيره، ففيه احتمال انتهى

(1)

. (قَالَ: أَحْصَنْتَ؟) أي تزوّجت، هذا معناه هنا جزما، لافتراق الحكم في حدّ من تزوّج، ومن لم يتزوّج.

[تنبيهات]:

الأول: المحصَن بفتح الصاد المهملة، من الإحصان، ويأتي بمعنى العفّة، والتزويج، والإسلام، والحريّة، لأن كلّا منها يمنع المكلّف من عمل الفاحشة، قال ابن القطاع: رجل مُحصِنٌ -بكسر الصاد- على القياس، وبفتحها على غير القياس.

قال الحافظ: ويمكن تخريجه على القياس، وهو أن المراد هنا من له زوجة عقد عليها، ودخل بها، وأصابها، فكان الذي زوّجها له، أو حمله على التزويج بها، ولو كانت نفسَهُ أحصنه، أي جعله في حصن من العفّة، أو مَنَعَه من عمل الفاحشة.

وقال الراغب: يقال للمتزوّجة مُحصَنة، أي أن زوجها أحصنها، ويقال: امرأة مُحصِنٌ بالكسر، إذا تصوّر حصنها من نفسها، وبالفتح إذا تصوّر حصنها من غيرها انتهى.

الثاني: قال ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: أجمعوا على أنه لا يكون الإحصان بالنكاح الفاسد، ولا الشبهة، وخالفهم أبو ثور، فقال: يكون محصنًا، واحتجّ بأن النكاح الفاسد يُعطى أحكام الصحيح في تقرير المهر، ووجوب العدّة، ولحوق الولد، وتحريم الربيبة. وأجيب بعموم "ادرؤوا الحدود".

قال: وأجمعوا على أنه لا يكون بمجرّد العقد محصنًا، واختلفوا إذا دخل بها، وادعى أنه لم يصبها، قال: حتى تقوم البيّنة، أو يوجد منه إقرار، أو يعلم له منها ولد، وعن بعض المالكيّة إذا زنى أحد الزوجين، واختلفا في الوطء لم يصدّق الزاني، ولو لم يمض لهما إلا ليلة، وأما قبل الزنا فلا يكون محصنًا، ولو أقام معها ما أقام.

واختلفوا إذا تزوّج الحرّ أمة، هل تحصنه؟ فقال الأكثر: نعم، وعن عطاء، والحسن، وقتادة، والثوريّ، والكوفيين، وأحمد، وإسحاق: لا. واختلفوا إذا تزوّج كتابيّة، فقال إبراهيم، وطاوس، والشعبيّ: لا تحصنه، وعن الحسن لا تحصنه حتى يطأها في

(1)

- المصدر المذكور ص 83.

ص: 226

الإسلام. أخرجهما ابن أبي شيبة. وعن جابر بن زيد، وابن المسيّب: تحصنه، وبه قال عطاء، وسعيد بن جبير. انتهى

(1)

.

الثالث: قال ابن التين: محلّ مشروعية سؤال المقرّ بالزنا عن ذلك إذا كان لم يُعلم أنه تزوّج تزويجًا صحيحًا، ودخل بها، فأما إذا عُلم إحصانه، فلا يُسأل عن ذلك، ثم حكى عن المالكيّة تفصيلًا فيما إذا عُلم أنه تزوّج، ولم يسمع منه إقرارٌ بالدخول، فقيل: من أقام مع الزوجة ليلة واحدةً لم يُقبل إنكاره، وقيل: أكثر من ذلك، وهل يُحدّ حدّ الثيّب أو البكر؟ الثاني أرجح، وكذا إذا اعترف الزوج بالإصابة، ثم قال: إنما اعترفت بذلك لأملك الرجعة، أو اعترفت المرأة، ثم قالت: إنما فعلت ذلك لأستكمل الصداق، فإن كلّا منهما يُحدّ حدّ البكر انتهى. وعند غيرهم يُرفع الحدّ أصلًا. ونقل الطحاويّ عن أصحابهم أن من قال لآخر: يا زاني، فصدّقه أنه يُجلد القائل، ولا يُحدّ المصدّق، وقال زُفَر: بل يُحدّ. قال الحافظ: وهو قول الجمهور، ورجّح الطحاويّ قول زفر، واستدلّ بحديث الباب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز:"أحقّ ما بلغني عنك أنك زنيت؟ قال: نعم، فحدّ". قال: وباتفاقهم على أن من قال لآخر: عليك ألف، فقال: صدقتَ، أنه يلزمه المال انتهى.

(2)

(قَالَ: نَعَمْ) زاد في حديث بُريدة قبل هذا: "أشربت خمرًا؟، قال: لا"، وفيه:"فقام رجل، فاستنكهه، فلم يجد منه ريحًا"، وزاد في رواية ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاريّ:"لعلّك قبّلتَ، أو غمزت -بمعجمة، وزاي- أو نظرت"، أي فأطلق على كلّ ذلك زنًا، ولكنه لا حدّ في ذلك، "قال: لا"، وفي حديث نُعيم: "فقال: هل ضاجعتها؟، قال: نعم، قال: فهل باشرتها؟، قال: نعم، قال: هل جامعتها؟ قال: نعم"، وفي حديث ابن عباس المذكور: "فقال: أنِكْتَها"، لا يَكنِي بفتح التحتانيّة، وسكون الكاف، من الكناية، أي أنه ذكر هذا اللفظ صريحًا، ولم يَكنِ عنه بلفظ آخر، كالجماع، ويحتمل أن يُجمع بأنه ذُكِر بعد ذكر الجماع لأن الجماع قد يُحمل على مجرّد الاجتماع. وفي حديث أبي هريرة المذكور: "أنِكْتَها؟، قال: نعم، قال: حتى دخل ذلك منك ذلك منها؟ قال: نعم، قال: كما يَغِيب الْمِرْوَد

(3)

في الْمُكْحُلَة، والرِّشَاء في البئر؟ قال: نعم، قال: أتدري ما الزنا؟ قال: نعم، قال: أتيتُ منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تُطهّرني، فأَمَر به، فرُجِم". وقَبْلَه عند النسائيّ

(1)

- "فتح" ج 14 ص 75 - 76 "كتاب الحدود" - "باب رجم المحصن".

(2)

- "فتح" ج 14 ص 99 "كتاب الحدود" رقم 6826.

(3)

-بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الواو، آخره دال مهملة: المِيلُ.

ص: 227

هنا: "هل أدخلته، وأخرجته؟ قال: نعم".

(فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) برجمه (فَرُجِمَ) بالبناء للمفعول، يقال: رَجمَتُهُ رَجْمًا، من باب قتل: ضَرَبته بالرَّجَم، وهو -بفتحتين-: الحِجَارة، والرَّجَمُ أيضًا القَبْر، سمي به لما يُجمَع عليه من الأحجار، والرُّجْمَة -بضم فسكون-: حِجَارةٌ مجموعة، والجمع رِجَامٌ، مثلُ بُرْمَة وبِرَام. أفاده في "المصباح".

زاد البخاريّ: قال ابن شهاب: فأخبرني من سمع جابر بن اللَّه: "فكنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلَّى" انتهى. وقد صرّح يونس، ومعمر في روايتهما بأن المبهم هو أبو سلمة بن عبد الرحمن.

وفي رواية معمر: "فأَمَرَ به، فرُجِم بالمصلّى"، وفي حديث أبي سعيد:"فما أوثقناه، ولا حفرنا له"، قال:"فرميناه بالعظام، والْمَدَر، والْخَزَف" بفتح المعجمة، والزاي، وبالفاء، وهي الآنية التي تُتّخذ من الطين المشويّ، وكأن المراد ما تكسّر منها (فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ) بذال معجمة، وفتح اللام، بعدها قاف: أي أقلقته، قال أهل اللغة: الذّلَق بالتحريك الْقَلَق، وممن ذكره الجوهريّ، وقال في "النهاية": أذلقته بلغت منه الجهد حتى قَلِقَ، يقال: أذلقه الشيء أجهده. وقال النوويّ: معنى أذلقته الحجارة: أصابته بحَدّها، ومنه انذلق: إذا صار له حدّ يَقطَع انتهى.

(فَرَّ) من باب ضرب، ولفظ البخاريّ:"هرب"، وهو بمعنى فَرَّ، وفي رواية "جَمَز" بجيم، وميم مفتوحتين، ئم زاي: أي وَثَب مُسرعًا، وليس بالشديد الْعَدْوِ، بل كالقَفْز، وفي حديث أبي سعيد "فاشتدّ، وأسند لنا خلفه".

(فَأُدْرِكَ، فَرُجِمَ) ببناء الفعلين للمجهول، وللبخاريّ:"فأدركناه بالحرّة، فرجمناه"(فَمَاتَ) وفي رواية: "حتى مات"، وفي حديث أبي سعيد: "حتى أتى عُرْضَ الْحَرَّة

(1)

فرميناه بجلاميد الحرّة، حتى سكت"، وعند الترمذيّ من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة في قصّة ماعزٍ: "فلما وجد مسّ الحجارة فرّ، يشتدّ حتى مرّ برجل معه لَحْيُ جَمَل، فضربه به، وضربه الناس حتى مات"، وعند أبي داود، والنسائيّ

(2)

من رواية يزيد بن نُعيم بن هَزَّال، عن أبيه في هذه القصّة: "فوجد مَسّ الحجارة، فخرج يشتدّ، فلقيه عبد اللَّه بن أُنيس، وقد عجز أصحابه، فنزع له بوظيف بعير

(3)

، فرماه، فقتله". وهذا ظاهره

(1)

- بضم العين المهملة: أي جانب الحرّة.

(2)

- "الكبرى" ج 4 ص 291 رقم 7205.

(3)

- "الوظيف" بمعجمة، وزان عظيم: خفّ البعير، وقيل: مستدقّ الذراع والساق من الإبل وغيرهما. 1 هـ "فتح" ج 14 ص 84.

ص: 228

يخالف ظاهر رواية أبي هريرة أنهم ضربوه معه، لكن يجمع بأن قوله في هذا:"فقتله"، أي كان سببًا في قتله. ووقع في رواية للطبرانيّ في هذه القصّة:، "فضَرَب ساقه، فصرعه، ورجموه حتى قتلوه ". وفي حديث أبي هريرة عند النسائيّ

(1)

: "فانتهى إلى أصل شجرة، فتوسّد يمينه حتى قُتل "، وللنسائيّ من طريق أبي مالك، عن رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"فذهبوا به إلى حائط، يبلُغ صدره، فذهب يَثِب، فرماه رجل، فأصاب أصل أذنه، فصرع، فقتله".

(فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْرًا) أي ذكره بجميل، ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم:"فما استغفر له، ولا سبّه"

(2)

، وفي حديث بُريدة:"فكان الناس فيه فرقتين: قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبةٌ أفضل من توبة ماعز، فلبثوا ثلاثًا، ثم جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: استغفروا لماعز بن مالك"، وفي حديث بُريدة أيضًا:"لقد تاب توبةً لو قسمت على أمّة لوسعتهم"، وفي حديث أبي هريرة عند النسائيّ:"لقد رأيته بين أنهار الجنّة يتغَمَّس"، قال: يعني يتنعّم

(3)

. وفي حديث جابر عند أبي عوانة: "فقد رأيته يتخضخض في أنهار الجنّة"، وفي حديث اللَّجْلاج عند أبي داود، والنسائيّ

(4)

: "ولا تقل له: خبيث، لهو عند اللَّه أطيب من ريح المسك"، وفي حديث أبي الفيل عند الترمذيّ:"ولا تشتمه"، وفي حديث أبي ذرّ عند أحمد:"قد غُفر له، وأدخل الجنّة".

(وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ) هكذا رَوَى محمد بن يحيى الذهليّ، وجماعة، عن عبد الرزّاق، قالوا:"ولم يصلّ عليه"، وخالفهم محمود بن غَيْلان، عن عبد الرّزّاق، فقال:"وصلّى عليه".

قال المنذريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "حاشية السنن": رواه ثمانية أنفس عن عبد الرّزّاق، فلم يذكروا قوله:"وصلّى عليه". قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: قد أخرجه أحمد في "مسنده" عن عبدالرّزّاق، ومسلم عن إسحاق بن راهويه، وأبو داود عن محمد ابن المتوكّل العَسْقَلَانيّ، وابن حبّان من طريقه، زاد أبو داود: والحسن بن عليّ الخلاّل، والترمذيّ عن الحسن بن عليّ المذكور، والنسائيّ، وابن الجارود عن محمد ابن يحيى الذُّهْليّ، زاد النسائيّ: ومحمد بن رافع، ونوح بن حبيب

(5)

، والإسماعيليّ،

(1)

- "الكبرى" ج 4 ص 289 رقم 7400.

(2)

- "الكبرى" ج 4 ص 288 رقم 7199.

(3)

- "الكبرى" ج 4 ص 289 رقم 7200.

(4)

- "الكبرى" ج 4 ص 283 رقم 7185.

(5)

- "الكبرى" ج 4 ص 280 رقم 7176.

ص: 229

والدارقطنيّ من طريق أحمد بن منصور الرَّمَاديّ، زاد الإسماعيليّ: ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه، وأخرجه أبو عوانة عن الدَّبَريّ، ومحمد بن سهل الصغانيّ، فهؤلاء أكثر من عشرة أنفس، خالفوا محمودًا، منهم من سكت عن الزيادة، ومنهم من صرّح بنفيها انتهى

(1)

.

ووقع في "صحيح البخاريّ" في آخر رواية محمود بن غيلان: ما نصّه: ولم يقل يونس، وابن جريج، عن الزهريّ:"فصلّى عليه ". سئل أبو عبد اللَّه هل قوله: "فصلى عليه" يصحّ، أو لا؟ قال: رواه معمر، قيل له: هل رواه غير معمر؟ قال: لا. انتهى.

قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: قوله: "وسئل أبو عبد اللَّه الخ" وقع هذا الكلام في رواية المستملي وحده عن الفربريّ، وأبو عبد اللَّه هو البخاريّ، وقد اعتُرض عليه في جزمه بأن معمرًا روى هذه الزيادة مع أن المنفرد بها إنما هو محمود بن غيلان، عن عبد الرّزّاق، وقد خالفه العدد الكثير من الحفّاظ، فصرّحوا بأنه لم يصلّ عليه، لكن ظهر لي أن البخاريّ قويت عنده رواية محمود بالشواهد، فقد أخرج عبد الرّزّاق أيضًا، وهو في السنن لأبي قرّة من وجه آخر، عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف في قصّة ماعز، قال:"فقيل: يا رسول اللَّه، أتصلي عليه؟، قال: لا، قال: فلما كان من الغد قال: صلّوا على صاحبكم، فصلى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والناس".

فهذا الخبر يَجمع بين الاختلاف، فتُحمل رواية النفي على أنه لم يصلّ عليه حين رُجم، ورواية الإثبات على أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه في اليوم الثاني.

وكذا طريق الجمع لما أخرجه أبو داود عن بُريدة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالصلاة على ماعز، ولم ينه عن الصلاة عليه"، ويتأيّد بما أخرجه مسلم من حديث عمران ابن حُصين رضي الله عنهما في قصّة الجُهَنيّة التي زنت، ورُجمت:"أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليها، فقال له عمر: أتصلي عليها، وقد زنت؟ فقال: لقد تابت توبةً، لو قُسمت بين سبعين لوسعتهم".

وحكى المنذريّ قول من حمل الصلاة في الخبر على الدعاء، ثم قال في قصّة الجهنيّة دلالة على توهين هذا الاحتمال، قال: وكذا أجاب النوويّ، فقال: إنه فاسد، لأن التأويل لا يُصار إليه إلا عند الاضطرار إليه، ولا اضطرار هنا.

وقال ابن العربيّ: لم يثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى على ماعز، قال: وأجاب من منع عن صلاته على الغامديّة، لكونها عرفت حكم الحدّ، وماعز إنما جاء مستفهمًا، قال: وهو

(1)

- "فتح" ج 14 ص 91 - 92.

ص: 230

جواب واه. وقيل: لأنه قتده غضبًا للَّه، وصلاته رحمة، فتنافيا، قال: وهذا فاسد، لأن الغضب انتهى، قال: ومحلّ الرحمة باق.

والجواب المرضيّ أن الإمام حيث ترك الصلاة على المحدود كان رَدْعًا لغيره. قال الحافظ: وتمامه أن يقال: وحيث صلّى عليه يكون هناك قرينة، لا يُحتاج معها إلى الرح، فيختلف حينئذ باختلاف الأشخاص انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -63/ 1956 - وفي "الكبرى" 63/ 2083 وفي 7174 و 7175 و 7176. وأخرجه (خ) 5270 و 5272 و 6814 و 6815 و 6820 و 6826 و 7167 (م) 1691 (د) 4435 (ت) 1429 (أحمد) 14053 (الدارميّ) 2315. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده

(2)

:

منها: ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو ترك الصلاة على المرجوم، وهذا يدلّ على أن رواية "وصلى عليه" غير صحيحة عنده (ومنها): أن فيه منقبةً عظيمةً لماعز ابن مالك صلى الله عليه وسلم، لأنه استمرّ على طلب إقامة الحدّ عليه، مع توبته، ليتمّ تطهيره، ولم يرجع عن إقراره مع أن الطبع البشريّ يقتضي أنه لا يستمرّ على الإقرار بما يقتضي إزهاق نفسه، فجاهد نفسه على ذلك، وقوي عليها، وأقرّ من غير اضطرار إلى إقامة ذلك عليه بالشهادة مع وضوح الطريق إلى سلامته من القتل بالتوبة، ولا يقال: لعلّه لم يعلم أن الحدّ بعد أن يُرفع للإمام يرتفع بالرجوع، لأنا نقول: كان له طريق أن يُبرز أمره في صورة الاستفتاء، فيعلم ما يخفى عليه من أحكام المسألة، ويَبني على ما يُجاب به، ويَعدل عن الإقرار إلى ذلك.

ومنها: أنه يستحب لمن وقع في معصية، ونَدِمَ أن يبادر إلى التوبة إلى اللَّه تعالى منها، ويستتر بستر اللَّه، ولا يذكر ذلك لأحد، وإن اتفق أنه أخبر لأحد، فيستحبّ أن يأمره بالتوبة، وسترِ ذلك عن الناس، ويستحبّ للمُخبَرِ أيضًا أن يستر ذلك عليه، ولا يفضحه، ولا يرفعه إلى الأمام، كما جرى لماعز مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، وقد أخرج

(1)

- "فتح" ج 14 ص 92 "كتاب الحدود" رقم الحديث 6820.

(2)

المراد فوائد الحديث برواياته المختلفة، لا خصوص سياق المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. فتنبَّه.

ص: 231

قصته معهما في "الموطإ"، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب، مرسلةً، ووصله أبو داود وغيره من رواية يزيد بن نُعيم بن هَزّال، عن أبيه، وفي القصّة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لِهَزّال:"لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك"، وفي "الموطإ"، عن يحيى بن سعيد: ذكرت هذا الحديث في مجلس، فيه يزيد بن نُعيم، فقال: هزّال جدّي، وهذا الحديث حقّ.

قال الباجيّ رحمه الله: المعنى خيرًا لك مما أمرته به من إظهار أمره، وكان ستره بأن يأمره بالتوبة والكتمان، كما أمره أبو بكر وعمر، وذكر الثوب مبالغة، أي لو لم تجد السبيل إلى ستره إلا بردائك ممن علم أمره

(1)

كان أفضل مما أشرت به عليه من الإظهار.

وباستحباب الستر جزم الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، فقال: أُحِبّ لمن أصاب ذنبًا، فستره اللَّه عليه، أن يستر على نفسه ويتوب، واحتجّ بقصّة ماعز مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.

وقال ابن العربيّ رحمه الله: هذا كلّه في غير المجاهر، فاما إذا كان متظاهرًا بالفاحشة، مجاهرًا، فإني أحبّ مكاشفته به، لينزجر هو وغيره.

وقد استُشكِل استحباب الستر مع ما وقع من الثناء على ماعز، والغامديّة.

وأجاب الحافظ العراقيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "شرح الترمذيّ" بأن الغامديّة كان ظهر بها الحَبَلُ، مع كونها غير ذات زوج، فتعذّر الاستتار، للاطلاع على ما يُشعر بالفاحشة، ومن ثَمّ قيّد بعضهم ترجيح الاستتار حيث لا يكون هناك ما يشعر بضدّه، وإن وُجد فالرفع إلى الإمام ليقيم عليه الحدّ أفضل انتهى.

قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: والذي يظهر أن الستر مستحبّ، والرفع لقصد المبالغة في التطهير أحبّ، والعلم عند اللَّه تعالى.

ومنها: التثبّت في إزهاق نفس المسلم، والمبالغة في صيانته لما وقع في هذه القصّة من ترديده، والإيماء إليه بالرجوع، والإشارة إلى قبول دعواه، إن ادّعى إكراهًا، أو نحو ذلك.

ومنها: مشروعيّة الإقرار بفعل الفاحشة عند الإمام، وفي المسجد، والتصريح فيه بما يُستحيى من التلفّظ به، من أنواع الرفَثِ في القول، من أجل الحاجة الملجئة لذلك.

ومنها: نداء الكبير بالصوت العالي. ومنها: إعراض الإمام عمن أقرّ بأمر محتمل

(1)

- هكذا عبارة "الفتح""ممن علم أمره"، ولعل الصواب "ممن لا يعلم أمره". فتأمل.

ص: 232

لإقامة الحدّ، لاحتمال أن يفسّره بما لا يوجب حدًّا، أو يرجع، واستفساره عن شروط ذلك ليُرتّب عليه مقتضاه. ومنها: أن إقرار المجنون لاغ. ومنها: استحباب التعريض للمقرّ بأن يرجع، وأنه إذا رجع قُبل. قال ابن العربيّ رحمه الله: وجاء عن مالك رحمه الله رواية أنه لا أثر لرجوعه، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أحقّ أن يُتّبع.

ومنها: أنه استُدلّ به على اشتراط الإقرار بالزنا أربعًا لظاهر قوله: "فلما شهد على نفسه أربع شهادات"، فإن فيه إشعارًا بأن العدد هو العلّة في تأخير إقامة الحدّ عليه، وإلا لأمر برجمه في أول أمره، ولأن في حديث ابن عبّاس:"قال لماعز: قد شهدت على نفسك أربع شهادات، اذهبوا به، فارجموه"، ويؤيّده القياس على عدد شهود الزنا دون غيره، وهو قول الكوفيين، والراجح عند الحنابلة، وزاد ابن أبي ليلى، فاشترط أن تتعدّد مجالس الإقرار، وهي رواية عن أبي حنيفة، وتمسّكوا بصورة الواقعة، لكن الروايات فيها اختلفت.

قال الحافظ: والذي يظهر أن المجالس تعددت، لكن لا بعدد الإقرار، فأكثرُ ما نقل في ذلك أنه أقرّ مرتين، ثم عاد من الغد، فأقرّ مرّتين، كما تقدّم بيانه. وتأول الجمهور بأن ذلك وقع في قصّة ماعز، وهي واقعة حال، فجاز أن يكون لزيادة الاستثبات. ويؤيّد هذا الجواب ما تقدّم في سياق حديث أبي هريرة، وما وقع عند مسلم في قصّة الغامديّة، حيث قالت لما جاءت:"طهرني، فقال: ويحك ارجعي، فاستغفري، قالت: أراك تريد أن تردّني كما رددت ماعزّا، إنها حبلى من الزنا"، فلم يؤخّر إقامة الحدّ عليها إلا لكونها حبلى، فلما وضعت أمر برجمها، ولم يستفسرها مرّة أخرى، ولا اعتبر تكرير إقرارها، ولا تعدد المجالس، وكذا وقع في قصّة العَسِيف حيث قال:"واغدُ يا أُنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت، فارجمها، وفيه: "فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها"، ولم يذكر تعدد الاعتراف، ولا المجالس. وأجابوا عن القياس المذكور بأن القتل لا يُقبل فيه إلا شاهدان، بخلاف سائر الأموال، فيقبل فيها شاهد وامرأتان، فكان قياس ذلك أن يُشترط الإقرار بالقتل مرّتين، وقد اتفقوا أنه يكفي فيه مرّة.

ومنها: أن الإمام لا يشترط أن يبدأ بالرجم فيمن أقرّ، وإن كان ذلك مستحبّا، لأن الإمام إذا بدأ مع كونه مأمورًا بالتثبّت، والاحتياط فيه، كان ذلك أدعى إلى الزجر عن التساهل في الحكم، وإلى الحضّ على التثبّت في الحكم، ولهذا يبدأ الشهود إذا ثبت الرجم بالبيّنة.

ومنها: جواز تفويض الإمام إقامة الحدّ لغيره. ومنها: أنه لا يشترط الحفر للمرجوم، لأنه لم يُذكر في حديث الباب، بل وقع التصريح في حديث أبي سعيد عند مسلم،

ص: 233

فقال: "فما حفرنا له، ولا أوثقناه"، ولكن وقع في حديث بُريدة عنده:"فحُفر له حَفيرة".

ويمكن الجمع بأن المنفيّ حفيرة لا يمكنه الوثوب منها، والمثبت عكسه، أو أنهم في أول الأمر لم يحفروا له، ثمّ لما فرّ فأدركوه حفروا له حفيرة، فانتصب لهم فيها حتى فرغوا منه.

وعند الشافعية لا يحفر للرجل، وفي وجه يتخيّر الإمام، وهو أرجح، لثبوته في قصة ماعز، فالمثبت مقدّم على النافي، وقد جُمِع بينهما بما دلّ على وجود حَفْر في الجملة، وفي المرأة أوجه، ثالثها الأصحّ إن ثبت زناها بالبينة استُحبّ، لا بالإقرار، وعن الأئمة الثلاثة في المشهور عنهم لا يحفر، وقال أبو يوسف، وأبو ثور: يحفر للرجل والمرأة.

ومنها: جواز تلقين المقرّ بما يوجب الحدّ ما يدفع به عنه الحدّ، وأن الحدّ لا يجب إلا بالإقرار الصريح، ومن ثمّ شُرط على من شهد بالزنا أن يقول: رأيته أَوْلَجَ ذكره في فرجها، أو ما أشبه ذلك، ولا يكفى أن يقول: أشهد أنه زنى. وثبت عن جماعة من الصحابة تلقين المقرّ بالحدّ، ومنهم من خصّ التلقين بمن يُظنّ به أنه يجهل حكم الزنا، وهو قول أبي ثور، وعند المالكية يُستثنى تلقين المشتهر بانتهاك الحرمات، ويجوز تلقين من عداه، وليس ذلك بشرط.

ومنها: أن فيه تركَ سَجْن من اعترف بالزنا في مدّة الاستثبات، وفي الحامل حتى تضع، وقيل: إن المدينة لم يكن بها حينئذ سِجْن، وإنما كان يُسلّم كلّ جان لوليه. وقال ابن العربي: إنما لم يأمر بسجنه، ولا التوكيل به، لأن رجوعه مقبول، فلا فائدة في ذلك، مع جواز الإعراض عنه إذا رجع.

ومنها: وجوب رجم الْمُحصَن، وقد أجمع الصحابة، وأئمة الأمصار على أن المحصن إذا زنى عامدًا عالمًا مختارًا، فعليه الرجم، ودفع ذلك الخوارج، وبعض المعتزلة، واعتلّوا بأن الرجم لم يُذكر في القرآن، وحكاه ابن العربيّ عن طائفة من أهل المغرب لقيهم، وهم من بقايا الخوارج، واحتجّ الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم، وكذلك الأئمة بعده، وقال علي رضي الله عنه بعد أن رجم امرأةً:"قد رجمتها بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، وثبت في "صحيح مسلم" عن عبادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خذوا عني، قد جعل اللَّه لهنّ سبيلاً، الثيّب بالثيّب الرجم .... ". وقد خطب عمر رضي الله عنه، فقال:"إن اللَّه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحقّ، وأنزل عليه القرآن، فكان مما أنزل اللَّه آية الرجم .... " أخرجه البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-.

ومنها: أنه يؤخذ من قوله: "هل أحصنت" وجوب الاستفسار عن الحال التي تختلف

ص: 234

الأحكام باختلافها. ومنها: أنه يؤخذ من قوله: "استنكهوه" أن إقرار السكران لا أثر له، والذين اعتبروه، قالوا: إن عقله زال بمعصية، ولا دلالة في قصّة ماعز، لاحتمال تقدّمها على تحريم الخمر، أو أن سكره وقع عن غير معصية.

ومنها: أن المقرّ بالزنا إذا أقرّ يُترك، فإن صرّح بالرجوع فذاك، وإلا اتُّبع ورُجِم.

وهو قول الشافعيّ، وأحمد، ودلالته من قصّة ماعز ظاهرة، وقد وقع في حديث نعيم بن هزّال:"هلا تركتموه، لعله يتوب، فيتوب اللَّه عليه". أخرجه أبو داود، وصححه الحاكم، وللترمذيّ نحوه من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم، وعند أبي داود من حديث بُريدة، قال:"كنا أصحابَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، نتحدّث أن ماعزًا، والغامديّة لو رجعا لم يطلبهما".

وعند المالكيّة في المشهور لا يُترك إذا هرب. وقيل: يشترط أن يؤخذ على الفور، فإن لم يؤخذ تُرك. وعن ابن عيينة: إن أخذ في الحال كُمِّل عليه الحدُّ، وإن أخذ بعد أيام تُرك. وعن أشهب إن ذَكَر عذرًا يُقبل ترك، وإلا فلا، ونقله القعنبيّ عن مالك، وحكى الكجيّ عنه قولين فيمن رجع إلى شبهة، ومنهم من قيّده بما بعد إقراره عند الحاكم، واحتجّوا بأن الذين رجموه حتى مات بعد أن هرب لم يُلزَمُوا بديته، فلو شُرع تَركُه لوجبت عليهم الدية. والجواب أنه لم يصرّح بالرجوع، ولم يقل أحد إن حدّ

الرجم يسقط بمجرّد الهروب، وقد عبّر في حديث بُريدة بقوله:"لعله يتوب".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح الأقوال عندي ما ذهب إليه الشافعيّ، وأحمد، من أنه إذا صرّح بالرجوع يُترك، لموافقته لظاهر قصّة ماعز رضي الله عنه هذه، واللَّه تعالى أعلم.

ومنها: أنه استُدلّ به على الاكتفاء بالرجم في حدّ من أُحصن من غير جلد.

هكذا قيل، وفيه نظر؛ لأنه ثبت الجمع بين الرجم والجلد، كما سيأتي في محله، إن شاء اللَّه تعالى.

ومنها: أن من وُجد منه ريح الخمر وجب عليه الحدّ، للأمر باستنكاه ماعز بعد أن قال له: أشربت خمرًا؟ قال القرطبيّ: وهو قول مالك، والشافعيّ، كذا قال. وقال المازريّ: استدلّ به بعضهم على أن طلاق السكران لا يقع. وتعقّبه عياض بأنه لا يلزم من درء الحدّ به أنه لا يقع طلاقه، لوجود تهمته على ما يظهر من عدم العقل، قال: ولم يختلف في غير الطافح

(1)

أن طلاقه لازم، قال: ومذهبنا إلزامه بجميع أحكام الصحيح، لأنه أدخل ذلك على نفسه، وهو حقيقة مذهب الشافعيّ، واستُثني من أكره، ومن شرب ما ظنّ أنه غير مسكر، ووافقه بعض متاخري المالكيّة. وقال النوويّ: الصحيح عندنا

(1)

- يقال: سكران طافح، أي ملأه الشراب.

ص: 235

صحّة إقرار السكران، ونفوذ أقواله فيما له، وعليه، قال: والسؤال عن شربه الخمر محمول عندنا على أنه لو كان سكران لم يُقَم عليه الحدّ، كذا أطلق، فأُلزِم التناقض، وليس كذلك، فإن مراده لم يقم عليه الحدّ لوجود الشبهة، كما تقدّم من كلام عياض.

ومن المذاهب الظريفة فيه قول الليث: يُعمل بأفعاله، ولا يُعمل بأقواله، لأنه يلتذّ بفعده، ويَشفِي غيظه، ولا يفقه أكثر ما يقول، وقد قال اللَّه تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة على المرجوم، ونحوه ممن قتل في حدّ:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله تعال: اختلفوا في الصلاة على من قُتل في حدّ، فروينا عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال لأولياء شُرَاحَة الهمدانيّة المرجومة: اصنعوا بها ما تصنعون بموتاكم. وقال جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما: صلِّ على من قال: لا إله إلا اللَّه.

وممن رأى أن يُصلَّى على جميع من أصيب في حدّ الأوزاعيّ، والشافعيّ، وإسحاق، وقال عطاء في ولد الزنا إذا استهلّ، وأمِّه، والمتلاعنين، والذي يُقاد منه، وعلى المرجوم، والذي يزاحف، فيفرّ، فيقتل، وعلى الذي يموت موتةَ سوءٍ: لا أدع الصلاة على من قال: لا إله إلا اللَّه، قال:{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]، قال: فمن يعلم أن هؤلاء من أصحاب الجحيم؟. وقال عمرو مثل قول عطاء، وقال النخعيّ: لم يكونوا يَحجبون الصلاة على أحد من أهل القبلة. وقال الأوزاعيّ: يصلّى على المرجوم، وعلى المصلوب إذا أُرسل من خشبة. وقال الشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي في المرجوم: يُغسل، ويكفّن، ويصلَّى عليه.

وقال الشافعيّ: لا تترك الصلاة على أحد ممن صلى القبلة بَرّا كان أو فاجرًا.

وفيه قول ثان: كان الزهريّ، يقول: يصلَّى على الذي يقاد منه في حدّ، إلا من أُقِيد منه في رجم، وقال مالك في الرجل يُقتل قَوَدًا: لا يُصلّي عليه الإمام، ويصلي عليه أهله إن شاءوا، أو غيرهم، وقال أيضًا: من قتله الإمام على حدّ من الحدود فلا يصلّي الإمام عليه، وليصلّ عليه أهله. وقال أحمد في ولد الزنا، والذي يقاد منه في حدّ: يصلّى عليه، إلا أن الإمام لا يصلي على قاتل نفس، ولا على غالّ. وقال إسحاق: يصلّى على كلٍّ. وكان الحسن البصريّ، يقول: في امرأة ماتت في نفاسها من الزنا: لا

(1)

- راجع "الفتح" ج 14 ص 84 - 88 "كتاب الحدود" رقم الحديث 6815 - 6816.

ص: 236

يُصلَّى عليها، ولا على ولدها. وقال يعقوب: من قُتل من هؤلاء المحاربين، أو صُلب لم يصلّ عليه، وإن كان يدّعي الإسلام، وكذلك الفئة الباغية لا يصلّى على قتلاها، وكذلك قال النعمان.

وقال ابن المنذر أيضًا: واختلفوا في الصلاة على ولد الزنا، فقال أكثر أهل العلم: يصلّى عليه، كذلك قال عطاء، والزهريّ، والنخعيّ، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق. وكان قتادة يقول: لا يصلى عليه. واختُلف فيه عن ابن عمر، فقيل: إنه صلى عليه، ورُوي عنه أنه كان لا يصلي عليه.

واختلفوا في الصلاة على من قتل نفسه، فكان الحسن، والنخعيّ، وقتادة يرون الصلاة عليه. وقال الأوزاعيّ: لا يصلى عليه، وذكر أن عمر بن عبد العزيز لم يُصلّ عليه.

قال ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: سَنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصلاة على المسلمين، ولم يستثن منهم أحدًا، وقد دخل في جملتهم الأخيار والأشرار، ومن قُتل في حدّ، ولا نعلم خبرًا أوجب استثناء أحد ممن ذكرناهم، فيُصَلَّى على من قتل نفسه، وعلى من أصيب في أيّ حدّ أصيب فيه، وعلى شارب الخمر، وولد الزنا، لا يُستثنَى منهم إلا من استثناه النبي صلى الله عليه وسلم من الشهداء الذين أكرمهم اللَّه بالشهادة، وقد ثبت أن نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى على من أصيب في حدّ -يعني الغامدية الآتية قريبًا- انتهى كلام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- باختصار

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- حسنٌ جدًّا، إلا أن للإمام خاصّةً أن لا يصلي على من يَحِيف

(2)

، وعلى من غَلّ، وعلى من عليه دين، وعلى من قتل نفسه، إن رأى ذلك، لأجل أن ينزجر الناس عن مثل أفعالهم، وسيأتي بيان أدلة كلّ ذلك في الأبواب التي سيذكرها المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فيها قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصوب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- "الأوسط" ج 5 ص 406 - 409.

(2)

- هذا على تقدير صحة حديثه، لكن سيأتي أن حديثه لا يصحّ، فتنبّه.

ص: 237

‌64 - الصَّلَاةُ عَلَى الْمَرْجُومِ

1957 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ، أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنِّي زَنَيْتُ، وَهِيَ حُبْلَى، فَدَفَعَهَا إِلَى وَلِيِّهَا، فَقَالَ أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ، فَائْتِنِي بِهَا، فَلَمَّا وَضَعَتْ جَاءَ بِهَا، فَأَمَرَ بِهَا، فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ رَجَمَهَا، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتُصَلِّى عَلَيْهَا، وَقَدْ زَنَتْ، فَقَالَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً، لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ

(1)

، مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً، أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ عز وجل»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدريّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(هشام) بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ البصريّ، ثقة ثبت، من كبار [7] 30/ 34.

4 -

(يحيى بن أبي كثير) اليماميّ البصريّ، ثقة ثبت يدلس ويرسل [5] 23/ 24.

5 -

(أبو قلابة) عبد اللَّه بن زيد بن عمرو البصريّ، ثقة فاضل كثير الإرسال [3] 103/ 322.

6 -

(أبو الْمُهَلَّب) عمرو بن معاوية، وقيل: غيره، الْجَرْميّ البصريّ، عمّ أبي قلابة، ثقة [2] 23/ 1236.

7 -

(عمران بن حُصين) بن عُبيد بن خَلَف، أبو نُجَيد - رضي اللَّه تعالى عنهما - 201/ 321. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. وأنه مسلسل بالبصريين، وأن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وفيه رواية الراوي، عن عمه. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- وفي نسخة: "بين سبعين".

ص: 238

شرح الحديث

(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ امْرَأَةَ مِنْ جُهَيْنَةَ) وفي رواية لمسلم: "جاءت امرأة من غامد، من الأزد"، قال القرطبيّ رحمه الله: كذا في هذه الرواية، وفي الرواية الأخرى:"من جُهينة"، ولا تباعد بين الروايتين، فإن غامدًا قبيلة من جهينة، قاله عياض، وأظنّ جهينة من الأزد، وبهذا تتفق الروايات انتهى. وكتب في هامش "المفهم": ما نصّه: جاء في حاشية (م ا): اسم الغامديّة سُبيعة، وقيل: أمية بنت فرح انتهى

(1)

.

(أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنَّي زَنَيْتُ) وفي رواية مسلم: فقالت: يا رسول اللَّه طهّرني، فقال:"ويحك ارجعي، فاستغفر اللَّه، وتوبي إليه، فقالت: أراك تريد أن تردّني كما رددت ماعز بن مالك، قال: "وما ذاكِ؟ "، قالت: إنها حبلى من الزنا، فقال: "آنت؟ "، قالت نعم، فقال لها: "حتى تضعي ما في بطنك

"

(وَهِيَ حُبْلَى) قال القرطبيّ رحمه الله: قولها هذا اعتراف منها من غير تكرار يُطلب منها، ففيه دليل على عدم اشتراطه على ما مرّ، وكونه صلى الله عليه وسلم لم يستفصلها كما استفصل ماعزًا، لأنها لم يظهر عليها ما يوجب ارتيابًا في قولها، ولا شكّا في حالها، بخلاف حال ماعز، فإنه ظهر عليه ما يشبه الجنون، فلذلك استفصله النبي صلى الله عليه وسلم، ليستثبت أمره، كما تقدّم. انتهى.

(فَدَفَعَهَا إِلَى وَلِيِّهَا) ولمسلم: "فدعا نبي اللَّه وليّها"(فَقَالَ أَحْسِنْ إِلَيْهَا) قال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: هذا الإحسان له سببان: أحدهما: الخوف عليها من أقاربها أن تحملهم الغيرة، ولحوق العار بهم أن يؤذوها، فأوصى بالإحسان إليها، تحذيرًا لهم من ذلك. والثاني: أمر به رحمة لها، إذ قد تابت، وحرص على الإحسان إليها، لما في نفوس الناس من النفرة من مثلها، وإسماعها الكلام المؤذي، ونحو ذلك، فنهَى عن هذا كلّه. انتهى

(2)

.

(فَإِذَا وَضَعَتْ) أي ولدت حملها (فَأْتِنِي بهِا) وفي لفظ لمسلم: "إما لا، فاذهبي حتى تلدي". قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "إما" بكسر الهمزة التي هي همزة، "إن" الشرطيّة، زيدت عليها "ما" المؤكّدة، بدليل دخول الفاء في جوابها، و"لا" التي بعدها للنفي، فكأنه قال: إن رأيت أن تستري على نفسك، وترجعي عن إقرارك، فافعلي، وإن لم تفعلي، فاذهبي حتى تلدي.

ثم اختلف العلماء فيها إذا وضعت، فقال مالك: إذا وضعت رُجمت، ولم يُنتظر بها

(1)

- راجع "المفهم" ج 5 ص 96 "كتاب الحدود": "باب إقامة الحدّ على من اعترف".

(2)

- "شرح مسلم" ج 11 ص 203. "كتاب الحدود".

ص: 239

إلى أن تفطم ولدها، وقاله أبو حنيفة، والشافعيّ في أحد قوليه، وهذا قول من لم تبلغه هذه الرواية التي فيها تأخير الغامديّة إلى أن فطمت ولدها. وقد روي عن مالك: أنها لا تُرجم حتى تجد من يكفل ولدها بعد الرضاع، وهو مشهور قول مالك، والشافعيّ، وقول أحمد، وإسحاق.

وقد اختلفت الروايات في رجمها متى كان؟، هل كان قبل فطام الولد، أو بعد فطامه، والأَوْلَى رواية من روى أنها لم تُرجم حتى فطمت ولدها، ووجدت من يكفله، لأنها مثبتة حكما زائدًا على الرواية الأخرى التي ليس فيها ذلك، ولمراعاة حقّ الولد، وإذا روعي حقّه، وهو جنين، فلا تُرجم لأجله بالإجماع، فمراعاته إذا خرج للوجود أولى انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى.

(فَلَمَّا وَضَعَتْ جَاءَ بِهَا) أي أتى بها ذلك الوليّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية لمسلم: "فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد وضعت الغامديّة، فقال: إذّا لا نرجمها، وندَعَ ولدها صغيرًا، ليس له من يُرضعه، فقام رجل من الأنصار، فقال: إليّ رضاعه، يا نبيّ اللَّه، قال: فرَجَمَها".

وفي رواية: "فلما ولدت أتته بالصبيّ في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: فاذهبي، فأرضعيه حتى تَفطميه، فلما فَطَمته أتته بالصبيّ، في يده كسرة خبز، فقالت: يا نبيّ اللَّه، قد فَطَمته، وقد أكل العام، فدَفَع الصبيّ إلى رجل من المسلمين

".

قال النووي رحمه الله: فهاتان الروايتان ظاهرهما الاختلاف، فإن الثانية صريحة في أن رجمها كان بعد فطامه، وأكله الخبز، والأولى ظاهرها أنه رجمها عقب الولادة. ويجب تأويل الأولى، وحملها على وفق الثانية، لأنها قضيّة واحدة، والروايتان صحيحتان، والثانية منهما صريحة، لا يمكن تأويلها، والأولى ليست صريحةً، فيتعيّن تأويل الأولى، ويكون قوله في الرواية الأولى:"قام رجل من الأنصار، فقال: إليّ رضاعُهُ"، إنما قاله بعد الفطام، وأراد بالرضاعة كفالته، وتربيته، وسماه رضاعًا مجازًا. انتهى

(1)

.

(فَأَمَرَ بِهَا) أي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بشكّ ثياب تلك المرأة عليها (فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا) قال النوويّ في شرح مسلم: هكذا هو في معظم النسخ، "فشُكَّت"، وفي بعضها:"فشُدَّت" بالدال بدل الكاف، وهو معنى الأول انتهى. ثم يحتمل أن يكون الفعل بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير المرأة، و"ثيابها" بالنصب على المفعولية، ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول، و"ثيابها مرفوع على أنه نائب الفاعل (ثُمَّ رَجَمَهَا) أي أمر برجمها، ففيه إسناد

(1)

- "شرح مسلم" ج 12 ص 201 "كتاب الحدود" رقم 4406 - 4407.

ص: 240

الفعل إلى السبب الآمر، ولفظ مسلم:"فأمر بها، فرُجمت"، وفي رواية لمسلم:"ثم أمر بها، فحُفر لها إلى صدرها، وأمر الناس، فرجموها، فيُقبِلُ خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها، فتَنَضَّح الدمُ على وجه خالد، فسبّها، فسمع نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم سبّه إياها، فقال: مَهْلًا يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبةً، لو تابها صاحب مكس لغُفر له"(ثُمَّ صَلّى، عَلَيهَا) أي صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم على تلك المرأة المرجومة، وهذا محلّ الترجمة حيث إنه يدلّ على مشروعية الصلاة على المرجوم.

قال القاضي عياض رحمه الله عند قوله: "ثم أمر بها، فصلّى عليها": هي بفتح الصاد، واللام عند جماهير رواة "صحيح مسلم"، قال: وعند الطبريّ بضم الصاد، قال: وكذا هو في رواية ابن أبي شيبة، وأبي داود، قال: وفي رواية لأبي داود: "ثم أمرهم أن يصلّوا عليها".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: معنى هذه الرواية: أمرهم أن يصلوا عليها معه، فلا تنافي رواية "ثم صلَّى عليها". واللَّه تعالى أعلم.

وقال النووي رحمه الله: وقد اختلف العلماء في الصلاة على المرجوم، فكرهها مالك، وأحمد للإمام، ولأهل الفضل، دون باقي الناس، ويصلي عليه غير الإمام، وأهل الفضل، وقال الشافعيّ وآخرون: يصلي عليه الإمام، وأهل الفضل وغيرهم، والخلاف بين الشافعيّ، ومالك إنما هو في الإمام، وأهل الفضل، وأما غيرهم فاتفقا على أنه يصلي، وبه قال جماهير العلماء، قالوا: فَيُصَلَّى على الفُسّاق، والمقتولين في الحدود، والمحاربة، وغيرهم. وقال الزهريّ: لا يُصلّي أحد على المرجوم، وقاتل نفسه. وقال قتادة: لا يصلى على ولد الزنا.

واحتجّ الجمهور بهذا الحديث، وفيه دلالة للشافعيّ أن الإمام، وأهل الفضل يصلون على المرجوم كما يصلي عليه غيرهم، وأجاب أصحاب مالك عنه بجوابين:

أحدهما: أنهم ضعفوا رواية الصلاة، لكون أكثر الرواة لم يذكروها.

والثاني: تأولوها على أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة، أو دعا، فسمي صلاةً على مقتضاها في اللغة. وهذان الجوابان فاسدان:

أما الأول: فإن هذه الزيادة ثابتة في "الصحيح"، وزيادة الثقة مقبولة. وأما الثاني: فهذا التأويل مردود، لأن التاويل إنما يُصار إليه إذا اضطرت الأدلّة الشرعية إلى ارتكابه، وليس هنا شيء من ذلك، فوجب حمله على ظاهره، واللَّه أعلم انتهى كلام النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- (1) وقد تقدّم زيادة تحقيق لبيان اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة على المرجوم ونحوه في الباب الماضي مُستوفًى، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

(1)

- "شرح مسلم" ج 11 ص 203 "كتاب الحدود" رقم الحديث 4408.

ص: 241

(فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتُصَلِّي عَلَيْهَا، وَقَدْ زَنَتْ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي كيف تصلي عليها، والحال أنها زانية، وهذا ظنّ من عمر رضي الله عنه أن فعل الفاحشة مما يمنع الصلاة على الميت (فَقَالَ:"لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً) التنوين للتعظيم والتكثير، أي توبة عظيمة كثيرة (لَوْ قُسِمَتْ عَلَى سَبْعِينَ) وفي نسخة: "بين سبيعين" (مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لَوَسِعَتْهُمْ) أي لكفتهم (وَهَلْ وَجَدْتَ) بتاء الخطاب؛ والخطاب لعمر رضي الله عنه (تَوْبَةَ، أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بنَفْسِهَا لِلَّهِ عز وجل) من الْجُود، كأنها تصدّقت بالنفس للَّه، حيث أقرّت للَّه بما أدّى إلىَ الموت، يعني أنها بذلت نفسها في مرضاة اللَّه تعالى.

وفي قصّة خالد المتقدّمة: "لقد تابت توبةً، لو تابها صاحب مَكْسٍ لغُفِر له". قال القرطبيّ رحمه الله: صاحب المكس: هو الذي يأخذ من الناس ما لا يلزمهم شرعًا من الوظائف المالية بالقهر والجَبْر، ولا شكّ في أنه من أعظم الذنوب، وأكبرها، وأفحشها، فإنه غصبٌ، وظلمٌ، وعسفٌ على الناس، وإشاعة للمنكر، وعملٌ به، ودوامٌ عليه، ومع ذلك كلّه إن تاب من ذلك، ورَدَّ المظالم إلى أربابها صحّت توبته، وقُبلت، لكنّه بعيد أن يتخلّص من ذلك، لكثرة الحقوق، وانتشارها في الناس، وعدم تعيين المظلومين، انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عمران بن حصين - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -64/ 1957 - وفي "الكبرى" 64/ 2084 و15/ 7188 و 7189 في كتاب الرجم. وأخرجه (م) 1696 (د) 4440 (ت) 1435 (أحمد) 19360 و 19402 و 19424 (الدارمّي)2325. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو مشروعيّة الصلاة على المرجوم.

ومنها: أن المرأة ترجم إذا زنت، وهي محصنة، كما يُرجم الرجل، وهذا الحديث محمول على أنها كانت محصنة، لأن الأحاديث الصحيحة، والإجماع متطابقان على أنه

(2)

(1)

- "المفهم" ج 5 ص 99 - 100 "كتاب الحدود".

ص: 242

لا يُرجم غير المحصن. ومنها: أن الحبلى لا تُرجم حتى تضع حملها، سواء كان حملها من زنا أو غيره، وهذا مجمع عليه، لئلا يُقتَل جنينُها، وكذا لو كان حدّها الجلد، وهي حامل لم تُجلد بالإجماع حتى تضع، وكذا من وجب عليها قصاص، وهي حامل لا يُقتصّ منها حتى تضع، وهذا مجمع عليه أيضًا، ثم لا ترجم الحامل الزانية، ولا يقتصّ منها بعد وضعها حتى تسقي ولدها اللِّبَأ

(1)

، ويستغني بلبن غيرها. قاله النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على أن الجنين، وإن كان مِن زنى له حرمة، وأن الحامل لا تحُدّ حتى تضع حملها، وهذا لا خلاف فيه، إلا شيء روي عن أبي حنيفة على خلاف عنه فيه. قاله في "المفهم".

