المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سنن النسائي المسَمَّى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعة الفقير إلى مولاه الغني - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ٢

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح

سنن النسائي

المسَمَّى

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير

محمد بن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبي الوَلَّوِي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا الله عنه وعن والديه آمين

الجزء الثاني

دار المعراج الدولية للنشر

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

طبعت بمطابع

الفاروق الحديثة للطباعة والنشر

خلف 60 شارع راتب باشا حدائق شبرا

ت: 647526 - 2055688 القاهرة

ص: 2

شرح

سنن النسائي

ص: 3

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولى

1416 هـ-1996 م

دار المعراج الدولية للنشر

الرياض 11421 - ص. ب. 858 - هاتف وفاكس 4026278

المملكة العربية السعودية

بيروت- ص. ب. 6366/ 14 - هاتف 831331 - فاكس 603333

القاهرة - ص. ب. 1289 - هاتف 3900318 - فاكس 3926250

ص: 4

‌44 - باب التَّوْقِيتِ في الْمَاءِ

أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على التوقيت أي التحديد في قدر الماء الذي يتنجس والذي لا يتنجس.

والتوقيت: مصدر وقَّت الشيءَ: إذا عَيَّن له غايةً.

قال في المصباح: الوقت مقدار من الزمن مفروض لأمر ما، وكل شيء قدرت له حينا فقد وقته توقيتا، وكذلك ما قدرت له غاية، ووقت الله الصلاة توقيتا، وَوَقَتَهَا يَقِتُهَا من باب وَعَدَ: حدد لها وقتا، ثم قيل لكل شيء محدود: مَوقُوت ومُوَقَّت. ا. هـ باختصار.

وقال العلامة السندي في شرحه: باب التوقيت في الماء: أي التحديد فيه بأن أيّ قدر يتنجس بوقوع النجاسات، وأيّ قدر لا. ا. هـ.

52 -

أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ. فَقَالَ: "إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ".

رجال السند سبعة

1 -

(هناد بن السري) بفتح الهاء وتشديد النون، وبفتح السين وكسر

ص: 5

الراء الخفيفة بن مصعب التميمي الدارمي، أبو السري الحافظ الصالح ثقة من العاشرة، عن شريك، وأبي الأحوص، وابن عيينة، وعَبْثَر، وخلق وعنه (عخ م 4) وخلق، وثقه النسائي، قال السراج: مات سنة 243، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، والباقون.

2 -

(الحسين بن حُرَيْث) بالتصغير فيهما، بن الحسن بن ثابت مولى عمران بن حُصَيْن أبو عمَّار الخُزاعي، المروزي، ثقة من العاشرة، عن الفضل بن موسى، والنضر بن شميل، وفضيل بن عياض، وابن

المبارك، والوليد بن مسلم، وخلق وعنه (خ م ت س) و (د) بالإجازة، وثقه النسائي، مات راجعا من الحج سنة 244، أخرج له الجماعة إلا ابن ماجَهْ.

3 -

(أبو أسامة)(ع) حماد بن أسامة الهاشمي، مولاهم الكوفي، الحافظ، ثقة من التاسعة، عن إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، والأجْلَح، وخلق، وعنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، وابن المديني، وخلائق، قال أحمد: ثقة ما كان أثبته، لا يكاد يخطئ، قال البخاري: مات بالكوفة سنة 201 وهو ابن ثمانين سنة فيما قيل، أخرج له الجماعة.

4 -

(الوليد بن كثير) القرشي مولاهم، أبو محمد المدني، صدوق عارف بالغازي، ورمي برأي الخوارج، من السادسة، عن بُشَير بن يسار، والأعرج، وجماعة، وعنه إبراهيم بن سعد، وأبو أسامة، والواقدي، وطائفة، وثقه ابن معين، وأبو داود، وقال ابن سعد: ليس بذاك. مات سنة 251 أخرج له الجماعة.

5 -

(محمد بن جعفر) بن الزبير بن العوَّام الأسدي المدني، ثقة من السادسة، عن عمه عروة، وابن عمه عباد بن عبد الله، وعنه عبيد الله

ص: 6

ابن أبي جعفر، وابن إسحاق، وجماعة، وثقه النسائي، وفي (ت) مات سنة بضع عشرة ومائة اهـ أخرج له الجماعة.

6 -

(عبد الله بن عبد الله بن عمر) بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمن المدني، ثقة من الثالثة، وصيُّ أبيه، عن أبيه، وأبي هريرة، وعنه عبد الله بن أبي سلمة، والقاسم بن محمد، وثقه وكيع وأبوزرعة، وفي (ت) مات سنة 105 أخرج له الجماعة إلا ابن ماجه.

7 -

(عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواته ما بين كوفيين: وهما هناد، وأبو أسامة، ومروزي: وهو الحسين بن حريث، ومدنيين: وهم الباقون، وكلهم ثقات، وأن فيه الإخبار في أوله، والعنعنة في البواقي، وأن فيه رواية الابن عن أبيه.

شرح الحديث

(عن عبد الله بن عبد الله بن عمر) المكبر، وسيأتي عن الحافظ أن الصواب إذا كان عن محمد بن جعفر فهو عن عبيد الله المصغر، وإذا كان عن محمد بن عباد بن جعفر فهو عن عبد الله المكبر فتفطن.

(عن أبيه) ابن عمر رضي الله عنهما أنه (قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء) أي عن حكمه هل هو طاهر أم نجس؟.

(و) سئل عن (ما) اسم موصول أي الشيء الذي (ينوبه) أي ينزل به ويقصده اهـ زهر، وقال السندي: مِنْ ناب المكانَ، وانتابه، إذا تردد إليه مرة بعد أخرى، ونَوْبَةً بعد نَوْبة، وهو عطف على الماء بطريق

ص: 7

البيان، نحو أعجبني زيد، وكرمُهُ. قال الخطابي: فيه دليل على أن سؤر السباع نجس، وإلا لم يكن لسؤالهم عنه، ولا لجوابه إياهم بهذا الكلام معنى، قال السندي: قلت وكذا على أن القليل من الماء يتنجس بوقوع النجاسة ا. هـ كلام السندي 1/ 47، وفي النيل وحكى الدارقطني أن ابن المبارك صحفه فقال (يثوبه) بالثاء المثلثة ا. هـ 1/ 59.

وقوله (من الدواب والسباع) بيان لما، والدواب جمع دابة، وهي لغةً ما يدبُّ على وجه الأرض، وفي العرف تطلق على ذوات الأربع، مما يركب، قال في الصحاح: الدابة التي تركب، نقله في المنهل 1/ 223.

وفي المصباح: وكل حيوان في الأرض دابة، وتصغيره دُوَيبة على القياس، وسمع دُوَابَّة بقلب الياء ألفا على غير قياس، وخالف فيه بعضهم، فأخرج الطير من الدواب، ورُدَّ بالسماع، وهو قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] قالوا: أي خلق الله كل حيوان مميِّزًا كان أو غير مميز، وأما تخصيص الفرس، والبغل بالدابة عند الإطلاق، فعرف طارئ، وتطلق الدابة على الذكر والأنثى، والجمعُ دَوَابّ. اهـ.

والسباع: جمع سبع بضم الباء، قال في المصباح: وإسكان الباء لغة، حكاها الأخفش وغيره، وهي الفاشية عند العامة، ولهذا قال الصغاني: السبع يعني بالضم والسبع يعني بالسكون لغتان، وقري بالإسكان في قوله تعالى {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3] وهو مروي عن الحسن البصري، وطلحة بن سليمان، وأبي حيوة، ورواه بعضهم عن عبد الله بن كثير أحد السبعة، ويُجمع في لغة الضم على سباع، مثل رجل، ورجال، لا جمع له غير ذلك، على هذه اللغة، قال الصغاني:

ص: 8

وجمعه على لغة السكون في أدنى العدد: أسْبُع، مثل فَلْس، وأفْلُس، وهذا كما خفف ضَبُع، وجمع على أضْبُع.

ويقع السبع على كل ما له ناب يَعْدُو به، ويفترس كالذئب، والفهد والنمر، وأما الثعلب: فليس بسبع، وإن كان له ناب لأنه لا يعدو به، ولا يفترس، وكذلك الضبع، قاله الأزهري. اهـ. المصباح باختصار.

قال الجامع: فالعطف يكون من عطف الخاص على العام، إن قلنا بعموم الدواب، ومن عطف المغاير إن قلنا بالعرف الذي يخصه بذوات الأربع، مما يركب.

(فقال) صلى الله عليه وسلم مجيبا عن السؤال "إذا كان الماء قلتين" تثنية قلة، بضم القاف وتشديد اللام، وهي الجَرَّة المعظيمة، والجمع قلال مثل بُرْمَة وبرَام، أو قُلَل مثل غُرْفة وغُرَف.

وقال في المصباح بعد ذكر نحو هذا ما نصه: قال الأزهري: ورأيت القلة، من قلالى هَجَر، والأحْسَاء، تَسَعُ ملء مَزَادة، والمزادة شطر الرواية، كأنها سميت قُلَّة؛ لأن الرجل القوي يُقلها أي يحملها، وكل شيء حملته: فقد أقللته، وأقَلْتَه عن الأرض: رفعته بالألف أيضا، ومن باب قتل لغة، وفي نسخة من التهذيب قال أبو عبيد: والقُلَّة حُبّ كبير، والجمع قلال، وأنشد لحسان (من الطويل):

وَقَدْ كَانَ يُسْقَى فِي قِلَالٍ وَحَنْتَمِ

وعن ابن جريج قال: أخبرني من رأى قلال هجر أن القلة تسع فَرَقا، قال عبد الرزاق: والفرق يسع أربعة أصواع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم اهـ. عبارة المصباح.

وقد اختلفوا في مقدار القلتين، فمنهم من قَدَّر بخمس قِرَب، ومنهم من قدر بخمسمائة رطل، وسيأتي مزيد بسط في كلام النووي رحمه الله

ص: 9

وقال الخطابي رحمه الله: وقد تكون القلة الإناءَ الصغير الذي تُقله الأيدي، ويتعاطى فيه الشراب، كالكيزَان ونحوها، وقد تكون القلة الجرة الكبيرة التي يقلها القوي من الرجال، إلا أن مخرج الخبر قد دل على أن المراد به ليس النوع الأول؛ لأنه إنما سُئل عن الماء الذي يكون بالفلاة عن الأرض في المصانع، والوهَاد، والغُدْران ونحوها، ومثل هذه المياه لا تُحمَل بالكوز والكوزين، في العرف والعادة، لأن أدنى النجس إذا أصابه نجسه فعلم أنه ليس معنى الحديث، وقد روي من رواية ابن جريج مرسلا "إذا كان الماء قلتين بقلال هجر"، وقال: وقلال هجر مشهووة الصَّنْعَة معلومة المقدار، لا تختلف كما لا تختلف المكاييل والصِّيعَان، والقرَب المنسوبة إلى البلدان المحدودة على مثال واحد، وهي أكبر ما يكون من القلال، وأشهرها لأن الحد لا يقع بالمجهول، ولذلك قيل قلتين على لفظ التثنية، ولو كان وراءها قلة في الكبر لأشكلت دلالته فلما ثناها دلَّ على أنه أكبر القلال، لأن التثنية لا بد لها من فائدة، وليست فائدتها إلا ما ذكرناه. اهـ. كلام الخطابي باختصار يسير.

(لم يَحمل الخَبَث) بفتحتين؛ أي النجس، كما وقع تفسيره بالنجس في الروايات الآخر، والمعنى لم يَقبَل النجاسةَ، بل يدفعها عن نفسه، ولو كان المعنى أنه يضعف عن حملها لم يكن لتقييد بالقلتين معنى، فإن ما دونها أولى بذلك، وقيل: معناه: لا يقبل حكم النجاسة. اهـ نيل.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى في درجته:

هذا الحديث صحيح، قال الحافظ أبو الفضل العراقي في أماليه: قد صحح هذا الحديث الجم الغفير من أئمة الحفاظ: الشافعي، وأبو عبيد، وأحمد، وإسحاق، ويحيى بن معين، وابن خزيمة، والطحاوي، وابن

حبان، والدارقطني، وابن منده، والحاكم، والخطابي، والبيهقي،

ص: 10

وابن حزم، وآخرون. كذا في قوت المغتذي، وقال الحافظ في الفتح: رواته ثقات، وصححه جماعة من أهل العلم. اهـ وقال في التلخيص: قال الحاكم: صحيح على شرطهما، وقد احتجا بجميع رواته، وقال ابن منده: إسناده على شرط مسلم، وقال ابن معين: الحديث جيد الإسناد، وقال ابن دقيق العيد: هذا الحديث قد صححه بعضهم، وهو صحيح على طريق الفقهاء؛ لأنه وإن كان مضطرب الإسناد، مختلفا في بعض ألفاظه، فإنه يجاب عنه بجواب صحيح، بأن يمكن الجمع بين الروايات. اهـ تحفة الأحوذي 1/ 217.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 44 - 52 وفي الكبرى 37/ 50 عن هناد بن السَّري والحُسين بن حُريث، كلاهما عن أبي أسامة، وفي 328 عن الحسين بن حريث عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر، عن

عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه أبو داود عن أبي كريب، وعثمان بن أبي شيبة، والحسن بن علي، وغيرهم، كلهم عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد ابن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، وقال أبو داود بعد أن ساق الحديث ما نصه: هذا لفظ ابن العلاء -يعني أبا كريب- وقال عثمان، والحسن بن علي عن محمد بن عباد بن جعفر، قال أبو داود: والصواب محمد بن جعفر. اهـ.

تنبيه:

اختلف في سند هذا الحديث مع كون مداره على الوليد بن كثير، فقيل عنه عن محمد بن جعفر بن الزبير، وقيل عنه عن محمد بن عباد بن

ص: 11

جعفر، وتارة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وتارة عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، والجواب: أن هذا ليس اضطرابا قادحا، فإنه على تقدير أن يكون الجميع محفوظا، انتقال من ثقة إلى ثقة، وعند التحقيق: الصواب أنه عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر المكبر، وعن محمده بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر المصغر، ومن رواه على غير هذا الوجه فقد وَهمَ.

وقد رواه جماعة عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير على الوجهين، وله طريق ثالثة رواها الحاكم وغيره، من طريق حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، وسئل ابن معين عن هذه الطريق، فقال: إسنادها جيد، قيل له: فإن ابن علية لم يرفعه؟ فقال: وإن لم يحفظ ابن علية، فالحديث جيد الإسناد. أفاده الحافظ في التلخيص 1/ 17 - 18.

المسألة الرابعة:

قد ذكر الإمام النووي رحمه الله في المجموع شرح المهذب ما يتعلق بحديث الباب من الكلام على الحديث سندا، ومتنا، ومن مذاهب العلماء في حكم المسألة، وهاك نصه:

قال رحمه الله: هذا الحديث حديث حسن ثابت من رواية عبد الله ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، رواه أبو عبد الله الشافعي، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجَهْ

(1)

، وأبو عبد الله الحاكم في المستدرك على الصحيحين، قال الحاكم: هو حديث صحيح على

(1)

قلت بقي عليه المصنف فإنه أخرجه هنا، وفي 328.

ص: 12

شرط البخاري، ومسلم، وجاء في رواية لأبي داود وغيره "إذا كان الماء قلتين لم يَنْجُس" قال البيهقي وغيره: إسناد هذه الرواية إسناد صحيح، والخَبَث بفتح الخاء والباء ومعناه هنا لم ينجس كما جاء في الرواية الأخرى.

وأما حكم المسألة:

وهي إذا وقع في الماء الراكد نجاسة، ولم تغيره، فحكى ابنُ المنذر وغيرُه فيها سبعة مذاهب للعلماء:

أحدها: إن كان قلتين فأكثر لم ينجس وإن كان دون قلتين نجس، وهذا مذهبنا، ومذهب ابن عمر، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأحمد، وأبي عبيد، وإسحاق بن راهويه.

الثاني: إنه إن بلغ أربعين قلة لم ينجسه شيء، حكوه عن عبد الله ابن عمرو بن العاص، ومحمد بن المنكدر.

الثالث: إن كان كُرّا

(1)

لم ينجسه شيء، روي عن مسروق، وابن سيرين.

الرابع: إذا بلغ ذَنُوبين لم ينجس، روي عن ابن عباس، وفي رواية، وقال عكرمة: ذنوبا أو ذنوبين.

الخامس: إن كان أربعين دلْوا لم ينجس، روي عن أبي هريرة.

السادس: إذا كان بحيث لو حرك جانبه تحرك الجانب الآخر نجس، وإلا فلا، وهو مذهب أبي حنيفة.

السابع: لا ينجس كثير الماء ولا قليله إلا بالتغير، حكوه عن ابن

(1)

بضم الكاف وتشديد الراء: ستون قفيزا، والقفيز ثمانية مكاكيك والمكوك صاع ونصف، فعلى هذا فهو اثنا عشر وَسْقًا، كل وَسْق ستون صاعا. ا. هـ. من هامش المجموع.

ص: 13

عباس، وابن المسيب، والحسن البصري، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وجابر بن زيد، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي.

وهو مذهب مالك، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وداود، ونقل عن أبي هريرة، والنخعي.

قال ابن المنذر: وبهذا المذهب أقول، قال النووي: وهذا المذهب أصحها بعد مذهبنا، واحتج لأبي حنيفة بأشياء ليس في شيء منها دلالة، قال النووي: لكني أذكرها لبيان جوابها إن أوردَت على ضعيف المرتبة:

منها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يتوضأ منه" حديث صحيح متفق عليه، قالوا: وروي أن زنجيا مات في زمزم، فأمر ابن عباس بنزحها، ومعلوم أن ماء زمزم يزيد على قلتين، ولأنه مائع ينجس بورود النجاسة عليه، إذا قل فكذا إذا كثر كسائر المائعات، ولأنه

تيقن حصول نجاسة فيه فهو كالقليل.

واحتج أصحابنا يعني الشافعية على أبي حنيفة بحديث ابن عمر المذكور يعني حديث القلتين، وبحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من بئر بضاعة وكان يُلقَى فيها لحوم الكلاب، وخرق الحيض، وهو حديث صحيح، وهذه البئر كانت صغيرة، وهم لا يجيزون الوضوء من مثلها، قالوا: إنما توضأ منها لأنها كانت جارية، قال الواقدي: كان يسقى منها الزرع والبساتين،، وكذا قاله الطحاوي ونقله عن الواقدي، قال أصحابنا: هذا غلط، ولم تكن بئر بضاعة

جارية بل كانت واقفة، لأن العلماء ضبطوا بئر بضاعة، وعَرَّفُوها في كتب مكة والمدينة، وأن الماء لم يكن يجري.

قال أبو داود في سننه: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: سألت قَيِّم بئر

ص: 14

بضاعة عن عمقها، قال: أكثر ما يكون الماء فيها إلى العانة. قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة، قال أبو داود: وقَدَّرت بئر بضاعة بردائي، مددته عليها، ثم ذرعته، فإذا عرضها ست أذرع، وقال لي الذي فتح لي الباب يعني باب البستان الذي هي فيه: لم يغير بناؤها عما كانت عليه، قال: ورأيت فيها الماء متغير اللون. اهـ.

وما نقل عن الواقدي فمردود، لأن الواقدي ضعيف عند أهل الحديث، وغيرهم، لا يحتج برواياته المتصلة فكيف بما يرسله، أو يقوله عن نفسه، ولو صح أنه كان يُسقَى منها الزرع، لكان معناه أنه يُسقَى منها بالدلو والناضح، عملا بما نقله الأثبات في صفتها.

قال النووي: قال أصحابنا -يعني الشافعية- وعمدتنا حديث القلتين، فإن قالوا: هو مضطرب؛ لأن الوليد بن كثير رواه تارة عن محمد بن عباد بن جعفر، وتارة عن محمد بن جعفر بن الزبير، وروي تارة عن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن أبيه، وتارة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، وهذا اضطراب ثان.

فالجواب: أن هذا ليس اضطرابا، بل رواه محمد بن عباد، ومحمد ابن جعفر. وهما ثقتان معروفان، ورواه أيضا عبد الله، وعبيد الله ابنا عبد الله بن عمر، عن أبيهما، وهما أيضا ثقتان، وليس هذا من الاضطراب.

وبهذا الجواب أجاب أصحابنا، وجماعات من حفاظ الحديث، وقد جمع البيهقي طرقه وَبيَّن رواية المحمدين وعبد الله، وعبيد الله، وذكر طرق ذلك كله، وبينها أحسن بيان، ثم قال: فالحديث محفوظ عن عبد الله، وعبيد الله، قال: وكذا كان شيخنا أبو عبد الله الحافظ الحاكم يقول: الحديث محفوظ عنهما، وكلاهما رواه عن أبيه، قال وإلى هذا

ص: 15

ذهب كثير من أهل الرواية، وكان إسحاق بن راهويه يقول: غلط أبو أسامة في عبد الله بن عبد الله، إنما هو عبيد الله بن عبد الله بالتصغير، وأطنب البيهقي في تصحيح الحديث بدلائله، فحصل أنه غير مضطرب.

وقال الخطابي: ويكفي شاهدا على صحته أن نجوم أهل الحديث صححوه وقالوا به، واعتمدوه في تحديد الماء، وهم القدوة، وعليهم المُعَوَّل في هذا الباب، فممن ذهب إليه: الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وغيرهم، وقال النووي: وقد سَلَّمَ أبو جعفر الطحاوي إمام أصحاب أبي حنيفة في الحديث، والذاب عنهم، صحة هذا الحديث، لكنه دفعه، واعتذر عنه بما ليس بدائع ولا عذر، فقال: هو حديث صحيح، لكن تركناه لأنه روي قلتين أوثلاثا ولأنا لا نعلم قدر القلتين، فأجاب أصحابنا: بأن الرواية الصحيحة المعروفة المشهورة قلتين، ورواية الشك شاذة غريبة فهي متروكة، فوجودها كعدمها، وأما قولهم: لا نعلم قدر القلتين، فالمراد قلال هجر، كما رواه ابن جريج، وقلال هجر كانت معروفة عندهم مشهورة، يدل عليه حديث أبي ذر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم ليلة الإسراء فقال:"ورفعت لي سدرة المنتهى، فإذا ورقها مثل آذان الفِيَلَة، وإذا نَبْقُهَا مثل قلال هَجَر" فعلم بهذا أن القلال معلومة عندهم مشهورة، وكيف يظن أنه صلى الله عليه وسلم يحدد لهم أو يمثل لهم بما لا يعلمونه، ولا يهتدون إليه؟.

فإن قالوا: روي أربعين قلة، وروي أربعين غربا، وهذا يخالف حديث القلتين، فالجواب: أن هذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما نقل أربعين قلة عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأربعين غربًا، أي دلوا عن أبي هريرة، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على غيره، وأجاب أصحابنا أيضا بأنه ليس مخالفا، بل يحمل على أن تلك الأربعين صغار تبلغ قلتين

ص: 16

بقلال هجر فقط.

فإن قالوا: يحمل على البخاري، فالجواب: أن الحديث عام يتناول البخاري، والراكد، فلا يصح تخصيصه بلا دليل، ولأن توقيته بقلتين يمنع حمله على البخاري عندهم، فإن قالوا: لا يصح التمسك به لأنه متروك بالإجماع في المتغير بنجاسة، فالجواب أنه عام خصص في بعضه فبقي الباقي على عمومه، كما هو المختارفي الأصول.

فإن قالوا: قد رَوى ابنُ عُليَّة هذا الحديث موقوفًا على ابن عمر، فالجواب: أنه صح موصولا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طرق الثقات، فلا يضر تفرد واحد بوقفه، وقد روى البيهقي وغيره بالإسناد الصحيح عن يحيى بن معين إمام هذا الشأن، أنه سئل عن هذا الحديث، فقال: جيد

الإسناد، قيل له: فإن ابن علية لم يرفعه؟ قال يحيى: وإن لم يحفظ ابن علية، فالحديث جيد الإسناد.

فإن قالوا: إنما لم يحمل الخبث لضعفه عنه، وهذا يدل على نجاسته، فالجواب: أن هذا جهل بمعاني الكلام، وبطرق الحديث، أما جهل قائله بطرق الحديث، ففي رواية صحيحة لأبي داود "إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس" فإذا ثبتت هذه الرواية تعين حمل الأخرى عليها، وأن معنى لم يحمل خبثا لم ينجس، وقد قال العلماء: أحسن تفسير غريب الحديث أن يفسر بما جاء في رواية أخرى لذلك الحديث.

وأما جهله بمعاني الكلام، فبيانه من وجهين:

أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم جعل القلتين حَدّا، فلو كان كما زعم هذا القائل، لكان التقييد بذلك باطلا، فإن ما دون القلتين يساوي القلتين في هذا.

الثاني: أن الحمل ضربان: حمل جسم، وحمل معنى، فإذا قيل في حمل الجسم: فلان لا يحمل الخشبة مثلا، فمعناه لا يطيق ذلك لثقلها،

ص: 17

وإذا قيل في حمل المعنى: فلان لا يحمل الضيم، فمعناه لا يقبله ولا يلتزمه، ولا يصبر عليه، قال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [سورة الجمعة: 5] معناه لم يقبلوا أحكامها، ولم يلتزموها، والماء من هذا الضرب لا يتشكك في هذا من له أدنى فهم ومعرفة، والله أعلم.

والجواب عما احتج به الحنفية من حديث "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل فيه" من وجهين:

أحدهما: أنه عام مخصوص بحديث القلتين.

الثاني وهو الأظهر: أنه نهي تنزيه، فيكره كراهة شديدة، وسبب الكراهة الاستقذار لا النجاسة، ولأنه يؤدي إلى كثرة البول وتغير الماء به.

وأما قولهم: أن زنجيا مات في زمزم فنَزَحَهَا ابن عباس، فجوابه من ثلاثة أوجه، أجاب بها الشافعي ثم أصحابه، أحسنها: أن هذا الذي زعموه باطل لا أصل له، قال الشافعي: لقيت جماعة من شيوخ مكة فسألتهم عن هذا، فقالوا: ما سمعنا هذا، وروى البيهقي، وغيره عن سفيان بن عيينة إمام أهل مكة، قال: أنا بمكة منذ سبعين سنة، لم أر أحدًا لا صغيرًا ولا كبيرًا يعرف حديث الزنجي الذي يقولونه، وما سمعت أحدًا يقول: نُزحَت زمزم، فهذا سفيان كبير أهل مكة قد لقي خلائق من أصحاب ابن عباس، وسمعهم، فكيف يتوهم بعد هذا صحة هذه القصة التي من شأنها إذا وقعت أن تشيع في الناس لا سيما أهل مكة، لا سيما أصحاب ابن عباس، وحاضروها، وكيف يصل هذا إلى أهل الكوفة، ويجهله أهل مكة، وقد رَوَى البيهقي هذا عن ابن عباس من أوجه كلها ضعيفة، لا يلتفت إليها.

الثاني: لو صح لحمل على أن دمه غلب على الماء فَغَيَّرَه.

ص: 18

الثالث: فعله استحبابا، وتنظفا، فإن النفس تعافه، والمشهور عن ابن عباس أن الماء لا يتنجس إلا بالتغير كما نقله ابن المنذر وغيره.

وأما قياسهم على المائع فجوابه من أوجه:

أحدها: أنه قياس يخالف السنة فلا يلتفت إليه.

الثاني: أنه لا يشق حفظ المائع وإن كثر، بل العادة حفظه.

الثالث: أن للماء قوة في دفع النجس بالإجماع، وهو إذا كان بحيث لا يتحرك طرفه الآخر بخلاف المائع.

الرابع: للماء قوة رفع الحدث، فكذا له دفع النجس، بخلاف المائع.

وأما قياسهم على الماء القليل فجوابه ظاهر مما ذكرناه.

قال النووي: قال أصحابنا: اعتبرُوا حدًا واعتبرنا حدًا، وحَدُّنا ما حدَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الذي أوجب الله تعالى طاعته وحرم مخالفته، وحدهم مخالف حده صلى الله عليه وسلم، مع أنه حد بما لا أصل له، وهو أيضا حد لا ضبط فيه فإنه يختلف بضيق موضع الماء وسعته، وقد يضيق موضع الماء الكثير لعمقه، ويتسع موضع الماء القليل لعدم عمقه.

وأما مالك وموافقوه فاحتُجَّ لهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور لا ينجسه شيء" وهو حديث صحيح، وبالقياس على القلتين، وعلى ما إذا ورد الماء على النجاسة.

قال النووي: واحتج أصحابنا عليهم بحديث القلتين، وقد وافقنا مالك رحمه الله على القول بدليل الخطاب، وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها، فإنه لا يدري أين باتت يده" رواه البخاري

ص: 19

ومسلم، فنهاه صلى الله عليه وسلم عن غمس يده في الإناء وعلله بخشية النجاسة، ويعلم بالضرورة أن النجاسة التي تكون على يده، وتخفى عليه لا تغير الماء، فلولا تنجيسه بحلول نجاسة لم تغيره لم ينهه، وبحديث أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا" رواه الشيخان، وفي رواية لمسلم:"فليرقه ثم ليغسله سبع مرات" فالأمر بالإراقة والغسل دليل النجاسة، وبحديث أبي قتادة رضي الله عنه أنه كان يتوضأ، فجاءت هرة، فأصغى لها الإناء فشربت فتُعُجِّبَ منه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات" حديث صحيح رواه مالك في الموطأ، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفيه دلالة ظاهرة أن النجاسة إذا وردت على الماء نجسته، واحتجوا، بغير ذلك من الأحاديث.

وأما الجواب عن الحديث الذي احتجوا به فهو: أنه محمول على قلتين فأكثر، فإنه عام، وحديث القلتين خاص، فوجب تقديمه جمعا بين الحديثين.

والجواب عن قياسهم على ما إذا ورد الماء على النجاسة، من وجهين:

أحدهما: من حيث النص، وهو أنه صلى الله عليه وسلم فرق بينهما، وذلك في حديثين: أحدهما "إذا استيقظ أحدكم" فمنع صلى الله عليه وسلم من إيراد اليد على الماء، وأمر بإيراده عليها ففرق بينهما، والثاني أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب لورود النجاسة، وأمر بإيراد الماء على الإناء.

والجواب الثاني: من حيث المعنى وهو أنا إذا نجسنا دون القلتين لورود النجاسة لم يشق، لإمكان الاحتراز منها، ولو نجسنا دون القلتين

ص: 20

بوروده على نجاسة لشق وأدى إلى أن لا يطهر شيء حتى يغمس في قلتين، وفي ذلك أشد الحرج، فسقط. والله أعلم اهـ كلام النووي رحمه الله في المجموع باختصار 1/ 112 - 118.

وقال الحافظ في الفتح: قول من لا يعتبر إلا التغير وعدمه قوي، لكن الفصل بالقلتين أقوى لصحة الحديث فيه، وقد اعترف الطحاوي من الحنفية بذلك، لكنه اعتذر من القول بأن القلة في العرف تطلق على الكبيرة والصغيرة، كالجرة، ولم يثبت من الحديث تقديرهما، فيكون مجملا، فلا يعمل به، وقواه ابن دقيق العيد، لكن استدل له غيرهما، فقال أبو عبيد القاسم بن سَلاَّم: المراد القلة الكبيرة، إذ لو أراد الصغيرة لم يحتج لذكر العدد، فإن الصغيرتين قدر واحدة كبيرة، ويرجع في الكبيرة إلى العرف عند أهل الحجاز، والظاهر أن الشارع عليه السلام ترك تحديدهما على سبيل التوسعة والعلم محيط بأنه ما خاطب الصحابة إلا بما يفهمون فانتهى الإجمال. اهـ كلام الحافظ 1/ 414.

وقال الزيلعي في نصب الراية: قال البيهقي في كتاب المعرفة: وقلال هجر كانت مشهورة عند أهل الحجاز، ولشهرتها عندهم شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى في ليلة العراج من نبق سدرة المنتهى بقلال هجر، فقال في حديث مالك بن صعصعة:"رفعت إليَّ سدرة المنتهى فإذا ورقها مثل آذان الفيلة، وإذا نبقها مثل قلال هجر" قال: واعتذار الطحاوي في ترك الحديث أصلا بأنه لا يعلم مقدار القلتين لا يكون عذرا عند من عَلمه. انتهى.

وقال الحافظ في الفتح بعد نقل كلام البيهقي هذا: فإن قيل: أيّ ملازمة بين هذا التشبيه وبين ذكر القلة في حد الماء، فالجواب: أن التقييد بها في حديث المعراج دالّ على أنها كانت معلومة عندهم بحيث يُضرب

ص: 21

بها المثل في الكبر، كما أن التقييد المطلق إنما ينصرف إلى التقييد المعهود.

وقال الأزهري: القلال مختلفة في قُرى العرب، وقلال هجر أكبرها، وقلال هجر مشهورة الصنعة، معلومة المقدار، والقلة لفظ مشترك، وبعد صرفها إلى أحد معلوماتها، وهي الأواني تبقى مترددة بين الكبار والصغار، والدليل على أنها من الكبار جعل الشارع الحد مقدرا بعدد، فدل على أنه أشار إلى أكبرها، لأنه لا فائدة في تقديره بقلتين صغيرتين مع القدرة على تقديره بواحدة كبيرة. اهـ.

وقال العلامة المباركفوري في شرح الترمذي: قلت: وقد جاء في حديث ضعيف تقييد القلتين بقلال هجر، وهو ما رواه ابن عدي من حديث ابن عمر "إذا بلغ الماء قلتين من قلال هجر لم ينجسه شيء" قال الحافظ في التلخيص: في إسناده المغيرة بن سقلاب وهو منكر الحديث، قال النفيلي: لم يكن مؤتمنا على الحديث، وقال ابن عدي: لا يتابع على عامة حديثه. اهـ.

قلت: قال الذهبي في الميزان في ترجمة المغيرة بن سقلاب: قال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال أبو زرعة: لا بأس

(1)

به. اهـ. فالاعتذار من القول بحديث القلتين بزعم الإجمال في معنى القلة اعتذار بارد.

ومن الذين لم يقولوا به مَن اعتذر بأن الحديث ضعيف مضطرب الإسناد.

قالوا: إن محمد بن إسحاق يروي تارة عن محمد بن جعفر عن عبيد الله، عن ابن عمر، رواه الترمذي وغيره، وتارة عن الزهري عن سالم، عن ابن عمر، وتارة عنه عن عبيد الله، عن أبي هريرة، ثم وقع الاختلاف في شيخ محمد بن جعفر، فقال مرة: عن عبد الله بن عبد الله المكبر، ومرة عن عبيد الله بن عبد الله المصغر.

(1)

انظر الجرح والتعديل ج 8 ص 223 - 224.

ص: 22

قال المباركفوري: قلت هذا الاعتذار أيضا بارد، فإن هذا الاختلاف ليس قادحا مورثا لضعف الحديث، فإن وجوه الاختلاف ليست بمستوية، فإن الرواية الصحيحة المحفوظة هي رواية ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن عبيد الله، عن ابن عمر، كما رواها الترمذي وغيره، كذلك رواها جماعة كثيرة عن ابن إسحاق.

قال الدارقطني في سننه: رواه إبراهيم بن سعد، وحماد بن سلمة، ويزيد بن زريع، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن نمير، وعبد الرحيم ابن سليمان، وأبو معاوية الضرير، ويزيد بن هارون، وإسماعيل بن عياش، وأحمد بن خالد الوهبي، وسفيان الثوري، وسعيد بن زيد، أخو حماد بن زيد، وزائدة بن قدامة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.

وقال الدارقطني فيه: ورواه عاصم بن المنذر بن الزبير بن العوام عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان في هذه الرواية قوة لرواية محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه. اهـ.

وأما رواية ابن إسحاق عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر فمدارها على عبد الوهاب بن عطاء وهو مدلس، رواها عن ابن إسحاق بالعنعنة، فهي ضعيفة لمظنة التدليس، على أنه قد خالف أصحاب ابن

إسحاق.

وأما روايته عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبي هريرة، فليست بمحفوظة، قال الدارقطني: نا أبو سهل أحمد بن محمد بن زياد، وعمر بن عبد العزيز بن دينار، قالا: حدثنا أبو إسماعيل الترمذي: نا محمد بن وهب السّلَميُّ: نا ابن عياش، عن محمد بن إسحاق، عن

ص: 23

الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنه سئل عن القليب" الحديث، قال الدارقطني: كذا رواه محمد بن وهب، عن إسماعيل بن عياش، بهذا الإسناد، والمحفوظ عن ابن عياش، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه. اهـ.

وقد اعتذروا أيضا بأن الحديث مضطرب المتن، ففي بعضها قلتين، وفي بعضها قلتين أو ثلاثا، وفي رواية موقوفة أربعين قلة، وكذلك في رواية مرفوعة أربعين قلة.

قال المباركفوري: هذا الاعتذار أيضا بارد، فإن هذا الاختلاف أيضا ليس قادحا مورثا للضعف، فإن رواية أربعين قلة التي هي مرفوعة ضعيفة جدًا، فإن في سندها القاسم بن عبد الله العمري، قال ابن التركماني في الجوهر النقي: حكى البيهقي أنّ القاسم بن عبد الله العمري: كان ضعيفا كثير الخطأ.

وفي كتاب ابن الجوزي: قال أحمد: ليس هو عندي بشيء، كان يكذب ويضع الحديث، ترك الناس حديثه، وقال يحيى: ليس بشيء، وقال مرة: كذاب خبيث، وقال الرازي، والنسائي، والأزدي: متروك الحديث، وقال أبو زرعة: لا يساوي شيئا، متروك الحديث اهـ.

وقال الزيلعي في نصب الراية: روى الدارقطني في سننه، وابن عدي في الكامل، والعقيلي في كتابه عن القاسم بن عبد الله العمري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغ الماء أربعين قلة فإنه لا يحمل الخبث" اهـ.

قال الدارقطني: كذا رواه القاسم العمري، عن ابن المنكدر، عن جابر، ووهم في إسناده، وكان ضعيفا كثير الخطأ، وخالفه روح بن القاسم، وسفيان الثوري، ومعمر بن راشد، رووه عن ابن المنكدر، عن

ص: 24

عبد الله بن عمر موقوفا. ورواه أيوب السختياني، عن محمد بن المنكدر، من قوله، لم يجاوزه، ثم رَوَى بإسناد صحيح من جهة روح بن القاسم عن محمد بن المنكدر، عن عبد الله بن عمرو، قال: "إذا بلغ

الماء أربعين قلة لم ينجس" اهـ.

فرواية أربعين قلة التي هي مرفوعة لشدة ضعفها، لا تساوي رواية قلتين، وأما رواية أربعين قلة التي هي موقوفة فهي قول عبد الله بن عمرو، وقوله هذا وإن كان صحيحا من جهة السند، فهو لا يساوي رواية قلتين التي هي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما رواية قلتين، أو ثلاثا، فقد قال البيهقي في المعرفة: قوله أو ثلاثا شك وقع لبعض الرواة. اهـ.

فرواية قلتين أو ثلاثا بالشك ترجع إلى رواية قلتين التي هي خالية من الشك، والظاهر أن الشك من حماد بن سلمة فإن بعض أصحابه يروون عنه قلتين، وبعضهم قلتين أو ثلاثا، أو من عاصم بن المنذر، فإن كل من روى هذا الحديث غيره عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر إنما رواه بلفظ قلتين بغير شك.

وقد اعتذروا أيضا بأن الحديث مضطرب من جهة المعنى، فإن القلة مشترك بين رأس الرجل ورأس الجبل، والجَرَّة والقرْبَة، وغير ذلك، ولم يتعين معناها، وإن أريد بها الأواني كالجرة والخابية فلم يثبت مقدارها، مع أنها متقاربة جدا.

قال المباركفوري: هذا الاعتذار أيضا ليس بشيء فإن القلة بمعنى رأس الرجل، أو رأس الجبل، لا يحصل بها التحديد البتة، والمقصود من الحديث ليس إلا التحديد، فلا يجوز أن يراد من القلة رأس الرجل، أو رأس الجبل، فتعين أن المراد من القلة الأواني.

ولما كانت قلال هجر مشهورة معروفة المقدار عند العرب كثيرة الاستعمال في أشعارهم، ولذلك شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى بقلال هجر تعين أن تكون هي مرادة في الحديث.

ص: 25

والحاصل أن حديث الباب صحيح قابل للاحتجاج به، وكل ما اعتذروا به عن العمل، والقول به مدفوع ا. هـ. كلام المباركفوري رحمه الله في تحفته جـ 1/ 217 - 221.

قال الجامع: هذا الذي قاله المباركفوري رحمه الله كلام نفيس جدًا والله أعلم.

وقال العلامة ابن القيم بعد نقل أقوال المصححين لإسناد الحديث ما حاصله: ومع صحة سنده فهو غير صحيح المتن، لأنه لا يلزم من صحة السند صحة الحديث، ما لم ينتف عنه الشذوذ والعلة، أما الشذوذ فإن هذا الحديث مع شدة حاجة الأمة إليه لفصله بين الحلال والحرام، والطَّاهر والنجس، لم يروه غير ابن عمر، ولا عن ابن عمر غير ابنيه، فأين نافع، وسالم، وأيوب، وسعيد بن جبير، وأين أهل المدينة، وعلماؤها من هذه السنة، وهم أحوج الخلق لعزة الماء عندهم، ومن البعيد جدا أن تكون هذه السنة عند ابن عمر، وتخفى على علماء المدينة ولا يذهب إليها أحد منهم، ولا يروونها، ومن أنصَفَ لم يخْفَ عليه امتناع هذا، فلو كانت هذه السنة العظيمة المقدار عند ابن عمر لكان أصحابه، وأهل المدينة أول من يقول بها ويرويها، وحيث لم يقل بهذا التحديد أحد من أصحاب ابن عمر، علم أنه لم يكن عنده فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما علته: فالاختلاف فيه على عبد الله رفعا ووقفا، وقد رجح شيخ الإسلام أبو الحجاج المزي، وأبو العباس ابن تيمية وقفه، ويدل على وقفه أن مجاهدًا، وهو العلم المشهور، والثبت المعروف، رواه عنه موقوفا، كما صوبه الدارقطني، والبيهقي، قال: قال شيخنا أبو العباس تقي الدين: هذا كله يدل على أن ابن عمر لم يكن يحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن سئل عن ذلك فأجاب بحضرة ابنه ذلك عنه اهـ. كلام ابن القيم بتصرف.

ص: 26

قال صاحب المنهل بعد نقل كلامه ما نصه: وقد يقال: إن ما ذكره من الشذوذ والعلة ليس بقادح في صحة الحديث، فإن انفراد الصحابي بحديث، وسكوت بقية الصحابة لا يستلزم رد ذلك الحديث، وإلا لسقط كثير من الأحاديث الصحيحة التي تفرد بها الصحابي، ولا يخفى بعده، وأما كونه موقوفا على ابن عمر من طريق مجاهد، فلا ينافي ما ثبت عن الثقات من رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ كلام صاحب المنهل 1/ 229.

قال الجامع عفا الله عنه:

إن ما حاول به العلامة ابن القيم لتضعيف هذا المتن غير واضح لمن تأمله، لأن صحة الحديث لا يشترط فيه أن ينقله جماعة، بل إذا كان منقولا عن صحابي واحد، واتصل السند إليه بالعدول الضابطين فهو صحيح، فانفراد صحابي بنقله لا يكون علة، وكذلك كونه موقوفا عليه لا ينافي ما رواه مرفوعا لصحة أن يروي المرفوع في وقت، ويسئل عن الحكم، فيفتي في وقت آخر، وأيضا إذا تعارض الرفع والوقف قدم الرفع على الأرجح، لا سيما وقد رفعه اثنان عبيد الله وعبد الله والواقف مجاهد فقط.

والحاصل أن الذهب الراجح هو مذهب من يرى العمل بحديث القلتين لصحته، والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 27

‌45 - تَرْكُ تَوْقيِتِ المَاءِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على ترك التوقيت في الماء، وتقدم معنى التوقيت في الباب السابق.

53 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْقَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"دَعُوهُ، لَا تُزْرِمُوهُ". فَلَمَّا فَرَغَ دَعَا بِدَلْوٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: يَعْنِي: لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ.

54 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: بَالَ أَعْرَابِيٌّ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ.

55 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى الْمَسْجِدِ فَبَالَ، فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اتْرُكُوهُ".

ص: 28

فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ أَمَرَ بِدَلْوٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ.

56 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ".

رجال الأسانيد الأربعة 15 شخصا

الإسناد الأول فيه 4:

1 -

(قتيبة) بن سعيد أبو رجاء البغلاني، ثقة [10] تقدم في 1/ 1.

2 -

(حماد) بن زيد بن درهم، أبو إسماعيل البصري الثقة المثبت [8] تقدم في 3/ 3.

3 -

(ثابت) بن أسلم البناني (بضم الموحدة وبنونين) مولاهم أبو محمد البصري أحد الأعلام ثقة عابد من الرابعة، عن ابن عُمَر، وعبد الله بن المغفل، وأنس وخلق من التابعين، وعنه شعبة، والحمادان، ومعمر، قال ابن المديني: له نحو مائتين وخمسين حديثا، وقال حماد بن زيد: ما رأيت أعبد من ثابت، وقال شعبة: كان يختم

ص: 29

في كل يوم وليلة، ويصوم الدهر، وثقه النسائي، وأحمد، والعجلي، قال ابن علية: مات سنة 127 وقيل سنة 3 عن 86 سنة، أخرج له الجماعة.

4 -

(أنس) بن مالك أبو حمزة، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم رضي الله عنه في 6/ 6.

الإسناد الثاني فيه 4 أيضا:

1 -

قتيبة المتقدم.

2 -

(عَبيدة) بفتح العين، بن حميد بن صهيب الكوفي أبو عبد الرحمن، صدوق، نحوي، ربما أخطأ [8] تقدم في 13/ 13.

3 -

(يحيى بن سعيد) الأنصاري أبو سعيد المدني ثقة [5] تقدم في 22/ 23.

4 -

(أنس بن مالك) رضي الله عنه المذكور آنفا.

الإسناد الثالث فيه 4 أيضا:

1 -

(سويد بن نصر) المروزي أبو الفضل المعروف بالشاه، عن ابن المبارك وابن عيينه وعنه (ت س) ووثقه، قال البخاري: مات سنة 240.

2 -

(عبد الله) بن المبارك الإمام الجليل الثقة المروزي [8] تقدم في 32/ 36.

3، 4 - يحيى بن سعبد، وأنس، تقدما.

الإسناد الرابع فيه سبعة:

1 -

(عبد الرحمن بن إبراهيم) بن عمرو بن ميمون الأموي، مولى آل عثمان، أبو سعيد الدمشقي القاضي دُحَيْم الحافظ عن معروف الخياط

(1)

(1)

هو معروف بن عبد الله الخياط، أبو الخطاب الدمشقي ضعيف من الخامسة، وكان معمرا، عاش-130، أو أزيد أهـ "ت".

ص: 30

التابعي، وابن عيينة، والوليد بن مسلم، وخلق، وعنه (خ دس ق)

(1)

قال النسائي: ثقة مأمون، قال أبو داود: حجة لم يكن بدمشق في زمنه مثله، قال ابنه عمرو: ولد سنة 170، مات سنة 245.

2 -

(عمر بن عبد الواحد) بن قيس السلمي، أبو حفص الدمشقي، عن الأوزاعي، والنعمان بن المنذر، وعنه داود بن رُشَيد، وإسحاق، وثقه العجلي، قال دُحَيم: مات سنة 200 روى له أبو داود، والنسائي، وابن ماجَهْ.

3 -

(الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو، أبو عمرو الشامي، الإمام العلم من [7] عن عطاء، وابن سيرين، ومكحول، وقتادة، ونافع، وخلق، وعنه يحيى بن أبي كثير شيخه، وبقية، وهِقْل بن زياد، ويحيى ابن حمزة، وأمم، قال ابن مهدي: إمام، وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونا فاضلا خيرا، كثير الحديث والعلم، والفقه، قال إسحاق: إذا اجتمع الأوزاعي، والثوري، ومالك على الأمر فهو سنة، وقال ضمرة: هو حميري، وقال أبو زرعة: أصله من سبي السند، توفي سنة 157، أخرج له الجماعة.

والأوزاعي: نسبة إلى الأوزاع قرى متفرقة بالشام، فجمعت، وقيل لها الأوزاع، والأوزاع التي ينسب إليها أبو عمرو قرية خارج باب الفراديس.

وقال في اللباب بعد ما نقل ما ذكرنا ما نصه: والصواب أن الأوزاع بطن من ذي الكلاع من اليمن، وقيل الأوزاع بطن من هَمْدان، نزلوا بالشام، فنسبت القرى التي سكنوها إليهم والله أعلم. اهـ بتصرف واختصار. جـ 1 ص 92 - 93.

4 -

(محمد بن الوليد) بن عامر الزبيدي بالضم، أبو الهذيل

(1)

زاد في تهذيب التهذيب مسلما، ولم يذكره في تهذيب الكمال، ولم يرمز له في صه، ولا "ت"

ص: 31

القاضي الحمصي، أحد الأعلام من [7] عن مكحول، والزهري، ونافع، وخلق، وعنه الأوزاعي، وشعيب بن أبي حمزة، ومحمد بن حرب، وخلق، وثقه ابن معين، وقال أبو داود: ليس في حديثه خطأ،

قال ابن سعد: مات سنة 148 روى له البخاري، ومسلم، وأبو داود والنسائي، وابن ماجه.

5 -

(الزهري) أبو بكر محمد بن مسلم الإمام الحجة المشهور من [4] تقدم في 1/ 1.

6 -

(عبيد الله بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله المدني الأعمى الفقيه أحد الفقهاء السبعة من [3] عن عمر، وابن مسعود مرسلا، وعن أبيه، وعائشة، وعنه أخوه عون، وعراك بن مالك، والزهري، وأبو الزناد، وخلق، قال أبو زرعة: ثقة مأمون، إمام، وقال العجلي: كان جامعا للعلم، قال البخاري: مات سنة 94، وقال ابن نمير سنة 8 وقال ابن المديني سنة 9، أخرج له الجماعة.

وقد تقدم أنه أحد الفقهاء السبعة المجموعين في قول بعضهم (من الطويل):

إِذَا قِيلَ مَنْ فِي العِلْمِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ

مَقَالتُهُمْ ليْسَتْ عَنِ الحَقِّ خَارِجَهْ

فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللهِ عُرْوَةُ قَاسِمُ

سَعيِدُ أبُو بكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ

7 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في 1/ 1.

لطائف الأسانيد

الأول: أنه من رباعياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء وهم ما بين بغلاني، وهو الأول، وبصريين، وهم الباقون.

والثاني: أيضا من رباعياته، وكلهم ثقات أجلاء، وهم ما بين بغلاني، وهو الأول، وكوفي وهو عبيدة، ومدني وهو يحيى، وبصري وهو أنس.

ص: 32

والثالث: أيضا من رباعياته، وكلهم ثقات وهم ما بين مروزيَّين، وهما سُوَيد، وعبد الله، ومدني وهو يحيى، وبصري وهو أنس.

والرابع: من سباعايته ورواته كلهم ثقات وكلهم شاميون، إلا عبيد الله، وأبا هريرة فمدنيان، والزهري وإن كان مدنيا إلا أنه سكن الشام.

شرح الحديث

حديث أنس الأول:

(أن أعراببا) أي رجلا واحدا من الأعراب.

قال في المصباح: الأعراب بالفتح، أهل البدو من العرب، الواحد أعرابي، بالفتح أيضا، وهو الذي يكون صاحب نُجْعة

(1)

وارتياد للكلأ، وزاد الأزهري: فقال: سواء كان من العرب، أو من مواليهم قال: فمن نزل البادية، وجاور البَادينَ وظعن بظعنهم فهم أعراب، ومن نزل بلاد الرِّيف، واستوطن المُدُن والقرى العربية وغيرها، ممن ينتمي إلى العرب، فهم عَرَب، وإن لم يكونوا فصحاء. اهـ.

قال الجامع:

فالياء: هي التي يفرق بها بين الواحد واسم الجنس الجمعي كما في روم ورومي، ويهود ويهودي، ومجوس ومجوسي.

واسم هذا الأعرابي: حُرْقُوص بن زُهَير ذو الخويصرة التميمي، وقيل عُيَيْنة بن حصْن الفزاري، قال الحافظ في الفتح عند قول البخاري (قام أعرابي) ما نصه: زاد ابن عيينة عند الترمذي، وغيره في أوله أنه صلى، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد تحجرت واسعا" فلم يلبث أن بال في المسجد.

(1)

النجعة كالغرفة اسم من نجع ينجع، كنفع ينفع، إذا ذهب لطلب الكلأ في موضعه، أفاده في المصباح.