ومنها: أن توبة الزاني لا تُسقط عنه حدِّ الزنا، وكذا حكم السرقة، والشرب، قال النوويّ رحمه الله: هذا أصحّ القولين في مذهبنا، ومذهب مالك، والثاني أنها تُسقط ذلك، وأما توبة المحارب قبل القدرة عليه، فتسقط حدّ المحاربة بلا خلاف عندنا، وعند ابن عباس وغيره لا تسقط انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: الرأي الأول هو الحقّ، لظاهر قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المائدة: 34]. واللَّه تعالى أعلم.

ومنها: استحباب جمع أثواب المرجومة عليها، وشدّها بحيث لا تنكشف عورتها في تقلّبها، وتكرارِ اضطرابها. قال النوويّ رحمه الله: واتفق العلماء على أنه لا ترجم إلا قاعدة، وأما الرجل فجمهورهم على أنه يُرجم قائمًا، وقال مالك: قاعدًا، وقال غيره: يخير الإمام بينهما انتهى.

ومنها: أن في رواية "فأمر الناسَ، فرجموها"، وكذا قوله في قصّة ماعز:"أمرنا أن نرجمه" دلالة لمذهب الشافعيّ، ومالك، وموافقيهما أنه لا يلزم الإمام حضور الرجم، وكذا لو ثبت بشهود لم يلزمه الحضور. وقال أبو حنيفة، وأحمد: يحضر الإمام مطلقًا، وكذا الشهود، إن ثبت ببيّنة، ويبدأ الإمام بالرجم، إن ثبت بالإقرار، وإن ثبت بالشهود بدأ الشهود.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول الأوّل هو الراجح، لثبوت أنه صلى الله عليه وسلم لم يحضر الرجم، بل أمر الصحابة به.

وأما ما وقع في رواية أبي داود: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخذ حصاة مثل الحمّصة، فرماها به، فقال القرطبيّ: هي رواية شاذّة مخالفة للمشهور من حديث الغامديّة انتهى. واللَّه

(1)

- اللّبَأ وزان عِنَبٍ: أول اللبن عند الولادة. اهـ "المصباح".

ص: 243

تعالى أعلم.

ومنها: أن الحدود لا يبطلها طول الزمان، وهو مذهب الجمهور، وقد شذّ بعضهم، فقال: إذا تطاول الزمان على الحدّ بطل. قاله أبو حنيفة فى الشهادة بالزنى، والسرقة القديمين، وهو قول لا أصل له. قاله القرطبيّ.

ومنها: أنه لا يُسبّ من أقيم عليه الحدّ، ولا يؤذى بقَذِع الكلام، فإنه صلى الله عليه وسلم قال لخالد ابن الوليد لما سبّ الغامديّة رضي الله عنها:"مهلاً يا خالد، فوالذي نفسى بيده، لقد تابت توبهّ لو تابها صاحب مَكْس لغُفِر له".

وقد أخرج المصنّف رحمه الله في "الكبرى" بسند حسن قصّةَ ماعز بن مالك رضي الله عنه، وفيه: فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُرجم، فرُجم، فسمع رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظروا إلى هذا الذي ستر اللَّه عليه، فلم تَدَعه نفسه حتى رُجِم رَجْمَ الكلب، فسكت عنهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم سار، فمرّ بجيفة حمار شائل برجله، فقال:"أين فلان، وفلان؟ "، فقالا: نحن ذا يا رسول اللَّه قال لهما: "كُلَا من جيفة هذا الحمار"، فقالا: يا رسول اللَّه غفر اللَّه لك مَن يأكل هذا؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما نِلتما من عِرض هذا آنفًا لشرّ من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنّة"

(1)

.

وبقية فوائد الحديث تقدمت في الباب الماضي، وكذا بيان المذاهب في حكم الصلاة على المرجوم، فراجعها تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- انظر "السنن الكبرى" ج 5 ص 277 رقم الحديث 7165.

ص: 244

‌65 - الصَّلَاةُ عَلَى مَنْ يَحِيفُ فِي وَصِيَّتِهِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بهذا بيان مشروعية الصلاة على من جار في وصيّته، ووجه استدلاله بحديث الباب، أنه صلى الله عليه وسلم همّ بترك الصلاة عليه، ولم يفعل، فدلّ على أن الصلاة عليه مشروعة، لكن يدلّ همه على أن للإمام أن يترك الصلاة عليه، زجرًا لغيره، واللَّه تعالى أعلم.

ومعنى "يَحيف": يجور، ويظلم، قال الفيّوميّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: حافَ، يَحِيفُ، حَيْفًا، من باب باعَ: جارَ، وظلم، وسواء كان حاكمًا، أو غير حاكم، فهو حائفٌ، وجمعه حافَةٌ، وحُيَّفٌ انتهى بإيضاح.

ولفظ "الكبرى": "الصلاة على من جَنِفَ في وصيّته" -بجيم، فنون- وهو بمعنى حاف، يقال: جَنِفَ، جَنَفًا، من باب تَعِبَ: ظلم، وأجنف بالألف مثله، وقوله تعالى:{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} الآية [المائدة: 3] أي غير متمايل متعمّد. قاله في "المصباح". وأشار في هامش النسخة الهندية أنه وقع في بعض النسخ: "حيّف"، والظاهر أنها تصحيف، وفي أخرى:"جنف" وهي صحيحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1958 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَهُوَ ابْنُ زَاذَانَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَجُلاً، أَعْتَقَ سِتَّةً مَمْلُوكِينَ لَهُ، عِنْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ:"لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أُصَلِّىَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَا مَمْلُوكِيهِ، فَجَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً".

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عليّ بن حُجر) المروزيّ، ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 13.

2 -

(هُشيم) بن بَشير، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7] 88/ 109.

3 -

(منصور بن زاذان) الثقفيّ، أبو المغيرة الواسطيّ، ثقة ثبت عابد [6] 5/ 475.

4 -

(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصريّ الإمام الحجة الثبت الفقيه، يدلّس ويرسل، رأس الطبقة [3] 32/ 36.

والصحابي تقدم في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 245

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. ومنها: أن فيه واسطيين: هشيمٌ ومنصور، وبصريين: الحسن وعمران، وشيخه مروزي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَجُلاً) لم أر من سمّاه، وفي رواية لمسلم: "أن رجلاً من الأنصار أوصى عند موته، فأعتق ستة مملوكين

" (أَعْتَقَ سِتَّةً مَمْلُوكِينَ لَهُ) وفي رواية أبي داود: "ستة أعبُد له

" (عِنْدَ مَوْتِهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره أنه نجّز عتقهم في مرض موته، وفي الرواية الأخرى: أنه أوصى بعتقهم، وهذا اضطرابٌ لأن القضيّة واحدةٌ، ويرتفع ذلك بأن بعض الرواة تجوّز في لفظ "أوصى" لما نُفِّذ عتقهم بعد موت سيّدهم في ثلثه، لأنه قد تساوى في هذه الصورة حكم تنجيز العتق، وحكم الوصيّة به؛ إذ كلاهما يُخرَج من الثلث، وإنما كان يظهر الفرق بينهما لو لم يمت، فإنه كان يكون له الرجوع عن الوصيّة بالعتق، دون تنجيز العتق، فإنه إذا صحّ لزمه، إما عتق جميعهم، وإما عتق ثلثهم، إذ ليس له مال غيرهم على الخلاف الذي في ذلك لأهل العلم انتهى

(1)

.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ) بالرفع صفة لـ "مال"(فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ) أي من أجل عتق كل عبيده، لأنه أخرج كلّ ماله عن الورثة، ومنعهم حقوقهم منه، ففيه دليل على أن المريض محجور عليه في ماله، وأن الْمُدَبَّرَ، والوَصَايَا إنما تخرج من الثلث، وأن الوصيّة إذا مَنَعَ من تنفيذها على وجهها مانعٌ شرعيّ استحالت إلى الثلث، كما يقول مالك رحمه الله، قاله القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-.

(وَقَالَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ) أي قصدتُ، قال في "المصباح": هَمَمتُ بالشيء، هَمًّا، من باب قتل: إذا اردته، ولم تفعله، وفي الحديث: "لقد هَمَمتُ أن أنَهى عن الْغِيلَة

" أي عن إتيان المرضع انتهى (أَنْ لَا أُصَلَّيَ عَلَيْهِ) وفي رواية لأبي داود: "لو شَهِدته قبل أن يُدفن، لم يُدفن في مقابر المسلمين".

وهذا محلّ الترجمة، حيث إن همه صلى الله عليه وسلم على ترك الصلاة عليه يدلّ على أن ترك الصلاة على من حاف في الوصيّة مشروعة، زجرًا لأمثاله لئلا يرتكبوا مثل فعله.

قال النووي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وهذا محمول على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده كان يترك

(1)

- "المفهم" ج 4 ص 356 "كتاب العتق"، "باب فيمن أعتق عبيده عند موته".

ص: 246

الصلاة عليه تغليظًا، وزجرًا لغيره على مثل فعله، وأما أصل الصلاة عليه فلا بدّ من وجودها من بعض الصحابة انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن قوله في رواية أبي داود المذكورة: "لم يُدفن في مقابر المسلمين" تدلّ على عدم الصلاة عليه أصلاً، اللَّهمّ إلا إذا قلنا: إن عدم دفنه في مقابر المسلمين للزجر لا ينافي أن يُصلّيَ عليه بعض الناس، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ دَعَا مَمْلُوكِيهِ، فَجَزَّأَهُمْ) بتشديد الزاي، وتخفيفها لغتان مشهورتان، ذكرهما ابن السّكّيت، وغيره، ومعناه قسمهم. قاله النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- (ثَلَاَثَةَ أَجْزَاءٍ) منصوب على أنه مفعول مطلق لـ"جزأ"، مبيّن لعدده.

قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره أنه اعتبر عدد أشخاصهم، دون قيمتهم، وإنما فعل ذلك لتساويهم في القيمة والعدد، فلو اختلفت قيمتهم لم يكن بدّ من تعديلهم بالقيمة، مخافة أن يكون ثلثهم في العدد أكثر من ثلث الميت في القيمة، ولو اختلفوا في القيمة، أو في العدد لجزّئوا بالقيمة، ولعتق منهم ما يُخرجه السهم، وإن كان أقلّ من ثلث العدد، وكيفيّة العمل في ذلك مفصّلة في كتب أئمتنا انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله من أن قيمتهم كانت متساوية محلّ نظر، إذ ليس في الحديث ما يدلّ عليه، فتأمل. واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ) يقال: أقرعتُ بينهم، إقراعًا: هَيَّأْتهم للقُرْعَة على شيء. قاله في "المصباح".

(فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ) أي أقرّ عتق اثنين من الستة، وهما اللذان خرجت قُرْعتاهما.

وذكر الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- عن الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أن القُرْعة أن تُكتب رِقاعٌ، ثم تكتب أسماء العبيد، ثم يُبندَقَ بَنَادقُ من طين، ثم يُجعل في كلّ بُندُقة رقعة، وبجزأ الرقيق

(3)

أثلاثًا، ثم يؤمر رجل منهم، لم يحضر الرقاع، فيخرج رقعة على كلّ جزء.

وإن لم يستووا في القيمة عدّلوا، وضُمَّ قليل الثمن إلى كثير الثمن، وجعلوه ثلاثة أجزاء، قلّوا أو كثروا، إلا أن يكونوا عبدين، فإن وقع العتق على جزء فيه عدّة رقيق، أقلّ من الثلث، أعيدت الرقعة بين السهمين الباقيين، فأيهم وقع عليه أعتق منه باقي

(1)

- "شرح مسلم" ج 11 ص 140 "كتاب العتق" -"باب جواز بيع المدبّر".

(2)

- "المفهم" ج 4 ص 356 "كتاب العتق".

(3)

- والذي في نسخة "الاستذكار"، "وجري الرقيق"، لكن الظاهر أن صوابه "ويُجزّأ الرقيق الخ". واللَّه أعلم.

ص: 247

الثلث انتهى

(1)

(وَأَرَقَّ أَرْبَعَةَ) أي أبقى الأربعة الباقين في رقّهم، وهم الذين لم تُصبهم القُرعة.

قال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وفي هذا الحديث دلالة لمذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وداود، وابن جرير، والجمهور في إثبات القرعة في العتق، ونحوه، وأنه إذا أعتق عبيدًا في مرض موته، أو أوصى بعتقهم، ولا يخرجون من الثلث أقرع بينهم، فيعتق ثلثهم بالقرعة. وقال أبو حنيفة: القرعة باطلة، لا مدخل لها في ذلك، بل يعتق من كلّ واحد قسطه، ويُستسعى في الباقي، لأنها خطر. وهذا مردود بهذا الحديث الصحيح، وأحاديث كثيرة.

وقوله: "فأعتق اثنين، وأرقّ أربعة"، صريح في الرّدّ على أبي حنيفة، وقد قال بقول أبي حنيفة الشعبيّ، والنخعيّ، وشُريحٌ، والحسن، وحكي أيضًا عن ابن المسيّب انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: هذا نصّ في صحّة اعتبار القرعة شرعًا، وهو حجة للجمهور: مالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق على أبي حنيفة حيث يقول: إنه يَعتِق من كلّ واحد منهم ثلثه، ولا يُقرع بينهم، وهذا مخالف لنصّ الحديث، ولا حجّة له بأن يقول: إن هذا الحديث مخالف للقياس، فلا يُعمل به، لأنا قد أوضحنا في الأصول: أن القياس في مقابلة النصّ فاسد الوضع، ولو سلّمنا أنه ليس بفاسد الوضع لكانا كالدليلين المتعارضين، وحينئذ يكون الأخذ بالحديث أولى، لكثرة الاحتمالات في القياس، وقلّتها في الحديث، كما بيّنّاه في الأصول انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- من فساد وضع القياس عند معارضته للحديث الصحيح هو الحقّ الحقيق بالقبول، وما عداه باطل مردود مخذول.

وقال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ردّ الكوفيّون السنّة المأثورة في هذا الباب إما بأن لم يبلغهم، أو بأن لم تصحّ عنهم، ومن أصل أبي حنيفة، وأصحابه عرض أخبار الآحاد على الأصول المجتمع عليها، أو المشهورة المنتشرة، والحجة قائمة على من ذهب مذهبهم بالحديث الصحيح الجامع في هذا الباب، وليس الجهل بالسنّة، ولا الجهل بصحّتها علّة يصحّ لعاقل الاحتجاج بها، وقد أنكرها قبلهم شيخهم

(1)

- "الاستذكار" ج 23 ص 142 - 143. "كتاب العتق والولاء"، "باب من أعتق رقيقا لا يملك مالاً غيرهم".

(2)

- "شرح مسلم" ج 11 ص 140 "كتاب العتق".

ص: 248

حمّاد بن أبي سليمان. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الحافظ أبو عمر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: هو الحقّ الذي أوجبه اللَّه تعالى على كلّ مكلّف أن يقبله، في آيات كثيرة، وأحاديث صحاح مشهورة.

وكم ردّ هؤلاء الناس أحاديث كثيرة صحيحة، مما في "الصحيحين" وغيرهما بدعوى أنها أخبار آحاد، عارضت القياس، فيا عجبا، كيف تُرَدُّ أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصحيحة؟ التي أوجب اللَّه تعالى قبولها، والانقياد لها، حيث قال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية [الحشر: 7]، ونَفَى الإيمان عمن لم يُحَكمها في القليل والكثير، حيث قال:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وتوعّد من خالفها بالفتنة، والعذاب الأليم، حيث قال:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] بالقياس المستنبط من عقول غير المعصومين، إن هذا لهو العجب العُجَاب، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال:

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا

تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]، اللَّهم أرنا الحقّ حقّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، آمين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عمران بن حصين - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -65/ 1958 - وفي "الكبرى" 65/ 2085. وأخرجه (م) 1668 (د) 3958 (ت) 1364 (ق) 2345 (أحمد) 19332 و 19344 و 19365 و 19449 و 19499 (مالك في الموطإ) 1506. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

(1)

- "الاستذكار" ج 23 ص 144 - 145. "كتاب العتق والولاء".

ص: 249

منها: ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو بيان حكم الصلاة على من يَحِيف في وصيّته، وقد تبيّن حكمه من الحديث الذي أورده في الباب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم همّ بترك الصلاة عليه، فدلّ على جواز ترك الإمام الصلاةَ عليه، زجرًا لغيره أن لا يفعل مثل فعله، وأما أصل الصلاة على من ارتكب ذنبًا، فقد تقدم الكلام عليه، واختلاف مذاهب أهل العلم فيه في "باب ترك الصلاة على المرجوم"، فراجعها تستفد.

ومنها: تحريم الحيف في الوصية. ومنها: أن العتق في مرض الموت جائز، وأنه يعتبر من الثلث.

قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: وفيه دليل على أن أفعال المريض كلها، من عتق، وهبة، وعطيّة كالوصيّة، لا يجوز فيها أكثر من الثلث، وقد خالف في ذلك قوم، زعموا أن أفعال المريض في رأس ماله، كأفعال الصحيح، ولم يجعلوا ذلك كالوصايا (ومنها): أن القرعة مشروعة في الشرع، خلافا لمن نفى ذلك، وهو قول ضعيف جدًّا. كما تقدّم. ومنها: إبطال السعاية التي زعمها أهل الكوفة، كما تقدّم. ومنها: ما قاله ابن عبد البرّ أيضًا: فيه دليل على أن الوصيّة لغير الوالدين والأقربين جائزة، لأن عتق العبيد في المرض وصيّة لهم، ومعلوم أنهم لم يكونوا والدين للمعتق لهم، ولا بالأقربين له، وقد قال طائفة من التابعين: إن الوصيّة لا تجوز إلا للأقربين غير الوارثين. انتهى كلامه بتصرّف

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌66 - الصَّلَاةُ عَلَى مَنْ غَلَّ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرضه بهذه الترجمة بيان مشروعيّة الصلاة على الغالّ، ووجه استدلاله بحديث الباب، أنه صلى الله عليه وسلم قال:"صلّوا على صاحبكم"، فإنه يدلّ على أن الغال إذا مات ممن تُشرَع الصلاة عليه، وأما تركه صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه، فمن باب الزجر لغيره.

هذا كلّه على تقدير صحّة حديث الباب، وستعلم الكلام عليه قريبًا، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- المصدر المذكور.

ص: 250

والغلول بالضم: هو الخيانة، يقال: غَلَّ، غُلُولاً، من باب قَعَدَ، وأغلّ بالألف: خان في المغنم، وغيره، وقال ابن السِّكِّيت: لم نسمع في المغنم إلا غَلَّ، ثلاثيًّا، وهو متعدّ في الأصل، لكن أُميت مفعوله، فلم يُنطَق به. قاله في "المصباح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1959 -

أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، إِنَّهُ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ، فَوَجَدْنَا فِيهِ خَرَزًا، مِنْ خَرَزِ يَهُودَ، مَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبيد اللَّه بن سعيد) أبو قُدَامة السرخسيّ، نزيل نيسابور ثقة مأمون سنيّ [10] 15/ 15.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطّان البصريّ الإمام الثبت الحجة [9] 4/ 4.

3 -

(يحيى بن سعيد الأنصاريّ) المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5] 22/ 23.

4 -

(محمد بن يحيى بن حَبَّان) بن منقذ الأنصاريّ المدنيّ، ثقة فقيه [4] 22/ 23.

5 -

(أبو عمرة) مولى زيد بن خالد الجُهَنيّ، مقبول [3].

روى عن مولاه حديث الغلول فقط، وعنه محمد بن يحيى بن حَبّان. روى له أبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنف هذا الحديث فقط.

6 -

(زيد بن خالد) الجهنيّ المدنيّ، الصحابيّ المشهور - رضي اللَّه تعالى عنه -، مات بالكوفة سنة (68) أو (70) وله (85) سنة 8/ 756. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير أبي عمرة. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبي عمرة) هذا هو الصواب، وقد روى هذا الحديث مالك، فاختلف الرواة عليه، فقال القعنبيّ، وابن القاسم، ومعن بن عيسى، وأبو مصعب، وسعيد بن كثير بن عُفير، وأكثر النسخ عن ابن بكير، كلهم قالوا: عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حنان، عن ابن أبي عمرة، بزيادة "ابن"، وقال ابن وهب، ومصعبٌ

ص: 251

الزبيريّ، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبّان، "عن أبي عمرة"

(1)

.

وهذا هو الصواب، لأنه رواه هكذا الحفّاظ، يحيى القطّان، وحماد بن زيد، وابن جريج، وابن عيينة، كلهم عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن محمد بن يحيى بن حبّان، "عن أبي عمرة"، كما رواه ابن وهب، ومصعب الزبيريّ، عن مالك. واللَّه تعالى أعلم.

(عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ) الجهنيّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ بِخَيْبَرَ) أي في غزوة خيبر المشهورة، ووقع في "الموطإ" روايةِ يحيى بن يحيى الليثيّ "يوم حُنين"، وهو وَهَمٌ، كما نبّه عليه الحافظ أبو عمر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أبي داود:"أن رجلا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، توفّي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ) زاد في رواية أبي داود: "فتغيّرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غلّ في سبيل اللَّه

".

(إِنهُّ غَلَّ) من باب قَعَد (فِي سَبيلِ اللَّه) أي خان في الغنيمة التي حصلت من جهاد الكفّار لإعلاء كلمة اللَّه قبل القسمة، فلا أصلي عليه؛ لينزجر غيره عن ارتكاب الغلول.

قال الحافظ أبو عمر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وإنما قوله صلى الله عليه وسلم: "صلَّوا على صاحبكم" بأن ذلك كان كالتشديد لغير الميت، من أجل أن الميت قد غَلّ لينتهي الناس عن الغلول؛ لما رأوا من ترك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه بنفسه، وكانت صلاته على من صلّى عليه رحمةً، فلهذا لم يُصلّ عليه، واللَّه أعلم.

وفي قوله: "صلّوا على صاحبكم" دليل على أن الذنوب لا تخُرج المذنب عن الإيمان؟ لأنه لو كفر بغلوله -كما زعمت الخوارج- لم يكن ليأمر بالصلاة عليه؛ لأن الكافر لا يُصلي عليه المسلمون، لا أهل الفضل، ولا غيرهم.

وأما ترك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه، وأمر غيره بالصلاة عليه؛ لأنه كان لا يُصلي على من ظهرت منه كبيرة؛ ليرتدع الناس عن المعاصي، وارتكاب الكبائر، ألا ترى أنه لم يصلّ على ماعز الأسلميّ

(2)

، وأمر غيره بالصلاة عليه، ولم يصلّ على الذي قتل نفسه، ولا على كثير ممن أقام عليه الحدُود؛ ليكون ذلك زاجرًا لمن خلفهم، ونحو ذلك، وهذا أصل في أن لا يُصلي الإمام، وأئمّة الدين على الْمُحْدِثِينَ، ولكنّهم لا يُمنَعُونَ الصلاةَ عليهم، بل يأمر بذلك غيره، كما قال صلى الله عليه وسلم:"صلّوا على صاحبكم" انتهى كلام الحافظ ابن عبد البرّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(3)

.

(1)

- راجع "الاستذكار" ج 14 ص 193 - 194. "كتاب الجهاد" -"باب ما جاء في الغلول".

(2)

تقدّم أن الراجح أنه صلى الله عليه وسلم صَلَّى على ماعز رضي الله عنه، فتنبَّه.

(3)

- "الاستذكار" ج 14 ص 194 - 195 كتاب الجهاد -باب ما جاء في الغلول.

ص: 252

(فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ) يقال: فَتَشتُ الشيءَ -بالتخفيف- فَتْشًا، من باب ضرب: تصَفّحتُهُ، وفَتَشتُ عنه: سألتُ واستقصيت في الطلب، وفَتَّشتُ الثوب -بالتشديد- هو الفاشي في الاستعمال. أفاده في "المصباح" (فَوَجَدْنَا) وفي نسخة:"فوجدوا"(فِيهِ خَرَزًا) -بفتحتين-: ما يَنتظم من جوهر، ولؤلؤ، وغيرهما (مِنْ خَرَزِ يَهُودَ) وفي نسخة:"اليهود"(مَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ) يعني أنه شيء قليل القيمة بحيث لا يبلغ قيمة درهين. وقال السنديّ رحمه الله: أي قدرًا، يساوي درهمين، أو كلمة "ما" نافية انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد بالوجه الأول أن "ما" موصولة، وهو غير صحيح، لأنه تردّه رواية أبي داود بلفظ:"لا يساوي درهمين"، بـ "لا" بدل "ما"، فالصواب الوجه الثاني، وهو كون "ما" نافية. فتنبّه. وفيه التشديد في شأن الغلول، وأن قليله، وكثيره سواء في كونه كبيرة، يستحقّ صاحبها العقوبة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث زيد بن خالد الجهنيّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا ضعيف؛ لجهالة أبي عمرة، فإنه لم يرو عنه غير محمد بن يحيى بن حَبَّان، ولا يُعرف إلا في هذا الحديث، ولم يوثّقه أحد، وأما تصحيح الحاكم له في "المستدرك" جـ2 ص 127، وأنه على شرط الشيخين، فمن تساهله المعروف، وكذا إقرار الذهبيّ له على ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه: أخرجه هنا - 66/ 1959 - وفي "الكبرى" 66/ 2086. وأخرجه (د) 2710 (ق) 2848 (أحمد) 21167 "الموطأ" 995 (الحاكم) 2/ 127 (البيهقي) 9/ 2101. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌67 - الصَّلَاةُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ

1960 -

أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ،

ص: 253

فَإِنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا» ، قَالَ: أَبُو قَتَادَةَ: هُوَ عَلَيَّ، قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِالْوَفَاءِ؟» . قَالَ: بِالْوَفَاءِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمود بن غَيلان) أبو أحمد المروزيّ، ثقة [10] 33/ 37.

2 -

(أبو داود) الطيالسيّ، سليمان بن داود البصريّ، ثقة حافظ [9] 13/ 343.

3 -

(شعبة) بن الحجّاج الإمام الحجة الثبت البصريّ [7] 24/ 26.

4 -

(عثمان بن عبد اللَّه بن موهَب) التيميّ مولاهم المدنيّ الأعرج، وقد ينسب إلى جدّه، ثقة [4] 5/ 468.

5 -

(عبد اللَّه بن أبي قتادة) الأنصاريّ المدنيّ، ثقة [3] 23/ 24.

6 -

(أبو قتادة) الحارث بن رِبْعِيّ، وقيل: غيره الصحابيّ المشهور - رضي اللَّه تعالى - عنه 23/ 24. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه مروزيّ، وأبو داود، وشعبة بصريان، والباقون مدنيون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعيّ، والابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ) بفتح الميم، والهاء، أنه قال (سَمِعْتُ عَبدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبيهِ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أُتيَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ) لم أر من سماه (لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَاَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي بعد أن سأل هل عليه دين، ففي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه الآتي بعد هذا، قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فقالوا: يا نبيّ اللَّه صلّ عليها، قال:"هل ترك عليه دينًا؟ "، قالوا: نعم، قال:"هل ترك من شيء؟ "، قالوا: لا، قال: صلّوا على صاحبكم".

("صَلُّوا عَلَى صَاحِبكُم) هذا محلّ الترجمة، لأنه يدلّ على مشروعية الصلاة على من عليه دين، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه بالصلاة عليه، فلو كانت الصلاة عليه غير مشروعة، لما أمره بها (فَإِنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا) الفاء للتعليل، أي لأن على صاحبكم مانعا من صلاتي عليه، وهو الدين، وهذا يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لا يصلي على من عليه دين، وهذا فيمن لم يترك وفاء، كما تبيّنه الروايات الآتية.

قال البيضاويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: لعل امتناعه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المديون الذي لم

ص: 254

يترك وفاء، تحذيرًا من الدين، وزجرًا عن المماطلة، أو كراهة أن يوقَفَ دعاؤه عن الإجابة بسبب ما عليه، من مظلمة الخلق انتهى.

(قَالَ: أَبو قَتَادَةَ) الأنصاريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - (هُوَ) أي الدين الذي على هذا الميت (عَلَيَّ) أي قضاؤه عليّ (قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بالوَفَاءِ؟) أي أتتكفّل بأدائه إلى صاحبه؟ (قَالَ) أبو قتادة (بِالْوَفَاءِ) أي أتكفّل بأدائه إليه (فَصَلَّى) النبي صلى الله عليه وسلم (عَلَيْهِ) أي على ذلك الميت الذي عليه ذلك الدين.

وفي رواية ابن ماجه: "فقال أبو قتادة: وأنا أتكفّل به"، زاد الحاكم في حديث جابر:"فقال: هما عليك، وفي مالِكَ، والميت منهما بريء؟ قال: نعم، فصلى عليه، فجعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا لقي أبا قتادة يقول: ما صنَعَت الديناران؟ حتى كان آخر ذلك أن قال: قد قضيتهما يا رسول اللَّه، قال الآن برّدت عليه جلده".

وقد وقعت هذه القصّة مرّة أخرى، فروى الدارقطنيّ من حديث عليّ رضي الله عنه، كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أُتي بجنازة لم يسأل عن شيء من عمل الرجل، ويسأل عن دينه، فإن قيل: عليه دين كَفَّ، وإن قيل: ليس عليه دين صلّى، فأُتي بجنازة، فلما قام ليكبّر سأل هل عليه دين؟، فقالوا: ديناران، فعدل عنه، فقال عليٌّ: هما عليَّ يا رسول اللَّه، وهو بريء منهما، فصلّى عليه، ثم قال لعليّ:"جزاك اللَّه خيرًا وفَكَّ اللَّه رِهانك"

(1)

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي قتادة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -67/ 1960 وفي "البيوع" 102/ 4694 - وفي "الكبرى" 67/ 2087 و"البيوع" 104/ 6291. وأخرجه (ت) 2398 (أحمد) 21503 و 21528 و 21605 و 2480 (الدارمي) 2480. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنّف، -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو مشروعية الصلاة على من عليه دين، وقد تقدّم البحث عنه مُستوفًى في -64/ 1957 - باب "الصلاة على المرجوم"، فراجعه تستفد. ومنها: تركه صلى الله عليه وسلم الصلاة على من عليه دين، إذا لم يترك وفاءً، لئلا يتهاون الناس بحقوق المسلمين، وكان هذا في أول الإسلام، قبل أن يفتح اللَّه عليه

(1)

- "فتح" ج 5 ص 232 - 233 "كتاب الحوالة" رقم الحديث 2289.

ص: 255

الفتوحات، فلما فتح عليه، قال:"أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن تُوفي، وعليه دين، فعلي قضاؤه، ومن ترك مالاً، فهو لورثته"، وسيأتي هذا في حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - الآتي. ومنها: أنه يدلّ على صعوبة أمر الدين، وأنه لا ينبغي تحمّله إلا عند الضرورة. ومنها: فضل أبي قتادة رضي الله عنه، حيث بادر بتخليص ذمة أخيه المسلم، حتى يَنال فضلَ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه.

ومنها: جواز ضمان ما على الميت، من الديون، وإن لم يترك وفاء، وهو قول الجمهور، خلافًا لأبي حنيفة، وقد بالغ الحاويّ في نصرة قول الجمهور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1961 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ -يَعْنِي ابْنَ الأَكْوَعِ- قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ:«هَلْ تَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا؟» ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:«هَلْ تَرَكَ مِنْ شَيْءٍ؟» . قَالُوا: لَا، قَالَ:«صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» ، قَالَ رَجُلٌ، مِنَ الأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو قَتَادَةَ، صَلِّ عَلَيْهِ، وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفيّ البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

2 -

(محمد بن المثنى) الْعَنَزيّ البصريّ، ثقة حافظ [10] 64/ 80.

3 -

(يحيى) القطّان المذكور في الباب الماضي.

4 -

(يزيد بن أبي عُبيد) الحجازيّ، أبو خالد الأسلميّ، مولى سلمة بن الأكوع، ثقة [4].

وثّقه ابن معين، وأبو داود. وقال العجليّ: حجازيّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: توفّي بعد خروج محمد -يعني عبد اللَّه- بسنتين، أو ثلاث، وكان ثقة كثير الحديث. وقال الواقديّ: مات قبل خروج محمد بن عبد اللَّه. وقال أبو بكر بن منجويه: مات سنة (6) أو (147). روى له الجماعة، وله عند المصنف في هذا الكتابستة أحاديث برقم 1961 و 2316 و 2321 و 2537 و 4161 و 4188.

5 -

(سلمة بن الأكوع) هو: ابن عمرو بن الأكوع، نُسب لجدّه، الأسلميُّ، أبو مسلم، أو أبو إياس، شهد بيعة الرضوان، مات رضي الله عنه سنة (64) تقدم 15/ 765. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو (117) من رباعيات

ص: 256

الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير يزيد، وسلمة فمدنيان. (ومنها): أن شيخيه هما من مشايخ الأئمة الستة الذين رووا عنهما بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن يزيد بن أبي عُبيد، أنه قال (حَدَّثَنَا سَلَمَةُ -يَعْنِي ابْنَ الأكْوَعِ) رضي الله عنه (قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِجَنَازَةٍ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسم صاحب هذه الجنازة، ولا على الذي بعده، وللحاكم من حديث جابر رضي الله عنه:"مات رجل، فغسلناه، وكفّنّاه، ووضعناه حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذنّا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم به".

(فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: "هَلْ تَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "هَلْ تَرَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ "، قَالُوا: لَا) رواية المصنّف رحمه الله هذه مختصرة، فإن هذه الجنازة هي الجنازة الثالثة في حديث سلمة رضي الله عنه، وقد ساقه البخاريْ رحمه الله بتمامه، فقال:

حدثنا المكي بن إبراهيم، حدثثا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع، رضي الله عنه، قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أُتي بجنازة، فقالوا: صل عليها، فقال:"هل عليه دين؟ "، قالوا: لا، قال:"فهل ترك شيئا؟ "، قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أُتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول اللَّه، صل عليها، قال:"هل عليه دين؟ "، قيل: نعم، قال:"فهل ترك شيئا؟ "، قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها، ثم أتي بالثالثة، فقالوا: صل عليها، قال:"هل ترك شيئا؟ "، قالوا: لا، قال:"فهل عليه دين؟ "، قالوا: ثلاثة دنانير، قال:"صلّوا على صاحبكم"، قال أبو قتادة: صل عليه، يا رسول اللَّه، وعليّ دينه، فصلى عليه.

قال في "الفتح": ذكر في هذا الحديث أحوالَ ثلاثة، وترك حال رابع: الأول لم يترك مالاً، وليس عليه دين، والثاني: عليه دين، وله وفاء، والثالث: عليه دين، ولا وفاء له، والرابع: من لا دين عليه، وله مال، وهذا حكمه أن يُصلَّى عليه، وكأنه لم يُذكَر لا لكونه لم يقع، بل لكونه كان كثيرًا انتهى

(1)

.

(قَالَ: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ") قال القرطبيّ رحمه الله: امتناعه من الصلاة على من مات، وعلي دين، ولم يتركَ وفاءً، إشعار بصعوبة أمر الدين، وأنه لا ينبغي أن يتحمّله الإنسان، إلا من ضرورة، وأنه إذا أخذه فلا ينبغي أن يَتراخَى في أدائه إذا تمكّن منه، وذلك لأن الدين شَين، وأنه هَمٌّ بالليل، ومَذلّة بالنهار، وإخافة للنفوس، بل وإرقاق

(1)

- "فتح" ج 5 ص 232 - 233. "كتاب الحوالة". رقم 2289.

ص: 257

لها، وكان هذا من النبي صلى الله عليه وسلم ليرتدع من يتساهل في أخذ الدين، حتى لا تتشوّش أوقاتهم عند المطالبة، وكان هذا كلّه في أول الإسلام، وقد حُكي أن الحرّ كان يباع في الدين في ذلك الوقت، كما قد رواه البزّار

(1)

من حديث رجل، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يقال له: سُرَّق، ثم نُسخ ذلك كلّه بقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يمتنع من الصلاة على من ادّان دينًا غير جائز، أو في سعة، والأول أظهر، لقول الراوي في الحديث:"فلما فتح اللَّه عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من تُوفّي، وعليه دين، فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته". فهذا يعمّ الديون كلها، ولو افترق الحال لتعيّن التنويع، أو السؤال انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: إن قيل: أخرج البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، في "صحيحه " عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أخذ أموال الناس يريد أداءها أذى اللَّه عنه، ومن أخذ يُريد إتلافها أتلفه اللَّه".

وأخرج ابن ماجه، وابن حبّان، والحاكم، من حديث ميمونة رضي الله عنهما:"ما من مسلم يَدَّان دينًا يعلم اللَّه أنه يريد أداءه، إلا أدّى اللَّه عنه في الدنيا".

وأخرج ابن ماجه، والحاكم أيضًا من طريق محمد بن عليّ، عن عبد اللَّه بن جعفر رضي الله عنه أنه كان يستدين، فسُئل؟، فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن اللَّه مع الدائن حتى يَقضي دينه".

قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وإسناده حسن

(3)

، لكن اختلف فيه على محمد بن عليّ، فراوه الحاكم أيضًا من طريق القاسم بن الفضل، عن عائشة بلفظ:"ما من عبد كانت له نيّةٌ في وفاء دينه إلا كان له من اللَّه عون، قالت: فانا ألتمس ذلك العون"

(4)

، وساق له شاهدًا من وجه آخر، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها

(5)

.

فهذه الأحاديث تدلّ على استحسان الاستدانة، فكيف ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على جميع من عليه دين، إلا إذا ترك له وفاء؟.

(1)

- انظر مختصر "مسند البزّار" ج 1 ص 531 رقم الحديث 929، وهو حديث ضعيف في سنده عبدالرحمن بن البيلمانيّ ضعيف، ومسلم بن خالد الزنجيّ، مختلف فيه.

(2)

- "المفهم" ج 4 ص 574 - 575. "كتاب الوصايا والفرائض".

(3)

- انظر "صحيح الجامع الصغير" للشيخ الألبانيّ، ولفظه:"إن اللَّه تعالى مع الدائن، حتى يقضي دينه، ما لم يكن دينه فيما يكره اللَّه". ج 1 ص 374. رقم 1825.

(4)

- صحيح أخرجه أحمد، والحاكم. انظر "صحيح الجامع" ج 2 ص 1000 رقم 5734.

(5)

- راجع "الفتح" ج 5 ص 332 - 333. "كتاب الاستقراض" رقم 2387. ونقلته بتصرّف.

ص: 258

أجيب بأنه لما كان لا يتبيّن من له نيّة صالحة في الوفاء، ممن لا نيّة له فيها، كان ترك الصلاة على الجميع أولى، تغليظًا لحقوق المسلمين، وحسمًا لمادّة التساهل في الوفاء، لينزجر الجميع، ويبادروا في أداء الديون قبل حلول الموت. واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ: رَجُلٌ، مِنَ الْأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو قَتَادَةَ) رضي الله عنه (صَلِّ عَلَيْهِ، وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ) أي صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك الرجل، لَمّا تكفل أبو قتادة رضي الله عنه بدينه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا أخرجه البخاريّ.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -67/ 1961 - وفي "الكبرى" 67/ 2088. وأخرجه (خ) 2127 و 3131 (أحمد) 15913. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1962 -

أَخْبَرَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ الْقُومِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، لَا يُصَلِّي عَلَى رَجُلٍ، عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَأُتِيَ بِمَيِّتٍ، فَسَأَلَ «أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟» ، قَالُوا: نَعَمْ عَلَيْهِ دِينَارَانِ، قَالَ:«صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» ، قَالَ: أَبُو قَتَادَةَ: هُمَا عَلَيَّ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، مَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا السند بعينه تقدم قبل ثلاثة أبواب، وشرح الحديث يُعلم مما قبله. والحديث صحيح، أخرجه المصنّف هنا -67/ 1962 وفي "الكبرى" 67/ 2089. وأخرجه (د) 2567 و 2952 (ق) 44 (أحمد) 1381 و 13909 و 14102 و 14455 (الدارميّ) 208.

وقوله: "عن جابر" هكذا انفرد معمر، فرواه، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن جابر، كما أخرجه المصنّف هنا، وأبو داود، والترمذيّ، وقد خالفه يونس، وابن أبي ذئبٍ، وعُقيل، وابن أخي ابن شهاب، فرووه عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو الحديث التالي. أفاده في "الفتح"

(1)

.

فالظاهر أن رواية معمر شاذّة، لكن المتن صحيح، لا تؤثّر فيه العلّة الموجودة في

(1)

- "فتح" ج 5 ص 244. بتصرّف، "كتاب الكفالة" رقم الحديث 2298.

ص: 259

السند، لأنه ثابت من طرق صحيحة، كما أشرت إليه آنفًا، فلذا صححتُ الحديث، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "عليه ديناران"، وكذا وقع عند أبي داود، والحاكم، وكذا أخرجه الطبرانيّ من حديث أسماء بنت يزيد، ووقع عند البخاريّ في حديث سلمة رضي الله عنه المتقدّم:"ثلاثة دنانير". قال في "الفتح": ويُجمع بينهما بأنهما كانا دينارين وشطرًا، فمن قال:"ثلاثة"، جبر الكسر، ومن قال:"ديناران" ألغاه، أو كان أصلهما ثلائة، فوفى قبل موته دينارًا، وبقي عليه ديناران، فمن قال:"ثلاثة" فباعتبار الأصل، ومن قال:"ديناران" فباعتبار ما بقي من الدين، والأول أليق، ووقع عند ابن ماجه من حديث أبي قتادة رضي الله عنه "ثمانية عشر درهما"، وهما دون دينارين، وفي "مختصر المزنيّ" من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه "درهمين"، ويجمع إن ثبت بالتعدّد انتهى

(1)

واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1963 -

أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا

(2)

ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا تُوُفِّيَ الْمُؤْمِنُ

(3)

، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، سَأَلَ «هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ، مِنْ قَضَاءٍ؟» ، فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالُوا: لَا، قَالَ:«صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عز وجل، عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ، مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ» .

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يونس بن عبد الأعلى) الصَّدَفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقة، من صغار [10] 1/ 449.

2 -

(ابن وهب) عبد اللَّه المصريّ الحافظ الثبت [9] 9/ 9.

3 -

(يونس) بن يزيد الأيليّ، ثقة ثبت [7] 9/ 9.

4 -

(ابن أبي ذئب) محمد بن عبدالرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشيّ، أبو الحارث المدني، ثقة فقيه فاضل [7] 41/ 685. واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1.

والباقيان ذكرا في السند الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- "فتح" ج 5 ص 233 "كتاب الحوالة".

(2)

- وفي نسخة: "أخبرنا"، وفي أخرى:"أنبأنا".

(3)

- وفي نسخة: "المسلم".

ص: 260

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول مصريون، والثاني مدنيّون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو أبو سلمة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رئيس المكثرين من رواية الأحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا تُوُفِّيَ الْمُؤْمِنُ) وفي نسخة: "المسلم"، وفي رواية للبخاريّ: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفَّى، عليه الدين، فيسأل، هل ترك لدينه فضلًا؟

" (وَعَلَيْهِ دَيْنٌ) جملة اسميّة، في محل نصب على الحال (سَأَلَ) وفي نسخة: "فيسأل" (هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ، مِنْ قَضَاءٍ؟) "من" زائدة، و"قضاء" مفعول "ترك"، أي هل ترك مالا يُقضى به دينه؟ وفي رواية للبخاريّ: "هل ترك لدينه فضلاً؟ "، أي قدرًا زائدًا على مؤنة تجهيزه. قال في "الفتح": والأول أولى، بدليل قوله: "فإن حُدّث أنه ترك لدينه وفاء

" (فَإِن قَالُوا: نَعَمْ، صَلَّى عَلَيْهِ، وِإنْ قَالُوا: لَا، قَالَ: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ"، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عز وجل، عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤمِنِينَ، مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي أنا أقرب لهم من أنفسهم، أو أنا أحقّ بهم منها، وقد وَجَّهَ ذَلك بقوله:"فمن توفي الخ"، وقد تقدّم تفسير هذه الجملة مُستوفًى في "كتاب العيد -باب كيف الخطبة؟ [22/ 1578] فراجعه تستفد (فَمَنْ تُوُفِّيَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ") وفي رواية للبخاريّ: "فليرثه عصبته"، ولمسلم من طريق الأعرج، عن أبي هريرة:"والذي نفسي بيده إنْ على الأرض من مؤمن، إلا وأنا أولى الناس به، فايكم ما ترك دينا، أو ضَيَاعًا، فانا مولاه، وأيكم ترك مالاً، فإلى العصبة من كان". ومن طريق همام بن منبّه، عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم:"أنا أولى الناس بالمؤمنين في كتاب اللَّه عز وجل فأيكم ما ترك دينًا، أو ضَيعةً، فادعوني، فأنا وليّه، وأيكم ما ترك مالاً، فليُؤثَر بماله عصبتُهُ من كان". وفي رواية: "ومن ترك كَلًّا وَلِيتُه".

قال النوويّ رحمه الله: و"الضَّيَاع"، و"الضَّيعة" بفتح الضاد: المراد بهم العيال المحتاجون الضائعون. قال الخطّابيّ: الضياع، والضيعة هنا وصف لورثة الميت بالمصدر، أي ترك أولادًا، أو عيالاً ذَوِي ضَيَاع، أي لا شيء لهم، والضَّيَاع في الأصل مصدر ضاع، ثم جُعل اسمًا لكلّ ما يُعَرَّض للضَّيَاع.

ص: 261

وأما الْكَلّ، فبفتح الكاف، قال الخطّابيّ، وغيره: المراد به ههنا العيال، وأصله الثِّقَلُ، ومعنى "أنا مولاه": أي وليّه، وناصره. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قال العلماء: كان الذي فعله صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة على من عليه دينٌ ليحرّض الناس على قضاء الديون في حياتهم، والتوصّل إلى البراءة منها، لئلا تفوتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهل كانت صلاته على من عليه دين محرّمة عليه، أو جائزة؟ وجهان، قال النوويّ: والصواب الجزم بجوازه مع وجود الضامن، كما في حديث مسلم. وحكى القرطبيّ أنه ربما كان يمتنع من الصلاة على من استدان دينًا غير جائز، وأما من استدان لأمر هو جائز، فما كان يمتنع. وفيه نظر، لأن في حديث الباب ما يدلّ على التعميم، حيث قال:"من توفّي، وعليه دين"، ولو كان الحال مختلفًا لبيّنه.

نعم جاء من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما امتنع من الصلاة على من عليه دين، جاءه جبريل، فقال: إنما الظالم في الديون التي حملت في البغي والإسراف، فأما المتعفّف، ذو العيال، فأنا ضامن له، أؤدّي عنه، فصلّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعد ذلك: "من ترك ضَيَاعًا

" الحديث، وهو ضعيف. وقال الحازميّ بعد أن أخرجه: لا بأس به في المتابعات. وليس فيه أن التفصيل المذكور كان مستمرًّا، وإنما فيه أنه طرأ بعد ذلك، وأنه السبب في قوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك دينًا فعليّ".

وفي صلاته صلى الله عليه وسلم على من عليه دين بعد أن فتح اللَّه عليه الفتوح إشعار بأنه كان يقضيه من مال المصالح. وقيل: بل كان يقضيه من خالص نفسه، وهل كان القضاء واجبًا عليه، أم لا؟ وجهان.

وقال ابن بطّال رحمه الله: قوله: "من ترك دينًا فعليّ" ناسخ لترك الصلاة على من مات، وعليه دين. وقوله:"فعليّ قضاؤه" أي مما يُفيء اللَّه تعالى عليه من الغنائم، والصدقات، قال: وهكذا يلزم المتولّيَ لأمر المسلمين أن يفعله بمن مات، وعليه دين، فإن لم يفعل، فالإثم عليه، إن كان حقّ الميت فى بيت المال يَفي بقدر ما عليه من الدين، وإلا فبقسطه. انتهى ما في "الفتح"

(2)

واللَّه عز وجل أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

(1)

- "شرح مسلم" للنوويّ ج 11 ص 60 - 61 "كتاب الفرائض".

(2)

- "فتح" ج 5 ص 245 "كتاب الكفالة" رقم الحديث 2298.

ص: 262

أخرجه هنا -67/ 1963 - وفي "الكبرى" 67/ 2090. وأخرجه (خ) 2133 و 2223 و 2224 و 4408 و 6234 و 6266. (م) 3040 و 13041 و 3042 و 3044 (د) 2566 (ت) 990 (ق) 2406 (أحمد) 7523 و 7558 (الدارمي)2481. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌68 - تَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يرى عدم مشروعيّة الصلاة على قاتل نفسه أصلاً، حيث أورد الترجمة جازما، فقال:"ترك الصلاة على من قتل نفسه"، وهذا إن لم يَحمِله على من استحلّ ذلك، لارتداده باستحلاله يردّه الحديث الأول:"أما أنا فلا أصلي عليه"، فإن ظاهره أن غيره صلى الله عليه وسلم يصلي عليه، كما سيأتي تقريره قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

وأما الحديث الثاني: "فهو في نار جهنّم خالدًا مخلّدا فيها" فللعلماء في تأويله اختلاف كثيرٌ، سنورده هناك، إن شاء اللَّه تعالى.

والحاصل أن الظاهر من الحديث أن ترك الصلاة على من قتل نفسه، إنما هو للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما غيره فيصليّ عليه، وسيأتي مزيد بسط لذلك قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1964 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سِمَاكٌ، عَنِ ابْنِ سَمُرَةَ، أَنَّ رَجُلاً قَتَلَ نَفْسَهُ، بِمَشَاقِصَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمَّا أَنَا، فَلَا أُصَلِّي عَلَيْهِ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن منصور) بن بَهْرَام الكَوّسج، أبو يعقوب المروزيّ، ثقة ثبت [11] 72/ 88.

2 -

(أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الباهليّ مولاهم الطيالسيّ البصريّ، ثقة ثبت [9] 122/ 172.

(1)

- وفي نسخة: "أنبانا".

ص: 263

3 -

(أبو خَيْثمة زهير) بن معاوية بن حُدَيج الجعفيّ الكوفي، نزيل الجزيرة، ثقة ثبت [7] 38/ 42.

4 -

(سماك) بن حرب بن أوس بن خالد الذُّهْليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوق، وتغير بآخره، وربّما تلقّن [4] 2/ 325.

5 -

(ابن سَمُرة) هو جابر بن سمرة بن جُنَادة السُّؤائيّ، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما 28/ 816. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه مروزيّ، وأبا الوليد بصريّ، والباقون كوفيون. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ سَمُرَةَ) جابرٍ - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أن رَجُلاً قَتَلَ نَفْسَهُ) لم أر من سمّاه (بِمَشَاقِصَ) جمع مِشْقص بكسر الميم، وفتح القاف: هو نَصْلُ السهم، إذا كان طويلا، غيرَ عريض.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا أَنَا، فَلَا أُصَلِّي عَلَيْهِ") أي وأما غيري، فليصلّ عليه. ولفظ مسلم:"أُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص، فلم يصلّ عليه".

قال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: في هذا الحديث دليل لمن يقول: لا يُصلَّى على قاتل نفسه، لعصيانه، وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز، والأوزاعيّ، وقال الحسن، والنخعيّ، وقتادة، ومالك، وأبو حنيفة، والشافعيّ، وجماهير العلماء: يصلَّى عليه، وأجابوا بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّ عليه بنفسه زجرًا للناس عن مثل فعله، وصلّت عليه الصحابة، وهذا كما ترك النبيّ صلى الله عليه وسلم في أول الأمر الصلاة على من عليه دين، زجرًا لهم عن التساهل في الاستدانة، وعن إهمال وفائه، وأمر أصحابه بالصلاة عليه، فقال صلى الله عليه وسلم:"صلّوا على صاحبكم". انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: لعلّ هذا القاتل لنفسه كان مستحلّا لقتل نفسه، فمات كافرًا، فلم يصلّ عليه لذلك، وأما المسلم القاتل لنفسه فيُصلَّى عليه عند كافّة العلماء انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: يردّ قول القرطبيّ: كان مستحلّا الخ. قولُهُ صلى الله عليه وسلم: "أما

(1)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 51 "كتاب الجنائز" رقم الحديث 2259.

ص: 264

أنا فلا أصلي عليه"، لأن التقدير: وأما أنتم فصلّوا عليه، لأن "أما" للتفصيل، فيكون المراد تفصيل حال المصلين عليه بين من لا يصلّي، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبين من يصلّي، وهم الصحابة، فدلّ على أنه مسلم، وليس بكافر، وأما تركه صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه مع كونه مسلمًا، زجرًا لغيره لئلّا يتجاسروا بقتل أنفسهم.

وقد تقدّم تفصيل المذاهب في حكم الصلاة على أصحاب الذنوب، كالغالّ، وقاتل النفس، ونحوهما، وترجيح مذهب الجمهور في مشروعية الصلاة عليهم، وإنما يَترُك الصلاة الإمام، وذوو الفضل، زجرًا لغيرهم، فراجع "باب الصلاة على المرجوم" تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر بن سمرة - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -68/ 1964 - وفي "الكبرى" 68/ 2091. وأخرجه (م) 1624 (ت) 988 (ق) 1515 (أحمد) 19886 و 19932 و 19967 و 20133. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1965 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ ذَكْوَانَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، يَتَرَدَّى خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا، أَبَدًا وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا، أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ -ثُمَّ انْقَطَعَ عَلَيَّ شَيْءٌ، خَالِدٌ يَقُولُ - كَانَتْ حَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ، فِي نَارِ جَهَنَّمَ، خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا».

قال الجامع عفا اللَّه تعالى: [إن قلت]: ما هو غرض المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بإيراد حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا في هذا الباب؟.

[قلت]: غرضه -واللَّه تعالى أعلم- بيان سبب ترك الصلاة على قاتل نفسه، وذلك لعظم ذنبه، حيث إنه يكون في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها، على ما يأتي بيان المراد منه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى، فكأنه يقول: إنه لما كان ذنبه عظيما، وجزاؤه جسيمًا استحقّ ترك الصلاة عليه. واللَّه تعالى أعلم.

ورجال إسناده: ستة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعانيّ البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.

ص: 265

2 -

(خالد) بن الحارث الهجيميّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 24/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجّاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 26.

4 -

(سليمان) بن مِهْران الأعمش الكوفيّ، ثقة ثبت [5] 17/ 18.

5 -

(ذكوان) السمّان الزّيّات، أبو صالح المدنيّ، ثقة ثبت [3] 36/ 40.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبةَ، وسليمانُ كوفيّ، والباقيان مدنيان. (ومنها): أن الأعمش ممن أكثر الرواية عن ذكوان، يقال سمع منه ألف حديث، كما قاله الخزرجي في "الخلاصة" ص 112. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: مَنْ تَرَدَّى)"من" شرطية، وجوابها: جملة قوله: "فهو في نار جهنم الخ، أي من سقط (مِنْ جَبَلٍ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) متعلّق بمحذوف خبر لـ"هو"، وجملة "يتردّى" حال، أو متعلّق بـ "يتردّى" والجملة هي

الخبر. و"جهنّم، اسم لنار الآخرة -عافانا اللَّه منها، ومن كلّ بلاء- قال يونس، وأكثر النحويين: هي عجميّة، لا تنصرف للعجمة والتعريف. وقال آخرون: هي عربيّة، لم تصرف للتأنيث والعلميّة، وسميت بذلك لبعد قعرها، يقال: بئر جَهنّم، وجِهِنَّام - بكسر الجيم وهاء-: أي بعيدة الْقَعْر. وقيل: مشتقّة من الْجُهُومة، وهي الغلظ، يقال: جهم الوجه: أي غليظه، فسميت جهنّم لغلظ أمرها. واللَّه أعلم

(1)

.

(يَتَرَدَّى) أي ينزل من جبال النار إلى أوديتها (خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا،؟ أَبَدًا)"خالدًا" منصوب على الحال، و"مخلّدًا" تأكيد، له، وكذلك "أبدًا".

وظاهره موافق لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} الآية [النساء: 93]، لعموم المؤمن نفس القاتل أيضًا، لكن قال الترمذيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: قد جاءت الرواية بلا ذكر "خالدًا مُخلّدا أبدًا"، وهي أصحّ، لما ثبت من خروج أهل التوحيد من النار انتهى.

(1)

- "شرح مسلم" للنوويّ بتصرّف. 2 ص 303 - 304 "كتاب الإيمان".

ص: 266

وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ظاهره التخليد الذي لا انقطاع له بوجه، وهو محمول على من كان مستحلّا لذلك، ومن كان متعمّدًا لذلك كان كافرًا، وأما من قتل نفسه، وهو غير مستحلّ، فليس بكافر، بل يجوز أن يعفو اللَّه عنه، قال: ويجوز أن يراد بقوله: "خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا" تطويل الآمال، ثم يكون خروجه من النار من آخر من يخرج من أهل التوحيد، ويَجري هذا مَجرى المثل، فتقول العرب: خلّد اللَّه ملكك، وأبّد أيامك، ولا أُكلّمك أبد الآبدين، ولا دهر الداهرين، وهو ينوي أن يكلّمه بعد أزمان، ويَجري هذا مجرى الإعياء في الكلام انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وقد تمسّك بقوله: "خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا" المعتزلة، وغيرهم ممن قال بتخليد أصحاب المعاصي في النار، وأجاب أهل السنّة عن ذلك بأجوبة:

منها: توهيم هذه الزيادة، قال الترمذيّ بعد أن أخرجه: رواه محمد بن عجلان، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه فلم يذكر:"خالدًا مخلّدًا"، وكذا رواه أبو الزناد، عن الأعرح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: وهو أصحّ، لأن الروايات صحّت أن أهل التوحيد يُعذّبون، ثم يُخرجون منها، ولا يُخلّدون.

وأجاب غيره بحمل ذلك على من استحلّه، فإنه يصير باستحلاله كافرًا، والكافر مخلّد بلا ريب. وقيل: ورد مورد الزجر والتغليظ، وحقيقته غير مرادة. وقيل: المعنى أن هذا جزاؤه، لكن قد تكرّم اللَّه على الموحّدين، فأخرجهم من النار بتوحيدهم.

وقيل: التقدير مخلّدًا فيها إلى أن يشاء اللَّه. وقيل: المراد بالخلود طول المدة، لا حقيقة الدوام، كأنه يقول: يُخلّد مدةً معينةً، وهذا أبعدها انتهى

(2)

.

(وَمَنْ تَحَسَّى) آخره ألف، أي شرب بتمهّل، وتجرّعه (سُمًّا) بتثليث السين المهملة، والفتح أفصح، وتشديد الميم. قال في "المصباح": السمّ: ما يَقتل، وبالفتح أكثر، وجمعه سُموم، مثل فَلْس، وفُلُوس، وسِمَام أيضًا، مثل سَهْم، وسِهَام، والضمّ لغة لأهل العالية، والكسر لغة لبني تميم انتهى.

وقال السنديّ رحمه الله: والسمّ دواء قاتل، يُطرح في طعام، أو ماء، فينبغي أن يُحمل "تحسّى" على معنى أدخل في باطنه، ليعمّ الأكل والشرب جميعًا انتهى

(3)

.

(فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ، يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةِ -ثُمَّ انْقَطَعَ عَلَيَّ شَيْءٌ، خَالِدٌ يَقُولُ-) ولفظ "الكبرى": "ثم انقطع عليّ شيء

(1)

- "المفهم" ج 1 ص310 - 311 "كتاب الإيمان" - "باب من قتل نفسه بشيء عُذّب به".

(2)

- "فتح" ج 3 ص 593 - 594. "كتاب الجنائز" - "باب ما جاء في قاتل النفس" رقم الحديث 1363.

(3)

- "شرح السنديّ" ج 4 ص 66.

ص: 267

يعني خالدًا. وهذا الكلام من قوله: "ثم انقطع الخ" ليس من متن الحديث، بل معناه أن خالدًا الْهُجَيميّ الرواي عن شعبة، قال: ثم انقطع عليّ شيء من متن الحديث بعد قوله: "ومن قتل نفسه بحديدة"، وهذا الانقطاع، إما بسقوط لفظ، أو بالتردّد فيه أيّ لفظ هو؟. وأشار في النسخة الهنديّة إلى أنه سقط قوله:"ثم انقطع الخ" من بعض النسخ. واللَّه تعالى أعلم.

(كَانَتْ حَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَجَأُ) بهمزة في آخره، ويجوز تسهيله بقلب الهمزة ألفًا، ومعناه يَطعَنُ. وقال في "المصباح": وجَأته، أوْجَؤُهُ، مهموز، من باب نفع، وربّما حُذفت الواو في المضارع، فقيل: يَجَأُ، كما قيل: يَسَعُ، ويَطَأُ، ويَهَبُ، وذلك: إذا ضربته بسكين، ونحوه، في أيّ موضع كان انتهى.

(1)

(بِهَا) أي بتلك الحديدة (فِي بَطْنِهِ، فِي نَارِ جَهَنَّمَ) متعلّق بـ "يجأ"(خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدَا") واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -68/ 1965 - وفي "الكبرى" 68/ 2092. وأخرجه (خ) 5333 (م) 158 (د) 3374 (ت) 1966 (ق) 3451 (أحمد) 7136 و 98052 و 994 (الدارمي) 2256. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: تحريم قتل الإنسان نفسه، وأنه من كبائر الذنوب التي يستحقّ بها العذاب الأليم. ومنها: أن جزاء من قتل نفسه بشيء أن يعذّب بذلك الشيء. ومنها: أن بعض أهل العلم استنبط منه أن القصاص يكون بما قتل به القاتل، اقتداء بعقاب اللَّه تعالى لقاتل نفسه، ويؤيده قوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية [النحل: 126]، وقوله:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة: 194]، وقوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الآية [الشورى: 40]. وحديث رَضّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رأسَ اليهوديّ الذي رَضَّ رأس الجارية، وغيرِ ذلك من الأدلة. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

(1)

- "المصباح" في مادّة وجأ.

ص: 268

أنيب".

‌69 - الصَّلَاةُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المراد بيان حكم الصلاة على المنافقين، وهو عدم مشروعيتّها؛ لحديث الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1966 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ، دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ، وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا؟ ، أُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَقَالَ: «أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ» ، فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ، قَالَ:«إِنِّي قَدْ خُيِّرْتُ، فَاخْتَرْتُ، فَلَوْ عَلِمْتُ، أَنِّي لَوْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ، غُفِرَ لَهُ، لَزِدْتُ عَلَيْهَا» ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلاَّ يَسِيرًا، حَتَّى نَزَلَتِ الآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةَ:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه بن المبارك) المخرِّميّ البغداديّ، ثقة حافظ [11] 43/ 50.

2 -

(حُجَين بن المثَنَّى) اليماميّ، أبو عُمير سكن بغداد، وولي قضاء خُرَاسان، ثقة [9] 180/ 1150.

3 -

(الليث) بن سعد الإمام المصريّ الحجة الفقيه [7] 31/ 35.

4 -

(عُقيل) بن خالد الأيليّ، ثقة ثبت [6] 125/ 187.

5 -

(ابن شهاب) المذكور قبل باب.

6 -

(عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه) بن عُتبة بن مسعود المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 45/ 56.

7 -

(عبد اللَّه بن عباس) البحر الحبر رضي الله عنهما 27/ 31.

8 -

(عمر بن الخطّاب) أمير المؤمنين رضي الله عنه 60/ 75. واللَّه تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد:

ص: 269

(منها): أنه من ثمانيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه بغداديّ، وشيخ شيخه يمامي، ثم بغدادي، ثم خراسانيّ، والليث مصريّ، والباقون مدنيون. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابي، وتابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة، وهو عبيد اللَّه. (ومنها): أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - حبر الأمة وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. (ومنها): أن فيه أحد الخلفاء الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ)، برفع "ابن" لأنه صفة لعبد اللَّه، لا. لأُبَيَّ، فـ"سلولُ" أم عبد اللَّه، ولهذا يجب تنوين "أبَيِّ"، وإثبات همزة الوصل في "ابن سلول"، وقد تقدم بيان هذه القاعدة، فتنبَّه (دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) دعاه ابنه عبد اللَّه بن عبد اللَّه (لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَثَبْتُ إِلَيْهِ) يقال: وَثَب وَثْبًا، من باب وَعَدَ، ووُثُوبًا، وَوَثِيبًا: قَفَزَ. قاله في "المصباح"(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبيِّ، وَقَدْ قَالَ: يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا؟، أعَدِّدُ عَلَيْهِ) أي أذكر له ما قاله، مثل قوله:{لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7] وقوله: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8](فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: "أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ"، فَلَمَّا أكْثَرْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: "إِنِّي قَدْ خُيِّرْتُ) أي خيّرني اللَّه تعالى، حيث قال:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية [التوبة: 80]، فخيّرني بين الاستغفار وعدمه (فَاخْتَرْتُ) الاستغفار (فَلَوْ عَلِمْتُ، أَنِّي لَوْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ، غُفِرَ لَهُ، لَزِدْتُ عَلَيْهَا) روى الطبريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- من طريق مغيرة، عن الشعبيّ، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم قال اللَّه تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] فأنا أستغفر لهم سبعين، وسبعين، وسبعين (فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ انْصَرَفَ) أي سلّم من الصلاة على عبد اللَّه بن أُبيّ (فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا) أي إلا وقتًا قليلًا (حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَتَانِ) أي هذه، والتي بعدها (مِنْ بَرَاءةَ:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} ) {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)} [التوبة: 84 - 85](فعَجِبْتُ بَعْدُ) بالبناء على الضمّ لقطعه عن الإضافة ونيّة معناها، أي بعد ما تقدّم مما جرى لي مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن ابن أبيّ، ومن سؤال لي له أن لا يصلى عليه وإلحاحي في ذلك، وصلاته عليه، ونزول الآيتين (مِنْ جُرْأَتِيِ) بضمّ الجيم، وسكون الراء المهمِلة، وبضم، ففتح، كالجُرْعَة، والثُّبَةِ، والْجَرَاءة، كالكَرَاهَة، والجَرَائيةُ، كالكَرَاهِية، والْجَرَايَةُ بالياء نادرٌ، ومعناها: الشجاعة، وفعله ككَرُم. أفاده في

ص: 270

"ق"(عَلَى رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَئِذٍ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) ظاهره أنه من تمام قول عمر رضي الله عنه ويحتمل أن يكون من كلام ابن عباس رضي الله عنهما. وقد تقدّم شرح هذا الحديث من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما في 40/ 1900 - مُستوفًى، ولذا اختصرت الكلام عليه هنا، فراجعه هناك تجد فوائد جمّة، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا أخرجه البخاريّ.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -69/ 1966 - وفي "الكبرى" 69/ 2093. وأخرجه (خ) 1277 و 4303 (ت) 3022 (أحمد) 91.

وأما المسألة المتعلقة بفوائده، فقد تقدمت في [40/ 1900]، فراجعها تستفد، واللَّهسبحانه وتعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌70 - الصَّلّاةُ عَلَى الْجَنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر من هذه الترجة أن المصنّف رحمه الله يرى جواز الصلاة على الميت في المسجد بلا كراهة، وهو مذهب الجمهور؛ لحديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب، وسنذكر خلاف العلماء في ذلك وأدلتهم في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

1967 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى سُهَيْلِ ابْنِ بَيْضَاءَ، إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ".

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهبم) ابن راهويه المروزيّ الإمام الحافظ الحجة [10] 2/ 2.

2 -

(علي بن حُجْر) السعديّ المروزيّ، ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 13.

ص: 271

3 -

(عبد العزيز بن محمد) الدّراورديّ المدنيّ، صدوق، كان يُحدّث من كتب غيره، فيخطىء [8] 84/ 101.

4 -

(عبد الواحد بن حمزة) بن عبد اللَّه بن الزّبير الأسديّ، أبو حمزة المدنيّ، لا بأس به [6].

روى عن عمّه عباد بن عبد اللَّه بن الزبير. وعنه موسى بن عُقبة، وعبدالواحد بن زياد، والدّراورديّ. قال ابن معين: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان فى "الثقات". روى له مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، له عندهم حديث الباب فقط.

5 -

(عباد بن عبد اللَّه بن الزبير) بن العوّام المدنيّ، ثقة [3].

قال النسائيّ: ثقة. وقال الزبير بن بكّار: كان عظيم القدر عند أبيه، وكان على قضائه بمكّة، وكان يستخلفه إذا حجّ، وكان أصدق الناس لهجة. ووصفه مصعب الزبيريّ بالوقار. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث. وقال العجليّ: مدنيّ، تابعيّ، ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، وله عند المصنف حديثان فقط: هذا، و 2551 حديث:"ارضَخِي ما استطعت، ولا توكي .. ".

6 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخيه، فمروزيان. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن خالة أبيه. وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى - عنها من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنه (قَالَتْ) رواية المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فيها اختصار، وقد ساق الحديث مسلم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "صحيحه" بتمامه، من طريق موسى بن عقبة، عن عبد الواحد، عن عباد بن عبد اللَّه بن الزبير، يحدث عن عائشة، أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص، أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، أن يمروا بجنازته في المسجد، فيصلين عليه، ففعلوا، فوُقِف به على حُجَرهن، يصلين عليه، أُخرج به، من باب الجنائز، الذي كان إلى المقاعد، فبلغهن أن الناس عابوا ذلك، وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد، فبلغ ذلك عائشة، فقالت:"ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا، ما لا علم لهم به، عابوا علينا، أن يُمَرّ بجنازة، في المسجد، وما صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، على سهيل ابن بيضاء، إلا في جوف المسجد".

ص: 272

ومن رواية أبي سلمة، أن عائشة رضي الله عنها، لما توفّي سعد بن أبي وقّاص، قالت: ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه، فأنكر ذلك عليها، فقالت:"واللَّه لقد صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد، سُهيل وأخيه".

قال مسلم: سُهيل ابن دَعْد، وهو ابن البيضاء، أمه بيضاء انتهى.

(مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى سُهَيْلِ ابْنِ بَيْضَاءَ) القرشيّ، الفهريّ، من المهاجرين، يُكنى أبا موسى، هاجر الهجرتين إلى الحبشة، وشهد بدرًا، وأحدًا، ومات بعد رجوع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من تبوك سنة تسع رضي الله عنه.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: بنو بيضاء، ثلاثة إخوة: سهل، وسُهيل، وصفوان، وأمهم البيضاء، اسمها دعد بنت الجحدم بن أمية بن ضبّة بن الحارث، والبيضاء وصف، وأبوهم وهب بن ربيعة بن عمرو بن عامر بن ربيعة بن هلال بن مالك ابن ضَبَّة بن الحارث ابن فهر القرشيّ الفهريّ، وكان سُهيل قديم الإسلام، هاجر إلى الحبشة، ثم عاد إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا وغيرها، توفي سنة تسع من الهجرة رضي الله عنه انتهى كلام النوويّ بزيادة من "الاستيعاب"

(1)

.

وأما أخوه سهل، فقال الحافظ أبو عمر رحمه الله: كان ممن أظهر إسلامه بمكة، وهو الذي مشى إلى النفر الذين قاموا في شأن الصحيفة التي كتبها مشركو قريش على بني هاشم، حتى اجتمع له نفر، تبرّءوا من الصحيفة، وأنكروها، وهم هشام بن عمرو بن ربيعة، والمطعم بن عديّ بن نوفل، وزمعة بن الأسود بن عبد المطّلب بن أسد، وأبو البَختريّ بن هشام بن الحارث بن أسد، وزُهير بن أبي أُمية بن المغيرة، وفي ذلك يقول أبو طالب [من الطويل]:

جَزَى اللَّهُ رَبُّ الناسِ رَهْطًا تَبَايَعُوا

عَلَى مَلِأ يُهْدَى لِخَيْرٍ وَيُرْشَدُ

قُعُودِ لَدَى جَنْبِ الْحَطِيمِ كَأَنَّهُ

مَقَاوَلَةٌ بَلْ هُمْ أَعَزُّ وَأَمْجَدُ

هُمُ رَجَعُوا سَهْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ رَاضِيًا

فَسُرَّ أَبُو بَكْرِ بِهَا وَمُحَمَّدُ

أَلَمْ يَأتِكُمْ أَنَّ الصَّحِيفَةَ مُزِّقَتْ

وَأَن كُلَّ مَا لَمْ يَرْضَهُ اللَّهُ مُفْسَدُ

أَعَانَ عَلَيْهَا كُلُّ صَقْرٍ كَأَنَّهُ

إِذَا مَا مَشَى فِي رَفْرَفِ الدِّرْعِ أَحْرَدُ

أسلم سهل ابن بيضاء بمكة، وأخفى إسلامه، فأخرجته قريش معهم إلى بدر، فأُسر يومئذ مع المشركين، فشهد له عبد اللَّه بن مسعود أنه رآه بمكة يصلي، فخُلِّي عنه، ولا أعلم له رواية، ومات بالمدينة انتهى

(2)

.

(1)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 43.

(2)

- "الاستيعاب" لابن عبد البرّ في هامش "الإصابة" ج 4 ص 270 - 271.

ص: 273

(إِلَّا فِي الْمَسْجدِ") وفي الرواية التالية: "إلا في جوف المسجد". وهذا محلّ الترجمة، حيث يدلّ على جواز الصلاة على الميت في المسجد، وفيه خلاف بين أهل العلم سنتكلّم عليه في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -70/ 1967 و 1968 - وفي "الكبرى" 70/ 2094 و 2095. وأخرجه (م) 2249 و 2250 و 2251 (د) 2774 و 2775 (ت) 954 (ق) 1507 (أحمد) 23358 و 23865 و 24189 و 25044 (الموطأ) 484. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة على الجنازة في المسجد:

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: اختلفوا في الصلاة على الجنائز في المسجد، فروينا أن أبا بكر رضي الله عنه صُلّي عليه في المسجد، وصُلِّي على عمر بن الخطّاب في المسجد.

وبه قال أحمد، وإسحاق، وقال مالك: لا يُصلّى على الجنازة فى المسجد، إلا أن يتضايق المكان، وكره أن توضع الجنازة في المسجد.

قال ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وفي صلاة من حضر، فصلّى على أبي بكر من المهاجرين والأنصار قدوة لمن أراد الاقتداء بهم، وحجّة، وكذلك صلاتهم على عمر في المسجد، وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلّى على سُهيل ابن بيضاء في المسجد انتهى

(1)

.

وقال الحافظ أبو عمر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وصلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على سهيل ابن بيضاء من أصحّ ما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد العدول.

وهو قول الشافعيّ، وجمهور أهل العلم، وهي السنّة المعمول بها في الخليفتين بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، صلّى عمر على أبي بكر الصّدّيق في المسجد، وصلى صُهيب على عمر في المسجد بمحضر كبار الصحابة، وصدر السلف، من غير نكير، وما أعلم من يُنكر ذلك إلا ابن أبي ذئب. ورويت كراهية ذلك عن ابن عبّاس من وجوه لا تصحّ، ولا تثبت، وعن بعض أصحاب مالك، ورواه عن مالك، وقد رُوي عنه جواز ذلك من رواية أهل المدينة، وغيرهم. وقد قال في المعتكف: لا يخرج إلى جنازة، فإن اتصلت الصفوف به في المسجد، فلا يصلي عليها مع الناس.

(1)

- "الأوسط" ج 5 ص 415 - 416.

ص: 274

وعن مالك قال: لا يعجبني أن يُصَلَّى على أحد في المسجد، قال: ولو فَعَل ذلك فاعل ما كان ضيّقا، ولا مكروهًا، فقد صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على سهيل ابن بيضاء في المسجد، وصلّى عمر على أبي بكر في المسجد، وصلى صُهيب على عمر في المسجد.

وذكر عبدالرزاق، عن معمر، والثوريّ، عن هشام بن عروة، قال: رأى أبي الناس يخرجون من المسجد ليصلّوا على جنازة، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ ما صُلِّي على أبي بكر إلا في المسجد.

فإن قيل: إن الناس الذين أنكروا على عائشة أن يُمَرَّ عليها بجنازة سعد بن أبي وقّاص في المسجد، هم الصحابة، وكبار التابعين، لا محالة؟.

قيل لهم: ما رأت عائشة إنكارهم بكبير، ورأت الحجّةَ في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذ هو الأسوة الحسنة، والقدوة، وأين المذهب، والرغمة عن سنته صلى الله عليه وسلم، ولم يأت عنه ما يخالفها من وجه معروف، ولو لم تكن في هذا الباب سنّة ما وجب أن يُمنَع عن ذلك، لأن الأصل الإباحة حتى يرد المنع والحظر، فكيف، وفي إنكار ذلك جهل السنّة، والعملِ القديم بالمدينة.

ألا ترى أن قول عائشة: "ما أسرع الناس" تريد إلى إنكارها ما يعلمون، وترك السؤال عما يجهلون. وقد روي:"ما أسرع ما ينسى الناس"، وليس من نَسِيَ علمًا حجةً على من ذكره، وعَلِمَه.

وقد احتجّ بعض من تُعميه نفسه من المنتسبين إلى العلم في كراهية الصلاة على الجنائز في المسجد، لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نَعَى للناس النجاشيّ، وخرج بهم إلى المصلى، فصفّهم، وكبّر أربع تكبيرات، قال: ولم يصلّ عليه في المسجد. وفي احتجاجه هذا ضروب من الإغفال:

منها: أنه لا يرى الصلاة على الغائب، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشيّ خصوص له عنده.

ومنها: أنه ليس في صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الجنازة في موضع، ولا صلاة العيد في موضع دليلٌ على أن صلاة العيد، وصلاة الجنائز لا تجوز إلا في ذلك الموضع، والمسلمون في كلّ أفق لهم مصلى في العيد، يخرجون إليه، وُيصلّون فيه، ولا يقول أحد من علمائهم: إن الصلاة لا تجوز إلا فيه. وكذلك صلاتهم في المقابر على جنائزهم، ليس فيه دليل على أنه لا يُصلّى على الجنائز إلا في المقبرة، وما لم يَنْهَ عنه اللَّه سبحانه وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمباح فعله، فكيف بما فعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم انتهى كلام الحافظ ابن عبد البر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

ص: 275

ببعض تصرّف

(1)

. وهو كلام نفيس، وبحث أنيس.

وقال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وفي هذا الحديث دليل للشافعيّ، والأكثرين في جواز الصلاة على الميت في المسجد، وممن قال به أحمد، وإسحاق، قال ابن عبد البرّ: ورواه المدنيون في "الموطإ" عن مالك، وبه قال ابن حبيب المالكيّ. وقال ابن أبي ذئب، وأبو حنيفة، ومالك في المشهور عنه: لا تصحّ الصلاة عليه في المسجد بحديث في "سنن أبي داود": "من صلى على جنازة في المسجد، فلا شيء له". ودليل الشافعيّ، والجمهور حديث سهيل ابن بيضاء. وأجابوا عن حديث "سنن أبي داود" بأجوبة:

أحدها: أنه ضعيف، لا يصحّ الاحتجاج به، قال أحمد بن حنبل: هذا حديث ضعيف، تفرّد به صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف.

الثاني: أن الذي في النسخ المشهورة المحقّقة المسموعة من "سنن أبي داود": "ومن صلّى على جنازة في المسجد، فلا شيء عليه"، ولا حجّة لهم حينئذ فيه.

الثالث: أنه لو ثبت الحديث، وثبت أنه قال:"فلا شيء له"، لوجب تأويله على فلا شيء عليه، ليُجمَع بين الروايتين، وبين هذا الحديث، وحديث سهيل ابن بيضاء، وقد جاء "له" بمعنى "عليه"، كقوله سبحانه وتعالى:{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].

الرابع: أنه محمول على نقص الأجر في حقّ من صلّى في المسجد، ورجع، ولم يشيّعها إلى المقبرة لما فاته من تشييعه إلى المقبرة، وحضور دفنه

(2)

. واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر من أقوال أهل العلم، وأدلتهم في حكم الصلاة على الجنازة في المسجد أن المذهب الصحيح، هو ما عليه الجمهور، من أنه جائز، بلا كراهة، لأن أدلة المانعين غير صالحة لمعارضة ما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء الراشدين، كما سبق تفصيله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1968 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ حَمْزَةَ، أَنَّ عَبَّادَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى سُهَيْلِ ابْنِ بَيْضَاءَ، إِلاَّ فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ".

(1)

- "الاستذكار" ج 8 ص 272 - 276. "كتاب الجنائز" - "باب الصلاة على الجنائز في المسجد".

(2)

- قلت: هذا الوجه ضعيف، لأنه ينافي إثبات قيراط واحد لمن صلى، ورجع، وهو ثابت في "الصحيحين". فتنبّه.

(3)

- "شرح صحيح مسلم" ج 7 ص 43 - 44 "كتاب الجنائز".

ص: 276

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر لحديث عائشة رضي الله عنها، وتقدم الكلام على الحديث، ومسائله المتعلّقة به في الذي قبله، وممن لم يتقدم هناك من رجاله:

1 -

(سُويد بن نصر) المروزيّ، ثقة [10] 45/ 55.

2 -

(عبد اللَّه) بن المبارك الإمام الحجة المشهور [8] 32/ 36.

3 -

(موسى بن عُقبة) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم المدنيّ، ثقة فقيه إمام في المغازي [5] 96/ 122. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌71 - الصَّلّاةُ عَلَى الْجَنَازَةِ بِاللَّيْلِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على حكم الصلاة على الجنازة في الليل، فالباء بمعنى "في".

ودلالته على ما ترجم له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، واضحة، وذلك في قوله:"فصَلَّوا عليها"، حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينكر الصلاة عليها في الليل، فدلّ ذلك على جوازه، وإن كان الأَولى الصلاة عليها نهارًا، تكثيرًا للمصلين. واللَّه سبحانه تعالى أعلم بالصواب.

1969 -

أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّهُ قَالَ: اشْتَكَتِ امْرَأَةٌ، بِالْعَوَالِي، مِسْكِينَةٌ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُمْ عَنْهَا، وَقَالَ:«إِنْ مَاتَتْ، فَلَا تَدْفِنُوهَا، حَتَّى أُصَلِّىَ عَلَيْهَا» ، فَتُوُفِّيَتْ، فَجَاءُوا بِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، بَعْدَ الْعَتَمَةِ، فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدْ نَامَ، فَكَرِهُوا أَنْ يُوقِظُوهُ، فَصَلُّوا عَلَيْهَا، وَدَفَنُوهَا بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، جَاءُوا، فَسَأَلَهُمْ عَنْهَا، فَقَالُوا: قَدْ دُفِنَتْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ جِئْنَاكَ، فَوَجَدْنَاكَ نَائِمًا، فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ، قَالَ:«فَانْطَلِقُوا» . فَانْطَلَقَ يَمْشِي، وَمَشَوْا مَعَهُ، حَتَّى أَرَوْهُ قَبْرَهَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَفُّوا وَرَاءَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث تقدّم برقم 43/ 1907 - رواه المصنف هناك عن قتيبة، عن مالك، عن ابن شهاب بسنده هنا، وتقدم أن قلت: إنه حديث صحيح لشواهده، فلا يضرّه الإرسال، فإن أبا أمامة ليست له رواية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كانت له رؤية، وقد استوفيت شرحه، والكلام على مسائله، هناك، فراجعه، تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 277

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌72 - الصُّفُوفُ عَلَى الْجَنَازَةِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- الرّدّ على من ذهب إلى أنه لا يشرع تسوية الصفوف في الصلاة على الجنازة، وهو منقول عن عطاء، فقد روى عبدالرزّاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أحقٌّ على الناس أن يسوّوا صفوفهم على الجنائز، كما يسوونها في الصلاة؟ قال: لا، إنما يكبّرون، ويستغفرون. وأشار بصيغة الجمع إلى ما ورد في استحباب ثلاثة صفوف، وهو ما رواه أبو داود وغيره، من حديث مالك بن هُبيرة، مرفوعًا:"من صلّى عليه ثلاثة صفوف، فقد أوجب". حسنه الترمذيّ، وصححه الحاكم، لكن فيه عنعنة ابن إسحاق، وفي رواية:"إلا غُفر له".

قال الطبريّ رحمه الله: ينبغي لأهل الميت إذا لم يخشَوا عليه التغير أن يتنظروا به اجتماع قوم يقوم منهم ثلاثة صفوف لهذا الحديث انتهى. والمراد بـ "الجنازة" في الترجمة الميت، سواء كان حاضرًا، أو غير حاضر، فأحاديث الباب، وإن كانت فيها الاصطفاف على الغائب، إلا أنه يُعلم منه حكم الحاضر، لأن الاصطفاف إذا شرع، والجنازة غائبة، ففي الحاضرة أولى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا قال في "الفتح"، وفيه أن محلّ الاستدلال قوله:"فصف بنا"، وعندي أنه قوله:"كما يصف على الجنازة"، فليس الاستدلال بالقياس على الغائب المشبه، بل هو بصريح المشبه به. والحاصل أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى على الجنازة صف الناس، ثم صلى، ففعل ذلك أيضًا حينما صلى على النجاشي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب،

1970 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَاشِيَّ، قَدْ مَاتَ، فَقُومُوا، فَصَلُّوا عَلَيْهِ» ، فَقَامَ فَصَفَّ بِنَا، كَمَا يُصَفُّ عَلَى الْجَنَازَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ.

رجال الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عُبيد) بن محمد بن واقد المحاربيّ، أبو جعفر، أو أبو يعلى النّحّاس الكوفيّ، صدوق [10] 144/ 226.

(1)

- راجع "الفتح" ج 3 ص 542.

ص: 278

2 -

(حفص بن غياث) بن طَلْق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقة فقيه تغيّر في الآخر قليلاً [8] 86/ 105.

3 -

(ابن جُريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج نُسب لجدّه، الأمويّ مولاهم، المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلّس [6] 28/ 32.

4 -

(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة فقيه فاضل، كثير الإرسال [3] 112/ 154.

5 -

(جابر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حَرَام رضي الله عنهما 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو موثّق. (ومنها): أن شيخه، وشيخ شيخه كوفيان، والباقون مدنيّون. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرِ) رضي الله عنه وللبخاريّ: "أنه سمع جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، فصرّح عطاء بالسماع (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّ أَخَاكُمُ") وفي رواية البخاريّ، من طريق هشام بن يوسف، عن ابن جريج: "قد توفي اليوم رجل من الحَبَش

"، ولمسلم من طريق يحيى بن سعيد، عن ابن جريج: "مات اليوم عبدٌ للَّه، صالح، أصحمة".

قال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: بفتح الهمزة، وإسكان الصاد، وفتح الحاء المهملتين، وهذا هو الذي وقع في رواية مسلم، وهو الصواب المعروف فيه، وهكذا هو في كتب الحديث والمغازي، وغيرها، ووقع في مسند ابن أبي شيبة في هذا الحديث تسميته "صَحْمَة" بفتح الصاد، وإسكان الحاء، وقال هكذا قال لنا يزيد -يعني ابن هارون- وإنما هو "صَمْحة" يعني بتقديم الميم على الحاء، وهذان شاذّان، والصواب "أصحمة"

بالألف. قال قتيبة وغيره: ومعناه بالعربية عطية انتهى

(1)

(النَّجَاشِيَّ) بفتح النون، وتخفيف الجيم، وبعد الألف شين معجمة، ثم ياء ثقيلة، كياء النسب، وقيل: بالتخفيف، ورجّحه الصغانيّ، وهو لقب من ملك الحبشة، وحكى المطرّزيّ تشديد الجيم عن بعضهم، وخطّأه

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: والنجاشيّ لقب لكلّ من ملك الحبشة، وأما

(1)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 25 "كتاب الجنائز" -"باب في التكبير على الجنائز".

(2)

- "فتح" ج 3 ص 543 "كتاب الجنائز باب الصفوف على الجنائز".

ص: 279

أصحمة، فهو اسم علم لهذا الملك الصالح الذي كان في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال المطرّزيّ، وابن خالويه، وآخرون، من الأئمة كلامًا متداخلًا، حاصله: أن كلّ من ملك المسلمين يقال له: أمير المؤمنين، ومن ملك الحبشة النجاشي، ومن ملك الروم قيصر، ومن ملك الفرس كسرى، ومن ملك الترك خاقان، ومن ملك القبط فرعون، ومن ملك مصر العزيز، ومن ملك اليمن تُبَّع، ومن ملك حِمْيَر القَيل بفتح القاف، وقيل: القيل أقلّ درجة من الملك انتهى

(1)

.

فائدة: قال في "الفتح": أرض الحبشة بالجانب الغربيّ من بلاد اليمن، ومسافتها طويلة جدًّا، وهم أجناس، وجميع فِرَق السودان يُعطُون الطاعةَ لملك الحبشة، وكان في القديم يلقّب بالنجاشيّ، وأما اليوم، فيقال له: الحَطِي -بفتح المهملة، وكسر الطاء المهملة الخفيفة، بعدها تحتانيّة خفيفة- ويقال: إنهم من ولد حبش بن كوش بن حام. قال ابن دُريد: جمع الحَبَش أُحبوش بضم أوله، وأما قولهم: الحَبَشَة فعلى غير القياس، وقد قالوا أيضًا: حُبْشان، وقالوا: أَحْبُش، وأصل التحبيش التجميع. واللَّه أعلم انتهى

(2)

.

(قَدْ مَاتَ فَقُومُوا) فيه إيجاب القيام في صلاة الجنازة، وسيأتي البحث عنه في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى (فَصَلُّوا عَلَيْهِ) فيه إيجاب الصلاة على الميت، وهو كما تقدّم على الكفاية، وفيه أيضًا جواز الصلاة على الغائب، وقد تقدّم اختلاف أهل العلم فيه في -57/ 1946 - (فَقَامَ، فَصَفَّ بِنَا) يؤخذ منه مطابقة الحديث للترجمة

(3)

، لأن الغالب أن الملازمين له صلى الله عليه وسلم كانوا كثيرين، ولا سيّما مع أمره لهم بالخروج إلى المصلّى. أفاده الكرماني. وفي رواية أبي الزبير الآتية:"فصففنا عليه صفّين"، وفي رواية له، عن جابر رضي الله عنه قال: كنت في الصفّ الثاني

وفي رواية للبخاريّ "فصففنا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن صفوف"(كَمَا يُصَفُّ عَلَى الْجَنَازَةِ) ببناء الفعل للمفعول، أي صفًا مشابهًا لصفّ الصلاة على الجنازة الحاضرة، والمراد به أن تلك الصلاة صلاة حقيقة، وليست مجرّد دعاء (وَصَلَّى عَلَيْهِ) أي صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشيّ رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

(1)

- "شرح مسلم" في الموضح المتقدم.

(2)

- "فتح" ج 7 ص 587: "كتاب مناقب الأنصار" -"باب هجرة الحبشة" رقم الحديث 3872 - 3876.

(3)

قد عرفت فيما سبق أول الباب أن مَحَلَّ المطابقة قوله: "كما يصفّ على الجنازة"، لا قوله:"فصفّ بنا". فتنبّه.

ص: 280

حديث جابر رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -72/ 1970 - و 1973 و 1974 وفي "الكبرى" 72/ 2597 و 2100 و 2101. وأخرجه (خ) 1317 و 1320 و 1334 و 3877 و 3878 و 3979 (م) 9952 (أحمد) 14545 و 14868. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو مشروعيّة الصفوف للصلاة على الجنازة، قال في "الفتح": وفي الحديث دلالة على أن للصفوف على الجنازة تأثيرًا، ولو كان الجمع كثيرًا، لأن الظاهر أن الذين خرجوا معه صلى الله عليه وسلم كانوا عددًا كثيرًا، وكان المصلى فضاء واسعا، ولا يضيق بهم لو صفّوا فيه صفّا واحدًا، ومع ذلك فقد صفّهم، وهذا هو الذي فهمه مالك ابن هبيرة الصحابي المتقدّم ذكره، فكان يصُفّ من يحضر الصلاة على الجنازة ثلاثة صفوف، سواء قلّوا، أو كثروا، ويبقى النظر فيما إذا تعددت الصفوف، والعدد قليل، أو كان الصفّ واحدًا، والعدد كثير، أيهما أفضل؟. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا ذكره ولم يبتّ الحكم، والذي يظهر لي أن تعدد الصفوف، وإن قلّ العدد هو الأولى، واللَّه تعالى أعلم.

ومنها: أن الصلاة على الميت صلاة لا تجزىء إلا بطهارة، خلاف قول من قال: يجزىء أن يصلي على الجنازة بغير طهارة، ويؤيد ذلك قول اللَّه تعالى:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} الآية [84]، فسماها اللَّه تعالى صلاةً، وكذا رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث قال:"فصلّوا عليه"، وقال:"صلوا على صاحبكم"، وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم قوله:"لا يقبل اللَّه صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غُلُول".

ومنها: أن في قصة النجاشيّ علَمًا من أعلام النبوّة، لأنه صلى الله عليه وسلم أعلمهم بموته في اليوم الذي مات فيه، مع بعد ما بين أرض الحبشة والمدينة. ومنها: أنه استَدَلَّ به من منع الصلاة على الجنازة في المسجد، وهو قول الحنفية، والمالكية، لكن قال أبو يوسف: إن أُعدّ مسجد للصلاة على الموتى لم يكن في الصلاة فيه عليهم بأس. قال النوويّ: ولا حجة فيه، لأن الممتنع عند الحنفيّة إدخال الميت المسجد، لا مجرّد الصلاة عليه، حتى لو كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله. وقال ابن بزيزة وغيره: استَدلّ به بعض المالكيّة، وهو باطل، لأنه ليس فيه صيغة نهي، ولاحتمال أن يكون خرج بهم إلى المصلى لأمر غير المعنى المذكور، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل ابن بيضاء في المسجد، فكيف يترك هذا الصريح لأمر محتمل؟ بل الظاهر أنه إنما

ص: 281

خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدر كونه أسلم، فقد روى ابن أبي حاتم في "التفسير" من طريق ثابت، والدارقطنيُّ في الأفراد"، والبزّار من طريق حميد، كلاهما عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلّى على النجاشيّ قال بعض أصحابه: صلى على عِلْج من الحبشة، فنزلت: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} الآية [آل عمران: 199]، وله شاهد في "معجم الطبرانيّ الكبير" من حديث وحشيّ بن حرب، وآخر عنده في "الأوسط" من حديث أبي سعيد، وزاد فيه أن الذي طعن بذلك فيه كان منافقًا. ومنها: أنه استُدلّ به على مشروعيّة الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعيّ، وأحمد، وجمهور السلف، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه. وقدم تقدّم تمام البحث فيه، وأن الراجح جوازه في 57/ 1946، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

فائدة: قال في "الفتح": أجمع كلّ من أجاز الصلاة على الغائب أن ذلك يُسقط فرضَ الكفاية، إلا ما حُكي عن ابن القطّان، أحد أصحاب الوجوه من الشافعيّة أنه قال: يجوز، ولا يُسقط الفرض انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1971 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَّ، الْيَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ".

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(سويد بن نصر) المروزي الملقب "شاه"، رواية ابن المبارك، ثقة [10] 45/ 55.

(عبد اللَّه) بن المبارك الإمام الحجة الثبت [8] 32/ 36.

3 -

(مالك) بن أنس، إمام دار الهجرة الحجة الثبت [7] 7/ 7.

4 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري الإمام الحجة الثبت رأس [4] 1/ 1.

5 -

(سعيد بن المسيب) بن حَزْن بن وهب القرشيّ الإمام الحجة الثبت من كبار [3].

6 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "نعى للناس" أي أخبرهم بموته. وقوله: "اليومَ الذي مات فيه"، "اليوم" منصوب على الظرفيّة. وقوله:"إلى المصلّى" بصيغة اسم المفعول، أي إلى المكان الذي كان يُصلَّى فيه على الجنازة. وفي رواية ابن ماجه: "فخرج وأصحابه إلى البقيع،

(1)

- "فتح" ج 3 ص 545 "كتاب الجنائز" -"باب الصفوف على الجنائز".

ص: 282

فصفّنا خلفه". قال في "الفتح": والمراد بالبقيع بقيع بُطحان، أو يكون المراد بـ "المصلّى" موضعًا مُعدّا للجنائز ببقيع الغرقد، غير مصلى العيدين، والأول أظهر. وقد تقدّم في العيدين أن المصلّى كان ببطحان. انتهى

(1)

. وتمام شرح الحديث يُعلم مما قبله، وهو حديث متفق عليه، أخرجه المصنّف هنا -72/ 1971 - و 1972 و 27/ 1879 و 1980 و2041 و 2042 وأخرجه (خ) 1218 و 1333 (م) 951 (د) 3204 (ت) 1522 (ق) 1534 (أحمد) 7719 و 9363 و 9371 (الموطأ)530. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1972 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا

(2)

مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:"نَعَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، النَّجَاشِيَّ لأَصْحَابِهِ، بِالْمَدِينَةِ، فَصَفُّوا خَلْفَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا". قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ابْنُ الْمُسَيَّبِ إِنِّي لَمْ أَفْهَمْهُ

(3)

كَمَا أَرَدْتَ.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن رافع) النسابوري الثقة العابد [11] 92/ 114.

2 -

(عبد الرّزّاق) بن همّام الصنعانيّ الثقة ذو التصانيف الشهيرة [9] 61/ 77.

3 -

(معمر) بن راشد الصنعاني الثقة الثبت [7] 10/ 10.

4 -

(أبو سلمة) بن عبدالرحمن بن عوف المدنيّ الثقة الفقيه [3] 1/ 1.

والباقون ذكروا في الذي قبله، وكذا شرح الحديث، وذكر مسائله.

وقوله: "قال أبو عبدالرحمن: ابن المسيّب إني لم أفهمه، كما أردت". يعني -واللَّه أعلم- أن المصنّف لم يَفهم ذكر سعيد بن المسيّب مع أبي سلمة في هذا السند، ولعل ذلك أن شيخه محمد بن رافع لم يرفع صوته بذكره، أو حصل له الالتباس بسبب كثرة الناس، فلم يستطع أن يسمع تمام السماع. وهذا الكلام ليس في "الكبرى".

[تنبيه]: ذكر في "الفتح" عند قوله: "عن الزهريّ، عن سعيد": ما نصّه: هو ابن المسيّب، كذا رواه أصحاب معمر البصريون عنه، وكذا هو في مصنّف عبد الرزاق، عن معمر، وأخرجه النسائيّ، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزّاق، فقال فيه:"عن سعيد، وأبي سلمة"، وكذا أخرجه ابن حبّان من طريق يونس، عن الزهريّ، عنهما، وكذا ذكره الدارقطنيّ في "غرائب مالك"، من طريق خالد بن مخلد، وغيره، عن مالك، والمحفوظ عن مالك ليس فيه ذكر أبي سلمة، كذا هو في "الموطإ"، وكذا أخرجه البخاريّ، في أوائل

(1)

- "فتح" ج 3 ص 543.

(2)

- وفي نسخة: "أنبانا".

(3)

- وفي نسخة "لم أفهم".

ص: 283

"الجنائز"، والمحفوظ عن الزهريّ أن نعي النجاشيّ، والأمر بالاستغفار له عنده عن سعيد، وأبي سلمة جميعًا، وأما قصّة الصلاة عليه، والتكبير، فعنده عن سعيد وحده، كذا فصّله عُقيل عنه، وذكر الدارقطنيّ في "العلل" الاختلاف فيه، وقال: إن الصواب ما ذكرناه انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1973 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا

(2)

إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنَّ أَخَاكُمْ

(3)

، قَدْ مَاتَ، فَقُومُوا، فَصَلُّوا عَلَيْهِ، فَصَفَفْنَا عَلَيْهِ صَفَّيْنِ

(4)

.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عليّ بن حُجر) السعديّ المذكور قبل باب.

2 -

(إسماعيل) ابن عُليّة البصريّ الثبت الحافظ [8] 18/ 19.

3 -

(أيوب) بن أبي تميمة السختيانيّ الثبت الحجة الفقيه [5] 42/ 48.

4 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدرس المكيّ، صدوق [4] 31/ 35.

والصحابي رضي الله عنه تقدّم أول الباب.

والحديث متفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان المسائل المتعلّقة به في أول الباب رقم- 1970 - فراجعها تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1974 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، سَمِعْتُ شُعْبَةَ، يَقُولُ: السَّاعَةَ يَخْرُجُ، السَّاعَةَ يَخْرُجُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي، يَوْمَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى النَّجَاشِيِّ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس البصريّ الحافظ الثبت [10] 4/ 4.

2 -

(أبو داود) سليمان بن داود الطيالسيّ البصريّ، ثقة حافظ [9] 11/ 343.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 24/ 26.

والباقيان تقدما في الذي قبله.

(1)

- "فتح" ج 3 ص 542 - 543.

(2)

- وفي نسخة: "أنبانا".

(3)

- وفي نسخة "إن أخًا لكم".

(4)

كان الأولى للمصنف أن يقدم حديث جابر رضي الله عنه هذا والذي بعده إلى حديثه أول الباب. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 284

وقوله: "سمعت شعبة يقول: الساعة يخرج الخ" بنصب "الساعةَ" على الظرفية.

قال السنديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: الظاهر أنه بيان كيفية تحمّلهم الحديث، لكن في الكلام اختصار، وكان أصله كنّا عند باب أبي الزبير، منتظرين لخروجه، ونقول: الساعةَ يخرج أبو الزبير من البيت. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حاصل ما أشار إليه السنديّ، أن أبا داود سمع شعبة يحدّث عن أبي الزبير قائلًا: كنا عند باب أبي الزبير ننتظر خروجه، ونقول: الساعة يخرج إلينا من بيته، فيحدّثنا، فخرج، فحدثنا، عن جابر الخ. هذا حاصل معنى كلامه، وبالجملة فالمحلّ محلّ نظر وتأمّل. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال في "الكبرى" بعد ذكر هذا الحديث: ما نصّه: قال أبو عبد الرحمن: أبو الزبير اسمه محمد بن مسلم بن تَدْرُس مكيّ، كان شعبة سيّىء الرأي فيه، وأبو الزبير من الحفاظ، روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وأيوب، ومالك بن أنس، فإذا قال: سمعت جابرًا، فهو صحيح، وكان يدلّس، وهو أحبّ إلينا في جابر من أبي سفيان، وأبو سفيان هذا اسمه طلحة بن نافع، وباللَّه التوفيق انتهى

(2)

.