ص: 33

وهذه الزيادة ستأتي عند المصنف (يعني البخاري) مفردة في الأدب من طريق الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وقد روى ابن ماجه، وابن حبان الحديث تاما من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وكذا رواه ابن ماجه من حديث واثلة بن الأسقع.

وأخرجه أبو موسى المديني في الصحابة من طريق محمد بن عمرو بن عطاء، عن سليمان بن يسار، قال: إذ طلع ذو الخويصرة اليماني، وكان رجلا جافيا، فذكره تاما بمعناه، وزيادة، وهو مرسل، وفي إسناده أيضا مبهم بين محمد بن إسحاق، وبين محمد بن عمرو بن عطاء وهو عنده من طريق الأصم عن أبي زرعة الدمشقي، عن أحمد بن خالد الذهبي عنه، وهو في جمع مسند ابن إسحاق لأبي زرعة الدمشقي من طريق الشاميين عنه بهذا السند، لكن قال في أوله: اطلع ذو الخويصرة التميمي، وكان جافيا، والتميمي هو حرقوص بن زهير الذي صار بعد ذلك من رؤوس الخوارج، وقد فرق بعضهم بينه وبين اليماني، لكن له أصل أصيل، واستفيد منه تسمية الأعرابي.

وحكى أبو بكر التاريخي عن عبد الله بن نافع المزني: أنه الأقرع بن حابس التميمي، ونقل عن أبي الحسين بن فارس أنه عيينة بن حصن، والعلم عند الله. اهـ. كلام الحافظ في فتحه 1/ 387.

(بال في المسجد) أي النبوي، فأل للعهد الذهني.

(فقام عليه بعض القوم) أي ليزجروه عن إتمام بوله.

(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوه") أي اتركوه، أمر من وَدَعَ يَدَع وَدْعًا: إذا تَرَك، وأصل المضارع الكسر ومن ثم حذفت الواو، ثم فتح لمكان حرف الحلق، قال بعض المتقدمين: وزعمت النحاة أن العرب أماتت ماضي يَدعَ ومصدره، واسم الفاعل، وقد قرأ مجاهد، وعروة

ص: 34

ومقاتل، وابن أبي عَبْلَة، ويزيد النحوي {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] بالتخفيف، وفي الحديث:"لينتهين قوم عن ودعهم الجمعات" أي عن تركهم، فقد رويت هذه الكلمة عن أفصح العرب، ونقلت من طريق القراء فكيف يكون إماتة، وقد جاء في الماضي في بعض الأشعار، وما هذه سبيله، فيجوز القول بقلة الاستعمال، ولا يجوز القول بالإماتة. اهـ. المصباح.

(ولا تزرموه) بفتح التاء وضمها ثلاثيا ورباعيا، قال في اللسان: وزَرَمَ يَزرِمه زَرْمًا، يعني من باب ضرب، وأزرمه يعني بالألف وزَرَّمه يعني مضعفا: قطعه، وقال أيضا: يقال للرجل إذا قطع بوله: قد أزرمت بولك، وأزرمه غيره: أي قطعه. اهـ باختصار.

أي: لا تقطعوا عليه بوله.

وإنما أمرهم بتركه يبول في المسجد لأنه شرع في المفسدة، فلو منع لزادت، إذ حصل تلويث جزء من المسجد، فلو منع لدار بين أمرين: إما أن يقطعه فيتضرر، وإما أن لا يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه، أو

ثوبه، أو مواضع أخرى من المسجد. قاله في الفتح جـ 1/ ص 386.

(فلما فرغ) أي انتهى من بوله.

(دعا بدلو من الماء) أي طلب النبي صلى الله عليه وسلم دلوا مملوءا بماء، قال في اللسان: الدلو معروفة واحدة الدلاء التي يُسْتَقَى بها، تذكر وتؤنث، والتأنيث أكثر. اهـ. باختصار.

(فصبه) أي سكب الماء الذي في الدلو، يقال: صببت الماء، فانصب أي سكبته فانسكب، والماء ينصب من الجبل، أي ينحدر، قاله العيني.

(عليه) أي على محل بوله.

وفي رواية البخاري: "فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء

ص: 35

فأهريق عليه" وفي رواية لمسلم "فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو فسنه عليه" بالسين المهملة، ويروى بالمعجمة، وهو رواية الطحاوي أيضا، والفرق بينهما أن السَّنَّ بالمهملة: الصَّبُّ المتصل، وبالمعجمة: الصب المتقطع، قاله ابن الأثير.

والذنوب بفتح الذال المعجمة: الدلو العظيمة، وقيل لا يسمى ذنوبا إلا إذا كان فيه ماء، قاله العلامة العيني في عمدته جـ 2/ ص 442.

(قال أبو عبد الرحمن) أي المصنف والظاهر أنه ملحق من بعض التلاميذ، ويحتمل أنه من كلامه مفسرا لقوله "لا تزرموه" (يعني) أي يقصد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"ولا تزرموه"(لا تقطعوا عليه) البول.

وقوله في الحديث الثاني (فصب عليه) بالبناء للمفعول، وقوله في الحديث الثالث (فصاح به الناس) قال في المصباح: صاح بالشيء يصيح به صيحة أي بالفتح، وصيَاحا أي بالكسر: صَرَخَ. اهـ، أي رفعوا

أصواتهم بزجره، ففي رواية مسلم، فقالوا:(مه مه)

وقوله (حتى بال) أي انتهى من بوله.

وقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه (قام أعرابي) أي من مجلسه من المسجد، ففي رواية الترمذي وغيره، أنه صلى ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد تحجرت واسعا، فلم يلبث أن بال في المسجد.

(فتناوله الناس) أي أصابوا منه الوقيعة، يقال: نال فلان من فلان: أي أصاب منه الوقيعة، يعني أنهم وقعوا فيه، والمراد تناوله بألسنتهم، لا بأيديهم، لما في رواية مسلم، فقال الصحابة:(مه مه).

قال السندي: أو أرادوا أن يتناولوه بأيديهم، فقد قاموا إليه. اهـ.

قوله: (وأهريقوا) أي صبوا، وأصله أريقوا، أمرًا من أراق يُريق إذا صب.

ص: 36

قال في المصباح: راقَ الماءُ والدمُ وغيره رَيْقًا، من باب باع: انصب، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أراقه صاحبه، والفاعل مُريق والمفعول مُرَاق.

وتبدل الهمزة هاء، فيقال: هَرَاقَه، والأصل هَرْيَقَه وزان دَحْرَجَه، ولهذا تفتح الهاء من المضارع، فيقال: يُهَريقه، كما تفتح الدال من يدحرجه، وتفتح من الفاعل، والمفعول أيضا فيقال مُهَريق ومُهَراق، والأمر هَرِق ماءَك، والأصل هَرْيقْ وزان دَحْرج.

وقد يجمع بين الهاء والهمزة، فيقال: أهْرَاقه يُهْريقُه ساكن الهاء تشبيها له بأسْطاع يُسْطيع، كأن الهمزة زيدت عوضا عن حركة الياء في الأصل ولهذا لا يصير الفعل بهذه الزيادة خماسيا.

وفي التهذيب من قال: أهْرَقْت، فهو خطأ في القياس، ومنهم من يجعل الهاء كأنها أصل ويقول: هَرَقْته هَرْقًا من باب نفع، وفي الحديث "أن امرأة كانت تُهَرَاق الدماءَ" بالبناء للمفعول، والدماء نصب على التمييز، ويجوز الرفع على إسناد الفعل إليها، والأصل تهراق دماؤها، ولكن جعلت الألف والسلام بدلا عن الإضافة كقوله تعالى:{عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] أي نكاحها. اهـ. عبارة المصباح ببعض اختصار.

وقال ابن التين: "أهْريقوا" بإسكان الهاء، ونقل عن سيبويه أنه قال: أهْرَاق يُهْريق إهْريَاقًا، مثل أسْطاع يُسْطيع اسْطيَاعا بقطع الألف وفتحها في الماضي، وضم الياء في المستقبل، وهي لغة في أطَاع يُطيع، فجعلت السين والهاء عوضا من ذهاب حركة عين الفعل، قال: وروي بفتح الهاء ووجه بأنها مبدلة من الهمزة، لأن أصل هراق أراق ثم اجتبلت الهمزة، وسكنت الهاء عوضا عن حركة عين الفعل كما تقدم، فتحريك الهاء على إبقاء البدل والمبدل منه، وله نظائر.

ص: 37

وذكر الجوهري: توجيها آخر، أن أصله أأريقه فأبدلت الهمزة الثانية هاء للخفة، وجزم ثعلب في الفصيح بأن أهريقه بفتح الهاء، نقله السيوطي في الزهر جـ 1/ ص 48.

(دلوا من ماء) من زائدة، زيدت للتأكيد، كما قال الكرماني.

ثم بين سبب أمره لهم بتركه بقوله (فإنما بعثتم) أي بعث نبيكم على حذف مضاف، قاله السندي، وقال السيوطي: إسناد البعث إليهم على طريق المجاز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المبعوث بما ذكر، لكنهم لما كانوا في مقام التبليغ في حضوره وغيبته أطلق عليهم ذلك، أو هُمْ يبعثون من قبَله بذلك مأمورون، وكان ذلك شأنه صلى الله عليه وسلم في حق كل من بعثه إلى جهة من الجهات يقول:"يسروا ولا تعسروا" اهـ زهر جـ 1/ ص 49.

وقال السندي: ويحتمل أن يكون إشارةً إلى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية [آل عمران: 110] فيكون ذلك بمنزلة البعث. اهـ.

(مبسرين) حال من الضمير النائب.

(ولم تبعثوا معسرين) قال العلامة العيني: ما معناه: فائدة هذه الجملة تأكيدُ مَا قبله دلالةً على أن الأمر مبني على اليسر قطعا اهـ عمدة جـ 2/ ص 446.

قال الجامع:

يعني أن أمر الشريعة ميسر، لا يتطرق إليه عسر بوجه من الوجوه، نظير قوله تعالى {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102] أي هو ضرر محض، لا يشوبه نفعٌ مَا، فرب شيء يكون ضارّا، ويكون فيه نفع كبعض الأدوية.

ص: 38

مسائل تتعلق بحديثي الباب

المسألة الأولى: في درجتهما:

أما حديث أنس فمتفق عليه، وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف لهما:

أخرج حديث أنس: هنا 53، 54، 55، وفي الكبرى 51، 52، 53، بهذه الأسانيد، وأخرج حديث أبي هريرة هنا 56، وفي الكبرى 54 بهذا السند، وأخرجه في الصلاة أيضا عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن به، ولم يذكر قصة البول. قاله المزي.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجهما معه:

أما حديث أنس: فأخرجه البخاري في الطهارة عن موسى بن إسماعيل، عن همام، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس، وأخرجه عن عبدان، عن ابن المبارك، عن يحيى بن سعيد، عنه. وأخرجه مسلم في الطهارة أيضا عن زهير بن حرب، عن عمرو بن يونس، عن عكرمة بن عمار، عن إسحاق، عنه، وعن أبي موسي عن يحيى القطان، وعن يحيى بن يحيى، وقتيبة كلاهما عن عبد العزيز بن عمر.

وأخرجه الترمذي أيضا عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، عن سفيان بن عيينة.

قال العلامة العيني: وفات المزي هذا في الأطراف.

وأما حديث ابي هريرة: فأخرجه البخاري في الطهارة عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عنه، وأخرجه أيضا في الأدب عن أبي اليمان به.

ص: 39

وأخرجه أبو داود من حديث الزهري عن سعيد، عن أبي هريرة.

وأخرجه الترمذي في آخر الطهارة عن ابن أبي عمر، وسعيد بن عبد الرحمن عنه به.

المسألة الرابعة: في بيان الفوائد:

قال الحافظ في الفتح: وفي هذا الحديث من الفوائد:

* أن الاحتراز من النجاسة كان مقررا في نفوس الصحابة ولهذا بادروا إلى الإنكار بحضرته صلى الله عليه وسلم قبل استئذانه، ولما تقرر عندهم أيضا من طلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

* واستدل به على جواز التمسك بالعموم إلى أن يظهر الخصوص، قال ابن دقيق العيد: والذي يظهر أن التمسك يتحتم عند احتمال التخصيص عند المجتهد، ولا يجب التوقف عن العمل بالعموم لذلك، لأن علماء الأمصار ما برحوا يفتون بما بلغهم من غير توقف على البحث عن التخصيص، ولهذه القصة أيضا إذ لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة، ولم يقل لهم: لم نهيتم الأعرابي؟ بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة، وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما.

* وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع، لأمرهم عند فراغه بصب الماء.

* وفيه تعيين الماء لإزالة النجاسة، لأن الجفاف بالريح، أو الشمس، لو كان يكفي لما حصل التكليف بطلب الدلو.

* وفيه أن غسالة النجاسة الواقعة على الأرض طاهرة، ويلتحق به غير الواقعة لأن البلَّة الباقية على الأرض غسالة نجاسة، فإذا لم يثبت أن

ص: 40

التراب نقل، وعلمنا أن المقصود من التطهير تعين الحكم بطهارةا البلة وإذا كانت طاهرة فالمنفصلة أيضا مثلها لعدم الفارق.

* ويستدل به أيضا على عدم اشتراط نضوب الماء لأنه لو اشترط نضوب الماء لتوقف طهارة الأرض على الجفاف، وكذا لا يشترط عصر الثوب إذ لا فارق.

قال الموفق في المغني بعد أن حكى الخلاف: الأولى الحكم بالطهارة مطلقا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط في الصب على بول الأعرابي شيئا.

* وفيه الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف، إذا لم يكن ذلك منه عنادا، ولا سيما إذا كان ممن يحتاج إلى استئلافه.

* وفيه رأفة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه، قال ابن ماجه وابن حبان في حديث أبي هريرة فقال الأعرابي بعد أن فقه في الإسلام: فقام إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي فلم يُؤَنِّبْ ولم يَسُبَّ.

* وفيه تعظيم المسجد وتنزيهه عن الأقذار، وظاهر الحصر من سياق مسلم في حديث أنس حيث قال له:"إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكلر الله تعالى والصلاة وقراءة القرآن" أنه لا يجوز في المسجد شيء غير ما ذكر من الصلاة، والقرآن والذكر، لكن الإجماع على أن مفهوم الحصر منه غير معمول به، ولا ريب أن فعل غير المذكورات، وما في معناها، خلاف الأولى، والله أعلم.

* وفيه أن الأرض تطهر بصب الماء عليها، ولا يشترط حفرها، خلافا للحنفية، حيث قالوا: لا تطهير إلا بحفرها، كذا أطلق النووي وغيره، والمذكور في كتب الحنفية التفصيل بين ما إذا كانت رخوة بحيث يتخللها الماء حتى يغمرها، فهذه لا تحتاج إلى حفر، وبين ما إذا كانت صلبة، فلابد من حفرها وإلقاء التراب؛ لأن الماء لم يَغْمُر أعلاها

ص: 41

وأسفلها، واحتجوا فيه بحديث جاء من ثلاث طرق أحدها موصول عن ابن مسعود أخرجه الطحاوي، لكن إسناده ضعيف، قاله أحمد وغيره، والآخران مرسلان أخرج أحدهما أبو داود من طريق عبد الله بن معقل ابن مُقَرِّن، والآخر من طريق سعيد بن منصور عن طريق طاوس ورواتها ثقات، وهو يلزم من يحتج بالمرسل مطلقا، وكذا من يحتج به إذا اعتضد مطلقا، والشافعي إنما يعتضد عنده إذا كان من رواية كبار التابعين، وكان من أرسل إذا سَمَّى لا يسمي إلا ثقة وذلك مفقود في المرسلين المذكورين على ما هو ظاهر من سنديهما والله أعلم. اهـ كلام الحافظ رحمه الله جـ 1/ ص 388 - 389.

وقال في تلخيص الحبير عند قوله: ولم يؤمر بنقل التراب ما نصه: يعني في الحديث المذكور، وهو كذلك، لكن قد ورد أنه أمر بنقله من حديث أنس بإسناد رجاله ثقات.

قال الدارقطني: ثنا ابن صاعد، ثنا عبد الجبار بن العلاء، ثنا ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن أنس أن أعرابيا بال في المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"احفروا مكانه ثم صبوا عليه ذنوبا من ماء" وأعله الدارقطني بأن عبد الجبار تفرد به دون أصحاب ابن عيينة الحفاظ، وأنه دخل عليه حديث في حديث، وأن عند ابن عيينة، عن عمرو بن دينار عن طاوس مرسلا وفيه "احفروا مكانه" وعن يحيى بن سعيد عن أنس موصولا، وليست فيه الزيادة، وهذا تحقيق بالغ إلا أن هذه الطريق المرسلة مع صحة إسنادها إذا ضمت إلى أحاديث الباب أخذت قوة، وقد أخرجها الطحاوي مفردة من طريق ابن عيينة عن عمرو، وعن طاوس، وكذا رواه سعيد بن منصور، عن ابن عيينة، فمن شواهد هذا المرسل، مرسل آخر رواه أبو داود، والدارقطني من حديث عبد الله بن معقل بن مقرن المزني، وهو تابعي، قال: قام أعرابي إلى زاوية من زوايا المسجد فبال

ص: 42

فيها، فقالى النبي صلى الله عليه وسلم:"خذوا ما بال عليه من التراب، فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء" قال أبو داود: روي مرفوعا يعني موصولا، ولا يصح، قلت: وله إسنادان موصولان:

أحدهما: عن ابن مسعود، رواه الدارمي، والدارقطني، ولفظه:"فأمر بمكانه، فاحتفر وصب عليه دلو من ماء" وفيه سمعان بن مالك، وليس بالقوي، قاله أبو زرعة، وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبي زرعة هو حديث منكر، وكذا قال أحمد، وقال أبو حاتم: لا أصل له

ثانيهما: عن واثلة بن الأسقع، رواه أحمد والطبراني، وفيه عبيد الله بن أبي حميد الهُذَلي وهو منكر الحديث، قاله البخاري، وأبو حاتم. اهـ كلام الحافظ في التلخيص جـ 1/ ص 37.

وقال في المنهل: بعد نقل نحو ما تقدم عن الحافظ ما نصه: وبهذا تعلم أن مذهب الجمهور القائلين بتطهير الأرض بصب الماء عليها مطلقا، هو الأقوى لقوة دليله. اهـ. جـ 1/ ص 258.

* واستدل بالحديث أيضا على نجاسة بول الآدمي، قال النووي رحمه الله: وهو مجمع عليه، بإجماع من يعتد به، ولا فرق بين الكبير والصغير، إلا أن بول الصغير يكفي فيه النضح، ولم يخالف في بول الصبي إلا داود الظاهري. ذكره في المنهل جـ 1/ ص 258.

المسألة الخامسة: أخذ المصنف رحمه الله من هذا الحديث من قوله "فصب عليه" أن الماء لا ينجس، وإن قل، فترجم عليه حيث قال (ترك التوقيت في الماء) وذلك لأن الدلو من الماء قليل، وقد صب على البول، فيختلط به، فلو تنجس الماء باختلاط البول يلزم أن يكون هذا تكثيرا للنجاسة لا إزالة لها، وهو خلاف المعقول، فلزم أن الماء لا يتنجس باختلاط النجس وإن قل.

ص: 43

قال السندي: وفيه بحث، أما أولًا: فيجوز أن يكون صب الماء عليه لدفع رائحة البول لا لتطهير المسجد، وتكون طهارته بالجفاف، والطهارة بالجفاف قول لعلمائنا الحنفية، وهو أقوى دليلا، ولذا مال إليه أبو داود في سننه، واستدل عليه بحديث بول الكلاب في المسجد.

وأما ثانيا: فيجوز أن يفرق بين ورود الماء علي النجاسة فيزيلها، وبين ورود النجاسة عليه، فتنجسه كما يقول به الشافعية.

وأما ثالثا: فيمكن أن يقال كانت الأرض رخوة فشربت البول، لكن بقي بظاهرها أجزاء البول، فحين صب عليه الماء تسفلت تلك الأجزاء، واستقر مكانها أجزاء الماء، فحيث كثر الماء، وجذب مرارا، كذلك ظاهرها وبقي مستقلا بأجزاء الماء الطاهرة، فصب الماء إذا كان على هذا الوجه لا يؤدي إلى طهارة ظاهر الأرض فليتأمل. اهـ كلام السندي جـ 1/ ص 48.

قال الجامع عفا الله عنه: الوجه الثاني هو القوي لقوة دليله، إذ حديث الباب واضح فيه، وكذا حديث "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس" الحديث، فإنه واضح في الفرق بين ورود النجاسة على الماء، ووروده عليها، فما ذهب إليه الشافعية هو الراجح.

وأما الوجه الأول: فغير واضح، فجفاف الأرض لا يطهرها لعدم ورود نص بذلك، وحديث بول الكلاب في المسجد ليس واضحا في ذلك للاحتمالات التي ذكروها هناك حتى إن بعض العلماء يرى عدم نجاسة بولها، وكذا الوجه الثالث غير واضح أيضا. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 44

‌46 - باب الماء الدائم

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حكم الماء الدائم، والدائم هو الراكد الذي لا يجري.

57 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ". قَالَ عَوْفٌ: وَقَالَ خِلَاسٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.

58 -

أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: كَانَ يَعْقُوبُ لَا يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ إِلاَّ بِدِينَارٍ.

ص: 45

رجال الإسناد الأول: ستة

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه الثقة الثبت [10] تقدم في 2/ 2.

2 -

(عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي الثقة [8] تقدم في 8/ 8.

3 -

(عوف) بن أبي جميلة العبدي أبو سهل الهجري البصري، المعروف بالأعرابي عن أبي العالية، وأبي رجاء، وأبي عثمان النهدي، وعنه غندر وشعبة، والنضر بن شميل، وخلق، وثقه النسائي، قال ابن سعد: مات سنة 146، أخرج له الجماعة.

واسم أبي جميلة بندويه، ويقال: بل بندويه اسم أمه، واسم أبيه رزينة اهـ تهذيب التهذيب، وفي التقريب: ثقة ورمي بالقدر وبالتشيع من السادسة، أخرج له الجماعة.

قال الجامع عفا الله عنه: وقد استوفى أقوال العلماء فيه الحافظُ الذهبي في "ميزان الاعتدال"، والحافظ في "تهذيب التهذيب" والذي يظهر أنه يكون في مرتبة الصدوق، لا في مرتبة الثقة على الإطلاق، كما

صرح به مسلم.

4 -

(محمد) بن سيرين الأنصاري مولاهم، أبو بكر البصري، إمام وقته، عن مولاه أنس، وزيد بن ثابت، وعمران بن حصين، وأبي هريرة، وعائشة، وطائفة من كبار التابعين، وعنه الشعبي، وثابت، وقتادة، وأيوب، ومالك بن دينار، وسليمان التيمي، وخالد الحذاء، والأوزاعي، وخلق كثير، قال أحمد: لم يسمع من ابن عباس، وقال خالد الحذاء: كل شيء يقول: يثبت عن ابن عباس إنما سمعه من عكرمة أيام المختار، قال ابن سعد: كان ثقة مأمونا عاليا، رفيعا فقيها،

ص: 46

إماما، كثير العلم.

وقال أبو عوانة: رأيت ابن سيرين في السوق، فما رآه أحد إلا ذكر الله تعالى.

وقال بكر المزني: والله ما أدركنا من هو أورع منه، وروي أنه اشترى بيتا فأشرف فيه على ثمانين ألف دينار، فعرض في قلبه منه شيء فتركه.

وقال جرير بن حازم: سمعت محمدا يقول: رأيت الرجل الأسود، ثم قال: أستغفر الله، ما أرانا إلا اغتبناه. وروي أنه كان يصوم يوما ويفطر يوما.

قال حماد بن زيد: مات سنة 110، وأخرج له الجماعة، وفي (ت) ثقة عابد كبير القدر، لا يرى الرواية بالمعنى، من الثالثة.

5 -

(خِلَاس) بكسر أوله ابن عمرو الهَجَري بفتحتين، البصري، عن علي وعمار، وعائشة، وأبي هريرة. وعنه قتادة، وعوف بن أبي جميلة. قال أحمد: ثقة ثقة، قال أبو داود: لم يسمع من علي، وسمعت

أحمد يقول: لم يسمع من أبي هريرة، قلت: حديثه عنه عند (خ) مقرونا، أخرج له الجماعة. وفي (ت) ثقة، يرسل، من الثانية، وصح سماعه من عمار.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1.

رجال الإسناد الثاني: خمسة

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدورقي أبو يوسف العبدي البغدادي الثقة [10] تقدم في 21/ 22.

2 -

(إسماعيل) بن إبراهيم المعروف بابن علية البصري، ثقة حافظ

ص: 47

[8]

تقدم في 18/ 19.

3 -

(يحيى بن عَتِيق) بفتح فكسر الطُّفاوي

(1)

البصري، عن مجاهد، والحسن، وعنه الحمادان، وعبد العزيز بن المختار، وثقه أحمد، وابن معين، علق له البخاري، وأخرج له مسلم وأبو داود، والمصنف، وفي (ت) ثقه، من السادسة.

4، 5 - محمد بن سيرين، وأبو هريرة، تقدما في السند السابق.

لطائف الإسنادين

من لطائف الإسناد الأول:

أنه من خماسياته، وأن رواته ثقات، وهم ما بين مروزي، وكوفي وبصريين ومدني.

وأن لعوف شيخين محمد وخلاس، كلاهما عن أبي هريرة.

ومن لطائف الثاني:

أنه من خماسياته أيضا، وأن رواته كلهم ثقات، وهم ما بين بغدادي، وبصربين، ومدني.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: لا يبولن) بفتح اللام وبنون التوكيد الثقيلة، وفي رواية ابن ماجه "لا يبول" بغير تأكيد، قاله العيني.

(أحدكم) أيتها الأمة، فيشمل الذكر والأنثى، وأتى بصيغة خطاب المذكر تغليبا، وإلا فلا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى أفاده في المنهل جـ 1/ ص 244.

(1)

الطفاوي -بضم الطاء-: نسبة إلى طفاوة بنت جرم.

ص: 48

(في الماء الدائم) أي الساكن، قال في اللسان: دام الشيء يدُوم، ويدَاَم، قال (من الرجز):

يَا مَيَّ لا غَرْوَ وَلا مَلَامَا

في الحُبِّ إنَّ الحُبَّ لَنْ يَدَامَا

قال كراع: دام يدوم فَعَل يَفْعَلُ، وليس بقوي، دَوْما ودَوَاما وديمومة، قال أبو الحسن: في هذه الكلمة نظر، ذهب أهل اللغة في قولهم: دِمْتَ تَدُوم إلى أنها نادرة كمِتَّ تموتُ، وفَضِل يَفضُل، وحَضِرَ يَحضُر، وذهب أبو بكر إلى أنها متركبة، فقال: دُمتَ تَدُوم، كقُلت تقول، ودِمْتَ تَدَام كخِفت تَخَاف، ثم تركبت اللغتان فظن قوم أن تَدُوم على دِمت، وتدام على دُمت، ذهابا إلى الشذوذ، وإيثارا له، والوجه ما تقدم من أن تدام على دِمت، وتدوم على دُمت، وما ذهبوا إليه من تشذيذ دِمت تدُوم أخف مما ذهبوا إليه من تسويغ دُمت تَدَام، إذ الأُولى ذات نظائر، ولم يعرف من هذه الأخيرة إلا كُدت تَكَاد، وتركيب اللغتين باب واسع كقَنَطَ يَقْنَطُ، وركَن يَرْكَن، فيحمله جهال أهل اللغة على الشذوذ. اهـ لسان. جـ 2 ص 1457.

وقال العلامة العيني بعد ما نقل نحو ما تقدم عن ابن سيده ما نصه: وأصله من الاستدارة، وذلك أن أصحاب الهندسة يقولون: إن الماء الدائم إذا كان بمكان، فإنه يكون مستديرا في الشكل، ويقال الدائم

الواقف الذي لا يجري. اهـ عمدة جـ 3/ ص 48.

وفي رواية البخاري بعد قوله "الدائم" زيادة "الذي لا يجري"، قال الحافظ: قيل: هو تفسير "الدائم" وإيضاح لمعناه، وقيل: احترز به عن راكد يجري بعضه كالبِرَك، وقيل: احترز به عن الماء الدائر لأنه جار من حيث الصورة ساكن من حيث المعنى.

ولهذا لم يذكر هذا القيد في رواية أبي عثمان، عن أبي هريرة التي

ص: 49

تقدمت الإشارة إليها، حيث جاء فيها بلفظ الراكد بدل الدائم، وكذا أخرجه مسلم من حديث جابر، وقال ابن الأنباري: الدائم من حروف الأضداد، يقال للساكن، والدائر، ومنه أصاب الرأس دوام أي دوار، وعلى هذا فقوله:"الذي لا يجري"، صفة مخصصة لأحد معنى المشترك، وقيل الدائم، والراكد مقابلان للجاري، لكن الدائم الذي له نبع، والراكد الذي لا نبع له. اهـ فتح جـ 1/ ص 413.

(ثم يتوضأ منه) وفي الرواية الثانية "ثم بغتسل منه" وهي رواية البخاري، وغيره، ثم المشهور رفع الفعل، فتكون الجملة خبرا لمبتدإ محذوف، أي ثم هو يتوضأ منه، والجملة بمنزلة علة النهي، أي لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، لأنه يتوضأ منه، أو يغتسل منه بعدُ، و"ثُمَّ" للاستبعاد، فكأنه قال: كيف يبول فيه، وهو يحتاج إليه للوضوء أو الغسل، أفاده في المنهل.

وقال الحافظ في الفتح: قوله "ثم يغتسل منه" بضم اللام على المشهور، وقال ابن مالك: يجوز الجزم عطفا على "يبولن" لأنه مجزوم الموضع بلا الناهية، ولكنه بني على الفتح لتوكيده بالنون، ومنع من ذلك القرطبي فقال: لو أراد النهي لقال: ثم لا يغتسلن فيه، فحينئذ يتساوى الأمران في النهي عنه لأن المحل الذي تواردا عليه شيء واحد وهو الماء، قال: فعدوله عن ذلك يدل على أنه لم يرد العطف، بل نبه على مآل الحال، والمعنى أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه، فيمتنع عليه استعماله، ومَثَّلَه بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يضربن أحدكم امرأته ضرب الأمة ثم يضاجعها" فإنه لم يروه أحد بالجزم، لأن المراد النهي عن الضرب، لأنه يحتاج في مآله إلى مضاجعتها، فتمتنع لإساءته إليها، فلا يحصل له مقصوده، وتقدير اللفظ ثم هو يضاجعها، وفي حديث الباب "ثم هو يغتسل منه".

ص: 50

وتعقب بأنه لا يلزم من تأكيد النهي، أن لا يعطف عليه نهي آخر غير مؤكد، لاحتمال أن يكون للتأكيد في أحدهما معنى ليس للآخر.

قال القرطبي: ولا يجوز النصب إذ لا تضمر "أن" بعد "ثم"، وأجازه ابن مالك بإعطاء "ثم" حكم الواو، وتعقبه النووي بأن ذلك يقتضي أن يكون المنهي عنه الجمع بين الأمرين دون إفراد أحدهما، وضعفه ابن دقيق العيد، بأنه لا يلزم أن يدل على الأحكام المتعددة لفظ واحد، فيؤخذ النهي عن الجمع بينهما من هذا الحديث إن ثبتت رواية النصب، ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر، قال الحافظ: وهو ما رواه مسلم من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن البول في الماء الراكد" وعنده من طريق أبي السائب، عن أبي هريرة بلفظ "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" وروى أبو داود النهي عنهما في حديث واحد، ولفظه "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة" اهـ فتح جـ 1/ ص 413 - 414. قال في المنهل جـ 1/ ص 244 ما حاصله، وقد أجاب عن ابن مالك أيضا ابن هشام بأنه إنما أراد إعطاء "ثُمَّ" حكم الواو في النصب، لا في المعية، وأيضا فإن ما أورده النووي إنما جاء من قبيل المفهوم لا المنطوق، وقد قام دليل آخر على عدم إرادته، ثم ذكر نحو ما تقدم عن ابن دقيق العيد وكلام الحافظ.

قال: والحاصل: أنه قد ورد النهي عن كل منهما على انفراده، وهو يستلزم النهي عن فعلهما جميعا بالأولى، وقد ورد النهي عن الجمع بينهما، كما في رواية أبي داود المتقدمة، وكذا في هذه إن صحت الرواية بالنصب، ويكون دالا على النهي عن كل واحد على رواية الجزم، أما على رواية الرفع فيكون المنهي عنه البول في الماء لما يترتب عليه من نجاسته أو النفرة منه، فلا يغتسل منه عند الحاجة إليه، وتقدم هذا في حديث "لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يغتسل فيه" اهـ المنهل بتصرف.

ص: 51

وقوله (منه) أي من الماء الدائم، وهو هكذا في رواية البخاري من طريق أبي الزناد، وكذا لمسلم من طريق ابن سيرين، وفي رواية للبخاري من طريق أخرى "ثم يغتسل فيه"، وكل من اللفظين يفيد حكما

بالنص، وحكما بالاستنباط، قاله ابن دقيق العيد.

قال الحافظ: ووجهه أن الرواية بلفظ "فيه" تدل على منع الانغماس بالنص، وعلى منع التناول بالاستنباط، والرواية بلفظ "منه" بعكس ذلك، وكله مبني على أن الماء ينجس بملاقاة النجاسة، والله أعلم اهـ فتح جـ 1/ ص 415.

(قال عوف) أي ابن أبي جميلة الأعرابي بالسند السابق.

(قال خِلَاس) بكسر الخاء ابن عمرو البصري الهَجَري (عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثلَه) بالنصب مقول القول، لأن القول ينصب ما كان في معني الجملة، وإن كان مفردا، كقلت قصيدة، قاله العلامة الخضري في حاشيته على ابن عقيل: والقول إذا كان بمعنى التلفظ لا ينصب إلا الجمل كقلت: جاء زيد، أو مفردا في معناها، كقلت قصيدة أو شعرا، أو مفردا قصد لفظه، نحو {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60] أو مفردا مسماه لفظ كقلت: كلمة، أي لفظ رجل مثلا.

وقال العلامة الأمير في حواشي الشذور: الأسهل أن يقال: القول

إنما يتوجه للَّفظ جملةً كان، أو غيرها، فقلت جاء زيد، معناه قلت: هذا اللفظ، فإن توجه للمعنى كان بمعنى الاعتقاد، كقلت بأن النية واجبة، وإن كان اللفظ مسماه لفظا، توجه للدال، أو المدلول كقلت: كلمة، أو قصيدة، يحتمل قلت: هذا اللفظ، أو قلت معناه، وهو لفظ رجل مثلا أو اللفط المنظوم اهـ. خضري جـ 1/ ص 7.

وحاصل المعنى: أن عوفا يروي هذا الحديث عن شيخين: محمد بن

ص: 52

سيرين، وخلَاس بن عمرو، فأما محمد، فاللفظ المذكور له، وأما خلاس فلفظه مماثل للفظ محمد.

فائدة:

قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ رحمه الله: إن مما يَلزَمُ الحَديثيّ من الضبط والإتقان أن يفرق بين مثله ونحوه، فلا يحل أن يقول مثله، إلا إذا علم أنهما اتفقا في اللفظ، ويحل له أن يقول نحوه إذا كان بمعناه،

نقله في التقريب، وشرحه التدريب جـ 2/ ص 120، وإلى هذا أشار السيوطي في ألفيته فقال:

الحْاكمُ اخْصُصْ نَحْوَهُ بالمعْنَى

ومثْلَهُ باللَّفْظ فَرْقٌ يُعْنَى

فمراد المصنف أن محمدا، وخلاسا اتفقا في لفظ الحديث، فعلى هذا فاللفظ المذكور لهما فتنبه.

(قال أبو عبد الرحمن) النسائي رحمه الله (كان يعقوب) بن إبراهيم الدورقي شيخه.

(لا يحدث بهذا الحديث) أي حديث أبى هريرة في البول في الماء الدائم (إلا بدينار) أي بأخذ دينار ممن يحدثه؛ لأنه كان يَرَى جواز أخذ الأجرة على التحديث وهي مسألة خلافية بين العلماء.

قال النووي: في التقريب: من أخذ على التحديث أجرا لا تقبل روايته عند أحمد، وإسحاق، وأبي حاتم الرازي، وتقبل عند أبي نعيم الفضل بن دُكَين، وعلي بن عبد العزيز، وآخرين، وأفتى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أبا الحسن ابن النَّقُّور بجوازها؛ لأنه ممن امتنع عليه الكسب لعياله بسبب التحديث، ويشهد له جواز أخذ الوصي الأجرة من مال اليتيم إذا كان فقيرا أو اشتغل بحفظه عن الكسب من غير رجوع لظاهر القرآن. اهـ تقريب مع شرحه التدريب جـ 1/ ص 337 - 338.

ص: 53

وسيأتي قريبا في المسائل تتميم الكلام على هذه المسألة إن شاء الله تعالى.

مسائل تتعلق بحديث هذا الباب

المسألة الأولى في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 57، 58، وفي الكبرى 55، 56، 57 بالأسانيد المذكورة.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه البخاري عن طريق الأعرج عن أبي هريرة، وأخرجه مسلم، وأبو داود عن طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، وأخرجه الترمذي عن طريق همام بن منبه، عن أبي هريرة، وأخرجه ابن ماجه عن طريق ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة وأخرجه مسلم أيضا من حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه نهى أن يبال في الماء الراكد" وأخرجه الطحاوي أيضا، وابن ماجه، والطبراني في الأوسط، وأخرجه ابن ماجه أيضا، من حديث نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدكم في الماء الناقع".

وأخرجه أحمد، والبيهقي.

المسألة الرابعة: قد استدل بعضهم بحديثي الباب على أن الماء المستعمل يخرج عن كونه مطهرا، لأن النهي ها هنا عن مجرد الغسل، فدل على وقوع المفسدة بمجرده، والمفسدة خروجه عن كونه مطهرا، إما لنجاسته، أو لعدم طَهُوريته، ومع هذا فلابد من تقييده بما دون القلتين على مذهب الشافعي ومن وافقه، وبغير المستبحر على مذهب الحنفية لأن

ص: 54

القلتين فأكثر عند الشافعية، والمستبحر عند الحنفية لا يؤثر فيه الاستعمال، والوضوء كالغسل في هذا الحكم، لأن المقصود من النهي التنزه عن التقرب إلى الله تعالى بالمستقذرات، والوضوء يقدر الماء، كما

يقذره الغسل.

وقد ذهب إلى أن الماء المستعمل غير مطهر أحمد بن حنبل، والليث، والأوزاعي، والشافعي، ومالك في إحدى الروايتين عنهما، وأبو حنيفة في رواية عنه واحتجوا بحديث الباب وبحديث النهي عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة، وبما رواه مسلم وابن ماجَهْ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" فقالوا: يا أبا هريرة كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولا.

واحتج لهم بعضهم بما يروى عن السلف من تكميل الطهارة بالتيمم عند قلة الماء لا بما تساقط منه.

وأجيب عن الاستدلال الأول بما ذكر بأن علة النهي لا تنحصر في الاستعمال، بل يحتمل أن يكون النهي للاستخباث والاستقذار، والدليل إذا تطرقه الاحتمال، سقط به الاستدلال، وبأن الدليل أخص

من الدعوى لأن غاية ما فيه خروج المستعمل للجنابة والمدعى خروج كل مستعمل عن الطهورية.

وعن حديث النهي عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة بمنع كون الفضل مستعملا، ولو سلم فالدليل أخص من الدعوى؛ لأن المدعى خروج كل مستعمل عن الطهورية، لا خصوص هذا المستعمل، وبالمعارضة بما أخرجه مسلم، وأحمد، من حديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة" وأخرجه أحمد أيضا وابن ماجه بنحوه من حديثه، وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي، والترمذي، وصححه من

ص: 55

وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي، والترمذي، وصححه من حديثه بلفظه "اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها أو يغتسل" الحديث، وأيضا النهي عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة فيه مقال.

وعن الاحتجاج بتكميل السلف الطهارة بالتيمم، لا بما تساقط بأنه لا يكون حجة إلا بعد تصحيح النقل عن جميعهم، ولا سبيل إلى ذلك، لأن منهم من قال بطهورية المستعمل كالحسن البصري، والزهري، والنخعي، وإحدى الروايات عن مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، ونسبه ابن حزم إلى عطاء، وسفيان الثوري، وأبي ثور، وجميع أهل الظاهر.

وبأن المتساقط قد فني لأنهم لم يكونوا يتوضؤون إلى إناء، والملتصق بالأعضاء حقير لا يكفي بعض عضو من أعضاء الوضوء، وبأن سبب الترك بعد تسليم صحته عن السلف وإمكان الانتفاع بالبقية هو الاستقذار.

وبهذا يتضح عدم خروج المستعمل عن الطهورية، ويتحتم البقاء على البراءة الأصلية، ولا سيما بعد اعتضادها بكليات وجزئيات من الأدلة كحديث "خلق الماء طهورا" وحديث "مسحه صلى الله عليه وسلم رأسه بفضل ماء كان بيده" وغيرهما. أفاده العلامة الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار

جـ 1/ ص 48 - 49.

وقال فيه أيضا عند الكلام على حديث "صب النبي صلى الله عليه وسلم وَضُوءه على المُغْمَى عليه، وتبرك الصحابة بوَضوئه" ما نصه:

وقد استدل الجمهور بصبه صلى الله عليه وسلم لوَضوئه على جابر، وتقريره للصحابة على التبرك بوضوئه على طهارة الماء المستعمل للوضوء، وذهب بعض

ص: 56

الحنفية، وأبو العباس إلى أنه نجس واستدلوا على ذلك بأدلة:

منها: حديث أبي هريرة فذكر حديث الباب، قالوا: والبول ينجس الماء، فكذا الاغتسال، لأنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عنهما جميعا.

ومنها: الإجماع على إضاعته، وعدم الانتفاع به، ومنها أنه ماء أزيل به مانع من الصلاة، فانتقل المنع إليه، كغسالة النجس المتغيرة.

ويجاب عن الأول بأنه أخذ بدلالة الاقتران، وهي ضعيفة

(1)

وبقول أبي هريرة يتناوله تناولا، فإنه يدل على أن النهي إنما هو عن الانغماس، لا عن الاستعمال، وإلا لما كان بين الانغماس والتناول فرق.

وعن الثاني: بأن الإضاعة لإغناء غيره عنه، لا لنجاسته.

وعن الثالث: بالفرق بين مانع هو النجاسة ومانع هو غيرها، وبالمنع من أن كل مانع يصير له بعد إنتقاله الحكم الذي كان له قبل الانتقال، وأيضا هو تمسك بالقياس في مقابلة النص، وهو فاسد الاعتبار

(2)

، ويلزمهم أيضا تحريم شربه وهم لا يقولون به.

ومن الأحاديث الدالة على ما ذهب إليه الجمهور:

حديث أبي جحيفة عند البخاري قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة فأتي بوَضُوء فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به".

وحديث أبي موسى عنده أيضا قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه فيه، ومَجَّ فيه ثم قال لهما يعني أبا موسى وبلالا:"اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونُحُوركما".

(1)

لأنه لا يلزم من الاقتران اشتراك القرينين في الحكم كما في قوله تعالى {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فالأكل غير واجب، والإيتاء واجب، قاله في المنهل جـ 1/ ص 251.

(2)

قد أجاد من قال:، وأحسن في المقال:(من الوافر):

إذَا جَالَت خُيُولُ النصِّ يَوْمَا

تُجاَري في مَيَادين الْكفَاح

غَدَت شُبَهُ القياَسيِّين صَرْعَى

تَطيُر رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاح

ص: 57

وعن السائب بن يزيد عنده أيضا قال: "ذهبت بي خالتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابن أختي وَجِع -أي مريض- فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثم توضأ، فشربت من وَضُوئه، ثم قمت خلف ظهره" الحديث.

فإن قال الذاهب إلى نجاسة المستعمل للوضوء: إن هذه الأحاديث غاية ما فيها الدلالة على طهارة ما يتوضأ به صلى الله عليه وسلم، ولعل ذلك من خصائصه

قلنا: هذه دعوى غير نافقة، فإن الأصل أن حكمه وحكم أمته واحد، إلا أن يقوم دليل يقتضي بالاختصاص، ولا دليل، وأيضًا الحكم يكون الشيء نجسا حكم شرعي، يحتاج إلى دليل، يلتزمه الخصم فما هو؟. اهـ نيل جـ 1/ ص 41.

وقال في المنهل جـ 1/ ص 250: وقال مالك ومن ذكر معه آنفا: أنه طاهر مطهر، لقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] ولما ورد في أبي داود عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوّذ "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه بفضل ماء في يده"، وفي حديث آخر "أنه مسح رأسه ببلل لحيته" وعن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل فنظر لمعة من بدنه لم يصبها الماء، فأخذ شعرا من بدنه عليه ماء فأمَرَّه على ذلك الموضع" أفاده النووي في شرح المهذب.

قالوا: ولأنه ماء لاقى طاهرا مطهرا كما لو غسل به ثوب طاهر،

ولأنه مستعمل فجازت الطهارة به كالمستعمل في تجديد الوضوء، ولأن ما أدي به الفرض مرة لا يمتنع أن يؤدى به ثانيا، كما يجوز للجماعة أن يتيمموا من موضع واحد، وكما يخرج الطعام في الكفارة، ثم يشتريه ويخرجه فيها ثانيا، وكما يصلي في الثوب الواحد مرارا، ولأنه لو لم تجز الطهارة بالمستعمل لامتنعت الطهارة؛ لأنه بمجرد جريان الماء على

ص: 58

بعض العضو يصير مستعملا، فإذا سال على باقي العضو ينبغي أن البلل لا يرفع الحدث، وهذا متروك بالإجماع، فدل على أن المستعمل مطهر.

وأدلة هذا القول وإن نوقش في بعضها لكن يؤيدها أن طهورية الماء ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، فلا يخرجه عنها إلا دليل صحيح صريح، ولا دليل كذلك، وما ذكر أصحاب القول الأول من الأدلة الناقلة للماء المستعمل عن الطهورية، فقد علمت أنها غير صالحة للاحتجاج بها على ذلك.

قال في الروضة الندية: الحق أن الماء المستعمل طاهر، ومطهر عملا بالأصل وبالأدلة الدالة على أن الماء طهور، لا يخرج عن كونه طهورا بمجرد استعماله للطهارة، إلا أن تغير بذلك ريحه، أو لونه، أو طعمه،

وإن إخراج ما جعله الله طهورا عن الطهورية لا يكون إلا بدليل -يعني ولا دليل- اهـ ملخصا.

وقال ابن المنذر: وروي عن علي، وابن عمر وأبي أمامة، وعطاء، والحسن، ومكحول، والنخعي، أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد بللا يكفيه مسحه بذلك، قال: وهذا يدل على أنهم يرون المستعمل مطهرا، وبه أقول. اهـ.

وعن أبي حنيفة ثلاث روايات:

الأولى: أنه نجس نجاسة مغلظة وهي رواية الحسن بن زياد عنه، وهي شاذة غير مأخوذ بها.

الثانية: نجس نجاسة مخففة وهي رواية أبي يوسف عنه، قال عبد الحميد القاضي: أرجو أن لا تثبت رواية النجاسة عن أبي حنيفة.

الثالثة: طاهر غير مطهر، وهي رواية محمد بن الحسن عنه، وهو الصحيح المفتى به عندهم، وبه قالت الشافعية اهـ. المنهل جـ 1/ ص 250.

ص: 59

المسألة الخامسة:

قال العلامة المحقق ابن دقيق العيد رحمه الله: وهذا الحديث مما استدل به أصحاب أبي حنيفة على تنجيس الماء الدائم، وإن كان أكثر من القلتين، فإن الصيغة صيغة عموم، وأصحاب الشافعي يخصون هذا العموم، ويحملون النهي على ما دون القلتين، وعدم تنجيس القلتين فما زاد إلا بالتغيير مأخوذ من حديث القلتين، فيحمل هذا الحديث العام في النهي على ما دون القلتين جمعا بين الحديثين، فإن حديث القلتين يقتضي عدم تنجيس القلتين فما فوقهما، وذلك أخص من مقتضى الحديث العام الذي ذكرناه، والخاص مقدم على العام.

ولأحمد طريقة أخرى وهي الفرق بين بول الآدمي، وما في معناه من العذرة المائعة، وغير ذلك من النجاسات، فأما بول الآدمي وما في معناه، فينجس الماء، وإن كان أكثر من القلتين، وأما غيره من النجاسات فتعتبر فيه القلتان، وكأنه رأى أن الخبث المذكور في حديث القلتين، عام بالنسبة إلى النجاسات، وهذا الحديث خاص بالنسبة إلى بول الآدمي، فيقدم الخاص على العام بالنسبة إلى النجاسات الواقعة في الماء الكثير، ويخرج بول الآدمي وما في معناه من جملة النجاسات الواقعة في القلتين بخصوصه، فينجس الماء دون غيره من النجاسات ويلحق بالبول المنصوص عليه ما يعلم أنه في معناه اهـ كلام ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام جـ 1/ ص 21 - 22.

(قال الجامع) قد عرفت فيما سبق أن المذهب الراجح هو العمل بما اقتضاه حديث القلتين. فتبصر. والله أعلم.

المسألة السادسة:

قال ابن دقيق العيد أيضا: واعلم أن هذا الحديث لا بد من إخراجه عن ظاهره بالتخصيص أو التقييد، لأن الاتفاق واقع على أن الماء المستبحر الكثير جدًا لا تؤثر فيه النجاسة، والاتفاق واقع على أن الماء إذا غيرته

ص: 60

النجاسة امتنع استعماله.

فمالك رحمه الله إذا حمل النهي على الكراهة لاعتقاده أن الماء لا ينجس إلا بالتغير لابد أن يخرج صورة التغير بالنجاسة، أعني عن الحكم بالكراهة، فإن الحكم ثمة التحريم، فإذًا لا بد من الخروج عن الظاهر عند الكل، فلأصحاب أبي حنيفة أن يقولوا: خرج عنه المستبحر الكثير جدا بالإجماع فيبقى ما عداه على حكم النص فيدخل تحته ما زاد عن القلتين، ويقول أصحاب الشافعي خرج الكثير المستبحر الذي ذكرتموه، وخرج القلتان، فما زاد بمقتضى حديث القلتين، فيبقى ما نقص عن القلتين

داخلا تحت مقتضى الحديث.

ويقول من نصر قول أحمد رحمه الله المذكور: خرج ما ذكرتموه، وبقي ما دون القلتين داخلا تحت النص، إلا أن ما زاد على القلتين مقتضى حديث القلتين فيه عام في الأنجاس، فيخص بول الآدمي، ولمخالفهم أن يقول: قد علمنا جزما أن هذا النهي إنما هو لمعنى في النجاسة وهو عدم التقرب إلى الله بما خالطها، وهذا المعنى تستوي فيه سائر الأنجاس، ولا يتجه تخصيص بول الآدمي منها بالنسبة إلى هذا المعنى فإن المناسب لهذا المعنى أعني التنزه عن الأقذار أن يكون ما هو أشد استقذارًا أوقع في هذا المعنى، وأنسب له فلا يبقى تخصيصه دون غيره بالنسبة إلى المنع معنى فيحمل الحديث على أن ذكر البول وقع تنبيها على غيره مما يشركه في معناه من الاستقذار.

والوقوف على مجرد الظاهر ها هنا مع وضوح المعنى وشموله لسائر الأنجاس ظاهرية محضة.

وأما مالك رحمه الله تعالى فإذا حمل النهي على الكراهة ويستمر حكم الحديث في القليل والكثير غير المستثنى بالاتفاق، وهو المستبحر مع

ص: 61

حصول الإجماع على تحريم الاغتسال بعد تغير الماء بالبول، فهذا يلتفت إلى حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين وهي مسألة أصولية، فإن جعلنا النهي للتحريم، كان استعماله في الكراهة، والتحريم استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، والأكثرون على منعه والله أعلم.

وقد يقال على هذا إن حالة التغير مأخوذة من غير هذا اللفظ، فلا يلزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين، وهذا متجه إلا أنه يلزم منه التخصيص في هذا الحديث. اهـ كلام ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام جـ 1/ ص 22 - 23.

(قال الجامع): قد تبين لك مما سبق أن ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله ومن معه هو الأقوى. فتبصر. والله أعلم.