والحديث صحيح، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1975 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَاشِيَّ، قَدْ مَاتَ، فَقُومُوا، فَصَلُّوا عَلَيْهِ» ، قَالَ: فَقُمْنَا، فَصَفَفْنَا عَلَيْهِ، كَمَا يُصَفُّ

(3)

عَلَى الْمَيِّتِ، وَصَلَّيْنَا عَلَيْهِ، كَمَا يُصَلَّى

(4)

عَلَى الْمَيِّتِ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجحدريّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(بشر بن المفَضَّل) البصريّ، ثقة ثبت عابد [8] 66/ 82.

3 -

(يونس) بن عُبيد بن دينار العبديّ، أبو عبيد البصريّ، ثقة ثبت فاضل ورع [5] 88/ 109.

4 -

(محمد بن سيرين) أبو بكر بن أبي عمرة الأنصاريّ مولاهم البصريّ، ثقة ثبت فقيه عابد [3] 46/ 57.

(1)

- "شرح السندي" ج 3 ص 70 - 71.

(2)

- "السنن الكبرى" ج 1 ص640 "كتاب الجنائز" رقم 72/ 2101.

(3)

- وفي نسخة: "نصفّ".

(4)

- وفي نسخة: "نصلي".

ص: 285

5 -

(أبو المهلّب) الجَرْميّ البصريّ، عم أبي قلابة، اسمه عمرو، أو عبد الرحمن بن معاوية، وقيل غيره، ثقة [2] 23/ 1236.

6 -

(عمران بن حُصين) - رضي اللَّه تعالى عنهما - 201/ 321. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسل بثقات البصريين، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى شيخه، فمن أفراده، وأن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "كما يُصّفُّ على الميت" بالبناء للمفعول، وكذا قوله:"كما يُصلَّى الميت".

وفي نسخة: "كما نَصُفُّ على الميت"، و "كما نُصلي على الميت"، فعلى هذا فالفعل مبني للفاعل.

يعني أنه ليس المراد بالصلاة الصلاة اللغويّة، بمعنى الدعاء له، بل هي مثل الصلاة التي تُصلّى على الميت الحاضر، وهي المشتملة على التكبيرات، والقراءة، والدعاء، كما سيأتي في باب "الدعاء" إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم شرحه مستوفًى، وكذا بيان المسائل المتعلّقة به في - 57/ 1946 - فراجعها هناك، تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌73 - الصَّلَاةُ عَلَى الْجَنَازَةِ قَائِمًا

1976 -

أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: صَلَّيْتُ

(1)

مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى أُمِّ كَعْبٍ

(2)

، مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي الصَّلَاةِ فِي وَسَطِهَا.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حُميد بن مسعدة) بن المبارك الساميّ الباهليّ البصريّ، صدوق [10] 5/ 5.

2 -

(عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان العنبريّ مولاهم، أبو عبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 6/ 6.

(1)

- وفي نسخة: "صلّى".

(2)

- وفي نسخة: "أم فلان".

ص: 286

3 -

(حسين) بن ذكوان المعلّم العَوْذيّ البصريّ، ثقة ربما وَهِم [6] 122/ 174.

4 -

(ابن بريدة) عبد اللَّه الأسلميّ، أبو سهل المروزيّ، ثقة [3] 25/ 393.

5 -

(سمرة) بن جُندب الفزاريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه 25/ 393. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، وابن بريدة، وإن كان مروزيّا، إلا أنه بصريّ الأصل، فإن أباه كان ممن نزل البصرة، ثم انتقل منها إلى مرو. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَمُرَةَ) بن جندب رضي الله عنه، أنه (قَالَ: صَلَّيْتُ) وفي نسخة "صلَّى"(مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى أُمِّ كَعْبٍ) الأنصاريّة رضي الله عنها، لم أجد لها ترجمة وافية، فلم يذكر في "الإصابة"، ولا في "أسد الغابة" مما يتعلّق بها غير حديث سمرة رضي الله عنه هذا، وفي نسخة:"على أمّ فلان"(مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا) أي في وقت نفاسها، أو في حال نفاسها، وفي رواية للبخاريّ:"في بطن"، أي بسبب بطن، يعني الحمل (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي الصَّلَاةِ) أي في حال الصلاة عليها (فِي وَسَطِهَا) أي محاذيًا لوسطها، قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: بفتح السين في روايتنا، وكذا ضبطه ابن التين، وضبطه غيره بالسكون، وقال العينيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ولا يقال بالسكون إلا في متفرّق الأجزاء، كالناس، والدوابّ، وبالفتح فيما كان متصل الأجزاء انتهى.

وقال الفيّوميّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وحقيقة الوَسَط ما تساوت أطرافه، وقد يراد به ما يُكتَنَف من جوانبه، ولو من غير تساوٍ، كما قيل: إن صلاة الظهر هي الوسطى

(1)

، ويقال: ضربتُ وَسَطَ رأسه بالفتح لأنه اسم لما يَكتنِفُهُ من جهاته غيره، ويصحّ دخول العوامل عليه، فيكون فاعلاً، ومفعولاً، ومبتدأً، فيقال: اتسع وَسَطُه، وضربت وَسَطَ رأسه، وجلستُ في وسَط الدّار، ووسَطُهُ خيرٌ من طرفه، قالوا: والسكون فيه لغةٌ، وأما وَسْطٌ بالسكون فهو بمعنى "بَيْنَ"، نحوُ جلست وسط القوم: أي بينهم انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: قد تبيّن بما ذكره الفيّوميّ رحمه الله أن الوسط إذا كان بمعنى

(1)

- تقدم في بابه أن الأرجح أن صلاة الوسطى هي العصر.

(2)

- "المصباح" في مادّة وسط.

ص: 287

"بين" يكون ساكن السين، وما عداه يكون مفتوحها، ويجوز على قلّة سكونها، فتأمل.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث سمرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -73/ 1976 - و 25/ 393 و 75/ 1979 وفي "الكبرى" 73/ 2103 و 75/ 2106. وأخرجه (خ) 331 و 1331 و 1332 (م) 964 (د) 3195 (ت) 1035 (ق) 1493. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو مشروعيّة القيام عند أداء الصلاة على الجنازة. ومنها: إثبات مشروعية الصلاة على النفساء، وإن كانت من جملة الشهداء، لأنها ليست من شهيد المعركة. ومنها: أنّ فيه -كما قال في "الفتح"- مشروعيةَ الصلاة على المرأة، فإن كونها نفساء وصف غير معتبر، وأما كونها امرأة، فيحتمل أن يكون معتبرًا، فإن القيام عند وسطها لسترها، وذلك مطلوب في حقها، بخلاف الرجل، ويحتمل أن لا يكون معتبرًا، وأن ذلك كان قبل اتخاذ النعش للنساء، فأما بعد اتخاذه، فقد حصل الستر المطلوب، ولهذا ترجم البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بقوله:"باب أين يقوم من المرأة والرجل؟ "، فأورده مورد السؤال، وأراد عدم التفرقة بين الرجل والمرأة، وأشار إلى تضعيف ما رواه أبو داود، والترمذيّ من طريق أبي غالب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه صلّى على رجل، فقام عند رأسه، وصلّى على امرأة، فقام عند عجيزتها، فقال له العلاء بن زياد: أهكذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعل؟، قال: نعم.

وحكى ابن رشيد عن ابن المرابط أنه أبدى لكونها نفساء علّة مناسبة، وهي استقبال جنينها ليناله من بركة الدعاء. وتعُقّب بأن الجنين كعضو منها، ثم هو لا يُصلَّى عليه إذا انفرد، وكان سِقْطًا، فأحرى إذا كان باقيًا في بطنها أن لا يُقصد انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله في "الفتح"، من تضعيف حديث أنس رضي الله عنه ليس كما ينبغي، فإنه صحيح، فقد أخرجه أبو داود -3194 - والترمذيّ- 1034 - بسند صحيح، ولفظ أبي داود:

(1)

- "فتح" ج 3 ص 561 "كتاب الجنائز".

ص: 288

3194 -

حدثنا داود بن معاذ، حدثنا عبد الوارث، عن نافع أبي غالب، قال: كنت في سِكَّة المِرْبَد، فمرت جنازة، معها ناس كثير، قالوا: جنازة عبد اللَّه بن عمير، فتبعتها، فإذا أنا برجل عليه كساء رقيق، على بُرَيذِينته، وعلى رأسه خرقة، تقيه من الشمس، فقلت: مَن هذا الدهقان؟ قالوا: هذا أنس بن مالك، فلما وُضِعت الجنازة، قام أنس، فصلى عليها، وأنا خلفه، لا يحول بيني وبينه شيء، فقام عند رأسه، فكبر أربع تكبيرات، لم يُطِل ولم يسرع، ثم ذهب يقعد، فقالوا: يا أبا حمزة، المرأة الأنصارية، فقربوها، وعليها نعش أخضر، فقام عند عجيزتها، فصلى عليها، نحو صلاته على الرجل، ثم جلس، فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان يفعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يصلي على الجنازة، كصلاتك، يكبر عليها أربعا، ويقوم عند رأس الرجل، وعجيزة المرأة؟، قال: نعم، قال: يا أبا حمزة، غزوتَ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، غزوتُ معه حنينا، فخرج المشركون، فحملوا علينا، حتى رأينا خيلنا وراء ظهورنا، وفي القوم رجل، يحمل علينا، فيدُقُّنا، وَيحطِمنا، فهزمهم اللَّه، وجعل يُجاء بهم، فيبايعونه على الإسلام، فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ علي نذرا إن جاء اللَّه بالرجل الذي كان منذ اليوم يحطمنا، لأضربن عنقه، فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وجيء بالرجل، فلما رأى رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول اللَّه تبت إلى اللَّه، فأمسك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لا يبايعه، ليفي الآخر بنذره، قال: فجعل الرجل، يتصدى لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ليأمره بقتله، وجعل يهاب رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، أن يقتله، فلما رأى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، أنه لا يصنع شيئا بايعه، فقال الرجل: يا رسول اللَّه نذري، فقال:"إني لم أمسك عنه، منذ اليوم، إلا لتوفي بنذرك"، فقال: يا رسول اللَّه، ألا أومضت إلي؟، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنه ليس لنبي، أن يومض" قال أبو غالب: فسألت عن صنيع أنس، في قيامه على المرأة، عند عجيزتها، فحدثوني أنه إنما كان، لأنه لم تكن النعوش، فكان الإمام يقوم حيال عجيزتها، يسترها من القوم.

قال أبو داود: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه"، نسخ من هذا الحديث الوفاء بالنذر، في قتله بقوله: إني قد تبت انتهى.

ولفظ الترمذيّ:

1034 -

حدثنا عبد اللَّه بن منير، عن سعيد بن عامر، عن همام، عن أبي غالب، قال: صليت مع أنس بن مالك، على جنازة رجل، فقام حيال رأسه، ثم جاءوا بجنازة امرأة، من قريش، فقالوا: يا أبا حمزة، صل عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، قام على الجنازة، مقامك منها، ومن الرجل

ص: 289

مقامك منه؟، قال: نعم، فلما فرغ قال: احفظوا.

وفي الباب عن سمرة، قال أبو عيسى: حديث أنس هذا حديث حسن.

وقد رَوَى غير واحد عن همام مثل هذا، وروى وكيع هذا الحديث عن همام فوهم فيه، فقال: عن غالب، عن أنس، والصحيح عن أبي غالب. وقد رَوَى هذا الحديث عبد الوارث بن شعيد، وغير واحد، عن أبي غالب، مثل رواية همام، واختلفوا في اسم أبي غالب هذا، فقال بعضهم: يقال: اسمه نافع، ويقال: رافع، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا، وهو قول أحمد، وإسحاق انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وهذا الإسناد صحيح، وأبو غالب وثقه ابن معين، وأبو حاتم، وغيرهما، فبان بهذا أن الحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في محلّ وقوف الإمام من الميت في حال الصلاة عليه:

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: اختلفوا في موقف الإمام من الرجل والمرأة إذا صلى عليهما، فقالت طائفة: يقوم بحيال الصدر رجلًا كان، أو امراةً، هكذا قال أصحاب الرأي.

وقال الأوزاعيّ، وسعيد بن عبد العزيز: إذا كان رجلًا فقم بحذاء وسطه، وإن كانت امرأة فقم بحذاء منكبها. وقال الثوريّ: يقوم مما يلي صدر الرجل. وكان أبو ثور يقول: يقوم وسط الجنازة. وكان الحسن البصريّ لا يبالي أين يقوم من الرجل والمرأة.

وقد روينا عن النخعيّ ثلاث روايات: إحداها: أن يقوم من الرجل والمرأة وسطًا.

والثانية: أن يقوم عند صدر الرجل، ومنكب المرأة. والثالثة: أن يقوم عند صدر الرجل والمرأة.

وقالت طائفة: يقوم من المرأة وسطها، ومن الرجل عند صدره، هذا قول أحمد بن حنبل.

قال ابن المنذر: يقوم من المرأة وسطها، وعند رأس الرجل انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي رجّحه ابن المنذ رحمه الله هو الأرجح عندي؟ لصحة حديث أنس رضي الله عنه، كما تقدّم قريبًا، وهو مذهب الشافعيّ، وداود، وابن حزم، -رحمهم اللَّه تعالى-.

قال العلّامة الشوكانيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بعد حكاية المذاهب: قد عرفت أن الأدلة

(1)

- "الأوسط" باختصار ج 5 ص 418 - 419.

ص: 290

دلّت على ما ذهب إليه الشافعيّ، وأن ما عداه لا مُستند له، من المرفوع، بل مجرّد التعويل على محض الرأي، أو ترجيح ما فعله الصحابيّ على فعله صلى الله عليه وسلم، وإذا جاء نهر اللَّه بطل نهر معقل. نعم لا ينتهض مجرّد الفعل دليلًا للوجوب، ولكن النزاع فيما هو الأولى والأحسن، ولا أولى، ولا أحسن من الكيفيّة التي فعلها المصطفى صلى الله عليه وسلم انتهى

(1)

.

وقال في "الروضة النديّة" ص -167 - : أقول: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقف مقابلًا لرأس الرجل، ولم يثبت عنه غير ذلك، وأما المرأة، فروي أنه كان يقوم مقابلًا لوسطها، وروي أنه كان يقوم مقابلًا لعجيزتها، ولا منافاة بين الروايتين، فالعجيزة يصدُق عليها أنها وسط، دمايثار ما ثبت عن رسول اللَّه عفَجِ عند أئمة الفنّ الذين هم المرجع لغيرهم واجب، ولم يقل أحد من أهل العلم بترجيح قول أحد من الصحابة، أو من غيرهم على قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفِعلِهِ، وهذا مما لا ينبغي أن يخفى انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله العلامة الشوكانيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- حسنٌ جدًّا.

وحاصله أن السنة قيام الإمام بحذاء رأس الرجل، ووسط المرأة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌74 - اجْتِمَاعُ جَنَازَةِ صَبِيٍّ وامْرَأَةٍ

1977 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَضَرَتْ جَنَازَةُ صَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ، فَقُدِّمَ الصَّبِيُّ مِمَّا يَلِى الْقَوْمَ، وَوُضِعَتِ الْمَرْأَةُ وَرَاءَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِمَا، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، فَسَأَلْتُهُمْ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: السُّنَّةُ.

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه بن يزيد) أبو يحيى المكيّ، ثقة [10] 11/ 11.

2 -

(أبوه) عبد اللَّه بن يزيد المقرىء، أبو عبد الرحمن المكيّ، ثقة فاضل [9] 4/ 746.

3 -

(سعيد) بن أبي أيّوب الخزاعيّ مولاهم، أبو يحيى المصريّ، ثقة ثبت [7] 27/ 1880.

(1)

- "نيل الأوطار" ج 4 ص 82. "باب موقف الإمام من الرجل والمرأة".

ص: 291

4 -

(يزيد بن أبي حبيب) أبو رجاء المصريّ، ثقة فقيه يرسل [5] 134/ 207.

5 -

(عطاء بن أبي رباح) المذكور في الباب الماضي.

6 -

(عمّار) بن أبي عمّار، مولى بني هاشم، ويقال: مولى بني الحارث بن نوفل أبو عَمْرو، ويقال: أبو عُمَر، ويقال: أبو عبد اللَّه المكّيّ، صدوق ربّما أخطأ [3].

قال أحمد، وأبو داود: ثقة. وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة، لا بأس به. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال البخاريّ فى "الأوسط" بعد أن ساق حديثه عن ابن عباس في سنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا يتابع عليه، قال: وكان شعبة يتكلّم فيه. وقال أبو داود: قلت لأحمد: روى شعبة عنه حديث الحيض؟ قال: لم يسمع غيره، قلت: تركه عمدًا؟ قال: لا، لم يسمع. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات في ولاية خالد بن عبد اللَّه القَسْريّ على العراق، قال: وكان يخطىء.

روى له الجماعة سوى البخاريّ، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، و 3639 حديث جابر رضي الله عنه في قضاء دين أبيه.

7 -

(الصحابة الأربعة) - رضي اللَّه تعالى عنهم -. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير سعيد، ويزيد فمصريان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمَّارٍ) بن أبي عمّار -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أنه (قَالَ: حَضَرَتُ) بالإسناد إلى ضمير المتكلّم، وفي نسخة:"شَهِدتُ"(جَنَازَةَ صَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ) بنصب "جنازةَ" على أنه مفعول لـ "حضرتُ"، ويحتمل أن تكون التاء في "حَضَرَتْ" للتأنيث، و"جنازةُ" مرفوع على الفاعليّة، والوجه الأولى أولى.

وقد بيّنت الرواية الثانية أن المرأة هي أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، زوج عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وأن الصبيّ ولدها المسمّى زيد، وَلَدُ عمر رضي الله عنه، مات هو وأمه في وقت واحد، ولم يُدر أيهما مات أوّلاً، فلم يتوارثا (فَقُدِّمَ الصَّبِيُّ مِمَّا يَلِي الْقَوْمَ) أي في الجانب الذي يلي القوم الذين حضروا للصلاة، وفي رواية أبي داود:"فجُعل الغلام مما يلي الإمام"(وَوُضِعَتِ الْمَرْأَةُ وَرَاءهُ) أي بعد الصبيّ إلى جهة القبلة (فَصَلَّى عَلَيْهِمَا) هكذا نسخ "المجتبى""فصلّى" بصيغة الماضي، وعلى هذا فالفاعل ضمير يعود إلى القوم، وأفرده باعتبار لفظه، ويحتمل أن يكون بصيغة المجهول، والجارّ والمجرور هو النائب

ص: 292

عن الفاعل، وفي "الكبرى":"يصلي عليهما" بصيغة المضارع، وفي الرواية الآتية في الباب التالي:"والإمام يومئذ سعيد بن العاص"(وَفِي الْقَوْمِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان - رضي اللَّه تعالى عنهما - (وَابْنُ عَبَّاسٍ) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما - (وَأَبُو قَتَادَةَ) الحارث بن رِبْعيّ، على المشهور،: رضي الله عنه (وَأَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وقوله:"وفي القوم" خبر مقدّم، وقوله:"أبو سعيد الخ" مبتدأ مؤخّر، والجملة في محلّ نصب على الحال. وذكر في رواية نافع الآتية في الباب التالي "ابنَ عمر" معهم.

وفي رواية البيهقيّ: "وفي القوم الحسن، والحسين، وابن عمر، وأبو هريرة، ونحو من ثمانين نفسًا، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (فَسَأَلْتُهُمْ عَنْ ذَلِكَ؟) وفي رواية أبي داود: "فأنكرت ذلك"، أي أنكرت وضع الصبيّ جهة القوم، والمرأة جهة القبلة، وفي الرواية التالية: "فقال رجل: فأنكرتُ ذلك، فنظرت إلى ابن عباس، وأبي هريرة، وأبي قتادة، فقلت: ما هذا؟، قالوا: هي السنّة" (فَقَالُوا: السُّنَّةُ) خبر لمحذوف، أي هي السنة، يعنون أن هذه الكيفية هي سنة النبيّ صلى الله عليه وسلم، لأن قول الصحابيّ: هذا من السنة له حكم الرفع، عند جمهور أهل العلم، كما قال الحافظ السيوطيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "ألفية الحديث":

وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ

نَحْوُ "مِنَ السُّنَّةِ" مِنْ صَحَابِي

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عمار بن أبي عمار عن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -74/ 1977 - و 75/ 1978 - من رواية نافع، وفي "الكبرى" 74/ 2104 و 75/ 2105 - وأخرجه ()3193.

وموضع استدلال المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- من الحديث قوله: "فقُدِّم الصبيُّ مما يلي القوم الخ، ففيه بيان حكم ما إذا اجتمع جنازة صبيّ، وامرأة، وذلك أن يوضع الصبيّ مما يلي الإمامِ، وتوضع المرأة بعده، مما يلي القبلة، وسيأتي بيان اختلاف أهل العلم في ذلك مُستوفًى في الباب التالي إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

***

ص: 293

‌75 - اجْتِمَاعُ جَنَائِزِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ

1978 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا

(1)

عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا

(2)

ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا، يَزْعُمُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، صَلَّى عَلَى تِسْعِ جَنَائِزَ، جَمِيعًا، فَجَعَلَ الرِّجَالَ يَلُونَ الإِمَامَ، وَالنِّسَاءَ يَلِينَ الْقِبْلَةَ، فَصَفَّهُنَّ صَفًّا وَاحِدًا، وَوُضِعَتْ جَنَازَةُ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيٍّ، امْرَأَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنٍ لَهَا، يُقَالُ لَهُ: زَيْدٌ وُضِعَا جَمِيعًا، وَالإِمَامُ يَوْمَئِذٍ، سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَفِي النَّاسِ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ، فَوُضِعَ

(3)

الْغُلَامُ، مِمَّا يَلِى الإِمَامَ، فَقَالَ رَجُلٌ: فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ، فَنَظَرْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي قَتَادَةَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هِيَ السُّنَّةُ.

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن رافع) القشيري النيسابوري، ثقة عابد، [11] 92/ 114.

2 -

(عبد الرزاق) بن همام الصنعاني ثقة حافظ، مصنف تغير في آخره، وكان يتشيع [9] 61/ 77.

3 -

(ابن جريج) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي، ثقة فاضل فقيه، لكنه يدلس ويرسل [6] 28/ 32.

4 -

(نافع) العدوي مولى ابن عمر ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.

5 -

الصحابة المذكورن - رضي اللَّه تعالى عنهم -. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وفيه الإخبار، والسماع، وفيه أن نافعًا ينقل فعل ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - في الصلاة على الجنائز المجتمعة، فيوافقه على ذلك أربعة من الصحابة، فقالوا: إن هذه الكفية في القيام على الجنائز المجتمعة هي السنة، وقد سبق أن قول الصحابيّ: من السنة كذا له حكم الرفع. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- وفي نسخة: "أنبأنا".

(2)

- وفي نسخة "أنبأنا".

(3)

- وفي نسخة: "ووضع".

ص: 294

شرح الحديث

عن ابن جريج أنه (قال: سَمِعْتُ نَافِعًا، يَزْعُمُ) أي يقول. قال الفيّوميّ رحمه الله: زَعَم زَغمًا، من باب قتل يقتل، وفي "الزّعم" ثلاث لغات: فتح الزاي، للحجاز، وضمها لأسد، وكسرها لبعض قيس، وُيطلق بمعنى القول، ومنه زَعَمت الحنفيّة، وزعَم سيبويه، أي قال، وعليه قوله تعالى:{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ} الآية [الإسراء: 92]، أي كما أخبرت. ويطلق على الظن، وعلى الاعتقاد، والغالب أن يستعمل فيما كان باطلًا أو فيه ارتياب. أفاده في "المصباح"

قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: وما هنا من النوع الأول، فلا يراد هنا الظّنّ ولا غيره، بل المراد القول الحقّ. واللَّه تعالى أعلم.

(أَنَّ ابْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (صَلَّى عَلَى تِسْعِ جَنَائِزَ جَمِيعًا) منصوب على الحال، أي حال كونها مجتمعة، يعني أنه صلى عليها مرّة واحدة (فَجَعَلَ الرِّجَالَ يَلُونَ الإِمَامَ، وَالنِّسَاءَ يَلِينَ الْقِبْلَةَ، فَصَفَّهُنَّ صَفًّا وَاحِدًا) أي وضعهنّ في صفّ واحد بالطول نحول القبلة (وَوُضِعَتْ جَنَازَةُ أُمِّ كُلْثُومِ) الظاهر أن هذه واقعة أخرى غير الواقعة المذكورة التي صلى فيها ابن عمر رضي الله عنهما علىَ تسع جنائز، لأن الإمام فيها ابن عمر رضي الله عنهما، والإمام في هذه سعيد بن العاص، كما يأتي قريبًا (بنْتِ عَلِيٍّ) بن أبي طالب رضي الله عنه، بجرّ "بنت" صفة لـ "أمّ كلثوم"(امْرَأَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، بجرّ "امرأة" أيضًا بدلاً من "أمّ كلثوم" (وَابْنٍ لَهَا) بجرّ "ابن" عطفًا على "أم كلثَوم" (يُقَالُ لَهُ: زَيْدٌ) بن عمر (وُضِعَا جمِعًا، وَالإِمَامُ يَوْمَئِذٍ سَعِيدُ ابْنُ الْعَاصِ) بن أميّة الأمويّ، لكونه أمير المدينة في ذلك الوقت، وكان لسعيد هذا عند موت النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين، وذُكر في الصحابة، وولي إمرة الكوفة لعثمان، وإمرة المدينة لمعاوية، ومات سنة (58) وقيل: غير ذلك، وتقدّم [17/ 1529](وَفِي الناسِ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَأَبو قَتَادَةَ، فَوُضِعَ الْغُلَامُ) أي زيد المذكور، وفي نسخة:"ووضع" بالواو (مِمَّا يَلي الإِمَامَ، فَقَالَ رَجُلٌ:) الظاهر أنه عمّار بن أبي عمّار المتقدّم في الباب الماضي (فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ، فَنَظَرْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي قَتَادَةَ، فَقُفتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هِيَ السُّنَّةُ) أي هذه الكيفيّة هي السنة المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، تقدّم تخريجه في الباب الماضي. وبقي الكلام على اختلاف العلماء في حكم اجتماع جنائز الرجال والنساء، فاقول -وباللَّه سبحانه وتعالى التوفيق-:

مسألة: في اختلاف أهل العلم في ترتيب جنائز الرجال والنساء إذا اجتمعت:

ص: 295

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: اختلفوا في جنائز الرجال والنساء إذا اجتمعت كيف توضع؟ فقالت طائفة: يكون الرجال يَلُون الإمامَ، والنساءُ أمامَ ذلك، مما يلي القبلة، روينا ذلك عن عثمان بن عفّان، وعلي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي قتادة رضي الله عنهم.

وبه قال سعيد بن المسيّب، والشعبيّ، والنخعيّ، وعطاء، والزهريّ، ويحيى الأنصاريّ، ومالك، وسفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي.

وقال طائفة: يجعل النساء مما يلي الإمام، والرجال مما يلي القبلة، هذا قول الحسن، والقاسم، وسالم، وروي هذا القول عن مسلمة بن مُخَلَّد.

وفيه قول ثالث: وهو أن يصلّي على المرأة على حِدَةٍ، وعلى الرجل على حِدَةٍ، فَعَلَ ذلك ابنُ مغفّل، وقال: هذا لا شكّ فيه.

قال ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: بالقول الأول أقول، للسنّة التي ذكرها من ذكرنا ذلك عنه من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحق عندي ما رجّحه ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-؛ لأنه الذي ثبت بالسنّة التي ذكرها أبو سعيد الخدريّ، وابن عباس، وأبو هريرة، وأبو قتادة رضي الله عنهم، وأما الأقوال الأخرى فلا أثارة عليها من حجة، سوى الاجتهاد الصِّرْف، وهو إذا عارض السنة، يُلْغَى، "إذا جاء نهر اللَّه بطل نهر مَعْقِل". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1979 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالْفَضْلُ بْنُ مُوسَى ح وَأَخْبَرَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ حُسَيْنٍ الْمُكْتِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَلَّى عَلَى أُمِّ فُلَانٍ، مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ فِي وَسَطِهَا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم قبل باب، وتقدّم شرحه، والكلام على مسائله هناك، ولا يظهر لي مناسبة ذكره في هذا الباب، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.

و"الفضل بن موسى": هو السِّينَانيّ -بمهملة مكسورة، ونونين- أبو عبد اللَّه المروزيّ، ثقة ثبت، ربما أغرب، من كبار [9] 83/ 100، والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: "المكتب" بصيغة اسم الفاعل، من الإكتاب، أو التكتيب، وهو تعليم

(1)

- "الأوسط" بتصرّف، واختصار ج 5 ص 419 - 422.

ص: 296

الكتابة، كما تفيده عبارة "ق"، ولعل حسينًا كان يعلّم الكتابة، وكان يقال له أيضًا:"المعَلِّم". واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "أم فلان" هي أم كعب المتقدّمة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌76 - عَدَدُ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَازَةِ

1992 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،، عَنْ سَعِيدٍ

(1)

، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَّ، وَخَرَجَ بِهِمْ، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدّم قبل ثلاثة أبواب -72/ 1971 - رواه هناك عن سُويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن مالك به، وما هنا أعلى سندًا، إذ وصل فيه إلى مالك بواسطة، وهناك بواسطتين، وتقدّم الكلام عليه هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

ومحلّ استدلال المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- على الترجمة منه قوله: "وكبّر أربع تكبيرات"، فإنه يدلّ على مشروعيّة التكبير على الجنائز أربع مرّات، وسيأتي تمام البحث فيه في آخر الباب، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1981 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ: مَرِضَتِ امْرَأَةٌ، مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَحْسَنَ شَيْءٍ، عِيَادَةً لِلْمَرِيضِ، فَقَالَ:«إِذَا مَاتَتْ فَآذِنُونِي» ، فَمَاتَتْ لَيْلاً، فَدَفَنُوهَا، وَلَمْ يُعْلِمُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَصْبَحَ، سَأَلَ عَنْهَا، فَقَالُوا: كَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَتَى قَبْرَهَا، فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم في 43/ 1907 باب "الإذن بالجنازة" وتقدّم شرحه، والكلام على مسائله هناك، وتقدّم أيضًا في - 71/ 1969 - باب "الصلاة على الجنازة بالليل".

ومحلّ الاستدلال لهذا الباب واضح، كسابقه.

(1)

هو ابن المسيب، كما تقدم برقم (1971).

ص: 297

وقوله: "أحسن شيء عيادة"، بنصب "عيادةً" على التمييز، أي كان؟ أحسن الناس من حيث عيادةُ المريض. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1982 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ، فَكَبَّرَ عَلَيْهَا خَمْسًا، وَقَالَ: كَبَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلّاس الصيرفيّ البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الشهير الحجة الثبت [7] 24/ 26.

4 -

(عمرو بن مرّة) بن عبد اللَّه بن طارق الْجَمَليّ الكوفيّ، ثقة عابد [5] 171/ 265.

5 -

(ابن أبي ليلى) عبد الرحمن الأنصاريّ، المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقة [2] 86/ 104.

6 -

(زيد بن أرقم) بن زيد بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابي المشهور رضي الله عنه 13/ 13. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول بصريون، والثاني كوفيون. (ومنها): شيخه هو أحد مشايخ الأئمة السنّة الذين رووا عنهما بلا واسطة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ) عبد الرحمن (ابْنِ أَبِي لَيْلَى، أنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ) رضي الله عنه (صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ، فَكَبَّرَ عَلَيْهَا خَمْسًا) أي خمس تكبيرات (وَقَالَ: كَبَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي كبر صلى الله عليه وسلم مثل هذه التكبيرات الخمس، ولفظ مسلم من طريق غندر، عن شعبة:"قال: كان زيد يكبر على جنائزنا أربعًا، وإنه كبّر على جنازة خمسًا، فسألته؟ فقال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يكبّرها".

وفي هذا الحديث، والذي قبله أن عدد التكبير كان مختلِفًا، فثبت أنه صلى الله عليه وسلم كبر أربعا، وثبت أيضًا أنه كبّر خمسًا، وقد اختلف أهل العلم في ذلك، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 298

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخر جه هنا -76/ 1982 - وفي "الكبرى" 76/ 2109. وأخرجه (م) 957 (د) 3197 (ت) 1023 (ق) 150 (أحمد) 18786 و 18813 و 18825 و 18833. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في عدد التكبيرات على الجنازة:

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: اختدفوا في عدد التكبيرات على الجنائز على

أقوال:

الأول: يكبّر ثلاثًا، وهو قول ابن عباس، وأنس بن مالك، وجابر بن زيد، وقال محمد بن سيرين: إنما كان التكبير ثلاثًا، فزادوا واحدًا.

الثاني: يكبّر أربعًا، هذا قول أكثر أهل العلم، وممن قال به عمر بن الخطاب، وزيد ابن ثابت، وابن أبي أوفى، وابن عمر، والحسن بن عليّ، والبراء بن عازب، وأبو هريرة، وعقبة ابن عامر، ومحمد بن الحنفية، وعطاء بن أبي رباح، وسفيان الثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأصحاب الرأي.

الثالث: يكبّر خمسًا، هذا قول ابن مسعود، وزيد بن أرقم، وروي ذلك عن الضحّاك بن مزاحم.

الرابع: لا يزاد على سبع، ولا يُنقص عن ثلاث، هذا قول بكر بن عبد اللَّه المزنيّ.

الخامس: قول أحمد: لا ينقص من أربع، ولا يزاد على سبع.

السادس: يكبرون ما كبر إمامهم، روي ذلك عن ابن مسعود، وكان إسحاق يقول: إذا كبّر الإمام على الجنازة خمسًا، أو أربعًا، أو ما زاد إلى أن يبلغ سبعًا لزم المقتدي به أن ينتهي إلى تكبير الإمام.

السابع: يكبّر ستا، روينا ذلك عن علي بن أبي طالب أنه صلى على سهل بن حُنيف، فكبّر ستًا، وروي ذلك عن ابن مسعود، وروي عن علي بن أبي طالب أنه صلّى على أبي قتادة، فكبّر عليه سبعًا، وروي عنه أنه كان يكبّر على أهل بدر ستا، وعلى أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خمسًا، وعلى سائر الناس أربعًا.

قال: وقد اختلف بعض من رأى أن التكبير على الجنائز أربع في الإمام يكبّر خمسا، فقالت طائفة: إذا زاد الإمام على أربع انصرف، هذا قول الثوريّ، وكذلك فعل، انصرف لما ذهب الإمام يكبّر الخامسة، وكان النعمان يقطعه حيث يكبّر الرابعة،

ص: 299

ويسلّم، ثم ينصرف. وقال مالك في هذا قف حيث وَقَفتِ السنّةُ أن لا تكبّر الخامسة.

وقالت طائفة: يكبر خمسا إذا كبّر الإمام خمسًا، هذا قول أحمد بن حنبل، وقال إسحاق: لو كبر ستا، أو سبعًا -يعني يتبعه-. وذكر لأحمد إذا كبّر ستا، أو سبعًا، أو ثمانيا، قال: أما هذا فلا، وأما خمس فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نختار أربعًا. قال ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ثبتت الأخبار عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من وجوه شتّى أنه كبّر على الجنائز أربعًا، وقد تكلّم في حديث زيد بن أرقم، فقالت طائفة من أصحاب الحديث به، وممن كان لا يمتنع منه، ولا ينهى عنه، ويرى الاقتداء بالإمام إذا كبّر خمسًا أحمد بن حنبل، وكان يرى أن يكبّر أربعًا، ودفعت طائفة من أصحابنا حديث زيد ابن أرقم، وقالت: لم يكن زيد يكبّر أربعا إلا لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبّر خمسًا، ثم صار آخر الأمر إلى أن كبّر أربعًا، ولولا ذلك ما كان زيد يكبّر أربعًا، فدلّ فعله على ذلك أن ذلك آخر الأمرين من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما كان زيد يختاره، والدليل على ذلك حديث عمر رضي الله عنه:

حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا أبي، قال: ثنا يزيد بن هارون، ووهب بن جرير، قالا: أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن سعيد بن المسيّب، قال: قال عمر: كل ذلك قد كان، خمس، وأربع، فجمع الناس على أربع. وقال وهب في حديثه: فأمر الناس بأربع

(1)

.

والأخبار التي روبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر أربعا أسانيدها جياد صحاح، لا علّة لشيء منها. انتهى كلام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- باختصار وتصرّف

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحقّ أن الأولى أن يكبّر أربعًا، لورد الأدلّة بذلك، وثبوتها ثبوتا متواترا، من طرق جماعة من الصحابة: أبي هريرة، وابن عباس، وجابر، وعقبة بن عامر، والبراء بن عازب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وغيرهم رضي الله عنهم، وإن كبر خمسًا، جاز، لثبوته من حديث بن أرقم رضي الله عنه المذكور في الباب، وأخرجه مسلم في "صحيحه".

وأما قول ابن عبد البرّ: وانعقد الإجماع بعد ذلك على أربع، وأجمع الفقهاء، وأهل الفتوى بالأمصار على أربع، على ما جاء في الأحاديث الصحاح، وما سوى ذلك عندهم فشذوذ، لا يلتفت إليه انتهى.

فدعوى باطلة، فإن الخلاف في ذلك معروف بين الصحابة ومن بعدهم، وقد

(1)

- قلت حديث ابن المسيب فيه انقطاع، لأنه لم يسمعه من عمر رضي الله عنه.

(2)

- "الأوسط" ج 5 ص 429 - 434.

ص: 300

استوعب اختلاف الصحابة، فمن بعدهم، أبو بكر ابن المنذر رحمه الله، في كتابه "الأوسط"[ج 5 ص 429/ 435]، كما أسلفنا عنه بعض كلامه، وأبو محمد ابن حزم رحمه الله في "المحلّى"[ج 5 ص 128/ 124] وقد فنّد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- دعوى الإجماع على أربع تكبيرات، فأجاد، وأفاد.

قال: ولم نجد عن أحد من الأئمة تكبيرًا أكثر من سبع، ولا أقلّ من ثلاث، فمن زاد على خمس، وبلغ ستا، أو سبعًا، فقد عمل عملاً، لم يصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قط، فكرهناه لذلك، ولم ينه عليه السلام عنه، فلم نقل: بتحريمه؛ لذلك، وكذلك القول فيمن كبّر ثلاثًا، وأما ما دون الثلاث، وفوق السبع، فلم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا علمنا أحدًا قال به، فهو تكلّف، وقد نهينا أن نكون من المتكلّفين. انتهى كلام ابن حزم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- باختصار

(1)

.

والحاصل أن الأولى أن يكبّر أربعًا، فلو بلغ خمسًا، فلا بأس، لصحة الحديث بذلك، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في رفع اليدين في تكبيرات الصلاة على الجنازة:

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: أجمع عوامّ أهل العلم على أن المصلي على الجنازة يرفع يديه في أول تكبيرة يكبّرها، واختلفوا في رفع اليدين في سائر التكبيرات:

فقالت طائفة: تُرفع الأيدي في كلّ تكبيرة على الجنازة، كذلك كان عمر يفعل. وبه قال عطاء، وعمر بن عبد العزيز، وقيس بن أبي حازم، والزهريّ، وسالم بن عبد اللَّه بن عمر، وروينا ذلك عن مكحول، والنخعيّ، وموسى بن نعيم، وبه قال الأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.

واختُلِفَ فيه عن مالك، فحكى ابن وهب عنه أنه قال: يعجبني أن يرفع اليدين في التكبيرات الأربع، وحكى ابن نافع عنه أنه قال: أستحبّ أن يرفع يديه في التكبيرة الأولى، وحكى ابن القاسم أنه حضره يصلي على الجنازة، فما رفع يديه في أول تكبيرة، ولا غيرها.

وقالت طائفة: ترفع اليد في أول تكبيرة من الصلاة على الميت، ثم لا ترفع بعدُ كذلك قال الثوريّ، وأصحاب الرأي، ورُوي ذلك عن النخعيّ، خلافَ القول الأول عنه.

قال ابن المنذر رحمه الله: بقول ابن عمر أقول؛ اتباعًا له، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما بيّن رفع

(1)

- "المحلّى" ج 5 ص 128.

ص: 301

اليدين في كلّ تكبيرة يكبرها المرء وهو قائم، وكانت تكبيرات العيدين، والجنائز في موضع القيام، ثبت رفع اليدين فيها قياسًا على رفع اليدين في التكبير في موضع القيام، ولما أجمعوا على الرفع في أول تكبيرة

(1)

، واختلفوا فيما سواها، كان حكم ما اختلفوا فيه حكمَ ما أجمعوا عليه انتهى كلام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بتصرّف

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، من استحباب رفع اليدين في جميع التكبيرات هو الأرجح عندي؛ لأنه لم يثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خلافه، وصحّ عن ابن عمر، موقوفًا عليه، أخرجه البخاريّ في "جزء رفع اليدين" بسند صحيح، ولم يثبت لدينا مخالفة الصحابة له في ذلك، فدلّ مع شدة اتباع ابن عمر لآثار النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله اتباعًا، لا سيّما، وقد رُوي عنه مرفوعًا أيضًا، وإن رجّح الدارقطنيّ وقفه.

والحاصل أن الأرجح مشروعية رفع اليدين في جميع تكبيرات الصلاة على الجنازة.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌77 - الدُّعَاءُ

1983 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ، يَقُولُ:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَعَافِهِ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِمَاءٍ، وَثَلْجٍ، وَبَرَدٍ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا، كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَقِهِ عَذَابَ الْقَبْرِ، وَعَذَابَ النَّارِ» ، قَالَ عَوْفٌ: فَتَمَنَّيْتُ، أَنْ لَوْ كُنْتُ الْمَيِّتَ، لِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِذَلِكَ الْمَيِّتِ.

(1)

- عبارة: "الأوسط" فيها ركاكة، وهي هكذا:"ولما أجمعوا أن لا يدرى فرفع في أول تكبيرة الخ". فلتحرّر.

(2)

- "الأوسط" ج 5 ص 426 - 428.

ص: 302

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أحمد بن عمرو بن السرح) المصريّ، ثقة [10] 35/ 139.

2 -

(ابن وهب) عبد اللَّه الحافظ الثبت المصريّ [9] 9/ 9.

3 -

(عمرو بن الحارث) بن يعقوب المصريّ الحافظ الثبت الفقيه [7] 63/ 79.

4 -

(أبو حمزة بن سُليم) عيسى الحمصيّ الرَّسْتَنيّ -بفتح الراء، والمثناة، بينهما مهملة ساكنة، وآخره نون- الْعَنسِيّ، صدوق له أوهام [7].

قال أبو حاتم: ثقة صدوق. وقال أحمد: لا أعرفه

(1)

روى له مسلم، والمصنف، وله عندهما حديث الباب فقط.

5 -

(عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير) الحضرميّ الحمصيّ، ثقة [4] 45/ 952.

6 -

(جُبير بن نُفير) بن مالك بن عامر الحمصيّ، ثقة جليل [2] 50/ 62.

7 -

(عوف بن مالك) الأشجعيّ، أبو حمّاد، وقيل: غير ذلك، صحابيّ مشهور، من مسدمة الفتح، سكن دمشق، ومات سنة (73) روى له الجماعة، تقدم 50/ 62. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن الثلاثة الأولين مصريّون، والباقون شاميّون. (ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، ورواية تابعيّ، عن تابعيّ.، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ) جملة في محل نصب على الحال من المفعول، وفي الرواية التالية:"يصلي على ميت"(يَقُولُ) والجملة أيضا حال، أو مفعول ثان على قول من عدّ "سمع" مما يتعدى إلى المفعولين، أصلهما المبتدأ والخبر (اللَّهُمَّ اغفِرْ لَهُ) أي استر ذنوب هذا الميت، واصفَح عنه، يقال: غفر اللَّه له غَفْرًا، من باب ضرب، وغُفرانًا بالضمّ: صفح عنه. قاله في "المصباح"(وَارْحَمْهُ) أي ارفُقْ به، يقال: رحمت زيدًا رُحْمًا بضم الراء، ورَحْمة، ومَرحَمةً: إذا رفقت له، وحَنَنتَ. قاله في "المصباح" أيضًا (وَاعْفُ عَنْهُ) أي امح عنه

(1)

- وكتب الحافظ هنا: ما نصّه: وأما عيسى بن سُليم الذي ذكره العقيليّ في "الضعفاء"، فهو آخر كوفيّ، روى عن أبي وائل، شقيق بن سلمة، وعنه أبو بكر بن عيّاش، ولعله الذي قال فيه أحمد: لا أعرفه انتهى "تت" ج 3 ص 357 - 358.

ص: 303

ذنوبه، يقال: عفا عنه، وعفا له ذنبه، وعن ذنبه: تركه، ولم يُعاقبه.

والعفو: الصفح، وترك عقوبة المستحقّ. قال المرتضى في شرح "ق": الصفح ترك التَّأْنيب، وهو أبلغ من العفو، فقد يعفو، ولا يَصْفَح، وأما العفو، فهو القصد لتناول الشيء، هذا هو المعنى الأصليّ. قال الراغب: فمعنى عفوتُ عنك، كأنه قصد إزالة ذنبه، صارفًا عنه، فالمعفوّ المتروك، "وعنك" متعلّق بمضمر، فالعفو هو التجافي عن الذنب انتهى "ق" وشرحه، باختصار، وتغيير (وَعَافِهِ) وفي الرواية التالية تقديمه على ما قبله، أي ادفع عنه المكروه، قال في "ق": والعافية: دفاع اللَّه عن العبد، ويقال: عافاه اللَّه تعالى عن المكروه، عِفَاءً بالكسر، ومُعافاة، وعافية: إذا وهب له العافية من العلل، والبلاء، كأعفاه انتهى (وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ) بضمتين، ويُخفّف بتسكين ثانيه، في الأصل طعام الضيف الذي يُهيّأ له، والمراد هنا ما يُعطيه اللَّه لعبده عند لقائه، مما لا عين رأت، ولا

أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر (وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ) وفي الروية السابقة في [50/ 62]"وأوسع". و"المدخل" بفتح الميم، وضمها: محل الدخول، والمراد به هنا القبر (وَاغْسِلْهُ بمَاءٍ، وَثَلْجٍ، وَبَرَدٍ) وفي الرواية التالية بتعريف الثلاث. و"الثلج" هو ماء ينزل من السماءَ، ثم ينعقد على وجه الأرض، ثم يذوب بعد جموده. و"الْبَرَد" -بفتحتين-: هو حَبّ الغمام، وهو ماء ينزل من السماء جامدًا، كالملح، ثم يذوب على الأرض.

قال التوربشتيّ رحمه الله: ذكر أنواع المطهّرات المنزّلة من السماء التي لا يمكن حصول الطهارة الكاملة إلا بأحدها، بيانًا لأنواع المغفرة التي لا يُتَخَلَّص من الذّنوب إلا بها، أي طهّرني بأنواع مغفرتك التي هي في تمحيص الذنوب بمثابة هذه الأنواع في إزالة الأرجاس، ورفع الأحداث انتهى.

وقال الخطابيّ رحمه الله: هذه أمثال، ولم يُرَد بها أعيان هذه المسمّيات، وإنما أراد بها التوكيد في التطهير من الخطايا، والمبالغة في محوها عنه، والثلج والبرد ماءان لم تمسّهما الأيدي، ولم يمتهنهما الاستعمال، فكان ضرب المثل بهما أوكد في بيان معنى ما أراده من تطهير الثوب انتهى.

وقد تقدّم مزيد بسط لذلك في "كتاب الطهارة"[50/ 62] وإنما أعدته هنا تذكيرا حيث طال العهد به. وباللَّه تعالى التوفيق.

(وَنَقِّهِ) بتشديد القاف، من التنقية، وهو كناية عن إزالة الذنوب، ومحو أثرها (مِنَ الْخَطَايَا) جمع خطية، كعطيّة، وعطايا، أي من الذنوب والمآثم (كَمَا يُنَقَّى) أي يطهّر، ويُنطّف، وفي الرواية التالية:"كما نقّيت" بصيغة الماضي (الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ) بفتحتين، أي الوَسَخ، ووقع التشبيه بالثوب الأبيض، لأن ظهور النَّقَاء فيه أشدّ،

ص: 304

وأكمل؛ لصفائه، بخلاف غيره من الألوان (وَأَبْدِلْهُ) أي عوّضه، يقال: أبدلته بكذا، إبدالاً: نَحَّيتُ الأوّل، وجعلت الثاني مكانه، وبدّلته، تبديلًا، بمعنى غيّرته تغييرًا، وبدّل اللَّه السيّئات حسنات، يتعدّى إلى مفعولين بنفسه، لأنه بمعنى جعل، وصيّر، وقد استُعمل أبدَلَ بالألف مكان بدّل بالتشديد، فعُدّي بنفسه إلى مفعولين، لتقارب معناهما، وفي السبعة:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} الآية [التحريم: 5] من أفعل، وفعّل.

والبَدَل -بفتحتين- والْبدْلُ -بالكسر- والْبَدِيل -كأمير-: كلها بمعنى الْخَلَف، والجمع أَبدالٌ. انتهى "المصباح" بتصرّف.

وفي نسخة "أبدله" بحذف العاطف، وفي أخرى "وأبدل له" بزيادة لام الجرّ، وزيادة اللام فيه محلّ نظر (دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ) هي دار الجنة التي فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذّ الأعين (وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: الأهل هنا عبارة عن الخَدَم والْخَوَل، ولا تدخل الزوجة فيهم؛ لأنه قد خصّها بالذكر بعد ذلك، حيث قال:"وزوجًا خيرًا من زوجه"، ويحتمل أن يكون من باب:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] ويفهم منه أن نساء الجنّة أفضل من نساء الآدميات، وإن دخلن الجنّة، وقد اختلف في هذا المعنى انتهى

(1)

(وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ) قال السنديّ رحمه الله: هذا من عطف الخاصّ على العامّ، على أن المراد بالأهل ما يعمّ الخدم أيضًا. وفيه إطلاق "الزوج" على المرأة، قيل: هو أفصح من "الزوجة" انتهى.

وقال الفيّوميّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: الرجل زوج المرأة، وهي زوجه أيضًا، هذه هي اللغة العالية، وبها جاء القرآن، نحو:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} الآية [البقرة: 35]، والجمع فيهما أزواج، قاله أبو حاتم، وأهل نجد يقولون في المرأة: زوجة بالهاء، وأهل الحرم يتكلّمون بها، وعَكَس ابن السكِّيت، فقال: وأهل الحجاز يقولون للمرأة: زوج بغير هاء، وسائر العرب: زوجة بالهاء، وجمعها زوجات، والفقهاء يقتصرون في الاستعمال عليها؛ للإيضاح، وخوف لبس الذكر بالأنثى، إذ لو قيل: تَرِكَةٌ فيها زوج، وابن، لم يُعلَم، أذكرٌ هو، أم أنثى؟ انتهى.

وذكر السيوطيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "شرحه" أن طائفة من الفقهاء قالوا: هذا خاصّ بالرجل، ولا يقال في الصلاة على المرأة أبدلها خيرًا من زوجها؛ لجواز أن تكون لزوجها في الجنّة، فإن المرأة لا يمكن الاشتراك فيها، والرجل يقبل ذلك. انتهى.

(2)

.

(1)

- "المفهم" ج 2 ص 614 - 615.

(2)

- "زهر الربى" ج 3 ص 73 - 75.