المسألة السابعة: في مذاهب العلماء في أخذ الأجرة على التحديث، وقد أشرنا فيما تقدم إلى بعض أقوال العلماء، ونزيد الآن شرحا، وإيضاحا للمسألة، ملخصا ما كتبه العلامة الحافظ السخاوي رحمه الله في فتح المغيث شرح ألفية الحديث، فإنه قد استوعب الكلام هناك، وحاصله أن في أخذ الأجرة على التحديث مذاهب للعلماء:

الأول: أنه لا تقبل رواية من يأخذ الأجرة على التحديث:

وممن قال بذلك: إسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وأبو حاتم الرازي، وآخرون، أما إسحاق، فإنه حين سئل عن المحدث يحدث بالأجر، قال: لا يكتب عنه، وكذا قال أبو حاتم الرازي حين سئل عمن يأخذ على التحديث.

وأما أحمد: فإنه قيل له: أيكتب عمن يبيع الحديث؟ فقال: لا ولا كرامة. فأطلق أبو حاتم جواب الأخذ الشامل للإجارة، والجعَالة، والهبَة، والهدية، وهو ظاهر في الجعالة لوجود العلة فيها أيضا، وإن كانت الإجارة أفحش.

وقد قال سليمان بن حرب: لم يبق من أمر السماء إلا الحديث،

ص: 62

والقضاء، وقد فسدا جميعا، القضاة يَرشُون حتى يُوَلَّوْا، والمحدثون يأخذون على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الدراهم.

قال الخطيب: إنما منعوا من ذلك تنزيها للراوي عن سوء الظن به، فإن بعض من كان يأخذ الأجرة على الرواية عثر على تزيده، وادعائه ما لم يسمع لأجل ما كان يعطى، ومن هذا بالغ شعبة فيما حكي عنه، وقال: لا تكتبوا عن الفقراء شيئا، فإنهم يكذبون، ولذا امتنع من الأخذ مَن امتنع، بل تورع الكثير منهم عن قبول الهدية والهبة.

فقال سعيد بن عامر: لما جلس الحسن البصري للحديث أهدي له فرده، وقال: إن مَن جلس هذا المجلس، فليس له عند الله خلاق، يعني إن أخذ.

وكذا لم يكن النووي يقبل ممن له به علقة من إقراء، أو انتفاع ما.

قال ابن العطار: للخروج من حديث إهداء القوس، يعني الوارد في الزجر عن أخذه ممن علمه القرآن، قال: وربما أنه كان يرى نشر العلم متعينا عليه مع قناعة نفسه وصبرها، قال: والأمور المتعينة لا يجوز أخذ الجزاء عليها كالقرض الجارّ إلى منفعة، فإنه حرام باتفاق العلماء. انتهى.

وقال جعفر بن يحيى البرمكي: ما رأينا في القراء مثل عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عرضت عليه مائة ألف، فقال: لا والله، لا يتحدث أهل العلم أني أكلت للسنة ثمنا ألا كان هذا قبل أن ترسلوا إلى، فأما على الحديث فلا، ولا شَرْبَة ماء ولا إهْليلَجَة

(1)

.

وهذا بمعناه، وأزيد عند أبي الفرج النهرواني في "الجليس الصالح" قال: دخل الرشيد الكوفة، ومعه ابناه الأمين والمأمون، فسمعا من عبد الله بن إدريس وعيسى بن يونس، فأمر لهما بمال جزيل، فلم يقبلا، وقال له عيسى: لا، ولا إهليلجة، ولا شربة ماء على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو ملأت لي هذا المسجد إلى السقف ذهبًا.

(1)

الإهْليلَجَة - بكسر، فسكون فكسر اللام الأولى وفتح الثانية، وقد تكسر ثمر معروف، أفاده في "ق".

ص: 63

وقال جرير بن عبد الحميد: مر بنا حمزة الزيات فاستسقى، فدخلت البيت فجئته بالماء، فلما أردت أن أناوله نظر إلى فقال: أنت هو؟ قلت نعم، فقال: أليس تحضرنا في وقت القراءة؟ قلت: نعم، فرده، وأبى أن يشرب ومضى.

وأهدى أصحاب الحديث للأوزاعى شيئا، فلما اجتمعوا، قال لهم: أنتم بالخيار إن شئتم قبلته، ولم أحدثكم، أورددته وحدثتكم، فاختاروا الرد وحدثهم، ونحوه عن حماد بن سلمة كما قال الخطيب في الكفاية.

وقال هبة الله بن المبارك السقطي: كان أبو الغنائم محمد بن علي بن الحسن بن الدجاجي البغدادي ذا وجاهة وتقدم وحال واسعة وعهدي بي، وقد أخذني عليه الزمان بصروفه، وقد قصدته في جماعة مثرين لنسمع منه، وهو مريض، فدخلنا عليه، وهو على بادية، وعليه جبة قد أكلت النار أكثرها، وليس عنده ما يساوي درهما، فحمل على نفسه حتى قرأنا عليه بحسب شرهنا، ثم قمنا، وقد تحمل المشقة في إكرامنا، فلما خرجنا قلت: هل مع سادتنا ما نصرفه إلى الشيخ؟ فمالوا إلى ذلك، فاجتمع له نحو خمسة مثاقيل، فدعوت ابنته وأعطيتها، ووقفت لأرى تسليمها إليه، فلما دخلت وأعطته لَطَمَ حُرَّ وجهه، ونادى وافضيحتاه! آخذ على حديث رسول صلى الله عليه وسلم عوضا؟ لا والله، ونهض حافيا، فنادى بحرمة ما بيننا إلا رجعت، فعدت إليه، فبكى، وقال: تفضحني مع أصحاب الحديث؟ الموت أهون من ذلك، فأعدت الذهب إلى الجماعة، فلم يقبلوه، وتصدقوا به.

ومرض أبو الفتح الكروخي راوي الترمذي، فأرسل إليه بعض من كان يحضر مجلسه شيئا من الذهب، فما قبله، وقال: بعد السبعين، واقتراب الأجل آخذ على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ورده مع الاحتياج إليه.

ص: 64

المذهب الثاني: الجواز للحاجة والفقر:

وممن قال بهذا: أبو نعيم الفضل بن دُكَين، فقد كان يأخذ على التحديث الأجر بحيث كان إذا لم يكن معهم دراهم صحاح، بل مكسرة أخذ صرفها.

ومنهم: عفان بن مسلم، أحد الحفاظ الأثبات من شيوخ البخاري، فقد قال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله، يعني الإمام أحمد يقول: شيخان كان الناس يتكلمون فيهما ويذكرونهما، وكنا نَلقَى من الناس في أمرهما ما اللهُ به عليم، قاما لله بأمر لم يقم به أحد، أو كبير أحد مثل ما قاما به: عفان وأبو نعيم، يعني بقيامهما عدم الإجابة في المحنة، وبكلام الناس من أجل أنهما كانا يأخذان على التحديث، ووصف أحمد مع هذا عفان بالثبت، وقيل له: مَن تابع عفان على كذا؟ فقال: وعفان يحتاج إلى أن يتابعه أحد؟ وأبا نعيم الحجةَ الثبتَ، وقال مرة: أنه يزاحَمُ به ابنُ عيينة، وهو على قلة روايته أثبت من وكيع، إلى غير ذلك من الروايات عنه، بل وعن أبي حاتم في توثيقه وإجلاله.

فيمكن الجمع بين هذا وإطلاقهما كما مضى أولا عدم الكتابة بأن ذلك في حق من لم يبلغ هذه المرتبة في الثقة والتثبت، أو الأخذ مختلف في الموضعين، كما يشعر به السؤال لأحمد هناك، ومضايقة البغوي التي كانت سببا لامتناع النسائي من الرواية عنه، كما سيأتي قريبًا.

وعلى هذا يحمل قول محمد بن عبد الملك بن أيمن: لم يكونوا يعيبون مثل هذا، إنما العيب عندهم الكذب.

وممن كان يأخذ ممن احتج به الشيخان: يعقوب الدورقي، كما ذكره النسائي هنا، ومنهم هشام بن عمار، فقد قال ابن عدي: سمعت قسطنطين يقول: حضرت مجلسه، فقال له المستملي: من ذكرتَ؟ فقال له: بعض مشايخنا، ثم نعس، فقال لهم المستملي: لا تنتفعون به، فجمعوا له شيئا، فأعطوه، فكان بعد ذلك يُمْلي عليهم.

ص: 65

بل قال الإسماعيلي: عن عبد الله بن محمد بن سَيَّار: أن هشاما كان يأخذ على كل ورقتين درهما ويشارط، ولذا قال ابن وَارَة: عزمت أن أمسك عن حديث هشام؛ لأنه كان يبيع الحديث، وقال صالح بن محمد: إنه كان لا يحدث ما لم يأخذ.

ومنهم: علي بن عبد العزيز البغوي نزيل مكة وأحد الحفاظ المكثرين مع علو الإسناد، فإنه كان يطلب الأجر على التحديث، وآخرون.

وهؤلاء فعلوه ترخصا للحاجة فقد قال علي بن خشرم: سمعت أبا نعيم الفضل يقول: يلومونني على الأخذ، وفي بيتي ثلاثة عشر نفسا، وما فيه رغيف، ورآه بشر بن عبد الواحد في المنام بعد موته فسأله: ما فعل بك ربك في ذلك؟ فقال: نظر القاضي في أمري، فوجدني ذا عيال، فعفا عني.

وكذا كان البغوي يعتذر بأنه محتاج، وإذا عاتبوه على الأخذ حين يقرأ كتب أبي عبيد على الحاج إذا قدم عليه مكة يقول: يا قوم أنا بين الأخشبين إذا خرج الحاج نادى أبو قبيس قُعَيقعَان مَن بقي؟ فيقول: بقي المجاورون، فيقول: أطبقْ.

لكن قد قبحه النسائي ثلاثا، ولم يرو عنه شيئا، لا لكذبه، بل لأنه اجتمع قوم للقراءة عليه فبروه بما سهل عليهم، وفيهم غريب فقير، فأعفوه لذلك، فأبى إلا أن يدفع كما دفعوا، أو يخرج عنهم، فاعتذر

الغريب بأنه ليس معه إلا قصعة صغيرة فأمره بإحضارها، فلما أحضرها حدثهم.

ونحوه أن أبا بكر الأنصاري المعروف بقاضي المرستان، شَمَّ من أبي الحسن سعد الخير الأنصاري رائحة طيبة، فسأله عنها؟ فقال: هي عود، فقال: ذا عود طيب، فحمل إليه نزرا قليلا، ودفعه لجارية الشيخ،

فاستحيت من إعلامه به لقلته، وجاء سعد الخير على عادته، فاستخبر الشيخ عن وصول العود، فقال له: لا، وطلب الجارية، فاعتذرت

ص: 66

لقلته، وأحضرت ذلك فأخذه الشيخ بيده، وقال لسعد الخير: أهو هذا؟ قال: نعم، فرمى به إليه، وقال: لا حاجة لنا فيه، ثم طلب منه سعد الخير أن يسمع ولده جزء الأنصاري، فحلف أن لا يسمعه إياه إلا أن يحمل إليه خمسة أمناء من عود، فامتنع، وألح على الشيخ في تكفير يمينه فما فعل، ولا حمل هو شيئا، ومات الشيخ ولم يسمع ابنه الجزء ولكنه في المتأخرين أكثر.

ومنهم: من كان يمتنع من الأخذ من الغرباء خاصة، فروى السِّلَفيّ في معجم السَّفَر له، من طريق سهل بن بشير الإسفرائيني قال: اجتمعنا بمصر طبقة من طلبة الحديث، فقصدنا علي بن مُنير الخلال، فلم يأذن لنا في الدخول، فجعل عبد العزيز بن علي النخشبي فاه على كوة بابه ورفع صوته بقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم" الحديث، قال: ففتح لنا الباب ودخلنا، فقال: لا أحدث اليوم إلا من وزن الذهب، فأخذ من كل من حضر من المصريين، ولم يأخذ من الغرباء شيئا، وكان فقيرًا لم يكن له من الدنيا شيء وهو من الثقات.

ومنهم: من لم يكن يشترط شيئا ولا يذكره غير أنه لا يمتنع من قبول ما يعطى له بعد ذلك أو قبله.

ومنهم: من كان يقتصر في الأخذ على الأغنياء.

ومنهم: من كان يمتنع في الحديث فقط، قال أبو أحمد بن سكينة: قلت للحافظ ابن ناصر أريد أن أقرأ عليك شرح ديوان المتنبي لأبي زكريا، وكان يرويه عنه، فقال: إنك دائما تقرأ علي الحديث مَجَّانًا، وهذا شعر، ونحن نحتاج إلى دفع شيء من الأجر عليه، لأنه ليس من الأمور الدينية، قال: فذكرت ذلك لوالدي فدفع إلى كاغدًا

(1)

فيه خمسة دنانير، فأعطيته إياه، وقرأت عليه الكتاب، وكان مع ذلك فقيرا.

(1)

الكاغد: نوع من الورق، وقال في المصباح: الكاغد بفتح الغين وبالدال المهملة وربما قيل بالذال المعجمة وهو معرب.

ص: 67

ونحوه أن أبا نصر محمد بن موهوب البغدادي الضرير الفرضي كان يأخذ الأجرة ممن يعلمه الجبر والمقابلة دون الفرائض والحساب، ويقول: الفرائض مهمة، وهذا من الفضل حكاهما ابن النجار.

ومنهم: من كان لا يأخذ شيئا، ولكن يقول: إن لنا جيرانا محتاجين، فتصدقوا عليهم، وإلا لم أحدثكم، قال زيد بن الحباب عن شيخه: إنه كان يفعله.

المذهب الثالث: الجواز لمن كان مشغولا عن الكسب لعياله، وهذا هو المختار كما يأتي للسيوطي في ألفيته.

وممن أفتى بذلك: الشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية، حين سأله مُسْند العراق في وقته أبو الحسين بن النَّقُّور، لكون أصحاب الحديث كانوا يمنعونه عن الكسب لعياله فكان يأخذ كفايته، وعلى نسخة طالوت ابن عباد أبي عثمان الصيرفي بخصوصها دينارا، واتفق أنه جاء غريب فأراد أن يسمعها منه، فاحتال بأن اقتصر على كنية طالوت لكونه لم يكن يعرفه بها، وذلك أنه قال له: أخبرك أبو القاسم بن حبابة، قال: حدثنا البغوي، حدثنا أبو عثمان الصيرفي، وساق النسخة إلى آخرها،

فبلغ مقصوده بدون دينار، لكون ابن النقور لم يعلم أن أبا عثمان الصيرفي هو طالوت.

وممن أفتى بالجواز قبل أبي إسحاق: ابنُ عبد الحكم المالكي رحمه الله، فقال خالد بن سعد الأندلسي: سمعت محمد بن فطيس وغيره يقولون: جمعنا لابن أخي ابن وهب، يعني أحمد بن عبد الرحمن دنانير أعطيناها إياه، وقرأنا عليه موطأ ابن عمه وجامعه، قال محمد: فصار في نفسي من ذلك، فأردت أن أسأل ابن الحكم، فقلت: أصلحك الله، العالم يأخذ على قراءة العلم؟ فاستشعر فيما ظهر لي، أني إنما أسأله عن أحمد، فقال لي: جائز، عافاك الله حلال، ألا أقرأ لك ورقة إلا بدرهم، ومن أخذني أن أقعد معك طول النهار، وأدع ما يلزمني

ص: 68

من أسبابي ونفقة عيالي؟.

قال السخاوي رحمه الله: إذا علم هذا، فالدليل لمطلق الجواز القياس على القرآن، فقد جوَّز أخنه الأجرة على تعليمه الجمهور، لقوله صلى الله عليه وسلم:"أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله".

والأحاديث الواردة في الوعيد على ذلك

(1)

لا تنتهض بالمعارضة، إذ ليس فيها ما تقوم به الحجة خصوصا، وليس فيها تصريح بالمنع على الإطلاق، بل هي وقائع أحوال محتملة للتأويل لتوافق الصحيح، وقد حملها بعض العلماء على الأخذ فيمن تعين عليه تعليمه، لا سيما عن عدم الحاجة.

وكذا يمكن أن يقال في تفسير أبي العالية في قوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة من آية رقم 41] أي لا تأخذوا عليه أجرا، وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم عَلِّم مجَّانا، كما عُلِّمت مجانا.

وليس في قول عازب لأبي بكر حين سأله أن يأمر ابنه البراء رضي الله عنهم يحمل ما اشتراه منه معه: لا حتى يحدثنا بكذا، مُتَمَسَّك للجواز لوقفه، كما قال شيخنا -يعني الحافظ بن حجر- على أن عازبا لو استمر على الامتناع من إرسال ابنه، لاستمر أبو بكر على الامتناع من التحديث يعني، فإنه حينئذ لو لم يجز لما امتنع أبو بكر ولا أقر عازبا عليه ولكن ليس هذا بلازم، لاحتمال أن يكون امتناعه تأديبا وزجرا، وتقريره عازبا، فلكونه فهم عنه قصد المبادرة لإسماع ابنه وكونه حاضرا معه،

(1)

منها حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: علمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة، فأهدى إلى رجل منهم قوسا، فقلت: ليست بمال، وأرمي بها في سبيل الله، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها؟ فقال:"إن سرك أن تطوق بها طوقًا من نار فاقبلها". أخرجه أبو داود، وابن ماجه وفي سنده الأسود بن ثعبة مجهول.

ومنها حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال علمت رجلا القرآن، فأهدى إلى قوسا، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن أخذتها أخذت قوسًا من نار" رواه أبو داود، وابن ماجه، وفي سنده عبد الرحمن بن سلهم مجهول.

لكن الحديث يتقوى بمجموعه فيصلح للاحتجاج به، فلابد من تأويله لئلا يتعارض مع أحاديث الإباحة، فيؤل بمن تعين عليه التعليم، أو بمن أخد عن المساكين، كأهل الصفة. والله أعلم.

ص: 69

خوفا من الفوات، لا خصوص هذا الحكي، وعلى هذا فما بقي متمسك، وعلى كل حال فقد سبق للمنع من الاستدلال به الخطابي، وابن الجوزي.

وقال: ومن المهم هنا أن نقول قد علم أن حرص الطلبة للعلم قد فتر، لا، بل قد بطل، فينبغي للعلماء أن يحببوا إليهم، وإلا فإذا رأى طالب الأثر أن الإسناد يباع، والغالب على الطلبة الفقر، ترك الطلب فكان سببا لموت السنة ويدخل هؤلاء في معنى الذين يصدون عن ذكر الله، وقد رأينا من كان على مأثور السلف في نشر السنة بورك له في حياته، وبعد مماته، وأما من كان على السيرة التي ذممناها لم يبارك له على غزارة علمه. اهـ.

وقد حكى ابن الأنماطي الحافظ قال: رَغَّبْتُ أبا علي حنبلَ بن عبد الله البغدادي الرصَافي راوي مسند أحمد في السفر إلى الشام، وكان فقيرا جدا، فقلت له: يحصل لك من الدنيا طرف صالح، وتُقبل عليك وجوه الناس ورؤساؤهم، فقال: دعني، فوالله ما أسافر لأجلهم، ولا لما يحصل منهم، وإنما أسافر خدمة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أروي أحاديثه في بلد لا تروى فيه، قال: ولما عَلم اللهُ منه هذه النية الصالحة، أقبل بوجوه الناس إليه، وحرك الهمم للسماع عليه، فاجتمع إليه جماعة لا نعلمها اجتمعت في مجلس سماع قبل هذا بدمشق، بل لم يجتمع مثلها قط لأحد ممن روى المسند نسأل الله الإخلاص قولا وفعلا اهـ. خلاصة ما كتبه الحافظ السخاوي في فتح المغيث شرح ألفية الحديث للحافظ العراقي (في باب من تقبل روايته ومن ترد) جـ 1/ ص 320 - 328

وقال الحافظ السيوطي رحمه الله في ألفيته مشيرًا إلى المذاهب المذكورة:

وآخدٌ أجْرَ الحديث يَقدَحُ

جَمَاعَةٌ وآخَرُونَ سَمَحُوا

وآخَرُونَ جَوَّزُوا لمَنْ شُغِلْ

عَنْ كسبه فَاخْتِيرَ هَذَا وَقُبِلْ

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 70

‌47 - بَابُ مَاءِ البَحْرِ

أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على حكم ماء البحر.

قال في المصباح: البحر معروف، والجمع بُحُور، وأبْحُر، وبِحَار، سمي بذلك لاتساعه، ومنه قيل فرس بحر، إذا كان واسع الجَري، ويقال للدم الشديد العمرة: باحر، وبَحرَاني، وقيل: الدم البحراني: منسوب إلى بحر الرحم، وهو عمقها، وهو مما غير في النسب لئلا يلتبس بالنسبة إلى البحر. اهـ بتغيير يسير.

59 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ، أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلاني ثقة ثبت [10] تقدم في 1/ 1.

ص: 71

2 -

(مالك) بن أنس إمام دارالهجرة ثقة حجة فقيه [7] تقدم في 7/ 7.

3 -

(صفوان بن سليم) بالتصغير الزهري، مولاهم، أبو عبد الله المدني، عن ابن عمر، وأبي أمامة بن سهل، ومولاه حميد بن عبد الرحمن بن عوف،، وابن المسيب، وعنه زيد بن أسلم، وابن المنكدر، ويزيد بن أبي حبيب، ومالك والليث، وخلق، قال أحمد: ثقة من خيار عباد الله الصالحين، يستشفى بحديثه، وينزل المطر من السماء بذكره

(1)

، وقال أنس بن عياض: رأيت صفوان بن سليم، ولو قيل له: غدًا القيامة، ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة، قال أبو عبيدة: مات سنة 132 أخرج له الجماعة وفي (ت) ثقة مُفْت عابد، رمي بالقدر، من الرابعة.

4 -

(سعيد بن سلمة) بفتحتين المخزومي من آل ابن الأزرق، روى عن المغيرة بن أبي بردة، وعن أبي هريرة هذا الحديث، وعنه صفوان بن سليم، والجُلاح أبو كثير، وثقه النسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي في الميزان: سعيد بن سلمة المدني صاحب حديث "هو الطهور ماؤه" فصدوق، تفرد به عن المغيرة بن أبي بردة بذلك، لكن وثقه النسائي. اهـ. جـ 2/ ص 141.

وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: وهو حديث في إسناده اختلاف، وصحح البخاري فيما حكاه عنه الترمذي في العلل المفرد حديثه، وكذا صححه ابن خزيمة، وابن حبان وغير واحد. اهـ وأخرج له الأربعة، وفي (ت) وثقه النسائي، من السادسة.

5 -

(المغيرة بن أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء، الحجازي الكناني، ويقال ابن عبد الله بن أبي بردة، روى عن أبي هريرة، وزياد ابن نعيم الحضرمي، وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري، وصفوان بن

(1)

هكذا نقل كلام أحمد هذا في "صه" ص 174 - في "تت" جـ 4 ص 425 ونقله الذهبي في "سير أعلام النبلاء" جـ 5 ص 365 وسكت عليه. والله أعلم بمراد الإمام أحمد بهذا الكلام.

ص: 72

سليم، والحارث بن يزيد، وسعيد بن سلمة المخزومي، وغيرهم، وثقه النسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقد وَهِمَ من قال: إنه مجهول لا يعرف، روى له النسائي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وفي (ت) وثقه النسائي، وقد ولي إمرة الغزو بالمغرب، من الثالثة، مات بعد المائة.

6 -

(أبو هريرة) الدوسي رضي الله عنه، وقد تقدم في 1/ 1.

لطائف الإسناد

من لطائف هذا الإسناد أنه من سداسياته.

وأن رواته كلهم ثقات، وكلهم مدنيون ما عدا شيخ المصنف فبغلاني

شرح الحديث

(عن سعيد بن سلمة) المخزومي المدني (أن المغيرة) بضم الميم وحكي كسرها (ابن أبي بردة) ويقال ابن عبد الله بن أبي بردة (من بني عبد الدار) حال من المغيرة، أي حال كونه منهم (أخبره) أي سعيدا فالضمير المرفوع يرجع إلى المغيرة، والمنصوب إلى سعيد، أفاده في المنهل (أنه سمع أبا هريرة) أي المغيرة سمع أبا هريرة رضي الله عنه كذا في الموطأ وباقي السنن، وهو الصواب، أما من قال فيه: عن المغيرة عن أبيه، فقد وهم، كما قاله ابن حبان، وعلى فرض صحته، فلا يوهم: إرسالا في الإسناد للتصريح فيه بسماع المغيرة من أبي هريرة، وعليه فرواية هذا البعض من المزيد في متصل الأسانيد اهـ. المنهل جـ 1/ ص 277.

(يقول: سأل رجل) هو كما في بعض الطرق الآتية عبد الله وكذا ساقه ابن بَشْكوَال بإسناده، وأورده الطبراني فيمن اسمه عبد، وتبعه أبو موسى الحافظ الأصفهاني، في كتابه معرفة الصحابة، فقال: عبد أبو زمعة البَلَوي، الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر، قال ابن منيع: بلغني

ص: 73

أن اسمه عبد، وقيل: اسمه عبيد بالتصغير، وقال السمعاني في الأنساب: اسمه العَرَكيّ، وغلط في ذلك، وإنما العَرَكيّ وصف له، وهو مَلاَّح السفينة. اهـ. نيل الأوطار جـ 1/ ص 35.

وعند الدارقطني عبد الله المدلجي، وفي رواية الدارمي قال: أتى رجل من بني مدلج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية للحاكم: فجاءه صياد، أفاده في المنهل جـ 1/ ص 277.

(إنا نركب البحر) أي مراكبه من السفن، زاد الحاكم:"نريد الصيد" قال الزرقاني: المراد من البحر الملح؛ لأنه المتوهم فيه؛ لأنه مالح، ومُرّ وريحه مُنتن. اهـ تحفة الأحوذي جـ 1/ ص 225.

(ونحمل معنا القليل من الماء) أي العذب، وفي رواية لأحمد والحاكم والبيهقي، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فجاء صياد فقال: يا رسول الله إنا ننطلق في البحر، نريد الصيد، فيحمل أحدنا معه الإداوة وهو يوجو أن يأخذ الصيد قريبا، فربما وجده كذلك، وربما لم يجد الصيد حتى يبلغ من البحر مكانا لم يظن أن يبلغه، فلعله يحتلم، أو يتوضأ، فإن اغتسل، أو توضأ بهذا الماء، فلعل أحدنا يهلكه العطش، فهل ترى في ماء البحر أن نغتسل به، أو نتوضأ إذا خفنا ذلك؟ فقال:"اغتسلوا منه وتوضؤا به" وفي رواية للدارمي: ونحمل معنا من العذب لشفاهنا، يعني لشربنا، فإن نحن توضأنا به خشينا على أنفسنا، وإن نحن آثرنا بأنفسنا، وتوضأنا من البحر، وجدنا في أنفسنا من ذلك، فخشينا أن لا يكون طهورا" اهـ المنهل جـ 1/ ص 277.

(فإن توضأنا به عطشنا) بكسر الطاء من باب علم، أي أصابنا الظمأ لفقد الماء اهـ المنهل.

وفي المصباح: عَطِشَ عَطَشًا فهو عَطِش وعَطْشان، وامرأة عَطشَة وعَطْشَى، ويجمعان على عطاش بالكسر، ومكان عَطش ليس به ماء،

ص: 74

وقيل: قليل الماء. اهـ.

(أفنتوضأ من ماء البحر؟) وفي رواية أبي داود "بماء البحر" قال في النهل: الفاء عاطفة على محذوف، تقديره: أهو طهور فنتوضأ، وإنما توقفوا عن التطهر بمائه، لما ذكر من أنه مُرّ مالح، ريحه منت، وما كان هذا شأنه لا يشرب، فتوهموا أن ما لا يشرب لا يتطهر به. اهـ.

(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الطهور) بفتح الطاء أي الطاهر المطهر (ماؤه) ذكر الماء يقتضي أن الضمير في قوله "هو الطهور" للبحر، إذ لو أريد به الماء لما احتاج إلى قوله:"ماؤه" إذ يصير المعنى الماء طهور ماؤه، وهو فاسد، وفي لفظ للدارمي "فإنه الطاهر ماؤه" ولم يقل في الجواب: نعم، مع حصول الغرض به، ليقرن الحكم بعلته، وهو الطهورية المتناهية في بابها، ودفعا لتوهم حمل لفظ نعم على الجواز على سبيل الرخصة للضرورة، ولما يفهم من الجواب بنعم من أنه إنما يتوضأ به فقط؛ لأنه المسؤل عنه، وفي إجابته بقوله "الطهور ماؤه" بيان أن الطهورية وصف لازم له غير قاصر على حالة الضرورة، وغير خاص بحدث دون حدث، بل يرفع كل حدث، ويزيل كل خبث.

وفي شرح العيني: قوله "هو الطهور ماؤه" هو مبتدأ، و"الطهور" مبتدأ ثان، و"ماؤه" خبر المبتدإ، والجملة خبر المبتدإ الأول، ويجوز كون "ماؤه" فاعلا للطهور، ويكون "الطهور" مع فاعله خبرا للمبتدإ؛ لأن الطهور صيغة مبالغة، وهي كاسم الفاعل في العمل.

وهذا التركيب فيه القصر، لأن المبتدأ والخبر معرفتان، وهو من طرق القصر، وهو من قصر الصفة على الموصوف، لأنه قصر الطهورية على ماء البحر وهو قصر ادّعائي قُصدَ به المبالغة، لعدم الاعتداد بغير المقصور عليه، لا قصر حقيقي، لأن الطهورية ليست بمقصورة على ماء البحر فقط، والظاهر أنه قصر تعيين، لأن السائل كان مترددا بين جواز الوضوء به وعدمه، فعين له صلى الله عليه وسلم الجواز بقوله:"هو الطهور ماؤه" اهـ بتصرف،

ص: 75

كما نقله عنه في المنهل 1/ 278.

وفي النيل: وتعريف الطهور باللام الجنسية المفيدة للحصر لا ينفي طهورية غيره من المياه لوقوع ذلك جوابا لسؤال من شك في طهورية ماء البحر، من غير قصد للحصر، وعلى تسليم أنه لا تخصيص بالسبب، ولا يقصر الخطاب العام عليه، فمفهوم الحصر المفيد لنفي الطهورية عن غير مائه عموم، مخصص بالمنطوقات الصريحة القاضية باتصاف غيره بها. اهـ جـ 1/ ص 36.

(الحِلّ) بكسر الحاء المهملة، أي الحلال، كما في رواية للدارمي، والدارقطني، من حَلَّ الشيءُ يَحِلّ بالكسر، حِلاّ: خلاف حَرُم، فهو حَلَال، وحلّ أيضا فوصفه بكل منهما وصف بالمصدر اهـ المنهل.

(ميتته) بفتح الميم، وإعرابه كسابقه، والمراد ما مات من حيوانه بلا ذكاة.

قال الخطابي: بفتح الميم وعوام الناس يكسرونها، وإنما هو بالفتح، يريد حيوان البحر إذا مات فيه اهـ زهر جـ 1/ ص 50.

وقال في المنهل: وترك العاطف لما بين الجملتين من المناسبة في الحكم، والعطف يشعر بالغايرة، وسألوه صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر، فأجابهم عن مائه وطعامه، لعلمه أنه قد يُعْوزُهُم الزاد في البحر كما يعوزهم الماء، فلما جمعتهما الحاجة انتظم الجواب بهما.

وأيضا علم طهارة الماء مستفيض عند الخاصة والعامة، وعلم ميتة البحر، وكونهما حلالا مشكل في الأصل، فلما رأى السائل جاهلا بأظهر الأمرين، غير مستبين للحكم فيه، علم أن أخفاهما أولى

بالبيان، أو يقال إنه صلى الله عليه وسلم لما أعلمهم بطهارة ماء البحر، وقد علم أن في البحر

حيوانا قد يموت فيه، والميتة نجس، احتاج إلى أن يعلمهم أن حكم هذا

ص: 76

النوع من الميتة خلاف حكم الميتات لئلا يتوهموا أن ماءه نجس بحلولها فيه. اهـ. المنهل جـ 1/ ص 278.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا في 59، وفي الكبرى 58 بهذا السند، وفي الصيد عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك به.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: قال الحافظ في التلخيص: حديث البحر "هو الطهور ماؤه" رواه مالك والشافعي عنه، والأربعة، وابن خزيمة، وابن حبان، وابن الجارود، والحاكم، والدارقطني،

والبيهقي، وصححه البخاري فيما حكاه عنه الترمذي، وتعقبه ابن عبد البر بأنه لو كان صحيحا عنده لأخرجه في صحيحه، وهذا مردود؛ لأنه لم يلتزم الاستيعاب، ثم حكم ابن عبد البر مع ذلك بصحته لتلقي العلماء له بالقبول، فرده من حيث الإسناد، وقبله من حيث المعنى، وقد حكم بصحة جملة من الأحاديث لا تبلغ درجة هذا ولا تقاربه.

ورجح ابن منده صحته، وصححه أيضا ابن المنذر، وأبو محمد البغوي

ومداره على صفوان بن سليم، عن سعيد بن سَلَمة، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة قال:"جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر" الحديث، رواه عنه مالك، وأبو أويس، قال الشافعي: في إسناد هذا الحديث من لا أعرفه.

قال البيهقي: يحتمل أن يريد سعيد بن سلمة، أو المغيرة، أو كليهما

ص: 77

قال الحافظ: قلت: لم ينفرد به سعيد، عن المغيرة، فقد رواه عنه يحيى ابن سعيد الأنصاري، إلا أنه اختلف عليه فيه، والاضطراب منه.

فرواه ابن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن رجل من أهل المغرب، يقال له المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة، أن ناسا من بني مدلج أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، وقيل عنه، عن المغيرة عن رجل من بني مدلج. وقيل عن يحيى، عن المغيرة، عن أبيه، وقيل: عن يحيى عن المغيرة بن عبد الله، أو عبد الله بن المغيرة، وقيل: عن يحيى، عن عبد الله بن المغيرة، عن أبيه، عن رجل من بني مدلج اسمه عبد الله مرفوعا، وقيل: عن يحيى، عن عبد الله بن المغيرة، عن أبي بردة مرفوعا، وقيل: عن المغيرة عن عبد الله المدلجي، ذكرها الدارقطني، وقال: وأشبهها بالصواب قول مالك، ومن تابعه، وقال ابن حبان: من قال فيه: عن المغيرة، عن أبيه، فقد وَهِمَ، والصواب: عن المغيرة عن أبي هريرة.

وأما حال المغيرة: فقد روى الآجري عن أبي داود أنه قال: المغيرة ابن أبي بردة معروف، وقال ابن عبد البر: وجدت اسمه في مغازي موسى بن نصير، وقال ابن عبد الحكم: اجتمع عليه أهل إفريقية أن

يؤمروه بعد قتل يزيد بن أبي مسلم، فأبى. اهـ.

ووثقه النسائي، فعلم بهذا غلط من زعم أنه مجهول لا يعرف.

وأما سعيد بن سلمة: فقد تابع صفوان بن سليم على روايته له عنه الجُلاحُ أبو كَثير، رواه عنه الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث، وغيرهما، ومن طريق الليث رواه أحمد والحاكم والبيهقي عنه، وسياقه أتم قال:"كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فجاء صياد" الحديث، وتقدم قريبا بنصه.

ص: 78

قال الحافظ: ورواه عن مالك مختصرا للقصة، قال أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن حماد بن خالد، عن مالك بسنده، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته".

قال الحافظ: وفي الباب عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" رواه أحمد وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم من طريق عبيد الله بن مقسم عنه، قال أبو علي بن السكن: حديث جابر أصح ما روي في هذا الباب.

ورواه الطبراني في الكبير، والدارقطني، والحاكم، من حديث المُعَافى بن عمران،، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر وإسناده حسن، ليس فيه إلا ما يخشى من التدليس، ورواه الدارقطني، والحاكم من حديث موسى بن سلمة عن ابن عباس، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر، فقال:"ماء البحر طهور" ورواته ثقات، لكن صحح الدارقطني وقفه.

ورواه ابن ماجه من حديث يحيى بن بكير عن الليث عن جعفر بن ربيعة، عن مسلم بن مخشي، عن ابن الفراسي قال: كنت أصيد، وكانت لي قِربة أجعل فيها ماء، وإني توضأت بماء البحر، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" قال الترمذي: سألت محمدا عنه، فقال: هذا مرسل، لم يدرك ابن الفراسي النبي صلى الله عليه وسلم، والفراسي له صحبة.

قال الحافظ: فعلى هذا كأنه سقط من الرواية عن أبيه، أو أن قوله: ابن، زياد ة فقد ذكر البخاري أن مسلم بن مخشي لم يدرك الفراسي نفسه، وإنما رَوَىَ عن ابنه، وإن الابن ليست له صحبة.

وقد رواه البيهقي من طريق شيخ شيخ ابن ماجه يحيِى بن بكير، عن

ص: 79

الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن مسلم بن مخشي، أنه حدثه أن الفراسي قال: كنت أصيد، فهذا السياق مجود، وهو على رأي البخاري مرسل، وروى الدارقطني، والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ميتة البحر حلال، وماؤه طهور" وهو من طريق المثنى، عن عمرو، والمثنى ضعيف.

ووقع في رواية الحاكم: الأوزاعي بدل المثنى، وهو غير محفوظ، ورواه الدارقطني، والحاكم من حديث علي بن أبي طالب، من طريق أهل البيت، وفي إسناده من لا يعرف.

وروى الدارقطني من طريق عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن أبي هريرة، أنه سأل ابن عمر: آكل ما طفا على الماء؟ قال: إن طافيه ميتته، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن ماءه طهور، وميتته حلال"، ورواه الدارقطني من حديث أبي بكر الصديق، وفي إسناده عبد العزيز بن أبي ثابت، وهو

ضعيف، وصحح الدارقطني وقفه، وكذا ابن حبان في الضعفاء. اهـ ملخص كلام الحافظ في التلخيص جـ 1/ ص 9 - 12.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: أن هذا الحديث أصل عظيم من أصول الطهارة ذكر صاحب الحاوي عن الحميدي شيخ البخاري، وصاحب الشافعي، قال: قال الشافعي: هذا الحديث نصف علم الطهارة، قاله النووي في المجموع جـ 1/ ص 84.

ومنها: أنه يدل على جواز الطهارة بماء البحر، قال في البدر المنير: وبه قال جميع العلماء إلا ابن عبد البر، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، وروي مثل ذلك عن أبي هريرة، وروايته ترده، وكذا رواية عبد الله بن عمر اهـ نيل جـ 1/ ص 35.

ص: 80

قال الجامع عما الله عنه: وكذا ما تقدم عن ابن عبد البر من تصحيح هذا الحديث يرد هذه الحكاية عنه.

ومنها: ما قاله في المنهل من أنه يدل على أنه يطلب ممن جهل شيئا أن يسأل أهل العلم عنه، وعلى جواز ركوب البحر لغير حج، وعمرة، وجهاد؛ لأن السائل إنما ركبه للصيد كما تقدم، أما قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر، أو غاز في سبيل الله، فإن تحت البحر نارا، وتحت النار بحرا" أخرجه أبو داود في "باب ركوب البحر في الغزو" من "كتاب الجهاد"، وسعيد بن منصور في سننه عن ابن عمر مرفوعا، فقد قال أبو داود: رواته مجهولون، وقال الخطابي: ضعفوا إسناده، وقال البخاري: ليس هذا الحديث بصحيح، وله طريق أخرى عند البزار، وفيها ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف.

وعلى أن خوف العطش يحيى ترك استعمال الماء المُعَدّ للشرب في الطهارة، ولذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم السائل على المحافظة عليه، وعدم التطهر به، وعلى جواز التطهر بماء البحر الملح، وبه قال جمهور السلف والخلف وما نقل عن بعضهم من عدم إجزاء التطهر به فمُزَيَّف، وقد أنكر القاضي أبو الحسن أن يكون ذلك قولا لأحد، ومنه تعلم بطلان ما نسب إلى ابن عمر من قوله:"ماء البحر لا يجزئ من وضوء، ولا جنابة، إن تحت البحر نارا، ثم ماء، ثم نارا، حتى عد سبعة أبحر، وسبع نيران" وما نسب أيضا إلى ابن عمرو بن العاص من أنه قال: "لا يجزئ التطهر به" وعلى فرض ثبوته فلا حجة في أقوال الصحابة إذا عارضت المرفوع.

وعلى حِلِّ جميع حيوانات البحر، وعلى أن السمك لا يحتاج إلى ذكاة، لإطلاق اسم الميتة عليه، ومثله باقي حيوان الماء.

وعلى أن المفتي إذا سئل عن شيء، وعلم أن للسائل حاجة إلى ذكر

ص: 81

ما يتصل بمسألته استحب تعليمه إياه اهـ المنهل جـ 1/ ص 280 - 281

قال النووي في المجموع بعد ذكر نحو ما تقدم من أنه يستحب للمفتي إذا سئل الخ ما نصه: لأنه سأل عن ماء البحر، فأجيب بمائه وحكم ميتته، لأنهم يحتاجون إلى الطعام كالماء، قال الخطابي: وسبب هذا أن علم طهارة الماء مستفيض عند الخاصة والعامة، وعلم حل ميتتة البحر تخفى فلما رآهم جهلوا أظهر الأمرين كان أخفاهما أولى، ونظيره حديث المسيء صلاته، فإنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه الصلاة، فابتدأ بتعليمه الطهارة ثم الصلاة، لأن الصلاة تُفْعَل ظاهرا، والوضوء في

خفاء غالبا، فلما جهل الأظهر كان الأخفى أولى اهـ المجموع جـ 1/ ص 48.

وقال الشوكاني: ومن فوائد الحديث مشروعية الزيادة في الجواب

على سؤال السائل، لقصد الفائدة، وعدم لزوم الاقتصار، وقد عقد البخاري لذلك بابا، فقال:"باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله".

وذكر حديث ابن عمر: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرمِ؟

فقال: "لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا السراويل، ولا البُرْنُس، ولا ثوبا مسه الورس أو الزعفران، فإن لم يجد النعلين، فليلبس الخفين، وليقطعهما، حتى يكونا تحت الكعبين فكأنه سأله عن حالة الاختيار، فأجابه عنها، وزاد حالة الاضطرار، وليست أجنبية عن السؤال؛ لأن حالة السفر تقتضي ذلك.

قال: وأما ما وقع في كلام كثير من الأصوليين أن الجواب يجب أن يكون مطابقا للسؤال، فليس المراد بالمطابقة عدم الزيادة، بل المراد أن الجواب يكون مفيدا للحكم المسؤول عنه. اهـ نيل جـ 1/ ص 36 - 37.

المسألة الخامسة: قال النووي رحمه الله: الطهور عندنا هو المطهر،

ص: 82

وبه قال أحمد بن حنبل، وحكاه بعض أصحابنا عن مالك، وحكوا عن الحسن البصري، وسفيان، وأبي بكر الأصم، وابن أبي داود، وبعض أصحاب أبي حنيفة، وبعض أهل اللغة، أن الطهور هو الطاهر.

واحتج لهم بقوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] ومعلوم أن أهل الجنة لا يحتاجون إلى التطهير من حدث ولا نجس، فعلم أن المراد بالطهور الطاهر، وقال جرير في وصف النساء (من الطويل):

عِذَابُ الثَّنايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ

والريق: لا يتطهر به، وإنما أراد طاهر

قال: واحتج أصحابنا بأن لفظة طَهُور حيث جاءت في الشرع المراد بها التطهير، من ذلك قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] فهذه مفسرة للمراد بالأولى.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "هو الطهور ماؤه" ومعلوم أنهم سألوه عن تطهير ماء البحر لا عن طهارته، ولولا أنهم يفهمون من الطهور المطهر لم يحصل لهم الجواب، وقوله صلى الله عليه وسلم:"طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا" رواه مسلم أي مطهره، وقوله صلى الله عليه وسلم:"جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" رواه مسلم وغيره، والمراد مطهرة، وبكونها مطهرة اختصت هذه الأمة لا بكونها طاهرة.

فإن قيل: يرد عليكم حديث "الماء طَهُور لا ينجسه شيء" قلنا: لا نسلم كونه مخالفا.

وأجاب أصحابنا عن قوله تعالى {شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان من آية

ص: 83

رقم 21]: بأنه تعالى وصفه بأعلى الصفات وهي التطهير.

وكذا قول جرير حجة لنا لأنه قصد تفضيلهن على سائر النساء، فوصف ريقهن بأنه مطهر، يتطهر به لكمالهن، وطيب ريقهن، وامتيازه على غيره، ولا يصح حمله على طاهر، فإنه لا مزية لهن في ذلك فإن كل النساء ريقهن طاهر، بل البقر والغنم، وكل حيوان، غير الكلب والخنزير، وفرع أحدهما، ريقه طاهر، والله أعلم. اهـ المجموع جـ 1/ ص 84 - 85.

المسألة السادسة: في مذاهب العلماء في حيوان البحر:

قال العلامة المباركفوري في تحفة الأحوذي: اختلف أهل العلم في حل غير السمك من دواب البحر، فقالت الحنفية: يحرم أكل ما سوى السمك، وقال أحمد: يؤكل كل ما في البحر إلا الضفدع والتِّمْسَاح. وقال ابن أبي ليلى، ومالك: يباح كل ما في البحر، وذهب جماعة إلى أن ما له نظير من البر يؤكل نظيره من حيوان البحر، مثل بقر الماء ونحوه، ولا يؤكل ما لا يؤكل نظيره في البر مثل كلب الماء، وخنزير الماء، فلا يحل أكله، وعن الشافعية أقوال.

وقال الحافظ في الفتح: لا خلاف بين العلماء في حل السمك على اختلاف أنواعه، وإنما اختلف فيما كان على صورة حيوان البر كالآدمي، والكلب والخنزير والثعبان.

فعند الحنفية، وهو قول الشافعية: يحرم ما عدا السمك، وعن الشافعية الحل مطلقا، على الأصح من المنصوص، وهو مذهب المالكية، إلا الخنزير في رواية.

وحجتهم قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] وحديث "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" أخرجه مالك، وأصحاب

ص: 84

السنن، وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهم.

وعن الشافعية: ما يؤكل نظيره في البر حلال، وما لا يؤكل فلا، واستثنوا على الأصح ما يعيش في البحر، والبر، وهو نوعان:

النوع الأول: ما ورد في منع أكله شيء يخصه كالضفدع وكذا استثناه أحمد للنهي عن قتله، ومن المستثنى أيضا التمساح لكونه يَعْدُو بنابه، ومثله القِرْشُ في البحر الملح خلافا لما أفتى به الحب الطبري، والثعبان، والعقرب، والسرطان، والسلحفاة، للاستخباث، والضرر اللاحق من السم.

النوع الثاني: ما لم يرد فيه مانع، فيحل أكله بشرط التذكية كالبط وطير الماء اهـ كلام الحافظ باختصار.

وقال العيني في عمدة القاري: وعندنا يكره أكل ما سوى السمك من دواب البحر، كالسلحفاة، والضفدع، وخنزير الماء، واحتجوا بقوله تعالى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وما سوى السمك خبيث. اهـ كلام العيني.

وأجاب الحنفية عن قوله "الحل ميتته" بأن المراد من الميتة السمك لا غير، بدليل حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالطحال والكبد" أخرجه أحمد وابن ماجه، وقالوا في تفسير قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] أن المراد من صيد البحر مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل، والمراد من طعامه ما يطعم من صيده، والمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده.

وقال من ذهب إلى حل جميع ما في البحر من دوابه مطلقا، أو

ص: 85

مستثنيا بعضها في تفسير قوله تعالى هذا، أن المراد بصيد البحر ما صيد من البحر، والمراد من طعامه ما قذفه البحر، ورماه إلى الساحل، والمعنى: أحل لكم أكل جميع ما صدتم من البحر، وما قذفه البحر.

قال الخازن في تفسيره: المراد بالصيد: ما صيد من البحر، فأما طعامه، فاختلفوا فيه، فقيل: ما قذفه البحر ورمى به إلى الساحل، ويروى ذلك عن أبي بكر، وعمر، وابن عمر، وأيوب، وقتادة.

وقيل: صيد البحر طريّه، وطعامه مالحه، ويروى ذلك عن سعيد ابن جيبر، وسعيد بن المسيب، والسُّدِّيّ، ويروى عن ابن عباس، ومجاهد، كالقولين. اهـ.

وقال الإمام البخاري في صحيحه: قال عمر: صيده ما اصطيد، وطعامه ما رمى به.

قال الحافظ في الفتح: وصله المصنف في التاريخ، وعبد بن حميد، عن أبي هريرة، قال: لما قدمت البحرين سألني أهلها عما قذف البحر، فأمرتهم أن يأكلوه، فلما قدمت على عمر فذكر القصة قال: فقال عمر: قال الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة آية 96] فصيده ما صيد وطعامه ما قذف به.

فإذا عرفت هذا كله فاعلم أن السمك بجميع أنواعه حلال بلا شك، وأما غير السمك من سائر دواب البحر فما كان منه ضارا يضر أكله، أو كان مستخبثا، أو ورد نص في منع أكله، فهو حرام.

وأما ما لم يثبت بنص صريح أكله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة رضي الله عنهم مع وجوده في ذلك العهد، فالاقتداء بهم في عدم الأكل هو المتعين هذا هو ما عندي.

والله تعالى أعلم اهـ كلام العلامة المباركفوري رحمه الله في تحفته

ص: 86

قال الجامع عفا الله عنه:

الذي يترجح عندي قول من قال: إن ميتة البحر هو السمك بدليل حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: "أحلت لنا ميتتان ودمان" الحديث أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي، وصحح البيهقي كونه موقوفا على ابن عمر قال: هذا إسناد صحيح، وهو في معنى المسند اهـ يعني أنه في معنى المرفوع، ومن ثَمَّ قال النووي: هو وإن كان الصحيح وقفه في حكم المرفوع، إذ لا يقال من قبل الرأي اهـ قاله المناوي في فيض القدير جـ 1/ ص 200.

قال الحافظ: في حكم المرفوع لأن قول الصحابة: أحل لنا وحرم علينا كذا، مثل قوله: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، فيحصل الاستدلال بهذه الرواية لأنه في حكم المرفوع اهـ تلخيص جـ 1/ ص 26.

فأفاد أن معنى الميتة هنا هو السمك بجميع أنواعه سواء كان طافيا أو غيره، وأما قولهم: أن الطافي منه حرام فيرده ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عَمرو أنه سمع جابرا يقول: "غزونا جيش الخبط، وأمِّرَ علينا أبو عبيدة، فجُعْنا جوعا شديدا، فألقى البحرحوتا ميتا لم يُرَ مثله، يقال له: العنبر، فأكلنا منه نصف شهر" الحديث، ورواه مسلم أيضا، وفي رواية عندهما: فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"كلوا رزقا أخرجه الله، أطعمونا إن كان معكم، فأتاه بعضهم بعضو فأكله" قال الحافظ: يستفاد منه إباحة ميتة البحر سواء مات بنفسه، أو مات بالاصطياد، وهو قول الجمهور اهـ.

فالحاصل أن الميتة هو السمك بجميع أنواعه طافيا وغيره والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 87

‌48 - بَابُ الْوُضُوِء بِالثَّلْج

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز الوضوء بالثلج.

وقال في اللسان: الثلج الذي يسقط من السماء معروف، وفي حديث الدعاء:"واغسل خطاياي بماء الثلج، والبرد" إنما خصهما بالذكر تأكيدا للطهارة، ومبالغة فيهما لأنهما ماءان مفطوران على خلقتهما، لم يستعملا ولم تنلهما الأيدي، ولم تخضهما الأرجل، كسائر المياه التي خالطت التراب وجرت في الأنهار، وجُمعَت في الحياض، فكانا أحق بكمال الطهارة اهـ.

وفي المعجم الوسيط: الثلج ما جَمَدَ من الماء اهـ.

60 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ سَكَتَ هُنَيْهَةً، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ مَا تَقُولُ فِي سُكُوتِكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ؟ قَالَ: "أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّي الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ".

ص: 88

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(علي بن حجر) بضم فسكون السعدي المروزي، ثقة من صغار [9] تقدم في 13/ 13.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبي، الكوفي نزيل الري وقاضيها ثقة [8] تقدم في 2/ 2.

3 -

(عمارة) بضم العين، ابن القعقاع، بن شُبْرُمة، الكوفي الضبي روى عن عبد الرحمن بن أبي نعيم، وأبي زرعة، والأخنس بن خليفة، والحارث العُكْلي، وعنه السفيانان، وشريك، والأعمش، وفضيل بن

غَزْوَان، وآخرون. وثقه النسائي، وابن معين، وابن سعد، ويعقوب ابن سفيان، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، روى له الجماعة. وفي (ت) ثقة أرسل عن ابن مسعود من السادسة.