ص: 305

(وَقِهِ عَذَابَ القَبْرِ) أي احفظه من أن يناله عذاب في قبره (وَعَذَابَ النَّارِ) أي احفظه عذاب جهنّم، وفي الرواية التالية بدل قوله:"وقه عذاب القبر الخ": "وأدخله الجنّة، ونجّه من النار"، أو قال:"وأعذه من عذاب القبر"(قَالَ: عَوْفٌ) أي ابن مالك رضي الله عنه الرواي لهذا الحديث (فَتَمَنَّيْتُ، أَنْ) هي مخففة من "أنّ" المشدّدة، واسمها محذوف، أي أنّي لو كنتُ، قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

وَإنْ تُخَفَّفْ "أَنَّ" فَاسْمُهَا اسْتَكَنَّ

وَالْخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلَةً مِنْ بَعْدِ "أَنْ"

وَإِنْ يَكُنْ فِعْلًا وَلَمْ يَكُنْ دُعَا

وَلَمْ يَكُنْ تَصْرِيفُهُ مُمْتَنِعَا

فَالأَحْسَنُ الْفَصْلُ بِـ"قَدْ" أَوْ نَفْي أوْ

تَنْفِيسٍ أوْ "لَو" وَقَلِيلٌ ذِكْرُ "لَو"

(لَوْ كُنْتُ الْمَيِّتَ)"ال" فيه للعهد الذكريّ، أي ذلك الميت الذي في قوله:"صلى على جنازة"، ويحتمل أن تكون للعهد الحضوريّ باعتبار وقت التمنّي، أي الميت الحاضر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.

فإن قلت: تقدّم حديث النهي عن تمنّي الموت، فكيف تمنّى عوف رضي الله عنه ذلك؟. قلت: هذا ليس من باب تمنّي الموت، لأنه لا يلزم من تمنّيه دعاءَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتمنّى الموت، إذ المراد تمنّى دعائه إذا جاءه الموت عند انقضاء أجله، لا أنه يتمنّى الموت الآن، فافهم. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. (لِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِذَلِكَ المَيِّتِ) الجارّ والمجرور الأول يتعلّق بـ "تمنّيت"، والثاني بـ "دعاء"، يعني أنه إنما تمنّى أن يكون ذلك الميتَ لأجل أن تناله بركة دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عوف بن مالك رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -77/ 1983 - و 1984 و 50/ 62 - وفي "الكبرى" 77/ 2110 و 2111. وأخرجه (م) 2229 و 2231 (ت) 1025 (ق) 1500 (أحمد) 23455 و 23480. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو مشروعيّة الدعاء في صلاة الجنازة، وهو معظم مقصودها. ومنها: مشروعية الصلاة على الجنازة، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى. ومنها: استحباب هذا الدعاء. ومنها: أن فيه إشارة إلى الجهر

ص: 306

بالدعاء في صلاة الجنازة، قال النوويّ رحمه الله: وقد اتفق أصحابنا على أنه إن صلّى عليها بالنهار أسرّ بالقراءة، وإن صلى بالليل ففيه وجهان، الصحيح الذي عليه الجمهور: يسرّه، والثاني: يجهر، وأما الدعاء، فيسرّ به بلا خلاف، وحينئذ يتأول هذا الحديث على أن قوله:"حفظت من دعائه"، أي علّمنيه بعد الصلاة، فحفظته انتهى.

(1)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا التأويل فيه نظر؛ إذ لا يؤيّده ظاهر الحديث.

قال العلامة الشوكاني رحمه الله، بعد أن ذكر اختلاف ألفاظ هذا الحديث: ما نصّه: جميع ذلك يدلّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالدعاء، وهو خلاف ما صرّح به جماعة من استحباب الإسرار بالدعاء، وقد قيل: إن جهره صلى الله عليه وسلم بالدعاء لقصد تعليمهم. وأخرج أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: ما أباح لنا في دعاء الجنازة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر"

(2)

. وفسّر "ما أباح" بمعنى قَدّر. قال الحافظ: والذي وقفت عليه باح بمعنى جهر. والظاهر أن الجهر والإسرار بالدعاء جائزان انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الشوكانيّ رحمه الله حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم. ومنها: مشروعيّة الطهارة بماء الثلج، والبرد، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى في "أبواب الطهارة"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1984 -

أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ عُبَيْدٍ الْكَلَاعِيِّ

(4)

، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي عَلَى مَيِّتٍ، فَسَمِعْتُ فِي دُعَائِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ، وَالثَّلْجِ، وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا، كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ

(5)

دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَنَجِّهِ مِنَ النَّارِ"، أَوْ قَالَ: "وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ".

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هارون بن عبد اللَّه) أبو موسى الحمّال البغداديّ، ثقة [10] 50/ 62.

(1)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 34.

(2)

- وأخرجه ابن ماجه أيضًا، وفي إسنادهما حجاج بن أرطاة، كثير الخطإ، والتدليس.

(3)

- "نيل الأوطار" ج 4 ص 79.

(4)

- الكَلَاعِيُّ بفتح الكاف، وتخفيف اللام: نسبة إلى ذي الكلاع قبيلة من حِمْيرَ. قاله في "لب اللباب" جـ 2 ص 218.

(5)

وفي نسخة: "أبدله" بلا واو.

ص: 307

2 -

(معن) بن عيسى، أبو يحيى المدنيّ، ثقة ثبت، من كبار [10] 50/ 62.

3 -

(معاوية بن صالح) بن حُدير، أبو عبد الرحمن الحمصيّ، صدوق له أوهام [7] 50/ 62.

4 -

(حَبِيب بن عُبيد الْكَلَاعيّ) أبو حفص الحمصيّ، ثقة [3] 50/ 62.

والباقيان تقدما في الذي قبله، والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1985 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا

(1)

عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رُبَيِّعَةَ السُّلَمِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ السُّلَمِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، آخَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا، وَمَاتَ الآخَرُ بَعْدَهُ، فَصَلَّيْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَا قُلْتُمْ؟» ، قَالُوا: دَعَوْنَا لَهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِصَاحِبِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«فَأَيْنَ صَلَاتُهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ؟ ، وَأَيْنَ عَمَلُهُ بَعْدَ عَمَلِهِ؟ فَلَمَا بَيْنَهُمَا، كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ» . قَالَ: عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: أَعْجَبَنِي، لأَنَّهُ أَسْنَدَ لِي.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن ميمون) الأوديّ، أبو عبد اللَّه، أو أبو يحيى الكوفيّ، مخضرم مشهور، ثقة عابد [2] 192/ 307.

2 -

(عبد اللَّه بن رُبيّعة) -بتشديد الياء، بصيغة التصغير- ابن فَرْقَد السُّلَمِيّ الكوفيّ، مختلف في صحبته. قال ابن المبارك، عن شعبة في حديثه: وكانت له صحبة، ولم يُتابع عليه. وذكره ابن حبّان في ثقات التابعين. وذكره أيضًا في الصحابة. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": سألت أبي عنه؟ فقال: إن كان السلميّ، فهو من التابعين، قال: وقال أبي في موضع آخر: عبد اللَّه بنُ ربيّعة لم يدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو من أصحاب ابن مسعود. وذكره جماعة، ممن صنّف في الصحابة.

روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والمصنف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وتقدّم له في "الأذان" 665 حديث:"إن هذا لراعي غنم .. ". وتقدم في 25/ 665.

3 -

(عُبيد بن خالد السُّلَميّ) -بضم العين المهملة، وفتح الباء، مصغّرًا، وبضم

(1)

- وفي نسخة: "أنبأنا".

ص: 308

السين، وفتح اللام -ثم الْبَهْزِيّ- بموحّدة مفتوحة، وهاء ساكنة، ثمّ زاي- وقيل فيه: عبدٌ بغير تصغير، وقيل: عُبيدة بزيادة هاء، يكنى أبا عبد اللَّه، قال البخاريّ له صحبة انتهى.

روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه تميم بن سلمة، أو سعد بن عبيدة، بالشكّ، وعبد اللَّه بن رُبيعة السُّلميّ. قال ابن عبد البرّ في "الاستيعاب": مهاجريّ، يكنى أبا عبد اللَّه، سكن الكوفة، وشهد صِفِّين مع عليّ. وقال العسكريّ: بقي إلى أيام الحجّاج. وقال خليفة بن خيّاط في "الطبقات": عُبيد بن خالد لم يُنسَب، أدرك الحجّاج.

روىِ له أبو داود حديثين، أحدهما حديث الباب، والآخر حديث:"موتُ الْفَجْأَة أَخْذَة أسَف"، وروى له المصنّف حديث الباب فقط

(1)

.

والباقون ذُكروا قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وصحابيّ، عن صحابيّ، فإن عبد اللَّه بن رُبيّعة أثبت الصحبة له شعبة، وجماعة، كما صرّح بذلك في سند المصنف هنا، وفيه أن سُويدًا، وابن المبارك مروزيان، وشعبة واسطيّ، ثم بصريّ، والباقون كوفيّون. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ السُّلَمِيِّ) رضي الله عنه زاد في رواية أحمد: "رجل من بني سُليم"(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، آخَى) بهمزة ممدودة، وقد تقلب واوًا على البدل، فيقال: واخى، كما قيل في آسى: واسى، حكاه ابن السكّيت

(2)

، أي ألف بينهما بأُخُوّة الإسلام والإيمان

(3)

(بَيْنَ رَجُلَيْنِ) لم أر من سمّاهما (فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا) بالبناء للمفعول، زاد في رواية أحمد:"على عهد النبي صلى الله عليه وسلم "، والظاهر أنه مات مقتولا في سبيل اللَّه (وَمَاتَ الْآخَرُ بَعْدَهُ) ولفظ أبي داود:"ومات الآخر بعده بجمعة، أو نحوها"(فَصَلَّينَا عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا قُلْتُمْ؟) أي أيّ شيء قلتم لهذا الميت حينما دعوتم له؟ (قَالُوا: دَعَوْنَا لَهُ) هذا محلّ الترجمة، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّهم على الدعاء في صلاة الجنازة، فدلّ على مشروعيّة

(1)

- راجع ترجمته في "الإصابة" ج 6 ص 358 و"الاستيعاب" ج 3 ص 1016 و"تهذيب الكمال" ج19 ص 200 - 202.

(2)

- راجع "المصباح".

(3)

- راجع "لسان العرب".

ص: 309

الدعاء للميت في الصلاة عليه (اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ) مقول لقول مقدّر، حال من "دعونا"، أي دعونا له قائلين: اللَّهم اغفر له (اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، اللَّهُمَّ أَلحِقْهُ بصَاحِبِهِ) أي بالمقتول (فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: "فَأَيْنَ صَلَاتُهُ بَعْدَ صَلَاِتهِ؟) أي ما صَلّاه هذا الميت بعد ما قُتِل صاحبه، زاد في رواية أبي داود:"وصومه بعد صومه -شكّ شعبة في صومه- (وَأَيْنَ عَمَلُهُ بَعْدَ عَمَلِهِ؟) أي عمله الذي عمله بعد قتل صاحبه (فَلَمَا) بفتح اللام مخفّفة، وهي لام الابتداء، و"ما" موصوله، وصلتها الظرف بعدها، ولفظ "الكبرى": "فما بينهما كما بين السماء والأرض".

وفي رواية: "والذي نفسي بيده للذي بينهما أبعدُ ما بين السماء والأرض"

(1)

(بَيْنَهُمَا) أي بين الذي قُتل، وبين الذي مات بعده بأيام، من تفاوت الدرجات (كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أي مثل بُعْد المسافة التي بين السماء والأرض. قال في "عون المعبود": قال في "المجمع": فإن قيل: كيف يفضّل زيادة عمله بلا شهادة، على عمله معها؟

قلت: قد عَرَف صلى الله عليه وسلم أن عمله بلا شهادة ساوى عمله معها بمزيد إخلاصه، وخشوعه، ثم زاد عليه بما عمله بعده، وكم من شهيد لم يدرك درجة الصدّيق انتهى

(2)

.

(قَالَ: عَمْرُو بْنُ مَيْمُونِ) الراوي عن عبد اللَّه بن رُبيّعة (أَعجَبَنِي) وفي رواية: "فأعجبني هذا الحديثُ (لِأَنَّهُ أُسْنِدَ لِي) بالبناء للمفعول، أي رُوِي لي متّصلًا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمسند هو الحديث المرفوع المتّصل، على الأصحّ، وهو المعنى المناسب هنا، وقيل: هو المرفوع، وقيل: هو المتّصل، وإلى هذا أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفية الحديث" حيث قال:

الْمُسْنَدُ الْمَرْفُوعُ ذَا اتِّصَالِ

وَقِيلَ أَوَّلٌ وَقِيلَ التَّالِي

ولعلّ عمرًا روي له الحديث من طريق آخر غير مسند، فلما أُسند له من هذا الطريق، أعجبه ذلك. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عُبيد بن خالد السُّلَميّ رضي الله عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -77/ 1985 - وفي "الكبرى" 77/ 2112. وأخرجه (د) 2524 (أحمد)

(1)

- أخرجه المزّيّ بسنده من طريق أبي نعيم الحافظ في "تهذيب الكمال" ج 19 ص 200 - 201.

(2)

- "عون المعبود" ج 7 ص 198 - 199.

ص: 310

15644 و 17462 و 17464. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو مشروعيّة الدعاء في الصلاة على الجنازة. ومنها: بيان فضل طول العمر مع العمل الصالح، فإن هذا الرجل ما زاد على صاحبه المقتول، إلا لتأخّره بعده، وزيادة عمله. ومنها: أنه ربّما ساوى الميتُ على فراشه، المقتولَ في سبيل اللَّه تعالى في الدرجات، بسبب عِظَم العمل، وقوّة الإخلاص، وزيادة الخشوع، والورع، أو بسبب فضل الأوقات، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "الساعي على الأرملة، والمسكين، كالمجاهد في سبيل اللَّه

"، وأخرج أيضًا عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "ما العمل في أيامٍ، أفضل منها، في هذه"

(1)

، قالوا: ولا الجهاد؟، قال:"ولا الجهاد، إلا رجل خرج، يخاطر بنفسه، وماله، فلم يرجع بشيء". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1986 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ، فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا، وَغَائِبِنَا، وَذَكَرِنَا، وَأُنْثَانَا، وَصَغِيرِنَا، وَكَبِيرِنَا» .

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجحدريّ البصريّ، ثقة [10] 45/ 55.

2 -

(يزيد بن زُريع) أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.

3 -

(هشام بن أبي عبد اللَّه) سَنْبَر، بوزن جعفر الدستوائيّ البصريّ، ثقة ثبت [7] 30/ 34.

4 -

(يحيى بن أبي كثير) اليماميّ، أبو نصر، ثقة ثبت يدلّس ويرسل [5] 23/ 24.

5 -

(أبو إبراهيم الأنصاريّ) الأشهليّ المدنيّ، مقبول [3].

روى عن أبي سعيد حديث "اللَّهم اغفر للمحلّقين"، وعن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة. وعنه يحيى بن أبي كثير. قال أبو حاتم: لا يُدرى من هو، ولا أبوه؟. وقال قوم: إنه عبد اللَّه بن أبي قتادة، ولا يصحّ، لأنه من بني سَلِمَة، وهذا من بني عبد الأشهل. وقال الترمذيّ: سئل محمد بن إسماعيل عن اسم أبي إبراهيم؟ فلم

(1)

-يعني أيام عشر ذي الحجة.

ص: 311

يعرفه، روى له الترمذيّ، والمصنّف هذا الحديث فقط.

6 -

(أبو أبي إبراهيم الأنصاريّ) صحابيّ، لا يعرف اسمه رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وأبي إبراهيم. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير أبي إبراهيم،، وأبيه. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، ورواية الابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) رضي الله عنه (أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ، فِي الصَّلَاةِ عَلَى المَيِّتِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا) أي حاضرنا (وَغَائِبنَا، وَذَكَرِنَا، وَأُنْثَانَا، وَصَغِيرِنَا، وَكَبِيرِنَا") قال الطيبيّ رحمه الله: المقصود من القرائن الشمول، والاستيعاب، فلا يُحمل على التخصيص؛ نظرًا إلى مفرداته، كأنه قيل: اللَّهم اغفر للمسلمين والمسلمات، كلهم أجمعين انتهى.

وههنا إشكال، وهو أن المغفرة مسبوقة بالذنوب، فكيف تتعلّق بالصغير، ولا ذنب له، وذكروا في دفعه أوجهًا، فقال السنديّ: المقصود في مثله التعميم. وقال ابن حجر الهيتميّ: الدعاء بالمغفرة في حقّ الصغير لرفع الدرجات. وقال القاري: يمكن أن يكون المراد بالصغير والكبير الشابّ والشيخ. وقال التوربشتيّ: سئل أبو جعفر الطحاويّ عن معنى الاستغفار للصبيان، مع أنه لا ذنب لهم، فقال: معناه السؤال من اللَّه أن يغفر لهم ما كتب في اللوح المحفوظ أن يفعلوه بعد البلوغ، من الذنوب حتى إذا كانوا فعلوه كان مغفورًا، وإلا فالصغير غير مكلّف، لا حاجة له إلى الاستغفار انتهى

(1)

.

زاد في غير رواية المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "اللَّهمّ مَن أحييته منّا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا، فتوفَّه على الإيمان، اللَّهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنّا بعده".

وقوه: "فأحيه على الإسلام" أي الاستسلام، والانقياد للأوامر والنواهي. وقوله:"فَتَوَفَّهُ على الإيمان" أي التصديق القلبيّ، إذ لا نافع حينئذ غيره. قيل: خصّ الوفاة بالإيمان، لأن الإسلام أكثر ما يطلق على الأعمال الظاهرة، وليس هذا وقتها.

قال في "فتح الودود": المشهور الموجود في رواية الترمذيّ وغيره: "فأحيه على الإسلام، وتوفّه على الإيمان"، وهو الظاهر المناسب، لأن الإسلام، هو التمسّك

(1)

- راجع "المرعاة شرح المشكاة" ج 5 ص 411 - 412.

ص: 312

بالأركان الظاهرية، وهذا لا يتأتى إلا في حالة الحياة، وأما الإيمان فهو التصديق الباطنيّ، وهو الذي يُطلَب عليه الوفاة، فتخصيص الأول على الإحياء، والثاني بالإماتة هو الوجه انتهى.

وقال القاري الرواية المشهورة هي العمدة، ورواية أبي داود، إما من تصرّفات الرواة، نسيانًا، أو بناء على زعم أنه لا فرق بين التقديم والتأخير، وجواز النقل بالمعنى، أو يقال: فأحيه على الإيمان، أي وتوابعه، من الأركان، وتوفَّه على الإسلام، أي على الانقياد والتسليم، لأن الموت مقدّمة {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]. انتهى.

وقال الشوكانيّ: لفظ: "فأحيه على الإسلام هو الثابت عند الأكثر انتهى.

وقوله: "لا تحرمنا أجره" بفتح التاء، وكسر الراء، من باب ضرب، أو بضمّ أوله، من باب أفعل. قال السيوطيّ: بفتح التاء، وضمها لغتان فصيحتان، والفتح أفصح، يقال: حَرَمه، وأحرمه: أي منعه، والمراد أجر موته، فإن المؤمن أخو المؤمن، فموته مصيبة عليه، يَطلُب فيها الأجر. نقله في "عون المعبود" عن "فتح الودود".

وقوله: "ولا تفتنّا بعده" بتشديد النون، من باب ضرب، أي لا تجلعنا مفتونين بعد الميت، بل اجعلنا معتبرين بموته عن موتنا، ومستعدّين لرحلتنا. وقال ابن الملك: أي لا تُلقِ علينا الفتنة بعد الإيمان، والمراد بها هاهنا خلاف مقتضى الإيمان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي إبراهيم الأنصاريّ، عن أبيه رضي الله عنه هذا صحيح. قال أبو عيسى الترمذيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: حديث والد أبي إبراهيم، حديث حسن صحيح، وروى هشام الدستوائي، وعلي بن المبارك، هذا الحديث، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلا. ورَوَى عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وحديث عكرمة بن عمار، غير محفوظ، وعكرمة ربما يَهِم في حديث يحيى. وروي عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبى صلى الله عليه وسلم. وسمعت محمدا يقول: أصح الروايات في هذا، حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي إبراهيم الأشهلي، عن أبيه، وسألته عن اسم أبي إبراهيم، فلم يعرفه. انتهى

(1)

.

(1)

- راجع "الجامع" ج 3 ص 334 - 335.

ص: 313

والحديث أخرجه أيضًا ابن حبّان، والحاكم من طريق يحمى بن أبي كثير، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبيّ، قال الحاكم: وله شاهد صحيح على شرط مسلم، فرواه من طريق عكرمة بن عمّار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة نحوه. وأخرجه البيهقيّ من طريق الحاكم، وأعلّه الترمذيّ بعكرمة بن عمار، كما مرّ آنفًا، واختلف في حديث أبي هريرة، فرواه هشام الدستوائيّ، وسعيد بن أبي عروبة، وعليّ بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ورواه أيوب بن عتبة، وهِقْل بن زياد، وشُعيب بن إسحاق، عن الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم موصولاً. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة؟ فقال: الحفّاظ لا يذكرون أبا هريرة، ص وإنما يقولون: أبو سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، ولا يوصله بذكر أبي هريرة، إلا غير متقن، والصحيح أنه مرسل انتهى. ورواه همام بن يحيى، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه أحمد ج 4 ص 170.

وقد استوفى البيهقي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- اختلاف الطرق، وقال: الصحيح أن حديث أبي إبراهيم الأشهليّ موصول، وحديث أبي سلمة مرسل. وقال أيضًا: قال أبو عيسى الترمذيّ فيما بلغني عنه: سألت محمدًا -يعني البخاريّ- عن هذا الباب، فقلت: أيّ الروايات عن يحيى بن أبي كثير أصحّ في الصلاة على الميت؟ فقال: أصحّ شيء فيه حديث أبي إبراهيم الأشهليّ، عن أبيه، ولوالده صحبة، ولم يعرف اسم أبي إبراهيم.

قال أبو عيسى: قلت له: فالذي يقال: هو عبد اللَّه بن أبي قتادة، فأنكر أن يكون هو عبد اللَّه بن أبي قتادة، وقال: أبو قتادة هو سُلميّ، وهذا أشهليّ. قال محمد: وحديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، وعائشة، وأبي قتادة في هذا الباب غير محفوظ، وأصحّ شيء في هذا الباب حديث عوف بن مالك رضي الله عنه انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر أن حديث والد أبي إبراهيم رضي الله عنه صحيح. [فإن قلت]: كيف يصلح وفيه أبو إبراهيم الأنصاري، وهو مجهول العين، لم يرو عنه سوى يحيى بن أبي كثير؟.

[قلت]: يشهد له حديث أبي هريرة وأبي قتادة، وعائشة رضي الله عنهم، فأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فصححه ابن حبّان ج 7 ص 339/ 340، والحاكم ج 1 ص 358 على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبيّ، وصحح البخاريّ، والترمذيّ، وأبو حاتم إرساله.

(1)

- "السنن الكبرى" للبيهقي ج 4 ص 41 - 42.

ص: 314

وأما حديث أبي قتادة، وعائشة، فحكم البخاريّ بأنهما غير محفوظين، وصحح الحاكم حديث عاشة على شرط مسلم، وأقره الذهبيّ أيضًا.

والحاصل أنه وإن كان الأرجح في أحاديثهم كونها مرسلة إلا إنها قُقَوِّي حديث أبي إبراهيم، فيصح بها. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -77/ 1986 - وفي "الكبرى" 77/ 2113. وأخرجه (د) 3220 (ت) 1024 (ق) 1498 (أحمد) 8591 و 17192 و 17093 و 17094 و 17095 و 22048. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1987 -

أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ -وَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَلَى جَنَازَةٍ، فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَةٍ، وَجَهَرَ، حَتَّى أَسْمَعَنَا، فَلَمَّا فَرَغَ أَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: سُنَّةٌ وَحَقٌّ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الهَيثم بن أيوب) السّلميّ، أبو عمران الطالَقَانيّ، ثقة [10] 84/ 101.

2 -

(إبراهيم بن سعد) الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8] 196/ 314.

3 -

(أبوه) سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ القاضي المدنيّ، ثقة فاضل عابد [8] 11/ 518.

4 -

(طلحة بن عبد اللَّه بن عوف) الزهريّ، أبو عبد اللَّه، ويقال: أبو محمد المدني القاضي، ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، كان يلقب طلحةَ النَّدَى، ثقة مكثر فقيه [3].

قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ، والعجليّ: ثقة. وقال ابن خيثمة: كان هو وخارجة بن زيد بن ثابت في زمانهما يُستَفتَيَان، وينتهي الناس إلى قولهما، وَيقسمان المواريث، ويكتبان الوثائق. وكذا ذكر الزبير، وذكر عنه أخبارًا في الكرم حسنة. وقال ابن سعد: كان سعيد بن المسيّب يقول: ما وَلِيَنَا مثله. وعدّه ابن المدينيّ في أتباع زيد ابن ثابت، وقال: لم يثبت عندنا لُقِيُّ طلحةَ لزيد.

وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وتوفي بالمدينة سنة (97)، وهو ابن (72) سنة. وكذا قال ابن حبّان، وزاد: كان يكتب الوثائق بالمدينة، وقال ابن أبي عاصم: مات سنة (99). روى له الجماعة، سوى مسلم، وله عند المصنّف حديثان فقط، هذا، وأعاده بعده، وحديث:"من قُتل دون ماله فهو شهيد"، وكرره أربع مرات.

5 -

(ابن عبّاس) رضي الله عنهما 28/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 315

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد العباددة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وقد تقدّموا غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبدِ الِلهِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ، أنه (قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْن عَبَّاسِ) رضي الله عنهما (عَلَى جَنَازَةٍ، فَقَرَأَ بفَاتحِةِ الْكِتَابِ، وَسُورَةٍ، وَجَهَرَ) أي بقراءتهما (حَتَّىَ أَسْمَعَنَا، فَلَمَّا فَرَغَ أَخَذْتُ بيَدِهِ، فَسَأَلْتُهُ) أي عن قراءة فاتحة الكتاب، والسورة، وفي الرواية التالية:"فسألته، فقلَت: تقرأ"، (فَقَالَ: سُنَّةٌ، وَحَقٌّ) وفي الرواية:"قال: نعم، إنه حقّ، وسنّة" وفي رواية للحاكم، من طريق ابن عجلان، أنه سمع سعيد بن المسيّب يقول:"صلى ابن عباس على جنازة، فجهر بالحمد، ثم قال: إنما جهرت لتعلموا أنها سنة". يعني أن القراءة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحقّ أي ثابت ثبوت الواجب الذي لا بدّ منه، فدلّ كلامه هذا طى وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، وأما جهره، فلأجل التعليم، كما صرّح هو به. وقد تقدّم أن قول الصحابيّ: من السنة كذا له حكم الرفع على الصحيح، وهو الذي عليه جمهور أهل العلم.

وقال الحاكم بعد رواية ابن المسيّب المذكورة: ما نصّه: وقد أجمعوا على أن قول الصحابيّ: "سنة" حديث مسند. قال الحافظ: كذا نقل الإجماع، مع أن الخلاف عند أهل الحديث، وعند الأصوليين شهير، وعلى الحاكم فيه مَأخَذٌ آخر، وهو استدراكه له، وهو في البخاريّ.

وقد روى الترمذيّ من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، وقال: لا يصحّ هذا، والصحيح عن ابن عباس قوله:"من السنة". قال الحافظ: وهذا مصير منه إلى الفرق بين الصيغتين، ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال. واللَّه أعلم.

وروى الحاكم أيضًا من طريق شُرَحبيل بن سعد، عن ابن عباس، "أنه صلى على جنازة بالأبواء، فكبّر، ثم قرأ الفاتحة، رافعا صوته، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اللَّهمّ عبدك، وابن عبدك أصبح فقيرًا إلى رحمتك، وأنت غنيّ عن عذابه، إن كان زاكيًا فزكّه، وإن كان مخطئًا فاغفر له، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلّنا بعده، ثم كبّر ثلاث

ص: 316

تكبيرات، ثم انصرف، فقال: يا أيها الناس إني لم أقرأ عليها -أي جهرًا- إلا لتعلموا أنها سنة". قال الحاكم: شُرحبيل لم يحتجّ به الشيخان، وانما أخرجته لأنه مفسّر للطرق المتقدّمة. قال الحافظ: وشرحبيل مختلف في توثيقه.

واستدلّ الطحاويّ على ترك القراءة في الأولى بتركها في باقي التكبيرات، وبترك التشهّد، قال: ولعلّ قراءة من قرأ الفاتحة من الصحابة كان على وجه الدعاء، لا على وجه التلاوة، وقوله:"إنها سنّة" يحتمل أن يريد أن الدعاء سنّة انتهى. قال الحافظ: ولا يخفى ما يجيء على كلامه من التعقّب، وما يتضمّنه استدلاله من التعسّف. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الطحاويّ تعصّب محض للمذهب الحنفيّ، ولا يستغرب منه ذلك، فإنه معروف بهذا، وإنما الغريب قول السنديّ في "شرحه": هذه الصيغةُ عندهم حكمها الرفع، لكن في إفادته الافتراض بحثٌ، نعم ينبغي أن تكون الفاتحة أولى، وأحسن من غيرها، من الأدعية، ولا وجه للمنع عنها، وعلى هذا كثيرٌ ممن محققي علمائنا، إلا أنهم قالوا: يقرأ بنية الدعاء والثناء، لا بنيّة القراءة انتهى

(2)

.

فهذا الكلام من السنديّ غريبٌ، لكونه على خلاف عادته، فإنه من المعتدلين الذين لا يتعصّبون لمذهبهم، بل كثيرًا ما يعترض عليهم، ويردّ قولهم، لكن هنا يظهر عليه الميل لرأيهم، فإنه لم يشر إلى الردّ عليهم، كعادته.

وأما الذين سماهم محققي علمائهم، فليسوا بمحققين، لأنهم لو كانوا محققين لما خالفوا الأدلّة الصريحة في إيجاب القراء، ولما قالوا: يقرؤها بنيّة الدعاء والثناء، لا بنية أفها قرآن، فإن هذا مخالفة صريحة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، حيث سئل أتقرأ؟ فقال: إنها حقّ وسنّة، ولحديث أبي أمامة:"السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن". وقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سماها صلاة في غير ما حديث، ومعلوم لدى كلّ أحد أنه قال:"لا صلاة إلا بأمّ القرآن".

وبالجملة فالتقليد المحض يُعمِي، ويُصمّ، فلا يرى المقلّد المتعصّب الحقَّ، ولا يسمعه، إلا إذا وافق رأي إمامه، اللَّهمّ أرنا الحقّ حقّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، بمنّك، وكرمك آمين.

وسيأتي مزيد بسط للردّ عليهم في المسأدة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- "فتح" ج 3 ص 564 - 565.

(2)

- "شرح السنديّ" ج 3 ص 75.

ص: 317

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه البخاريّ.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -77/ 1987 و 1988 - وفي "الكبرى" 77/ 2114 و 2115. وأخرجه (خ) 1335 (د) 3198 (ت) 1026 و 1027. وأخرجه ابن خزية، وابن حبّان رقم 3061 والحاكم في "المستدرك" 1 ص 358 وأبو يعلى في "مسنده" رقم 2661. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في وجوب القراءة في صلاة الجنازة:

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: اختلف أهل العلم في قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة على الجنازة، فكان ابن عباس يقول: ذلك من السنّة، وروينا عن ابن مسعود أنه قرأها، وروي ذلك عن ابن الزبير، وعُبيد بن عُمير. وبه قال الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق. قال: وروينا عن المسور بن مخرمة أنه صلى جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى، وسورة قصيرة، ورفع بها صوته، فلما فرغ قال: لا أجهل أن تكون هذه صلاة عجماء، ولكنّي أردت أن أعلّمكم أن فيها قراءة. وروينا عن الحسن بن عليّ أنه قرأ في الصلاة على الجنازة بفاتحة الكتاب ثلاث مرّات. وعن الحسن البصريّ مثله.

وقالت طائفة: ليس في الصلاة على الجنائز قراءةٌ، هذا قول ابن سيرين، وطاوس، وعطاء، وسعيد بن جُبير، وسعيد بن المسيّب، والشعبيّ، ومجاهد، والحكم، وحماد، ومالك بن أنس، وسفيان، وأصحاب الرأي، وكان ابن عمر لا يقرأ في الصلاة على الجنائز، وروي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قال ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: يقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب، وإن قرأ بفاتحة الكتاب، وسورة قصيرة فحسن، لأن الإسنادين اللذين رويناهما عن ابن عبّاس حديث الشافعيّ، عن إبراهيم بن سعد، وحديث الوَرَكانيّ

(1)

عن إبراهيم بن سعد، جيدان

(2)

انتهى كلام ابن المنذر

بتصرّف، واختصار

(3)

. وقال أبو محمد ابن حزم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: فإن كبّر في

(1)

- الوركاني بـ "فتح" الواو، والراء، ووقع في "الأوسط""الودكاني" بالدال بدل الراء، وهو تصحيف.، وهو محمد بن جعفر.

(2)

- أراد ابن المنذر رحمه الله حديث الباب، فإنه أخرجه من طريق الشافعيّ، عن إبراهيم بن سعد بسند المصنّف، ومن طريق محمد بن جعفر الوركانيّ، عن إبراهيم بن سعد المذكور بسنده.

(3)

- "الأوسط" ج 5 ص 437 - 440.

ص: 318

الأولى قرأ أم القرآن، ولا بدّ، وصلّى على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإن دعا للمسلمين فحسن، ثم يدعو للميت في باقي الصلاة.

أما قراءة أم القرآن، فلأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سماها صلاة بقوله:"صلّوا على صاحبكم"، وقال عليه السلام:"لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن". ثم أخرج بسنده حديث ابن عباس المذكور في الباب، وحديث أبي أمامة بن سهل، والضحّاك بن قيس الآتي. قال: وعن ابن مسعود: أنه كان يقرأ على الجنازة بأم الكتاب. وأورد أيضًا أثر المسور ابن مخرمة المتقدّم، قال: فرأى ابن عباس، والمسور بن مخرمة المخافتة ليست فرضًا. وعن أبي هريرة، وأبي الدرداء، وابن مسعود، وأنس بن مالك: أنهم كانوا يقرؤون بأم القرآن، ويدعون، ويستغفرون بعد كلّ تكبيرة، من الثلاث في الجنازة، ثم يكبّرون، وينصرفون، ولا يقرؤون. وعن معمر، عن الزهريّ، سمعت أبا أمامة بن سهل بن حُنيف، يحدّث سعيد بن المسيّب، قال: السنّة في الصلاة على الجنائز أن تكبّر، ثم تقرأ بأم القرآن، ثم تصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم تخلص الدعاء للميت، ولا تقرأ إلا في التكبيرة الأولى، ثم يسلم في نفسه عن يمينه.

وعن ابن جريج: قال: قال ابن شهاب: القراءة على الميت في الصلاة في التكبيرة الأولى. وعن ابن جريج، عن مجاهد في الصلاة على الجنازة: يكبّر، ثم يقرأ بأمّ القرآن، ثم يصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر دعاء. وعن سفيان الثوريّ، عن يونس بن عبيد، عن الحسن: أنه كان يقرأ بفاتحة الكتاب في كلّ تكبيرة في صلاة الجنازة. وهو قول الشافعيّ، وأبي سليمان -يعني داود الظاهريّ- وأصحابهما.

قال أبو محمد: واحتجّ من منع من قراءة القرآن فيها بأن قالوا: روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أخلصوا له الدعاء". قال: هذا حديث ساقط، ما روي قط من طريق يُشتغل بها. ثم لو صحّ لما منع من القراءة، لأنه ليس في إخلاص الدعاء للميت نهي عن القراءة، ونحن نخلص له الدعاء، ونقرأ كما أمرنا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "حديث ساقط" فيه نظر، بل هو حديث صحيح، رواه أبو داود، وابن ماجه، من طريق محمد بن إسحاق، وهو حجة، لكنه يدلّس، وقد صرّح في بعض طرقه عند ابن حبّان بالتحديث

(1)

، فزالت تهمة التدليس، فالجواب الصحيح عن اعتراضهم هو ما ذكره بعد هذا، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- قال ابن حبّان -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "صحيحه": "ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن ابن إسحاق لم يسمع هذا الخبر من محمد بن إبراهيم"، ثم أخرجه بسنده، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن إبراهيم .... الخ.

ص: 319

قال وقالوا: قد روي عن أبي هريرة أنه سئل عن الصلاة على الجنازة؟ فذكر دعاء، ولم يذكر قراءة. وعن فَضَالة بن عُبيد أنه سئل أيقرأ في الجنازة بشيء من القرآن؟ قال: لا. وعن ابن عمر أنه كان لا يقرأ في صلاة الجنازة.

قال أبو محمد: فقلنا: ليس عن واحد من هؤلاء أنه لا يقرأ فيها بأم القرآن، ونعم نحن نقول: لا يقرأ فيها بشيء من القرآن إلا أم القرآن

(1)

، فلا يصحّ خلاف بين هؤلاء، وبين من صرّح بقراءة القرآن من الصحابة، كابن عبّاس، والمسور، والضحّاك بن قيس، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وابن مسعود، وأنس، لا سيما وأبو هريرة لم يذكر تكبيرًا، ولا تسليمًا، فبطل أن يكون لهم به متعلّق. وقد روي عنه قراءة القرآن في الجنازة، فكيف، ولو صحّ عنهم في ذلك خلاف، لوجب الردّ عند تنازعهم إلى ما أمر اللَّه تعالى بالردّ إديه، من القرآن والسنّة، وقد قال عليه السلام: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم

القرآن". وقالوا: لعلّ هؤلاء قرؤوها على أنها دعاء.

فقلنا: هذا باطل، لأنهم ثبت عنهم الأمر بقراءتها، وأنها سنتها، فقول من قال: لعلهم قرؤوها على أنها دعاء كذب بحت. ثم لا ندري ما الذي حملهم على المنع من قراءتها حتى يتقحّموا في الكذب بمثل هذه الوجوه الضعيفة. والعجب أنهم أصحاب قياس، وهم يرون أنها صلاة، ويوجبون فيها التكبير، واستقبال القبلة، والإمامة للرجال، والطهارة، والسلام، ثم يسقطون القراءة.

فان قالوا: لما سقط الركوع، والسجود، والجلوس، سقطت القراءة.

قلنا: ومن أين يوجب هذا القياس دون قياس القراءة على التكبير والتسليم؟ بل لو صحّ القياس لكان قياس القراءة على التكبير، والتسليم -لأن كل ذلك ذكر باللسان- أولى من قياس القراءة على عمل الجسد، ولكن هذا علمهم بالقياس والسنن. وهم يعظّمون خلاف العمل بالمدينة، وههنا أريناهم عمل الصحابة، وسعيد بن المسيّب، وأبي أمامة، والزهريّ، علماءِ المدينة، وخالفوهم. وباللَّه تعالى التوفيق. انتهى كلام ابن حزم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: إنما نقلت كلام ابن حزم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وإن كان فيه طول لكونه اشتمل على تفنيد آراء القائلين بعدم مشروعيّة قراءة الفاتحة في الصلاة على الجنازة، مع صحة السنة بذلك.

(1)

- قلت: هذا غير صحيح، بل صحّ قراة سورة مع الفاتحة في حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور، فتبصّر.

(2)

- "المحلى" ج 5 ص 129 - 131.

ص: 320

والحاصل أن وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، هو المذهب الحقّ، وإن زاد سورة، فحسن، لصحة حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور في الباب. وأما قول ابن حزم في خلال كلامه السابق:"لا يقرأ فيها بشيء من القرآن إلا بأم القرآن"، ففيه نظر لا يخفى؛ لما عرفت من صحة السنة بقراءة سورة مع الفاتحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: أنه لا يُشرع دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة، خلافًا لمن زعم ذلك:

قال ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: لم نجد في الأخبار التي جاءت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد أن افتتح الصلاة على الجنازة، كما قال بعد أن افتتح الصلاة المكتوبة قولاً، ولا وجدنا ذلك عن أصحابه، ولا عن التابعين. وقد كان الثوريّ، وإسحاق بن راهويه يستحبّان أن يقول المرء بعد التكبيرة الأولى من الصلاة على الجنازة:"سبحانك اللهم، وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك"، وذُكر ذلك لأحمد، فقال: ما سمعت.

قال ابن المنذر: ولم أجد ذكر ذلك في كتب سائر علماء الأمصار، فإن قاله قائل، فلا شيء عليه، وإن تركه، فلا شيء عليه انتهى كلامه

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- مما يخالف مذهبه الذي التزمه في مؤلفاته النافعة، وهو اتباع الآثار الصحيحة، وقد اعترف هو نفسه بأنه لم يثبت ذلك عنده، فلِمَاذا خيّر بين الأمرين، إن هذا منه لشيء عجيب.

فالصواب أن لا يقرأ الاستفتاح المذكور، لعدم ثبوت ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل الثابت عنه إخلاص الدعاء للميت، فقد أمر به، فما زاد على الدعاء لا بدّ من أن يثبت بنقل صحيح حتى يُعمَل به، مثل قراءة الفاتحة، وسورة، والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم.

والحاصل أن السنة أن يقرأ الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، وإن زاد سورة، فحسن، ثم يكبّر، ثم يصلّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم يكبّر، ثم يدعو للميت، ثم يكبّر، ثم يسلّم، كما سيأتي في حديث أبي أمامة بن سهل رضي الله عنه، قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الخامسة: في اختلاف أهل العلم في التسليم على الجنازة:

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: اختلف أهل العلم في عدد التسليم على

(1)

- "الأوسط" ج 5 ص 436.

ص: 321

الجنازة، فقال كثير منهم: يسلم تسليمة واحدةً، روينا هذا القول عن عليّ، وجابر بن عبد اللَّه، وواثلة بن الأسقع، وابن أبي أوفى، وأبي هريرة، وأبي أمامة بن سهل بن حُنيف، وأنس، وابن عبّاس، وابن عمر رضي الله عنهم.

وبه قال ابن سيرين، والحسن، وسعيد بن جبير، وسفيان الثوريّ، وابن عيينة، وابن المبارك، وعيسى بن يونس، ووكيع، وابن مهديّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق.

واختَلَفَ قول الشافعيّ، فقال في "كتاب الجنائز": إن شاء سلّم تسليمة، وإن شاء تسليمتين، وحكى البويطيّ عنه أنه قال: يسلّم تسليمتين.

وقالت طائفة: يسلّم تسليمتين، هكذا قال أصحاب الرأي، وحكي عن الشعبيّ، وأبي إسحاق مثل قولهم، واختُلِفَ فيه عن النخعيّ.

قال ابن المنذر: تسليمة أحبّ إليّ لحديث أبي أمامة بن سهل، قال: حدثنا ابن عبد الحكم، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة ابن سهل بن حُنيف، عن رجال من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه يسلم تسليما خفيفا حتى ينصرف، والسنة أن يفعل من وراءه ما يفعل إمامه.

قال: ولأنه الذي عليه أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بالسنّة من غيرهم، ولأنهم الذين حضروا صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وحفظوا عنه، ولم يَختَلِف ممن روينا ذلك عنهم منهم أن التسليم تسليمة واحدة، وقد أجمع أهل العلم أنه يكون بتسليمة واحدة خارجًا من الصلاة. انتهى كلام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بتصرًف، واختصار

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- تحقيق حسنُ جدًّا.

وحاصله ترجيح مذهب القائلين بالتسليمة الواحدة في صلاة الجنازة؛ لقوة دليله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: ذكر ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- استحباب وقوت الإمام بعد التكبيرة الرابعة وقفةًّ على ذلك بما أخرجه هو، وأحمد في "مسنده"، والحاكم في "مستدركه" بأسانيدهم عن شعبة، عن إبراهيم الْهَجَريّ، عن عبد اللَّه بن أبي أوفى، وكان من أصحاب الشجرة، فماتت ابنة له، وكان يتبع جنازتها على بغلة خلفها، فجعل النساء يبكين، فقال: لا ترثين، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن المراثي، فتفيض إحداكنّ من عبرتها ما شاءت، ثم كبر عليها أربعًا، ثم قام بعد الرابعة قدر ما بين

(1)

- "الأوسط" ج 5 ص 444 - 448.

ص: 322

التكبيرتين، يدعو، وقال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصنع في الجنازة هكذا انتهى، واللفظ لأحمد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

قال: وكان أحمد بن حنبل يرى أن يقف بعد الرابعة قبل التسليم، فاحتجّ بهذا الحديث، وقال: لا أعرف شيئًا يخالفه، واستحبّ ذلك إسحاق بن راهويه. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن الحديث ضعيف، لأن في إسناده إبراهيم الْهَجَريّ، وقد ضعفوه، وقال في "التقريب": لين الحديث، رفع موقوفات انتهى، فالاستدلال بمثله على استحباب الوقوف المذكور محلّ نظر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1988 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَلَى جَنَازَةٍ، فَسَمِعْتُهُ، يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، أَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَسَأَلْتُهُ؟ فَقُلْتُ: تَقْرَأُ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ حَقٌّ، وَسُنَّةٌ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر لحديث طلحة بن عبد اللَّه، وهو حديث صحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه وفي مسائله في الحديث الذي قبله.

و"محمد" شيخ محمد بن بشّار: هو محمد بن جعفر المعروف بـ "غندر". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1989 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّهُ قَالَ: السُّنَّةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ، أَنْ يَقْرَأَ فِي التَّكْبِيرَةِ الأُولَى، بِأُمِّ الْقُرْآنِ، مُخَافَتَةً، ثُمَّ يُكَبِّرَ ثَلَاثًا، وَالتَّسْلِيمُ عِنْدَ الآخِرَةِ.

رجال هذا الإسناد: أربعة

تقدّموا في الباب الماضي، غير الليث، وهو ابن سعد الإمام الفقيه الحجة المصريّ [7] 31/ 35.

وشرح الحديث واضح، وتقدّم البحث عن الأحكام المتعلقة به، في المسائل التي تقدّمت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فراجعها تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أخرجه هنا 77/ 1989 - وفي "الكبرى" 77/ 2116.

[فإن قلت]: إن أبا أمامة، وإن كانت له رؤية، إلا أنه تابعيّ، من حيث الرواية،

(1)

- أخرجه أحمد ج 4 ص 356 والحاكم في "المستدرك" ج 1 ص 360.

ص: 323

فقوله: "السنة في الصلاة على الجنازة الخ" ليس له حكم الرفع، مثل ما تقدّم عن ابن عباس رضي الله عنهما، فكيف يكون صحيحًا؟.

[قلت]: قد ثبت أنه رواه عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد رواه الحاكم في "مستدركه" من طريق حرملة بن يحيى، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حُنيف، وكان من كبراء الأنصار، وعلمائهم، وأبناء الذين شهدوا بدرًا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أخبره رجال من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة، أن يكبّر الإمام، ثمّ يصلّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويُخلص الصلاة في التكبيرات الثلاث، ثم يسلّم تسليما خفيّا حين ينصرف، والسنّة أن يفعل من وراءه مثل ما فعل إمامه.

قال الزهريّ: حدّثني بذلك أبو أمامة، وابن المسيّب يسمع، فلم يُنكر ذلك عليه، قال ابن شهاب: فذكرت الذي أخبرني أبو أمامة من السنّة في الصلاة على الميت لمحمد ابن سويد، قال: وأنا سمعت الضحّاك بن قيس، يحدّث عن حبيب بن مسلمة في صلاة صلّاها على الميت، مثل الذي حدثنا أبو أمامة.

قال الحاكم رحمه الله: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وليس في التسليمة الواحدة على الجنازة أصحّ منه انتهى. وأقره الذهبي.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى: في قوله: "على شرط الشيخين" نظر، لأن حرملة بن يحيى ليس من رجال البخاريّ، بل هو من رجال مسلم. لكن أخرج الحديث الطحاويّ في "شرح معاني الآثار"[1/ 500] عن ابن أبي داود، عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ به، بلفظ: "أن رجلاً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبره أن السنّة في الصلاة على الجنازة أن يكبّر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب سرّا في نفسه، ثم يختم الصلاة في التكبيرات الثلاث.

قال الزهريّ: فذكرت الذي أخبرني أبو أمامة من ذلك لمحمد بن سويد الفهريّ، فقال: وأنا سمعت الضحّاك بن قيس يحدّث عن حبيب بن مسلمة، في الصلاة على الجنازة، مثل الذي حدّثك أبو أمامة انتهى

(1)

. وهذا من شرطهما، بلا شكّ.

والحاصل أن حديث أبي أمامة كحديث ابن عباس رضي الله عنهما صحيح، له حكم الرفع، لأنه رواه عن رجال من الصحابة رضي الله عنهم ومثل هذا يأتي في حديث الضحّاك بن قيس الآتي في السند التالي، فإنه رواه عن مسلمة بن حبيب، كما مرّ آنفّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- "شرح معاني الآثار" ج 1 ص 500.

ص: 324

1990 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوَيْدٍ، الدِّمَشْقِيِّ، الْفِهْرِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، الدِّمَشْقِيِّ، بِنَحْوِ ذَلِكَ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد هو المذكور في الذي قبله، غير اثنين:

1 -

(محمد بن سُويد) بن كُلثوم بن قيس الفِهريّ، أمير دمشق، صدوق [3].

روى عن عم أبيه الضحّاك بن قيس، وحذيفة بن اليمان. وعنه الزهريّ، ومكحول، وصالح مولى ابن أم حكيم.

قال العجليّ: شاميّ، تابعيّ، ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال أبو حاتم: ماتت أمه، وهو يلعب في بطنها، فبُقر بطنها، وأخرج حيّا. وقال الزهريّ: حدّثني محمد بن سُويد الفهريّ، وكان على الطائف زمن عمر بن عبد العزيز.

انفرد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

2 -

(الضحّاك بن قيس) بن خالد بن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن مُحارب بن فِهْر بن مالك، الفِهْريّ القرشيّ، أبو أُنيس، ويقال: أبو أمية، أو أبو سعيد، أو أبو عبد الرحمن، أخو فاطمة بنت قيس، وهي أكبر منه، الأمير المشهور، مختلف في صحبته

(2)

، شهد فتح دمشق، وسكنها إلى حين وفاته، وشهد صِفِّين مع معاوية، وغلب على دمشق، ودعا إلى بيعة ابن الزبير، ثم دعا إلى نفسه، وقتل بمرج راهط في قتاله لمروان بن الحكم، سنة (4) أو (65) والأول قول الجمهور، وكان مولده قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحو ست سنين، أو أقلّ. ذكره مسلم في حديث. وروى له المصنّف حديث الباب فقط. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌78 - فَضْلُ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مِائَةٌ

1991 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ سَلاَّمِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، رَضِيعِ عَائِشَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَا مِنْ مَيِّتٍ، يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَبْلُغُونَ أَنْ يَكُونُوا مِائَةً

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

- وقال في "ت": صحابيّ صغير. اهـ.

ص: 325

يَشْفَعُونَ، إِلاَّ شُفِّعُوا فِيهِ» ، قَالَ: سَلاَّمٌ: فَحَدَّثْتُ بِهِ، شُعَيْبَ بْنَ الْحَبْحَابِ، فَقَالَ

(1)

: حَدَّثَنِي بِهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سويد) بن نصر المروزيّ المذكور في الباب الماضي.