4 -

(أبو زرعة بن عمرو بن جرير) اسمه هرم بن عمرو وقيل غير ذلك، الكوفي ثقة [3] تقدم في 43/ 50.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في 1/ 1.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات وكلهم كوفيون، إلا شيخ المصنف فهو مروزي، وأبا هريرة مدني، وفيه الإخبار، والعنعنة، والقول.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه أنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة) أي كبر للصلاة (سكت هنيهة) أي ساعة لطيفة تصغير هَنْت وفي اللسان: وقالوا: هَنْت بالتاء ساكنة النون، فجعلوه

ص: 89

بمنزلة بنت، وأخْت، وهنتان، وهنات، تصغير ها: هُنَيَّة، وهنيهة، فهنية على القياس، وهنيهة على إبدال الهاء من الياء في هنية للقرب الذي بين الهاء وحروف اللين، والياء في هنية بدل من الواو في هُنَيْوَة، والجمع هَنَات على اللفظ، وهَنَوَات على الأصل، قال ابن جني: أما هَنْت فيدل على أن التاء بدل من الواو في قولهم هنوات.

وقال الجوهري: في تصغيرها هنية تردها إلى الأصل وتأتي بالهاء كما تقول: أخية وبنية.

وقد تبدل من الياء الثانية هاء، فيقال: هنيهة، وفي الحديث:"أنه قام هنية" أي قليلا من الزمان، وهو تصغير هنة، ويقال: هنيهة أيضا. اهـ لسان باختصار.

وقال العيني: وأما هُنَيئة ففيه أوجه، الأول بضم الهاء وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف وفتح الهمزة، وقال ابن قرقول: كذا عند الطبري ولا وجه له، قال: وعند الأصيلي، وابن الحذّاء، وابن السكن: هنيهة بالهاء المفتوحة موضع الهمزة، وهو الوجه الثاني، الوجه الثالث قاله النووي: هنية بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء بغير همزة، ومن همزها فقد أخطأ، وأصلها هَنْوَة فلما صغرت صارت هُنَيْوَة، فاجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء.

وفي الموعب لابن التباني: هُنَيَّة هي اليسير من الشيء ما كان اهـ عمدة باختصار جـ 5/ ص 32.

والمراد بالسكوت: لا يقرأ جهرا، وإلا فالسكوت الحقيقي ينافي القول، فلا يتأتي السؤال بقوله: ما تقول في سكوتك؟ أفاده السندي.

(فقلت) القائل هو أبو هريرة رضي الله عنه.

ص: 90

(بأبي أنت وأمي يا رسول الله) متعلق بمحذوف إما اسم فيكون تقديره أنت مَفْديّ بأبي وأمي، وإما فعل فالتقدير: فَدَيْتُك بأبي، وحذف تخفيفا لكثرة الاستعمال، وعلم المخاطب به، فلما حُذف الفعل

انفصل الضمير.

وفيه تفدية النبي صلى الله عليه وسلم بالآباء والأمهات،، وهل يجوز تفدية غيره من المؤمنين، فيه مذاهب، أصحها نعم بلا كراهة، وثانيها: المنع وذلك خاص به، وثالثها: يجوز تفدية العلماء والصالحين. أفاده العيني رحمه الله جـ 5/ ص 32.

(ما تقول في سكلوتك بين التكبير والقراءة؟) أيَّ شيء تقول في حال سكوتك.

قال العلامة بدر الدين العيني: قيل: السكوت مناف للقول فكيف يصح أن يقال: ما تقول في سكوتك؟ وأجيب بأنه يحتمل أنه استدل على أصل القول بحركة الفم، كما استدل به على قراءة القرآن في الظهر والعصر باضطراب اللحية. اهـ عمدة. جـ 5/ ص 32.

(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابًا لسؤاله (أقول) بينهما (اللهم باعد) أي أبعد، قال الكرماني: أخرجه إلى صيغة المفاعلة للمبالغة، قال البدر العيني: لم يقل أهل التصريف إلا للتكثير نحو ضاعفت، بمعنى ضعفت، وفي المبالغة معنى التكثير. اهـ عمدة.

(بيني وبين خَطَايَاي) جمع خَطيَّة، كالعَطَايا جمع عَطيَّة، يقال: خَطَأ في دينه خَطَأ: إذا أثم فيه، والخِطْءُ بالكسر: الذنب والإثم.

وأصل خطايا: خطاييء، فقلبوا الياء همزة، كما في قبائل جمع قبيلة، فصار خطائئ بهمزتين، فقلبوا الثانية ياء، فصار خطائي، ثم قلبت الهمزة ياء مفتوحة فصارت خطاييَ، فقلبت الياء ألفا فصارت

خطايا.

ص: 91

ثم إن الخطايا إن كان يراد بها اللاحقة، فمعناه: إذا قُدَّرَ لي ذنب فبَعِّدْ بيني وبينه، وإن كان يراد بها السابقة، فمعناه المَحْو والغفران، ويقال: المراد بالمباعدة هو ما حصل منها والعصمة عما سيأتي منها، وهذا مجاز، لأن حقيقة المباعدة إنما هي في الزمان، والمكان، قاله البدر العيني رحمه الله.

وفي المنهل: وفي هذا اللفظ مجازان: الأول: استعمال المباعدة في

المعاني التي هي في الأصل تستعمل في الأجسام، الثاني: استعمالها في الإزالة بالكلية مع أن أصلها لا يقتضي الزوال. اهـ جـ 5/ ص 194.

(كما باعدت بين المشرق والمغرب) قال العيني: كلمة "ما" مصدرية تقديره كتبعيدك بين المشرق والمغرب، ووجه الشبه أن التقاء المشرق، والمغرب لما كان مستحيلا شبه أن يكون اقترابه من الذنب كاقتراب المشرق والمغرب.

وقال الكرماني: كرر لفظ البين في قوله: "وباعد بيني وبين خطاياي" ولم يكرر بين المشرق والمغرب، لأنه إذا عطف على المضمر المجرور أعيد الخافض. اهـ عمدة جـ 5/ ص 33.

[قال الجامع عفا الله عنه]: هذا الذي قاله الكرماني هو قول جمهور النحاة، ولا يلزم ذلك عند ابن مالك كما قال في خلاصته:

وعَوْدُ خَافض لَدَى عَطْفٍ عَلَى

ضَميرخَفْض لازمًا قَدْ جُعِلَا

وَلَيْسَ عندي لَازِمًا إذْ قدْ أتَى

في النَّظمِ وَالنَّثْرِ الصَّحيحِ مُثْبَتًا

(اللهم نقني) بتشديد القاف وهو من نقّى ينقي تنقية، وهو مجاز عن إزالة الذنوب ومحو أثرها (من خطاياي) وفي رواية البخاري "من الخطايا".

ص: 92

(كما يُنقى الثوبُ الأبيض) أي طهرني من خطاياي وأزلها عني، كما يطهر الثوب الأبيض (من الدنس) بفتحتين وهو الوَسَخ، ووقع التشبيه بالثوب الأبيض لأن ظهور النَّقَاء فيه أشد وأكمل لصفائه بخلاف غيره من الألوان.

(اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج) ماء ينزل من السماء، ثم ينعقد على وجه الأرض، ثم يذوب بعد جُمُوده.

(والماء والبرد) بفتح الراء هو حَبُّ الغمام، وهو ماء ينزل من السماء جامدًا كالملح ثم يذوب على الأرض، أي طهرني من الخطايا التي هي في تمحيص الذنوب بمثابة هذه الأنواع الثلاثة في إزالة الأوساخ.

وذكر أنواع المطهرات المنزلة من السماء التي لا يمكن حصول الطهارة الكاملة إلا بأحدها، تبيانا لأنواع المغفرة التي لا يتخلص من الذنوب إلا بها اهـ المنهل جـ 5/ ص 194.

قال الكرماني: الغسل البالغ إنما يكون بالماء الحار، فلم ذكر كذلك؟

فأجاب ناقلا عن محيي السنة: معناه طهرني من الذنوب، وذكرها مبالغة في التطهير.

وقال الخطابي: هذه أمثال ولم يُرَدْ بها أعيان هذه المُسَمَّيَات، وإنما أراد بها التوكيد في التطهير من الخطايا والمبالغة في محوها عنه، والثلج والبرد ماءان لم تمسهما الأيدي، ولم يمتهنهما استعمال، فكان ضرب المثل بهما أوكد في بيان معنى ما أراده من تطهير الثوب.

وقال التوربشتي: ذكر أنواع المطهرات المنزلة من السماء التي لا يمكن حصول الطهارة الكاملة إلا بأحدها بيانا لأنواع المغفرة التي لا يتخلص من الذنوب إلا بها، أي طهرني بأنواع مغفرتك التي هي في تمحيص الذنوب بمثابة هذه الأنواع الثلاثة في إزالة الأرجاس، ورفع الأحداث.

ص: 93

وقال الطيبي: يمكن أن يقال: ذكر الثلج والبرد بعد ذكر الماء يعني في رواية البخاري حيث قدم الماء عليها لطلب شمول الرحمة بعد المغفرة، والتركيب من باب رأيته متقلدا سيفا ورُمْحا، أي اغسل خطاياي بالماء: أي اغفرها، وزد على الغفران شمول الرحمة، طلب أوّلا المباعدة بينه وبين الخطايا، ثم طلب تنقية ما عسى أن يبقى منها شيء تنقية تامة، ثم سأل ثالثا بعد الغفران غاية الرحمة عليه بعد التخلية.

وقال الكرماني: والأقرب أن يقول جعل الخطايا بمنزلة نار جهنم لأنها مستوجبة لها بحسب وعيد الشارع، قال تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل تأكيدا في الإطفاء، وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيا عن الماء إلى أبرد منه، وهو الثلج، ثم إلى أبرد من الثلج، وهو البرد، بدليل جموده، لأن ما هو أبرد فهو أجمد، وأما تثليث الدعوات، فيحتمل أن يكون نظرا إلى الأزمنة الثلاثة. فالمباعدة للمستقبل، والتنقية للحال، والغسل للماضي اهـ عمدة جـ 5/ ص 33.

مسائل تتعلق بالحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا 60، وفي الكبرى 60 بهذا السند، وفي الصلاة 895 عن علي بن حُجْر عن جرير، عن عُمَارة به، وفي 894 عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن عمارة به مختصرا.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه البخاري في الصلاة عن موسى بن إسماعيل، عن عبد الواحد بن زياد، ومسلم في الصلاة عن

ص: 94

زهير بن حرب، عن جرير، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير كلاهما عن محمد بن فضيل، وعن أبي كامل عن عبد الواحد بن زياد، ثلاثتهم عن عمارة بن القعقاع به.

وأخرجه أبو داود في الصلاة عن أبي كامل الجحدري به، وعن أحمد بن أبي شعيب الحرَّاني، عن محمد بن فضيل به.

وأخرجه ابن ماجه في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد الطنافسي كلاهما عن محمد بن فضيل به. أفاده الحافظ المزي رحمه الله، تحفة جـ 10/ ص 441.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: ما ترجم له المصنف وهو جواز الوضوء بالثلج.

وذلك حيث شبه محو الذنوب عن الشخص بمحو الأوساخ بهذه الآلات فأفاد أن هذه الآلات تفيد الغسل الشرعي، وأنها مما يزال بها الأحداث والأخباث، وبقية الفوائد ستأتي في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.

المسألة الخامسة: قال الإمام النووي رحمه الله في المجموع: قال أصحابنا: إذا استعمل الثلج والبرد قبل إذابتهما فإن كان يسيل على العضو لشدة حر، وحرارة الجسم، ورخاوة الثلج، صح الوضوء على الصحيح، وبه قطع الجمهور، لحصول جريان الماء على العضو، وقيل: لا يصح على الصحيح، لأنه لا يسمى غسلا، وإن كان لا يسيل، لم يصح الغسل بلا خلاف. ويصح مسح الممسوح، وهو الرأس والخف والجبيرة هذا مذهبنا.

وحكى أصحابنا عن الأوزاعي جواز الوضوء به، وإن لم يسل،

ص: 95

ويجزيه في المغسول، والممسوح، وهذا ضعيف، أو باطل، إن صح عنه لأنه لا يسمى غسلا، ولا في معناه.

قال الدارمي: ولو كان معه ثلج أو برد لا يذوب، ولا يجد ما يسخنه به صلى بالتيمم، وفي الإعادة أوجه: ثالثها: يعيد الحاضر دون المسافر بناء على التيمم لشدة البرد، ووجه الإعادة ندور هذا الحال، قلت: أصحها الثالث. اهـ المجموع باختصار جـ 1/ ص 81 - 82.

قال الجامع عفا الله عنه: وفي تصحيحه القول الثالث نظر، وسيأتي تحقيق المسألة في محله إن شاء الله تعالى.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 96

‌49 - باب الوضوء بماء الثلج

أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على جواز الوضوء بماء الثلج.

وتقدم في الباب السابق أن الثلج ما ينزل من السماء ماء، ثم ينعقد في الأرض جامدا، ثم يذوب.

61 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا

(1)

جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي، المعروف بابن راهويه، ثقة حجة من [10] تقدم في 2/ 2.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبي الكوفي نزيل الرَّيّ وقاضيها ثقة من [8] تقدم في 2/ 2.

3 -

(هشام بن عروة) بن الزبير بن العَوَّام الأسدي، أبو المنذر، أحد الأعلام، عن أبيه، وزوجته فاطمة بنت المنذر، وأبي سلمة، وخلق، وعنه أيوب، وابن جريج وشعبة، ومعمر، وخلق، قال ابن المديني: له نحو أربعمائة حديث، وقال ابن سعد: ثقة حجة، وقال أبو

(1)

وفي نسخة: أنبأنا.

ص: 97

حاتم: إمام، قال أبو نعيم: توفي سنة 145 وقيل 6 وله 87 سنة، وتكلم فيه مالك وغيره، أخرج له الجماعة، وفي (ت) ثقة فقيه، ربما دلس، من الخامسة.

4 -

(عروة) بن الزبير بن العوَّام الأسدي، أبو عبد الله المدني، أحد الفقهاء السبعة، وأحد علماء التابعين، عن أبيه، وأمه، وخالته عائشة، وعلي، ومحمد بن مسلمة، وأبي هريرة، وعنه أولاده: عثمان، وعبد الله، وهشام، ويحيى، ومحمد، وسليمان بن يسار، وابن أبي مليكة وخلائق. قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، فقيه، عالم، ثبت، مأمون. وقال العجلي: لم يدخل نفسه في شيء من الفتن. وقال الزهري: كان يتألف الناس على حديثه، قال عروة: ما ماتت عائشة حتى تركتها قبل ذلك بثلاث سنين. وقال الزهري: عروة بحر لا تكدره الدلاء، قال ابن شوذب: كان يقرأ كل ليلة ربع القرآن، مات وهو صائم، ولد سنة 29 أرخه مصعب، وقال ابن المديني: مات سنة 92، وقال خليفة: سنة 3، وقال ابن سعد: سنة 4، وقال يحيى ابن بكير: سنة 5، قلت: عروة عن أبيه مرسل، أخرج له الجماعة، وفي (ت) ثقة فقيه مشهور من الثالثة.

5 -

(عائشة) الصديقة بنت الصديق أكبر، أم المؤمنين رضي الله عنهما، تقدمت في 5/ 5.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، وأنهم ما بين مروزي، وهو الأول، وكوفي وهو الثاني، ومدنيين وهم الباقون.

وأن فيه الراوي عن أبيه عن خالته.

وأن تابعيه من الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة المجموعين في قول

ص: 98

بعضهم: (من الطويل)

ألا إنَّ مَنْ لا يَقْتَدي بائمَّة

فقسْمَتُهُ ضيزَى عن الحَقِّ خارجَهْ

فقُلْ هُمْ عُبَيْدُ الله عُرْوَةُ قَاسمٌ

سَعيدٌ أبُو بكْر سُلَيْمَانُ خَارجَهْ

وأن فيه الإخبارَ، والعنعنةَ، والقولَ.

شرح الحديث

(عن عائشة) رضي الله عنها أنها (قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اغسل خطاياي) أي ذنبي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر الاستغفار امتثالا لقوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] وأمْرُ الله تعالى بالاستغفار من ذنبه اختلف العلماء في المراد به:

قال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب. الثاني: استغفر الله ليعصمك من الذنب.

وقيل: لما ذكر له حال الكافرين والمؤمنين، أمره بالثبات على الإيمان: أي أثبت على ما أنت عليه من التوحيد والإخلاص والحذر عما تحتاج معه إلى استغفار، وقيل: الخطاب له والمراد به الأمة، وعلى هذا القول توجب الآية استغفار الإنسان لجميع المسلمين، وقيل: كان عليه السلام يَضيق صدره من كُفر الكفَّار، والمنافقين، فنزلت الآية، أي فاعلم أنه لا كاشف يكشف ما بك إلا الله فلا تعلق قلبك بأحد سواه.

وقيل: أمر بالاستغفار لتقتدي به الأمة اهـ تفسير القرطبي 16/ 242.

(بماء الثلج والبرد) تقدم الكلام عليه.

(ونق قلبي من الخطايا) أي طهر قلبي من أثر الخطايا، لأن الإنسان إذا عمل ذنبا أثَّر ذلك في قلبه.

ص: 99

ففد أخرج الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكت في قلبه نُكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صُقِّلَ قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تَعْلو قلبه، وهو الرَّان الذي قال الله:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وأخرج مسلم في صحيحه عن الأغر المزني: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه ليُغَان على قلبي حتى استغفر الله في اليوم مائة مرة" وفي رواية "توبوا إلى ربكم فوالله إني أتوب إلى ربي عز وجل مائة مرة في اليوم".

واختلف العلماء في المراد بالغَيْن المذكور: فقيل: هو من المتشابه، فقد سئل عنه الأصمعي فقال: لو كان قلب غير النبي صلى الله عليه وسلم، لتكلمت عليه، ولكن العرب تزعم أن الغَيْن الغَيْم الرقيق. وقيل: سبب الغين هو ما أطلعه الله عليه من أحوال أمته بعده، فأحزنه ذلك حتى يستغفر لهم.

وقيل: إنه لما كان يشغله النظر في أمور المسلمين ومصالحهم حتى يرى أنه قد شغل بذلك، وإن كان من أعظم طاعة وأشرف عبادة عن أرفع مقام مما هو فيه وهو التفرد بربه عز وجل، وصفاء وقته معه، وخلوص همه من كل شيء سواه، فلهذا السبب كان صلى الله عليه وسلم يستغفر الله فإن حسنات الأبرار سيآت المقربين، وقيل: هو مأخوذ من الغين، وهو الغيم الرقيق الذي يغشى السماء فكأن هذا الشغل، والهم يغشى قلبه صلى الله عليه وسلم، ويغطيه فكان يستغفر الله منه.

وقيل: هذا الغين هو السكينة التي تغشى قلبه صلى الله عليه وسلم، وكأن سبب استغفاره لها إظهار العبودية، والافتقار إلى الله تعالى، وحكى الشيخ محيي الدين النووي عن القاضي عباض أن المراد به الفَتَرَات، والغفلات من الذكر الذي كان شأنه صلى الله عليه وسلم الدوام عليه فإذا فتر وغفل عَدَّ ذلك ذنبا،

ص: 100

واستغفر منه، وحكى الوجوه المتقدمة عنه، وعن غيره، وقال الحارث المحاسبي: خوف الأنبياء والملائكة خوف إعظام وإجلال، وإن كانوا آمنين من عذاب الله تعالي، وقيل: يحتمل أن هذا الغين حالة حسنة وإعظام يغشى القلب ويكون استغفاره شكرا كما قال: "أفلا أكون عبدا شكورا" اهـ تفسير الخازن من سورة محمد صلى الله عليه وسلم بزيادة شيء يسير في أوله.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها صحيح.

المسألة الثانية: هذا الحديث من أفراد الصنف رحمه الله، أخرجه هنا 71 وفي 332 بالسند المذكور، كما أشار إليه الحافظ المزي في تحفته ص 12/ ص 125. وأخرجه في الكبرى 59 بهذا السند أيضا.

وأخرجه مطولا في كتاب الاستعاذة في الباب 26 "الاستعاذةُ من شر فتنة الغنى" الحديث 5477 بهذا السند نفسه ولفظه: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا جرير عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وفتنة النار، وفتنة القبر، وعذاب القبر، وشر فتنة المسيح الدجال، وشر فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمغرم والمأثم".

المسألة الثالثة: من فوائد هذا الحديث:

استحباب ملازمة الاستغفار للإنسان، وقد جاءت أحاديث كثيرة تحث على ذلك، والدعاء بصفاء القلوب عن درن الذنوب، وذلك لأنه مَلِكُ الأعضاء، مدار صلاحها عليه، كما جاء في الحديث المتفق عليه:"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".

ومنها: ما ترجم له المؤلف وهو جواز الوضوء بماء الثلج، وقد تقدم

ص: 101

تحقيق هذا في الباب السابق.

المسألة الرابعة: في بيان اختلاف العلماء في جواز اختصار الحديث، قال النووي في التقريب: اختلف العلماء في رواية بعض الحديث الواحد دون بعض، فمنعه بعضهم مطلقا بناء على منع الرواية بالمعنى، ومنعه بعضهم مع تجويزها بالمعنى إذا لم يكن رواه هو أو غيره بتمامه قبل هذا، وجوزه بعضهم مطلقا، وهذا مقيد بما إذا لم يكن المحذوف متعلقا بالمَأتيّ به تعلقا يُخلّ بالمعنى حذفُه كالاستثناء، والشرط، والغاية، ونحو ذلك، وإلا فممنوع اتفاقًا.

والصحيح التفصيل، وهو المنع من غيرالعالم، وجوازه من العالم إذا كان ما تركه غير متعلق بما رواه بحيث لا يختل البيان، ولا تختلف الدلالة بتركه، سواء جَوَّزنا الرواية بالمعنى أم لا، رواه قبلُ تاما أم لا، لأن ذلك بمنزلة خبرين منفصلين، هذا إذا ارتفعت منزلته عن التُّهَمَة، فأما من رواه تاما فخاف إن رواه ناقصا أن يُتَّهَم بزيادة أوَّلا، أو نسيان لغفلة وقلة ضبط ثانيا فلا يجوز له النقصان ثانيا ولا ابتداء إن تعين عليه أداء تمامه لئلا يخرج بذلك باقيه عن الاحتجاج به.

وأما تقطيع المصنف الحديث الواحد في الأبواب بحسب الاحتجاج به في المسائل، كل مسألة على حدة فهو إلى الجواز أقرب، قال الشيخ ابن الصلاح: ولا يخلو من كراهة، قال النووي: وما أظنه يُوَافَقُ عليه، فقد فعله الأئمة: مالك، والبخاري، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم. اهـ تقريب النووي بزيادة من شرحه التدريب جـ 2/ ص 103 - 105.

وإلى ذلك أشار السيوطي في ألفيته حيث قال:

وَجَائزٌ حَذْفُك بَعضَ الخَبَر

إِنْ لمْ يُخِلَّ البَاقي عنْد الأكْثَرِ

وامنع لذي تُهَمَةٍ فَإنْ فَعَلْ

فلا يُكمِّل خَوْفَ وَصْفٍ بخَلَل

وَالخُلْفُ في التَّقطْيعِ في التَّصنْيفِ

يَجْرِي وَأوْلَى منهُ بالتَّخْفيفِ

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 102

‌50 - باب الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَرَدِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز الوضوء بماء البَرَد، والبرد بفتحتين: حَبُّ الغَمَام، وهو ما ينزل من السماء جامدا كالملح، ثم يذوب على الأرض، بخلاف الثلج، فإنه ينزل من السماء ماء ثم ينعقد على الأرض جامدا، ثم يذوب.

62 -

أَخْبَرَنِا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: شَهِدْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى مَيِّتٍ، فَسَمِعْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ:"اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَأَوْسِعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ".

رجال الإسناد: سته

1 -

(هارون بن عبد الله) بن مروان الحَمَّال بمهملة البزاز أبو موسى،

ص: 103

الحافظ البغدادي، عن ابن عيينة، وعبد الله بن نمير، وأبي أسامة، وخلق، وعنه مسلم، والأربعة، وخلق، وثقه الدارقطني، والنسائي، توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وقد ناهز الثمانين، وفي (ت) ثقة من العاشرة.

2 -

(معن) بفتح فسكون بن عيسى بن يحيى، الأشجعي مولاهم، أبو يحيى المدني، ثقة ثبت، قال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب مالك، من كبار العاشرة مات سنة 198 أخرج له الجماعة.

3 -

(معاوية بن صالح) بن حُدَير بضم المهملة الأولى الحضرمي، أبو عبد الرحمن الحمصي، أحد الأعلام، وقاضي الأندلس، عن مكحول، وربيعة بن يزيد، وخلق، وعنه الثوري، والليث، وابن

وهب وخلق، وثقه أحمد، وابن معين، وقال ابن عدي: هو عندي ثقة إلا أنه يقع في حديثه إفرادات، قال أبو صالح الفراء: مات سنة 158 أخرج له مسلم والأربعة، وفي (ت) صدوق له أوهام، من السابعة.

4 -

(حبيب) مكبرا (بن عبيد) مصغرا الرَّحَبي بمهملتين مفتوحتين أبو حفص الحمصي.

عن العرباض بن سارية، وعوف بن مالك، وعنه يزيد بن خُمَير، ومعاوية بن صالح، وثقه النسائي، وأخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، والأربعة، وفي (ت) ثقة من الثالثة.

5 -

(جبير بن نفير) بنون وفاء مصغر الاسمين الحضرميُّ، أبو عبد الرحمن، الشامي، مخضرم أسلم في زمن أبي بكر، عن عبادة، ومعاذ بن جبل، وخالد بن الوليد، وأبي الدرداء وأبي ذر، وعنه ابنه عبد الرحمن، وخالد بن مَعدان، ومكحول، وطائفة وثقه أبو حاتم، قال أبو حسان الزيادي: توفي سنة 75، أخرج له البخاري في الأدب

ص: 104

المفرد، ومسلم والأربعة، وفي (ت) ثقة جليل من الثانية، ولأبيه صحبه، ت سنة 85، وقيل: بعدها.

6 -

(عوف بن مالك) بن أبي عوف الأشجعي، الغطفاني، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو محمَّد، ويقال: أبو حماد، ويقال: أبو عمرو، شهد فتح مكة، يقال: كانت معه راية أشجع، ثم سكن دمشق، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عبد الله بن سلام.

وعنه أبو مسلم الخولاني، وأبو مليح، وجبير بن نفير، وعاصم بن حميد السكوني، وكثير بن مرة، وأبو إدريس الخولاني، وأبو المليح بن أسامة، وسيف الشامي، وشداد بن عمار، وعبد الرحمن بن عامر وحبيب بن عبيد، وراشد بن سعد وجماعة، قال الواقدي: شهد خيبر ونزل حمص وبقي إلى خلافة عبد الملك، ومات سنة 73 وفيها أرخه غير واحد وذكر ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم آخي بينه وبين أبي الدرداء، أخرج له الجماعة. اهـ تهذيب التهذيب جـ 8/ ص 168.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وكلهم شاميون إلا شيخ المصنف، فإنه بغدادي، وشيخ شيخه فمدني، وفيه رواية تابعي، عن تابعي مخضرم. وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، والسماع، وفيه استعمال القاعدة المشهورة عند المحدثين وهي أن الراوي إذا قرأ بنفسه على الشيخ يقول: أخبرني، وإذا سمع قارئا يقرأ على الشيخ يقول: أخبرنا، كما يستحسن لمن سمع من الشيخ وحده أن يقول: حدثني، ومع غيره: حدثنا.

وإلى ذلك أشار السيوطي في ألفيته، حيث قال:

وَاسْتَحْسَنُوا لمُفْرَد حَدَّثنَي

وَقَارئ بنَفْسه أخْبَرَني

ص: 105

وَإنْ يُحَدِّثْ جُمْلَةً حَدَّثنا

وَإنْ سَمعْتَ قَارئًا أخْبَرَنَا

شرح الحديث

(عن جير بن نفير) الحضرمي الشامي، قال (شهدت) أي حضرت (عوف بن مالك) الأشجعي الغطفاني رضي الله عنه (يقول) حال من عوف (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي كلامه (يصلي) حال من رسول الله أي حال كونه مصليا (على ميت) بتشديد الياء وتخفيفها للتخفيف، وقد

جمعها الشاعر فقال: (من الخفيف):

ليْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بميْتٍ

إنَّمَا الميْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ

وأما الحي، فميت بالتشديد لا غير، وعليه قوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] أي ستموتون. أفاده في المصباح.

وفي القاموس: مات يموت، ويَمَات، ويَمِيتُ، فهو مَيْت، ومَيِّت: ضد الحي، ومات سكن، ونام، وبَلِيَ، أو الميْت مخففة الذي مات، والميِّت والمائت: الذي لم يمت بعدُ اهـ.

قال المرتضى: قال الخليل: أنشدني أبو عمرو: (من الطويل)

أَياَ سَائلِي تَفْسيرَ مَيْت وَمَيِّتِ

فَدُونَكَ قَدْ فَسَّرْتُ إنْ كُنْتَ تَعْقلُ

فَمَنْ كان ذَا رُوحٍ فَذلكَ مَيِّتٌ

وَمَا الميْتُ إلَّا مَنْ إِلَى القَبْر يُحْمَلُ

وحكى الجوهري عن الفراء يقال لمن لم يمت: إنه مائت عن قليل، ومَيِّت ولا يقولون لمن مات: هذا مائت، قيل: وهذا خطأ، وإنما ميت يصلح لما قد مات، ولما سيموت، قال الله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وجمع بين اللغتين عَديّ بن الرَّعْلاء، فقال:(من الخفيف)

لَيْسَ مَنْ ماتَ فاسَتَراحَ بميْتٍ

إنما المَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ

إنَّمَا الميْتُ مَنْ يَعيشُ شَقِيَّا

كَاسِفًا بَالُهُ قَلِيلُ الرَّجَاءِ

ص: 106

فَأُناس يمَصِّصُونَ ثِمَادًا

وَأنَاسٌ حُلُوقُهُم في المَاءِ

فجعل الميت كالميت.

وقال الزجاج: الميّت بالتشديد، إلا أنه يخفف، يقال: مَيِّت، ومَيْت، والمعنى واحد ويستوي فيه المذكر والمؤنث، قال تعالى:{لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان: 49] ولم يقل: مَيْتَةِ اهـ.

وجمع الميت أموات، ومَوتَى، ومَيْتُون، ومَيِّتُون، والأنثى مَيِّتَة بالتشديد، ومَيْتَة بالتخفيف ومَيْت بغيرها مشددا، ومخففا، والميتة ما لم تلحقه الذكاة. اهـ (ق) وتاج باختصار وتغيير يسير.

قال الجامع عفاالله عنه: فتحصل من مجوع ما تقدم أن الميِّت مشددا، ومخففا، يطلق على الذي خرجت روحه، وعلى من سيموت، وأنه يستوي فيه المذكر والمؤنث، ويقال أيضا للأنثى: ميتة بهاء مشددا ومخففا، وأن فعله مثلث المضارع بالضم من باب قال، يقول، والكسر كباع يبيع، وهي لغة مرجوحة أنكرها جماعة كما في التاج، والفتح، كخاف يخاف، وفيه لغة أخرى مِتَّ بالكسر، تموتُ بالضم، وهي من باب تداخل اللغتين والله أعلم.

(فسمعت من دعائه) صلى الله عليه وسلم (وهو يقول) جملة حالية: أي كونه قائلا: فقدله: فسمعت تفصيل وتفسير لسمعت الأول (اللهم) أي يا ألله، حذفت "يا" فعوض عنها اليم في الآخر، ولا يجمع بينهما إلا في الشعر كقوله:(من الرجز)

إنِّي إذَا مَا حَدَثٌ أَلَماَّ

أقُوُلُ يا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُماَّ

وإلى ذلك أشار ابن مالك في ألفيته، حيث قال:

وَالأكْثَرُ الَلَّهُمَ بالتَّعْويضِ

وَشَذَّ يا اللَّهُمَّ في قَريضِ

(اغفْر له) أي لهذا الميت، يقال: غفر الله له، غفْرا، من باب ضرب، وغُفرانا: صفح عنه. قاله في المصباح.

ص: 107

(وارحمه) أي ارفق به، يقال: رحمتُ زيدا، رُحْمًا بضم الراء ورَحمة، ومَرحمة، إذا رفقت له وحننت. اهـ مصباح.

(وعافه) أي ادفع عنه المكروه، ففي "ق" والعافية: دفاع الله عن العبد، ويقال عافاه الله تعالى عن المكروه عِفاء بالكسر، ومعافاة وعافية: إذا وهب له العافية من العلل والبلاء، كأعفاه. اهـ "ق" وتاج جـ 1/ ص 248.

(واعف عنه) أي امح عنه ذنوبه، يقال: عفا عنه، وعفا له ذنبه وعن ذنبه: تركه ولم يعاقبه.

والعفو: الصفح، وترك عقوبة المستحق، قال المرتضى: الصفح ترك التَّأنيب، وهو أبلغ من العفو، فقد يعفو، ولا يصفح، وأما العفوَ، فهو القصد، لتناول الشيء، هذا هو المعنى الأصلي، قال الراغب: فمعنى عفوت عنك، كأنه قصد إزالة ذنبه صارفا عنه فالمعفو المتروك، "وعنك" متعلق بمضمر، فالعفو هو التجافي عن الذنب اهـ "ق، وتاج" باختصار وتغيير.

(وأكرم نزله) بضمتين، ويخفف بتسكين ثانيه، في الأصل طعام الضيف الذي يُهَيَّأ له، والمراد هنا ما يعطيه الله لعبده، عند لقائه، ممالا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

(وأوسع مدخله) بفتح الميم، وضمها أي محل دخوله، وهو القبر.

(واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا) أي طهره من الذنوب.

(كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) أي كما ينظف الثوب الأبيض من الوسخ، وتقدم وجه التشبيه به في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه 48/ 60.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث عوف بن مالك رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم في صحيحه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه المصنف هنا 62 وفي الجنائز 1984 عن هارون بن عبد الله، عن معن بن عيسى،

ص: 108

عن معاوية بن صالح، عن حَبيب بن عُبيد، عن جُبَير بن نُفَير، عن عوفا بن مالك رضي الله عنه، وفي الجنائز 1983، وعمل اليوم والليلة عن أبي الطاهر بن السرح عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي حمزة بن سليم، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه مسلم في الجنائز عن هارون بن سعيد الأيلي، عن ابن وهب، وعن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن مهدي، كلاهما عن معاوية بن صالح، عن حبيب بن عبيد، وعبد الرحمن بن جبير بن نفير كلاهما، عن جبير بن نفير به، وعن نصر بن علي، وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن عيسى بن يونس، وعن هارون بن سعيد، وأبي الطاهر بن السرح، كلاهما عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، كلاهما عن أبي حمزة بن سليم، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير به.

وأخرجه الترمذي في الجنائز عن ابن بشار، عن ابن مهدي، عن معاوية، عن عبد الرحمن، نحوه، وقال: حسن صحيح، قال محمَّد: هذا أصح شيء في هذا الباب. أفاده الحافظ المزي في التحفة جـ 8/ ص 210.

المسألة الرابعة: في فوائده:

يستفاد من هذا الحديث مشروعية الصلاة على الجنائز، والجهر بالدعاء له، واستحباب الدعاء للميت بهذا الدعاء.

ويستفاد منه أيضا ما ترجم له المصنف، وهو جواز الوضوء بماء البرد، وقد تقدم البحث فيه في الباب السابق، وسيأتي بأتم من هذا في الجنائز إن شاء الله تعالى.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 109

‌51 - سؤر الكلب

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حكم سؤر الكلب.

قال في اللسان: السؤر: بقية الشيء وجمعه أسآر، وأسأر منه شيئا: أبقى، والنعت منه سَأر على غير قياس؛ لأن قياسه فيه مُسئر، وقال الجوهري: ونظيره أجبره، فهو جَبَّار.

ويستعمل في الطعام والشراب وغيرهما، وقال في التهذيب: وأما قولهم: وسائر الناس هَمَج، فإن أهل اللغة اتفقوا على أن معنى سائر في أمثال هذا الموضع بمعنى الباقي من قولك: أسأرت سؤرا وسؤرة، إذا أفضلتها، وأبقيتها، والسائر: الباقي، وكأنه من سَأرَ يَسْأر فهو سائر، قال ابن الأعرابي فيما رَوَى عنه أبو العباس: يقال: سأر وأسأر: إذا أفضل فهو سائر، جعل سأر وأسأر، واقعين، ثم قال: وهو سائر، قال -أي أبو العباس- قال ابن الأعرابي: فلا أدري أراد بالسائر المسْئِر؟ وفي الحديث: "فضلُ عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"

(1)

أي باقيه، والسائر، مهموز: الباقي، قال ابن الأثير: والناس يستعملونه في معنى الجميع، وليس بصحيح، وتكررت هذه اللفظة في الحديث، وكله بمعنى باقي الشيء، والباقي: الفاضل. اهـ المقصود من اللسان باختصار.

والكلب: كل سبع عقور، وفي الحديث:"أما تخاف أن يأكلك كلب الله" فجاء الأسد ليلا فاقتلع هامته من بين أصحابه. والكلب معروف، واحد الكلاب، قال ابن سيده: وقد غلب الكلب على هذا

(1)

صحيح أخرجه ابن ماجه من حديث أنس رضي الله عنه. انظر صحيح الجامع الصغير للشيخ الألباني جـ 2/ ص 776.

ص: 110

النوع النابح، وربما وصف به، يقال: امرأة كلبة، والجمع أكلُب، وأكالبُ، جمعُ الجمع، والكثير كلاب، وفي الصحاح: الأكالب جمع أكلُب، وكلاب: اسم رجل سُمِّي بذلك، ثم غلب على الحي،

والقبيلة اهـ لسان.

قال الجامع عفا الله عنه: المراد في حديث الباب هو الحيوان النابح المعروف، لا كل سبع عقور، والله أعلم.

63 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ".

64 -

أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ، أَنَّ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ".

65 -

أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ هِلَالُ بْنُ

ص: 111

أُسَامَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ يُخْبِرُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.

رجال السند الأول: خمسه

1 -

(قتيبة) بن سعيد بن جميل بن طَريف، أبو رجاء الثقفي البَغْلاني ثقة ثبت من [10] تقدم في 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس أبو عبد الله إمام دار الهجرة الحجة المثبت من [7] تقدم في 7/ 7.

3 -

(أبوالزناد) عبد الله بن ذكوان الأموي مولاهم، المدني، يكنى أبا عبد الرحمن، كان أحد الأئمة، عن أنس، وابن عمر، وعمر بن أبي سَلمة مرسلا، وعن الأعرج فأكثر، وابن المسيب، وطائفة، وعنه موسى بن عقبة، وعبيد الله بن عمر، ومالك، والليث، والسفيانان، وخلق، قال أحمد: ثقة أمير المؤمنين، وقال أبو حاتم: ثقة فقيه صاحب سنة، وقال البخاري: أصح الأسانيد أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، وقال الليث: رأيت أبا الزناد، وخلفه ثلاثمائة طالب، قال الواقدي: مات فجأة سنة 135، قال عمرو بن علي، وابن معين، سنة إحدى، قال الحافظ شمس الدين الذهبي: ولي بعض أمور بني أمية فتُكُلِّم فيه لأجل ذلك، وهو ثقة حجة لا يعلق به جرح، والله أعلم، أخرج له الجماعة، اهـ صه، وفي (ت) ثقة فقيه من الخامسة.

4 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (بضم الهاء والميم بينهما راء ساكنة) الهاشمي مولاهم، أبو داود المدني، الأعرج القارئ، عن أبي هريرة ومعاوية، وأبي سعيد، وعنه الزهري، وأبو الزبير، وخلق، وثقه

ص: 112

جماعة. قال أبو عبيد: توفي سنة 117 بالإسكندرية، أخرج له الجماعة، وفي (ت) ثقة عالم ثبت من الثالثة.

5 -

(أبو هريرة) عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1.

رجال السند الثاني: ستة

1 -

(إبراهيم بن الحسن) بن الهيثم الخَثْعَمي بمثلثة أبو إسحاق المقْسَمي بكسر الميم، المصيصي، عن مَخْلد بن يزيد، والحارث بن عطية، وعنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، في تفسيره، وثقه النسائي. مات سنة 229 قاله أبو إسحاق إبراهيم بن الأدهم السوقيني، وفي (ت) ثقة من الحادية عشرة.

2 -

(حجاج) بن محمَّد الأعور المصيصي، أبو محمَّد الترمذي الأصل، نزيل بغداد، ثم المصيصة، ثقة ثبت من [8] تقدم في 28/ 32.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم أبو الوليد، وأبو خالد المكي الفقيه أحد الأعلام، عن ابن أبي مليكة وعكرمة، وعن طاوس مسألة، ومجاهد، ونافع، وخلق، وعنه يحيى ابن سعيد الأنصاري أكبر منه، والأوزاعي، والسفيانان، وخلق. قال ابن المديني: لم يكن في الأرض أحد أعلم بعطاء من ابن جريج. وقال أحمد: إذا قال: أخبرنا وسمعت حسبك به. وقال ابن معين: ثقة إذا رَوَى من الكتاب. وقال أبو نعيم: مات سنة 150 أو بعدها وقد جاز 70، أخرج له الجماعة. اهـ صة، وفي (ت) فقيه فاضل، وكان يدلس، ويرسل من السادسة.

4 -

(زياد بن سعد) الخراساني أبو عبد الرحمن المكي نزيل اليمن، عن الزهري، وأبي الزبير، وعنه ابن جريج، وهمام بن يحيى،

ص: 113

ومالك. قال النسائي: ثقة ثبت أخرج له الجماعة اهـ صة، وفي (ت) ثقة ثبت، قال ابن عيينة: أثبت أصحاب الزهري من السادسة.

5 -

(ثابت مولى عبد الرحمن بن زيد) هو ثابت بن عياض الأحنف المدني، مولى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي، عن أبي هريرة، وعنه سليمان الأحول، ومالك، قال أبو حاتم: لا بأس به، وقال النسائي: ثقة أخرج له البخاري ومسلم، وأبو داود، والنسائي. اهـ صة، وفي (ت) ثقة من الثالثة.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1.

رجال الإسناد الثالث: سبعة

كلهم تقدموا في السند الذي قبله إلا اثنين:

1 -

(هلال بن أسامة) هو هلال بن علي بن أسامة نسب إلى جده، ويقال ابن هلال القرشي، العامري، المدني، عن أنس وعطاء بن يسار، وعنه سعيد بن أبي هلال، ومالك، وفليح، قال النسائي: ليس به بأس، قال الواقدي: مات في آخر خلافة هشام بن عبد الملك، أخرج له الجماعة. اهـ صة بزيادة.

وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: هلال بن علي، ويقال هلال بن أبي ميمونة، وهلال بن أبي هلال العامري مولاهم المدني، وبعضهم نسبه إلى جده، فقال: ابن أسامة، روى عن أنس بن مالك، وعبد الرحمن ابن أبي عمرة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعطاء بن يسار، وأبي ميمونة المدني. وروى عنه يحيى بن أبي كثير، وزياد بن سعد، ومالك، وفليح، وسعيد بن أبي هلال، وعبد العزيز بن الماجشون. قال أبو حاتم: شيخ يكتب حديثه، وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الدارقطني: هلال بن علي ثقة، وقال مسلمة في

ص: 114

الصلة: ثقة قديم اهـ باختصار، وفي (ت) ثقة من الخامسة مات سنة بضع عشرة ومائة. أخرج له الجماعة.

2 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال. ثقة ثبت فقيه من [3] تقدم في 1/ 1.

لطائف الأسانيد الثلاثه

من لطائف الإسناد الأول: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رواته كلهم مدنيون إلا شيخ المؤلف فهو بغلاني -قرية من قرى بلخ-.

ومنها: أنهم ثقات أجلاء، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد: أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة.

ومنها: أن فيه مَنْ لُقِّب بكنية، وله كنية أخرى، وهو أبو الزناد، فإنه لقب لا كنية، لقب به لسرعة فهمه، وكنيته أبو عبد الرحمن.

ومنها: أن فيه، الإخبار، والعنعنة.

ومنها: أن صحابيه أحد الكثرين السبعة، بل هو أكثرهم رواية، فإنه روى [5374] حديثا، وإلى السبعة أشار السيوطي في الألفية حيث قال:

وَالمْكثرُونَ في روَايَة الأثَرْ

أبُو هُرَيْرةَ يَليه ابْنُ عُمَرْ

وأنَسٌ وَالبَحْرُ كَالخْدُريِّ

وَجَابرٌ وَزَوْجَةُ النَّبيِّ

لطائف الإسناد الثاني:

منها: أنه من سداسياته.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين مصيصيين -بكسر الميم

ص: 115

والصاد المهملة المشددة، وسكون الياء بعدها صاد مهملة: مدينة على ساحل البحر، قاله في اللباب- وهما شيخ المصنف، وشيخه فإنه مصيصي أيضا ترمذي الأصل، نزيل بغداد، ثم المصيصة كما تقدم، ومكيين وهما ابن جريج، وشيخه، فهو خراساني، ثم مكي، ثم يمني ومدنيين، وهما ثابت، وأبو هريرة، وأن فيه الإخبار والتحديث، والسماع، والعنعنة.

لطائف الإسناد الثالث:

منها: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين مصيصين، ومكيين، ومدنيين، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه راو هو أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وتقدم غير مرة، وهو أبو سلمة، وأن اسمه كنيته على الصحيح، وفيه الإخبار والتحديث، والسماع، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا شرب الكلب في إناء أحدكم) ظاهره العموم في الَانية، وهو يخرج ما كان من المياه في غيرالأنية.

وقيل: أصل الغسل معقول المعنى، وهو النجاسة، فلا فرق بين الإناء وغيره، وقال: العراقي: ذكر الإناء خرج مخرج الغالب لا للتقييد اهـ نيل جـ 1/ ص 3.

وقال بعض المحققين: الإضافة هنا مُلْغى اعتبارها؛ لأن الطهارة لا تتوقف على ملكه، وكذا قوله "فليغسله" لا يتوقف أن يكون هو الغاسل اهـ.

وفي الرواية الثانية (إذا ولغ الكلب) أي شرب منه بلسانه، يقال:

ص: 116

ولغَ الكلبُ يَلَغُ وَلَغًا ووُلُوغا من بابي نفع وشرب، وحذفت واوه في المضارع، كما في يقع، ووَلغَ يَلَغ من بابي وعد وورث لغة، ويَوْلَغ مثل وَجِل يَوْجَل لغة أيضا، ويتعدى بالهمزة، يقال: أولغته: إذا سقيته، ويتعدى أيضا بالباء "ومن" "وفي" يقال: وَلَغ الكب بشرابنا، ومن شرابنا، وفي شرابنا، قال ابن الأثير: وأكثر ما يكون الولوغ في السباع اهـ. وقال في الفتح: وَلَغ يَلَغ بالفتح فيهما: إذا شرب بطرف لسانه فيه فحركه، وقال ثعلب: الولوغ أن يدخل لسانه في الماء، وغيره من كل مائع فيحركه، زاد ابن درستويه: شرب أو لم يشرب، قال ابن مكي: فإن كان غير مائع يقال: لعقه، وقال المطرزي: فإن كان فارغا يقال: لحسه اهـ المنهل جـ 1/ ص 252.

(فيغسله سبع مرات) قال أبو البقاء: أصله مرات سبعا على الصفة، فلما قدمت الصفة وأضيفت إلى المصدر نصبت المصدر. اهـ زهر جـ 1/ ص 53

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا حديث متفق عليه.

المسألة الثانية: فيمن أخرجه: أخرج هذا الحديث كما قال العراقي الأئمة الستة خلا الترمذي، من طريق مالك هكذا، إلا أنه ليس في رواية اللؤلؤي، وابن داسة، وابن الأعرابي، عن أبي داود، وإنما هو في رواية أبي الحسن بن العبد عنه.

وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وأخرجه الترمذي من رواية محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، ورواه النسائي من رواية ثابت بن عياض الأحنف، وأبي سلمة عبد الرحمن، عن أبي هريرة، وأخرجه ابن ماجه أيضا من رواية أبي رزين عنه. اهـ طرح جـ 1/ ص 119،

ص: 117

وأخرجه الطحاوي، والبيهقي، الدراقطني.

المسأله الثالثة: قال العراقي: قال ابن عبد البر في التمهيد: هكذا يقول مالك في هذه االحديث: "إذا شرب الكلب" وغيره من رواة حديث أبي هريرة هذا بهذا الإسناد، وبغيره على تواتر طرقه وكثرتها عن أبي هريرة وغيره كلهم يقول:"إذا ولغ الكلب" ولا يقولون شرب الكلب، وهو الذي يعرفه أهل اللغة، اهـ.

وسبقه إلى ذلك الحافظان أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، وأبو عبد الله محمَّد بن إسحاق بن منده، فقالا: إن مالكا تفرد بقوله: "شرب"، وليس كما ذكروا، فقد تابع مالكا على قوله "شرب" مغيرة بن عبد الرحمن الحزامي، وورقاء بن عمر، كما بينه ابن دقيق العيد في الإمام، على أن بعض الرواة عن مالك رواه عنه بلفظ "ولغ" كما رواه غيره، ورواه ابن ماجه من رواية رَوح بن عُبَادة عن مالك هكذا في بعض نسخ ابن ماجه، وفي بعضها "شرب"، وذكر أبو العباس أحمد بن طاهر الداني في أطراف الموطأ أن أبا علي الحنفي رواه عن مالك بلفظ "ولغ".

والمعروف عن مالك "شرب" كما اتفق عليه رُوَاةُ الموطأ اهـ كلام العراقي طرح. جـ 1 ص 120.

المسألة الرابعة: استدل بالأمر بالغسل من ولوغ الكلب على نجاسة سؤره ولعابه، وهو قول سفيان الثوري، وأبي حنيفة وأصحابه، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي

ثور، ومحمد بن جرير الطبري، وأكثر أهل الظاهر.

وذهب مالك وداود إلى طهارته، قال ابن عبد البر: جملة ما ذهب إليه مالك، واستقر عليه مذهبه عند أصحابه أن سؤر الكلب طاهر، ويغسل الإناء من ولوغه سبعا تعبدا، واستحبابا أيضا لا إيجابا، قال:

ص: 118

ولا بأس عنده بأكل ما ولغ فيه الكلب من اللبن والسمن، وغير ذلك، ويستحب أن يهريق ما ولغ فيه من الماء، وقال في هذا الحديث: ما أدري حقيقته؟ وضعفه مرارا فيما ذكره ابن القاسم عنه أنه لا يغسل الإناء من ولوغ الكلب إلا في الماء وحده، وروى ابن وهب أنه يغسل من الماء وغيره، ويؤكل الطعام، ويغسل الإناء بعدُ تعبدا، أو لا يراق شيء من الطعام، وإنما يهراق الماء عند وجوده ليسارة مؤنته.

وقال داود: سؤره طاهر، وغسل الإناء منه سبعا فرض، ويتوضأ بالماء، ويؤكل الطعام والشراب الذي ولغ فيه.

ويرد قول مالك وداود ما ثبت في صحيح مسلم من الأمر بإراقته، رواه من رواية علي بن مسهر أخبرنا الأعمش، عن أبي رزين، وأبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليُرقْه، ثم ليغسله سبع مرات"، قال النسائي: لا أعلم أحدا تابع علي بن مسهر على قوله "فليرقه" وكذا قال أبو عبد الله بن منده أن علي بن مسهر تفرد بالأمر بالإراقة فيه.

وقال ابن عبد البر: لم يذكره أصحاب الأعمش الثقات الحفاظ مثل شعبة وغيره، وكذا قال حمزة بن محمَّد الكناني: لم يروها غير علي بن مسهر، قال: وهذه الزيادة في قوله "فليرقه" غير محفوظة.

قال العراقي: قلت: وهذا غير قادح فيه فإن زيادة الثقة مقبولة عند أكثر العلماء من الفقهاء والأصوليين، والمحدثين، وعلي بن مسهر قد وثقه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والعجلي، وغيرهم، وهو أحد الحفاظ الذين احتج بهم الشيخان، وما علمت أحدا تكلم فيه، فلا يضره تفرده به. وكذلك ما حكاه ابن القاسم عن مالك من كونه ضعف أصل الحديث فما أدري ما وجه ضعفه، وقد أنكر مالك رحمه الله على أهل

ص: 119

العراق ردهم لحديث المُصَرَّاة، وهو بهذا الإسناد من رواية أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، فرَوَى ابنُ وهب عن مالك أنه قال: وهل في هذا الإسناد لأحد مقال؟ وصدق رحمه الله، وقال البخاري: ان هذا الإسناد أصح أسانيد أبي هريرة.

وقال ابن دقيق العيد: والحمل على التنجيس أولى لأنه متى دار الحكم بين كونه تعبدا وكونه معقول المعنى، فالمعقول المعنى أولى لندرة التعبد بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى. اهـ طرح جـ 1/ ص 122.

ونقل في المنهل جـ 1/ ص 225: إن في سؤر الكلب في مذهب مالك أربعة أقوال:

أحدها: أنه طاهر، وهو قول ابن وهب وأشهب؛ لأن الكلب سبع من السباع، وهي طاهرة، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، لكن روايته عن مالك فيه أن الكلب ليس كغيره من السباع.

الثاني: أنه نجس كسائر السباع، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه، لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأمر بغسل الإناء سبعا من ولوغه فيه.

الثالث: الفرق بين الكلب المأذون في اتخاذه وغيره، وهو أظهر الأقوال لأن علة الطهارة التي نص النبي صلى الله عليه وسلم عليها في الهرة موجودة في الكلب المأذون في اتخاذه.

الرابع: الفرق بين البدوي والحضري، وهو قول ابن الماجشون في رواية أبي زيد عنه.

فمن رأى سؤر الكلب طاهرا قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الإناء سبعا من ولوغه فيه عبادة لا لعلة، ومن رآه نجسا قال: ما يقع له الإنقاء من الغسلات واجب للنجاسة، وبقية السبع غسلات تعبد، لا لعلة كالأمر

ص: 120

في الاستنجاء بثلاثة أحجار، الواجب منها ما يحصل به الإنقاء وبقية الثلاثة تعبد. اهـ المنهل.

قال الحافظ في الفتح: ودعوى بعض المالكية أن المأمور بالغسل من ولوغه الكلب المنهي عن اتخاذه دون المأذون فيه تحتاج إلى ثبوت تقدم النهي عن الاتخاذ على الأمر بالغسل، وإلى قرينة تدل على أن المراد ما لم يؤذن في اتخاذه؛ لأن الظاهر من اللام في قوله الكلب أنها للجنس، أو لتعريف الماهية، فيحتاج المدعي أنها للعهد إلى دليل.

ومثله تفرقة بعضهم بين البدوي والحضري، ودعوى أن ذلك مخصوص بالكَلْب الكَلب، وأن الحكمة في الأمر بغسله من جهة الطب لأن الشارع اعتبر السَّبعْ في مواضعِ منه كقوله "صُبُّوا علي من سبع قرب" وقوله "مَنْ تصبَّح بسبع تمرات عَجْوَة".

وتعقب بأن الكَلْب الكَلب لا يقرب الماء فكيف يؤمر بالغسل عن ولوغه، وأجاب حفيد ابن رشد: بأنه لا يقرب الماء بعد استحكام الكَلَب منه، أما في ابتدائه فلا يمتنع، وهذا التعليل وإن كان فيه مناسبة لكنه يستلزم التخصيص بلا دليل، والتعليل بالتنجيس أقوى لأنه في معنى المنصوص، وقد ثبت عن ابن عباس التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب لأنه رجس، ورواه محمَّد بن نصر المروزي بإسناد صحيح، ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه اهـ كلام الحافظ.

وقال الشوكاني في النيل جـ 1/ ص 64: واستدل بهذا الحديث على نجاسة الكلب لأنه إذا كان لعابه نجسا، وهو عَرَقُ فمه ففمه نجس، ويستلزم نجاسة سائر بدنه، وذلك لأن لعابه جزء من فيه، وفمه أشرف ما فيه، فبقية بدنه أولى، وقد ذهب إلى هذا الجمهورُ، وقال عَكرمة ومالك في رواية عنه أنه طاهر، ودليلهم قول الله تعالى {فَكُلُوا مِمَّا

ص: 121

أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ولا يخلوا الصيد عن التلوث بريق الكلاب، ولم نؤمر بالغسل.

وأجيب عن ذلك: بأن إباحة الأكل مما أمسكن لا تنافي وجوب تطهير ما تنجس من الصيد، وعدم الأمر للاكتفاء بما في أدلة تطهير النجس من العموم، ولو سلم فغايته الترخيص في الصيد بخصوصه، واستدلوا أيضا بما ثبت عند أبي داود من حديث ابن عمر بلفظ:"كانت الكلاب تُقْبل وتدبر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فلم يكونوا يرشون من ذلك" وهو في البخاري، وأخرجه الترمذي بزيادة "وتبول" ورد بأن البول مجمع على نجاسته، فلا يصلح حديث بول الكلاب في المسجد حجة يعارَضُ بها الإجماع، وأما مجرد الإقبال والإدبار، فلا يدلان على الطهارة، وأيضا يحتمل أن يكون ترك الغسل لعدم تعيين موضع النجاسة، أو لطهارة الأرض بالجَفَاف، قاله المنذري: إنها كانت تبول خارج المسجد في مواطنها، ثم تقبل وتدبر في المسجد.

قال الحافظ: والأقرب أن يقال: إن ذلك كان في ابتداء الحال على

أصل الإباحة، ثم ورد الأمر بتكريم المساجد وتطهيرها وجعل الأبواب عليها.

واستدلوا على الطهارة أيضا بما سيأتي من الترخيص في كلب الصيد والماشية والزرع، وأجيب بأنه لا منافاة بين الترخيص وبين الحكم بالنجاسة، غاية الأمر انه تكليف سياق، وهو لا ينافي التعبد به. اهـ نيل جـ 1/ ص 4.

قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي قول الجمهور، وهو نجاسة ولوغ الكلب لحديث أبي هريرة عند مسلم "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه" الحديث، ولحديث الأمر بالإراقة الآتي إن شاء الله تعالى في

ص: 122

52/ 66. وأما سائر أجزائه فلم يقم دليل على نجاسته، فهو باق على أصل البراءة الأصلية، فتفطن. والله أعلم.

المسألة الخامسة: استدل بهذا الحديث على وجوب الغسلات السبع من ولوغ الكلب.

وإليه ذهب ابن عباس، وعروة بن الزبير، ومحمد بن سيرين، وطاوس، وعمرو بن دينار، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد ابن حنبل، وإسحق، وأبو ثور، وأبو عبيد، وداود.

وذهبت العترة والحنفية إلى عدم الفرق بين لعاب الكلب وغيره من النجاسات، وحملوا حديث السبع على الندب، ومما احتج به للحنفية ومن تبعهم، حديث يرويه عبد الوهاب بن الضحاك، عن إسماعيل بن عياش، عن هشام بن عروة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكلب يلغ في الإناء قال:"يغسله ثلاثا أو خمسا أو سبعا".

والجواب عنه: أنه حديث ضعيف باتفاق الحفاظ لأن راويه عبد الوهاب مجمع على ضعفه وتركه، قال العقيلي والدارقطني: متروك الحديث، وقال البخاري: عنده عجائب، وقال ابن أبي حاتم:

قال أبي: كان عبد الوهاب يكذب، قال: وحدث بأحاديث كثيرة موضوعة فخرجت إليه فقلت: ألا تخاف الله عز وجل؟ فضمن لي أن لا يحدث، فحدث بها بعد ذلك.

وفيه إسماعيل بن عياش اتفق على ضعفه في روايته عن الحجازين، واختلف في روايته عن الشاميين، وقد روى هذا الحديث عن هشام بن عروة، وهو حجازي، فلا يحتج به، أفاده النووي في المجموع

جـ 2/ ص 581 - 582.

ص: 123

واحتجوا بما رواه الطحاوي، والدارقطني موقوفا على أبي هريرة أنه يغسل من ولوغه ثلاث مرات، وهو الراوي للغسل سبعا، فثبت بذلك نسخ السبع، وهو مناسب لأصل بعض الحنفية من وجوب العمل بتأويل الراوي وتخصيصه ونسخه، وغيرُ مناسب لأصول الجمهور من عدم العمل به.

ويحتمل أن أبا هريرة أفتى بذلك لاعتقاده ندبية السبع، لا وجوبها، أو أنه نسي ما رواه، وأيضا قد ثبت عنه أنه أفتى بالغسل سبعا، ورواية من روى عنه موَافَقَةَ فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتَها من حيث الإسناد، ومن حيث النظر، أما من حيث الإسناد، فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين عنه، وهذا من أصح الأسانيد، والمخالفة من رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عنه، وهو دون الأول في القوة بكثير، قاله الحافظ في الفتح.

وأما من حيث النظر فظاهر، وأيضا قد روى التسبيع غير أبي هريرة، فلا يكون مخالفة فتياه قادحة في مروي غيره، وعلى كل حال فلا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن جملة أعذارهم عن العمل بالحديث: أن العَذرَة أشد نجاسة من سؤر الكلب ولم يقيِّد بالسبع، فيكون الولوغ كذلك من باب أولى، ورُدَّ بأنه لا يلزم كونها أشد في الاستقذار أن لا يكون الولوغ أشد منها في تغليظ الحكم، وبأنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار.

ومنها أيضا: أن الأمر بذلك كان عند الأمر بقتل الكلاب، فلما نهي عن قتلها نسخ الأمر بالغسل، وتعقب بأن الأمر بقتلها كان في أوائل الهجرة، والأمر بالغسل متأخر جدًّا لأنه من رواية أبي هريرة، وعبد الله ابن مغفل، وكان إسلامهما سنة سبع، وسياق حديث ابن مغفل ظاهر

ص: 124

في أن الأمر بالغسل كان بعد الأمر بقتل الكلاب فإنه قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب" ثم قال: "ما بالهم وبال الكلاب" ثم رخص في كلب الصيد، وكلب الغنم، وقال:"إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعَفِّرُوه الثامنة بالتراب" رواه الجماعة إلا البخاري

والترمذي، أفاده في نيل جـ 1/ ص 63.

المسألة السادسة: قد ذكر العلامة المباركفوري في تحفته تنبيهات نفيسة في رد تعصبات بعض الحنفية في هذه المسألة، وأنا أسوقها برمتها لنفاستها: قال رحمه الله تعالى:

تنبيه: ذكر النَّيموي فعل أبي هريرة عن عطاء عن أبي هريرة: أنه إذا ولغ الكلب في الإناء غسله ثلاث مرات" قال رواه الدارقطني وآخرون، وإسناده صحيح، ثم ذكر قول أبي هريرة عن عطاء عن أبي

هريرة قال: "إذا ولغ الكلب في الإناء، فأهرقه ثم اغسله ثلاث مرات" قال: رواه الدارقطني والطحاوي وإسناده صحيح انتهى.

قال المباركفوري: قلت: مدار فعل أبي هريرة، وقوله على عبد الملك بن أبي سليمان لم يروهما غيره، وهو وإن كان ثقة لكن كان له أوهام، وكان يخطئ.

قال الحافظ في التقريب: صدوق له أوهام، وقال الخزرجي في الخلاصة: قال أحمد: ثقة يخطئ، قال الدارقطني بعد روايته هذا موقوف، ولم يروه هكذا غير عبد الملك عن عطاء اهـ قال البيهقي: تفرد به عبد الملك من أصحاب عطاء، ثم أصحاب أبي هريرة، والحفاظ الثقات من أصحاب عطاء، وأصحاب أبي هريرة يروون سبع مرات، وفي ذلك دلالة على خطأ رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أبي هريرة في الثلاث، وعبد الملك لا يقبل منه ما يخالف

ص: 125

الثقات، ولمخالفته أهل الحفظ والثقة في بعض روايته، تركه شعبة بن الحجاج، ولم يحتج به البخاري في صحيحه. انتهى.

كذا ذكر العيني كلام البيهقي في شرح البخاري، ولم يتكلم عليه، إلا أنه نقل عن أحمد والثوري أنه من الحفاظ، وعن الثوري: هو ثقة فقيه متقن، وعن أحمد بن عبد الله ثقة ثبت في الحديث، وقد عرفت أنه ثقة يخطئ، وله أوهام، ولم يحتج به البخاري في صحيحه فكيف ما رواه مخالفا، وقد ثبت عن أبي هريرة بإسناد أصح من هذا أنه أفتى بغسل الإناء سبع مرات موافقا لحديثه المرفوع، ففي سنن الدارقطني جـ 1/ ص 64: حدثنا المحاملي نا حجاج بن الشاعر، نا عارم نا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمَّد، عن أبي هريرة في الكلب يلغ في الإناء قال: يهراق، ويغسل سبع مرات، قال الدارقطني: صحيح موقوف. انتهى.

وقول أبي هريرة هذا أرجح، وأقوى إسنادا من قوله وفعله المذكورين المخالفين لحديثه المرفوع، كما عرفت في كلام الحافظ، فقوله الموافق لحديثه المرفوع يقدم على قوله وفعله المذكورين.

وأما قول النَّيمُوي في التعليق: ولم يرو أحد من أصحابه، يعني أصحاب أبي هريرة أثرا من قوله أو فعله خلاف ما رواه منه عطاء، إلا ابن سيرين في رواية عند البيهقي، قال في المعرفة: وروينا عن حماد بن زيد ومعتمر بن سليمان، عن أيوب، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة من قوله نحو روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولم يذكر السند حتى ينظر فيه. انتهى، فمبني على قصور نظره، أو على فرط تعصبه، فإن البيهقي وإن لم يذكرسنده، فالدارقطني ذكره في سننه، وقال بعد

ص: 126

روايته: صحيح موقوف، وقد صرح الحافظ في الفتح بأن سنده أرجح وأقوى من سند قوله المخالف لحديثه.

والعجب من النَّيمُوي أنه رأى في سنن الدارقطني قول أبي هريرة المخالف لروايته، ونقله منه، ولم ير فيه قوله الموافق لحديثه، وكلاهما مذكوران في صفحة واحدة.

تنبيه آخر: قال صاحب العرف الشذي: وجواب الحديث من قبلنا: إن التسبيع مستحب عندنا كما صرح به الزيلعي شارح الكنز، ثم وجدته مرويًا عن أبي حنيفة في تحرير ابن الهمام. انتهى.

قال المباركفوري رحمه الله: فبطل بهذا قولكم بادعاء نسخ التسبيع يا معشر الحنفية، ثم حمل الأمر بالتسبيع على الاستحباب ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم "طهور إناء أحدكم" الحديث. ثم قال:(يعني صاحب العرف الشذي) ولو كان التسبيع واجبا كيف اكتفى بالتثليث؟ قلت: تقدم جوابه في كلام الحافظ.

ثم قال: أيضا وفتوى التثليث مرفوعة في كامل ابن عدي عن الكرابيسي، وهو حسين بن علي تلميذ الشافعي، وهو حافظ إمام، فالحديث حسن أو صحيح.

قال المباركفوري: قلت: تفرد برفعها الكرابيسي، ولم يتابعه على ذلك أحد، وقد صرح ابن عدي في الكامل بأن المرفوع منكر، قال الحافط في لسان الميزان: ما لفظه: قال يعني ابن عدي: حدثنا أحمد بن

الحسن، ثنا الكرابيسي، ثنا إسحاق الأزرق، ثنا عبد الملك، عن عطاء، عن الزهري، رفعه "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله ثلاث مرات".

ثم أخرجه ابن عدي من طريق عمر بن شَبَّةَ، عن إسحاق موقوفا،

ص: 127

ثم قال: تفرد الكرابيسي برفعه، وللكرابيسي كتب مصنفة ذكر فيها الاختلاف، وكان حافظا لها، ولم أجد له منكرا غير ما ذكرت. انتهى ما في اللسان.

فقول صاحب العرف الشذي: فالحديث حسن أو صحيح، ليس مما يلتفت إليه.

تنمبيه آخر: للعيني تعقبان على كلام الحافظ الذي نقلناه عن الفتح كلها مخدوشة واهية، لا حاجة إلى نقلها، ثم دفعها، لكن لما ذكرها صاحب بذل الجهود، وصاحب "الطِّيب الشَّذي"، وغيرهما، واعتمدوا عليها، فعلينا أن نذكرها، ونظهر ما فيها من الخدشات.

قال العيني: كون الأمر بقتل الكلاب في أوائل الهجرة يحتاج إلى دليل قطعي ولئن سلمنا ذلك، فكان يمكن أن يكون أبو هريرة، وابن المغفل، قد سمعا ذلك من صحابي آخر فأخبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم لاعتمادهما صدق الراوي عنه؛ لأن الصحابة كلهم عدول. انتهى.

قلت: (القائل المباركفوري) قد رد هذا التعقب المولوي عبد الحي اللكنوي في السعاية ردًا حسنا، فقال: وهذا تعقب غير مرضي عندي، فإن كون رواية أبي هريرة، وابن المغفل بواسطة صحابي آخر احتمال مردود، لورود سماع أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وشهادته على أبلغ وجه بسماعه، أخرجه ابن ماجه عن أبي رَزين قال: رأيت أبا هريرة يضرب جبهته بيده، ويقول. يا أهل العراق: أنتم تزعمون أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون لكم المهْنَأْ وعليَّ الإثم، أشهد أني لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات"، وكذا ابن المغفل سمع أمر قتل الكلاب كما أخرجه الترمذي عنه وحسنه، قال: إني لممن يرفع أغصان الشجرة عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو

ص: 128

يخطب، فقال:"لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم، وما من أهل بيت يرتبطون كلبا، إلا نقص من عملهم كل يوم قيراط، إلا كلب صيد، أو كلب حرث، أو كلب غنم".

فهذا يدل على أنه سمع بلا واسطة نسخ عموم القتل، والرخصة في كلب الصيد ونحوه، وظاهر سياق مسلم عنه أن الأمر بالغسل وقع بعد ذلك، ويدل عليه صريحا رواية الطحاوي في شرح معاني الآثار عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم قال:"مالي وللكلاب؟ " ثم قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات، وعفروه الثامنة بالتراب" فدل ذلك صريحا على أن الأمر بالغسل سبعا كان بعد نسخ الأمر بقتل الكلاب لا في ابتداء الإسلام انتهى ما في السعاية.

قال العيني: بعد ذكر احتمال اعتقاد الندب والنسيان: هذه إساءة ظن بأبي هريرة، فالاحتمال الناشئ من غير دليل، لا يسمع. انتهى.

قال المباركفوري: قد رده صاحب السعاية، فقال: احتمال النسيان، واعتقاد الندب، ليس بإساءة ظن، وليس فيه قدح بوجه من الوجوه. انتهى.

قال المباركفوري: وفي احتمال اعتقاد الندب كيف يكون إساءة الظن، وقد قال صاحب العرف الشذي: وجواب الحديث من قبلنا أن التسبيع مستحب عندنا، كما صرح به الزيلعي شارح الكنز، ثم وجدته مرويا عن أبي حنيفة في تحرير ابن الهمام. انتهى.

قال العيني بعد ما ذكر أن قياس سؤر الكلب على العذرة قياس في مقابلة النص وهو فاسد إلاعتبار ما لفظه: ليس هو قياسا في مقابلة النص، بل هو من باب ثبوت الحكم بدلالة النص انتهى.

قال المباركفوري: قلت: قد رده صاحب السعاية، فقال: هذا لو

ص: 129

تمَّ لدَلَّ على تطهير الإناء من سؤر الكلب واحدا أو ثلاثا بدلالة النص، وأحاديث السبع دالة بعبارتها على اشتراط السبع، وقد تقرر في الأصول أن العبارة مقدمة على الدلالة، قال: وأيضا هذا منقوض بنقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة مع عدم نقضه بسب المسلم في الصلاة، وهو أشد منه، فالجواب الجواب. انتهى.

وإن شئت الوقوف على ما بقي من تعقباته مع بيان ما فيها من الخدشات، فارجع إلى السعاية.

تنبيه أخر: اعلم أن الشيخ ابن الهمام قد تصدَّى لإثبات نسخ أحاديث السبع، فذكر فيه تقريرات في فتح القدير، وقد رد تلك التقريرات صاحب السعاية ردًا حسنا، وقال في أول كلامه عليها: ما لفظه: وفيه على ما أقول خدشات تنبهك على أن تقريره كله ناشئ عن عصبية مذهبية، وقال في آخر كلامه عليها: ما لفظه: فتأمل في هذا المقام، فإن المقام من مَزَالّ الأقدام، حتى زَلَّ قدم ابن الهمام. انتهى إلى آخر كلام العلامة المباركفوري في تحفة الأحوذي جـ 1/ ص 306.

المسألة السابعة: قال العراقي: استدل بقوله "في إناء أحدكم" على أنه إنما يغسل من ولوغ الكلب إذا كان ولوغه في إناء، أما إذا ولغ في ماء مستنقع فإنه لا يغسل منه، ولا ينجسه، وإن كان الماء قليلا حكاه الطحاوي عن الأوزاعي، وهو قول شاذ، فإن ذلك لم يخرج مخرج القيد، وإنما خرج مخرج الغالب، لكون الغالب وضع مياههم وأطعماتهم في الآنية. والله أعلم اهـ طرح جـ 2/ ص 120.

المسألة الثامنة: قال العراقى أيضا: استدل بعض الظاهرية بقوله "إذا ولغ" أو "إذا شرب" على أن هذا الحكم لا يتعدى الولوغ والشرب، لأن مفهوم الشرط حجة عند الأكثرين ومفهومه أن الحكم ليس كذلك عند

ص: 130

عدم الشرط، وهو الولوغ، فذهب قائل هذا إلى أنه لو وقع لعابه في الإناء من غير أن يلغ فيه أنه لا يغسل الإناء منه ولا يتنجس ما فيه، وكذلك لو وقع في الماء غير فمه من أعضائه كيده أو رجله لا ينجس، وكذا لو بال في الإناء، أو تغوط فيه لا يجب غسله سبعا، وإنما يغسل مرة كسائر النجاسات لتقييد الأمر بالولوغ، أو الشرب وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي في غير لعابه أنه إنما يغسل منه مرة وإن كان بولا أو عذرة أو دما حكاه الرافعي، وقال النووي في الروضة: إنه شاذ، ولكنه عبر عن

اللعاب بالولوغ فاقتضى أن تناثر لعابه يكفي فيه الغسل مرة عند صاحب هذا الوجه، وليس كذلك، وقد رجحه النووي في شرح المهذب بقوله: إنه متجه قوي من حيث الدليل لأن الأمر بالغسل سبعا من الولوغ إنما كان لتنفيرهم عن مؤاكلة الكلاب. انتهى.

والمذهب الصحيح الذي نص عليه الشافعي، وجزم به عامة أصحابه، وجوب التسبيع في سائر أجزاء الكلب، وأنه إنما نص على الولوغ لكونه الغالب فيما تصيبه الكلاب من الأواني، فإنها إنما تقصد الأكل والشرب من الأواني، فخرج بذلك مخرج الغالب لا مخرج الشرط. قال الشافعي رضي الله عنه: وجميع أعضاء الكلب يده، أو ذنبه، أو رجله، أو عضو من أعضائه، إذا وقع في الإناء غسل سبع مرات بعد هراقة ما فيه، قال: وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهرة "ليست بنجس" دليل على أن في الحيوان من البهائم ما هو نجس، وهو حي، وما ينجس بولوغه.

قال: ولا أعلمه إلا الكلب المنصوص عليه، ثم ذكر الخنزير، هكذا حكاه ابن عبد البر في التمهيد عن الشافعي، وفي الاستدلال به على نجاسة الكلب نظر لأنه مفهوم لقب، وليس بحجة عند الجمهور، فلا

يلزم من كون الهرة ليست بنجسة أن يكون غيرها نجسا، وقول الرافعي:

ص: 131

إن وجه الاستدلال من هذا الحديث على نجاسة الكلب مشهور أشار بذلك إلى زيادة ذكرها بعض أصحابنا من الفقهاء في تصانيفهم، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي دار قوم من الأنصار، ودونهم دار، فشق ذلك عليهم، فقالوا: يا رسول الله تأتي دار فلان، ولا تأتي دارنا: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن في داركم كلبا، قالوا: في دارهم سنَّوْرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها ليست بنجس" فلو ثبتت هذه الزيادة هكذا كان وجه الاستدلال منه مشهورا، إلا أنه لا يعرف أصلا في شيء من كتب الحديث هكذا، وقد رواه بهذه الزيادة الإمام أحمد في مسنده، والدارقطني في سننه، والحاكم في المستدرك من رواية عيسى بن المسيب، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، إلا أنهما لم يقولا: إنها ليست بنجس، وإنما قالا: فقال النبي صلى الله عليه وسلم "السنور سبع" وقال الدارقطني بعد تخريجه: وعيسى بن المسيب صالح الحديث، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وعيسى بن المسيب ينفرد عن أبي زرعة، إلا أنه صدوق، ولم يجرح قط.

قال العراقي: بلى جرحه ابن معين، وأبوداود، والنسائي، وابن حبان، والدارقطني، في غير هذا الموضع، وليس في هذا اللفظ ما يقتضي نجاسة الكلب، وإنما فيه اجتناب دخول الدار التي فيها كلب، وفيه أن الكلب ليس بسبع، وكأنه إنما ذكر ذلك لكونهم كانوا قد علموا طهارة سؤر السباع، فبين لهم أن الهرة سبع ليعلموا طهارة فمها بخلاف الكلب فإنه ليس بسبع والله أعلم اهـ جـ 2/ ص 123.

المسألة التاسعة: قال العراقي أيضا: استدل بهذا الحديث على أنه يجب الغسل من ولوغ الكلب على الفور؛ لأن الأمر يقتضي الفورية عند أكثر الفقهاء، وهو المختار، وينبغي أن يجري الخلاف الذي حكاه الماوردي في وجوب إراقة الإناء الذي ولغ فيه الكلب على الفور،

ص: 132

والأكثرون على أن الفورية مستحبة فإذا أراد استعمال الإناء وجبت الإراقة. اهـ طرح جـ 2/ ص 125.

المسألة العاشرة: قال العراقي أيضا: هل تتعدد الغسلات الواجبة في ولوغ الكلب بتعدد الولغات من كلب واحد أو كلبين، فأكثر فيه خلاف بين أصحابنا، والأصح أنه يكفي للجميع سبع، وقيل: يجب لكل ولغة سبع، وقيل: يكفي السبع في ولغات الكلب الواحد، وتتعدد بتعدد الكلاب، وكذلك لو تنجس بنجاسة أجنبية غير الكلب لم تجب الزيادة على السبع بل يندرج الأصغر في أكبر، كالحدث على الصحيح، وادعى النووي وابن الرفعة نفي الخلاف فيه، وليس بجيد، ففيه وجه حكاه الرافعي في الشرح الصغير أنه يجب غسله للنجاسة الأجنبية.

المسألة الحادية عشرة: من جعل العلة في التسبيع من ولوغ الكلب كونه منهيا عن اتخاذه واقتنائه كما تقدم حكايته عن بعضهم عدَّى حكم الكلب إلى الخنزير؛ لأنه منهي عن اقتنائه مطلقا بخلاف بعض الكلاب المتخذة للصيد والزرع، فهو إذا أسوأ حالًا من الكلب في ذلك، وهذا قول الشافعي الجديد أنه يجب الغسل منه سبعا كالكلب، وذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يجب التسبيع من نجاسة الخنزير، ويقتصر في التسبيع على مورد النص، وهو قول قديم للشافعي، قال النووي في شرح مسلم: وهو قوي في الدليل، وكذا قال في شرح المهذب إنه الراجح من حيث الدليل، قال: وهذا هو المختار؛ لأن الأصل عدم الوجوب حتى يرد الشرع، لا سيما في هذه المسألة المبنية على التعبد، وذكر نحوه في شرح الوسيط، بل ذهب كثير من العلماء إلى طهارة الخنزير، ومن ادعى من أصحابنا الإجماع على نجاسته فقد أخطأ لوجود الخلاف فيه والله أعلم، قاله العراقي رحمه الله طرح جـ 2/ ص 126.

ص: 133

قال الجامع: هذا الذي اختاره النووي هو التحقيق الراجح عندي لما ذكره والله أعلم.

المسألة الثانية عشرة: محل الأمر بغسل الإناء سبعا من نجاسة الكلب، وكذلك محل الأمر بالإراقة هو ما إذا كان ما في الإناء مائعا، أما إذا كان جامدا، فإن الواجب حينئذ إلقاء ما أصاب الكلب بفمه، ولا يجب غسل الإناء حينئذ إلا إذا أصابه فم الكلب مع وجود الرطوبة، فيجب غسل ما أصابه فقط سبعا، كالفأرة تقع في السمن سواء، ولقائل أن يقول: ليست هذه الصورة داخلة في الحديث؛ لأنه إن كان ما فيه جامدا لا يسمى أخْذُ الكلب منه شربا، ولا ولوغا بل هو أكل، وإنما الولوغ الأخذ بطرف اللسان، أفاده العراقي رحمه الله جـ 2/ ص 126.

قال الجامع: وهذا الذي قاله العراقي آخرًا حسن جدًا. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 134

‌52 - الأَمْرِ بِإِرَاقَةِ مَا فِي الإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ

أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على الأمر بإراقة ما في الإناء من الماء وغيره إذا ولغ فيه الكلب.

والإراقة: مصدر أراق الشيء: إذا صبه.

قال في المصباح: راق الماءُ وغيرُه، رَيْقًا من باب باع: انصَبَّ، ويتعدى بالهمزة فيقال: أراقه صاحبه، والفاعل مُريق والمفعول مُرَاق، وتبدل الهمزة هاء فيقال: هراقه، اهـ وقد مضى تحقيق هذا في باب "ترك التوقيت في الماء".

66 -

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَنْبَأَنَا

(1)

عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيُرِفْهُ، ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ عَلِيَّ بْنَ مُسْهِرٍ عَلَى قَوْلِهِ "فَلْيُرِقْهُ".

رجال الإسناد: سته

1 -

(علي بن حجر) بضم فسكون السعدي المروزي ثقة من

(1)

وفي نسخة أخبرنا.

ص: 135

صغار [9] تقدم في 13/ 13.

2 -

(علي بن مسهر) بصيغة اسم الفاعل، القرشي أبو الحسن الكوفي الحافظ، عن الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، وعنه خالد بن مخلد، وهناد، وعبيد بن محمَّد المحاربي، وثقه ابن معين، قال ابن منجويه: مات سنة 189. أخرج له الجماعة اهـ صة وفي (ت) ثقة له غرائب بعد ما أضَرَّ من الثامنة.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران الكوفي الثقة ثبت من [5] تقدم في 17/ 18.

4 -

(أبو رَزين) بفتح الراء وكسر الزاي، مسعود بن مالك؛ الأسدي الكوفي. عن علي، وابن مسعود، وأبي هريرة، وغيرهم، وعنه ابنه عبد الله، وعاصم بن أبي النَّجُود، والأعمش، وغيرهم، وثقه أبو زرعة، مات سنة 85، وهو غير أبي رَزين عبيد الذي قتله عبيد الله بن زياد بالبصرة، ووهم من خلطهما، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، والأربعة اهـ صة بزيادة، وفي (ت) ثقة فاضل من الثانية.

5 -

(أبو صالح) السمان ذكوان المدني ثقة من [3] تقدم في 36/ 40.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين مروزي، وهو شيخه، وكوفيين وهما: علي بن مسهر، وأبو رزين، ومدنيين: وهما أبو صالح، وأبو هريرة، وأن فيه الإخبار، والإنباء، والعنعنة، والقول.

ومنها: أنه يقرأ قبل قوله: "عن أبي هريرة" لفظ "كلاهما" كما تقدم غيرة مرّة.

ص: 136

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ولغ الكلب) قال النووي رحمه الله: قال أهل اللغة يقال: وَلَغَ الكلب يَلَغ بفتح اللام فيهما، وحكى أبو عمر الزاهد عن ثعلب عن ابن الأعرابي أن من العرب من يقول: ولِغ بكسرها، والمصدرمنها ولَغًا ووُلوغا، ويقال: أولغه صاحبه، قال: الولوغ في الكلب، والسباع كلها: أن يدخل لسانه في المائع فيحركه، ولا يقال: ولغ بشيء من جوارحه غير اللسان، ولا يكون الولوغ لشيء من الطير، إلا الذباب، ويقال: لَحَسَ الكلبُ الإناءَ، وقَفَنَه ولَجَنَه ولَجَدَه بالجيم فيهما كله بمعنى، إذا كان فارغًا، فإن كان فيه شيء، قيل: ولغ، وقال صاحب المطالع: الشرب أعم من الولوغ فكل ولوغ شرب، ولا عكس. قال الجوهري: قال أبو زيد: يقال: ولغ الكلب بشرابنا، وفي شرابنا ومن شرابنا. والله أعلم. اهـ المجموع جـ 2/ ص 588.

(في إناء أحدكم) تقدم عن العراقي أن ذكر الإناء خرج مخرج الغالب، فلا فرق بين الإناء وغيره، وكذا إلغاء اعتبار الإضافة، فلا يشترط كون الإناء ملكه، وكذا قوله (فليرقه) أي ليصبه (ثم ليغسله) لا يشترط أن يكون المريق، والغاسل صاحب الإناء (سبع مرات) تقدم إعرابه.

(قال أبو عبد الرحمن) النسائي صاحب الكتاب (لا أعلم أحدا تابع علي بن مسهر على قوله "فليرقه") يعني أنه تفرد بزيادة "فليرقه" على غيره من أصحاب الأعمش، فإنهم كلهم قالوا:"فليغسله سبع مرات" وكذا قال حمزة الكناني: إنها غير محفوظة.

وقال ابن عبد البر: لم يذكرها الحفاظ من أصحاب الأعمش كأبي

ص: 137

معاوية، وشعبة. وقال ابن منده: لا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه إلا عن علي بن مسهر بهذا الإسناد.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن المصنف رحمه الله أراد بهذا تضعيف هذه الزيادة بسبب تفرد علي بن مسهر بها، ومثله حمزة الكناني وابن عبد البر، وابن منده. ولكن غيرهم لم يضعفوها، بل قالوا: إنها زيادة ثقة، فتقبل، ولذا أخرجها مسلم في صحيحه، وقال الحافظ العراقي بعد نقل كلامهم ما نصه: قلت: وهذا غير قادح فيه، فإن زيادة الثقة مقبولة عند أكثر العلماء من الفقهاء والأصوليين، والمحدثين، وعلي ابن مسهر قد وثقه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والعجلي، وغيرهم، وهو أحد الحفاظ الذين احتج بهم الشيخان، وما علمت أحدا تكلم فيه فلا يضره تفرده به. اهـ طرح جـ 2/ ص 121 - 122.

وقال الدارقطني: إسناده حسن، رواته كلهم ثقات، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه من طريقه ولفظه "فليهرقه" اهـ تلخيص الحبير جـ 1/ ص 23.

وقال الحافظ: قد ورد الأمر بالإراقة من طريق عطاء عن أبي هريرة مرفوعا، أخرجه ابن عدي لكن في رفعه نظر، والصحيح أنه موقوف، وكذا ذكر الإراقة حماد بن زيد عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة موقوفا وإسناده صحيح، أخرجه الدارقطني وغيره. اهـ زهر.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن تصحيح هؤلاء مقدم على تضعيف الأولين؛ لأن علي بن مسهر ثقة حافظ، وزيادته ليست منافية لروايات الآخرين، فتكون مقبولة، والله أعلم.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم كما مر آنفا، وأن العلة التي ذكرها المصنف لا تقدح فيه كما قال الحافظ العراقي.

ص: 138

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا 65 وفي الكبرى 65 بالسند المذكور، وفي الزينة عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي معاوية عن الأعمش به.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه مسلم في الطهارة عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، وعن محمَّد بن الصباح، عن إسماعيل بن زكريا كلاهما، عن الأعمش، عن أبي رَزين، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي معاوية، به. أفاده المزي.

وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه، والدارقطني، كما مر آنفا وابن حبان في صحيحه.

المسألة الرابعة: يستفاد من الأمر بالإراقة وكذا مما ثبت في صحيح مسلم وغيره من قوله "طهور إناء أحدكم" نجاسة ولوغ الكلب وهو الراجح من أقوال العلماء كما تقدم تحقيقه في الباب السابق، وسيأتي تمام البحث فيه في الباب التالي إن شاء الله تعالى.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 139

‌53 - باب تَعْفِيرِ الإِنَاءِ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على وجوب تعفير الإناء الذي ولغ فيه الكلب بالتراب.

والتعفير: مصدر عَفَّر مضعفا، قال في المصباح: العَفَر بفتحتين وجه الأرض، ويطلق على التراب، وعَفَرت الإناء عَفْرًا من باب ضرب: دَلَكْتُهُ بالعَفَر، فانعفر هو، واعتفر، وعفَّرته بالتثقيل مبالغة،

فتعفر اهـ.

فمعنى قوله تعفير الإناء بالتراب: دَلْكُهُ به.

67 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفًا، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، وَرَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ، وَكَلْبِ الْغَنَمِ، وَقَالَ:"إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(محمَّد بن عبد الأعلى) القيسي أبو عبد الله (الصنعاني)

(1)

(1)

"الصنعاني" نسبة إلى صنعاء بلدة من قواعد اليمن، والأكثر فيها المد، والنسبة إليها صنعاني بالنون، والقياس صنعاوي بالواو. اهـ المصباح.

ص: 140

ثم البصري، روى عن يزيد بن زُريَعْ وعثَّام بن علي، وعنه مسلم، وأبو داود في القدر، والنسائي وابن ماجه، وثقه أبوزرعة، وأبو حاتم، قال البخاري: مات سنة 254، وفي (ت) ثقة من العاشرة، أخرجوا له إلا البخاري.

2 -

(خالد) بن الحارث الهجيمي، أبو عثمان البصري ثقة ثبت من [8] تقدم في 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج بن الورد العتكي الواسطي ثم البصري الحجة المثبت من [7] تقدم في 24/ 26.

4 -

(أبو التياح) بفتح المثناة والتحتانية الثقيلة يزيد بن حميد الضُّبَعي بضم المعجمة البصري أحد الأئمة، عن أنس، ومطرف بن عبد الله، وأبي عثمان النَّهْدي، وجب عة، وعنه هَمّام، والحمادان، وطائفة. قال أحمد: ثقة ثبت، قال عمرو بن علي: مات سنة 128، أخرج له الجماعة، وفي (ت) ثقة ثبت من الخامسة.

5 -

(مطرف) بن عبد الله بن الشِّخير العامري، الحَرَشي، بفتح المهملتين، آخره معجمة، أبو عبد الله البصري، أحد سادة التابعين، عن أبيه، وعثمان، وعلي، وأبي ذر، وجماعة، وعنه أخوه أبو العلاء، ويزيد الرِّشْك، وابن واسع، وطائفة: قال ابن سعد: ثقة له فضل، وَوَرعَ، وعقل، وأدب، ومن كلامه: عقول الناس على قدر زمانهم، فضل العلم أحب إلى من فضل العبادة وخير دينكم الورع. قال عمرو بن علي: مات سنة 95، أخرج له الجماعة، وفي (ت) ثقة عابد فاضل من الثانية.

ص: 141

46 -

(عبد الله بن المغفل) بضم الميم وفتح الغين المعجمة والفاء بن عبيد بن نهيم، صحابي نزل البصرة رضي الله عنه، وتقدم في 32/ 36.

(فائدة) يقال في ابن المغفل: ابن مغفل بدون "ال" وهي للمح الصفة، كالحسن، وحسن، قاله في زهر جـ 1/ ص 54.

قال ابن مالك في الخلاصة:

وَبعْضُ الأعْلام عَلَيْه دَخَلَا

للَمْح مَا قَدْ كَانَ عَنْهُ نُقلا

كَالْفَضْل وَالحَارث وَالنُّعْمَانِ

فَذكْرُ ذَا وَحَذْفُهُ سيَّانِ

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، وكلهم بصريون، وهذا من أغرب اللطائف فإن كونهم من بلدة واحدة وهم ثقات أجلاء قلما يتفق، اتفقوا عليهم إلا شيخه، فلم يخرج له البخاري، وأخرج له أبو داود في القدر.

وأن فيه رواية تابعي عن تابعي، يزيد، عن مطرف، وأن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، والسماع.

شرح الحديث

(عن عبد الله بن المغفل) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب) وسبب ذلك كما في صحيح مسلم عن ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنهم: أن جبريل وَعَدَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه، فلم يأته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أما والله ما أخلفني" قال: فَظَلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك على ذلك، ثم وقع في نفسه جرو كلب كان تحت فسطاط لنا، فأمر به فأخرج، ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل عليه السلام، فقال له: "قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة، قال: أجل،

ص: 142

ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة" فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فأمر بقتل الكلاب، حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير، ويترك كلب الحائط الكبير.

وقيل: إنما أمر بذلك تغليظا عليهم؛ لأنهم كانوا مُولَعين به.

والأمر بقتل الكلاب كان أوّلا، ثم نسخ في غير الكلب الأسود والعقور، فقد أخرج مسلم عن جابر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تَقْدَم من البادية بكلبها، فنقتله، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وقال:"عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين، فإنه شيطان".

وعن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور" رواه الجماعة إلا الترمذي، وإذا جاز للمحرم فغيره أولى.

قال القاضي عياض: ذهب كثير من العلماء إلى الأخذ بالحديث بقتل الكلاب إلا ما استثني، وهذا مذهب مالك وأصحابه، وذهب آخرون إلى جواز اقتنائها جميعا، ونسخ قتلها إلا الأسود البهيم، قال: وعندي أن النهي أوّلا كان نهيا عاما عن اقتنائها جميعا، والأمر بقتلها جميعًا، ثم نهى عن قتل ما عدا الأسود، ومنع الاقتناء في جميعها إلا المستثنى، ونقل النووي عن إمام الحرمين أن الأمر بقتل الأسود البهيم كان في الابتداء وهو الآن منسوخ. اهـ المنهل جـ 1 / ص 263.

(ورخص) أي سَهَّل ويسَّر، يقال: رخص الشرع لنا في كذا ترخيصا، وأرخص إرخاصا: إذا يسره وسهله، والرخصة، وزان غُرْفَة، وتضم خاؤه للإتباع جمعه رُخَص مثل غُرَف: التسهيل في الأمر والتيسير. أفاده في المصباح.

ص: 143

(في) اقتناء كلب (الصيد) أي الكلاب التي تصيد (والغنم) أي الكلاب التي تحرس الغنم، زاد في رواية مسلم "والزرع" أي التي تحرس الزرع (وقال) صلى الله عليه وسلم (إذا ولغ الكلب) من باب نفع، وشرب، ووعد، وورث، ووجل، كما تقدم، أي شرب بطرف لسانه (في الإناء) فحركه، وقوله "في الإناء" مبين أن قوله فيما تقدم "في إناء أحدكم" بالإضافة غير معتبر تقييده كما حققناه فيما مضى (فاغسلوه سبع مرات) فيه دلالة على نجاسة ولوغه وما ولغ فيه وسيأتي تحقيق المسألة (وعفروه) أي ادلكوا الإناء (الثامنه) أي في الغسلة الثامنة (بالتراب) متعلق بـ"عفروه"، وظاهر الحديث وجوب غسلة ثامنة، وأن غسله بالتراب غير الغسلات السبع بالماء، وبه قال الحسن البصري، وأحمد بن حنبل في

رواية حرب الكرماني عنه، وروي عن مالك أيضا، وهو المذهب الراجح، وسيأتي تمام البحث في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث الباب أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف: أخرجه هنا 67، 366، وفي الكبرى بهذا السند، وفي 337 عن عمرو بن يزيد، عن بهز عن شعبة به.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه مسلم في الطهارة، عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، وعن محمَّد بن حاتم، عن يحيى بن سعيد، وعن يحيى بن حبيب بن عربي، عن خالد بن الحارث، وعن محمَّد بن الوليد، عن غندر: أربعتهم عن شعبة، عن أبي التياح، عن مطرف بن عبد الله، عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، وفي البيوع عن هؤلاء الأربعة، وعن إسحاق بن إبراهيم، عن النضر بن شميل، وعن أبي

ص: 144

موسى، عن وهب بن جرير كلاهما عن شعبة به، ولم يذكر في البيوع قصة الولوغ عن أحد منهم.

وأخرجه أبو داود في الطهارة عن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد، بتمامه.

وأخرجه ابن ماجه في الطهارة، وفي الصيد، مُقَطَّعا، عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن شبابة بن سَوَّار، عن شعبة به، وفي الصيد أيضًا عن بندار، عن عثمان بن عمر، وعن محمَّد بن الوليد، عن محمَّد بن جعفر، كلاهما عن شعبة، دون قصة الولوغ. أفاده الحافظ المزي رحمه الله.

وأخرجه أحمد، وابن منده، والدارقطني، والبيهقي. اهـ المنهل.

المسألة الرابعة: دل الحديث زيادة على ما تقدم، على وجوب التعفير في تطهير ما ولغ فيه الكلب، وقد اختلف العلماء في وجوب التتريب.

فذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، ومحمد بن جرير الطبري، وأكثر الظاهرية إلى وجوبه.

وذهب أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي، إلى أنه لا يجب التتريب، وإنما الواجب الماء فقط، وأوجب بعضهم التتريب فيما لا يفسد به كالإناء، دون ما يفسد به كالثياب ونحوها أفاده العراقي رحمه الله في

طرح جـ 1/ ص 128.

وقال الشوكاني رحمه الله: وقد خالفت الحنفية، والعترة في وجوب التتريب، كما خالفوا في التسبيع، ووافقهم ها هنا المالكية مع إيجابهم التسبيع على المشهور عندهم، قالوا: لأن التتريب لم يقع في، رواية مالك، قال القرافي منهم: قد صحت فيه الأحاديث، فالعجب

ص: 145

منهم كيف لم يقولوا بها؟ وقد اعتذر القائلون بأن التتريب غير واجب بأن رواية التتريب مضطربة لأنها ذكرت بلفظ "أولاهن"، وبلفظ " أخراهن" وبلفظ "إحداهن" وفي رواية "السابعة"، وفي رواية "الثامنة" والاضطراب يوجب الاطراح.

وأجيب بأن المقصود حصول التتريب في مرة من المرات، وبأن "إحداهن" مبهمة و"أولاهن" معينة، وكذلك "أخراهن" و"السابعة" و"الثامنة" ومقتضى حَمْل المطلق على المقيد أن تحمل المبهمة على إحدى المرات المعينة، ورواية "أولاهن" أرجح من حيث الأكثرية والأحفظية، ومن حيث المعنى أيضا لأن تتريب الآخرة يقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه، وقد نص الشافعي على أن الأولى أولى كذا في الفتح اهـ نيل جـ 1/ ص 67 - 68.

قال الجامع عفا الله عنه: بل الأولى حمل المبهمة على الثامنة لأنها أرجح كما سيأتي تحقيقه قريبا إن شاء الله تعالى.

المسألة الخامسة: اختلفت الروايات في المرة التي يجعل فيها التراب فعند مسلم "أولاهن" أو قال "أخراهن بالتراب"، وفي رواية لأبي بكر البزار في مسنده "إحداهن" بالحاء والدال المهملتين، ومن ذكر من المصنفين أنها لم ترد من حديث أبي هريرة فمردود عليه بذكر البزار لها في مسنده، وقد رواها الدارقطني هكذا أيضا من حديث علي فقال فيه:"إحداهن بالبطحاء" وذكر النووي في الفتاوى أنها رواية ثابتة، ولمسلم من حديث عبد الله بن مغفل "إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات، وعفروه الثامنة بالتراب".

وقد اختلف كلام الشارحين في الجمع بينها، فجمع النووي بينها بأن التقييد بالأولى، وبغيرها ليس على الاشتراط، بل المراد احداهن، قال: وأما رواية "وعفره الثامنة بالتراب" فمذهبنا، ومذهب الجماهير أن

ص: 146

المراد اغسلوه سبعا واحدة منهن بتراب مع الماء، فكأن التراب قائم مقام غسلة فسميت ثامنة لهذا، وأشار ابن دقيق العيد إلى تضعيف هذا الجواب بأنه تأويل فيه استكراه، وهكذا يدل كلام البيهقي في السنن على تعذر الجمع بين رواية الثامنة بالتراب وبين ما تقدم فإنه صار إلى الترجيح، دون الجمع، فقال بعد ذكر حديث ابن مغفل في الثامنة: ما صورته: وأبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، فروايته أولى، فرجح البيهقي روايته بكونه أحفظ، وهو أحد وجوه الترجيح عند المعارضة، وقد استشكل ابن دقيق العيد إجزاء التتريب في أي غسلة شاء من الغسلات السبع بأن رواية إحداهن على تقدير ثبوتها مطلقة، وقد قيدت في بعضها بأولاهن وفي بعضها بالسابعة فلا يجزي التتريب في غيرهما لاتفاق القيدين على نفيه وما ذكره استشكالا وبحثا قد نص عليه الشافعي في مختصر البويطي فقال: وإذا ولغ الكلب في الإناء غسل سبعا أولاهن أو أخراهن بالتراب ولا يطهر غير ذلك، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا لفظه بحروفه، وعبارته في الأم قريبة من ذلك، وقد تبعه من أصحابه على تقييد ذلك بالأولى أو الأخرى الزبيري في الكافي والمرعشي في كتاب ترتيب الأقسام، ونقله الدارمي أيضا في الاستذكار عن ابن جابر.

وقد ضعف بعض مصنفي الحنفية الرواية التي ذكر فيها التراب بهذا الاضطراب من كونها أولاهن، أو أخراهن، أو إحداهن، أوالسابعة، أو الثامنة، فقال: يقتضي طرح ذكر التراب رأسا، وكذا قال صاحب المفهم: أن هذه الزيادة مضطربة وفيما قالاه نظر، فإن الحديث المضطرب إنما تتساقط الروايات إذا تساوت وجوه الاضطراب، أما إذا ترجح بعض الوجوه فالحكم للرواية الراجحة، فلا يقدح فيها رواية من خالفها، كما هو معروف في علوم الحديث، وإذا تقرر ذلك فلا شك أن رواية "أولاهن" أرجح من سائر الروايات فإنه رواها عن محمَّد بن سيرين

ص: 147

ثلاثة: هشام بن حسان، وحبيب بن الشهيد، وأيوب السختياني، وأخرجها مسلم في صحيحه من رواية هشام، فترجح بأمرين: كثرة الرواة، وتخريج أحد الشيخين لها، وهما من وجوه الترجيح عند التعارض، وأما رواية "أخراهن" بالخاء المعجمة والراء فلا توجد منفردة مسندة في شيء من كتب الحديث، إلا أن ابن عبد البر ذكر في التمهيد أنه رواها خلاس عن أبي هريرة، إلا أنها رويت مضمومة مع "أولاهن"، وأما رواية "السابعة بالتراب" فهي وإن كانت بمعناها فإنه تفرد بها عن محمَّد بن سيرين قتادة، وانفرد بها أبو داود، وقد اختلف فيها على قتادة، فقال أبان عنه هكذا، وهي رواية أبي داود، وقال سعيد بن بشير عنه:"الأولى با لتراب" فوافق الجماعة، رواه كذلك الدارقطني في سننه، والبيهقي من طريقه، وهذا يقتضي ترجيح رواية "أولاهن" المُوَافقة للجماعة.

وأما رواية "إحداهن" بالحاء المهملة والدال، فليست في شيء من الكتب الستة، وإنما رواها البزار كما تقدم، وأما رواية "أولاهن" أو "أخراهن" فقد رواها الشافعي، والبيهقي في سننه من طريقه بإسناد صحيح، وفيه بحث أذكره، وهو أن قوله "أولاهن" أو "أخراهن" لا تخلو إما أن تكون مجموعة من كلام الشارع، أو هو شك من بعض رواة الحديث، فإن كانت مجموعة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهو دال على التخيير بينهما، ويترجح حينئذ ما نص عليه الشافعي رحمه الله من التقييد بهما، وذلك لأن من جمع بينهما معه زيادة علم على من اقتصر على الأولى، أو السابعة لأن كلا منهن

(1)

حفظ مرة فاقتصر عليها، وحفظ هذا الجامع بين الأولى والأخرى فكان أولى، وإن كان ذلك شكا من بعض الرواة فالتعارض قائم ويرجع إلى الترجيح، فترجح الأولى كما تقدم، ومما

(1)

هكذا نسخة الطرح: لأن كلا منهن، الخ والكلام غير مستقيم فلعل فيه تحريفا فليحرر.

ص: 148

يدل على أن ذلك شك من بعض الرواة لا من كلام الشارع: اقول الترمذي في روايته "أولاهن" أو قال "أخراهن بالتراب" فهذا يدل على أن بعض الرواة شك فيه، فيترجح حينئذ تعيين الأولى، ولها شاهد أيضا من رواية خلاس عن أبي رافع، عن أبي هريرة، كما سيأتي في الوجه الذي يليه، وإذا كان ذكر الأولى أرجح ففيه حجة لما ذكر أصحابنا (يعني الشافعية) من كون التتريب في المرة الأُولى أوْلي، وذكروا له معنى آخر، وهو أنه إذا قدم التتريب في الأولى فتناثر من بعض الغسلات رشاش إلى غير الموضع المتلوث بالنجاسة الكلبية لم يجب تتريبه بخلاف ما إذا أخر، فكان هذا أرفق، لكن حمله على الأولوية متقاصر عما دلت عليه الرواية "الصحيحة" فينبغي حمله على تعيين المرة الأولى والله أعلم. اهـ طرح جـ 2/ ص 131.