2 -

(عبد اللَّه) بن المبارك المذكور أيضًا في الباب الماضي.

3 -

(سلّام بن أبي مطيع الدمشقيّ) -واسم أبيه سعد- أبو سعيد الْخُزَاعيّ مولاهم البصريّ، ثقة، صاحب سنّة، في روايته عن قتادة ضعف [7].

قال أحمد: ثقة صاحب سنّة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال الآجريّ، عن أبي داود: سمعت أبا سلمة، سمعت سلّام بن أبي مطيع، وكان يقال: هو أعقل أهل البصرة. قال أبو داود: وهو القائل: لأن ألقى اللَّه بصحيفة الحجّاج أحبّ إليّ من ألقاه بصحيفة عمرو بن عُبيد. وقال أبو داود أيضًا سلّام ثقة. وقال النسائيّ: ليس به بأس.

وقال في موضع آخر: ثقة. وقال ابن عديّ: ليس بمستقيم الحديث عن قتادة خاصّة، وله أحاديث حسان غرائب وأفراد، وهو يُعدّ من خطباء أهل البصرة، وعقلائهم، وكان كثير الحجّ، ومات في طريق مكّة، ولم أر أحدًا من المتقدّمين نسبه إلى الضعف، وأكثر ما فيه أن روايته عن قتادة فيها أحاديث ليست بمحفوظة، وهو مع هذا كلّه عندي لا بأس به. وقال عبد اللَّه بن أحمد في "العلل" عن أبيه: ثقة صاحب سنّة، كان ابن مهديّ يُحدّث عنه. وقال ابن حبّان: كان سيىء الأخذ، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. وقال البزّار في "مسنده": كان من خيار الناس وعقلائهم. وقال الحاكم: منسوب إلى الغفلة، وسوء الحفظ.

قال البخاريّ، عن محمد بن محبوب: مات سنة (164) وهو مقبل من مكة. وقال الترمذيّ: مات سنة (167) وقال خليفة، وابن قانع: مات سنة (173). روى له أبو داود، في "المسائل"، والباقون، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، و 4995 حديث:"لا تقل: مؤمن، وقل: مسلم".

[تنبيه]: قوله: "الدمشقيّ" هكذا وقع في نسخ "المجتبى"، ولا يوجد في "الكبرى"، ولم أر أحدًا من أصحاب كتب الرجال نسبه إلى دمشق، بل كلّهم قالوا: الخزاعيّ البصريّ، فلعلّه تصحّف على الناسخ إما من "الخزاعيّ"، أو "البصريّ". واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- وفي نسخة: "قال".

ص: 326

4 -

(أيوب) بن أبي تميمة السختيانيّ البصريّ، ثقة ثبت فقيه حجة [5] 42/ 48.

5 -

(أبو قلابة) عبد اللَّه بن زيد بن عمرو البصريّ، ثقة فاضل كثير الإرسال، فيه نَصْبٌ يسير [3] 103/ 322.

6 -

(عبد اللَّه بن يزيد رضيع عائشة) البصريّ، ثقة [3].

روى عن عائشة. وعنه أبو قلابة الجرميّ، وأهل البصرة. قال العجليّ: تابعي ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وله عند مسلم، وأبي داود، والمصنّف حديث الباب، وله عند الأربعة أيضًا حديث:"اللَّهمّ هذا قَسْمي فيما أملك".

7 -

(عائشة) رضي الله عنه 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، وابن المبارك، فمروزيان، وعائشة، فمدنيّة. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة الذين رووا عنهم بلا واسطة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما، عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَا مِنْ مَيِّتٍ، يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ) أي جماعة (مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَبْلُغُونَ أَنْ يَكُونُوا مِائَةً) وأخرج مسلم في "صحيحه" عن كريب مولى ابن عباس، عن عبد اللَّه بن عباس، أنه مات ابن له، بقُدَيد، أو بعُسْفان، فقال: يا كريب، انظر ما اجتمع له من الناس، قال: فخرجت، فإذا ناس، قد اجتمعوا له، فأخبرته، فقال: تقول: هم أربعون، قال: نعم، قال: أخرجوه، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته، أربعون رجلا، لا يشركون باللَّه شيئا، إلا شَفّعهم اللَّه فيه".

قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: قيل: سبب هذا الاختلاف اختلافُ السؤال، وذلك أنه سُئل مرّة عمن صلّى عليه مائة، واستشفعوا له؟ فقال:"شُفِّعوا"، وسئل مرّة أخرى عمن صلى عليه أربعون، فأجاب بذلك، ولو سئل عن أقلّ من ذلك لقال ذلك، واللَّه أعلم، إذ قد يستجاب دعاء الواحد، وُيقبل استشفاعه. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من صلّى عليه ثلاثة من الصفوف شفعوا له"

(1)

، ولعلّهم يكونون أقلّ من أربعين انتهى

(2)

.

(1)

- أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وحسّنه، وابن ماجه، ولفظ أبي داود:"ما من مسلم، يموت، فيصلي عليه ثلاثة صفوت، إلا أوجب".

(2)

- "المفهم" ج2 ص 605 - 606.

ص: 327

وقال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بعد ما نقل عن القاضي عياض نحو ما ذكره القرطبيّ: ما نصّه: ويحتمل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم أُخبِر بقبول شفاعة مائة، فأَخبَر به، ثم بقبول شفاعة أربعين، ثم بثلاث صفوف، وإن قلّ عددهم، فاخبر به. ويحتمل أيضًا أن يُقال: هذا مفهوم عدد، ولا يَحتجّ به جماهيرُ الأصوليين، فلا يلزم من الإخبار عن قبول شفاعة مائة منع ما دون ذلك، وكذا في الأربعين مع ثلاث صفوف، وحينئذ كلّ الأحاديث معمول بها، وتحصل الشفاعة بأقلّ الأمرين، من ثلاث صفوف، وأربعين. انتهى

(1)

.

(يَشْفَعُونَ) من باب نَفَعَ يَنفَعُ، والشفاعةُ معناها الطلب، أي يسألون له من اللَّه تعالى التجاوز عن ذنوبه، وجرائمه، والجملة في محلّ نصب على الحال (إِلَّا شُفِّعُوا فِيهِ") أي إلّا قُبلت شفاعتهم في ذلك الميت (قَالَ: سَلَّامٌ:) أي ابن أبي مطيع الراوي عن أيوب (فَحَدَّثْتُ بهِ) أي بهذا الحديث الذي حدّثه به أيوب السختيانيّ (شُعَيْبَ بْنَ الْحَبْحَابِ) هو الأزديّ الْمَعْوَليّ مولاهم، أبو صالح البصريّ، ثقة [4] وثقه أحمد، والنسائيّ، وابن سعد، وقال: له أحاديث، مات سنة (130) ويقال: سنة (131) وغسله أيوب. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، سوى ابن ماجه تقدم في 6/ 6.

(فَقَالَ) شعيب (حَدَّثَنِي بِهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه مسلم.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله هذا الحديث قال القاضي عياض: رواه سعيد بن منصور موقوفًا على عائشة رضي الله عنها، فأشار إلى تعليله بذلك، وليس معلّلاً، لأن من رفعه ثقة، وزيادة الثقة مقبولة انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ولو سلّمنا أنه موقوف، فلا يضرّه، لأنه في حكم المرفوع، إذ لا يقال بالاجتهاد. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -78/ 1991 و 1992 - وفي "الكبرى" 78/ 2118 و 2119. وأخرجه (م) 947 (ت) 1029 (أحمد) 12393 و 23518 و 23607 و 24136 و 25419. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

(1)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 20 - 21.

(2)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 21.

ص: 328

منها: ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو بيان فضل من صلّى عليه مائة. ومنها: بيان رفعة قدر المسلمين عند اللَّه تعالى. ومنها: مشروعيّة الصلاة على الميت. ومنها: استحباب تكثير عدد المصلين على الميت. ومنها: استحباب شفاعة المصلين للميت عند اللَّه تعالى، وذلك أن يتوجّهوا بقلوب خالصة، طالبين منه سبحانه وتعالى أن يتجاوز عن سيئات الميت، ويغفر زلاّته، فإن أصل مشروعية الصلاة على الميت، هو الدعاء له، ولذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا صلّيتم على الميت، فأخلصوا له الدعاء". رواه أبو داود، وابن ماجه، وصححه ابن حبّان، وفي إسناده ابن إسحاق، وهو مدلّس، لكنه صرّح بالتحديث عند ابن حبّان، فزالت تهمة التدليس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1992 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، رَضِيعٌ لِعَائِشَةَ، رضي الله عنها، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا يَمُوتُ أَحَدٌ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ، مِنَ النَّاسِ، فَيَبْلُغُوا

(1)

أَنْ يَكُونُوا مِائَةً، فَيَشْفَعُوا، إِلاَّ شُفِّعُوا فِيهِ».

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر لحديث عائشة رضي الله عنها، وهو صحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي. ورجاله: ستة، تقدّموا في السند الذي قبله، إلا اثنين:

1 -

(عمرو بن زُرارة) الكلابيّ النيسابوريّ، ثقة ثبت [10] 7/ 368.

2 -

(إسماعيل) بن إبراهيم المعروف بـ "ابن عُليّة" البصريّ الحافظ الثبت الحجة [8] 18/ 19. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1993 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا

(2)

مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ، أَبُو الْخَطَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكَّارٍ، الْحَكَمُ بْنُ فَرُّوخٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا أَبُو الْمَلِيحِ، عَلَى جَنَازَةٍ، فَظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ كَبَّرَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَلْتَحْسُنْ شَفَاعَتُكُمْ، قَالَ: أَبُو الْمَلِيحِ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ سَلِيطٍ، عَنْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ مَيْمُونَةُ، زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: أَخْبَرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَا مِنْ مَيِّتٍ، يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ، مِنَ النَّاسِ، إِلاَّ شُفِّعُوا فِيهِ» . فَسَأَلْتُ أَبَا الْمَلِيحِ، عَنِ الأُمَّةِ؟ فَقَالَ أَرْبَعُونَ.

(1)

- وفي نسخة: "فبلغوا".

(2)

- وفي نسخة: "أنبأنا".

ص: 329

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المرزيّ الإمام الثبت الحجة [10] 2/ 2.

2 -

(محمد بن سواء) -بتخفيف الواو، والمدّ- ابن عَنْبَر، السدوسيّ العَنْبَريّ، أبو الخطّاب البصريّ المكفوف، صدوق رمي بالقدر [9] 30/ 445.

3 -

(أبو بَكّار الحكم بن فرّوخ) -آخره خاء معجمة- الْغَزّال البصريّ، ثقة [6].

قال أحمد: صالح الحديث. وقال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات".

وحكى ابن عبد البرّ في "الكنى" عن ابن المدينيّ أنه وثقه. وقال الحسين بن إسماعيل الْمَحَامليّ: حدثنا يعقوب بن إبراهيم -الدَّوْرقيّ- حدثنا أبو عبيدة الحدّاد، عن الحَكَم الغَزَّال، وكان ثقة، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكر أثرًا. انفرد به المصنّف، أخرج له حديث الباب فقط.

4 -

(أبو الْمَلِيح) بن أسامة بن عُمير، اسمه عامر، وقيل: غيره، ثقة [3] 102/ 139.

5 -

(عبد اللَّه بن سَلِيط) المدنيّ، أخو ميمونة من الرضاعة، مقبول [2].

ذكره ابن حبّان في ثقات التابعين. انفرد به المصنّف، أخرج له حديث الباب فقط.

6 -

(ميمونة) بنت الحارث الهلاليّ، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم و رضي الله عنها 146/ 236. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. وفيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن أبي بكَّار -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أنه (قال: صَلَّى بِنَا أَبُو الْمَلِيحِ) -بفتح الميم، وكسر اللام- ابن أسامة (عَلَى جَنَازَةٍ، فَظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ كَبَّرَ، فَأَقْبَلَ عَلَننَاَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ) فيه أنه ينبغي تسوية الصفوف في الصلاة على الجنازة، لأنها صلاة، فتدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:"أقيموا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة"(وَلْتَحْسُنْ شَفَاعَتُكُمْ) أي لتكن شفاعتكم على وجه حسن لائق، وهذا في معنى ما تقدّم من قوله صلى الله عليه وسلم:"فأخلصوا له الدعاء"(قَالَ: أَبُو الْمَلِيحِ: حَدَّثَنِي عَبدُ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ سَلِيطٍ) بفتح السين المهملة، وكسر اللام، والقائل: وهو ابن سليط، مَنْ دون أبي المليح (عَنْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤمِنِينَ) رضي الله عنهن (وَهِيَ مَيْمُونَةُ) بنت الحارث رضي الله عنها (زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)

ص: 330

برفع "زوج" بدلاً عن "ميمونة"، وقد تقدّم أن إطلاق، "زوج" بدون هاء على المرأة لغة فصيحة، جاء بها القرآن، كقوله تعالى:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35](قَالَتْ: أَخْبَرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي قائلًا، ويحتمل أن يكون بدلاً من "أخبر"، بَدَلَ فعل من فعل، كما قال ابن مالك -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "خلاصته":

وَيُبدَلُ الفِعْلُ مِنَ الفِعْلِ كَمَنْ

يَصِلْ إِلَيْنَا يَسْتَعِنْ بِنَا يُعَنْ

(مَا مِنْ مَيِّتٍ، يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمّةٌ) الجملة في مجلّ جرّ صفة لـ"ميت"(مِنَ النَّاسِ) بيان لـ"أمّة"(إِلَّا شُفِّعُوا فِيهِ) بتشديد الفاء، أي قُبلت شفاعتهم فيه (فَسَأَلْتُ أَبَا الْمَلِيحِ) السائل هو أبو بكّار الراوي عنه (عَنِ الأُمَّةِ) أي عن عدد الأمة الذين تقبل شفاعتهم في الميت (فَقَالَ: أَرْبَعُونَ) لعله أخذه عن ابن عباس رضي الله عنهما، أو عن غيره، فقد تقدّم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعًا:"ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً، لا يشركون باللَّه شيئًا، إلا شفّعهم اللَّه فيه". رواه مسلم. واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث ميمونة رضي الله عنها هذا حديث صحيح، انفرد به المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أخرجه هنا 78/ 1993 - وفي "الكبرى" 78/ 2120.

وفوائده تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌79 - بَابُ ثَوَابِ مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ

وفي نسخة: "من يصلي".

1994 -

أَخْبَرَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا

(1)

مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ، فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنِ انْتَظَرَهَا، حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ، فَلَهُ قِيرَاطَانِ، وَالْقِيرَاطَانِ مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» .

(1)

- وفي نسخة: "حدّثنا"، وفي أخرى:"أنبأنا".

ص: 331

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(نوح بن حبيب) القُومسيّ البَذَشِيّ، أبو محمد، ثقة سنّيّ [10] 97/ 1010.

2 -

(عبد الرزّاق) بن همام الصنعاني الحافظ الثقة [9] 61/ 77.

3 -

(معمر) بن راشد الصنعانيّ الحافظ الثبت [7] 10/ 10.

والباقون تقدموا قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فتفرد به هو، وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، وشيخه قومسيّ، وعبد الرزاق، ومعمر صنعانيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رَأْسُ المكثرين من الرواية. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ") وفي الرواية الآتية: "من تبع جنازة رجل مسلم؛ احتسابًا"(فَلَهُ قِيرَاطٌ) وتقدم ضبط القيراط، وتفسيره في شرح حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما المتقدّم في 54/ 1940.

وهذا محلّ الترجمة، فإنه نصّ صريح في فضل من صلّى على جنازة. واللَّه تعالى أعلم.

(وَمَنِ انْتَظَرَهَا، حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ) المراد دفنها، بدديل الرواية الآتية بلفظ:"حتى تُدفَن"(فَلَهُ قِيرَاطَانِ، وَالْقِيرَاطَانِ مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ") وقد فُسِّر الجبل العظيم بأحد، وفي الرواية الآتية من طريق الشعبيّ، عن أبي هريرة:"كلّ واحد منهما أعظم من أحد"، وقد تقدّم شرح الحديث مُستوفًى، وكذا بيان اختلاف الروايات، ووجه الجمع بينها في شرح حديث البراء المذكور، فراجعه، تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -79/ 1994 و 1995 و 1996 و 1997 و 5033 - وفي "الكبرى" 79/ 2121 و 2122 و 2123 و 2124. وأخرجه (خ) 47 (م) 945 و 946 (د) 3168

ص: 332

(ت) 1040 (ق) 1539 (أحمد) 8066 و 9266 و 9729 و 10018 و 10090 و 10494. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1995 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،،، قَالَ: أَخْبَرَنَا

(1)

عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،،، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ جَنَازَةً، حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ، فَلَهُ قِيرَاطَانِ» ، قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثان لحديث أبي هريرة الماضي، ورجاله تقدّموا قريبّا، وهو متفق عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، وباللَّه تعالى التوفيق.

و"سويد" هو ابن نصر المروزيّ. و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك. و"يونس": هو ابن يزيد الأيليّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1996 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ،، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ تَبِعَ جَنَازَةَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، احْتِسَابًا، فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَدَفَنَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ مِنَ الأَجْرِ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثالث لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أعلى سندًا من الماضيين، وهو متفق عليه، وتمام البحث فيه تقدّم في الحديث الأول.

و"محمد بن جعفر": هو المعروف بـ "غندر". و"عوف": هو ابن أبي جَمِيلة الأعرابيّ. وقوله" "احتسابًا": منصوب على أنه مفعول لأجله: أي طلبا للثواب عند اللَّه تعالى، لا رياء وسمعة، قال في "المصباح ": واحتسب الأجر على اللَّه: ادخره عنده، لا يرجو ثواب الدنيا انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

1997 -

أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَهُ قِيرَاطٌ مِنَ الأَجْرِ، وَمَنْ تَبِعَهَا، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَعَدَ، حَتَّى يُفْرَغَ

(2)

مِنْ دَفْنِهَا، فَلَهُ قِيرَاطَانِ مِنَ الأَجْرِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ».

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق رابع لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، والكلام عليه كالكلام في سابقيه، ولنذكر تراجم من لم يترجم قبل هذا، أو تُرجِم، ولكن طال

(1)

- وفي نسخة: "أخبرني"، وفي أخرى:"أنبأنا".

(2)

- وفي نسخة: "فُرغ".

ص: 333

العهد به، وهم:

1 -

(الحسن بن قَزَعَة) -بفتحتين- الهاشميّ مولاهم، البصريّ، صدوق [10] 47/ 1731.

2 -

(مسلمة بن علقمة! المازنيّ، أبو محمد البصريّ، صدوق له أوهام [8].

قال الدَّوريّ، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: لا بأس به، يحدّث عن داود أحاديث حسانًا. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال ابن أبي خيثمة: حدّثنا القواريريّ، حدثنا مسلمة بن علقمة، وكان عالمًا بحديث داود بن أبي هند، حافظًا له، وكان يقال: في حفظه شيء. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال أبو القاسم البغويّ: بصريّ صالح الحديث.

وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: شيخ ضعيف، حدّث عن داود بن أبى هند أحاديث مناكير، وأسند عنه. ونقل العقيليّ عن أحمد بن محمد: سألت أبا عبد اللَّه عن مسلمة بن علقمة رأيتَهُ؟ قال: لا، قلت: كيف هو؟ قال: لا أدري ما أخبرك، يروون عنه أحاديث مناكير، وأراهم قد تساهلوا في الرواية عنه. قال: وسمعت عبد اللَّه بن أحمد يقول: سمعت أبي يقول: بلغني عن يحيى بن سعيد أنه لم يكن بالراضي عنه. وقال الآجريّ، عن أبي داود: ترك عبدُ الرحمن حديثَهُ. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وقال الساجي: روى عن داود بن أبي هند مناكير، وكان قدريّا، سمعت ابن مُثَنًّى يقول: ما سمعت عبد الرحمن يُحدّث عنه بشيء، أُراه لبدعته. وذكره العقيليّ في "الضعفاء"، وقال: وله عن داود مناكير، وما لا يتابع عليه من حديثه كثير. وذكر له ابن عديّ أحاديث، وقال: وله غير ما ذكرت مما لا يتابع عليه.

روى له مسلم، وأبو داود في "فضائل الأنصار"، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

3 -

(داود) بن أبي هند الْقُشيريّ مولاهم البصريّ، ثقة متقنٌ، كان يَهِم بآخره [5] 21/ 538.

4 -

(عامر) بن شرَاحيل الشعبيّ، أبو عمرو الهمدانيّ الكوفيّ الإمام الفقيه الفاضل الحجة المشهور [3] 66/ 82.

وقوله: "ثم قعد" أي جلس منتظرًا للفراغ من دفنها، فهو في معنى ما تقدّم في الحديث الأول:"ومن انتظرها حتى توضع في اللحد". وأما قول السنديّ رحمه الله: أي ترك القيام، فهو منسوخ انتهى، فبعيد عن سياق الحديث، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 334

‌80 - الْجُلُوسُ قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ الْجَنَازَةُ

1998 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ هِشَامٍ، وَالأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ، فَقُومُوا، وَمَنْ تَبِعَهَا، فَلَا يَقْعُدَنَّ، حَتَّى تُوضَعَ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم برقم 44/ 1914 و 45/ 1917 و 1918 و 1919 - وتقدّم الكلام عليه هناك مستوفًى، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

[تنبيه]: قد تقدّم للمصنّف معنى هذا الباب، والذي يليه "الوقوف للجنائز"، حيث تقدّم له [45]"باب الأمر بالقيام للجنازة"، و [46]"القيام لجناة مشرك"، و [47]"الرخصة في ترك القيام". ولم يظهر لي وجه إعادتهما هنا؟. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌81 - الْوُقُوفُ لِلْجَنَائِزِ

1999 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى عَنْ وَاقِدٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ ذُكِرَ الْقِيَامُ عَلَى الْجَنَازَةِ، حَتَّى تُوضَعَ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَعَدَ.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الحافظ الثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد المصريّ الإمام الفقيه الثبت الحجة [7] 31/ 35.

3 -

(يحيى) بن سعيد الأنصاريّ المدنيّ، ثقة ثبت [5] 22/ 23.

4 -

(واقد) بن عمرو بن سعد بن معاذ الأنصاريّ الأشهليّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة [4].

ص: 335

قال أبو زرعة: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو: كان من أحسن الناس، وأعظمهم، وأطولهم. قال ابن المدينيّ، وابن أبي عاصم: مات سنة (120). روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، و 5305 حديث:"أتعجبون من هذه؟ لمناديل سعد في الجنة .. " ..

5 -

(نافع بن جُبير) بن مُطعِم النوفليّ المدنيّ، ثقة فاضل [3] 96/ 124.

6 -

(مسعود بن الْحَكَم) بن الرَّبِيع بن عامر بن خالد بن عامر بن زُرَيق، الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو هارون المدنيّ، له رؤية [2].

قال الواقديّ: كان سَريّا مَرِيًّا

(1)

ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن عبد البرّ: وُلد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان له قَدْرٌ، وُيعدّ في جلّة التابعين، وكبارهم. وقال الواقديّ، وابن أبي خيثمة، والعسكريّ: إنه ولد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، زاد العسكريّ: ولم يرو عنه شيئًا. روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث، وأعاده بعده.

7 -

(علي بن أبي طالب) رضي الله عنه 74/ 91. واللَّه تعالى أعلم.

ومن لطائف هذا الإسناد أنه من سباعيات المصنف، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير قتيبة فبغلانيّ، والليث، فمصريّ، وفيه أربعة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: يحيى، والثلاثة بعده. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم شرحه، والكلام على مسائله في 47/ 1923 - فلا حاجة إلى إعادة ذلك، فلتُراجِع هناك، تستفد.

وقوله: "ذُكر القيام على الجنازة" ببناء الفعل للمفعول، و"على" بمعنى اللام، أي ذَكَرَ بعض الناس عند عليّ رضي الله عنه القيامَ لأجل الجنازة.

وقوله: "قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم قعد": أي قام أوّلًا للجنازة، ثم تركه، فقعد حال مرورها عليه، وظاهر هذا يدلّ على النسخ، لكن تقدّم أن الأرجح حمله على الترخيص، فإنه أوّلًا كان واجبًا، حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم به، فقال:"إذا رأيتم الجنازة، فقوموا"، ثم بيّن بتركه القيام أن الأمر ليس للوجوب، وإنما هو للاستحباب، وقد استوفيت أقوال أهل العلم في ذلك، وترجيح الراجح بدليله، في الباب المذكور، فراجعه، تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- يقال: ناقة مريّ بالفتح: غزيرة اللبن. اهـ "ق".

ص: 336

2000 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ،، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ، فَقُمْنَا، وَرَأَيْنَاهُ قَعَدَ، فَقَعَدْنَا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثان لحديث عليّ رضي الله عنه، وهو أعلى إسنادًا من السابق، وتقدم الكلام عليه، ورجاله تقدّموا غير مرّة، و"خالد" هو ابن الحارث الهجيميّ.

وقوله: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " ولفظ "الكبرى": "رأينا" في الموضعين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2001 -

أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَاذَانَ عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي جَنَازَةٍ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمْ يُلْحَدْ، فَجَلَسَ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هارون بن إسحاق) الهمْدَانيّ، أبو القاسم الكوفيّ، صدوق، من صغار [10] 13/ 346.

2 -

(أبو خالد الأحمر) سُليمان بن حيّان الأزديّ، الكوفيّ، صدوق يُخطىء [8] 30/ 921.

3 -

(عمرو بن قيس) الْمُلائيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة متقن عابد [6] 92/ 1349.

4 -

(الْمِنْهال بن عمرو) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، صدوق ربّما وهم [5] 13/ 892.

5 -

(زاذان) أبو عمر الكنديّ البزّاز، صدوق يرسل، وفيه شيعيّة [2] 46/ 1282.

6 -

(البراء) بن عازب رضي الله عنهما 86/ 105. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ الْبَرَاءِ) بن عازب رضي الله عنه، أنه (قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي جَنَازَةٍ) أي في تشييع جنازة، أو "في" بمعنى "مع"، أي مصاحبين لها، وفي رواية أبي داود:"في جنازة رجل من الأنصار"(فَلَمَّا انْتَهَيْنَا) أي وصلنا (إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمْ يُلْحَدْ) بالبناء

ص: 337

للمفعول، ويحتمل أن يكون بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير الْحَفّار، وهو من ألحد رباعيًا، أو من لَحَدَ، كنفع، ثلاثيّا، قال في "المصباح": اللَّحْدُ: الشَّقُّ في جانب القبر، ولَحَدت اللحدَ لَحْدًا، من باب نفع، وألحدته، إلحادًا: حَفَرته، ولَحَدت الميتَ، وألحدته: جعلته في اللحد انتهى.

وفي بعض النسخ: "ولَمَّا يُلحَد"، و"لما" بمعنى "لم"، والجملة في محلّ نصب على الحال. وقوله:(فَجَلَسَ) جواب "لَمّا"، من قوله:"فلما انتهينا"، والفاء زائدة (وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ) بالنصب على الظرفيّة، أي في الجهات المحيطة بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ومثلُ حَوْلَه حَوْالَيه، أفاده في "المصباح".

وهذا محلّ الترجمة، حيث إنه يدلّ على أنهم جلسوا قبل أن توضع الجنازة في اللحد، مع أنهم خرجوا متبعين لها، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ومن تبعها، فلا يقعدنّ حتى توضع"، وفي رواية:"حتى توضع في اللحد"، وفي رواية:"حتى توضع بالأرض"، وكأن المصنّف يرجّح رواية "في اللحد"، وقد تقدّم في [45/ 1914] أن البخاريّ، وأبا داود رجحا رواية:"بالأرض".

(كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ) قال في "النهاية": معناه وَصْفُهُمْ بالسكون، والوقار، وأنهم لم يكن فيهم طَيش، ولا خِفّة، لأن الطير لا تكاد تقع إلا على شيء ساكن انتهى

(1)

.

وفيه أدب الصحابة رضي الله عنهم، وتعظيمهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وسكونهم عند سماع كلامه.

[تنبيه]: هذا الحديث اختصره المصنّف رحمه الله، وهو حديث طويل، وقد ساقه أبو داود -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "كتاب السنّة" من "سننه" بتمامه، فقال:

4753 -

حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدئنا جرير ح وحدثنا هَنّاد بن السَّرِيّ، حدثنا أبو معاوية -وهذا لفظ هناد- عن الأعمش، عن المنهال، عن زاذان، عن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، فجلس رسول صلى الله عليه وسلم، وجلسنا حوله، كأنما على رءوسنا الطير، وفي يده عُود، يَنكُتُ به في الأرض، فرفع رأسه، فقال: استعيذوا باللَّه، من عذاب القبر، مرتين أو ثلاثا، زاد في حديث جرير هاهنا: وقال: وإنه ليسمع خفق نعالهم، إذا ولوا مدبرين، حين يقال له: يا هذا، من ربك؟، وما دينك؟، ومن نبيك؟، قال هناد: قال: ويأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟، فيقول: ربي اللَّه، فيقولان له: ما دينك؟، فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ قال:

(1)

- "النهاية" ج3 ص 150.

ص: 338

فيقول: هو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب اللَّه، فآمنت به، وصدقت، زاد في حديث جرير: فذلك قول اللَّه عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [إبراهيم: 27]، ثم اتفقا، قال: فينادي مناد من السماء، أن قد صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، وألبسوه من الجنة، قال: فيأتيه من رَوْحها وطيبها، قال: ويفتح له فيها، مَدّ بصره". قال: "وإن الكافر، فذكر موته، قال: وتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، هاه، لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فينادي مناد من السماء، أن كذب، فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، قال: فياتيه من حَرّها، وسمومها، قال: ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، زاد في حديث جرير: قال: ثم يقيض له أعمى، أبكم، معه مِرْزَبة من حديد، لو ضرب بها جبل، لصار ترابا، قال: فيضربه بها ضربة، يسمعها ما بين المشرق والمغرب، إلا الثقلين، فيصير ترابا، قال: ثم تعاد فيه الروح. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث البراء رضي الله عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -81/ 2001 وفي "الكبرى" 81/ 2128. وأخرجه (د) 3212 و 4753 (ق) 1548 و 1549 (أحمد) 18063 و 18140 و 18151. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما بوّب له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو بيان حكم الوقوف للجنازة، وقد سبق وجه دلالته. ومنها: مشروعيّة اتباع الجنازة. ومنها: استحباب اللحد للميت، وسيأتي بعد ثلاثة أبواب بباب مفرد، إن شاء اللَّه تعالى. ومنها: تأدب الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وشدّة تعظيمهم له، وسكونهم عند سماع كلامه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

ص: 339

‌82 - مُوَارَاةُ الشهِيدِ فِي دَمِهِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بهذا عدم مشروعيّة غسل الشهيد، بل يُدفن بدون غسل، فـ "الموارة" مصدر وارى، يواري: إذا دفنه، و"في" بمعنى "مع". أي دفنه مع دمه.

وقد اختلف أهل العلم في غسل الشهيد، والأرجح أنه لا يغسل، حتى الجنب، والحائض، وروي عن سعيد بن المسيّب، والحسن البصريّ أن الشهيد يغسل، وقيل: يغسل الجنب، لما روي في قصّة حنظلة بن الراهب أن الملائكة غسلته يوم أحد، لما استشهد، وهو جنب، وقصّته مشهورة، رواها ابن إسحاق وغيره. وروى الطبرانيّ وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد لا بأس به عنه، قال: أصيب حمزة بن عبد المطلب، وحنظلة بن الراهب، وهما جنب، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"رأيت الملائكة تغسلهما"، قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: غريب في ذكر حمزة.

وأجيب بأنه لو كان واجبًا ما اكتُفي فيه بغسل الملائكة، فدلّ على سقوطه عمن يتولّى أمر الشهيد. قاله في "الفتح".

والحاصل أن المذهب الصحيح أنه لا يشرع غسل الشهيد مطلقا، سواء كان جنبا، أو غير جنب؛ لحديث الباب، وغيره، وقد تقدّم البحث عن هذا مستوفًى في [61/ 1954] فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

2002 -

أَخْبَرَنَا هَنَّادٌ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِقَتْلَى أُحُدٍ:«زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ، يُكْلَمُ فِي اللَّهِ، إِلاَّ يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ، وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هنّاد) بن السرِيّ الكوفيّ الثقة الزاهد [10] 23/ 25.

2 -

(ابن المبارك) عبد اللَّه الإمام المشهور [8] 32/ 36.

3 -

(معمر) بن راشد الصنعانيّ الثقة الثبت [7] 10/ 10.

4 -

(الزهريّ) الإمام المشهور الحجة [4] 1/ 1.

5 -

(عبد اللَّه بن ثعلبة) بن صُعَير، ويقال: ابن أبي صُعير، مسح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجهه، ورأسه زمن الفتح، ودعا له. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه، وعمر، وعليّ، وسعد، وأبي هريرة، وجابر رضي الله عنهم. وعنه الزهريّ، وسعد بن إبراهيم، وعبد اللَّه بن

ص: 340

مسلم أخو الزهريّ، وعبد الحميد بن جعفر، ولم يُدركه. قال سعد بن إبراهيم: حدّثنا عبد اللَّه بن صُعير، ابن أخت لنا. وقال ابن سعد: كان أبو ثعلبة بن صُعير شاعرًا، وكان حليفًا لبني زهرة.

وقال ابن السكن: يقال: له صحبة، وحديثه في صدقة الفطر مختلف فيه، وصوابه مرسل، وديس يُذكر في شيء من الروايات الصحيحة سماع عبد اللَّه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حضوره إياه. وقال أبو حاتم: قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صغير. وقال البخاريّ في "التاريخ": عبد اللَّه بن ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل، إلا أن يكون عن أبيه، وهو أشبه، فأما ثعلبة بن أبي صُعير، فليس من هؤلاء، قال لي سعيد بن تَلِيد، عن ابن وهب، عن مالك، عن ابن شهاب: إنه كان يُجالس عبد اللَّه بن ثعلبة بن أبي صُعير ليتعلّم منه الأنساب وغيره، فسأله يومًا عن مسألة من الفقه؟ فقال: إن كنت تريد هذا فعليك بهذا الشيخ، سعيد بن المسيب. وزعم ابن حزم في "المحلّى" أنه مجهول.

وقال الحاكم أبو أحمد: أبو محمد عبد اللَّه بن ثعلبة بن صُعير ابن عمّ خالد بن عُرفطة ابن صُعير.

قيل: إنه ولد قبل الهجرة، وقيل: بعدها، وتوفّي سنة (8) وقيل: سنة (89) وهو ابن (83) سنة، وقيل: ابن (93) وقيل: غير ذلك في تاريخ وفاته، ومبلغ سنّه.

روى له البخاريّ، وأبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، وأعاده في 3148. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن صحابيه من المقلّين في الرواية، فله عند البخاريّ حديث، وعند المصنّف حديث، وعند أبي داود حديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِقَتْلَى أُحُدٍ) أي في شأنهم، وحكمهم (زَمِّلُوهُمْ) بتشديد الميم، من التزميل، وهو التلفيف، أي لَفِّفُوهم، يقال: زَمَّلْته بثوبه تَزْمِيلًا، فتزَمَّل، مثلُ لَفَّفْتُهُ به، فتلفّف به. وأما زَمَلْتُ الشيءَ بتخفيف الميم، فإنه بمعنى حملته، وهو لا يناسب هنا، ومن الثاني قيل للبعير زاملةٌ، لأنه يحمل متاع المسافر، والهاء للمبالغة. أفاده في "المصباح"(بدِمَائِهِمْ) أي مع دمائهم بدون غسل، فالباء بمعنى "مع"، أو المراد في ثيابهم المتلطّخة بالدم، من غير غسل (فَإِنَّهُ)

ص: 341

الفاء للتعليل، فهو تعليل للأمر بتزميلهم بدمائهم، والضمير للشأن، وضمير الشأن هو الضمير الذي يُفسَّر بجملة بعده، أي لأنه (لَيْسَ كَلْمٌ) بفتح الكاف، وسكون الميم، أي جرح، والمراد به العضو الجريح، بدليل قوله:"يكلم"، أو هو بمعناه المصدريّ، ويكون معنى "يُكلم": أي يُعمل، ويُفعل (يُكْلَمُ) بالبناء للمفعول، أي يُجرح (فِي اللَّهِ) أي مخلصًا للَّه، ومريدًا إعلاء كلمة اللَّه، لا يُرائي، ولا يكاثر، ولا يقاتل للعصبيّة (إِلَّا يَأتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى) بفتح الياء، وسكون الدال، وفتح الميم، وزان يَرْضَى، قال الفيّوميّ رحمه الله: دَمِيَ الْجُرْح، دَمًى، من باب تَعِبَ، ودَمْيًا أيضا، على التصحيح: خرج منه الدم، فهو دَمٍ على النقص، ويتعدّى بالألف، والتشديد، وشَجَّةٌ داميةٌ للتي يخرج دمها، ولا يسيل، فإن سال فهي الدامعة، ويقال: أصل الدم دَمْيٌ، بسكون الميم، لكن حُذفت اللام، وجُعلت الميم حرفَ إعراب. وقيل: الأصل بفتح الميم، ويُثنّى بالياء، فيقال: دَمَيان، وقيل: أصله واو لهذا يقال: دموان، وقد يثنّى على لفظ الواحد، فيقال: دمان انتهى

(1)

(لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ، وَرِيحُهُ رِيحُ المِسْكِ") يعني أن لون ذلك الْكَلْم كلون الدم، وريحَهُ كريح المسك. وهذا بيان لسبب دفنهم بدمائهم، وعدم مشروعيّة غسلهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عبد اللَّه بن ثعلبة رضي الله عنه عنه هذا صحيح.

فإن قلت: تقدّم أن عبد اللَّه بن ثعلبة له رؤية، واختلف في روايته، فكيف يصحّ؟.

قلت: قد أثبت صحبته البغويّ، فقال: رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحفظ عنه، له صحبه، وذكره ابن حبّان في الصحابة. وقال ابن السكن: يقال: له صحبة

(2)

. وأيضًا قد ثبت في غير رواية المصنّف أنه رواه عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، فقد أخرجه أحمد في "مسنده"، بسند صحيح عنه، فقال:

23147 -

حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن أبي صُعَير عن جابر ابن عبد اللَّه، قال: لما كان يومُ أحد، أشرف النبي صلى الله عليه وسلم، على الشهداء الذين قتدوا يومئذ، فقال: "زملوهم بدمائهم، فإني قد شهدت عليهم، فكان يُدفن الرجلان، والثلاثة، في القبر الواحد، ويسأل أيهم كان أقرأ للقرآن؟، فيقدمونه، قال جابر: فدفن أبي وعمي يومئذ في قبر واحد انتهى. والحاصل أن الحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- "المصباح" في مادة دمي.

(2)

- راجع "الإصابة" ج 5 ص30.

ص: 342

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه: أخرجه هنا - 82/ 2002 و 27/ 3148 وفي "الكبرى" 82/ 2129. وأخرجه (أحمد) 23144.

وفوائده ستأتي في كتاب الجهاد، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌83 - أَيْنَ يُدْفَنُ الشَّهِيدُ؟

2003 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ رَجُلٍ، يُقَالُ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَيَّةَ، قَالَ: أُصِيبَ رَجُلَانِ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَوْمَ الطَّائِفِ، فَحُمِلَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ أَنْ يُدْفَنَا، حَيْثُ أُصِيبَا، وَكَانَ ابْنُ مُعَيَّةَ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المذكور قبل باب.

2 -

(وكيع) بن الجَرّاح، أبو سفيان الرؤاسيّ الكوفيّ، ثقة ثبت [9] 23/ 25.

3 -

(سعيد بن السائب) بن يسار الثقفيّ الطائفيّ، وهو ابن أبي حفص، ثقة عابدٌ [7].

قال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقة، وكذا قال الدراقطنيّ. وقال أبو داود: لا بأس به. وقال النسائيّ: ليس به بأس وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الحميديّ، عن سفيان: كان لا تجفّ له دمعة. وقال شعيب بن حرب: كنا نعدّه من الأبدال، وقال: ثقة. وقال الصَّرِيفينيّ: مات سنة (171). روى له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

4 -

(عبيد اللَّه بن معيّة) -بالتصغير فيهما- ويقال: عَبدالله بالتكبير، ويقال: عُبيد السُّوائيّ -بضمّ المهملة، وتخفيف الواو- العامريّ، ثقة [2] حديثه مرسل.

قال ابن أبي حاتم، عن أبيه: أدرك الجاهليّة. وقال غيره: وُلد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه إبراهيم بن ميسرة، وأثنى عليه خيرًا، وسعيد بن السائب.

قال صالح بن أحمد، عن أبيه: عُبيد اللَّه بن مُعيّة ليس بمشهور بالعلم. قال ابن أبي حاتم:

ص: 343

فذكرته لأبي، فقال: هو كما قال: تفرد به المصنف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. قال الحافظ: وقع اسمه في "سنن النسائيّ" عبد اللَّه مكبّرًا، وكذلك ذكره صاحب "تهذيب الكمال"، وأما البخاريّ، ويعقوب بن سفيان، وغير واحد، ممن بعدهم، فذكروه في عُبيد اللَّه، مصغّرًا انتهى

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا قال في "تهذيب التهذيب" جـ2 ص 438: وقع اسمه في "سنن النسائي" مكبرًا، لكن الذي وقع في النسخ التي بين يَدَيّ من "المجتبى" و"الكبرى" أنه مصغر، ولعل ذلك لاختلاف النسخ. واللَّه تعالى أعلم. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، لكنه مرسل؛ إذلم يذكر فيه الصحابيّ. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن رجل، يقال له: عبد اللَّه بن مُعيّة) -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أنه (قَالَ: أُصِيبَ رَجُلَانِ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَوْمَ الطَّائِفِ) أي غزوة الطائف (فَحُمِلَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) إلى المكان الذي نزل فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (فَأَمَرَ) صلى الله عليه وسلم (أَن يُدْفَنَا، حَيْثُ أُصِيبَا) ببناء الفعلين للمفعول، أي أمر أن يُقبَرا في المحلّ الذي أصابهما فيه القتل.

وهذا هو موضع جواب السؤال الذي أورده في الترجمة، فإنه يدلّ على أن الشهيد يُدفن في الموضع الذي قتل فيه، ولا يجوز نقله إلى موضع آخر، لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك، وأمرُهُ للوجوب، إلا إذا كان هناك ضرورة، فيدفن في أيّ موضع أمكن. واللَّه تعالى أعلم.

وقال السنديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: يحتمل أنّ المراد منع النقل إلى أرض أخرى، أو الدفن في خصوص البقعة التي أصيبا فيها، واللَّه تعالى أعلم انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني هو الظاهر، فحيث أمكن الدفن في البقعة التي أصيب فيها، لا يدفن في غيرها، لظاهر النصّ. واللَّه تعالى أعلم (وَكَانَ ابْنُ مُعَيَّةَ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) لكن تقدّم أن حديثه مرسل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث عبد اللَّه بن معيّة -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- هذا صحيح.

فإن قيل: كيف يصحّ، وقد تقدّم أنه مرسل؟

أجيب: بأنه وإن كان مرسلاً، لكن يشهد له حديث جابر رضي الله عنه الآتي بعده، فيصحّ.

ص: 344

واللَّه سبجانه وتعالى أعلم.

المسألة الثانبة: في بيان مواضع ذكر المصنّف له:

انفرد به المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وأخرجه هنا -83/ 2003 - وفي "الكبرى" 83/ 2130. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في نقل الميت من بلد إلى بلد آخر:

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: اختلفوا في نقل الميت من بلد إلى بلد آخر، فممن كره ذلك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: لو حضرت أخي ما دُفن إلا حيث مات، وكان قد مات بالْحُبْشيّ

(1)

، فدفن بأعلى مكّة، وكره ذلك الأوزاعيّ.

وسئل الزهريّ عن هذه المسألة؟ فقال: قد حُمل سعد بن أبي وقّاص، وسعيد بن المسيب

(2)

من العقيق إلى المدينة، فدفنا بها. وقال ابن عُيينة: مات ابن عمر ههنا -يعني بمكة- فأوصى أن لا يُدفن بها، وأن يُدفن بسرف، فغلبهم الحرّ، وكان رجلاً باديًا

(3)

.

قال ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: يُستحبّ أن يُدفن الميت في البلد الذي توفي فيه، على هذا كان الأمر على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعليه عوامّ أهل العلم، وكذلك تَفعل العامّة في عامة البلدان، ويكره حمل الميت من بلد إلى بلد، يُخاف عليه التغيّر فيما بينهما انتهى كلام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، باختصار

(4)

.

ونقل الإمام مالك -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- عن غير واحد ممن يثق به أن سعد بن أبي وقّاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل، توفّيا بالعَقيق، وحُملا إلى المدينة، ودُفنا بها انتهى.

قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: الخبر بذلك عن سعد، وسعيد، كما حكاه مالك صحيح، ولكنها مسألة اختَلَف السلف، ومن بعدهم فيها باختلاف الآثار في ذلك:

فمن كره ذلك احتجّ بحديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالقتلى أن يردّوا إلى مضاجعهم. وبحديث جابر أيضًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: تُدفن الأجساد حيث ما تقبض الأرواح

(5)

. وبالحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في أخيها عبد الرحمن: لو

(1)

- الْحُنشيّ بضم، فسكون: جبل باسفل مكة، بينه وبينها اثنا عشر ميلاً، أو نحوها، كما يأتى فى كلام ابن عبد البرّ.

(2)

هكذا في نسخة "الأوسط" جـ 5 ص 464 "ابن المسيب" والظاهر أنه غلط، والصواب "سعيد بن زيد"، كما سيأتي قريبًا.

(3)

- هكذا نسخة "الأوسط"، ولعله "بادنا". واللَّه أعلم.

(4)

- "الأوسط" ج 5 ص 464.

(5)

- سيأتي الإشارة في كلام ابن عبد البرّ أنه لا يثبت.

ص: 345

شهدته ما دُفن إلا حيث مات. وكان دُفن

(1)

بالحبشيّ، مكان بينه وبين مكة اثنا عشر ميلاً أو نحوها.

قال أبو عمر: قد أجمع المسلمون كافّة بعد كافّة على جواز نقل موتاهم من دورهم إلى قبورهم، فمن ذلك البقيع مقبرة المدينة، ولكلّ مدينة جبّانة يتدافن فيها أهلها، فدلّ ما ذكرناه من الإجماع على فساد نقل من نقَلَ:"تدفن الأجساد حيث تُقبض الأرواح"، إلا أن يكون أراد البلد والحضرة، وما لا يكون سفرًا. واللَّه أعلم.

وليس في أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بردّ القتلى يوم أحد إلى مضاجعهم ما يُردّ ما وصفنا. والحديث المأثور: "ما دُفن نبيّ إلا حيث قُبض" دليل، ووجهٌ على تخصيص الأنبياء بذلك، واللَّه أعلم.

وأما حديث عائشة في أخيها بذلك -واللَّه أعلم- لأنها أرادت دفنه بمكة؛ لزيارة الناس القبور بالسلام عليهم، والدعاء لهم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا ذكر ابن البرّ قصة عائشة، أن موت أخيها كان بمكة، ثم دفن بالحبشيّ، وخالفه غيره، فذكر أنه مات بالْحُبشيّ، ودُفن بمكّة، والظاهر أن الصواب ما قاله غيره، فقد ساق القصّة ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بسند صحيح، فقال: حدثنا إسحاق، عن عبد الرزّاق، عن ابن جريج، قال: سمعت ابن أبي مليكة، يقول: قالت عائشة: لو حضرت عبد الرحمن -تعنى أخاها- ما دُفن إلا حيث مات، وكان مات بالْحُبشيّ، فدفن بأعلى مكة، والحبشيّ قريب من مكة. انتهى

(2)

.

قال أبو عمر: وقد نُقِل سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد من العقيق، ونحوه إلى المدينة، وذلك بمحضر جماعة من الصحابة، وكبار التابعين، من غير نكير، ولعلّهما قد أوصيا بذلك، وما أظنّ إلا وقد رويت ذلك.

وليس في هذا الباب -أعني نقل الموتى- بدعةٌ، ولا سنّة، فليفعل المؤمن ذلك ما شاء، وباللَّه التوفيق انتهى كلام ابن عبد البرّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الراجح عندي أن نقل الشهيد ممنوع، لصحّة أحاديث الباب، وأما غيره، فالأولى دفنه في محل موته، لأنه المعهود في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما تقدم في كلام ابن المنذر، وإن نُقِل لغرض من الأغراض، فلا منع، ما لم يُخف تغيّره، لما تقدّم من أنّ سعد ابن أبي وقاص، وسعيد بن زيد رضي الله عنهما نقلا من العقيق إلى المدينة بمحضر من

(1)

- سيأتي الكلام عليه قريبا.

(2)

- "الأوسط" ج 5 ص 464.

(3)

- "الاستذكار" ج 8 ص 293 - 295.

ص: 346

الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكر ذلك أحد، ولأنه لم يصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم المنع عنه، إلا في الشهيد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2004 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ نُبَيْحٍ الْعَنَزِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ، أَنْ يُرَدُّوا إِلَى مَصَارِعِهِمْ، وَكَانُوا قَدْ نُقِلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن منصور) الجوّاز المكي، ثقة [10] 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عُيينة الإمام الحجة المشهور [8] 1/ 1.

3 -

(الأسود بن قيس) العبديّ النخعيّ، أبو قيس الكوفيّ، ثقة [4] 15/ 1484.

4 -

(نُبيح) -مصغّرًا- ابن عبد اللَّه (العَنَزيّ) -بفتح المهملة، والنون، ثم زاي- أبو عمرو الكوفيّ، ثقة

(1)

[3].

روى عن ابن عبّاس، وابن عمر، وأبي سعيد، وجابر رضي الله عنهم. وعنه الأسود بن قيس، وأبو خالد الدالانيّ.

قال أبو زرعة: ثقة، لم يرو عنه غير الأسود بن قيس. وقال العجليّ: كوفيّ، تابعيّ، ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكره ابن المدينيّ في جملة المجهولين الذين يروي عنهم الأسود بن قيس. وصحح الترمذيّ حديثه

(2)

، وكذلك ابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم. روى له الأربعة، وله فى هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده.

5 -

(جابر بن عبد اللَّه) بن عمرو بن حرام - رضي اللَّه تعالى عنهما -. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير نبيح، فمن رجال الأربعة. (ومنها): أن شيخه وسفيان مكيان، والأسود ونبيح كوفيان، وجابر - رضي اللَّه تعالى عنه - مدني. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وفي رواية ابن ماجه: "عن الأسود ابن قيس، سمع نُبيحًا العنزيّ، يقول: سمعت جابر بن عبد اللَّه

"، فصرّح بالسماع

(1)

- في "ت" قال: مقبول، لكن وثقة جماعة، كما سيأتي بعد، فلذا رأيت أن يقال: إنه ثقة.

(2)

- قال في "جامعه": حديث حسن صحيح، ونُبيح ثقة. ج 4 ص 215 رقم 1717.

ص: 347

في موضعين (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ) جمع قتيل، أي الشهداء الذين قتلوا في معركة أحد (أَنْ يُرَدُّوا إِلَى مَصَارِعِهِمْ) جمع مصرع بفتح الميم، والراء- وهو موضع القتل.