وقال الحافظ في التلخيص: وأجاب أصحابنا (يعني الشافعية) عنه (يعني حديث ابن مغفل "وعفروه الثامنة بالتراب") بأجوبة:

أحدها: قال البيهقي بأن أبا هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، فروايته أولى، وهذا الجواب متعقب؛ لأن حديث عبد الله بن مغفل صحيح، قال ابن منده: إسناد مجمع على صحته، وهي زيادة

ثقة فيتعين المصير إليها، وقد ألزم الطحاويُّ الشافعيةَ بذلك.

ثانيها: قال الشافعي: هذا الحديث لم أقف على صحته، وهذا العذر لا ينفع أصحاب الشافعي الذين وقفوا على صحة الحديث، لا سيما مع وصيته.

ثالثها: يحتمل أن يكون جعلها الثامنة لأن التراب جنس غير جنس الماء، فجعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدودا باثنين، وهذا جواب الماوردي وغيره.

ص: 149

رابعها: أن يكون محمولا على من نسي استعمال التراب، فيكون التقدير: اغسلوا سبع مرات إحداهن بالتراب كما في رواية أبي هريرة، فإن لم تعفروه في إحداهن فعفروه الثامنة، ويغتفر مثل هذا الجمع بين اختلاف الروايات، وهو أولى من إلغاء بعضها والله أعلم اهـ تلخيص جـ 1/ ص 24.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجح عندي الأخذ بحديث ابن مغفل كما هو مذهب الحسن البصري، والإمام أحمد في رواية، وروي عن مالك أيضا.

قال العلامة ابن دقيق العيد: والرواية التي فيه "وعفروه الثامنة بالتراب تقتضي زيادة ثامنة ظاهرا، والحديث قوي فيه، ومن لم يقل به احتاج إلى تأويل بوجه فيه استكراه. اهـ باختصار من إحكام الأحكام جـ 1/ ص 29 والله أعلم.

المسألة السادسة: قال ابن دقيق العيد: قوله صلى الله عليه وسلم: "فاغسلوه سبعا أولاهن أو أخراهن بالتراب" يدل لما قاله أصحاب الشافعي، أو بعضهم أنه لا يكتفى بذَرِّ التراب على المحل، بل لابد أن يجعله في الماء، ويوصله إلى المحل، ووجه الاستدلال أنه جعل مرة التتريب داخلة في مسمى الغسلات، وذَرّ التراب على المحل لا يسمى غسلا، وهذا ممكن، وفيه احتمال أنه إذا ذر التراب على المحل، فأتبعه بالماء يصح أن يقال غسل بالتراب، ولابد من مثل هذا في أمره صلى الله عليه وسلم في غسل الميت بماء وسدر عند من يرى أن الماء المتغير بالطاهر غير طهور إن جرى على ظاهر الحديث

في الاكتفاء بغسلة واحدة إذ بها يحصل مسمى الغسل، وهذا جيد، إلا أن قوله "وعفروه" قد يشعر بالاكتفاء بالتتريب بطريق ذر التراب على المحل، وإن كان خلطه بالماء لا ينافي كونه تعفيرا لغة، فقد ثبت ما

ص: 150

قالوه؛ لأن لفظ التعفير حينئذ ينطلق على ذر التراب على المحل، وعلى إيصاله بالماء إليه، والحديث الذي دل على اعتبار مسمى الغسلة يدل على خلطه بالماء، وإيصاله إلى المحل به، وذلك أمر زائد على مطلق التعفير على التقدير الذي ذكرناه من شمول اسم التعفير للصورتين معا أعني ذر التراب وإيصاله بالماء اهـ إحكام جـ 1/ ص 29 - 30.

المسألة السابعة: قال ابن دقيق العيد أيضا: قوله بالتراب يقتضي تعينه، وفي مذهب الشافعي رحمه الله قول، أو وجه أن الصابون والأشنان والغسلة الثامنة يقوم مقام التراب في ذلك.

قال الجامع: ومثله عن أحمد، فإنه يقول: يقوم الأشنان، والصابون، والنخالة، ونحوها من كل ما له قوة في الإزالة مقام التراب ولو مع وجوده، وعدم تضرر المحل به؛ لأنها أبلغ منه في الإزالة، فنصه

على التراب تنبيه عليها، ولأنه جامد أمر به في إزالة النجاسة فالحق به ما هو أقوى منه في ذلك، أفاده في كشاف القناع، وغيره قاله في المنهل جـ 1/ ص 253.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وهذا عندنا ضعيف؛ لأن النص إذا ورد بشيء معين، واحتمل معنى يختص بذلك الشيء لم يجز إلغاء النص واطراح خصوص المعين فيه، والأمر بالتراب، وإن كان محتملا لما ذكروه، وهو زيادة التنظيف، فلا يجزم بتعيين ذلك المعنى، فإنه يزاحمه معنى آخر، وهو الجمع بين مطهرين أعني الماء والتراب، وهذا المعنى مفقود في الصابون والأشنان، وأيضا فإن هذه المعاني المستنبطة إذا لم يكن فيها سوى مجرد المناسبة، فليست بذلك الأمر القوي، فإذا وقعت فيها الاحتمالات، فالصواب اتباع النص، وأيضًا فإن المعنى المستنبط إذا عاد على النص بالإبطال والتخصيص، فمردود عند جميع

ص: 151

الأصوليين اهـ إحكام جـ 1/ ص 32.

قال الجامع: وهذا الذي قاله العلامة ابن دقيق العيد هو الصواب الحقيق بالقبول، والحاصل أنه يتعين التراب، اتباعا للنص الوارد فيه، إذ التنصيص عليه مع وجود غيره في ذلك الوقت، وتيسيره يدل على أن في التراب معنى ملائما لإزالة أثر ولوغ الكلب، فلا ينبغي تجاوزه إلى غيره. فتبصر. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 152

‌54 - سُؤْرِ الْهِرَّةِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حكم سؤر الهرة.

وتقدم معنى السؤر.

وفي اللسان: والهرّ: السّنّور جمعه هِرَرَة، مثل قرد وقِرَدَة اهـ.

وفي المصباح: الهرّ: الذكر، وجمعه هرَرَة، مثل قرد وقردة، والأنثى هرّة، وجمعها هرَر، مثل سدْرَة وسدَر، قاله الأزهري، وقال ابن الأنباري: وقد يُدخلون الهاء في المؤنث، وتصغير الأنثى هُرَيْرَة، وبها كني الصحابي المشهور رضي الله عنه. اهـ.

68 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ حُمَيْدَةَ بِنْتِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا، ثُمَّ ذَكَرَتْ كَلِمَةً مَعْنَاهَا فَسَكَبْتُ لَهُ وَضُوءًا، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ فَشَرِبَتْ مِنْهُ، فَأَصْغَى لَهَا الإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ، قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ".

ص: 153

رجال الإسناد: ستة

1 -

(قتيبة) بن سعيد أبو رجاء الثقفي الثقة المثبت من [10] تقدم في1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة ثقة حجة من [7] تقدم في 7/ 7.

3 -

(إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) زيد بن سهل الأنصاري أبو يحيى المدني، عن أبيه، وأنس والطفيل بن أبي بن كعب، وعنه حماد ابن سلمة، وابن عيينة، ومالك، قال ابن معين: ثقة حجة، قال ابن سعد: توفي سنة 132، وقال الفلاس: سنة أربع، أخرج له الجماعة، وفي (ت) ثقة حجة من الرابعة.

4 -

(حُمَيْدة بنت عُبَيْد بن رفَاعة) زوج إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، والدة ولده يحيى، المدنية، عن خالتها كبشة بنت كعب، وعنها يحيى بن إسحاق بن عبد الله، وزوجها إسحاق، مقبولة من الخامسة، أخرج لها الأربعة. قال ابن عبد البر: هي بضم الحاء، وفتح الميم، عند رواة الموطأ إلا يحيى الليثي، فقال: إنها بفتح الحاء وكسر الميم. اهـ المنهل.

5 -

(كبشة بنت كعب بن مالك) الأنصارية المدنية زوج عبد الله بن أبي قتادة، قال ابن حبان: لها صحبة وتبعه الزبير بن بكار، وأبو موسى قاله في "تت". وفي الخلاصة روت عن أبي قتادة، وعنها بنت أختها حميدة أم يحيى، وثقها ابن حبان، وصحح الترمذي حديثها، أخرج لها الأربعة.

6 -

(أبو قتادة) الأنصاري الحارث بن ربعي، رضي الله عنه، تقدم في 23/ 24.

ص: 154

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم مدنيون إلا شيخه فبغلاني وأن فيه رواية صحابية عن صحابي، على قول لابن حبان، وأن فيه الإخبار، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن كبشة) بفتح الكاف وسكون الموحدة (بنت كعب بن مالك) الأنصارية زوج عبد الله بن أبي قتادة (أن أبا قتادة) الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه (دخل عليها) أي كبشة (ثم ذكرت) كبشة (كلمة) أي كلاما لأن قوله "فسكبت له وضوءا" جملة وإطلاق الكلمة على الكلام شائع لغةً كما قال ابن مالك في ألفيته:

وَكِلْمَةٌ بهَا كَلامٌ قَدْ يُؤَمّ

قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] إشارة إلى قوله {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] و"لا إله إلا الله" كلمة الإخلاص.

(معناها) أي معنى تلك الكلمة، وحاصل معنى الكلام أن الراوية عن كبشة نسيت لفظ كبشة، وحفظت معناه، فعبرت به، فقوله "معناها" مبتدأ خبره جملة قوله (فسكبتْ له وَضُوءا) أي صَبَّتْ كبشةُ لأبي قتادة ماء يتوضأ به، فالوضوء بفتح الواو لا غير، والتاء الساكنة للتأنيث، أو هي مضمومة للمتكلم، قال السندي: ولا يخلو عن بُعْد.

قال الجامع: لابعد فيه، بل في بعض الرواية ما يؤيده كما يأتي في كلام النووي في المسألة الرابعة فتنبه.

(فجاءت هرة فشربت منه) أي أرادت أن تشرب، أو شرعت في الشرب من ذلك الوَضوء (فأصغى) أي أمال أبو قادة (لها) أي للهرة

ص: 155

(الإناء) أي الوعاء الذي فيه الماء لتتمكن من الشرب منه رفقا بها (حتى شربت) الهرة منه (قالت كبشة: فرآني انظر إليه) متعجبة من فعله (فقال: أتعجين) من باب تَعبَ، قال في المصباح: وعَجِبتُ من الشيء عَجَبًا، من باب تَعب وتَعَجَّبْت، واستعجبت، وهو شيء عجيب، أي يُعجَب منه، وأعجبني حسنه.

قال: ويستعمل التعجب على وجهين: أحدهما: ما يحمده الفاعل، ومعناه الاستحسان والإخبار عن رضاه به، والثاني: ما يكرهه، ومعناه الإنكار، والذم له، ففي الاستحسان يقال: أعجبني بالألف، وفي الذم يقال: عجبت، وزان تعبت، وقال بعض النحاة: التعجب انفعال النفس لزيادة وَصف المتعجب منه، نحو ما أشجعه. اهـ باختصار.

قال الجامع عفاالله عنه: والتعجب هنا هو من النوع الثاني: أي أتنكرين عَلَيَّ؟.

(يا ابنة أخي) إِمَالتَي الإناء للهرة وشربها منه.

وأراد أخوة الإسلام على عادة العرب من أن بعضهم يقول لبعض: يا ابن أخي، ويا ابن عمي، وإن لم يكن بينهما نسب على سبيل التلطف والإكرام، قالت كبشة (فقلت: نعم) بفتح العين المهملة، وكنانة تكسرها، وبها قرأ الكسائي، وبعضهم يبدلها حاء، وبها قرأ ابن مسعود، وبعضهم يكسر النون اتباعا لكسرة العين قاله في المنهل.

وفي المصباح: وقولهم: نَعَم في الجواب معناها: التصديق إن وقعت بعد الماضي، نحو هل قام زيد؟ والوعد إن وقعت بعد المستقبل، نحو هل تقوم: قال سيبويه: نعم عدَةٌ وتصديق، قال ابن باب شاذ: يريد أنها عدة في الاستفهام، وتصديق للإخبار، ولا يريد إجتماع الأمرين

ص: 156

فيها في كل حال، قال النِّيليُّ: وهي تُبقي الكلام على ما هو عليه من إيجاب أو نفي؛ لأنها وضعت لتصديق ما تقدم من غير أن ترفع النفي وتبطله، فإذا قال القائل: ما جاء زيد، ولم يكن قد جاء، وقلت في جوابه: نعم، كان التقدير: نعم ما جاء، فصدقت الكلام على نفيه، ولم تبطل النفي كما تبطله "بلى" وإن كان قد جاء قلت في الجواب "بلى" والمعنى قد جاء، فنعم تبقي النفي على حاله، ولا تبطله، وفي التنزيل {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ولو قالوا: نعم كان كفرا، إذ معناه نعم لست بربنا؛ لأنها لا تزيل النفي بخلاف "بلى"، فإنها للإيجاب بعد النفي، اهـ. المصباح.

(قال) أبو قتادة مزيلا لاستغرابها (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) مبينا لحكم الهرة (إنها ليست بنجس) قال المنذري، ثم النووي، ثم ابن دقيق العيد، ثم ابن سيد الناس: مفتوح الجيم من النجاسة، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] اهـ. زهر ص 55.

وقال السندي: بفتحتين مصدر نجس الشيء بالكسر، فلذلك لم يؤنث، كما لم يجمع في قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، كون والصفة نجس بكسر الجيم وفتحها، ولو جعل المذكور في الحديث صفة يحتاج التذكير إلى التأويل أي ليس بنجس ما تَلَغُ فيه. اهـ، أي ليست الهرة نجسة الذات، بل هي طاهرة.

ثم ذكر علة عدم نجاستها بقوله (إنها من الطوافين عليكم) فالجملة مستأنفة، فيها معنى التعليل إشارة إلى أن علة الحكم بعدم نجاستها هي الضرورة الناشئة من كثرة دورانها في البيوت ودخولها فيها بحيث يصعب صون الأواني والثياب ونحوها عنها، فجعلها الله تعالى طاهرة رأفة بالعباد للحرج، قاله في المنهل جـ 1/ ص 265.

ص: 157

و"الطوَّافين": جمع طوَّاف، وهو مَن يُكثر الدَّوَرَان على الشيء، ويُطلَق على الخادم الذي يخدُم برفق وعناية، شبهها بالخادم الذي يطوف على مولاه ويدور حوله أخذا من قوله تعالى:{طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} [النور: 58] وألحقها بهم حيث أطلق عليها الصيغة الموضوعة للعقلاء، لأنها خادمة أيضا فإنها تقتل المؤذيات.

ويحتمل أنه شبهها بمن يطوف للحاجة يريد أن الأجر في مواساتها كالأجر في مواسات من يطوف للحاجة، والأول هو المشهور، وقول الأكثر، وصححه النووي في شرح أبي داود، وقال: ولم يذكر جماعة سواه. أفاده في زهر، والمنهل.

(والطوافات) وفي رواية الترمذي، أو "الطوافات"، وكلا الوجهين يُروى عن مالك قال المباركفوري: شك من الراوي كذا قاله ابن الملك، وقال في الأزهار شبه ذكورها بالطوافين وإناثها بالطوافات، وقال ابن حجر: وليست للشك لوروده بالواو في روايات أخر، بل للتنويع، ويكون ذكر الصنفين من المذكور والإناث كذا في المرقاة. اهـ تحفة الأحوذي جـ 1/ ص 309.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث الباب، قال الترمذي: حسن صحيح، وقال المنذري: قال البخاري: جوَّد مالك هذا الحديث وروايته أصح من رواية غيره، وقال الشوكاني: وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والعقيلي، وأعله ابن منده بأن في سنده حُمَيدة وكَبْشَة، وهما مجهولتان، لم يعرف لهما إلا هذا الحديث. اهـ.

وتعقبه الحافظ بأن لحميدة حديثا آخر في تشميت العاطس، رواه أبو داود، ولها ثالث رواه أبو نعيم في المعرفة، وقد روى عنها مع إسحاق

ص: 158

ابنه يحيى، وهو ثقة عند ابن معين، فارتفعت جهالتها، وأما كبشة فقيل: إنها صحابية فإن ثبت فلا يضر الجهل بحالها على ما هو الحق من قبول مجاهيل الصحابة.

وقال ابن دقيق العيد: لعل من صححه اعتمد على تخريج مالك وأن كل من أخرج له فهو ثقة عند ابن معين، كما صح عنه، فإن سلكت هذه الطريقة في تصحيحه أعني تخريج مالك، وإلا فالقول ما قال ابن منده. اهـ. تلخيص الحبير.

قال الجامع: الأولى أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن، لما عرفت من أن حميدة غير مجهولة، وأما كبشة فوثقها ابن حبان، ويؤيده تخريج مالك لها كما قال ابن دقيق العيد، بل هو صحيح لشواهده، كما حققه الشيخ الألباني في إروائه. جـ 1/ ص 191 - 193. والله أعلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف:

أخرجه هنا 68 وفي الكبرى 63 بالسند المذكور.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرج حديث الباب أبو داود في الطهارة عن القعنبي، والترمذي فيه عن إسحاق بن موسى، عن معن، وابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن زيد بن الحُبَاب أربعتهم عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن كبشة، عن أبي قتادة رضي الله عنه. أفاده المزي رحمه الله.

وأخرجه مالك، وأحمد، والدارمي، والدارقطني، والبيهقي. قاله في المنهل جـ 1/ ص 266.

المسألة الرابعة: أنه ذكر الإمام النووي رحمه الله في المجموع في هذا

ص: 159

الحديث كلاما نفيسا، ولنفاسته أسوقه هنا برمته، وإن كان جُلُّهُ تقدم فيما سبق إذ فيه زوائد حسان، فأقول: قال رحمه الله: وأما الحديث المذكور فصحيح، رواه الأئمة الأعلام، مالك في الموطأ، والشافعي في مواضع، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، وهذا الحديث عمدة مذهبنا في طهارة سؤر السباع، وسائر الحيوان غير الكلب، والخنزير، وفرع أحدهما، فأنا أنقله بلفظه، واختلاف طرقه لشدة الحاجة إلى تحقيقه.

فلفظ رواية مالك، عن كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت تحت أبي قتادة، فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة لتشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قلت: نعم فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ليست بنجس إنما

هي من الطوافين عليكم، أو الطوافات" هذا لفظ رواية مالك.

ورواية الترمذي مثلها وبحروفها، إلا أن رواية مالك "أو الطوافات""بأو"، ورواية الترمذي "إنما هي من الطوافين والطوافات" بالواو بحذف عليكم.

قال الجامع: قلت: نسخة الترمذي التي شرح عليها المباركفوري "بأو" وزيادة "عليكم"، فلا اختلاف بين رواية مالك وروايته، ولعل نسخة النووي على ما ذكره.

قال النووي: وفي رواية الدارمي، وأبي داود، عن كبشة بنت كعب ابن مالك، وكانت تحت ابن أبي قتادة، ثم في رواية أبي داود:"والطوافات" وفي رواية الدارمي: "أو الطوافات" بأو، وفي رواية ابن ماجه عن كبشة بنت كدب، وكانت تحت بعض ولد أبي قتادة وفيها "والطوافات" بالواو ورواه الرَّبيع عن الشافعي، عن مالك بالإسناد،

ص: 160

وقال في كبشة، وكانت تحت ابن أبي قتادة أو أبي قتادة، قال البيهقي: الشك من الربيع، وقال فيه "أو الطوافات بأو، وقال البيهقي: ورواه الربيع في موضع آخر عن الشافعي، وقال: وكانت تحت ابن أبي قتادة، ولم يشك، ورواه الشافعي بإسناده عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، أو مثل معناه، وروى أبو داود، وابن ماجه هذا الحديث أيضا من رواية عائشة، وفيه زيادة قالت عائشة: وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضلها. قال الترمذي: حديث أبي قتادة حسن صحيح، قال: وهو أحسن شيء في الباب، قال البيهقي: إسناده

صحيح، وعليه الاعتماد.

وأما لفظة "والطوافات" فرويت "بأو"، وبالواو كما ذكرناها، قال صاحب مطالع الأنوار: يحتمل "أو" أن تكون للشك، ويحتمل أن تكون للتقسيم، ويكون ذكر الصنفين من الذكور والإناث، وهذا الذي قاله محتمل، وهو الأظهر لأنه للنوعين كما جاء في روايات بالواو.

قال أهل اللغة: "الطوافون": الخَدَم والمماليك، وقيل: هم الذين يخدمون برفق، وعناية. ومعنى الحديث: أن الطوافين من الخدم والصغار الذين سقط في حقهم الحجاب، والاستئذان في غير الأوقات الثلاث التي ذكرها الله تعالى إنما سقط في حقهم دون غيرهم للضرورة، وكثرة مداخلتهم بخلاف الأحرار البالغين، فكذا يُعفى عن الهرة للحاجة، وقد أشار إلى نحو هذا المعنى أبو بكر بن العربي في كتابه "عارضة الأحوذي في شرح الترمذي"، وذكر أبو سليمان الخطابي أن هذا الحديث يتأول على وجهين:

أحدهما: أنه شبهها بخدم البيت ومن يطوف على أهله للخدمة.

والثاني: شبهها بمن يطوف للحاجة، والمسألة، ومعناه الأجر في

ص: 161

مواساتها كالأجر في مواساة من يطوف للحاجة والمسألة، وهذا التأويل الثاني قد يأباه سياق قوله صلى الله عليه وسلم:"إنها ليست بنجس" والله أعلم اهـ المجموع جـ 1/ ص 171 - 172.

المسألة الخامسة: في مذاهب العلماء في سؤر الهرة:

ذهب الجمهور إلى أن سؤرها طاهر.

وذهب الإمام أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وزفر، والحسن بن زياد، إلى كراهة سؤرها.

قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في التمهيد: وفيه -أي في حديث أبي قتادة- أن الهر ليس بنجس ما شرب منه، وأن سؤره طاهر.

وهذا قول مالك وأصحابه، والشافعي، والأوزاعي، وأبي يوسف القاضي، والحسن بن صالح بن حي.

وقال أيضا: وممن روينا عنه أن الهر ليس بنجس وأنه لا بأس بفضل سؤره للوضوء والشرب: العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وأبو قتادة، والحسن، والحسين، وعلقمة، وإبراهيم، وعكرمة، وعطاء بن يسار.

واختلف في ذلك عن أبي هريرة، والحسن البصري، فروى عطاء عن أبي هريرة: أن الهر كالكلب يغسل منه الإناء سبعا، وروى أبو صالح ذكوان عن أبي هريرة، قال: السنور من أهل البيت، وروى أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بسؤر السنور، وروى يونس عن الحسن أنه قال: يغسل الإناء من ولوغه مرة، وهذا يحتمل أن يكون رأى في فمه أذى ليصح مخرج الروايتين عنه. ولا نعلم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم روي عنه في الهر أنه لا يتوضأ بسؤره إلا أبا هريرة على اختلاف عنه.

ص: 162

وأما التابعون فروينا عن عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، أنهم أمروا بإراقة ما ولغ فيه الهر، وغسل الإناء منه، وسائر التابعين بالحجاز، والعراق يقولون في الهر: إنه طاهر، لا بأس بالوضوء بسؤره، وروى الوليد بن مسلم قال: أخبرني سعيد، عن قتادة، عن ابن المسيب، والحسن أنهما كرها الوضوء بفضل الهر، قال الوليد: فذكرت ذلك لأبي عمرو الأوزاعي، ومالك بن أنس، فقالا: توضأ به فلا بأس به، وإن وجدت غيره.

قال أبو عمر: الحجة عند التنازع والاختلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صح عنه من حديث أبي قتادة في هذا الباب ما ذكرنا، وعليه اعتماد الفقهاء في كل مصر إلا أبا حنيفة، ومن قال بقوله.

قال أبو عبد الله محمَّد بن نصر المروزي: الذي صار إليه جل أهل الفتوى من علماء الأمصار من أهل الأثر والرأي جميعا أنه لا بأس بسؤر السنور اتباعا للحديث الذي روينا، يعني حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: وممن ذهب إلى ذلك: مالك بن أنس، وأهل المدينة، والليث ابن سعد، فيمن وافقه من أهل مصر، والمغرب، والأوزاعي في أهل الشام، وسفيان الثوري فيمن وافقه من أهل العراق، قال: وكذلك قول الشافعي، وأصحابه، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي ثور، وأبي عبيدة، وجماعة من أصحاب الحديث، قال: وكان النعمان يكره سؤره، وقال: إن كان توضأ به أجزأه، وخالفه أصحابه، فقالوا: لا بأس به.

قال أبو عمر: ما حكاه المروزي عن أصحاب أبي حنيفة فليس كما حكاه عندنا، وإنما خالفه من أصحابه أبو يوسف وحده، وأما محمَّد، وزفر، والحسن بن زياد، فيقولون بقوله وأكثرهم يروونه عنه أنه لا

ص: 163

يجزئ الوضوء بفضل الهر، ويحتجون لذلك، ويروون عن أبي هريرة،، وابن عمر رضي الله عنهما أنهما كرها الوضوء بسؤر الهر، وهو قول ابن أبي ليلى.

وأما الثوري، فقد اختلف عنه في سؤر الهر، فذكر في جامعه أنه كان يكره سؤر ما لا يؤكل لحمه، وما يؤكل لحمه فلا بأس بسؤره، وهو ممن يكره أكل الهر.

وذكر المروزي بسنده عن سفيان قال: لا بأس بفضل السنور.

قال أبو عمر: لا أعلم لمن كره سؤر الهر حجة أحسن من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة، وقد بلغه حديث أبي هريرة في الكلب فقاس الهر على الكلب، وقد فرقت السنة بين الهر والكلب في باب التعبد، وجمعت بينهما على حسب ما قدمنا ذكره من باب الاعتبار والنظر، ومن حَجَّتْهُ

السنة خَصَمَتهُ، وما خالفها مطروح اهـ. تمهيد باختصار جـ 1/ ص 323 - 325.

وقال النووي رحمه الله: وأما الهرة فاستدل أصحاب أبي حنيفة رحمه الله لكراهة سؤرها بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا ومن ولوغ الهرة مرة" ولأنها لا تجتنب النجاسة، فكره سؤرها، واحتج أصحابنا بحديث أبي قتادة، وحديث عائشة، وغير ذلك.

ولأنه حيوان يجوز اقتناؤه لغير حاجة فكان سؤره طاهرا وغير مكروه كالشاة، وأما الجواب عن حديث أبي هريرة: فهو أن قوله من ولوغ الهرة مرة ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو مدرج في الحديث من كلام أبي هريرة موقوفا عليه، كذا قاله الحفاظ، وقد بين البيهقي، وغيره ذلك، ونقلوا دلائله وكلامَ الحفاظ فيه، قال البيهقي: وروي عن أبي صالح، عن أبي

ص: 164

هريرة "يغسل الإناء من الهرة كما يغسل من الكلب" وليس بمحفوظ، وعن عطاء عن أبي هريرة وهو خطأ من ليث بن أبي سليم إنما رواه ابن جريج وغيره عن عطاء من قوله، قال وروي عن ابن عمر كراهة الوضوء بفضل الهرة.

قال الشافعي رحمه الله: الهرة ليست بنجس فنتوضأ بفضلها، ونكتفي بالخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكون في أحد قال خلاف قول النبي حجة.

قال أصحابنا: ولو صح حديث أبي هريرة لم يكن فيه دليل؛ لأنه متروك الظاهر بالاتفاق، فإن ظاهره يقتضي وجوب غسل الإناء من ولوغ الهرة، ولا يجب ذلك بالإجماع.

قال البيهقي: وزعم الطحاوي ان حديث أبي هريرة صحيح، ولم يعلم أن الثقة من أصحابه ميزه من الحديث، وجعله من قول أبي هريرة.

وأما قولهم: لا تجتنب النجاسة فمنتقض باليهودي، وشارب الخمر، فإنه لا يكره سؤرهما، والله أعلم. المجموع جـ 1/ ص 175.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبين بما ذكرأن الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من أن سؤر الهرة طاهر، لا كراهة فيه لقوة دليله، والله أعلم.

المسألة السادسة: من فوائد هذا الحديث عدم نجاسة سؤر الهرة وأنها طاهرة، وإباحة اتخاذها، وما أبيح اتخاذه للانتفاع به جاز بيعه، وأكل ثمنه إلا أن يخص شيئا من ذلك دليلٌ، فيخرجه عن أصله

(1)

، وفيه أن خبر الواحد من النساء والرجال سواء، وإنما المراعاة في ذلك الحفظ والإتقان، والصلاح، وهذا لا خلاف فيه بين أهل الأثر، قاله الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور" فيكون هذا مما خرج عن الأصل المذكور، فلا يجوز بيع الهرة لهذا النص. فافهم.

ص: 165

‌55 - باب سُؤْرِ الْحِمَارِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حكم سؤر الحمار.

وقد تقدم معنى السؤر.

والحمار: الذكر، والأنثى: أتَان، وحمارة بالهاء نادر، والجمع: حَمير وحُمُر بضمتين، وأحْمرَة. اهـ. المصباح.

69 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أَتَانَا مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَاكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(محمَّد بن عبد الله بن يزيد) العدوي مولاهم أبو يحيى بن أبي عبد الرحمن المقرئ المكي، ثقة من -10 - ت 250 تقدم في 11/ 11.

2 -

(سفيان) بن عيينة بن أبي عمران الهلالي، أبو محمَّد الكوفي، ثم المكي الثقة الحجة من [8] تقدم في 1/ 1.

3 -

(أيوب) بن أبي تميمة: كَيْسان السَّخْتياني، البصري الثقة الحجة من [5] تقدم في 42/ 48. 4 - (محمَّد) بن سيرين أبو بكر الأنصاري مولاهم البصري الحجة المثبت من [3] تقدم في 46/ 57.

ص: 166

5 -

(أنس) بن مالك أبو حمزة الأنصاري، البصري، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رواته ثقات، وهم ما بين مكيين وهما الأول والثاني، وبصريينَ وهم الباقون.

وأن فيه رواية تابعي، عن تابعي.

وأن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن أنس) بن مالك الأنصاري رضي الله عنه أنه (قال: أتانا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو أبو طلحة الأنصاري كما بينه مسلم في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك قال: "لما كان يوم خيبر جَاءَ جَاءٍ، فقال: يا رسول الله، أكلت الحُمُرُ، ثم جاء آخر، فقال: يا رسول الله أُفنيت الحمرُ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمرُ فإنها رجس، أو نجس قال: فأكفئَت القدور بما فيها"(فقال) المنادي (إن الله ورسوله ينهاكم) الضمير المستتر يرجع إلى الله، فالجملة خبر "إن"، وأما "ورسوله" فمرفوع على الابتداء، وخبره محذوف، أي

ينهاكم مُبَلِّغًا عنه، والجملة معترضة، فذكر الرسول لأنه مبلغ، ويحتمل أن تكون الجملة خبرا عن "رسوله"، وذكر "الله" للتنبيه على أن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم نهي الله تعالى، وفي نسخة عند المصنف وعند الشيخين أيضا بصيغة التثنية "ينهيانكم"، وهو ظاهر لا إشكال فيه لفظا، لكن يستشكل مَعْنى من حيث نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم الخطيبَ الذي قال"ومن يعصهما" والجواب

ص: 167

أن مثل هذا اللفظ يَختَلفُ بحسب المتكلم والمخاطب، قاله السندي رحمه الله.

وقيل: إنما نهاه عن ذلك لأن الخطبة مقام إطناب، لا إيجاز، وقيل غير ذلك.

(عن لحوم الحمر) بضمتين جمع حمار، ثم علل النهي بقوله (فإنها) أي لحوم الحمر، أو الحمر نفسها (رجس) أي قَذَر، قال السندي: وقد يطلق على الحرام، والنجس، وأمثالهما، والظاهر ها هنا النجس، فإرجاع الضمير على الحمر يؤدي إلى أن لا يطهر جلده بالدباغ أيضا، والله أعلم اهـ.

قال الجامع: ويدل على أن الرجس ها هنا النجس، وقوعه عند البيهقي بلفظ "فإنها نجس" وعند مسلمًا "فإنها رجس" أو "نجس" بالشك.

مسانل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث الباب متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا 69 وفي الكبرى 64 بالسند المذكور.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه الشيخان، وأبو داود، والترمذي وابن ماجه، ومالك، وأحمد، والبيهقي، وغيرهم.

المسألة الرابعة: الظاهر من صنيع المصنف أنه يستدل بهذا الحديث على نجاسة سؤر الحمارحيث إنه نص في تحريم لحمها، فيكون ما يتولد منه نجسا والله أعلم.

وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال:

ص: 168

قال العلامة ابن قدامة في المغني: النوع الثاني ما اختلف فيه: وهو سائر سباع البهائم إلا السنور وما دونها في الخلقة، وكذلك جوارح الطير والحمار الأهلي، والبغل، فعن أحمد أن سؤرها نجس إذا لم يجد غيره تيمم وتركه، وروي عن ابن عمر أنه كره سؤر الحمار، وهو قول الحسن، وابن سيرين، والشعبي، والأوزاعي، وحماد، وإسحاق.

وعن أحمد أنه قال في البغل والحمار: إذا لم يجد غير سؤرهما تيمم معه، وهو قول أبي حنيفة والثوري.

ثم قال: والصحيح عندي طهارة البغل والحمار لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركبها، وتركب في زمنه، وفي عصر الصحابة، فلو كان نجسا لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولأنهما لا يمكن التحرز منهما لمقتنيهما فأشبها السنور، وقول النبي:"إنها رجس" أراد أنها محرمة لقوله تعالى في الخمر والميسر، والأنصاب، والأزلام إنها رجس، ويحتمل أنه أراد لحمها الذي كان في قدورهم، فإنه رجس فإن ذبح ما لا يحل أكله لا يطهره. اهـ المغني جـ 1/ ص 48 - 49.

وقد ذكر النووي رحمه الله المسألة في شرح المهذب بأدلتها، وهاك بيانه: قال رحمه الله:

فرع: سؤر الحيوان مهموز، وهو ما بقي في الإناء بعد شربه أو أكله، ومراد الفقهاء بقولهم: سؤر الحيوان طاهر أو نجس، لعابه ورطوبة فمه.

ومذهبنا أن سؤر الهرة طاهر غير مكروه، وكذا سؤر جميع الحيوانات من الخيل، والبغال، والحمير، والسباع، والفار، والحيات وسام أبرص وسائر الحيوان المأكول، وغير المأكول، فسؤر الجميع، وعَرَقه طاهر غير مكروه إلا الكلب والخنزير، وفرع أحدهما.

ص: 169

وحكى صاحب الحاوي مثل مذهبنا، عن عمر بن الخطاب، وعلي، وأبي هريرة، والحسن البصري، وعطاء، والقاسم بن محمَّد.

وكره أبو حنيفة، وابن أبي ليلى سؤر الهرة، وكذا كرهه ابن عمر، وقال ابن المسيب، وابن سيرين: يغسل الإناء من ولوغه مرة، وعن طاوس قال: يغسل سبعا، وقال جمهور العلماء: لا يكره، كقولنا.

وقال أبو حنيفة: الحيوان أربعة أقسام:

أحدها: مأكول: كالبقر والغنم، فسؤره طاهر.

والثاني: سباع الدواب كالأسد والذئب، فهي نجسة.

والثالث: سباع الطير كالبازي والصقر، فهي طاهرة السؤر إلا أنه يكره استعماله، وكذلك الهر.

الرابع: البغل والحمار، مشكوك في سؤرهما لا يقطع بطهارته، ولا بنجاسته، ولا يجوز الوضوء به.

واختلف قوله في سؤر الفرس والبرْذَوْن.

واحتج من منع الطهارة بسؤر السباع بحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون بالفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال:"إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس" قالوا: فهذا يدل على أن لوُرُود السباع تأثيرا في تنجيس الماء، ولأنه حيوان، لَبَنُهُ نجس فكذا

سؤره كالكلب.

واحتج أصحابنا -يعني الشافعية- بحديث أبي قتادة في الهرة "إنها ليست بنجس" وهو صحيح كما سبق بيانه، واحتجوا، أيضا برواية الشافعي عن إبراهيم بن محمَّد، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة،

عن داود بن الحصين، عن أبيه، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أنتوضأ بما

أفضلت الحُمُر؟ قال: "نعم وبما أفضلت السباع" وهذا الحديث

ص: 170

ضعيف؛ لأن الإبراهيمين ضعيفان جدًا عند أهل الحديث، لا يحتج بهما، وإنما ذكرت هذا الحديث وإن كان ضعيفا، لكونه مشهورا في كتب الأصحاب، وربما اعتمده بعضهم، فنبهت عليه، ولم يذكره الشافعي، والمحققون من أصحابنا معتمدين عليه، بل تقوية واعتضادا، واعتمدوا على حديث أبي قتادة، وقد قال البيهقي في حديث الإبراهيمين إذا ضمت أسانيده بعضها إلى بعض أخذت القوة.

ومما احتج به أصحابنا ما رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه "خرج في ركب فيه عمرو بن العاص، حتى وردوا حوضا، فقال عمرو بن العاص: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض لا تخبره، فإنا نَردُ على السباع، وتَردُ علينا".

وموضع الدلالة أن عمر قال: نَردُ على السباع، وترد علينا، ولم يخالفه عمرو ولا غيره من الصحابة رضي الله عنهم، وهذا الأثر إسناده صحيح إلى يحيى بن عبد الرحمن لكنه مرسل منقطع، فإن يحيى وإن

كان ثقة فلم يدرك عمر، بل ولد في خلافة عثمان، هذا هو الصواب، قال يحيى بن معين: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عمر باطل وكذا قاله غير ابن معين إلا أن هذا المرسل له شواهد تقويه، والمرسل عند الشافعي إذا اعتضد احتج به، وهو حجة عند أبي حنيفة مطلقًا، فيحتج به عليهم.

واحتج أصحابنا من القياس بأنه حيوان يجوز بيعه فكان سؤره طاهرًا كالشاة، فإن قال المخالف: لا حجة لكم في هذه الأحاديث لأنها محمولة على ماء كثير. فالجواب: أن الحديث عام فلا يخص إلا بدليل، فإن قالوا: هذا الخبر ورد قبل تحريم لحوم السباع، فالجواب من أوجه:

ص: 171

أحدها: هذا غلط، فلم تكن السباع في وقت حلالا

(1)

وقائل هذا يدعي نسخا والأصل عدمه.

الثاني: هذا فاسد إذ لا يسألون عن سؤره وهو مأكول اللحم، فإنه لا فرق حينئذ بين السباع وغيرها.

الثالث: لو صح هذا وكان لحمها حلالا، ثم حرم بقي السؤر على ما كان من الطهارة حتى يرد دليل تنجيسه.

وأما الجواب عما احتجوا به من الخبر فمن أوجه:

أحدها: أنه تمسك بدليل الخطاب وهم لا يقولون به.

الثاني: أن السؤال كان عن الماء الذي ترده الدواب والسباع فتشرب منه، وتبول فيه غالبا.

الثالث: أن الكلاب كانت من جملة ما يرد، فالتنجيس بسببها، ويدل علي دخول الكلاب في ذلك أوجه:

أحدها: أنه جاء في رواية "الدواب والسباع والكلاب".

الثاني: أنها من جملة السباع.

الثالث: أنها داخلة في الدواب.

وأما قياسهم على الكلب فهو قياس في مقابلة النص فلا يقبل، ولأن الكلب ورد الشرع بتغليظ نجاسته وغسلها سبعا للتنفير منه، وإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب، وليس غيره في معناه، فلا يصح قياسه عليه. اهـ المجموع جـ 1/ ص 173 - 174.

قال الجامع: عندي أن الذي صححه العلامتان ابن قدامة والنووي من طهارة البغل والحمار هو الصحيح؛ لأنهما كانا يركبان في عهده صلى الله عليه وسلم، وبعده، فلو كانا نجسين لبين ذلك، لشدة الحاجة إليه، وكذلك سائر

(1)

هذا الكلام فيه نظر؛ لأن الراجح أن الأصل في الأشياء الإباحة كما تقرر في الأصول.

ص: 172

سباع البهائم للحجج التي ذكرها النووي رحمه الله، والله أعلم.

المسألة الخامسة: دل الحديث على تحريم الحمر الأهلية، قال الحافظ رحمه الله: قال النووي رحمه الله: قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك

خلافا لهم إلا عن ابن عباس، وعند المالكية ثلاث روايات، ثالثها الكراهة.

وأما الحديث الذي أخرجه أبو داود عن غالب بن الحر قال: أصابتنا سنة فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية، وقد أصابتنا سنة، قال:"أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جَوَّال القرية"

يعني الجَلالة، فإسناده ضعيف،، والمتن منكر مخالف للأحاديث الصحيحة فالاعتماد عليها.

وأما الحديث الذي أخرجه الطبراني عن أم نصرالمحاربية أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية، فقال:"أليس ترعى الكلأ وتاكل الشجر؟ قال: نعم، قال: فأصبْ من لحومها" وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مُرَّة قال: سألت .. فذكر نحوه ففي السندين

مقال، ولو ثبتا احتمل أن يكون قبل التحريم، قال الطحاوي: لو تواتر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الحمر الأهلية، لكان النظر يقتضي حلها؛ لأن كل ما حرم من الأهلي أجمع على تحريمه إذا كان وحشيا كالخنزير، وقد أجمع العلماء على حل الحمار الوحشي، فكان النظر

يقتضي حل الحمار الأهلي. قال الحافظ: ما ادعاه من الإجماع مردود، فإن كثيرا من الحيوان الأهلي مختلف في نظيره من الحيوان الوحشي كالهر اهـ فتح جـ 1/ ص 530.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 173

‌56 - باب سُؤْرِ الْحَائِضِ

أي هذا باب ذكرالحديث الدال على حكم سؤر الحائض.

والحائض: وصف خاص بالمرأة، جمعه حُيَّض، كراكع ورُكَّع.

وجاء أيضا حائضة، وجمعه حائضات، مثل قائمة، وقائمات، أفاده في المصباح.

70 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ، فَيَضَعُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاهُ حَيْثُ وَضَعْتُ، وَأَنَا حَائِضٌ، وَكُنْتُ أَشْرَبُ مِنَ الإِنَاءِ، فَيَضَعُ فَاهُ حَيْثُ وَضَعْتُ، وَأَنَا حَائِضٌ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس الصيرفي البصري، ثقة حافظ من [10] تقدم في 4/ 4.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهدي بن حَسَّان الأزدي مولاهم، أبو سعيد البصري، اللؤلؤي الحافظ الإمام العلم، ثقة ثبت -9 - تقدم 42/ 49.

ص: 174

3 -

(سفيان) بن سعيد أبو عبد الله الثوري الكوفي ثقة ثبت حجة من [7] تقدم في 33/ 37.

4 -

(المقدام بن شريح) بكسر الميم وتصغير شريح الكوفي، ثقة من [6] تقدم في 8/ 8.

5 -

(شريح) بن هانئ بن يزيد الحارثي الكوفي أبو المقدام مخضرم ثقة من [2] تقدمت ترجمته في 8/ 8.

6 -

(عائشة) رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، وأنهم ما بين بصريينِ وهما الأولان، وكوفيينَ وهم الباقون، ومدنية وهي عائشة رضي الله عنها، وأن شيخ المصنف، هو أحد مشايخ الأئمة الستة الذين اتفقوا في الرواية عنهم بدون واسطة، وتقدم غير مرة.

وأن فيه الإخبارَ، والتحديثَ، والعنعنةَ.

شرح الحديث

(عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قالت: كنت أتعرق العرق) أي آخذ ما عليه من اللحم بالأسنان، يقال: عَرَقتُ العظمَ، من باب قتل، وتعرَّقته، واعتَرَقْته: إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك، والعَرْق: بفتح فسكون: العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم، وفي (ق) العَرْق: أي بفتح فسكون، وكغُرَاب: العظم أكل لحمه، جمعه ككتاب، وغُرَاب نادر، أو العَرْق: العظم بلحمه، فإذا أكل لحمه

فعُرَاق، أي كغُراب، أو كلاهما لكليهما.

(فيضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاه) أي فمه وهي من الأسماء الستة، التي تعرب بالحروف نيابة عن الحركات، كما قال ابن مالك رحمه الله:

ص: 175

منْ ذَاكَ ذُو إنْ صُحْبَةً أبَانَا

وَالفَمُ حَيثُ الميمُ منْهُ بَانَا

أبٌ أخٌ حَمٌ كَذَاكَ وَهَنُ

والنَّقْصُ في هَذَا الأخير أحْسَنُ

وَفي اب وَتَاليَيْه يَنْدُرُ

وقَصْرُهَا من نَقْصهنَّ أشْهَرُ

وفي المصباح: والفم من الإنسان، والحيوان أصله: فوه بفتحتين، ولهذا يجمع على أفواه، مثل سبب وأسباب، ويثنى على لفظ الواحد، فيقال: فإن وهو من غريب الألفاظ التي لم يطابق مفردها جمعها، وإذا أضيف إلى الياء قيل: فيَّ وفَمي، وإلى غير الياء أعرب بالحروف، فيقال: فوه، وفاه، وفيه، ويقال أيضا: فمه اهـ.

فقوله: "فاه" منصوب بالألف لأنه مفعول به ليضع (حيث وضعتُ) أي في المحل الذي وضعت عليه فمي من الإناء، فحيث ظرف "لوضع" مضاف إلى جملة "وضعت"(وأنا حائض) جملة حالية من فاعل "وضعت".

وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مع عائشة رضي الله عنها إشارةً إلى أن الحائض طاهرة لا تجتنب في المؤاكلة، والمجالسة، وغيرهما، -خلافا لما عليه اليهود من اعتزالهم عنها- وإظهارًا لمودته إياها، وإدخالا للسرور عليها.

(وكنت أشرب) الشراب (من الإناء فيضع فاه حيث وضعت وأنا حائض).

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث الباب: أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 70 وفي الكبرى 62 بالسند المذكور، وفي كتاب الحيض (باب الانتفاع بفعل الحائض) 178، عن محمَّد بن منصور، عن

ص: 176

سفيان، عن مسعر، عن المقدام بن شريح به، وعن محمود بن الربيع، عن وكيع، عن مسعر، وسفيان، عن المقدام به، وفي الباب الذي قبله عن قتيبة، عن يزيد بن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن جده به، وعن أيوب بن محمَّد الوَزَّان، عن عبد الله بن جعفر، عن عبيد الله بن عمر، وعن الأعمش، عن المقدام به، وفي (عشرة النساء) من الكبرى عن محمَّد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن المقدام ابن شريح به.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه مسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب كلاهما عن وكيع، عن مسعر، وسفيان، كلاهما عن المقدام بن شريح به.

وأخرجه أبو دواد في الطهارة عن مسدد، عن عبد الله بن داود، عن مسعر، عن المقدام، به.

وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن بندار، عن غندر، عن شعبة، عن المقدام به

وأخرجه أحمد، والبيهقي.

المسألة الرابعة: يستفاد من الحديث طهارة سؤر الحائض، وجميع أعضائها، من يد، وفم، وغيرهما إلا محل الأذى، وجواز مؤاكلة الحائض ومشاربتها، ومجالستها، وكمال تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته. وأنه ينبغي للزوج أن يلاطف زوجته، ويعمل معها ما يُدخلُ السرور عليها، وسيأتي بقية مباحث الحديث في كتاب الحيض إن شاء الله تعالى.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 177

‌57 - بَابُ وُضُوءِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز وضوء الرجال والنساء جميعا، والوضوء هنا بضم الواو لا غير.

71 -

أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، ح وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّئُونَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَمِيعًا.

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(هارون بن عبد الله) بن مروان البغدادي، أبو موسى الحمَّال ثقة [10] تقدم في 50/ 62.

2 -

(معن) بن عيسى القَزَّاز المدني ثقة ثبت، أثبت أصحاب مالك من كبار [10] تقدم في 50/ 62.

3 -

(مالك) بن أنس العلَم الشهير ثقة حجة [7] تقدم في 7/ 7.

4 -

(الحارث بن مسكين) محمَّد بن يوسف أبو عمرو المصري ثقة فقيه [10] تقدم في 9/ 9.

5 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جُنَادة

ص: 178

العُتَقيُّ أبو عبد الله، المصري الفقيه الحافظ ثقة من كبار [10] تقدم في 19/ 20.

6 -

(نافع) مولى ابن عمر المدني الثقة فقيه [3] تقدم في 12/ 12.

7 -

(ابن عمر) عبد الله رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رواته ثقات أجلاء، وأنهم ما بين بغدادي، وهو هارون، ومصريين، وهما الحارث، وابن القاسم، ومدنيين، وهم البا قون.

ومنها: أنه كتب خلال السند بعد مالك كلمة (ح) إشارة إلى تحويل السند. واختلف فيها، فقيل: مختصرة من صح، وقيل: من الحديث، وقيل: من الحائل، وقيل: من التحويل، وإلى ذلك أشار

السيوطي في الألفية حيث قال:

وكَتَبُوا (ح) عنْدَ تَكْرير سَنَدْ

فقيل: من صَحَّ وقيلَ: ذَا انْفَرَدْ

منَ الحَديث أوْ لتحويل وَرَدْ

أو حَائل ولفْظُهَا قَولْا أسَدْ

يعني أنها تقرأ كما كتبت، فيقول القارئ إذا وصل إليها:(ح) ويستمر في قراءة ما بعدها.

وفائدتها: أن لا يتوهم أن حديث هذا الإسناد ساقط، ولئلا يركب الإسناد الثاني على الإسناد الأول، فيجعلا إسنادا واحدا، قاله ابن الصلاح رحمه الله.

ومنها: أن قوله: والحارث بن مسكين بالرفع عطفا على هارون.

ومنها: أن المصنف ومثله أبو داود التزما غالبا كلما ذكر الحارث أن يقولا قراءة عليه، وأنا أسمع، وسبب ذلك أنه كان بينهما وبين الحارث شيء، فلم يمكنهما من الدخول عليه، فكانا يسمعان قراءةَ مَن يقرأ بحيث لا يراهما الحارث فبينا ذلك في الأداء. كما تقدم البحث عنه في مقدمة هذا الشرح.

ص: 179

شرح الحديث

(عن ابن عمر) رضي الله عنهما أنه (قال: كان الرجال والنساء) قال الحافظ ظاهره التعميم، لكن اللام للجنس، لا للاستغراق، اهـ وهذا الكلام أخذه من كلام الكرماني حيث قال: فإن قلت: تقرر في الأصول أن الجمع المحلى بالألف واللام للاستغراق، فما حكمه هنا.

قلت: قالوا: بعمومه إلا إذا دل الدليل على الخصوص، وها هنا القرينة العادية قوية مخصصة بالبعض. انتهى.

وتعقبه العيني بما حاصله يرجع إلى كلام الكرماني، فلا فائدة لذكره (يتوضئون) التذكير للتغليب (في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال في المصباح: الزمان مدة قابلة للقسمة، ولهذا يطلق على الوقت القليل والكثير، والجمع أزْمنَة، والزمن مقصور منه، والجمع أزمان مثل سبب، وأسباب، وقد يجمع على أزْمُن اهـ. أي في وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(جميعا) أي مجتمعين في آن واحد، فيستفاد منه أنهم كانوا يتناولون الماء في حالة واحدة، وسيأتي تحقيق البحث في المسائل.

مسائل تتعلق بحديث الباب

الأولى: في درجته: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه البخاري.

الثانية: في مواضع ذكره عند المصنف:

أخرجه هنا 71 بالسندين المذكورين، وأخرجه أيضا في كتاب المياه في الباب العاشر منه (باب الرخصة في فضل المرأة) بسند هارون بن عبد الله عن معن، به وكذا في الكبرى 72.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه البخاري في الطهارة عن عبد الله بن يوسف عن مالك به.

ص: 180

وأبو داود في الطهارة عن القعنبي وابن ماجه، عن هشام بن عمار كلهم عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وأخرجه البيهقي، وابن خزيمة، والدارقطني.

المسألة الرابعة: قوله في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يستفاد منه أن الصحابي إذا أضاف الفعل إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم يكون حكمه الرفعَ، وهو الصحيح.

قال في التقريب: قول الصحابي: كنا نقول، أو نفعل كذا، إن لم يضفه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم فهو موقوف، وإن أضافه فالصحيح أنه مرفوع، وقال الإمام أبو بكر الإسماعيلي: موقوف، والصواب الأول، وكذا قوله: كنا لا نرى بأسا بكذا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو وهو فينا، أو بين أظهرنا، أو كانوا يقولون أو يفعلون، أو لا يرون بأسا بكذا في حياته صلى الله عليه وسلم فكله مرفوع اهـ.

قال الجامع: وصحح العراقي، والحافظ ابن حجر في الأول الرفع أيضا، وإلى ذلك كله أشار السيوطي في الألفية حيث قال:

وليُعْطَ حُكْمَ الرَّفْع في الصَّوَابِ

نَحْوُ من السُّنَّة منْ صَحَابِي

كَذَا أُمرْنَا وَكَذا كُنَّا نَرَى

في عَهْده أوْ عَنْ إضَافَة عَرَا

ثَالثُهَا إنْ كَانَ لا يَخْفَى وفِي

تَصْريحه بعلْمه الخُلْفُ نُفيِ اهـ

قال الحافظ في الفتح بعد ذكر القول الصحيح: وحكي عن قوم خلافه لاحتمال أنه لم يطلع عليهم، وهو ضعيف لتوفر دواعي الصحابة على سؤالهم إياه عن الأمور التي تقع لهم، ومنهم، ولو لم يسألوه لم

يقروا على فعل غير الجائز في زمن التشريع فقد استدل أبو سعيد، وجابر على إباحة العزل بكونهم، كانوا يفعلونه والقرآن ينزل، ولو كان منهيا

ص: 181

لنهى عنه القرآن اهـ فتح جـ 1/ ص 358.

المسألة الخامسة: دل قوله جميعا على جواز توضؤ الرجال والنساء من إناء واحد في وقت واحد؛ لأنه صرح في رواية أبي داود وابن ماجه بقوله "من الإناء الواحد" وزاد أبو داود من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر "نُدْلي فيه أيدينا". قال الحافظ: وفيه دليل على أن الاغتراف من الماء القليل لا يصيره مستعملا لأن أوانيهم كانت صغارا، كما صرح به الشافعي في الأم في عدة مواضع، وفيه دليل على طهارة الذمية، واستعمال فضل طهورها وسؤرها لجواز تزوجهن، وعدم التفرقة في الحديث بين المسلمة وغيرها.

قال: قوله (جميعا) ظاهره أنهم كانوا يتناولون الماء في حالة واحده، وحكى ابن التين عن قوم أن معناه أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤن جميعا في موضع واحد، هؤلاء على حدة، وهؤلاء على حدة والزيادة المتقدمة في قوله "من إناء واحد" ترد عليه، وكأن هذا القائل استبعد اجتماع الرجال والنساء الأجانب، وقد أجاب عنه ابن التين بما حكاه عن سحنون: أن معناه كان الرجال يتوضؤون، ويذهبون، ثم تأتي النساء فيتوضأن وهو خلاف الظاهر من قوله "جميعا"، قال أهل اللغة: الجميع ضد المفترق، وقد وقع مصرحا بوحدة الإناء في صحيح ابن خزيمة في هذا الحديث من طريق معتمر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه أبصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يتطهرون، والنساء معهم من إناء واحد كلهم يتطهرون منه، والأولى في الجواب أن يقال: لا مانع من الاجتماع قبل نزول الحجاب، وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارم.

ونقل الطحاوي، ثم القرطبي، والنووي الاتفاق على جواز اغتسال الرجل والمرأة من الإناء الواحد، وفيه نظر، لما حكاه ابن النذر عن أبي

ص: 182

هريرة أنه كان ينهى عنه، وكذا حكاه ابن عبد البر عن قوم، وهذا الحديث حجة عليهم.

ونقل النووي أيضا: الاتفاق علي جواز وضوء المرأة بفضل الرجل دون العكس، وفيه نظر أيضا فقد أثبت الخلاف فيه الطحاوي، وثبت عن ابن عمر والشعبي، والأوزاعي المنع لكن مقيدا بما إذا كانت حائضا، وأما عكسه فصح عن عبد الله بن سَرْجس الصحابي، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري أنهم منعوا من التطهير بفضل المرأة، وبه قال أحمد، وإسحاق لكن قيداه بما إذا خَلَت به؛ لأن أحاديث الباب ظاهرة في الجواز إذا اجتمعا، ونقل الميموني عن أحمد أن الأحاديث الواردة في منع التطهير بفضل المرأة، وفي جواز ذلك مضطربة، وقال: لكن صح عن عدة من الصحابة المنع، فيما إذا خلت به، وعورض بصحة الجواز عن جماعة من الصحابة منهم ابن عباس والله أعلم.

وأشهر الأحاديث الواردة في ذلك من الجهتين حديث الحكَم بن عمرو الغفاري في المنع وحديث ميمونة في الجواز.

أما حديث الحكم بن عمرو: فأخرجه أصحاب السنن، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، وأغرب النووي فقال: اتفق الحفاظ على تضعيفه.

وأما حديث ميمونة: فأخرجه مسلم، لكن أعله قوم لتردد وقع في رواية عمرو بن دينار حيث قال: علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني .. فذكر الحديث، وقد ورد من طريق أخرى بلا تردد لكن راويها غير ضابط، وقد خولف.

والمحفوظ ما أخرجه الشيخان بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وميمونه كانا يغتسلان من إناء واحد" وفي المنع أيضا ما أخرجه أبو داود، والنسائي

ص: 183

من طريق حميد بن عبد الرحمن الحميري قال: لقيت رجلا صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعا" رجاله ثقات، ولم أقف لمن أعله على حجة قوية، ودعوى البيهقي أنه في معني المرسل مردودة؛ لأن إبهام الصحابي لا يضر، وقد صرح التابعي بأنه لقيه، ودعوى ابن حزم أن داود راويه عن حميد بن عبد الرحمن هو ابن يزيد الأودي وهو ضعيف مردودة، فإنه ابن عبد الله الأودي، وهو ثقة، قد صرح باسم أبيه أبو داود وغيره.

ومن أحاديث الجواز: ما أخرجه أصحاب السنن والدارقطني، وصححه الترمذي وابن خزيمة، وغيرهما من حديث ابن عباس عن ميمونة قالت:"أجنبت فاغتسلت من جَفْنَة ففضلت فيها فضلة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل منه فقلت له، فقال: الماء ليس عليه جنابة واغتسل منه" لفظ الدارقطني، وقد أعله قوم بسماك بن حرب راويه عن عكرمة؛ لأنه كان يقبل التلقين، لكن قد رواه عنه شعبة، وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم، وقول أحمد: إن الأحاديث من الطريقين مضطربة، إنما يصار إليه عند تعذر الجمع، وهو ممكن بأن تحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء والجواز على ما بقي من الماء، وذلك جمع الخطابي، أو يحمل النهي على التنزيه جمعا بين الأدلة، والله أعلم اهـ فتح جـ 1/ ص 359 - 360.

قال الجامع: الجمع الأول غير واضح لأنه قد سبق لنا أن الماء المستعمل طاهر مطهر على الأصح، بل الثاني هو الواضح الأولى والله أعلم.

وسنعود لتحقيق المسألة في كتاب الغسل، إن شاء الله تعالى.

ص: 184

‌58 - باب فَضْلِ الْجُنُبِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حكم ما فضل من الجنب من الماء في الإناء، والفضل بمعنى الباقي: يقال: فَضَل فضلا من باب قتل: بقي، وفيه لغة من باب تَعِبَ، وفيه أيضا فضل بالكسر يَفضُلُ بالضم، ولكن ليست هذه بالأصل، ولكنها على تداخل اللغتين، ونظيره في السالم نَعم يَنعُمُ ونَكلَ يَنكُلُ، وفي المعتل دِمت تَدُوم، ومتَّ تَمُوتُ. أفاده في المصباح.

والجنب: يطلق على الذكر، والأنثى، والمفرد، والتثنية، والجمع، وربما طابق على قلة، فيقال: أجناب وجُنُبُون ونساء جُنُبَات، والفعل جَنُب وزان قرب، وأجنب أيضا أفاده في المصباح.

وأراد المصنف رحمه الله: بفضل الجنب ما يبقى في الإناء بعد الاغتراف منه فهو طاهر، يجوز استعماله، له ولغيره؛ لأن الحديث يدل على أن عائشة كانت تغتسل مع النبي صلى الله عليه وسلم يغترفان من الإناء الواحد، تارة تسبق هي، وتارة يسبق هو، كما هو في بعض الروايات الآتية في كتاب الغسل: قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، يبادرني، وأبادره، حتى يقول: دعي لي، وأقول أنا: دع لي".

فدل الحديث على أن ما بقى من الماء طاهر سواء كان خلال الاغتسال، أو بعده، وأراد بذلك أن النهي الوارد عن ذلك محمول على التنزيه، كما يرشد إليه قوله في كتاب الغسل بعد ذكر باب النهي عن الاغتسال بفضل الجنب "باب الرخصة في ذلك".

والفرق بين الباب المتقدم، وبين هذا الباب، أن الباب المتقدم بَيَّن استعمال الجنسين، في وقت واحد مغترفتين جميعا، وهذا الباب بين استعمالهما متعاقبين.

ص: 185

72 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الإِنَاءِ الْوَاحِدِ.

رجال الإسناد: خمسه

1 -

(قتيبة بن سعيد) أبو رجاء البغلاني ثقة ثبت [10] تقدم في 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث، إمام أهل مصر ثقة حجة مشهور من [7] تقدم في 31/ 35.

3 -

(ابن شهاب) محمَّد بن مسلم الزهري المدني العلم الثقة الحجة المشهور من [4] تقدم في 1/ 1.

4 -

(عروة) بن الزبير بن العوام المدني أحد الفقهاء السبعة ثقة من [3] تقدم في 40/ 44.

5 -

(عائشة) رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته، ومنها أن رواته كلهم ثقات أجلاء، ومنها أنه ما بين بغلاني، وهو الأول، ومصري، وهو الثاني، ومدنيين، وهم الباقون

ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي.

ومنها: أن فيه من هو من الفقهاء السبعة، وهو عروة وتقدم غير مرة.

ص: 186

ومنها: أن صحابيته من المكثرين السبعة روت [2210].

ومنها: أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها (أنها كانت تغتسل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإناء الواحد) أي من الإناء الواحد، "ففي" بمعنى "من" كما صرح بهذا في الروايات الآتية في الغسل، وفي رواية البخاري "من إناء واحد من قدح يقال له الفرق".

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث الباب متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف، أخرجه المصنف هنا [72] وفي الكبرى 51/ 73 بالسند المذكور فقط.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه مسلم في الطهارة عن قتيبة، ومحمد بن رمح، كلاهما عن ليث به، وأخرجه ابن ماجه فيه عن محمد ابن رمح به.

المسألة الرابعة: يستفاد من الحديث جواز استعمال ما بقي من الماء بعد استعمال الجنب، سواء كان رجلا أو امرأة، واستدل به الداودي على جواز نظر الرجل إلى عورة امرأته وعكسه، ويؤيده ما رواه ابن حبان من طريق سليمان بن موسى أنه سئل عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته؟ فقال: سألت عطاء فقال: سألت عائشة فذكرت هذا الحديث بمعناه، وهو نص في المسألة. والله أعلم قاله الحافظ في الفتح جـ 1/ ص 474.

المسألة الخامسة: أنه وقع في رواية البخاري تفسير الإناء المذكور في هذا الحديث حيث قال: "من قَدَح يقال له الفَرَق" قال الحافظ:

ص: 187

ولمالك: "هو الفَرَق" وزاد في روايته "من الجنابة" أي بسبب الجنابة، ولأبي داود الطيالسي عن ابن أبي ذئب "وذلك القدح يومئذ يدعى الفرق" قال ابن التين الفَرْق بتسكين الراء، ورويناه بفتحها، وجوز بعضهم الأمرين، وقال القتيبي وغيره هو بالفتح، وقال النووي: الفتح أفصح وأشهر، وزعم الباجي أنه الصواب قال: وليس كما قال، بل هما لغتان.

قال الحافظ: لعل مستند الباجي ما حكاه الأزهري عن ثعلب وغيره، الفرق بالفتح، والمحدثون يسكنونه، وكلام العرب بالفتح انتهى، وقد حكى الإسكان أبو زيد، وابن دريد، وغيرهما من أهل اللغة، والذي في روايتنا هو بالفتح، والله أعلم.

وحكى ابن الأثير أن الفَرَق بالفتح ستة عشر رطلا، وبالإسكان مائة وعشرون رطلا، وهو غريب.

وأما مقداره: فعند مسلم في آخر رواية ابن عيينة عن الزهري في هذا الحديث قال سفيان -يعني ابن عيينة-: الفرق ثلاثة آصع، قال النووي: وكذا قال الجماهير، وقيل الفرق صاعان، لكن نقل أبو عبيد الاتفاق على أن الفرق ثلاثة آصع، وعلى أن الفرق ستة عشر رطلا، ولعله يريد اتفاق أهل اللغة، وإلا فقد قال بعض الفقهاء من الحنفية وغيرهم: أن الصالح ثمانية أرطال، وتمسكوا بما روي عن مجاهد في الحديث الآتي عن عائشة، أنه حزر الإناء ثمانية أرطال، والصحيح الأول. فإن الحزر لا يعارض به التحديد، وأيضا فلم يصرح مجاهد بأن الإناء المذكور صاع، فيحمل على اختلاف الأواني مع تقاربها، ويؤيد كون الفرق ثلاثة آصع ما رواه ابن حبان من طريق عطاء عن عائشة بلفظ "قدر ستة أقساط" والقسط بكسر الكاف وهو باتفاق أهل اللغة نصف

ص: 188

صاع والاختلاف بينهم أن الفرق ستة عشر رطلا، فصح أن الصاع خمسة أرطال وثلث، وتوسط بعض الشافعية فقال: الصالح الذي لماء الغسل ثمانية أرطال، والذي لزكاة الفطر وغيرها خمسة أرطال وثلث، وهو ضعيف اهـ فتح جـ 1/ ص 433 - 434.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 189

‌59 - باب الْقَدْرِ الَّذِي يَكْتَفِي بِهِ الرَّجُلُ مِنَ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على القدر الذي يجتزئ الرجل به من الماء لأجل وضوئه.

وقوله: "الرجل" ليس قيدا، بل المرأة كذلك.

73 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَبْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِمَكُّوكٍ، وَيَغْتَسِلُ بِخَمْسَةِ مَكَاكِيَّ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(عمرو بن علي) بن بَحْر بن كُنَيز الفلاس الصيرفي، أبو حفص البصري ثقة ثبت حافظ من [10] تقدم 4/ 4.

2 -

(يحيي) بن سعيد القطان أبو سعيد الأحول البصري ثقة حجة ثبت [9] تقدم في 4/ 4.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الواسطي البصري الثقة الحجة [7] تقدم في 24/ 26.

4 -

(عبد الله بن عبد الله بن جبر) قال الحافظ في تهذيب التهذيب: عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عَتيك، وقيل: ابن جَبْر بن عتيك

ص: 190

الأنصاري المدني، وقيل: إنهما اثنان، روى عن ابن عمر، وأنس، وجده لأمه عتيك بن الحارث، وعن أبيه عبد الله بن جبر، إن كان محفوظا. وعنه مالك، وشعبة، ومسعر، وأبو العُمَيس المسعودي، وعبد الله بن عيسى بن أبي ليلى، وغيرهم، قال ابن معين: ثقة، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه؟ فقال: ثقة، فقلت له: عبد الله أحب إليك أو موسى الجُهَني؟ قال: عبد الله أحب إلى. وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو بكر بن منجويه: أهل العراق يقولون: جبر، ولا يصح، إنما هو جابر، وطول الكلام الحافظ فيه، فانظره تت ج 5/ ص 282 - 284، أخرج له الجماعة. وفي "ت" ثقة من الرابعة.

5 -

(أنس) بن مالك بن النضر أبو حمزة الأنصاري، رضي الله عنه تقدم في 6/ 6.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وكلهم بصريون، إلا ابن جبر فإنه مدني، وأن شيخ المصنف أحد المشايخ الذين اتفق أصحاب الأصول الستة بالرواية عنهم بلا واسطة، وتقدم غير مرة.

شرح الحديث

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بمكُّوك) أي بماء في إناء يسمى بمكوك وهو بفتح الميم وتشديد الكاف، قال في النهاية: أراد به المد، وقيل: الصاع، والأول أشبه لأنه جاء في حديث آخر مفسرًا بالمد، وأصله اسم مكيال، ويختلف مقداره باختلاف اصطلاح الناس في البلاد. اهـ زهر.

وفي المصباح: والمَكُّوك: مكيال، وهو مذكر، وهو ثلاث كَيْلجَات، والكَيْلَجَة مَنًا وسبعة أثمان منًا. اهـ

ص: 191

(ويغتسل بخمس مكاكي) جمع مَكُّوك بإبدال الياء من الكاف الأخيرة وإدغامها في ياء الجمع.

وفي "ق": والمَكُّوك كتَنُّور، طاسٌ يُشْرَبُ به، ومكيال يسع صاعا ونصفا، أو نصف رطل إلى ثمان أواقي، أو نصف الوَيْبَة، والوَيْبَة اثنان وعشرون، أو أوبع وعشرون مُدًا بمد النبي صلى الله عليه وسلم، أو ثلاث كَيْلجَات، والكَيْلَجَةُ: منا وسبعة أثمان منا، والمن رطلان، والرطل اثنتا عشرة أوقية، والأوقية: إستار وثلثا إستار، والإستار: أربعة مثاقيل ونصف، والمثقال: درهم وثلاثة أسباع درهم، والدرهم ستة دَوَانق، والدَّانقُ قيراطان، والقيراط طَسُّوجَان، والطَّسُّوج حَبَّتَان، والحَبَّة: سدس درهم، وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءا من درهم اهـ. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

74 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ يُحَدِّثُ عَنْ جَدَّتِي -وَهِيَ أُمُّ عُمَارَةَ بِنْتُ كَعْبٍ-: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَأُتِيَ بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ قَدْرَ ثُلُثَيِ الْمُدِّ. قَالَ شُعْبَةُ: فَأَحْفَظُ أَنَّهُ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ وَجَعَلَ يَدْلُكُهُمَا، وَيَمْسَحُ أُذُنَيْهِ بَاطِنَهُمَا وَلَا أَحْفَظُ أَنَّهُ مَسَحَ ظَاهِرَهُمَا.

ص: 192

رجال الإسناد: ستة

1 -

(محمَّد بن بشار) أبو بكر بن بُندار البصري ثقة حافظ [10] تقدم في 24/ 27.

2 -

(محمَّد) بن جعفر غندر البصري ثقة حافظ [9] تقدم في 21/ 22.

3 -

(شعبة) بن الحجاج أبو بسطام العيشي البصري الحجة المثبت [7] تقدم في 24/ 26.

4 -

(حبيب) بن زيد بن خَلاد بفتح الخاء وتشديد اللام المدني، روى عن عباد بن تميم، وأنيسة بنت زيد، وليلى مولاة جدته أم عمارة، وعنه شعبة، وابن إسحاق، وشريك النَّخَعي، وثقه النسائي، وابن

معين، وقال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبان في الثقات رَوَى له أبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجه. وفي "ت" ثقة من السابعة.

5 -

(عباد بن تميم) بن غَزيَّة بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي ابن عمرو بن عطية الأنصاري، وقيل: تميم بن زيد بن عاصم المازني المدني، روئ عن أبي سعيد الخدري، وأبي قتادة، وعبد الله بن زيد، وغيرهم وعنه أبو بكر بن حزم، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والزهري، وحبيب بن زيد، ومحمود بن لبيد، قال عباد: كنت يوم الخندق ابن خمس سنين، فأذكر أشياء، وأعيها وكنا مع النساء في الآطام

(1)

، وثقه النسائي وذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: تابعي ثقة روى له الجماعة. وفي "ت" ثقة من الثالثة.

6 -

(أم عمارة) بضم العين المهملة بتخفيف الميم نَسيبة بفتح النون،

(1)

على هذا يكون صحابيا، لكن هذه الحكاية رواها الواقدي عن أبي بكر بن أبي سبرة، عن موسى بن عقبة، عنه، كما في تت ج 5/ ص 9، فلا تصح لحال الواقدي. فتنبه.

ص: 193

وكسر السين على الأشهر، وقيل: لُسَينة باللام المضمومة والنون (بنت كعب) بن عمرو بن عوف الأنصارية النجارية، شهدت أحدا مع زوجها زيد بن عاصم، وبيعة الرضوان، ثم شهدت قتال مسيلمة باليمامة، وجُرحت يومئذ اثني عشر جرحا، وقطعت يدها، وخَلَف عليها بعد زيد ابن عاصم، غَزيَّة بن عمرو، فولدت له تميما، وخولة، وشهدت العقبة، وبايعت ليلتئذ، ثم شهدت أحدا والحديبية، وخيبر، والفتح، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وروى عنها الحارث بن عبد الله بن كعب، وعكرمة، وليلى، وأم سعيد بنت سعد بن الربيع، روى لها أبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجه.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وهم ما بين بصريين، وهم الثلاثة الأولون، ومدنيين، وهم الباقون، وأن شيخه هو أحد مشايخ الستة، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن أم عمارة) نَسيبة (بنت كعب) الأنصارية (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ) أي أراد الوضوء (فأتي بماء في إناء قدر ثلثي المد) وفي رواية أبي داود "فأتي بإناء فيه ماء قدر ثلثي المد" بجر قدر صفة الإناء، وجوز في المنهل نصبه على الحالية، أي حال كونه مقدرا بهذا المقدار، ورفعه خبرًا لمحذوف أي هو قدر ثلثي المد.

والمعنى أن الإناء الذي فيه ذلك الماء قدر ثلثي المد، فثلثا المد أقل ما روي من وجه يُعَوَّل عليه أنه توضأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والمد بالضم: قيل وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز، فهو ربع صاع لأن الصاع خمسة أرطال وثلث، والمد رطلان عند أهل العراق، والجمع

ص: 194

أمداد، ومداد بالكسر. اهـ المصباح.

قيل: سمي بذلك لأنه يملأ كفي الإنسان إذا مَدَّهُمَا. اهـ سندي.

(قال شعبة) بن الحجاج (فأحفظ أنه) صلى الله عليه وسلم (غسل ذراعيه، وجعل يدلكهما) من باب قتل: أي يَمْرُسُهُما، بمعنى يبالغ في غسلهما، يقال: مَرَسْتُ التمر مَرْسًا من باب قتل: دلكته بالماء، حتى يتحلل أجزاؤه قاله في المصباح.

(ويمسح) عليه الصلاة والسلام (أذنيه باطنهما) بالنصب بدل من اشتمال أذنيه، قال شعبة:(ولا أحفظ أنه مسح ظاهرهما) أي الأذنين.

والمعنى أن شعبة حفظ من حديث حبيب هذا غسل الذراعين، ودَلْكَهما، ومَسْحَ باطن الأذنين، فقط، ولا يحفظ مسح ظاهرهما، وإن كان مرويا من طرق أخرى، كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى.

مسائل تتعلق بحديثي الباب

المسألة الأولى: في درجتهما: حديثا الباب صحيحان.

أما الأول: فقال النووي: حديث أنس صحيح، إلا أن فيه شريك ابن عبد الله القاضي، وقد ضعفه الأكثرون، وقد ذكر أبو داود أن شعبة وسفيان روياه أيضا، فلعله اعتضد عنده فصار حسنا فسكت عليه اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية المصنف عن طريق شعبة، فهي صحيحة، لا كلام فيها.

وأما الثاني: فصححه أبو زرعة، وقال النووي: حديث أم عمارة حسن، وأخرجه ابن خزيمة، وصححه، عن أبي كريب محمَّد بن العلاء، وابن حبان في صحيحه من طريق أبي كريب، قاله في المنهل. ج 1/ ص 309.

ص: 195

المسألة الثانية: في بيان مواضعهما عند المصنف:

أخرج حديث أنس هنا [73] وفي الكبرى [74] بالسند المذكور، وفي [229] عن سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن شعبة به، وأما حديث أم عمارة فأخرجه هنا [74] وفي الكبرى [76] بالسند المذكور.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجهما معه:

أما حديث أنس فأخرجه البخاري في الطهارة عن أبي نعيم، ومسلم فيه عن قتيبة كلاهما عن مسعر، وعن عبيد الله معاذ عن أبيه، وعن أبي موسى محمَّد بن المثنى، عن ابن مهدي كلاهما عن شعبة، كلاهما عن ابن جبربه، وأخرجه أبو داود في الطهارة عن محمَّد بن الصباح، عن شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن جبر، نحوه، قال أبو داود: ورواه يحيى بن آدم، عن شريك، وقال ابن جبر بن عتيك، ورواه شعبة قال: حدثنا عبد الله بن عبد الله بن جبر، ورواه سفيان عن عبد الله بن عيسى، قال أخبرني جبر بن عبد الله.

وأخرجه الترمذي في أواخر كتاب الصلاة عن هناد، عن وكيع، عن شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن ابن جبر، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يجزئ في الوضوء رطلان من ماء" ولم يسم ابن جبر، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك بهذا اللفظ

وأما حديث أم عمارة: فأخرجه أبو داود في الطهارة عن محمَّد بن بشار، عن محمَّد بن جعفر، عن شعبة، عن حبيب الأنصاري، قال: سمعت عباد بن تميم، عن جدتي، أم عمارة رضي الله عنهما.

وأخرجه البيهقي، وابن خزيمة، وابن حبان.

ص: 196

وأخرج الحاكم في مستدركه من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن شعبة، عن حبيب بن زيد، عن عباد بن تميم، عن عمه عبد الله بن زيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بثلثي مد من ماء، فتوضأ فجعل يدلك ذراعيه" قال الحاكم: هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ورواه أحمد أيضا من حديث عبد الله بن زيد بلفظ "توضأ بنحو ثلثي المد".

وأما ما رواه الطبراني في الكبير، والبيهقي، من حديث أبي أمامة من "أنه صلى الله عليه وسلم توضأ بنصف مد" ففي إسناده الصلت بن دينار وهو متروك.

وحديث "أنه صلى الله عليه وسلم توضأ بثلث المد" قال الحافظ في التلخيص: لم أجده، وفي سبل السلام: لا أصل له. اهـ المنهل ج 1/ ص 309.

المسألة الرابعة: يستفاد من الحديثين أن القدر الذي يكفي في الوضوء والغسل يختلف باختلاف الأحوال، والأشخاص فلا يحدد بمقدار معين، فقد كان صلى الله عليه وسلم له تارات، فتارة يقلل، وتارة يكثر، فقد وردت روايات مختلفة للمصنف وغيره.

قال العلامة بدر الدين العيني رحمه الله:

ثم اعلم أن الروايات مختلفة في هذا الباب، ففي رواية أبي داود من حديث عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد" ومن حديث جابر كذلك، ومن حديث أم عمار "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فأتي بإناء فيه ماء قدر ثلثي المد" وفي روايته عن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل بالصاع" وفي رواية ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحهما، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بثلثي مد من ماء فتوضأ، فجعل يدلك ذراعيه" وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم

ص: 197

يخرجاه، وفي رواية مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها "كانت تغتسل هي، والنبي صلى الله عليه وسلم في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد" وفي رواية "من إناء واحد تختلف أيدينا فيه" وفي رواية "فدعت بإناء قدر الصاع، فاغتسلت فيه، وفي أخرى: "كانت تغتسل بخمسة مكاكيك وتوضأ بمكوك" وفي أخرى "كانت تغسله صلى الله عليه وسلم بالصاع وتوضئه بالمد" وفي أخرى "يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد" وفي رواية البخاري "بنحو صاع" وفي لفظ "من قدح يقال له الفرق" وعند النسائي في كتاب التمييز "نحو ثمانية أرطال" وفي مسند أحمد بن منيع "حرزته ثمانية أو تسعة أو عشرة أرطال" وعند ابن ماجه بسند ضعيف عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجزئ من الوضو مد، ومن الغسل صاع" وكذا رواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس، وعند أبي نعيم في معرفة الصحابة من حديث أم سعد بنت زيد بن ثابت ترفعه "الوضوء مد، والغسل صاع" وقال الشافعي، وأحمد: ليس معنى االحديث على التوقيت أنه لا يجوز أكثر منه، ولا أقل، بل هو قدر ما يكفي.

وقال النووي: قال الشافعي، وغيره من العلماء: الجمع بين هذه الروايات أنها كانت اغتسالات في أحوال وجد فيها أكثر ما استعمله، وأقله، فدل على أنه لا حد في قدر ماء الطهارة يجب استيفاؤه. اهـ عمدة القاري ج 2/ ص 40.

قال الجامع: الحاصل أن الماء الذي يتوضأ به، أو يغتسل به لا حد له يُلتزَم، ما لم يبلغ في الزيادة حد الإسراف، فيمنع، أو في النقص حدا لا يسمى غسلا، فيكونَ باطلا، وقد جعل الشيخ عز الدين بن عبد السلام للمتوضئ والمغتسل ثلاث أحوال:

ص: 198

أحدها: أن يكون معتدل الخلق، كاعتدال خلقه صلى الله عليه وسلم، فيقتدي به في اجتناب النقص عن المد والصاع.

الثاني: أن يكون ضئيلا نَحيف الخلق بحيث لا يعادل جسده جسده صلى الله عليه وسلم فيستحب له أن يستعمل من الماء ما تكون نسبته إلى جسده كنسبة المد والصاع إلى جسده صلى الله عليه وسلم.

الثالث: أن يكون متفاحش الخلق طولا، وعرضا، وعظم البطن وثخانة الأعضاء فيستحب أن لا ينقص عن مقدار تكون النسبة إلى بدنه كنسبة المد والصاع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ أفاده في عمدة القاري ج 2/ ص 40.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 199

‌60 - باب النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على وجوب النية في الوضوء.

والنية: اسم من نوى الشيء إذا قصده.

قال في المصباح: نَوَيتُهُ أنويه: قصدته، والاسم النية، والتخفيف لغة حكاها الأزهري، وكأنه حذفت اللام، وعوض عنها الهاء على اللغة، كما قيل في ثُبَة وظُبَة.

وفي المُحْكَم: النية مثقلة، والتخفيف عن اللحياني وحده، وهو على الحذف، ثم خصصت النية في غالب الاستعمال بعزم القلب على أمر من الأمور، والنية الأمر، والوجه الذي تنويه اهـ المصباح.

75 -

أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ حَمَّادٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، (ح) وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ

ص: 200

هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".

رجال الأسانيد [11] شخصا

1 -

(يحيي بن حبيب بن عربي) الحارثي، أبو زكريا البصري، عن يزيد بن زريع، والمعتمر بن سليمان، وطائفة، وعنه مسلم، والأربعة، قال النسائي: ثقة مأمون، قال السراج: مات سنة 248 وقيل بعدها،

وفي "ت" ثقة من العاشرة، أخرج عنه مسلم والأربعة.

2 -

(حماد) بن زيد بن درهم الأزدي، أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت [8] تقدم في 3/ 3.

3 -

(الحارث بن مسكين) بن محمَّد بن يوسف، أبو عمرو المصري ثقة [10] تقدم في 9/ 9.

4 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن بن القاسم بن خالد، أبو عبد الله المصري ثقة فقيه من كبار [10] تقدم في 19/ 20.

5 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة حجة ثبت فقيه [7] تقدم في 7/ 7.

6 -

(سليمان بن منصور) الدُّهني بضم المهملة أبو هلال، ابن أبي هلال، البلخي زرغنده (بفتح الزاي والراء بعدها معجمة، ثم نون ساكنة) لقبه، البزار، عن أبي الأحوص، وابن المبارك، وعنه النسائي،

ص: 201

قال ابن حبان: مستقيم الحديث، قيل توفي سنة 240. وفي "ت" لقبه زرغنده بفتح الزاي وسكون الراء بعدها معجمة مفتوحة ثم نون ساكنة، ثقة لا بأس به من العاشرة، وهو من أفراد المصنف.

7 -

(عبد الله بن المبارك) بن واضح، المروزي، الحنظلي، الإمام ثقة حجة [8] تقدم في 32/ 36.

8 -

(يحيي بن سعيد) الأنصاري المدني ثقة ثبت [5] تقدم في 22/ 23.

9 -

(محمَّد بن إبراهيم) بن الحارث بن خالد بن صخر التيمي، المدني، أبو عبد الله، أحد العلماء المشاهير، عن أنس، وجابر، وعائشة في الترمذي، والنسائي، قال في "صه": فما أدري سمع منه

(1)

أم لا، فأرسل عن أسامة، وعنه يزيد بن الهاد، ويحيى بن أبي كثير، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأوزاعي، وابن إسحاق وعدة، قال ابن سعد: كان فقيها محدثا، وقال أحمد: يروي أحاديث منكرة،

وثقه ابن معين، والناس، وتوفي سنة 120، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة له أفراد من الرابعة.

وفي تهذيب التهذيب: روى عن أبي سعيد الخدري، وعمير مولى آبي اللحم، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وقيس بن عمرو الأنصاري، ومحمود بن لبيد، وعائشة، وعلقمة بن وقاص الخ.

ثم قال: قال ابن أبي حاتم:، عن أبيه: لم يسمع من جابر، ولا من أبي سعيد انتهى.

وحديثه عن عائشة عند مالك، والترمذي، وصححه، وعائشة ماتت قبل أبي سعيد، وجابر اهـ.

(1)

هكذا عبارة الخلاصة، وفيها ركاكة ولعل الصواب، فما أدري سمع منها أم لا؟ وأرسل عن أسامة الخ.

ص: 202

10 -

(علقمة بن وقاص) الليثي المدني، عن عمر، وعائشة، وعمرو بن العاص، وعنه ابناه عبد الله وعمرو، ومحمد بن إبراهيم التيمي، وثقه النسائي، مات في خلافة عبد الملك، وقيل إنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة ثبت من الثانية، وأخطأ من قال: إن له صحبة.

11 -

(عمر بن الخطاب) بن نُفَيل بن عبد العُزَّى العدوي، أبو حفص المدني أحد فقهاء الصحابة، وثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأول من سُمِّيَ أميرالمؤمنين، له خمسمائة وتسعة وثلاثون حديثا، اتفقا على عشرة، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر، وعنه أبناؤه: عبد الله، وعاصم، وعبيد الله، وعلقمة بن وقاص، وغيرهم شهد بدرا، والمشاهد إلا تبوك، وولي أمر الأمة بعد أبي بكر رضي الله عنهما، وفتح في أيامه عدة أمصار، أسلم بعد أربعين رجلا.

عن ابن عمر مرفوعا: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" ولما دفن قال ابن مسعود: ذُهِبَ اليومَ بتسعة أعشار العلم، اسُتشهد في آخر سنة 23، ودفن في أول سنة 24، وهو ابن 63 سنة، وصلى عليه صهيب، ودفن في الحجرة النبوية، ومناقبه جمة أخرج له الجماعة.

لطائف الأسانيد

منها: أن الأول والثالث من سداسياته، والثاني من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، وهم ما بين بصريين وهما: يحيى بن حبيب، وشيخه، ومصريين: وهما الحارث وشيخه، وبلخي وهو سليمان، ومر وزي، وهو عبد الله، ومدنيين، وهم الباقون.

ومنها: ما في قوله: "والحارث بن مسكين قراءة عليه، وأنا أسمع"،

ص: 203

وتقدم البحث عنه قريبا.

ومنها: قوله: واللفظ له، يعني أن حمادا، ومالكا، وابن المبارك، رووا هذا الحديث عن يحيى بن سعيد، إلا أن اللفظ المذكور هو لفظ ابن المبارك، وأما لفظ حماد، ومالك، فغير هذا، بل وافقاه في المعنى.

والحاصل أن المصنف روى هذا الحديث هنا عن ثلاثة شيوخ:

أحدها: عن شيخه يحيى بن حبيب، عن حماد.

والثاني: عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك.

والثالث: عن سليمان بن منصور، عن عبد الله بن المبارك، والثلاثة عن يحيى بن سعيد، ثم إن اللفظ الذي ساقه هنا هولفظ ابن المبارك، وأما الآخران فروياه بالمعنى.

وهذا الذي سلكه من نسبة اللفظ لأحدهم هو الأحسن، كما أشار إليه السيوطي في الألفية، حيث قال:

ومَنْ رَوَى مَتْنًا عَنْ أشْيَاخ وَقَدْ

تَوَافَقَا مَعْنًى وَلَفْظٌ ما اتَّحَدْ

مُقْتَصرًا بلَفْظ واحد وَلَمْ

يُبَيّن اخْتصَاصَهُ فَلَمْ يُلَمْ

أوْ قَال قَدْ تَقَاربَا في اللَّفْظ أوْ

وَاتَّحَدا المعَنَى عَلَى خُلْف حَكَوْا

وَإنْ يكُنْ للفظه يُبَيِّنُ

مَعْ قَالَ أو قَالا فَذَاكَ أحْسَنُ

وقد تقدم تمام هذا البحث، وسيأتي أيضًا، وسننبه عليه حيث يمر بنا إن شاء الله تعالى.

ومنها: كتابة "ح" بين الإسنادين وتقدم البحث عنها قريبا.

ومنها: أن إسناد حماد، وعبد الله عاليان، بخلاف إسناد مالك، فإنه نازل بدرجة، فقد وصل المصنف إلى يحيي بن سعيد، بواستطين

ص: 204

فيهما، ويثلاث فيه.

ومنها: أن فيه رواية ثلاثة من التابعين، بعضهم عن بعض، وهم يحيى بن سعيد، ومحمد بن إبراهيم، وعلقمة، وهذا على قول الجمهور، حيث إنهم لم يثبتوا صحبة علقمة، وقيل: إن له صحبة، فعلى هذا ففيه رواية صحابي عن صحابي، والأول أصح.

ومنها: أن فيه الإخبار، والعنعنة، والتحديث، والإنباء، وكلها من صيغ الاتصال في غير المدلس على الصحيح.

فائدة: من ألطف ما وقع في الأسانيد رواية أربعة من الصحابة بعضهم عن بعض، أو خمسة، ولا يوجد أكثر من ذلك، قال السيوطي في ألفيته:

وفي الصِّحَاب أرْبَعٌ في سَنَد

وخَمْسَةٌ وبَعْدَهَا لم يُزدِ

وقد أفرد الحافظ أبو موسى الأصفهاني جزءا لرباعي الصحابة وخماسيهم، ومن الغريب العزيز رواية ستة من التابعين بعضهم عن بعض، وقد أفرده الخطيب البغدادي بجزء جمع اختلاف طرقه، وهو حديث منصور بن المعتمر، عن هلال بن يساف، عن الرَّبيع بن خُثَيْم، عن عمرو بن ميمون الأودي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن امرأة من الأنصار، عن أبي أيوب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في "إن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن".

وقال يعقوب بن أبي شيبة: وهو أطول إسناد روي، قال الخطيب: والأمر كما قال، قال: وقد روي هذا الحديث أيضا من طريق سبعة من التابعين، ثم ساقه من حديث أبي إسحاق الشيباني، عن عمرو بن مرة، عن هلال، عن عمرو، عن الرَّبيع، عن عبد الرحمن، فذكره، قاله البدر العيني في العمدة ج 1/ ص 21 والله أعلم.

ص: 205

شرح الحديث

(عن عمر بن الخطاب) رضي الله تعالى عنه أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال) جمع عمل، مصدر قولك: عَملَ يَعْمَلُ عَمَلًا، والتركيب يدل على فعل يُفْعل،، والفرق بينه وبين الفعل كما قال الصغاني: أن الفعل أعم من العمل؛ لأنَّ الفعل إحداث شيء من العمل وغيره، أفاده العيني، وفي "ق" وشر حه: العمل محركة: المهنة، والفعل، جمعه أعمال، وزعم بعض أئمة اللغة والأصول: أن العمل أخص من الفعل؛ لأنه الفعل بنوع مشقة، قالوا: ولذا لا ينسب إلى الله تعالى، وقال الراغب: العمل كل فعل يصدر من الحيوان بقصده، فهو أخص من الفعل؛ لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بقصد، وقد ينسب إلى الجمادات، والعمل قلما ينسب إلى ذلك، ولم يستعمل في الحيوانات إلا في قولهم الإبل والبقر العوامل، وقال شيخنا: العمل حركة البدن بكله أو بعضه، وربما أطلق على حركة النفس، فهو إحداث أمر، قولا كان أو فعلا بالجارحة، أو القلب، لكن الأسبق للفهم اختصاصه بالجارحة وخصه البعض بما لا يكون قولا، ونوقش بأن تخصيص الفعل به أولى من حيث استعمالهما متقابلين، فيقال: الأقوال، والأفعال، وقيل: القول لا يسمى عملا عُرْفا، ولذا يعطف عليه، فمن حلف لا يعمل، فقال، لم يحنث، وقيل التحقيق: إنه لا يدخل في العمل، والفعل إلا مجازا. اهـ تاج العروس ج 8/ ص 34.

(بالنية) بالإفراد، وسنبين اختلاف ألفاظه في المسائل إن شاء الله تعالى، والنية: مصدر نَوَى ينوي، قال الجوهري: نويت نيَّة ونواة، أي عزمت، وانتويت مثله، وهي بالتشديد على المشهور، وحكي تخفيفها كما تقدم في أول الباب.

ص: 206

واختلفوا في تفسيرها: فقيل: هو القصد إلى الفعل، وقال الخطابى: هو قصدك الشيء بقلبك وتحري الطلب منك له، وقال التيمي: هنا وجهة القلب، وقال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع، أو دفع ضر، حالا أو مآلا، وقال النووي: النية القصد، وهي عزيمة القلب، وقال الكرماني: ليس هو عزيمة القلب، لما قال المتكلمون: القصد إلى الفعل، هو ما نجده من أنفسنا حال الإيجاد، والعزم قد يتقدم عليه، ويقبل الشدة والضعف بخلاف القصد، ففرقوا بينهما من جهتين فلا يصح تفسيره به.

قال البدر العيني: قلت: العزم هو إرادة الفعل، والقطع عليه، والمراد من النية هنا هو هذا المعنى، فلذلك فسر النووي القصد الذي هو النية بالعزم، فافهم.

على أن الحافظ أبا الحسن علي بن المفضل المقدسي قد جعل في أربعينه النية، والإرادة، والقصد والعزم بمعنى، ثم قال: وكذا أزمعت على الشيء وعمدت إليه، وتطلق الإرادة على الله تعالى ولا يطلق عليه غيرها. اهـ عمدة جـ1/ ص 26.

قال في الفتح: قال الكرماني: هذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين، واختلف في وجه إفادته، فقيل: لأن "الأعمال" جمع مُحَلى بالألف واللام، مفيد للاستغراق، وهو مستلزم للقصر؛ لأن معناه كل عمل بنية، فلا عمل إلا بنية، وقيل: لأن "إنما" للحصر، وهل إفادتها له بالمنطوق، أو بالمفهوم، أو تفيد الحصر بالوضع، أو العرف، أو تفيده بالحقيقة أو المجاز؟ ومقتضى كلام الإمام، وأتباعه أنها تفيده بالمنطوق وضعا حقيقيا، بل نقله شيخنا شيخ الإسلام عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة، إلا اليسير كالآمدي، وعلى العكس من ذلك أهل

ص: 207

العربية، واحتج بعضهم بأنها لو كانت للحصر لما حسن، إنما قام زيد، في جواب هل قام عمرو؟ وأجيب بأنه يصح أن يقع في مثل هذا الجواب ما قام إلا زيد، وهي للحصر اتفاقا، وقيل: لو كانت للحصر لاستوى إنما قام زيد، مع ما قام إلا زيد، ولا تردد في أن الثاني أقوى من الأول، وأجيب بأنه لا يلزم من هذه القوة نفي الحصر، فقد يكون أحد اللفظين أقوى من الآخر مع اشتراكهما في أصل الوضع كسوف والسين، وقد وقع استعمال "إنما" موضع استعمال النفي والاستثناء كقوله تعالى:{إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: آية 16] وكقوله: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات: آية 39]، وقوله:{أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: آية 92]، وقوله:{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [المائدة: آية 99] ومن شواهده قول الأعشى:

ولسْتَ بالأكْثَر منهم حَصىً

وَإنَّمَا العزَّة للكَاثرِ

يعني: ما ثبتت العزة إلا لمن كان أكثر حصى. اهـ فتح جـ 1/ ص 18 - 19. وسيأتي مزيد بسط في هذا البحث في المسائل إن شاء الله تعالى.

والمراد بالأعمال: الأعمال الصادرة عن المكلفين، وهل تخرج أعمال الكفار؟ الظاهر الإخراج؛ لأن المراد أعمال العبادة، وهي لا تصح من الكافر، وإن كان مخاطبا بها معاقبا على تركها، ولا يرد

العتق، والصدقة؛ لأنهما بدليل آخر.

وقوله (بالنية) الباء للمصاحبة، ويحتمل أن تكون للسببية بمعنى أنها مقومة للعمل، فكأنها سبب في إيجاده، وعلى الأول فهي من نفس العمل، فلا يشترط أن لا تتخلف عن أوله. قاله في الفتح، وسيأتي تمام البحث في المسائل إن شاء الله تعالى.

(وإنما لامريء) قال السندي رحمه الله: وقوله "لامرئ" بمعنى لكل

ص: 208

امرئ، كما جاء في الروايات، وذلك لأن "إنما" يتضمن الأثبات في أول الكلام والنفي في آخر جزء منه فالنكرة صارت في حيز النفي فتفيد {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: آية 14] ولا يخفى أنه يظهر على هذا المعنى تفريع "فمن كانت هجرته" على ما قبله أشدَّ ظهور. اهـ.

وفيه لغتان: امرء كزبْرج، ومَرْء كفَلْس، ولا جمع له من لفظه، وهو من الغرائب؛ لأن عين فعله تابع للامه في الحركات الثلاث دائما، وكذا في مؤنثه أيضا لغتان: امرأة، ومرأة، وفي هذا الحديث استعمل اللغة الأولى منهما من كلا النوعين إذْ قال:"لكل امرئ""وإلى امرأة" قاله العيني. وقال العراقي: المعروف في الرواية كسر الراء من قوله "لكل امرئ" وعلى هذا فإعرابه بحرفين من آخره الراء والهمزة، تقول امرؤ جيد برفع الراء، ورأيت امرءا بنصبها، وهذه هي اللغة الفصحى، وفيه لغتان أخريان فتح الراء مطلقا، حكاها الفراء، وضمها مطلقا، وتكون حركات الإعراب في الهمزة فقط. اهـ طرح جـ 2/ ص 11

(وإنما لكل إمرىء ما نوى) أي لكل رجل: الذي قصده، وكذا لكل امرأة لأن النساء شقائق الرجال، وفي "ق" المرأ مثلث الميم: الإنسان، أو الرجل.

وعلى القول بأن "إنما" للحصر، فهو هنا من حصر الخبر في المبتدأ، أو يقال من قصر الصفة على الموصوف؛ لأن المقصور عليه في "إنما"، دائما المؤخر، قاله القسطلاني، وفي هذه الجملة تحقيق لاشتراط النية، والإخلاص في الأعمال، قاله القرطبي.

فتكون على هذا جملةً مؤكدةً لما قبلها، وقال غيره: بل تفيد غير ما أفادته الأولى؛ لأن الأولى نبهت على أن العمل تابع للنية، ويصاحبها

ص: 209

فيترتب الحكم على ذلك، والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه.

ثم فصل ما أجمله فيما تقدم بقوله (فمن كانت هجرته) بكسر الهاء فعلة من الهَجْر، وهو ضد الوصل، ثم غلب على الخروج من أرض إلى أرض، وترك الأولى للثانية، قاله في النهاية. وفي الشرع: مُفارقةُ دار الكفر إلى دار الإسلام خوفَ الفتنة، وطلبَ إقامة الدين، وفي الحقيقة مفارقة ما يكرهه الله إلى ما يحبه، ومن ذلك سُمِّيَ الذين تركوا مكة وتحولوا إلى المدينة من الصحابة بالمهاجرين لذلك. قاله العيني.

أي من كانت رحلته من بلد إلى بلد آخر (إلى الله وإلى رسوله) بإعادة الجار، وثبت في رواية بحذفها، نيةً وقصدًا (فهجرته إلى الله وإلى رسوله) صلى الله عليه وسلم حكما وشرعا، أو ثوابا وجزاء، وإنما قدرنا ذلك، ليتغاير الشرط، والجزاء؛ لأنه لا بد من ذلك، وإلا لم يكن مفيدا، وقيل: يجوز الاتحاد في الشرط والجزاء، والمبتدإ والخبر، إذا قصد التعظيم، أو التحقير كأنت أنت، أي العظيم، أو الحقير، ومنه قول أبي النجم: وشعري شعري، أي العظيم، وقيل: الخبر محذوف في الجملة الأولى منهما: أي فهجرته إلى الله ورسوله محمودة أو مثاب عليها، وفهجرته إلى ما هاجر إليه مذمومة أو قبيحة، أو غير مقبولة. اهـ نيل جـ 1/ ص 202.

(ومن كانت هجرته إلى دنيا) بضم الدال، وحكى ابن قتيبة كسرها وهي فُعْلى من الدُّنُوِّ، أي القرب، سميت بذلك لسبقها الأخرى، وقيل لدنوها إلى الزوال، وهي غير منونة على الأشهر، وحكي تنوينها،

وجمعها دُنَا، ككُبَر جمع كُبْرَى، والنسبة إليها دنيوي، ودنياوي، ودنْييّ، بقلب الواو ياء فتصير ثلاث ياءات، واختلف في حقيقتها،

ص: 210

فقيل: ما على الأرض من الهواء والجوّ، وقيل: كل المخلوقات من الجواهر والأعراض، والأول أولى، لكن يزاد فيه مما قبل قيام الساعة، ويطلق على كل جزء منها مجازا. اهـ فتح جـ 1/ ص 23 - 24.

(يصيبها) جملة في موضع جر صفة لدنيا، أي يحصلها؛ لأن تحصيلها كإصابة الغرض بالسهم بجامع حصول المقصود. اهـ فتح.

(أو امرأة ينكحها) أي يتزوجها، كما في الرواية الأخرى، وخص المرأة بالذكر بعد ذكر ما يعمها وغيرها للاهتمام بها، والتحذير عنها لأن الافتتان بها أشد (فهجرته إلى ما هاجر إليه) من الدنيا والمرأة. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث الباب متفق عليه.

المسألة الثانية: فيمن أخرجه:

أخرج حديث عمر الأئمة الستة، فأخرجه مسلم عن محمَّد بن عبد الله بن نمير، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة كلاهما عن يزيد ابن هارون، فوقع بدلا لهما عاليا بدرجتين، واتفق عليه الشيخان من

رواية مالك، وحماد بن زيد، وابن عيينة، وعبد الوهاب الثقفي.

وأخرجه البخاري، وأبو داود، من رواية الثوري، ومسلم من طريق الليث، وابن المبارك، وأبي خالد الأحمر، وحفص بن غياث، والترمذي من رواية عبد الوهاب الثقفي، والنسائي من طريق مالك وحماد بن زيد، وابن المبارك، وأبي خالد الأحمر، وابن ماجه أيضا من رواية الليث، عشرتهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري، أورده البخاري في سبعة مواضع من صحيحه في بدء الوحي، والإيمان، والنكاح، والهجرة، وترك الحيل، والعتق، والنذور.

ص: 211

ومسلم في الجهاد، وأبو داود في الطلاق، والترمذي في الجهاد، والنسائي في أربعة مواضع في الطهارة، والإيمان، والعتاق، والطلاق، وابن ماجه في الزهد. اهـ طرح جـ 1/ ص 3 بزيادة من العيني.

ورواه أحمد في مسنده والدارقطني، وابن حبان، والبيهقي، ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمد عليها من لم يخرجه سوى مالك، فإنه لم يخرجه في موطئه، ووهم ابن دحية الحافظ فقال في إملائه على

هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ، ورواه الشافعي عنه، وهذا عجيب منه. اهـ عمدة القاري جـ1/ ص 24.