وهذا هو محلّ جواب السؤال الذي أورده في الترجمة، أيضًا، ومرّ تقريره في الحديث الماضي (وَكَانُوا قَدْ نُقِلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ) وفي رواية الترمذيّ:"لما كان يومُ أحد جاءت عمّتي بأبي؛ لتدفنه في مقابرنا، فنادى منادي رسول صلى الله عليه وسلم: "ردّوا القتلى إلى مضاجعهم". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -83/ 2004 و 2005 - وفي "الكبرى" 83/ 2131 و 2132 - وزاد فيه: "قال أبو عبد الرحمن: نُبيحٌ العنزيّ لم يرو عنه غير الأسود بن قيس انتهى

(1)

.

وأخرجه (د) 3165 (ت) 1717 (ق) 1516 (أحمد)13893. واختلاف أهل العلم في جواز نقل الميت من موضع إلى موضع آخر قد استوفيته في المسألة الثالثة من الحديث الماضي فارجع إليها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2005 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ نُبَيْحٍ الْعَنَزِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«ادْفِنُوا الْقَتْلَى فِي مَصَارِعِهِمْ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثان لحديث جابر رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، وهو أنزل من الذي قبله بدرجة، و"محمد بن عبد اللَّه بن المبارك": هو الْمُخّرِّميّ، أبو جعفر البغداديّ الثقة الحافظ [11] 23/ 1236. و"وكيع": هو ابن الجرّاح. و"سفيان ": هو ابن سعيد الثوريّ الإمام.، والباقون ذكروا في الذي قبله، وكذا شرح الحديث، وما يتعلّق به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- راجع "الكبرى" ج 1 ص 647.

ص: 348

‌84 - بَابُ مُوَارَاةِ الْمُشْرِكِ

2006 -

أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ مَاتَ، فَمَنْ يُوَارِيهِ؟ ، قَالَ:«اذْهَبْ، فَوَارِ أَبَاكَ، وَلَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا، حَتَّى تَأْتِيَنِي» . فَوَارَيْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُ، فَأَمَرَنِي، فَاغْتَسَلْتُ، وَدَعَا لِي، وَذَكَرَ دُعَاءً، لَمْ أَحْفَظْهُ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبيد اللَّه بن سعيد) أبو قُدامة السرخسيّ، ثقة مأمون سنّيّ [10] 15/ 15.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ الثبت الحجة [9] 4/ 4.

3 -

(سفيان) الثوريّ المذكور في الباب الماضي.

4 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد، مختدط [3] 38/ 42.

5 -

(ناجية بن كعب) الأسديّ الكوفي، ثقة [3] 128/ 190.

6 -

(علي) بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه - 74/ 91. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير ناجية، فأخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين غير شيخه، فسرخسي، ويحيى، فبصريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. ومنها: أن صحابيه أحد الخلفاء الأربعة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، رضي الله عنهم. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَلِيٍّ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ مَاتَ) يريد أبا طالب، والده (فَمَنْ يُوَارِيهِ؟) أي من الذي يَدفِنه، ويستره عن أعين الناس (قَالَ: اذْهَبْ، فَوَارِ أَبَاكَ) أي ادفنه، وغيّبه عن أعين الناس، لئلا يتأذّى أحد بجيفته.

وفيه أنه لم يأمره بغسله، وبتكفينه، وقد اختلف العلماء في ذلك، قال النوويّ في "المجموع": مذهب الشافعيّ أن للمسلم غسله، ودفنه، واتباع جنازته، قال: ونقله ابن المنذر عن أصحاب الرأي، وأبي ثور، وقال مالك، وأحمد: ليس للمسلم، غسله،

ص: 349

ولا دفنه، لكن قال مالك: له مواراته انتهى. (1)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الراجح عندي أنه يواريه، لحديث الباب، ولا يغسله، ولا يتبع جنازته؛ لعدم صحة دليل على ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

(وَلَا تحُدِثَنَّ حَدَثًا) من الإحداث، أي لا تفعلنّ شيئا، وفي رواية لأحمد من طريق أبي عبد الرحمن السُّلَميّ، عن عليّ:"ولا تحدث من أمره شيئا"("حَتَّى تَأْتِيَنِي"، فَوَارَيْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَأَمَرَنِي) أي بالاغتسال، وفي الرواية المتقدمة في [128/ 190] "فقال لي: اغتسل" (فَاغْتَسَلْتُ) فيه الأمر بالاغتسال لدفن الكافر، وقد ترجم المصنّف رحمه الله في -128/ 190 - بقوله: "الغسل من مواراة الكافر" (وَدَعَا لِي، وَذَكَرَ دُعَاءً، لَمْ أَحْفَظْهُ) أي ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم دعاء دعا به لعليّ رضي الله عنه، ولكنه لم يحفظه هو.

وفي رواية أحمد المذكورة: "ثم أتيته، فدعا لي بدعوات، ما يسرني بهن حُمْر النعم، وسُودها".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، ولا يضر فيه الكلام في ناجية؛ لأنه لم ينفرد به، فقد تابعه عليه أبو عبد الرحمن السُّلَميّ، عن عليّ رضي الله عنه، أخرجه أحمد في "مسنده" رقم [1077] بسنده عنه.

وتمام الكلام عليه، وعلى مسائله تقدم في "أبواب الطهارة" برقم [128/ 190]،

فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌85 - اللَّحْدُ وَالشَّقُّ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بهذه الترجمة تفضيل اللحد على الشّقّ؛ لأن الأحاديث التي أوردها صَريحه في ذلك على ما سيأتي بيانه، إن شاء اللَّه تعالى.

و"اللَّحد"-بفتح، فسكون-: الشَّقُّ في جانب القبر، والجمِع لُحُود، مثلُ فَلْس، وفُلُوس، واللُّحْدُ -بالضمّ- لغة، وجمعه ألْحاد، مثلُ قُفْل، وأقفال، ولَحَدتُ اللَّحْدَ لَحْدًا، من باب نَفَعَ، وألحدته إِلْحادًا: حَفَرته، ولَحَدتُ الميتَ، وألحدته: جعلته في اللحد. قاله في "المصباح".

وقال في "المنهل": "واللحد" بفتح اللام، وقد تضمّ: الشَّقُّ الذي يُعمل في جانب

ص: 350

القبر بقدر ما يسع الميت، فيوضع فيه، ثم يُنصب عليه اللَّبِن، وأصل اللحد الميل، يقال: لَحَدت إلى كذا: إذا ملت إليه، وبابه نفع، وألحد، من باب أكرم: أمال، وسمي الشقّ في جانب القبر لحدًا؛ لأنه أُميل به عن وسط القبر.

و"الشَّقُّ: حُفْرة مستطيلة في وسط القبر، تُبنى جوانبها باللبِنِ، أو غيره، يوضع فيه الميت، ويسقّف عليه باللبن، أو الخشب، أو غيرهما، ويرفع السقف قليلاً، بحيث لا يمسّ الميت انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2007 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: الْحَدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ نَصْبًا، كَمَا فُعِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاّس البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ البصريّ الإمام الحجة [9] 42/ 49.

3 -

(عبد اللَّه بن جعفر) بن عبد الرحمن بن الْمِسْوَر بن مَخْرَمة المَخْرَميّ، أبو محمد المدنيّ، ليس به بأس [8] 68/ 1316.

4 -

(اسماعيل بن محمد بن سعد) بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو محمد المدنيّ، ثقة حجّة [4] 97/ 125.

5 -

(محمد بن سعد) بن أبي وقّاص القرشيّ الزهريّ، أبو القاسم المدنيّ، نزيل الكوفة، كان يُلقّب ظلّ الشيطان لقصره، ثقة [3].

قال العجليّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث، ليست بالكثيرة، وكان قد خرج مع ابن الأشعث، وشهد دَيْر الْجَمَاجم، فأُتِي به الحجاج، فقتله. روى له أبوداود في "المراسيل"، والباقون، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، هذا، و 2135 حديث:"الشهر هكذا وهكذا .. " الحديث، وأعاده برقم 2136، و 3635 حديث:"الثلث، والثلث كثير".

6 -

(سعد) بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق، أحد العشرة، وأول من رمى بسهم في سبيل اللَّه رضي الله عنه مات بالعقيق سنة (55) على المشهور 96/ 1021. واللَّه تعالى اعلم.

(1)

- "المجموع" ج 5 ص 153.

ص: 351

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فبصريان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن صحابيه أحد العشرة المبشّرين بالجنة، وهو آخر من مات منهم، مات رضي الله عنه سنة (55). واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَعْدٍ) بن أبي وقاص رضي الله عنه (قَالَ) وفي الرواية التالية: أن سعدًا لَمّا حضرته الوفاة قال

(الْحَدُوا لِي لَحْدًا) قال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: بوصل الهمزة، وفتح الحاء، ويجوز بقطع الهمزة، وكسر الحاء، يقال: لَحَدَ يلحد، كذَهَب يذهب، وأَلْحَدَ يُلحِد: إذا حفر اللحد، واللحد، بفتح اللام، وضمها معروف، وهو الشقّ تحت الجانب القبليّ من القبر، وفيه دليل لمذهب الشافعيّ، والأكثرين في أن الدفن في اللحد أفضل من الشقّ، إذا أمكن، وأجمعوا على جواز اللحد، والشقّ انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: اللحد: هو أن يُشقّ في الأرض، ثم يُحفر قبر آخر في جانب الشقّ، من جهة القبلة، يُدخل فيه الميت، ويُسدّ عليه باللبن، وهو أفضل عندنا من الشقّ، وكلّ واحد منهما جائز، غير أن الذي اختار اللَّه لنبيّه صلى الله عليه وسلم هو اللحد، وذلك أنه لما أراد الصحابة أن يَحفِروا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، اشتوروا في ذلك، وكان في المدينة رجلان، أحدهما يَلحَد، والآخر لا يلحد، فقالت الصحابة: اللَّهم اختر لنبيّك صلى الله عليه وسلم، فجاء الذي يلحد أوّلاً، فلحدوا، واشتوارهم في ذلك، واتّفاقهم يدلّ على أنه لم يكن عندهم في أفضليّة أحدهما من النبي صلى الله عليه وسلم تعيينٌ، ولذلك رجعوا إلى الدعاء في تعيين الأفضل انتهى

(2)

.

(وَانْصِبُوا) بوصل الهمزة، لأنه من نَصَب، ثلاثيا، يقال: نَصَبتُ الخشبة، نَصْبًا، من باب ضرب: أقمتها، ونصبت الحجرَ: رفعتُهُ علامة. قاله في "المصباح"(عَلَيَّ نَصْبًا) هكذا في رواية المصنّف بحذف المفعول، وقد ذُكر في رواية مسلم، ولفظه:"وانصبوا عليّ اللبن نصبًا، كما صُنع برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "(كَمَا فُعِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فيه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دُفن في اللحد، ونُصبت عليه اللبنات، وهي تسع لبنات، كما سيأتي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 38.

(2)

- "المفهم" ج 2 ص 624.

ص: 352

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا - 85/ 2007 و 2008 - وفي "الكبرى" 85/ 2134 و 2135. وأخرجه (م) 966 (ق) 1556 (أحمد) 1492 و 1604. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما أشار إليه في الترجمة، وهو تفضيل اللحد على الشقّ. ومنها: استحباب نصب اللبن في اللحد. ومنها: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دُفن في اللحد، ونصبت عليه اللبنات، وذلك باتفاق الصحابة رضي الله عنهم، قال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وقد نقلوا أن عدد لبناته صلى الله عليه وسلم تسع انتهى

(1)

. ومنها: ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الحرص على اتباع آثار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حياتهم ومماتهم - رضي اللَّه تعالى عنهم - أجمعين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2008 -

أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ سَعْدًا لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ: الْحَدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ نَصْبًا، كَمَا فُعِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثان لحديث سعد رضي الله عنه، وتقدم تمام الكلام عليه في الذي قبله، وكذا تقدمت تراجم رجاله فيه، وممن لم يتقدم هناك:

1 -

(هارون بن عبد اللَّه) الحمّال، أبو موسى البغداديّ، ثقة [10] 50/ 62.

2 -

(أبو عامر) عبد الملك بن عمرو الْعَقَديّ القيسيّ البصريّ، ثقة [9] 2/ 327.

3 -

(عامر بن سعد) بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، ثقة [3] 131/ 1094. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2009 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَذْرَمِيُّ، عَنْ حَكَّامِ بْنِ سَلْمٍ الرَّازِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّحْدُ لَنَا، وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» .

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبد اللَّه بن محمد، أبو عبد الرحمن الأَذْرَميّ

(2)

) الْجَزَريّ الْمَوْصِليّ، ثقة [10] 6/ 506.

(1)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 38.

(2)

- الأذرمي بـ "فتح" الهمزة، وسكون المعجمة، و"فتح" الراء أخره ميم: نسبة إلى أَذرَمَةَ قرية بنصيبين. قاله في "لب اللباب" جـ 1 ص 43.

ص: 353

2 -

(حَكّام بن سَلْم الرازيّ

(1)

) أبو عبد الرحمن الكنانيّ، ثقة له غرائب [8].

قال الأثرم، عن أحمد: كان حسن الهيئة، قدم علينا، وكان يحدّث عن عنبسة أحاديث غرائب. وقال ابن معين: ثقة. وكذا قال ابن سعد، وأبو حاتم، ويعقوب بن شيبة، ويعقوب بن سفيان، والعجليّ، زاد ابن سعد: إن شاء اللَّه. وقال نصر بن عبد الرحمن الْوَشَّاء: كتبنا عنه سنة تسعين ومائة، ومات بمكة قبل أن يحجّ. وذكره ابن حبّان في:"الثقات"، وقال: رَوَى عن الأعمش. وقال الدارقطنيّ: لا بأس به، وقال إسحاق بن راهويه في "تفسيره": حدّثنا حَكَام بن سَلْم، وكان ثقة.

علّق له البخاريّ، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

3 -

(عليّ بن عبد الأعلى) بن عامر الثَّعْلبيّ، أو أبو الحسن الكوفيّ الأحول، صدوق ربّما وَهِمَ [6].

قال أحمد، والنسائيّ: لا بأس به. وقال البخاريّ فيما نقله عنه الترمذيّ: ثقة، ووثقه الترمذيّ. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ. وقال الدارقطنيّ في "العلل": ليس بالقويّ. روى له الأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

4 -

(أبوه) عبد الأعلى بن عامر الثّعلبيّ الكوفيّ، صدوق يهم

(2)

[6].

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ضعيف الحديث. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث، ربما رفع الحديث، وربما وقفه. وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ، يقال: إنه وقع إليه صحيفة لرجل يقال له: عامر بن هُنيّ، كان يروي عن ابن الحنفية. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، ويكتب حديثه. وقال ابن عديّ: يحدّث بأشياء لا يُتابع عليها، قد حدث عنه الثقات. وقال عمرو بن علي: كان عبد الرحمن لا يحدّث عنه، قال: وكان يحيى يحدثنا عنه. وقال عبيد اللَّه بن أبي الأسود، عن يحيى بن سعيد: سألت الثوريّ، عن أحاديثه، عن ابن الحنفيّة، فضعفها. وقال أحمد، عن ابن مهديّ: كل شيء روى عبد الأعلى عن ابن الحنفية إنما هو كتاب أخذه، ولم يسمعه. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ليس بذاك القويّ. وقال الساجيّ: صدوق يهم. وقال يحيى بن سعيد: تَعرِف وتُنكر. وقال أبو علي الكرابيسيّ: كان من أوهى الناس. وقال العقيليّ: تركه ابن مهديّ، والقطان. وقال يعقوب بن سفيان: يُضعّف، يقولون: إن روايته عن

(1)

- "حكّام" بـ "فتح" أوله، وتشديد الكاف، و"سلم" بـ "فتح" السين، وسكون اللام.

(2)

- هكذا قال عنه في "ت": صدوق يهم، والظاهر أنه ضعيف، لأن المحققين من النقّاد على تضعيفه، كما سيأتي كلامهم بهذا، فليتأملْ.

ص: 354

ابن الحنفيّة إنما هي صحيفة. وقال في موضع آخر: في حديثه لين، وهو ثقة. وقال ابن سعد: كان ضعيفًا في الحديث. وقال الدارقطنيّ يُعتبر به. وقال في "العلل": ليس بالقويّ عندهم. وصحح الطبريّ حديثه في الكسوف. وحسّن له الترمذيّ، وصحّح له الحاكم، وهو من تساهله. روى له الأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، هذا، و 4005 حديث:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية، و 4775 حديث:"أيها الناس أي أهل الأرض تعلمون أكرم .. " الحديث

(1)

.

5 -

(سعيد بن جُبير) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 28/ 436.

6 -

(ابن عباس) - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى علي بن عبد الأعلى، وأبيه، فمن رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فموصلي، وحكام، فرازي. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد العبادة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّحْدُ لَنَا، وَالشَّقُّ لِغَيرِنَا") جملتان اسميتان، بيّن فيهما النبيّ صلى الله عليه وسلم أن اللحد لأمواتنا معشر المسلمين، والشقّ لغيرنا من أهل الكتاب، كما صرّح به في رواية أحمد بسند فيه ضعيف. وأخرج أيضًا:"الحدوا، ولا تشقّوا، فإن اللحد لنا، والشقّ لغيرنا"، وسيأتي أنه ضعيف.

قال الإمام ابن تيميّة -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: فيه تنبيه على مخالفتنا لأهل الكتاب في كلّ ما هو شعارهم، حتى في وضع الميت في أسفل القبر انتهى.

وقال الدهلويّ رحمه الله: إن كان المراد بضمير الجمع في "لنا" المسلمين، وبضمير "غيرنا" اليهود والنصارى، فلا شكّ أنه يدلّ على أفضليّة اللحد، بل على كراهية غيره، وإن كان كان المراد بـ"غيرنا" الأمم السابقة، ففيه إشعار بالأفضليّة، وعلى كلّ تقدير ليس اللحد واجبًا، والشقّ منهيا عنه انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ومما يدلّ على تفضيل اللحد على الشقّ، لا على

(1)

- راجع "تت" ج 2 ص 464 - 465.

(2)

- راجع، "المنهل" ج 9 ص 57.

ص: 355

تعيينه ما أخرجه أحمد، وابن ماجه، واللفظ له، من طريق حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، كان بالمدينة رجل يلحد، وآخر يَضرَح

(1)

، فقالوا: نستخير ربنا، ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأُرسل إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبي صلى الله عليه وسلم. حديث صحيح.

وأخرج أحمد بسنده عن حسين بن عبد اللَّه، عن عكرمة، مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان أبو عبيدة بن الْجَرّاح، يَضرَح، كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة، زيد بن سهل، يحفر لأهل المدينة، فكان يلحد، فدعا العباس رجلين، فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة، وللآخر اذهب، إلى أبي طلحة، اللَّهم خِرْ لرسولك، قال: فوَجَد صاحب أبي طلحة أبا طلحة، فجاء به، فلحد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وفيه حسين بن عبد اللَّه قال فيه ابن معين في رواية ابن أبي مريم عنه: ليس به بأس، يكتب حديثه. وقال أبو حاتم: ضعيف، وهو أحبّ إلي من حسين بن قيس، يكتب حديثه، ولا يُحتجّ به. وقال ابن عديّ: أحاديثه، يشبه بعضها بعضًا، وهو ممن يكتب حديثه، فإني لم أجد حديثا منكرًا قد جاوز المقدار. وضعفه آخرون. لكن يشهد له حديث أنس الذي قبله، فالحديث عندي حسن. واللَّه تعالى أعلم.

فتقريره صلى الله عليه وسلم للرجلين حال حياته، هذا يلحد، وهذا يشقّ، دليلٌ على أن كُلًّا من اللحد، والشقّ جائز، بلا كراهة، وإنما فُضّل اللحد، لأن اللَّه سبحانه وتعالى اختاره لنبيّه صلى الله عليه وسلم، فدلّ على أفضليته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: أخرج الإمام أحمد في "المسند" -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- هذا الحديث مطوّلاً، وذكر فيه سببًا، فقال:

18695 -

حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا أبو جناب، عن زاذان، عن جرير بن عبد اللَّه، قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فدما برزنا من المدينة، إذا راكب يوضع نحونا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كأن هذا الراكب إياكم يريد، قال: فانتهى الرجل إلينا، فسلم، فرددنا عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"من أين أقبلت؟ "، قال" من أهلي، وولدي، وعشيرتي، قال: "فأين تريد؟ "، قال: أريد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: "فقد أصبته"، قال: يا رسول اللَّه، علمني ما الإيمان؟، قال: "تشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا رسول اللَّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت"، قال: قد أقررتُ، قال: ثم إن بعيره دخلت يده في شبكة جرذان، فهوى بعيره، وهوى الرجل، فوقع على

(1)

- من باب نفع: أي يحفر الضريح، وهو الشَّقُّ في وسط القبر. أفاده في "المصباح".

ص: 356

هامته، فمات، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"علي بالرجل"، قال: فوثب إليه عمار بن ياسر، وحذيفة، فأقعداه، فقالا: يا رسول اللَّه، قبض الرجل، قال: فأعرض عنهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم قال لهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أما رأيتما إعراضي عن الرجلين، فإني رأيت ملكين يدسان في فيه، من ثمار الجنة، فعلمت أنه مات جائعا"، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"هذا واللَّه من الذين قال اللَّه عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، قال: ثم قال: "دونكم أخاكم"، قال: فاحتملناه إلى الماء، فغسلناه، وحنطناه، وكفناه، وحملناه إلى القبر، قال: فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى جلس، على شفير القبر، قال: فقال: "ألحدوا، ولا تشقوا، فإن اللحد لنا، والشق لغيرنا".

حدثنا أسود بن عامر، حدثنا عبد الحميد بن أبي جعفر الفراء، عن ثابت، عن زاذان، عن جرير بن عبد اللَّه البجلي، قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من المدينة، فبينا نحن نسير، إذ رُفع لنا شخص، فذكر نحوه، إلا أنه قال، وقعت يد بَكْره في بعض تلك التي تحفر الجرذان، وقال فيه:"هذا ممن عمل قليلا، وأجر كثيرا" انتهى.

وفي السند الأول أبو جناب الكلبيّ ضعفوه لكثرة تدليسه، وفي الثاني عبد الحميد بن أبي جعفر قال البيهقيّ: مجهول، وثابت بن أبي صفيّة، ضعفوه أيضًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسال الأولى: في درجته: حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

فإن قلت: في سنده عبد الأعلى بن عامر، وقد عرفت كلام النقّاد فيه فيما تقدّم، فكيف يصحّ؟

قلت: الحديث له شواهد، وقد تقدّم بعضها، فيصحّ بمجموعها، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.

المسال الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -85/ 2009 - وفي "الكبرى" 85/ 2136. وأخرجه (د) 3208 (ت) 1045 (ق) 1554. واللَّه تعالى أعلم.

المسال الثالثة: في أقوال أهل العلم في حكم اللحد والشّقّ:

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وقد اختُلف في اللحد والشقّ -يعني في الأفضليّة- فاستحبّ أكثر أهل العلم اللحد، لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لُحد له، ورَوينا عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنه أوصاهم" "إذا وضعتموني في لحدي، فأفضوا بخدّي إلى الأرض".

ص: 357

وممن استحبّ اللحد إبراهيم النخعيّ، وإسحاق بن راهويه، وأصحاب الرأي، وكان الشافعيّ يقول: إذا كانوا بأرض شديدة لحُدِ لَهم، وإن كانوا ببلاد رقيقة شُقَّ لهم شقٌّ.

قال ابن المنذر: الذي قاله الشافعيّ حسنٌ انتهى

(1)

.

وقال النوويّ في "شرح المهذب": أجمع العلماء على أن الدفن في اللحد، والشقّ جائزان. لكن إن كانت الأرض صلبة لا ينهار ترابها، فاللحد أفضل، لما سبق من الأدلّة، وإن كانت رخوة تنهار، فالشقّ أفضل. قال الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "الأمّ"، وأصحابنا: فان اختار الشقّ حفَرَ حَفِيرة كالنهر، وبنى جانبيها باللبن، أو غيره، وجعل بينهما شقّ، يوضع فيه الميت، ويسقّف عليه باللبن، أو الخشب، أو غيرهما، ويرفع السقف قليلًا، بحيث لا يمسّ الميت، ويجعل في شقوقه قطع اللبن. قال الشافعيّ في "الأمّ": ورأيتهم عندنا، يعني مكة -شرفها اللَّه- يضعون على السقف الإذخر، ثم يضعون عليه التراب انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تَبيّن بما ذُكر من الأحاديث، وأقوال أهل العلم أن الأفضل هو اللحدُ، ويجوز الشقّ، ولا سيّما إذا كانت الأرض رخوة، كما بينه الإمام الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌86 - بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ إِعْمَاقِ الْقَبْرِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "ما" هذه موصولة، و"يستحب" صلتها، و"من إعماق القبر" بيان لـ"ما".

هكذا صرّح المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- باستحباب إعماق القبر، والظاهر أنه واجب، للأمر به، ولا سيّما وأمره صلى الله عليه وسلم كان في وقتٍ أصاب الصحابةَ رضي الله عنهم وقرحٌ شديدٌ، فلو كان مستحبّا لرخّص لهم في تركه، فإنهم ما سألوه عن ذلك إلا طلبًا

(1)

- "الأوسط" ج 5 ص 451.

(2)

- "المجموع" ج 5 ص 251 - 252.

ص: 358

للترخيص، لِمَا حَلّ بهم من الجهد، والمشقّة، اللَّهم إلا إذا أرد المصنّف رحمه الله الإعماق الزائد على قدر إخفاء جثّة الميت، ونتنه، لكن استدلاله على الاستحباب بحديث الباب يردّ ذلك.

وسيأتي بيان اختلاف أهل العلم في حكم الإعماق، ومقداره في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2010 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْحَفْرُ عَلَيْنَا لِكُلِّ إِنْسَانٍ شَدِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«احْفِرُوا، وَأَعْمِقُوا، وَأَحْسِنُوا، وَادْفِنُوا الاِثْنَيْنِ، وَالثَّلَاثَةَ، فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ» ، قَالُوا: فَمَنْ نُقَدِّمُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ، قَالَ:«قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا» ، قَالَ: فَكَانَ أَبِي ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ، فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن بشّار) بُندار، أبو بكر البصريّ الحافظ الثبت [10] 24/ 27.

2 -

(إسحاق بن يوسف) بن مِرْداس الأزرق الواسطيّ، ثقة [9] 22/ 489.

3 -

(سفيان) الثوريّ المذكور قريبًا.

4 -

(أيوب) السختياني الفقيه الثبت الحجة البصريُّ [5] 42/ 48.

5 -

(حُميد بن هلال) العدويّ، أبو نصر البصريّ، ثقة عالم [3] 4/ 4.

6 -

(هشام بن عامر) بن أُميّة بن الحَسْحَاس -بمهملات- ابن مالك بن عامر بن غَنْم ابن مالك بن النجّار

(1)

، الأنصاريّ النّجّاريّ، له، ولأبيه صحبة. يقال: كان اسمه شِهَابًا، فغيّره النبيّ صلى الله عليه وسلم، سكن البصرة، ومات بها، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه سعد، وحُميد بن هلال، وأبو الدَّهْمَاء، قِرْفَة بن بُهَيس العدويّ، وأبو قتادة العدويّ، ومُعاذة العدويّة، وأبو قلابة الْجَرْميّ،، وقيل: لم يسمع منه. وذكر أبو حاتم أن رواية حميد بن هلال عنه أيضًا مرسلة، وقد عاش هشام إلى زمن زياد. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، كرره ست مرّات. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال

(1)

- هكذا ذكر نسبه في "تت"، وذكر في "الإصابة" نسب والده هكذا: عامر بن أمية بن زيد بن الحسحاس بمهملات- ابن مالك بن عديّ بن عامر بن غنم بن عديّ بن النجار اهـ.

ص: 359

الصحيح، (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير إسحاق، فواسطي، وسفيان، فكوفي. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن صحابيه من المقلين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا حديثان، هذا الحديث عند أصحاب "السنن"، وحديث: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمرٌ أكبرُ من الدجال عند مسلم فقط

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ) أي وقت انتهاء غزوته عند إرادة دفن الشهداء (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْحَفْرُ عَلَيْنَا لِكُلِّ إِنْسَانٍ شَدِيدٌ) أي إنّ حفر القبر لكلّ إنسان على حِدَة شاقّ علينا، حيث أصابنا الجراح الكثير، والجهد الشديد، ففي الرواية الآتية [90/ 2015]:"لما كان يوم أحد أصاب الناس جَهْد شديد .. "، وفي [90/ 2016]: "اشتدّ الجراح يوم أحد

"، وفي رواية لأحمد: "قالوا: يا رسول اللَّه، أصابنا قَرْحٌ، وجَهْدٌ، فكيف تأمرنا؟ "، وفي رواية له: "كيف تأمرنا بقتلانا؟ ".

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اخفِرُوا) أي القبور، وهو بهمزة وصل، من حَفَرَ يحفِر، من باب ضرب (وَأَعْمِقُوا) بقطع الهمزة، من الإعماق، وهو إبعاد القعر، يقال: أعمقَ البئرَ: جعلها عَمِيقة، أي بعيدة القعر (وَأَحْسِنُوا) بقطع الهمزة أيضًا، من الإحسان، أي أحسنوا إلى الميت في الدفن. قاله في "الأزهار". وقال زين العرب، تبعًا للمظهر: أي اجعلوا القبر حسنًا بتسوية قعره؛ ارتفاعًا، وانخفاضًا، وتنقيته من التراب، والقذاة، وغيرهما انتهى

(2)

(وَادْفِنُوا) بكسر الفاء، أمر من دَفَنَ يَدْفِنُ، كضرب يضرب (الِاثْنَيْنِ، وَالثَّلَاَثةَ) بالنصب على المفعولية (فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ) فيه جواز الجمع بين جماعة في قبر واحد، ولكن إذا دعت الحاجة إلى ذلك، كما في هذه الواقعة، وإلا كان مكروهًا، كما ذهب إليه أبو حنيفة، والشافعيّ، وأحمد (قَالُوا: فَمَنْ نُقَدِّمُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) أي مَنِ الذي نجعله مقدّمًا إلى جدار اللحد؛ ليكون أقرب إلى الكعبة؟ (قَالَ:"قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا") أي دكونه مقدِّمًا رتبة عند اللَّه تعالى حيّا، فإنه أحقّ بالتقديم في الصلاة من غيره، كما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله: "يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه

"، فيكون مقدّما بعد مماته كذلك (قَالَ) هشام بن عامر رضي الله عنه (فَكَانَ أَبِي) وهو عامر بن أميّة بن الْحَسْحَاس، تقدّم نسبه في ترجمة ابنه هشام، ذكره موسى بن عقبة، وابن إسحاق فيمن شهد بدرًا،

(1)

- راجع "تحفة الأشراف" 9/ 71/ 72.

(2)

- انظر "المرعاة" ج 5 ص 437.

ص: 360

وفي "صحيح مسلم" عن سعد بن هشام، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: نعم المرء كان عامر، أصيب يوم أحد

(1)

.

(ثَالِثَ ثَلَاَثة) أي أحد ثلاثة من الشهداء، وهو منصوب على أنه خبر "كان"(فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ) يعني أن أباه كان أحد ثلاثة أشخاص، دفنوا في قبر واحد. زاد في الرواية الآتية [91/ 2018] من طريق ابن عيينة، عن أيوب:"وكان أكثرهم قرآنًا، فقدّم". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث هشام بن عامر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

فإن قلت: قد اختُلف فيه على حميد بن هلال، راويه عن هشام، فمنهم من قال: عن حميد، عن هشام، كما في رواية الباب، والرواية الآتية في [90/ 2015 و 91/ 2018]، ومنهم من أدخل بينه، وبينه ابنه سعد بن هشام، كما في الرواية الآتية في [87/ 2011 و 90/ 2016]، ومنهم من أدخل بينهما أبا الدَّهْمَاء، كما في الرواية الآتية في [90/ 2017]؟. وهذا اضطراب من حميد في الرواية، فكيف يصحّ؟.

قلت: ليس هذا اضطرابا يوجب ضعف الحديث، لإمكان الجمع بين هذه الروايات، فإن حميدًا، روى عن هشام، وعن ابنه سعد، وعن أبي الدَّهْماء، واسمه قِرْفَة بن بُهيس، فيحمل على أنه سمعه من سعد بن هشام، عن أبيه، وسمعه من أبي الدَّهماء، عن هشام، ثم سمعه عن هشام، بدون واسطة، وقد رواه معمر، عن أيوب، وقال: عن حميد بن هلال، قال: أخبرنا هشام بن عامر، فصرّح بسماع حميد إياه من هشام، كما في رواية أحمد في "المسند"

(2)

.

ثم إن للحديث شاهدًا صحيحًا من حديث رجل من الأنصار، أخرجه أبو داود، في "سننه"، فقال:

3332 -

حدثنا محمد بن العلاء، أخبرنا ابن إدريس، أخبرنا عاصم بن كليب، عن أبيه، عن رجل من الأنصار، قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، في جنازة، فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو على القبر، يوصي الحافر، "أوسع من قبل رجليه، أوسع من قبل رأسه"، فلما رجع استقبله، دَاعِي امرأة، فجاء، وجيء بالطعام، فوضع يده، ثم وضع القوم، فأكلوا، فنظر

(1)

- "الإصابة" ج 5 ص 374.

(2)

- انظر "المسند" رقم 15827.

ص: 361

آباؤنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يلوك لقمة في فمه، ثم قال:"أجد لحم شاة، أخذت بغير إذن أهلها، فأرسلت المرأة، قالت: يا رسول اللَّه، إني أرسلت إلى البقيع، يشتري لي شاة، فلم أجد، فأرسلت إلى جار لي، قد اشترى شاة، أن أرسل إليّ بها بثمنها، فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته، فأرسلت إليّ بها، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أطعميه الأسارى". وهذا سند صحيح.

والحاصل أن حديث هشام بن عامر هذا صحيح. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -86/ 2010 و 87/ 2011 و90/ 2015 و 2016 و 2017 و91/ 2018 - وفي "الكبرى" 86/ 2137 و 87/ 2138 و 90/ 2142 و 2143 و 2144 و 91/ 2145. وأخرجه (د) 3215 (ت) 1713 (ق) 1560 (أحمد) 15818 و 15821 و 15822 و 15825 و 15827 و 15828. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو استحباب إعماق القبر، وقد تقدّم ما فيه. ومنها: وجوب حفر القبر لدفن الموتى. ومنها: التحسين في حفره. ومنها: توسيعه. ومنها: جواز دفن الاثنين، والثلاثة في قبر واحد؛ للضرورة. ومنها: تقديم من كان أكثر قرآنا إلى القبلة، تعظيمًا لشرف القرآن. ومنها: ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من مراجعة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في كلّ أمورهم، فلا يُقْدمُونَ على شيء، إلا بعد توجيهه لهم، ولو كان ذلك الأمر مما يشقّ عليهم، ويضرّ بهم، ثم لا يكون في صدورهم شيء من الاعتراض على ذلك، فكانوا مُلزمين أنفسَهُم العملَ بمقتضى قوله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية [الأحزاب: 36]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في بيان أقوال أهل العلم في حفر القبور، وإعماقها:

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: لم يَختلف من أحفظ عنه من أهل العلم أن دفن الموتى واجب، لازم على الناس، لا يسعهم ترك ذلك عند الإمكان، ووجود السبيل إليه، ومن قام به سقط فرض ذلك عن سائر المسلمين.

قال: واختلفوا في مقدار ما يعمق القبر، روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أوصى أن يعمّق قبره قامة، وبسطة. وعن عمر بن عبدالعزيز، والنخعيّ، أنهما قالا: يحفر للميت إلى السرّة، وكان مالك يقول: لم يبلغني في عمق قدر الميت شيء موقوف عليه، وأحبّ إليّ أن لا تكون عمقية جدّا، ولا قريبة من أعلى الأرض جدًّا. وروينا عن أبي موسى الأشعريّ أنه أوصى أن يعمّق قبره. وقال الشافعيّ: أحبّ أن يعمقّ للميت

ص: 362

قدر بسطة، ولا يقرب على أحد إن أراد أن ينبشه، ولا يظهر له ريح. انتهى كلام ابن المنذر باختصار

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي أنه لا حدّ لإعماق القبر، كما قال الإمام مالك -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم به، من غير بيان لمقداره، وأما أثر عمر رضي الله عنه الذي أشار إليه ابن المنذر فيما تقدّم، فضعيف؛ لأنه من رواية الحسن، عن عمر رضي الله عنه، ولم يلقه، فما قاله مالك -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- هو الأولى.

والحاصل أنه إذا حصل ستر جثة الميت، عن أعين الناس، ودفع رائحته عنهم، وحفظه من السباع، ومن النَّبّاش، فقد حصل المقصود. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب"

‌87 - بَابُ مَا يُستَحَبُّ مِنْ تَوْسِيعِ الْقَبْرِ

2011 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ هِلَالٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، أُصِيبَ من أُصِيبَ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَصَابَ النَّاسَ جِرَاحَاتٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«احْفِرُوا، وَأَوْسِعُوا، وَادْفِنُوا الاِثْنَيْنِ، وَالثَّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ، وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثان لحديث هشام بن عامر رضي الله عنهما، أدخل فيه حميد بينه وبين هشام ولده سعدًا، وهو حديث صحيح، قد تقدّم البحث فيه في الباب السابق، وممن لم يتقدّم من رجاله هناك:

1 -

(محمد بن مَعْمَر) القيسيّ البصريّ، أحد مشايخ الأئمة الستة بدون واسطة، كما تقدّم غير مرّة، صدوق من كبار [11] 2/ 1370.

2 -

(وهب بن جرير) بن حازم، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة [9] 196/ 1178.

3 -

(جرير بن حازم) بن زيد أبو النضر البصريّ، ثقة، في حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدّث من حفظه [6] 172/ 1141.

(1)

- "الأوسط" ج 5 ص 450 - 454.

ص: 363

4 -

(سعد بن هشام) بن عامر الأنصاريّ المدنيّ، ثقة [3] 67/ 1315. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌88 - وَضْعُ الثَّوْبِ فِي اللَّحْدِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر صنيع المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أنه يرى جواز وضع الثوب تحت الميت في اللحد، حيث ترجم عليه، ثم أورد حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - في وضع قطيفة حمراء تحت النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الراجح، كما سيأتي بيانه، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2012 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، عَنْ يَزِيدَ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جُعِلَ تَحْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ دُفِنَ قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ.

رجال هذا الإسناد: خمسة، تقدّموا قريبا، إلا:

1 -

(أبا جمرة) -بالجيم، والراء- نصر بن عمران بن عصام، وقيل: ابن عاصم بن واسع، الضُّبعيّ بضم المعجمة، وفتح الموحّدة، بعدها مهملة- البصريّ، نزيل خُرَاسان، مشهور بكنيته، ثقة ثبت [3].

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ثقة. وكذا قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين. وقال الآجريّ، عن أبي داود: روى أبو عوانة، عن أبي حمزة القصّاب ستين حديثا، وروى عن أبي جمرة الضبعي أُراه حديثًا واحدًا. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال مسلم بن الحجّاج: كان مقيمًا بنيسابور، ثم خرج إلى مرو، ثم إلى سرخس، فمات بها. وقال الحاكم: كان ورد خُراسان مع سعيد بن عثمان، ثم وردها مع يزيد بن الْمُهَلّب، وله ذكر في الفتوح، ثم أقام بسرخس، وتوفّي بها. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا. وقال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنه ثقة. وقال عمرو بن عليّ: مات قبل أبي التيّاح بقليل، ومات أبو التيّاح سنة (128) وفيها أرّخه الترمذيّ، وقال إنهما ماتا في يوم واحد. وقال خليفة ابن خيّاط، والبخاريّ: مات في ولاية يوسف بن عمر على العراق، وكان عَزلُ يوسف سنة (124). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط.

ص: 364

[تنبيه]: قال الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "صحيحه" عقب إخراجه لهذا الحديث: ما نصّه: قال مسلم: أبو جمرة، اسمه نصر بن عمران، وأبو التياح، اسمه يزيد بن حُميد، ماتا بسرخس انتهى.

قال النووي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وهو أبو جمرة بالجيم، و"الضبعيّ" بضم الضاد المعجمة، وفتح الباء الموحّدة، وأما سَرَخْس، فمدينة معروفة بخُرَاسان، وهي بفتح السين، والراء، وإسكان الخاء المعجمة، ويقال أيضًا: بإسكان الراء، وفتح الخاء، والأول أشهر.

وإنما ذكر مسلم أبا جمرة، وأبا التيّاح جميعا، مع أن أبا جمرة مذكور في الإسناد، ولا ذكر لأبي التياح هنا، لاشتراكهما في أشياء، قلّ أن يشترك فيها اثنان من العلماء، لأنهما جميعا ضُبَعيّان، بصريّان، تابعيّان، ثقتان، ماتا بسرخس في سنة واحدة، سنة (128). وذكر ابن عبد البرّ، وابن منده، وأبو نُعيم الأصبهانيّ عمران والد أبي جمرة في كتبهم في معرفة الصحابة، قالوا: واختلف العلماء، هل هو صحابيّ، أم تابعيّ؟ وكان قاضيا على البصرة، رَوَى عنه ابنه أبو جمرة وغيره. قال الحاكم أبو أحمد في كتابه في الكنى: ليس في الرواة من يكنى أبا جمرة بالجيم غير أبي جمرة هذا انتهى

(1)

.

[تنبيه آخر]: قال المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "الكبرى" بعد إخراجه حديث الباب: ما نصّه: قال أبو عبد الرحمن: وأبو حمزة عمران بن أبي عطاء ليس بالقويّ، وأبو جمرة

(2)

، نصر بن عمران، بصريّ، ثقة، وكلاهما يرويان عن ابن عباس انتهى

(3)

.

ونحو ما قاله المصنّف قول الترمذيّ في "جامعه": وقد روى شعبة عن أبي حمزة القصّاب، واسمه عمران بن أبي عطاء، وروى عن أبي جمرة الضبعي، واسمه نصر بن عمران، وكلاهما من أصحاب ابن عباس انتهى

(4)

.

وقد ذكر بعضهم أن شعبة يروي عن سبعة، كلهم يكنى أبا حمزة، إلا واحدًا، وهو أبو جمرة، نصر بن عمران هذا، وكلهم يروون عن ابن عباس رضي الله عنهما، وإلى ذلك أشار الحافظ السيوطيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "ألفية الحديث"، حيث قال:

وَعَنْ أَبِي حَمْزَةَ يَرْوِي شُعْبَةُ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ بِزَايِ عِدَّةُ

إِلَّا أَبَا جَمْرَةَ فَهْوَ بِالرَّا

وَهْوَ الَّذِي يُطْلَقُ يُدْعَى نَصْرَا

(1)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 38 - 39.

(2)

- وقع في نسخة "الكبرى" أبو حمزة بالحاء المهملة في الموضعين، وهو غلط، والصواب أن الأول بالحاء المهملة، والثاني بالجيم بدل الحاء، فتنبّه.

(3)

- "السنن الكبرى" ج 1 ص 649 رقم الحديث 2139.

(4)

- "جامع الترمذي" ج 4 ص 149 رقم الحديث 1053 بنسخة شرح المباركفوري.

ص: 365

واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: جُعِلَ تَحْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ دُفِنَ قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ) "القطيفة": كساء له خَمْلٌ، جمعه قَطائف، وقُطُف بضمتين. و"الخَمْل" وزان فَلْس: الْهُدْب.

قال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: هذه القطيفة ألقاها شُقران، مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال: كرهت أن يلبسها أحد بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: سيأتي تضعيف هذه القصّة، إن شاء اللَّه تعالى.

وقال السيوطيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: زاد ابن سعد في "طبقاته"، قال وكيع: هذا للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة، وله عن الحسن أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بُسط تحته شمل قطيفة حمراء، كان يلبسها، قال: وكانت أرض نديّة، وله طريق آخر عن الحسن، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "افرشوا لي قطيفتي في لحدي، فإن الأرض لم تُسلّط على أجساد الأنبياء انتهى.

(1)

قال الجامع عفا اللَّه تعالى: هذان الأثران ضعيفان، لأنهما من مراسيل الحسن البصريّ، وهي ضعاف عند الجمهور. وكذا قول وكيع: إنها خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم مما لا دليل عليه، وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -88/ 2012 - وفي " الكبرى" 88/ 2139. وأخرجه (م) 867 (د) 3971

(1)

- "زهر الربى" ج 3 ص 81 - 85.

ص: 366

(ت) 1048 و 3009 (أحمد) 2022 و 3331 و 1682. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في حكم وضع الثوب في اللحد:

قال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وقد نصّ الشافعيّ، وجميع أصحابنا، وغيرهم، من العلماء على كراهة وضع قَطِيفة، أو مُضَرَّبَة، أو مِخَدّة، ونحو ذلك تحت الميت في القبر، وشذّ عنهم البغويّ من أصحابنا، فقال: في كتابه "التهذيب": لا بأس بذلك؛ لهذا الحديث، والصواب كراهته، كما قال الجمهور.

وأجابوا عن هذا الحديث بأن شُقران انفرد بفعل ذلك، لم يوافقه غيره من الصحابة، ولا علموا ذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرناه من كراهته أن يلبسها أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسها، ويفترشها، فلم تطب نفس شقران أن يبتذلها أحد بعد النبي لمجر، وخالفه غيره، فروى البيهقيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كره أن يُجعل تحت الميت ثوب في قبره. واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كلام النووي هذا فيه نظر من وجوه:

الأول: أن قوله: لم يوافقه غيره من الصحابة، ولا علموا ذلك، غير صحيح، فمَن الذي خالفه من الصحابة؟، وهذا ابن عباس رضي الله عنهما علم بذلك، وحدّث به، ولم يثبت عنه الإنكار، وأما ما رُوي عنه من الكراهة، فسيأتي الجواب عنه قريبًا.

الثاني: قوله: وإنما فعله شُقران كراهة أن يلبسها أحد بعده صلى الله عليه وسلم الخ، غير صحيح أيضًا، فقد أخرجه البيهقي ج 3 ص 408 بسنده عن حسين بن عبد اللَّه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:"وقد كان شقران حين وضع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حفرته، أخذ قطيفة قد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يلبسها، ويفرشها، فدفنها معه في القبر، وقال: واللَّه لا يلبسها أحد بعدك، فدفنت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ".

فهذا سند غير صحيح، لأن حسين بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عباس بن عبد المطدب الهاشميّ الراوي عن عكرمة اتفقوا على ضعفه. ولذا قال البيهقيّ: ففي هذه الرواية إن كانت ثابتة الخ.

والصحيح عن شقران ما أخرجه الترمذيّ بسند صحيح، عن عبيد اللَّه بن أبي رافع، قال: سمعت شُقران، مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: أنا واللَّه طرحت القطيفة تحت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في القبر".

فلم يذكر ما ذكره النوويّ، بل أثبت وضعه لها تحته صلى الله عليه وسلم.

(1)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 38.

ص: 367

وروى ابن أبي شيبة من طريق حفص، عن جعفر، عن أبيه، قال:"ألحد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وألقى شقران في قبره قطيفة، كان يركب بها في حياته". وهذا مرسل صحيح. وأيضًا لماذا يخصّ شقران القطيفة، ويكره أن يلبسها أحد بعده صلى الله عليه وسلم، ويترك سائر ما كان يستعمله النبي صلى الله عليه وسلم، من قميص، وعمامة، وفراش، فلماذا لم يدفن جميع ذلك معه، هذا شيء عجيب.

ومنها: ما ذكره عن ابن عباس أنه كره ذلك، وهذا غير صحيح أيضًا، لأنه ليس له إسناد، فقد ذكره الترمذيّ -1/ 195 - تعليقًا بلا إسناد، وكذا البيهقي الذي نقل النووي عنه هذا الكلام ذكره في "سننه" 3/ 408 بلفظ: "وقد روي عن يزيد بن الأصمّ، عن ابن عباس أنه كره أن يجعل تحت الميت ثوبا في القبر انتهى.

فهذا غاية ما خالف فيه ابن عباس شُقران على زعم النوويّ، فكيف يُعارَض بمثل هذا ما صحّ في صحيح مسلم وغيره عنه أنه أثبت ذلك؟.

ومن الغريب جعل قول البغويّ من الشافعية شاذّا مع أن الدليل الصحيح، معه، إن هذا لشيء غريب!.

وبالجملة فدعوى عدم علم الصحابة بذلك عجيب!، فكيف لا يعلمون ذلك، وقد تولى جماعة دفنه صلى الله عليه وسلم، ولم ينفرد شقران بدفنه، حتى يخفى على الآخرين وضع القطيفة تحته صلى الله عليه وسلم؟.

ومن الغريب أيضًا ما رجحه العراقيّ في ألفية السيرة، من أن تلك القطيفة أخرجت بعد ما فُرشت، حيث قال فيها:

وَفُرِشَتْ فِي قَبْرِهِ قَطِيفَةُ

وَقِيلَ أُخْرِجَتْ وَهَذَا أَثْبَتُ

وهذا قاله تبعًا لابن عبد البرّ، فإنه رجح ذلك، وهذا لا يثبت، فإنه رواه الواقديّ، عن عليّ بن حسين -كما ذكره الحافظ في "التلخيص الحبير" ج 2 ص 263 - وهذا مرسل، والكلام في الواقديّ شهير، فكيف يُرَجَّح ما هذا حاله على ما ثبت في "صحيح مسلم"، وغيره؟.

والحاصل أن الصواب جواز وضع الثوب تحت الميت، كما هو ظاهر مذهب المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، كما أشرت إليه في أول الباب. وقد ذهب إلى هذا القول الإمام أبو محمد ابن حزم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، ودونك عبارته:"مسألة:- ولا بأس بأن يُبسط في القبر تحت الميت ثوب". لما روينا من طريق مسلم، نا محمد بن المثنى، نا يحعرو بن سعيد القطان، نا شعبة، نا أبو جمرة، عن ابن عبّاس، قال:"بُسط في قبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء". ورواه أيضًا كذلك وكيع، ومحمد بن جعفر، ويزيد بن

ص: 368

زُريع، كلهم عن شعبة بإسناده.

وهذا من جملة ما يُكساه الميت في كفنه، وقد ترك اللَّه تعالى هذا العمل في دفن رسوله صلى الله عليه وسلم المعصوم من الناس، ولم يمنع منه، وفعله خيرة أهل الأرض في ذلك الوقت، بإجماع منهم، لم يُنكره أحد منهم، ولم يرد ذلك المالكيون، وهم يدّعون في أقلّ من هذا عمل أهل المدينة! وقد تركوا عملهم هنا، وفي الصلاة على الميت في المسجد، وفي حديث صخر أنه عملهم، وحسبنا اللَّه، ونعم الوكيل انتهى

(1)

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌89 - السَّاعَاتُ الَّتِي نُهِيَ عَنْ إِقْبَارِ الْمَوْتَى فِيهِنَّ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الترجمة، ظاهرة في كون المصنّف يحمل قول عقبة بن عامر رضي الله عنه:"أو نقبر فيهنّ موتانا" على الدفن، لا على الصلاة، كما فسر به بعضهم، فَيُمنَع عن دفن الموتى في هذه الأوقات، وهذا الذي ذهب إليه المصنّف، هو الذي ذهب إليه ابن حزم، فقال بعدم جواز الدفن في هذه الأوقات، عملاً بظاهر النهي

(2)

.

وذهبت الحنابلة إلى الكراهة، وقالت الحنفيّة، والشافعية: لا يكره الدفن في هذه الأوقات إلا أن يتحرّى ذلك، فيكره. ومحلّ الخلاف ما لم يُخشَ تغيّر الميت، وإلا فلا خلاف في الجواز

(3)

قلت: القول الأول هو الراجح عندي؛ لقوة دليله، فيمنع الدفن في الأوقات الثلاثة، إلا عند الضرورة، فأما إذا كان هناك ضرر، بأن خيف تغير الميت، ونحو ذلك، فلا حرج في دفنه في هذه الأوقات، لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا

(1)

- "المحلّى" ج 5 ص 164.

(2)

- انظر "المحلى" ج 5 ص 114 - 115.

(3)

- انظر "المنهل" ج 9 ص 26.

ص: 369

اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث التالي:"إلا أن يُضطَرَّ إلى ذلك".

هذا ما يتعلّق بدفن الميت، وأما ما يتعلّق بالصلاة عليه، فقد تقدّم البحث فيه مُستَوفًى في "كتاب الصلاة"[31/ 560]، فراجعه تستفد، وباللَّه سبحانه وتعالى التوفيق.

2013 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَلَيِّ بْنِ رَبَاحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ، بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ، قَالَ:"ثَلَاثُ سَاعَاتٍ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا، حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً، حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ".

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(موسى بن عُليّ بن رَبَاح) اللَّخْميّ، أبو عبد الرحمن المصريّ، صدوق ربما أخطأ [7] 31/ 560.

2 -

(أبوه) عُلي بن رَبَاح بن قَصير، ضدّ الطويل اللخميّ المصريّ، ثقة، من صغار [3]. والمشهور فيه "عُليّ" بالتصغير، وكان يغضب منها، وقيل: عَليّ بالفتح، كالجادّة 41/ 560.

3 -

(عقبة بن عامر الْجُهَنيّ) صحابي فقيه فاضل، كان أمير مصر رضي الله عنه 108/ 144. وعمرو بن عليّ الفلاّس، وعبد الرحمن بن مهديّ تقدما قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين من موسى، وشيخُهُ، وعبدُ الرحمن بصريان. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة دون واسطة. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن عقبة بن عامر الجهنيّ رضي الله عنه أنه (قال: "ثَلَاثُ سَاعَاتٍ) مبتدأ خبره الجملة بعده، أي ثلاث أوقات (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ) هذا بإطلاقه يشمل صلاة الجنازة، لأنها صلاة، لكن تقدّم في "كتاب الصلاة" - 31/ 560 - أن المراد تأخيرها بعد أن حضرت إلى هذه الأوقات، وتحرّي أدائها فيها، لا أن الصلاة عليها إن حضرت في

ص: 370

تلك الأوقات يُمنع للأدلّة المتقدمة هناك، من أن ذوات الأسباب لا يُنهى عنها في تلك الأوقات، واللَّه تعالى أعلم.

(أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا) أي نجعل له قبرا، يقال: قَبَره، يَقْبُره، ويَقْبِره، من بابي قتل، وضرب، قبرًا، ومَقْبَرًا: دفنه، وأقبره: جعل له قبرًا. أفاده في "ق". والمراد به هنا دفنه.

قال السنديّ رحمه الله: ما حاصله: حَمَل كثير من العلماء هذا الحديث على صلاة الجنازة، ولعله من باب الكناية، لملازمة بينهما، ولا يخفى أنه بعيد، لا ينساق إليه الذهن من لفظ الحديث، قال بعضهم: يقال: قبره إذا دفنه، ولا يقال: قبره، إذا صلّى عليه، والأقرب أن الحديث يميل إلى قول أحمد وغيره أن الدفن مكروه فى هذه الأوقات انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بل الحديث ظاهر في المنع عن الدفن فيها، فلا يجوز إلا للضرورة، كما تقدّم البحث عنه أول الباب، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ) من باب قعد (بَازِغَةً) أي طالعة ظاهرة، لا يخفى طلوعها لمن يراها، وهي حال مؤكدة لعاملها (حَتَّى تَرْتَفِعَ) وفي نسخة:"حتى ترفع". أي إلى أن ترتفع كرمح في رأي العين، كما بُيِّن في حديث عمرو بن عَبَسَة المتقدّم في "كتاب الصلاة"، حيث قال: "فدع الصلاة حتى ترتفع قِيدَ رُمح، ويذهب شُعاعها

"، والقِيد بالكسر: القَدْر (وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ) أي يقف، ويستقرّ الظلّ الذي يقف عادة عند الظهيرة، حسبما يبدو، فإن الظلّ عند الظهيرة لا يظهر له سرعة حركة حتى يظهر بمرأى العين أنه واقف، وهو سائر حقيقة، والمراد عند الاستواء. وقد تقدم في الباب المذكور تمام البحث في ذلك (حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ) أي تميل من وسط السماء إلى جهة الغرب (وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ) بتشديد الياء، بعد الضاد المعجمة المفتوحة، مضارع ضَيّف، فهو بحذف إحدى التاءين، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4] وقوله: {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14] وقيل: هو بسكون الياء بعد الضاد، يقال: ضاف: إذا مال، كضيّف، وتضيّف. والمعنى حين تميل الشمس ("لِلْغُرُوب") زاد في الرواية السابقة في "الصلاة": "حتى تغرب"، أي حتى يتكامل غروبها.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم للمصنف في

(1)

- "شرح السندي" ج 3 ص 82.

ص: 371

[31/ 560] وتقدم بسط شرحه، والكلام على مسائله هناك، فراجعه، تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2014 -

أَخْبَرَنِي

(1)

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، الْقَطَّانُ، الرَّقِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ مَاتَ، فَقُبِرَ لَيْلاً، وَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ، فَزَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يُقْبَرَ إِنْسَانٌ لَيْلاً، إِلاَّ أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى ذَلِكَ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم للمصنّف برقم [37/ 1895] سندًا ومتنًا، وتقدّم شرحه، والكلام على مسائله هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

[تنبيه]: ولنذكر هنا ما لم يتقدم بيانه هناك، وهو ما يتعلّق بهذا الماب، من بيان حكم الدفن بالليل:

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: اختلف أهل العلم في الدفن بالليل، فممن دُفِن بالليل أبو بكر، وفاطمة، وعائشة، وروينا أن عثمان دُفن ليلًا، وممن رَخّص في الدفن بالليل عقبة بن عامر، وسعيد بن المسيب، وشُريح، وعطاء بن أبي رباح، وسفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق. وكان الحسن البصريّ يكره الدفن بالليل.

قال ابن المنذر: الدفن بالليل مباح، لأن مسكينة توفيت على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدفنت بالليل، ولم ينكر ذلك عليهم لما علم به، لأنهم أعلموه بذلك، فأتى قبرها، فصلى عليه، وقد دفن من ذكرنا من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلًا، ولو كان ذلك مكروهًا ما فعلوه، والذين تولوا

(2)

ذلك أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو من تولاه منهم انتهى كلامه

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن الدفن بالليل ممنوع إلا عند الضرورة؛ لظاهر حديث الباب، والذين دفنوا ليلًا من الصحابة المذكورين رضي الله عنهم إنما فُعل بهم ذلك للحاجة، فلا يتعارض مع حديث الباب.

قال أبو محمد ابن حزم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ولا يجوز أن يدفن أحد ليلا إلا عن ضرورة، قال: كل من دفن ليلا منه عليه السلام، ومن أزواجه، ومن أصحابه رضي الله عنهم فإنما ذلك لضرورة أوجبت ذلك، من خوف زحام، أو خوف الحرّ على من حضر، وحرّ المدينة شديد، أو خوف تغيّر، أو غير ذلك، مما يبيح الدفن ليلًا، لا يحلّ لأحد أن

(1)

- وفي "الهندية": "أخبرنا".

(2)

- وفي نسخة "الأسط""والمبين ذلك أصحاب الخ" والظاهر أن صوابه والذين تولوا ذلك الخ.

(3)

- "الأوسط" ج 5 ص 460 - 461.

ص: 372

يظنّ بهم رضي الله عنهم خلاف ذلك.

قال: روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان، ثنا هشام الدستوائيّ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، أنه كره الدفن ليلاً انتهى كلام ابن حزم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن حزم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌90 - دَفْنُ الْجَمَاعَةِ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ

2015 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، أَصَابَ النَّاسَ جَهْدٌ شَدِيدٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«احْفِرُوا، وَأَوْسِعُوا، وَادْفِنُوا الاِثْنَيْنِ، وَالثَّلَاثَةَ فِي قَبْرٍ» ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ نُقَدِّمُ؟ ، قَالَ:«قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثالث لحديث هشام بن عامر رضي الله عنه الذي تقدّم قبل ثلاثة أبواب، استدلّ به المصنّف هناك على استحباب إعماق القبر، وهو حديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه سبحانه وتعالى التوفيق.

و"محمد بن عبد اللَّه بن المبارك": هو أبو جعفر البغداديّ الْمُخَرِّمي الحافظ [11] 43/ 50. و"وكيع" هو ابن الجرّاح الإمام الحافظ الثبت [9] 23/ 25. و"سليمان بن المغيرة": هو القيسيّ مولاهم البصريّ الثقة [7] 53/ 616.

وقوله: "جهد شديد": بفتح الجيم، وحكي ضمها، أي مشقّة شديدة.

[تنبيه]: استدل المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بحديث الباب على جواز دفن الجماعة في القبر الواحد، والمسألة فيها خلاف.

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: اختلفوا في دفن الاثنين في قبر، فروينا عن الحسن أنه كره أن يدفن اثنان في قبر، ورخّص في ذلك غير واحد من أهل العلم، روينا

(1)

- "المحلى" ج 5 ص 114 - 115.

ص: 373

عن عطاء، ومجاهد في الرجل والمرأة يُدفنان في القبر؟ قالا: يُقدّم الرجل أمام المرأة في القبر، وبه قال مالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، والنعمان، غير أن الشافعيّ، وأحمد قالا: يُدفنان في مواضع الضرورات، وكان الأوزاعيّ يُرخّص في دفن الرجل والمرأة في القبر.

قال ابن المنذر: وكذلك نقول، ويقدّم أفضلهم، وأسنّهم، وأكثرهم قرآنا، كذلك السنة انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي ما قاله الشافعيّ، وأحمد --رحمهما اللَّه تعالى--، وهو أن جواز دفن الجماعة مقيد بحال الضرورة؛ لظاهر أحاديث الباب، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما أذن لهم في الجمع بين الموتى في قبر واحد إلا عند اشتكائهم بالجهد والمشقّة في حفر القبر لكل واحد من الموتى، وإلا فسنته صلى الله عليه وسلم الغالبة دفن كلّ ميت في قبر على حدته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2016 -

أَخْبَرَنِي

(2)

إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: اشْتَدَّ الْجِرَاحُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَشُكِيَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«احْفِرُوا، وَأَوْسِعُوا، وَأَحْسِنُوا، وَادْفِنُوا فِي الْقَبْرِ الاِثْنَيْنِ، وَالثَّلَاثَةَ، وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق رابع أيضًا لحديث هشام بن عامر رضي الله عنه، أدخل فيه حميدٌ بينه وبين هشام ولده سعدًا، وتقدم الكلام عليه في [86/ 2010].

و"إبراهيم بن يعقوب": هو الْجُوزجانيّ الحافظ الثبت [11] 122/ 174. و"سليمان بن حرب": هو الأزديّ الواشحيّ البصريّ نزيل مكة، وقاضيها، ثقة حافظ إمام [9] 181/ 288. و"حماد بن زيد": هو الجهضميّ البصريّ الثقة الثبت [8] 3/ 3.

والحديث صحيح وقد سبق تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- "الأوسط" ج 5 ص 463.

(2)

- وفي "الهندية": "أخبرنا".

ص: 374

‌91 - مَنْ يُقَدَّمُ؟

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "من" استفهامية، والفعل مبنيّ للمفعول، ووقع في "الهندية":"من يقدموا"، والظاهر أنه غلط. وغرضه بهذا الباب بيان من يُقدّم إلى جهة القبلة عند الوضع في اللحد فيما إذا جمُع الموتى في قبر واحد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2018 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قُتِلَ أَبِي يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«احْفِرُوا، وَأَوْسِعُوا، وَأَحْسِنُوا، وَادْفِنُوا الاِثْنَيْنِ، وَالثَّلَاثَةَ، فِي الْقَبْرِ، وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا» ، فَكَانَ أَبِي ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا فَقُدِّمَ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق خامس لحديث هشام بن عامر رضي الله عنه، استنبط منه المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بيان من يُقدّم في اللحد، وهو من كان أكثر قرآنا. و"محمد بن منصور": هو الْجَوّاز المكيّ. و"سفيان": هو ابن عيينة.

والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌92 - إِخْرَاجُ الْمَيتِ مِنَ اللَّحْدِ بَعْدَ أَنْ يُوضَعَ فِيهِ

2019 -

قَالَ: الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: سَمِعَ عَمْرٌو جَابِرًا، يَقُولُ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، بَعْدَ مَا أُدْخِلَ فِي قَبْرِهِ

(1)

، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ، مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفق عليه، وقد تقدّم في [40/ 1901] استدلّ به المصنّف هناك على مشروعية القميص في الكفن، ورواه عن عبد الجبار بن

(1)

- وفي نسخة: "في حفرته".

ص: 375

العلاء، عن سفيان به، وتقدم الكلام عليه هناك مستوفًى، واستدلّ به هنا على جواز إخراج الميت بعد إدخاله القبر للحاجة، واستدلاله به واضح، "وسفيان": هو ابن عيينة.

والسند من رباعيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- عنه، وهو (118) من رباعيات الكتاب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2020 -

أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا، يَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَمَرَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ قَبْرِهِ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَتَفَلَ فِيهِ، مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، قَالَ: جَابِرٌ: وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر أيضًا لحديث جابر المذكور، وهو متفق عليه، كما سبق بيانه في الذي قبله.

و"الحسين بن حُريث": هو أبو عمّار المروزيّ ثقة [10] 44/ 52. و"الفضل بن موسى": هو أبو عبد اللَّه السِّينَانيّ المروزيّ، ثقة ثبت ربما أغرب، من كبار [9] 83/ 100. و"الحسين بن واقد": هو أبو عبد اللَّه القاضي المروزيّ، ثقة له أوهام [7] 5/ 463. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، واليه أنيب".

‌93 - بَابُ إِخْرَاجُ الْمَيّتِ مِنَ الْقَبْرِ بَعْدَ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الفرق بين هذه الترجمة، والتي قبلها، أن الإخراج في الأولى قبل الدفن، وفي هذه بعده. وأشار بالترجمتين إلى الردّ على من منع إخراج الميت من قبره مطلقًا، أو لسبب دون سبب، كمن خصّ الجواز بما لو دُفن بغير غسل، أو بغير صلاة، ففي حديث جابر الماضي دلالة على الجواز فيما إذا كان في نبشه مصلحة تتعلّق

(1)

- وفي "الهندية":، وصلى عليه، قال جابر: واللَّه أعلم".

ص: 376

بالميت، وفي حديثه هذا دلالة على الجواز فيما إذا تعلّق به مصلحة للحيّ، لأنه لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه. أفاده في "الفتح"

(1)

.

2021 -

أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: دُفِنَ مَعَ أَبِي رَجُلٌ، فِي الْقَبْرِ، فَلَمْ يَطِبْ قَلْبِي، حَتَّى أَخْرَجْتُهُ، وَدَفَنْتُهُ عَلَى حِدَةٍ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(العباس بن عبد العظيم) العنبريّ، أبو الفضل البصريّ، ثقة حافظ، من كبار [11] 96/ 119.

2 -

(سعيد بن عامر) الضُّبَعيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة صالح، ربما وهم [9] 11/ 518.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 24/ 26.

4 -

(ابن أبي نجيح) عبد اللَّه، واسم أبيه يسار، الثقفيّ مولاهم، أبو يسار المكيّ، ثقة رمي بالقدر، وربما دلّس [6] 112/ 155.

5 -

(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشيّ، أبو محمد الفقيه المكيّ، ثقة فقيه فاضل، كثير الإرسال [3] 112/ 154.

6 -

(جابر) بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وبعده بالمكيين، وجابر رضي الله عنه، وإن كان مدنيان إلا أنه سكن مكة. (ومنها): أن فيه جابرًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرِ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: دُفِنَ مَعَ أَبِي) عبد اللَّه بن عمرو بن حَرَام بن ثعلبة بن حرام الأنصاريّ الخزرجيّ السُّلمي الصحابيّ المشهور، معدود في أهل العقبة، وبدر، وكان من النقباء، واستشهد بأحد رضي الله عنه.

وقال البخاريّ في "صحيحه": حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة،

(1)

- "فتح" ج 3 ص 578.

ص: 377

قال: سمعت محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، قال: لما قتل أبي، جعلت أكشف الثوب عن وجهه، أبكي، وينهوني عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم، لا ينهاني، فجعلتْ عمتي فاطمة تبكي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"تبكين، أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها، حتى رفعتموه". وتقدم للمصنّف برقم 12/ 1843 و 14/ 1845.

وقال الترمذيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "جامعه": حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي، حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير الأنصاري، قال: سمعت طلحة بن خِرَاش، قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه، يقول: لقيني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال لي:"يا جابر، ما لي أراك منكسرا؟ "، قدت: يا رسول اللَّه، استُشهِد أبي، قتل يوم أحد، وترك عيالا ودينا، قال: أفلا أبشرك، بما لقي اللَّه به أباك، قال: قلت: بلى يا رسول اللَّه، قال: "ما كلم اللَّه أحدا قط، إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك، فكلمه كفاحا

(1)

، فقال: يا عبدي، تَمَنَّ عليّ، أعطك، قال: يا رب، تحييني، فأقتل فيك ثانية، قال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني، أنهم إليها لا يرجعون، قال: وأنزلت هذه الآية: {ولَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الآية [آل عمران: 169].

قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقد روى عبد اللَّه بن محمد ابن عقيل، عن جابر شيئا من هذا، ولا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم، ورواه علي بن عبد اللَّه بن المديني، وغير واحد من كبار أهل الحديث، هكذا عن موسى بن إبراهيم.

(رَجُلٌ) هو عمرو بن الْجَمُوح بن زيد بن حَرَام الأنصاريّ، وكان صديق والد جابر، وزوج أخته هند بنت عمرو، وقال ابن إسحاق في "المغازي": حدثني أبي، عن رجال من بني سَلِمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين أصيب عبد اللَّه بن عمرو، وعمرو بن الجموح:"اجمعوا بينهما، فإنهما كانا متصادقين في الدنيا".

(فِي الْقَبْرِ) متعلق بـ "دُفن"، أي في القبر الواحد (فَلَم يَطِبْ قَلْبِي) وفي نسخة:"فلم تطب نفسي"(حَتَّى أَخْرَجْتُهُ) وفي رواية للبخاريّ من طريق حسين المعلّم، عن عطاء:"ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته هُنّيّة، غير أذنه". وفي رواية أبي السكن، والنسفيّ:"غير هُنيّة في أذنه"، وصوبها القاضي عياض. ومعناه: غير شيء يسير عند أذنه.

قال في "الفتح": قوله: "فاستخرجته بعد ستة أشهر" أي من يوم دفنه، وهذا يخالف

(1)

- أي مواجهةً.

ص: 378

في الظاهر ما وقع في "الموطإ" عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، أنه بلغه أن عمرو بن الْجَمُوح، وعبد اللَّه بن عمرو الأنصاريين كانا قد حَفَر السيلُ قبرهما، وكانا في قبر واحد، فحُفِر عنهما؛ ليُغَيّرا من مكانهما، فوُجدا لم يتغيّرا، كأنهما ماتا بالأمس، وكان بين أحد، ويوم حُفر عنهما ست وأربعون سنة، وقد جمع بينهما ابن عبد البرّ بتعدد القصّة، وفيه نظر؛ لأن الذي في حديث جابر أنه دَفَن أباه في قبر وحده بعد ستة أشهر، وفي حديث "الموطإ" أنهما وُجدا في قبر واحد بعد ست وأربعين سنة، فإما أن يكون

المراد بكونهما في قبر واحد قرب المجاورة، أو أن السيل خَرَق أحد القبرين، فصارا كقبر واحد. وقد ذكر ابن إسحاق القصّة في "المغازي"، فقال: حدثني أبي عن أشياخ من الأنصار، قالوا:"لما ضرب معاوية عينه التي مرّت على قبور الشهداء، انفجرت العين عليهم، فجئنا، فأخرجناهما -يعني عمرًا وعبد اللَّه- وعليهما بردتان، قد غُطّي بهما وجوههما، وعلى أقدامهم شيء من نبات الأرض، فأخرجناهما يتثنيان تثنّيًا؛ كأنهما ماتا بالأمس"، وله شاهد بإسناد صحيح عند ابن سعد، من طريق أبي الزبير، عن جابر انتهى

(1)

.

(وَدَفَنْتُهُ عَلَى حِدَةٍ) -بكسر الحاء، وتخفيف الدال المهملتين- أي بانفراده، يقال: وَحَدَ يَحِدُ حِدَةَ، من باب وَعَدَ: انفرد بنفسه، فهم وَحَدٌ -بفتحتين، وكسر الحاء لغةٌ، ووحُدَ بالضمّ وَحَادة، وَوَحْدَةً، فهو وَحِيد، كذلك، وكلّ شيء على حدة: أي متميِّز عن غيره. قاله في "المصباح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر رضي الله عنه هذا أخرجه البخاريّ.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -93/ 2021 - وفي "الكبرى" 48/ 2193. وأخرجه (خ) 1351 و 1352 و 1345 و 1346 و 1368 و 1343 و 1353 و4080 (د) 3138 (ت) 1036 (ق) 1514 (أحمد) 13777. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو جواز إخراج الميت من قبره بعد دفنه لحاجة. ومنها: جواز دفن الاثنين، فأكثر في قبر واحد للضرورة. ومنها: الارشاد

(1)

- "فتح" ج 3 ص 580.

ص: 379

إلى برّ الأولاد بالآباء، خصوصًا بعد الوفاة. ومنها: كرامة عبد اللَّه بن عمرو وصاحبه رضي الله عنهما حيث لم تأكل الأرض جسدهما مع طول لبثهما فيها، قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: والظاهر أن ذلك لمكان الشهادة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في أقوال أهل العلم في حكم إخراج الميت من قبره بعد الدفن:

قال أبو محمد ابن قدامة -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "المغني": وإن تُيقّن أن الميت قد بَلِي، وصار رميمًا جاز نبش قبره، ودفن غيره فيه. وإن شكّ في ذلك رجع إلى أهل الخبرة، فإن حَفَر، فوجد فيها عظاما دفنها، وحفر في مكان آخر. نصّ عليه أحمد. واستدلّ بأن كسر عظم الميت، ككسر عظم الحيّ. وسئل أحمد عن الميت يُخرَج من قبره إلى غيره؟ فقال: إذا كان شيء يؤذيه، قد حُوّل طلحة، وحُوّلت عائشة. وسئل عن قوم دُفنوا في بساتين، ومواضع رديئة؟ فقال: قد نَبَش معاذ امرأته، وقد كانت كفّنت في خُلقان، فكفّنها. ولم ير أبو عبد اللَّه بأسًا أن يُحوّلوا انتهى

(1)

.

وقال النووي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "شرح المهذّب": وأما نبش القبر، فلا يجوز لغير سبب شرعيّ، باتفاق الأصحاب، ويجوز بالأسباب الشرعيّة، قال: ومختصره: أنه يجوز نبش القبر إذا بَلي الميت، وصار تُرابًا، وحينئذ يجوز دفن غيره فيه، ويجوز زرع تلك الأرض، وبناؤها، وسائر وجوه الانتفاع، والتصرّف فيها باتفاق الأصحاب، وإن كانت عارية رجع فيها المعير.

وهذا كلّه إذا لم يبق للميت أثر، من عظم وغيره، قال أصحابنا -رحمهم اللَّه تعالى-: ويختلف ذلك باختلاف البلاد، والأرض، ويُعتمد فيه قول أهل الخبرة بها.

وبجوز نبش الميت إذا دفن لغير القبلة، أو بلا غسل على الصحيح فيهما، أو بلا كفن، أو في كفن مغصوب، أو حرير، أو أرض مغصوبة، أو ابتلع جوهرة، أو وقع في القبر مال.

قال الماورديّ في "الأحكام السلطانية": إذا لحق القبرَ سيلٌ، أو نداوة، قال أبو عبد اللَّه الزبيريّ: نَقْلُه يجوز، ومنعه غيره.

قال النوويّ: قول الزبيريّ أصح، فقد ثبت في "صحيح البخاري" عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما أنه دفن أباه يوم أحد مع رجل آخر في قبر، قال: ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته، هنية غير أذنه

(2)

وفي رواية للبخاريّ أيضًا: "أخرجته، فجعلته في قبر على حِدَةٍ".

(1)

- "مغني ابن قدامة" ج 3 ص 443 - 444.

(2)

- وفي رواية "غير هنيّة في أذنه"، وصوّبها القاضي عياض، وقد تقدم هذا.

ص: 380

وذكر ابن قتيبة في "المعارف" وغيره أن طلحة بن عبيد اللَّه أحد العشرة رضي الله عنهم دُفن، فرأته بنته عائشة بعد دفنه بثلاثين سنة في المنام، فشكا إليها النَّزّ

(1)

، فأمرت به، فاستُخرِج طريّا، فَدُفن في داره بالبصرة. قال غيره: قال الراوي: كأني أنظر إلى الكافور في عينيه لم يتغيّر، إلا عقيصته، فمالت عن موضعها، واخضرّ شقه الذي يلي النَّزّ انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن إخراج الميت بعد الدفن للحاجة جائز، كما أشار إليه المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بترجمته؛ لصحة حديث جابر رضي الله عنه المذكور في الباب، وحديثِهِ الماضي في الباب السابق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌94 - الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ

2022 -

أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، أَبُو قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ذَاتَ يَوْمٍ، فَرَأَى قَبْرًا جَدِيدًا، فَقَالَ:«مَا هَذَا؟» ، قَالُوا: هَذِهِ فُلَانَةُ، مَوْلَاةُ بَنِي فُلَانٍ -فَعَرَفَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَاتَتْ ظُهْرًا، وَأَنْتَ صَائِمٌ قَائِلٌ، فَلَمْ نُحِبَّ أَنْ نُوقِظَكَ بِهَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَفَّ النَّاسَ خَلْفَهُ، وَكَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا، ثُمَّ قَالَ:«لَا يَمُوتُ فِيكُمْ مَيِّتٌ، مَا دُمْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، إِلاَّ آذَنْتُمُونِي بِهِ، فَإِنَّ صَلَاتِي لَهُ رَحْمَةٌ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عبيد اللَّه بن سعيد) أبو قُدَامة السرَخْسِيُّ، ثقة مأمون سنّي [10] 15/ 15.

2 -

(عبد اللَّه بن نُمير) الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة ثبت، صاحب حديث [9] 25/ 1664.

(1)

- يقال: نزت الأرضُ نزّا، من باب ضرب: كثُر نَزُّها، تسمية بالمصدر، ومنهم يكسر النون، ويجعله اسما، وهو الندى السائل، وأنزَت بالألف مثله اهـ "مصباح".

(2)

- "المجموع" ج 5 ص 273.

ص: 381

3 -

(عثمان بن حكيم) بن عبّاد بن حُنيف الأنصاريّ الأوسيّ، أبو سهل المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقة [5] 38/ 944.

4 -

(خارجة بن زيد بن ثابت) الأنصاريّ، أبو زيد المدنيّ، ثقة فقيه [3] 45/ 1920.

5 -

(يزيد بن ثابت) بن الضّحّاك الأنصاريّ، أخو زيد بن ثابت - رضي اللَّه تعالى - عنهما، وكان أسنّ منه، واختُلف في شهوده بدرًا، وقيل: إنه استُشهد باليمامة 45/ 1920. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير الصحابي، فإنه من رجال المصنف، وابن ماجه، وقد علق عنه البخاريّ. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من عثمان بن حكيم، وشيخه سرخسي، وابن نمير كوفي. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه خارجة من الفقهاء السبعة. (ومنها): أن صحابيه من المقلين من الرواية، فليس له إلا ثلاثة أحاديث، حديث الباب عند المصنف، وابن ماجه، وحديث:"إنما كره ذلك لمن أحدث عليه"، عدقه البخاريّ، وحديث:"أنهم كانوا جلوسا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فطلعت جنازة .. " الحديث تقدم للمصنف 45/ 1920.

(1)

واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ ثَابِت) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ذَاتَ يَوْمٍ) منصوب على الظرفية، متعلق بـ "خرجوا"(فَرَأَى قَبْرًا جَدِيدًا) وفي رواية ابن ماجه من طريق هُشيم، عن عثمان بن حكيم: "فلما ورد البقيع، فإذا هو بقبر جديد

" (فَقَالَ: "مَا هَذَا؟ ") وفي نسخة: "من هذا؟ " (قَالُوا: "هَذِهِ فُلَانَةُ، مَوْلَاةُ بَنِي فُلَانٍ -فَعَرَفَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ولفظ "الكبرى":"يعرفها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (مَاتَتْ ظُهْرًا) أي وقت الظهر (وَأَنْتَ صَائِمٌ) وفي نسخة: "وأنت نائم" بدل "صائم"، والأولى هي التي في "الكبرى"، وهي الموافقة لما في ابن ماجه، وهي الأولى من حيث المعنى، لأن معنى نائم وقائل واحد، فلا يوجد في تكراره كبير فائدة (قَائِلٌ) بدل من "نائم"، اسم فاعل من القيلولة، وهي النوم نصف النهار، يقال: قال، يَقِيل، قَيْلاً، وقَيْلُولةَ: نام نصف النهار، والقائلة وقت القيلولة، وقد تطلق على القيلولة. قاله

(1)

- راجع "تحفة الأشراف" 9/ 105 - 106.

ص: 382

في "المصباح"(فَلَمْ نُحِبَّ أَن نُوقِظَكَ بِهَا) أي: بسبب هذه المرأة، ولفظ "الكبرى""لها"، أي لأجل الصلاة عليها. وعند ابن ماجه:"فكرهنا أن نؤذيك"(فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَفَّ النَّاسَ) بالنصب على أن "صفّ" متعدّ، ويحتمل أن يكون بالرفع، على أنه لازم، والأول أشهر. قال الفيّوميّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وصففتُ القومَ، من باب قتل، فاصطفّوا هم، وقد يستعمل لازمًا أيضًا، فيقال: صففتُهُم، فصفّوا هم انتهى (خَلْفَهُ) منصوب على الظرفية، متعلّق بـ"صفّ"(وَكَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا، ثُمَّ قَالَ: "لَا يَمُوتُ) وفي "الكبرى""لا يموتنّ" بنون التوكيد المشدّدة (فِيكُمْ مَيِّتٌ) ولفظ ابن ماجه: "فلا تفعلوا، لا أعرفَنّ ما مات منكم له ميت، ما كنت بين أَظْهُركُمْ، إلا آذنتموني به"(مَا دُمْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ) أي بينكم، فـ"أظهر" جمع "ظهر"، وهو مقحم، والمعنى: ما دمت حيّا بينكم (إِلَّا آذَنْتُمُوني بهِ) بمدّ الهمزة، من الإيذان، وهو الإعلام، أي إلا أعلمتموني بموته، حتى أصليَ علَيه (فَإِنَّ صَلَاتِي لَهُ رَحْمَةٌ") الفاء تعليلية، أي لأن صلاتي عليهم سبب رحمة من اللَّه تعالى لهم. واستَدَلّ بهذا من لا يقول بمشروعيّة الصلاة على القبر، ووجه ذلك أن قوله:، "صلاتي له رحمة" يدلّ على الخصوصية، والحقّ أنها مشروعة، وسيأتي الجواب عن هذا القول قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث يزيد بن ثابت رضي الله عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا - 94/ 2022 - وفي "الكبرى" 94/ 2149. وأخرجه (ق) 1528. واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو مشروعيّة الصلاة على القبر، وسيأتي البحث عنه مستوفًى في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. ومنها: ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من كمال الأخلاق، وكمال الرأفة بأمته، حيث كان يعتني بالضعفاء والمساكين أشدَّ عناية، فيسأل عن أحوالهم، ويعود مرضاهم، ويصلي على موتاهم، ويُشَيِّع جنائزهم، فكان صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا من مكام الأخلاق، كما وصفه اللَّه سبحانه وتعالى بذلك، حيث قال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. ومنها: ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من حسن الأدب صلى الله عليه وسلم، فلا يجترؤون على أن يوقظوه إذا نام، حتى يكون هو المستيقظَ. ومنها: مشروعية الإعلام بموت الإنسان حتى يجتمع المسلمون، فيصلّوا

ص: 383

عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إلا آذنتموني"، وفيه ردّ لقول من كره الإذن بالجنازة، فاستحبّ أن لا يُؤذَن به أحد، ولا يُشعَر بجنازته جارٌ، ولا غيره. ومنها: مشروعية تكرار الصلاة على الميت، ولو صُلّيَ عليه، فإن هذه المرأة، كانوا قد صَلَّوا عليها قبل الدفن، ثم صلَّوا عليها مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد الدفن. ومنها: مشروعية الصف في الصلاة على الجنازة. ومنها: بيان أن صلاته صلى الله عليه وسلم على أمته رحمة لهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

المسألة الرابعة: في اختلاف العلماء في حكم الصلاة على القبر:

قال الإمام ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: اختلف أهل العلم في الصلاة على القبر، فكان عبد اللَّه ابن عمر، وأبو موسى الأشعريّ، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم يرون الصلاة على القبر. وروينا عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أمر قَرَظَة أن يصلي على جنازة، قد صُلِّي عليها مرّة.

وممن كان يرى الصلاة على القبر محمد بن سيرين، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد ابن حنبل، وقال أحمد: روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه، وكان النعمان يقول: إن دُفن قبل أن يصلّى عليه، صلي عليه، وهو في القبر، وكذلك قال الحسن.

وقالت طائفة: لا تعاد الصلاة على الميت، هذا قول النخعيّ، ومالك، والنعمان.

قال ابن المنذر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ثبتت الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صلى على القبر انتهى كلامه بتصرّف

(1)

.

وقال أبو محمد ابن حزم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: والصلاة جائزة على القبر، وإن كان قد صُلي على المدفون فيه. وقال أبو حنيفة: إن دُفن بلا صلاة صلى على القبر ما بين دفنه إلى ثلاثة أيام، ولا يُصلّى عليه بعد ذلك، وإن دُفن بعد أن صلي عليه لم يُصَلّ أحد على قبره. وقال مالك: لا يصلى على قبر. وروي ذلك عن إبراهيم النخعيّ. وقال الشافعيّ، والأوزاعيّ، وأبو سليمان -يعني داود الظاهري-: يصلى على القبر، وإن كان قد صلي على المدفون فيه، وقد روي هذا عن ابن سيرين. وقال أحمد بن حنبل: يصلى عليه إلى شهر، ولا يُصلَّى عليه بعد ذلك. وقال إسحاق: يصلي الغائب على القبر إلى شهر، ويصلي عليه الحاضر إلى ثلاث.

ثم أخرج بسنده إلى مسلم بن الحجاج، قال: حدثني أبو كامل فضيل بن حسين الْجَحْدَري، قال: حدثنا حماد، وهو ابن زيد، عن ثابت البناني، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن امرأة سوداء، كانت تَقُمُّ المسجد، أو شابا، ففقدها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسأل

(1)

- "الأوسط" ج 5 ص410 - 411.

ص: 384

عنها؟، أو عنه؟، فقالوا: مات، قال:"أفلا كنتم آذنتموني؟ "، قال: فكأنهم صغروا أمرها، أو أمره، فقال:"دلوني على قبره"، فدلوه، فصلى عليها، ثم قال:"إن هذه القبور، مملوءة ظلمة على أهلها، وإن اللَّه عز وجل، ينوّرها لهم بصلاتي عليهم"

(1)

. قال: فادعى قوم أن هذا الكلام منه عليه السلام دليل على أنه خصوص له. قال: وليس كما قالوا:، وإنما في هذا الكلام بركة صلاته صلى الله عليه وسلم، وفضيلتها على صلاة غيره فقط، وليس فيه نهي غيره عن الصلاة على القبر أصلاً، بل قد قال اللَّه تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآية [الأحزاب: 21].

ثم أورد مما يدلّ على بطلان دعوى الخصوص حديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي بعد هذا. ثم قال: فهذا أبطل الخصوص؛ لأن أصحابه عليه السلام، وعليهم رضوان اللَّه صلَّوا معه على القبر، فبطلت دعوى الخصوص. ثم أخرج عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه:"أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى على قبر".

قال: فهذه آثار متواترة لا يسع الخروج عنها.

وأورد أيضًا أن عائشة قدمت مكة بعد موت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر، فقالت: أين قبر أخي؟ فدلت عليه، فوُضِعَت في هودجها عند قبره، فصلت على قبره. وعن نافع عن ابن عمر، أنه قدم، وقد مات أخوه عاصم، فقال: أين قبر أخي؟ فدُلّ عليه، فصلى عليه، ودعا له. وعن عليّ رضي الله عنه أنه أمر قَرَظَة بن كعب الأنصاريّ أن يصلي على قبر سهل بن حنيف بقوم جاؤوا بعد ما دفن، وصلى عليه. وعن علي أيضًا أنه صلى على جنازة بعد ما صلي عليها. وعن أنس أنه صلى على جنازة بعد ما صلي عليها. وعن ابن مسعود نحو ذلك. وعن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد أنه صلى على جنازة بعد ما صلي عليها. وعن قتادة أنه كان إذا فاتته الصلاة على الجنازة صلى عليها.

قال: فهذه طوائف من الصحابة لا يُعرف لهم منهم مخالف.

قال: وأما تحديد الصلاة بشهر، أو ثلاثة أيام، فخطأ لا يشكل، لأنه تحديد بلا دليل، ولا فرق بين من حدّ بهذا، أو من حدّ بغير ذلك انتهى كلام ابن حزم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- باختصار، وتصرّف

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر من الأدلة الصحيحة، ومن أقوال أهل العلم أن الصواب جواز الصلاة على القبر، وإن دفن الميت بعد الصلاة عليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- وأخرجه أيضًا البخاريّ، مختصرًا.

(2)

- "المحلى" ج 5 ص 139 - 142.

ص: 385

2023 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَخْبَرَنِي مَنْ مَرَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى قَبْرٍ مُنْتَبِذٍ، فَأَمَّهُمْ، وَصَفَّ خَلْفَهُ، قُلْتُ: مَنْ هُوَ يَا أَبَا عَمْرٍو؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدريّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجّاج المذكور في الباب الماضي.

4 -

(سليمان الشيباني) ابن أبي سليمان فَيْرُوز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقة ثبت [5] 172/ 267.

5 -

(الشعبيّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الهَمْدَانيّ الكوفيّ، ثقة فقيه فاضل مشهور [3] 66/ 82.

6 -

(ابن عباس) البحر الحبر رضي الله عنهما 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير الشعبي والشيباني، فكوفيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ الشَّعْبِيِّ) أنه قال (أَخبَرَنِي مَنْ مَرَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى قَبْرٍ مُنْتَبِذٍ) أي منفرد، بعيد عن القبور.

قال في "الفتح": ووقع في "الأوسط" للطبرانيّ من طريق محمد بن الصباح الدُّولابيّ، عن إسماعيل بن زكريا، عن الشيبانيّ، أنه صلى عليه بعد دفنه بليلتين.

وقال: إن إسماعيل تفرّد بذلك. ورواه الدارقطنيّ من طريق هُريم بن سفيان، عن الشيبانيّ، فقال: بعد موته بثلاث. ومن طريق بشر بن آدم، عن أبي عاصم، عن سفيان الثوريّ، عن الشيبانيّ، فقال: بعد شهر. وهذه روايات شاذّة، وسياق الطرق الصحيحة يدلّ على أنه صلى عليه في صبيحة دفنه انتهى

(1)

(فَأَمَّهُمْ، وَصَفَّ خَلْفَهُ) وفي الرواية التالية: "وصفّ أصحابَهُ خلفه".

(1)

- "فتح" ج 3 ص 565 - 566.

ص: 386

قال ابن حبّان -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: في ترك إنكاره صلى الله عليه وسلم على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه انتهى. وتعقّب بأن الذي يقع بالتبعيّة لا ينهض دليلا للأصالة.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد عرفت فيما سبق أن هذا التعقّب غير صحيح، بل أنّ الاستدلال به صحيح، إذ لو كان خاصّا به صلى الله عليه وسلم، أو تبعا له لبيّن أن هذه الصلاة لا تجوز إلا تبعًا لي. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: أخرج البخاريّ في "صحيحه" من طريق أبي معاوية، عن أبي إسحاق الشيباني، عن الشعبي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: مات إنسان، كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعوده، فمات بالليل، فدفنوه ليلا، فلما أصبح أخبروه، فقال:"ما منعكم أن تعلموني؟ "، قالوا: كان الليلُ، فكرهنا -وكانت ظلمة- أن نشق عليك، فأتى قبره، فصلى عليه.

قال في "الفتح": وقع في شرح سراج الدين عمر بن الملقّن، أنه الميت المذكور في حديث أبي هريرة الذي كان يقمّ المسجد، وهو وَهَمٌ منه، لتغاير القصّتين، فقد تقدّم أن الصحيح في الأول أنها امرأة، وأنها أم مِحْجَن، وأما هذا فهو رجل، واسمه طلحة بن البراء بن عُمير، الْبَلَويّ، حليف الأنصار، روى حديثه أبو داود مختصرًا، والطبرانيّ من طريق عروة بن سعيد الأنصاريّ، عن أبيه، عن حسين بن وَحْوَح الأنصاريّ، وهو بمهملتين بوزن جعفر: أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال:"إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت، فآذنوني به، وعجّلوا"، فلم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بني سالم بن عوف حتى توفي، وكان قال لأهله، لما دخل الليل: إذا متّ، فادفنوني، ولا تدعو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإني أخاف عليه يهودا أن يصاب بسببي، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين

أصبح، فجاء، حتى وقف على قبره، فصفّ الناس معه، ثم رفع يديه، فقال:"اللَّهم القَ طلحة يضحك إليك، وتضحك إليه". انتهى

(1)

.

(قُلْتُ) القائل هو سليمان الشيبانيّ (مَنْ هُوَ يَا أَبَا عَمْرٍو؟) كنية الشعبيّ، أي مَن هو الشخص الذي حدثك بهذا الحديث؟ (قَالَ) أي الشعبيّ (ابْنُ عَبَّاسٍ) أي هو ابن عباس، يعني أن الذي حدثه بهذه القصّة هو عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما، حيث إنه ممن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك القبر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- "فتح" ج 3 ص 454.

ص: 387

مسألتان، تتعلّقان بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته: حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

المسألة الثانبة: في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا - 94/ 2023 و 2024 - وفي "الكبرى" 94/ 2150 و 2151. وأخرجه (خ) 857 و 1247 و 1319 و 1321 و 1326 و 1336 و 1340 (م) 2208 و 2209 و 2210 (د) 3196 و 1037 (ق) 1530 (أحمد) 3124. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2024 -

أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: الشَّيْبَانِيُّ، أَنْبَأَنَا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، مَرَّ بِقَبْرٍ مُنْتَبِذٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَصَفَّ أَصْحَابَهُ خَلْفَهُ، قِيلَ مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عئه: هذا طريق ثان لحديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور قبله، والكلام عليه تقدّم هناك. وباللَّه تعالى التوفيق.

و"يعقوب بن إبراهيم": هو الدَّورقيّ البغداديّ الحافظ. و"هشيم": هو ابن بشير الواسطيّ.

وقوله: " قال: الشيبانيّ أنبأنا". فاعل "قال" ضمير هشيم، و"الشيبانيّ" مبتدأ، وجملة "أنبانا" خبره، وفيه تقديم الاسم على صيغة الأداء، وهو جائز، وإن كان غالب استعمال المحدثين بالعكس. وقوله:"قال: ابن عباس" فاعل "قال" ضمير الشعبيّ، و"ابن عباس " فاعل لفعل محذوف، يدلّ عليه السؤال، أي حدثني ابن عباس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2025 -

أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، صَلَّى عَلَى قَبْرِ امْرَأَةٍ، بَعْدَ مَا دُفِنَتْ.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(المغيرة بن عبد الرحمن) بن عون بن حبيب الأسديّ، أسد خزيمة، الحرّانيّ، أبو أحمد، ثقة، من صغار [10].

قال النسائيّ: ثقة. وقال مسلمة: رَقّيّ نزل قُرَى حَرّان، وهو ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال هو، وأبو عروبة: مات ليلة الجمعة لأربع بقين من جمُادى الآخرة، سنة (243). انفرد به المصنّف، روى عنه في هذا الكتاب أربعة أحاديث، هذا، و 2499 حديث: "جاء هلال إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

" الحديث، و 3899 حديث:

ص: 388

"إنما كان الناس على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

" الحديث، و 5404 حديث: "خرجت امرأتان معهما ولداهما

" الحديث.

2 -

(زيد بن عليّ) بن دينار النخعيّ، أبو أسامة الرَّقِّيّ، صدوق [8].

روى عن جعفر بن بُرقان. وعنه ابنه محمد، والمغيرة بن عبد الرحمن الحرّانيّ، وأبو يوسف الصيدلانيّ. وثّقه الدارقطنيّ. وذكره ابن حبّان في "الثقات ". انفرد به المصنّف، أخرج له في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

3 -

(جعفر بن بُرقان) -بضم الموحّدة، وسكون الراء، بعدها قاف- الكلابيّ مولاهم، أبو عبد اللَّه الرّقّيّ، قدم الكوفة، صدوق يهم في حديث الزهريّ [7].

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: إذا حدّث عن غير الزهريّ، فلا بأس، وفي حديث الزهريّ يخطىء. وقال الميموني، عن أحمد: أبو المليح أضبط من جعفر بن بُرقان، وجعفر ثقة، ضابط لحديث ميمون، وحديثِ يزيد بن الأصمّ، وهو في حديث الزهريّ يضطرب، ويختلف فيه. وقال المفضّل الغلابيّ، عن ابن معين: كان أميّا، وهو ثقة.

وقال في موضع آخر: ثقة، يضعّف في روايته عن الزهريّ. وقال في موضع آخر: ليس بذاك في الزهريّ. وقال يعقوب بن شيبة، عن ابن معين: كان أميّا، وكان ثقة صدوقًا، وما أصحّ روايته عن ميمون بن مهران وأصحابه. وقال ابن الجنيد، والدُّوريّ عنه: نحو ذلك. وقيل: إنه كان مجاب الدعوة. وقال عثمان الدارميّ وغيره، عن ابن معين: ثقة.

وقال ابن نمير: ثقة، أحاديثه عن الزهريّ مضطربة. وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو نعيم، حدثنا جعفر بن بُرقان، وهو جَزَريّ ثقة، وبلغني أنه كان أميّا، لا يقرأ، ولا يكتب، وكان من الخيار. وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقًا، له رواية وفقه، وفتوى في دهره. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ في الزهريّ، وفي غيره لا بأس به. وقال ابن خزيمة لَمّا سُئل عنه، وعن أبي بكر الْهُذَليّ: لا يُحتجّ بواحد منهما، إذا انفردا، حكاه الحاكم.

وقال حامد بن يحيى البلخيّ، عن ابن عيينة: حدثنا جعفر بن برقان، وكان ثقة من ثقات المسلمين. وكان مروان بن محمد يقول: جعفر بن برقان الثقة العدل. وقال أبو بكر بن صدقة، عن الثوريّ: ما رأيت أفضل من جعفر بن برقان. وقال ابن عديّ: وجعفر بن برقان مشهور معروف في الثقات، قد روى عنه الناس، ضعيف في الزهريّ خاصّة. وقال الْبَرْقَانيّ، عن الدارقطنيّ: ربما حدّث الثقة، عن ابن برقان، عن الزهريّ، ويحدث الآخر بذلك الحديث، عن ابن برقان، عن رجل، عن الزهريّ، أو يقول: بلغني عن الزهريّ، فأما حديثه عن ميمون بن مهران، ويزيد بن الأصمّ، فثابت صحيح. وقال الساجيّ: عنده مناكير. وذكره ابن المدينيّ في الطبقة الثامنة من أصحاب نافع. ومما أنكره

ص: 389

العُقيليّ من حديث الزهريّ حديث: "نهى عن مَطْعَمين

" الحديث.

قال هلال بن العلاء: مات سنة (150) أو (151) وقال خليفة، وأحمد بن حنبل، وغيرهما: سنة (154) وقال أبو عروبة: حدثنا أبو موسى، قال: سألت كثير بن هشام، عن جعفر بن بُرقان ممن؟ قال: الكلابيّ، من مواليهم، وهلك جعفر لما قدم أبو جعفر -يعني المنصور- الرّقّة، وهو ذاهب إلى بيت المقدس، وهذا نحو (44) سنة. قال أبو موسى: سنة (154) وقال ابن منجويه: مات وهو ابن (44) سنة، وهو وَهَمٌ، وتصحيف من قول كثير بن هشام الذي سبق. وقد سبقه لهذا الوَهَم بعينه ابن حبّان في "الثقات"، وإياه تبع ابن منجويه. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب حديثان، هذا و 4516 حديث:"نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن لبستين .. " الحديث.

4 -

(حبيب بن أبي مرزوق) الرّقّيّ، ثقة فاضل [7].

قال أحمد: ما أرى به بأسًا. وقال ابن معين: مشهور. وقال هلال بن العلاء: شيخ صالح، بدغني أنه اشترى نفسه من اللَّه ثلاث مرّات. وقال الدارقطنيّ: ثقة يُحتجّ به.

وقال الآجريّ، عن أبي داود: جزريّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: إنه مولى بني أسد، مات سنة (138). تفرد به المصنف، والترمذي، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

والباقيان تقدما في الباب الماضي.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح بشواهده، كحديث يزيد بن ثابت المتقدّم، وحديث أبي هريرة في "الصحيحين"، وقد تقدّم قريبًا، وغير ذلك، وهو من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أخرجه هنا 94/ 2025 وفي "الكبرى" 94/ 2152. وشرحه واضح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإِتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، - عفا اللَّه تعالى عنه - وعن والديه ومشايخه آمين: قد انتهيت من كتابة الجزء التاسع عشر من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائي -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، المسمّى "ذخيرةَ العُقْبَى في شرح المجتبى"، أو "غاية المنى في شرح المجتبى".

وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، في مكة المكرمة زادها اللَّه تعالى تشريفًا

ص: 390

وتعظيمًا، وجعلني من خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأَعْظِمْ به تكريمًا.

وأخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة اللَّه، وبركاته".

ويليه - إن شاء اللَّه تعالى- الجزء العشرون عشر مفتتحًا بالباب 95 "الركوبُ بعد الفراغ من الجنازة" الحديث رقم 2026.

"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

ص: 391