المسألة الثالثة: في بيان اختلاف ألفاظه:

قال البدر العيني: قد حصل من الطرق المذكورة أربعة ألفاظ "إنما الأعمال بالنيات""والأعمال بالنية""والعمل بالنية" وادعى النووي في تلخيصه قلَّتَهَا، والرابع "إنما الأعمال بالنية" وأورده القضاعي في الشهاب بلفظ خامس "الأعمال بالنيات" بحذف إنما، وجمع "الأعمال" "والنيات" قلت: هذا أيضا موجود في بعض نسخ البخاري، وقال الحافظ أبو موسى الأصفهاني: لا يصح إسنادها وأقره النووي على ذلك في تلخيصه، وغيره وهو غريب منهما، وهي رواية صحيحة أخرجها ابن حبان في صحيحه عن علي بن محمَّد العتابي، ثنا عبد الله بن هاشم الطوسي، ثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمَّد،

عن علقمة، عن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأعمالُ بالنيات" الحديث، وأخرجه الحاكم أيضا في كتابه الأربعين في شعار أهل الحديث، عن أبي بكر بن خزيمة، ثنا القعنبي: ثنا مالك، عن يحيى بن سعيد، به سواء، ثم حكم بصحته، وأورده ابن الجارود في المنتقى بلفظ سادس عن ابن المقري: حدثنا سفيان، عن يحيى به "إن الأعمال بالنية،

ص: 212

وإن لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا" الحديث، وأورده الرافعي في شرحه الكبير بلفظ آخر غريب وهو: "ليس للمرء من عمله إلا ما نواه" وفي البيهقي من حديث أنس مرفوعا "لا عمل لمن لا نية له" وهو بمعناه لكن في إسناده جهالة. اهـ عمدة جـ 1/ ص 24.

المسألة الرابعة: قال الحافظ العراقي: هذا الحديث من أفراد الصحيح لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عمر، ولا عن عمر، إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمَّد بن إبراهيم التيمي، ولا عن التيمي إلا من رواية يحيى بن سعيد الأنصاري، قال أبو بكر البزار:

في مسنده: لا نعلم يُروَى هذا الكلام إلا عن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الإسناد.

وقال الخطابي: لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في أنه لم يصح مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من رواية عمر، وقال الترمذي بعد تخريجه: هذا حديث صحيح، لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سعيد، وقال حمزة ابن محمَّد الكناني: لا أعلم رواه غير عمر، ولا عن عمر غير علقمة، ولا عن علقمة غير محمد بن إبراهيم، ولا عن محمَّد بن إبراهيم غير يحيى بن سعيد، وقال محمَّد بن عتاب: لم يروه غير عمر، ولا عن عمر غير علقمة، إلى آخره اهـ طرح جـ 2/ ص 3.

المسألة الخامسة: قال العراقي أيضا: ما ذكره هؤلاء الأئمة من كون حديث عمر فردا هو المشهور، وقد روي من طرق أخرى رأيت ذكرها للفائدة، فوقفت عليه مسندا من غير طريق عمر من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأنس، وعلي. فحديث أبي سعيد رواه الخطابي في معالم السنن، والدارقطني في غرائب مالك، وابن عساكر في

ص: 213

غرائب مالك، من رواية عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد. وهو غلط من ابن أبي رواد، وقول الخطابي: إنه يقال: إن الغلط إنما جاء من قبل نوح بن حبيب الذي رواه عن ابن أبي رواد، فليس بجيد من قائله، فإنه لم ينفرد به نوح به عنه، بل رواه غيره عنه، وإنما الذي تفرد به ابن أبي رواد كما قال الدارقطني، وغيره.

وحديث أبي هريرة رواه الرشيد العطار في بعض تخاريجه، وهو وهم أيضا.

وحديث أنس: رواه ابن عساكر من رواية يحيى بن سعيد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أنس بن مالك، وقال: هذا حديث غريب جدا، والمحفوظ من حديث عمر انتهى.

والمعروف من حديث أنس ما رواه البيهقي من رواية عبد الله بن المثنى الأنصاري، قال: حدثني بعض أهل بيتي، عن أنس فذكر حديثا فيه "أنه لا عمل لمن لا نية له" الحديث.

وحديث علي: رواه محمَّد بن ياسر الجياني في نسخة من طريق أهل البيت إسنادها ضعيف. اهـ طرح جـ 2/ ص 4.

وقال العيني: وقال ابن منده: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير عمر، سعد بن أبي وقاص، وعلي بن أبي طالب، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وأنس، وابن عباس، ومعاوية، وأبو هريرة، وعبادة بن الصامت. وعتبة بن عبد الأسلمي، وهزال بن سويد، وعتبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، وأبو ذر، وعتبة بن المنذر، وعقبة بن مسلم، رضي الله عنهم.

وأيضًا قد توبع علقمة، والتيمي، ويحيى بن سعيد على رواياتهم،

ص: 214

قال ابن منده: هذا الحديث رواه عن عمر غير علقمة، ابنه عبد الله، وجابر، وأبو جحيفة، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وذو الكلاع، وعطاء بن يسار، وواصل بن عمر، والجذامي، ومحمد بن المنكدر.

ورواه عن علقمة غير التيمي سعيد بن المسيب، ونافع وتابع يحيى ابن سعيد على روايته عن التيمي محمَّد بن محمَّد بن علقمة أبو الحسن الليثي، وداود بن أبي الفرات، ومحمد بن إسحاق، وحجاج بن أرطأة وعبد الله بن قيس، اهـ. عمدة جـ 1/ ص 22.

وقال العراقي: وأما من تابع علقمة عليه، فذكر أبو أحمد أن موسى ابن عقبة رواه عن نافع وعلقمة، وأما من تابع يحيى بن سعيد عليه، فقد رواه الحاكم في تاريخ نيسابور، من رواية عبد ربه بن سعيد عن محمَّد بن إبراهيم، وأورده في ترجمة أحمد بن نصر بن زياد، وقال: إنه غلط فيه، وقال: وإنما هو عن يحيى بن سعيد، لا عن عبد ربه بن سعيد، وذكر الدارقطني أنه رواه حجاح بن أرطاة عن محمَّد بن إبراهيم، وأنه رواه سهل بن صقر عن الدَّرَاوَرْديّ، وابن عيينة، وأنس بن عياض، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة، عن محمَّد بن إبراهيم، ووهم سهل على هؤلاء الثلاثة وإنما رواه الثلاثة، وغيرهم عن يحيى بن سعيد.

ورأيت في كتاب المستخرج من أحاديث الناس للفائدة لعبد الرحمن ابن منده أنه رواه سعبة عشر من الصحابة غير عمر، وأنه رواه عن عمر غير علقمة، وعن علقمة غير التيمي، وعن التيمي غير يحيى بن سعيد، وبلغني أن الحافظ أبا الحجاج المزي سئل عن كلام ابن منده هذا، فاستبعده. وقد تتبعت كلام ابن منده فوجدت أكثر الصحابة الذين ذكر حديثهم في الباب إنما لهم أحاديث أخرى في مطلق النية، لا هذا الحديث بعينه، كحديث "يبعثون على نياتهم" وحديث "ليس له من غَزَاته إلا ما

ص: 215

نوى" ونحو ذلك، وهكذا يفعل الترمذي حيث يقول: وفي الباب عن فلان وفلان، فكثيرا ما يريد بذلك أحاديث غير الحديث الذي يسنده في أول الباب، ولكن بشرط كونها تصلح أن تورد في ذلك الباب.

وهو عمل صحيح إلا أن أكثر الناس إنما يفهمون إرادة ذلك الحديث المعين. والله أعلم. اهـ طرح جـ 2/ ص 5.

المسألة السادسة: قال العراقي: أطلق بعضهم على هذا الحديث اسم التواتر، وبعضهم اسم الشهرة، وليس كذلك، وإنما هو فرد، ومن أطلق ذلك فمحمول على أنه أراد الاشتهار، أو التواتر في آخر السند، من عند يحيى بن سعيد. قال النووي: هو حديث مشهور بالنسبة إلى آخره، غريب بالنسبة إلى أوله، قال: وليس متواترًا لفقد شرط التواتر في أوله: رواه عن يحيى بن سعيد أكثر من مائتي إنسان أكثرهم أئمة، قال العراقي: روينا عن الحافظ أبي موسى محمَّد بن عمر المديني: أنه رواه عن يحيى بن سعيد سبعمائة رجل اهـ طرح جـ 1/ ص 5.

وقال البدر العيني: قال أبو سعيد محمَّد بن علي الخشاب الحافظ: روى هذا الحديث عن يحيى بن سعيد نحو مائتين وخمسين رجلا. وذكر ابن منده في مستخرجه فوق الثلاثمائة، وقال الحافظ أبو موسى

الأصفهاني: سمعت الحافظ أبا مسعود عبد الجليل بن أحمد يقول: في المذاكرة: قال الإمام عبد الله الأنصاري: كتبت هذا الحديث عن سبعمائة رجل من أصحاب يحيى بن سعيد، وقال الحافظ أبو موسى المديني، وشيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي: أنه رواه عن يحيى سبعمائة رجل.

فإن قلت: قد ذكر في تهذيب مستمر الأوهام لابن ماكولا أن يحيى ابن سعيد لم يسمعه من التيمي، وذكر في موضع آخر أنه يقال: لم

ص: 216

يسمعه التيمي، عن علقمة. قلت: رواية البخاري عن يحيى بن سعيد أخبرني محمَّد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة ترد هذا. اهـ عمدة جـ 1/ ص 23.

المسألة السابعة:

هذا الحديث قاعدة من قواعد الإسلام حتى قيل فيه: إنه ثلث العلم، وقيل: ربعه، وقيل: خمسه، وقال الشافعي، وأحمد: إنه ثلث العلم، قال البيهقي: لأن كسب العبد بقلبه ولسانه، وجوارحه، فالنية

أحد الأقسام وهي أرجحها؛ لأنها تكون عبادة بانفرادها، ولذلك كانت نية المؤمن خيرًا من عمله، وهكذا أوله البيهقي. وكلام الإمام أحمد يشعر بأنه أراد بكونه ثلث العلم معنى آخر، فإنه قال: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث:

حديث "إنما الأعمال بالنية".

وحديث عائشة "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"

وحديث النعمان بن بشير "الحلال بَيِّن، والحرام بَيِّن".

وقال أبو داود: اجتهدت في المسند فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم نظرت فإذا مدارها على أربعة أحاديث "الحلال بين""والأعمال بالنية" وحديث أبي هريرة "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا" وحديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" هكذا روى ابن الأعرابي عنه، وروى ابن داسة عنه نحوه إلا أنه أبدل حديث "إن الله طيب" بحديث:"لا يكون المرء مؤمنًا حتى لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه" وجعل بعضهم مكان هذا الحديث الذي تردد كلام أبي داود فيه حديث: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس". وروي عن أبي داود أيضا: الفقه يدور على خمسة أحاديث "الحلال بين" "والأعمال

ص: 217

بالنيات" "وما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" "ولا ضرر ولا ضرار". اهـ طرح 2/ 6.

وقال البدر: قال الشافعي، وغيره: يدخل فيه أي حديث الباب، سبعون بابا من الفقه. وقال النووي: لم يرد الشافعي رحمه الله تعالى انحصار أبوابه في هذا العدد، فإنها أكثر من ذلك، وقد نظم طاهر بن

مفوز الأحاديث الأربعة: (من الخفيف)

عُمْدَةُ الدِّين عنْدَنَا كَلمَاتٌ

أربَعٌ من كَلام خَيْر البَريَّهْ

اتَّق الشُّبُهَات وازْهَدْ ودَعْ مَا

ليْسَ يَغنيكَ واعْمَلَنْ بنيِّهْ

اهـ عمدة، جـ 1/ ص 24.

المسألة الثامنة: قال العراقي: كلمة "إنما" للحصر على ما تقرر في الأصول، ومعنى الحصر فيها إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه، كقوله تعالى:{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [طه: آية 98] ولكن دلالتها على النفي فيما عداه هل هو بمقتضى موضوع اللفظ، أو بطريق المفهوم؟ فيه كلام لبعض المتأخرين، واستدل على وفاقهم أنها للحصر أن ابن عباس فهمه من قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الربا في النسيئة" فاعترضه المخالفون له بدليل آخر يقتضي تحريم ربا الفضل، ولم يعارضوه فيما فهمه من الحصر، لاتفاقهم عليه. اهـ طرح جـ 2/ ص 6.

وقال الحافظ في الفتح: واختلفوا هل هي بسيطة أو مركبة؟ فرجحوا الأول، وقد يرجح الثاني، ويجاب عما أورد عليه من قولهم: إنّ "إنّ" للأثبات و "ما" للنفي، فيستلزم اجتماع المتضادين على صدد واحد بأن يقال مثلا: أصلهما كان للإثبات والنفي، لكنهما بعد التركيب لم يبقيا على أصلهما بل أفادا شيئا آخر، أشار إلى ذلك الكرماني، قال: وأما قول من قال: إفادة هذا السياق للحصر من جهة أن فيه تأكيدا بعد تأكيد،

ص: 218

وهو المستفاد من "إنما"، ومن الجمع، فمتعقب بأنه من باب إيهام العكس؛ لأن قائله لا رأى أن الحصر فيه تأكيد على تأكيد ظن أن كل ما وقع كذلك يفيد الحصر. وقال ابن دقيق العيد: استدل على إفادة "إنما" للحصر بأن ابن عباس استدل على أن الربا لا يكون إلا في النسيئة بحديث "إنما الربا في النسيئة" وعارضه جماعة من الصحابة في الحكم، ولم يخالفوه في فهمه، فكان كالاتفاق منهم على أنها تفيد الحصر: وتعقب باحتمال أن يكونوا تركوا المعارضة بذلك تنزلا، وأما من قال: يحتمل أن يكون اعتمادهم على قوله "لا ربا إلا في النسيئة" لورود ذلك في بعض طرق الحديث المذكور، فلا يفيد ذلك في رد إفادة الحصر، بل يقويه ويشعر بأن مفاد الصيغتين عندهم واحد، وإلا لما استعملوا هذه موضع هذه.

وأوضح من هذا حديث "إنما الماء من الماء" فإن الصحابة الذين ذهبوا إليه لم يعارضهم الجمهور في فهم الحصر منه، وإنما عارضم في الحكم من أدلة أخرى كحديث "إذا التقى الختانان".

قال ابن عطية: "إنما" لفظ لا يفارقه المبالغة والتأكيد، حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر إن دخل في قصة ساعدت عليه، فجعل وروده للحصر مجازا يحتاج إلى قرينة، وكلام غيره على العكس من ذلك، وأن الأصل ورودها للحصر. لكن قد يكون في شيء مخصوص، كقوله تعالى:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: آية 171]، فإنه سيق باعتبار منكري الوحدانية، وإلا فلله سبحانه وتعالى صفات أخرى كالعلم والقدرة.، وكقوله تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: آية 7] فإنه سيق باعتبار منكري الرسالة، وإلا فله صلى الله عليه وسلم صفات أخرى كالبشارة إلى غير ذلك من الأمثلة، وهي فيما يقال: السبب في قول من منع إفادتها للحصر مطلقا. اهـ فتح جـ 1/ ص 19.

ص: 219

وقال العراقي: إذا تقرر أنها للحصر، فتارة تقتضي الحصر المطلق، وهو الأغلب أكثر، وتارة تقتضي حصرا مخصوصا، كقوله تعالى {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ} وقوله {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد صلى الله عليه وسلم: آية 36] فالمراد حصره في النذارة لمن لا يؤمن، ونفي قدرته على ما طلبوا من الآيات، وأراد بالآية الثانية الحصر بالنسبة إلى من آثرها، أو هو من باب تغليب الغالب على النادر، وكذا قوله في الحديث "إنما أنا بشر" أراد بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن الخصوم، وبالنسبة إلى جواز النسيان عليه. قال ابن دقيق العيد: ويفهمُ ذلك بالقرائن والسياق. اهـ طرح جـ 2/ ص 6.

المسألة التاسعة:

قال العراقي: المراد بالأعمال هنا: أعمال الجوارح كلها حتى تدخل في ذلك الأقوال، فإنها من عمل اللسان، وهو من الجوارح، قال ابن دقيق العيد: ورأيت بعض المتأخرين من أهل الخلاف خَصَّص الأعمال بما لا يكون قولا، وأخرج الأقوال من ذلك، قال: وفي هذا عندي بُعْد، ولا تردد عندي في أن الحديث يتناول الأقوال أيضا. اهـ، طرح جـ 2/ ص 7.

قال الجامع عفا الله عنه: ويتناول الحديث أيضا التروك لأنها أفعال، قال الشيخ إبراهيم الكردي: الترك إذا أريد به كف النفس، فهو فعل اختياري، وكل فعل اختياري يختلف باختلاف النيات، وقد صح "إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة" إلى قوله "وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة".

ومفهومه أنه إذا لم يتركها من أجل الله لا تكتب له حسنة، وهو كذلك كما قاله الغزالي وغيره.

ص: 220

قال الصنعاني: بل قد نقل الشيخ نفسه أنه قد قيل إذا تركها لخوف المسلمين كان آثما. قال الشيخ: "ومن حسن إسلام المرأ تركه ما لا يعنيه" فنقول: الكف إن كان تركا للشر لله فهو خير، وإن كان تركا للخير بلا عذر شرعي فهو شر، والعمل قد أطلق على الخير والشر، قال الله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8} [الزلزلة: آية 7 - 8]، ويوضحه أن الكف قد أطلق عليه أنه صدقة كما في حديث أبي ذر "كف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك" أخرجه ابن أبي الدنيا

(1)

وفي حديث معاذ عند الديلمي "أفضل الصدقة حفظ اللسان" والأصل الحقيقة، ولا صارف، ولا سيما وقد ورد "كل معروف صدقة" وترك الأذى والشر من المعروف ولا شبهة، والصدقة من أفضل الأعمال فالكف عن الأذى والشر من أفضل الأعمال، فالتروك من الأعمال، وهو المطلوب، انتهى. ونقله العلامة الصنعاني في العدة حاشية العمدة، وناقشه فيه بما تركته لعدم جدواه.

المسألة العاشرة: النية بتشديد الياء على المشهور، وحكي التخفيف أيضا كما تقدم، وقد ورد بلفظ الإفراد فيه، وفي العمل أيضا، وقد ورد بلفظ الجمع أيضا، وكلها صحاح.

واختلف في حقيقة النية: فقيل: هي الطلب، وقيل: الجدُّ في الطلب، ومنه قول ابن مسعود: ومن ينو الدنيا تُعجزُه. أي من يجدّ في طلبها، وقيل: القصد للشيء بالقلب، وقيل: عزيمة القلب، وقيل: هي من النَّوى بمعنى البُعْد، فكأن الناوي للشيء يطلب بقصده وعزمه ما لم يصل إليه بجوارحه وحركاته الظاهرة لبعده عنه، فجعلت النية وسيلة

(1)

قال الجامع: بل هو في صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري مرفرعا "على كل مسلم صدقة، قالوا: فإن لم يجد؟، قال: فيعمل بيديه فينفع نفسه، ويتصدق .. الحديث

وفيه قال: "فيمسك عن الشر فإنه له صدقة" جـ 8/ ص 13 اللهم إلا أن يريد هذا اللفظ.

ص: 221

إلى بلوغه، اهـ طرح جـ 2/ ص 7.

وقد ذكر العلامة الصنعاني في العدة حاشية العمدة كلاما نفيسا في هذا المبحث أردت نقله وإن طال لنفاسته. قال رحمه الله:

النيات: جمع نية بالتشديد والتخفيف، فالتشديد هو المشهور من نَوَى يَنْوي، وأصل النية نوْيَة بكسر النون وسكون الواو فقلبت الواو ياء لسكونها بعد كسرة، ثم أدغمت في الياء بعدها، والتخفيف من وَنَى مثل وَعَدَ يَعِدُ عِدَةً، ومعنى وَنَى: أبطأ، وتأخر، وأطلقَ هنا لأن النية تحتاج في تصحيحها إلى إبطاء، كذا قيل، قال البيضاوي: النية انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضرر حالا أو مآلا، والشارع خصها بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضوان الله، وامتثال حكمه، وأقره الحافظ في الفتح. ونقله الشيخ إبراهيم الكردي في رسالته في النية وأقره أيضا وقال: هذا تعريف شامل لأفراد النية المأجور صاحبها، قال الحافظ: والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي ليحسن تطبيقه على ما بعده، قال الشيخ إبراهيم: وكذلك المراد بها المعنى اللغوي في حديث عمر مرفوعا عند ابن أبي الدنيا "إنما يبعث المقتولون على نياتهم" وعدّة أحاديث في معناه. قال: وكذا حديث ابن مسعود عند أحمد "رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته" وحديث عبادة عند النسائي "من غزا ولا ينوي إلا عقالا فله نيته" إلى غير ذلك. قال: فالشرع قد اعتبر القصد الأعم ورتب عليه أحكاما دنيوية وأخروية، فتختلف أحكام الصور باختلاف نياتها، أما الدنيوية فكما تختلف أحكام صور القتل باختلاف كونه عمدا، أو خطأ، أو شبه عمد، وكما تختلف أخذ الدائن من مال المدين باختلاف قصده الاستيفاء وغيره إلى غير ذلك.

وأما الأخروية فلأنهم يبعثون على نياتهم مع اختلافها، فيجازون

ص: 222

عليها كما يوضحه حديث أبي هريرة عند مسلم في الأربعة الذين هم أوّل من يقضى بينهم يوم القيامة "رجل استشهد" وفيه "فيقال له كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: جريء فقد قيل" وفي قارئ القرآن كذلك "ولكنك قرأت ليقال قارئ، فقد قيل" ومثله في العالم والمنافق.

وحديث ابن عمر عند أبي داود: "إن قاتلت صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسابا، وإن قاتلت مكاثرا مرائيا بعثك الله مكاثرا مرائيا" انتهى.

قال الصنعاني: وهذا التقسيم للنية وإن جرى عليه أئمة أعلام، فلا يخفى ما فيه على ذوي الأفهام، وهو أن النية من أفعال القلوب كما رسموها بقولهم انبعاث القلب الخ. وأفعال القلوب كأفعال الجوارح لم ينقل الشارع مسماه عن الاسم اللغوي، إذا لم يقصد بها وجه الله تعالى، فإن الشارع لم ينقل حركة البدن بالسجود لله عن مسماها بالسجود للصنم، بل الكل سجود، ولا نقل حركته بالطواف لله عن مسماه بالطواف للصنم، بل الكل باق على مسماه اللغوي. فإن حركة البدن بالصلاة لله لم تنقل بالصلاة رياء وسمعة عن مسماها، بل المسمى في الكل واحد: سجود، وطواف، وصلاة من غير نقل، ولا زيادة قيد، لكن هذا مأمور به وهذا منهي عنه، فكذلك حركة القلب بالنية وانبعاثه باق على مسماه لغة لم ينقلها الشرع ولا خصصها ولا هنا معنى لغوي ومعنى شرعي كما قال الحافظ محمول على المعنى اللغوي، وقال البيضاوي: والشرع خصصها، وقال الشيخ إبراهيم: قد استعملها الشرع في المعنيين، بل نقول: الشارع لم ينقلها ولم يخصصها، وإنما جاء الشارع ببيان أن الداعي والباعث لهذه النية إن كان ابتغاء مرضاة الله واتباع أمره فهي التي طلبها الله من عباده {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: آية 5]، فكان صاحبها مأجورا، وإن كان الباعث غير ذلك فإن كان ما نهى الله عنه كالرياء والسمعة كان مأزورا

ص: 223

كما أفاده حديث الأربعة الذين هم أول من تسعر بهم النار، وحديث "ويبعث مرائيا مكاثرا" وإن كان ما أباحه الله كالغزو لقصد الغنيمة كان له ما نوى كحديث "من غزا لا ينوي إلا عقالا فله ما نوى" والأظهر أنه لا يكون آثما لأنه طلب ما أحله الله ووعد به {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: آية 20]، وإن كان قصد المقصد الأدنى بجهاده، فإن المجاهد من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فالقول بأن حديث "يبعثون على نياتهم" ونحوه ورد على المعنى الأعم غير صحيح، بل ورد على بيان اختلاف أحوال القتلى في الجزاء على حسب الدواعي والبواعث كما صح به في حديث الأربعة من قوله "ليقال" فإنه بيان للدواعي الحاملة على تعلم العلم وقراءة القرآن والجراءة والجود، وكذلك مكاثرا ومرائيا، وكحديث الباب فإنه قسم الهجرة باعتبار ذلك بيانا للحوامل والبواعث وإنما عبر بالنيات في هذا وفي حديث الباب أيضا تعبيرا عن السبب باسم المسبب مجازا، وإن كان الأصل الحقيقة فالصارف ما ذكرناه من الصرائح ولا يقال: فليعكس، ويُدَّعَى المجاز فيما عبر فيه بالنيات كحديث الباب ونحوه؛ لأنا نقول العكس لا يتم إلا بعد قيام الدليل على نقل النية، ولا دليل ولا مُلجىء، بل الدليل القاهر قائم على أنه لا يصح دخول هذه الأحاديث التي زعم الشيخ إبراهيم أنها داخلة تحت المعنى الأعم، إذ الأحاديث سيقت لبيان انقسام الناس في الآخرة إلى مُثابين ومُعاقَبين بالبواعث والحوامل، فحديث "يبعث المقتولون على نياتهم" ورد في القوم يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى، أي منقسمين إلى مُعاقب ومُثاب، ففيهم المثاب، ولا يدخل تحت المعنى اللغوي، إذا لم

يصرح فيه بقيد ابتغاء رضوان الله أو عدمه، والمعاقب أيضا إذا لم يصرح فيه بعدمه لا يدخل تحته، وحينئذ فلا يتم حمل الحديث على المعنى اللغوي أصلا، ولا على الشرعي؛ لأنه أخذ فيه قيد ابتغاء رضوان الله

ص: 224

فلا يشمل إلا قسما واحدا، وهو تقصير بالحديث عن معناه وإخراج له عما أريد به، فعرفت أنه لا يتم حمله على أي المعنيين، وإن حمل على معنى ثالث شامل للمعنيين ليشمل القسمين فما في المعنيين لا يشمل، ثم الحمل على المعنييين فرع ثبوت الشرعي، وهو محل النزاع إذ لم يثبت بدليل، ونحن باقون على الأصل، وهو عدم إثبات معنى شرعي، وبه يتم بطلان قول الشيخ إبراهيم: إنه ورد على المعنى الأعم وفساده، ويعلم أنه محمول على معناه اللغوي: أي يبعثون على قيد بواعثهم ودواعيهم بين مثاب ومعاقب.

فالأحاديث كلها واردة إخبارا على أن أفعال العباد دارت على البواعث والدواعي إثابة وعقوبة، وتحقيقه ما قال الغزالي: إن العضو لا يتحرك إلا بالقدرة، والقدرة تنتظر الداعية الباعثة، والداعية تتنظر العلم والمعرفة أو الظن والاعتقاد، فإذا جزمت المعرفة بأن الشيء موافق له فلابد أن يُفعل، وسلمت عن معارضة باعث آخر صارف عنه انبعثت الإرادة، فإذا انبعثت الإرادة انبعثت القدرة بتحريك الأعضاء، فالقدرة خادمة للأرادة، والإرادة متابعة لحكم الاعتقاد والمعرفة انتهى.

فهذا الباعث الصادر عن الاعتقاد والمعرفة إن كان ما أمر به الشارع فالنية المُثَارة عنه موافقة لمراده تعالى مثاب فاعلها وإلا فلا، وقد أخبر الله تعالى عن هذه البواعث المأمور بها والمنهي عنها بقوله:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: آية 9]، {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: آية 19 - 20] {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: آية 67]، وبهذا عرفت أن النية غير منقسمة إلى شرعية ولغوية، وعرفت أنه لا وجه لجعل النية ذات أفراد وتقاسيم ورسوم متغايرات تقضي بتغاير ما هيتها، وأعم وأخص، وإدخال بعض الأحاديث في الأعم مما قد صح لك

ص: 225

بطلانه، بل الأحاديث كلها على معنى واحد، والنية شيء واحد تعددت أحكامها إلى إثابة وعقوبة بالنظر إلى تعدد البواعث، وكذا اختلف أخذ الدائن من مال المدين لاختلاف البواعث أيضا، اختلاف القتل العمد والخطأ وشبه العمد قيل في البواعث.

ومن هنا علمت أن المراد بالنية في حديث الباب هو هذا المعنى اللغوي، وأن تقسيم النية الذي في أثناء الحديث باعتبار بواعثها، فمن كان باعث هجرته رضاء الله ورسوله فهجرته مقبولة مثاب صاحبها، ومن كان باعث هجرته المرأة والدنيا فهجرته لا أجر فيها ولا وزر، ويحتمل أن يكون مأزورا لأنه طلب الدنيا بما صورته عمل الآخرة أي في هذا الحديث لقرينة السياق. وأما في غيره فمدار الإثم والإثابة على تحقق قصده، فإن قصد الأمر المباح غير مُغَرِّر بمحض الطاعة فلا إثم عليه، إذ طلب المباح غير إثم من حيث هو طلب مباح، وإلا كان إثما بالتغرير.

والحاصل أن هنا صورا أربعا:

الأولى: أن يقصد أمرا محرما كالرياء والسمعة كان آثما لحديث الأربعة.

الثانية: أن يقصد أمرا غير محرم كإعلاء كلمة الله فقط كان مأجورا أجر المجاهد المخلص.

الثالثة: أن يقصد أمرا مباحا فقط كالغنيمة فقط فإنه إذا تجرد قصد المجاهد لها لا غير لم يأثم إن صحبتها نية أنها كسب من الحلال أجر أجر كاسب الحلال.

الرابعة: أن يقصد الغنيمة وإعلاء كلمة الله كان له أجر الجهاد وهي رتبة أدنى ممن لم يلاحظ إلَّا على إعلاء كلمة الله فقط.

ص: 226

وإذا عرفت هذا عرفت بطلان القول بأن الحديث محمول على المعنى اللغوي ليحسن تطبيقه على ما بعده، وتقسيم أحوال المهاجر فإنه تفصيل لما أجمل النبي صلى الله عليه وسلم وإنما قلنا: إنه باطل لأن المعنى اللغوي لم يعتبر فيه إثابة ولا عقوبة كما عرفت، والتقسيم في أثناء الحديث اعتبر فيه ذلك أو بعضه، ومعنى المقسم معتبر في الأقسام ضرورة دخولها تحته دخول الأخص تحت الأعم، وإلا لما كانت أقسامَهُ.

فالتحقيق ما سمعت من أنه تقسيم للحوامل والبواعث في فوات الأعمال بالحوامل والبواعث، فباعث النية في هذا الفعل وهو الهجرة إن كان ابتغاءَ مرضات الله ورسوله فهي هجرة لله ورسوله، وإن كانت المرأةَ والدنيا فليست لله ورسوله، لا يقال: يحمل قولهم في رسم اللغوي حالا ومآلا وجلب نفع ودفع ضر على ما يشمل الإثابة والعقوبة فيتم التقسيم في حديث الباب لأنا نقول منع منه أمران:

الأول: أن الإثابة والعقوبة أمور شرعية لا يعرفها أهل اللغة قبل الشرع.

والثاني: أنه لو أريد ذلك لما احتيج إلى القول بأنه خصصها الشرع، ولما افتقر إلى تقسيمها إلى لغوي وشرعي، ولا يصح، ثم لا يخفى أن رسم البيضاوي شامل لأفراد النية المأجور صاحبها كما عرفت، إلا أنه لا يخفى أنه أورده رسما للنية العامة كما عرفت من سياقه، وقد طال الكلام حتى كاد أن يكون رسالة مستقلة، ولا ينكر طوله فإنه في حديث مفرد يأتي بجمع، ولذا قيل: إنه ثلث العلم. (من البسيط).

فقَدْ أطالَ ثَنَائي طُولُ لابِسِهِ

إنَّ الثَّنَاءَ عَلَى التِّنْبَال تنْبَالُ

اهـ. العدة، جـ 1/ ص 56 - 61.

التنبال بالكسر: القصير كالتنبالة قاله في "ق" يعني الثناء على القصير قصير.

ص: 227

المسألة الحادية عشرة:

قال الحافظ زين الدين ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في جامع العلوم والحكم ما نصه:

فائدة مهمة:

واعلم أن النية في اللغة نوع من القصد والإرادة، وإن كان قد فُرِّقَ بين هذه الألفاظ بما ليس هذا موضع ذكره، والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين:

أحدهما: تمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلا. وتمييز رمضان من صيام غيره.

أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظيف ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيرا في كلام الفقهاء في كتبهم.

والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك له أم لله وغيره؟.

وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهذه هي التي توجد في كلام السلف المتقدمين، وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفا سماه "كتاب الإخلاص والنية" وإنما أراد هذه النية، وهي النية التي يتكرر ذكرها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم تارة بلفظ النية، وتارة بلفظ الإرادة، وتارة بلفظ مقارب لذلك، وقد جاء ذكرها كثيرا في كتاب الله عز وجل بغير لفظ النية أيضا من الألفاظ المقاربة لها، وإنما فرق من فرق بين النية وبين الإرادة والقصد ونحوهما لظنهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء.

ص: 228

فمنهم من قال: النية تختص بفعل الناوي والإرادة لا تختص

بذلك، كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له ولا ينوى ذلك، وقد ذكرنا

أن النية في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة إنما يراد بها هذا المعنى الثاني غالبا،

فهي حينئذ بمعنى الإرادة، ولهذا يعبر عنها بلفظ الإرادة في القرآن كثيرا

كما في قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: آية 152]، وقوله:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: آية 67] وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود: آية 15]، وقوله:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} [الشورى: آية 20] وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: آية 18]، وقوله {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: آية 52]، وقوله {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: آية 28]، وقوله {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: آية 38]، وقوله {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: آية 39].

وقد يعبر عنها في القرآن بلفظ الابتغاء كما في قوله تعالى {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: آية20]، وقوله {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: الآية 265]، وقوله {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: آية 272]، وقوله {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} [النساء: الآية 114]، فنفى الخير عن كثير مما يتناجي الناس به إلا في الأمر بالمعروف، وخص من أفراده الصدقة والإصلاح بين الناس بعموم نفعهما، فدل ذلك على

أن التناجي بذلك خير، وأما الثواب عليه من الله فخصه بمن فعله ابتغاء

ص: 229

مرضات الله، وإنما جعل الأمر بالمعروف من الصدقة والإصلاح بين الناس وغيرهما خيرًا، وإن لم يبتغ به وجه الله لما يترتب على ذلك من النفع المتعدي، فيحصل به للناس إحسان وخير، وأما بالنسبة إلى الأمر فإن قصد به وجه الله وابتغاء مرضاته كان خيرا له وأثيب عليه، وإن لم يقصد ذلك لم يكن خيرا له ولا ثواب له عليه، وهذا بخلاف من صلى وصام وذكر الله يقصد بذلك عرض الدنيا فإنه لا خير له فيه بالكلية؛ لأنه لا يتعدى نفعه إلى أحد، اللهم إلا أن يحصل لأحد اقتداء به في ذلك

وأما ما ورد في السنة وكلام السلف من تسمية هذا المعنى بالنية فكثير جدًا، ونحن نذكر بعضه:

كما خَرَّج الإمامُ أحمد، والنسائي، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالا فله ما نوى" وأخرجه الإمام أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش، ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته".

وخرج ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يحشر الناس على نياتهم"، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنما يبعث الناس على نياتهم" وأخرج ابن أبي الدنيا من حديث عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما يبعث المقتتلون على نياتهم" وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بهم، فقلت: يا رسول الله فكيف بمن كان كارها؟ قال: يخسف به معهم، ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته".

وفيه أيضا عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذا الحديث،

ص: 230

وقال فيه: "يهلكون مَهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتى، ويبعثهم الله على نياتهم".

وخرَّج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت همه الدنيا فرق الله شمله" وفي لفظ "أمره""وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة" هذا لفظ ابن ماجه ولفظ أحمد "من كانت همه الآخرة ومن كانت نيته الدنيا" وخرَّجه ابن أبي الدنيا، وعنده "من كانت نيته الآخرة، ومن كانت نيته الدنيا".

وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أثبت عليها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك"، وروى ابن أبي الدنيا بإسناد منقطع عن عمر قال:"لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسبة له" يعني لا أجر لمن لم يحتسب ثواب عمله عند الله عز وجل، وبإسناد ضعيف عن ابن مسعود قال: لا ينفع قول إلا بعمل، ولا ينفع قول ولا عمل إلا بنية، ولا ينفع قول ولا عمل ولا نية إلا بما وافق السنة. وعن يحيى بن أبي كثير قال: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل، وعن زيد الشامي، قال: إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب.

وعنه أيضا أنه قال: انْو في كل شيء تريد الخير حتى خروجك إلى الكناسة، وعن داود الطائي قال: رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية، وكفاك بها خيرا وإن لم تَنْصَب، قال داود: والبرُّ همَّةُ التقي ولو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا لردته يوما نيته إلى أصله، وعن سفيان الثوري قال: ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي؛ لأنها تتقلب

ص: 231

علي، وعن يوسف بن أسباط قال: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد، وقيل لنافع بن حبيب: ألا تشهد الجنازة؟ قال: كما أنت حتى أنوي، قال: ففكر هنيهة ثم قال: امض، وعن مطرف بن عبد الله قال: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية، وعن بعض السلف قال: من سره أن يكمل له عمله فليحسن نيته، فإن الله عز وجل يأجر العبد إذا أحسن نيته حتى باللقمة، وعن ابن المبارك قال: رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية، وقال ابن عجلان: لا يصلح العمل إلا بثلاث: التقوى لله، والنية الحسنة، والإصابة.

وقال الفضيل بن عياض: إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك، وعن يوسف بن أسباط قال: إيثار الله عز وجل أفضل من القتل في سبيل الله، خَرَّجَ ذلك كله ابنُ أبي الدنيا في كتاب الإخلاص والنية، وروى فيه بإسناد منقطع عن عمر قال: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله عز وجل، والورع عما حرم الله عز وجل، وصدق النية فيما عند الله عز وجل.

وبهذا يعلم ما روى الإمام أحمد أن أصول الإسلام ثلاثة أحاديث:

حديث "إنما الأعمال بالنيات" وحديث "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وحديث: "الحلال بين والحرام بين" فإن الدين كله يرجع إلى فعل المأمورات وترك المحظورات والتوقف عن الشبهات، وهذا كله تضمنه حديث النعمان بن بشير، وإنما يتم ذلك بأمرين:

أحدهما: أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنة، وهذا هو الذي تضمنه حديث عائشة "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد".

والثاني: أن يكون العمل في باطنه يقصد به وجه الله عز وجل، كما

ص: 232

تضمنه حديث عمر "الأعمال بالنيات" وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: آية 2]، قال: أخلصه وأصوبه، وقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا وصوابا، قال: والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة.

وقد دل هذا الذي قال الفضيل على قوله عز وجل {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 110]، وقال بعض العارفين: إنما تفاضلوا بالإرادات، ولم يتفاضلوا بالصوم والصلاة.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى:

"فصل":

وأما النية بالمعنى الذي ذكره الفقهاء، وهو تمييز العبادات عن العادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض، فإن الإمساك عن أكل والشرب يقع تارة حمْيَةً، وتارة لعدم القدرة على الأكل، وتارة تركا للشهوات لله عز وجل فيحتاج في الصيام إلى نية، ليتميز بذلك عن ترك الطعام على غير هذا الوجه، وكذلك العبادات كالصلاة والصيام منها فرض ومنها نفل، والفرض يتنوع أنواعا، فإن الصلوات المفروضات خمس صلوات في كل يوم وليلة، والصيام الواجب تارة يكون صيام رمضان، وتارة يكون صيام كفارة، أو عن نذر، ولا يتميز هذا كله إلا بالنية، وكذلك الصدقة تكون نفلا، وتكون فرضا والفرض منه زكاة، ومنه كفارة، ولا يتميز ذلك إلا بالنية، فيدخل ذلك في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"وإنما لكل امرئ ما نوى".

وفي بعض ذلك اختلاف مشهور بين العلماء، فإن منهم من لا

ص: 233

يوجب تعيين النية للصلاة المفروضة، بل يكفي عنده أن ينوي فرض الوقت، وإن لم يستحضر تسميته في الحال، وهي رواية عن الإمام أحمد، ويبنى على هذا القول أن من فاتته صلاة من يوم وليلة ونسي عينها أن عليه أن يقضي ثلاث صلوات: الفجر والمغرب ورباعية واحدة.

وكذلك ذهب طائفة من العلماء إلى أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية معينة أيضا، بل يجزئ نية الصيام مطلقا؛ لأن وقته غير قابل لصيام آخر، وهو رواية عن الإمام أحمد، وربما حكي عن بعضهم أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية بالكلية لتعينه بنفسه، فهو كرد الودائع، وحكي عن الأوزاعي أن الزكاة كذلك، وتأول بعضهم قوله على أنه أراد أنها تجزئ بنية الصدقة المطلقة كالحج، وكذلك قال أبو حنيفة: لو تصدق بالنصاب كله من غير نية أجزأه عن زكاته، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يلبي بالحج عن رجل، فقال له:"أحَجَجْتَ عن نفسك؟ قال: لا، قال: هذه عن نفسك ثم حج عن الرجل" قال: وقد تكلم في صحة هذا الحديث، ولكنه صحيح عن ابن عباس وغيره، وأخذ بذلك الشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وغيرهما في أن حجة الإسلام تسقط بنية الحج مطلقا، سواء نوى التطوع أو غيره، ولا يشترط للحج تعيين النية، فمن حج عن غيره، ولم يحج عن نفسه وقع عن نفسه، وكذلك لو حج عن نذر، أو نفلا ولم يكن حج حجة الإسلام، فإنها تنقلب عنها، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه في حجة الوداع بعد ما دخلوا معه، وطافوا وسعوا، أن يفسخوا حجهم، ويجعلوه عمرة وكان منهم القارن والمفرد، وإنما كان طوافهم عند قدومهم طوافَ القدوم، وليس بفرض، وقد أمرهم أن يجعلوه طواف عمرة، وهو فرض، وقد أخذ بذلك الإمام أحمد في فسخ الحج، وعمل به، وهو

ص: 234

مشكل على أصله، فإنه يوجب تعيين الطواف الواجب للحج والعمرة بالنية، وخالفه في ذلك أكثر الفقهاء، كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وقد يفرق الإمام أحمد بين أن يكون طوافه في إحرام انقلب كالإحرام الذي يفسخه ويجعله عمرة فينقلب الطواف فيه تبعا لانقلاب الإحرام، كما ينقلب الطواف في الأحرام الذي نوى به التطوع إذا كان عليه حجة الإسلام تبعا لانقلاب الإحرام من أصله، ووقوعه عن فرضه، بخلاف ما إذا طاف للزيارة لنية الوداع، أو التطوع، فإن هذا لا يجزيه إلا أن ينوي به الفرض، ولم ينقلب فرضا تبعا لانقلاب إحرامه، والله أعلم.

ومما يدخل في هذا الباب أن رجلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان قد وضع صدقته عند رجل فجاء ولد صاحب الصدقة فأخذها ممن هي عنده، فعلم بذلك أبوه، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما إياك أردت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمتصدق:"لك ما نويت" وقال للآخذ: "لك ما أخذت" خرَّجه البخاري. وقد أخذ الإمام أحمد بهذا الحديث، وعمل به في المنصوص عنه، وإن كان أكثر أصحابه على خلافه، فإن الرجل إنما منع من دفع الصدقة إلى ولده خشية أن تكون محاباة، فإذا وصلت إلى ولده من حيمث لا يشعر كانت المحاباة منتفية، وهو من أهل استحقاق الصدقة في نفس الأمر، ولهذا لو دفع صدقته إلى من يظنه فقيرًا، وكان غنيا في نفس الأمر أجزأته على الصحيح؛ لأنه إنما دفع إلى من يعتقد استحقاقه، والفقر أمر خفي لا يكاد يُطَّلعُ على حقيقته.

وأما الطهارة: فالخلاف في اشتراط النية لها مشهور، وهو يرجع إلى أن الطهارة للصلاة هل هي عبادة مستقلة، أم هي شرط من شروط الصلاة، كإزالة النجاسة وستر العورة؟ فمن لم يشترط لها النية جعلها كسائر الشروط، ومن اشترط لها النية جعلها عبادة مستقلة، فإذا كانت عبادة في نفسها لم تصح بدون النية، وهذا قول جمهور العلماء، ويدل

ص: 235

على صحة ذلك تكاثر النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الوضوء يكفر الذنوب والخطايا، وأن من توضأ كما أُمر كان كفارة لذنوبه، وهذا يدل على أن الوضوء المأمور به في القرآن عبادة مستقلة بنفسها، حيث رتب عليه تكفير الذنوب، والوضوء الخالي من النية لا يكفر شيئا من الذنوب بالاتفاق، فلا يكون مأمورا به، ولا تصح به الصلاة، ولهذا لم يرد في شيء من بقية شرائط الصلاة كإزالة النجاسة وستر العورة، ما ورد في الوضوء من الثواب ولو شرك بين نية الوضوء، وبين قصد التبرد، أو إزالة النجاسة، أو الوسخ، أجزأه في المنصوص عن الشافعي، وهذا قول أكثر أصحاب أحمد؛ لأن هذا القصد ليس بمحرم ولا مكروه، ولهذا لو قصد مع رفع الحدث تعليم الوضوء لم يضره ذلك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد أحيانا بالصلاة تعليمها للناس، وكذلك الحج كما قال:

"خذوا عني مناسككم".

قال رحمه الله: ومما تدخل فيه النية من أبواب العلم: مسائل الأيمان، فلغو اليمين لا كفارة فيه، وهو ما جرى على اللسان من غير قصد بالقلب البتة، كقوله: لا والله، وبلى والله، في أثناء الكلام قال تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: آية 89]، وكذلك يُرجع في الأيمان إلى نية الحالف، وما قصد بيمينه، فإن حلف بطلاق، أو عتاق، ثم ادعى أنه نوى ما يخالف ظاهر لفظه، فإنه يُدَيَّن فيما بينه وبين الله عز وجل، وهل يقبل منه في ظاهر الحكم، فيه قولان للعلماء مشهوران، وهما روايتان عن أحمد، وقد روي عن عمر أنه رفع إليه رجل قالت له امرأته: شَبِّهْني، قال: كأنك ظَبْيَة، كأنك حَمَامة، فقالت: لا أرضى حتى تقول: أنت خَليَّة طالق، فقال ذلك، فقال عمر: خذ بيدها فهي امرأتك، خَرَّجه أبو عبيد، وقال: أراد الناقة تكون معقولة، ثم تطلق من عقالها، ويُحَلّ عنها، فهي خَليَّة من العقال،

ص: 236

وهي طالق لأنها قد انطلقت منه، فأراد الرجل ذلك، فأسقط عنه عمر الطلاق لنيته، قال: وهذا أصل لكل من تكلم بشيء يشبه لفظ الطلاق، والعَتَاق، وهو ينوي غيره، أن القول فيه قوله فيما بينه وبين الله عز وجل، وفي الحكم على تأويل عمر رضي الله عنه، ويروى عن السُّمَيط السَّدُوسيّ، قال: خطبت امرأة فقالوا: لا نُزَوِّجك حتى تطلق امرأتك، فقلت: إني طلقتها ثلاثا، فزوجوني، ثم نظروا فإذا امرأتي عندي، فقالوا: أليس قد طلقتها ثلاثا، فقلت: كان عندي فلانة، فطلقتها، وفلانة فطلقتها، فأما هذه فلم أطلقها فأتيت شقيق بن ثور، وهو يريد الخروج إلى عثمان وافدا، فقلت له: سَلْ أمير المؤمنين عن هذه، فخرج فسأله، فذكر ذلك لعثمان، فجعلها له، فقال: بنيته. خرَّجه أبو عبيد في كتاب الطلاق، وحكى إجماع العلماء على مثل ذلك، وقال إسحاق ابن منصور: قلت لأحمد: حديث السميط تعرفه؟ قال: نعم السدوسي، وإنما جعل نيته بذلك، وقال: فإن كان الحالف ظالما ونوى خلاف ما حلَّفه عليه غريمه لم تنفعه نيته.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك" وفي رواية له "اليمين على نية المستحلف" وهو محمول على الظالم، فأما المظلوم فينفعه ذلك، وقد خرّج الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث سُوَيد بن حَنْظَلَة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حُجْر، فأخذه عدوّ له، فتحرج الناس أن يحلفوا، فحلفت أنا أنه أخي، فخلي سبيله، وأتينا النبي، فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا، فحلفت أنا أنه أخي، فقال:"صدقت، المسلم أخو المسلم".

وكذلك قد تدخل النية في الطلاق والعتاق، فإذا أتى بلفظ من ألفاظ الكنايات المحتملة للطلاق أو العتاق، فلابد له من النية، وهل يقوم مقام

ص: 237

النية دلالة الحال من غضب، أو سؤال الطلاق، ونحوه أم لا؟ فيه خلاف مشهور بين العلماء، وهل يقع بذلك الطلاف في الباطن كما لو نواه أم يلزم به في ظاهر الحكم فقط، فيه خلاف مشهور، ولو أوقع الطلاق بكناية ظاهرة كالبتة ونحوها، فهل يقع به الثلاثة أو واحدة؟ فيه قولان مشهوران، فظاهر مذهب أحمد أنه يقع به الثلاث مع إطلاق النية، فإن نوى به ما دون الثلاث وقع به ما نواه، وحكي عنه رواية أخرى أنه يلزمه الثلاث أيضا، ولو رأى امرأة يظنها امرأته فطلقها ثم بانت أجنبية طلقت امرأته؛ لأنه إنما قصد طلاق امرأته نص على ذلك أحمد، وحكي عنه رواية أخرى أنها لا تطلق، وهو قول الشافعي، ولو كان بالعكس بأن رأى امرأة فظنها أجنبية فطلقها فبانت امرأته فهل تطلق؟ فيه قولان وهما روايتان عن أحمد، والمشهور من مذهب الشافعي وغيره أنها لا تطلق، ولوكان له امرأتان، فنهى إحداهما عن الخروج، ثم رأى امرأة قد خرجت فظنها المنهية، فقال لها فلانةُ خرجت أنت طالق، فقد اختلف العلماء، فيها فقال الحسن: تطلق المنهية لأنها التي نواها، وقال إبراهيم: يطلقان، وقال عطاء: لا تطلق واحدة منهما. وقال أحمد: إنها تطلق المنهية رواية واحدةً؛ لأنه نوى طلاقها، وهل تطلق المواجهة على روايتين عنه، فاختلف الأصحاب على القول بأنها تطلق، هل تطلق في الحكم فقط أم في الباطن أيضا على طريقتين لهم.

وقد استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" على أن العقود التي يقصد بها في الباطن التوصل إلى الحرام غير صحيحة، كعقود البيوع التي يقصد بها معنى الربا ونحوها كما هو مذهب مالك وأحمد، وغيرهما، فإن هذا العقد إنما نوى به الربا لا البيع "إنما

لكل امرئ ما نوى".

ومسائل النية المتعلقة بالفقه كثيرة جدّا، وفيما ذكرنا كفاية، وقد تقدم

ص: 238

عن الشافعي أنه قال في هذا الحديث: أنه يدخل في سبعين بابا من الفقه

والله أعلم اهـ كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله وهو كلام نفيس جدًّا والله أعلم.

المسألة الثانية عشرة:

قال ابن دقيق العيد: قوله "إنما الأعمال بالنيات" لا بد فيه من حذف المضاف، واختلف الفقهاء في تقديره: فالذين اشترطوا النية قدروه: صحة الأعمال بالنيات، أو ما يقاربه، والذين لم يشترطوها قدروه كمال الأعمال بالنيات، أو ما يقاربها، وقد رُجِّحَ الأولُ بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال، فالحمل عليه أولى لأن ما كان ألزم للشيء كان أقرب إلى خطوره بالبال عند إطلاق اللفظ فكان الحمل عليه أولى، وكذلك قد يقدرونه إنما اعتبار الأعمال بالنيات، وقد قرب ذلك بعضهم

بنظائر من المثل، كقولهم: إنما المُلْكُ بالرجال، أي: قوامه ووجوده، وإنما الرجال بالمال، وإنما المال بالرعية، وإنما الرعية بالعدل، كل ذلك يراد به أن قوام هذه الأشياء بهذه الأمور اهـ إحكام الأحكام.

وكتب العلامة الصنعاني رحمه الله عند قوله: لا بد من حذف مضاف، ما نصه: أقول: لما أنه معلوم وجود صورة العمل من دون نية فلابد من التقدير لتوقف الصدق على المقدَّر، ولذا قيل: إنه من المجمل لتردده بين المحتملات، والجمهور على خلافه لسبق المقصود إلى اللهم عرفا، فتقدر الصحة: أي لا صحة للأعمال إلا بالنيات، ورجح بأنه الأقرب إلى نفي الذات عن الأعمال لأن ما لا يصح كالعدم.

قلت: إنما لاحظوا الأقرب إلى نفي الذات لأن الكلام ظاهر في نفيها والحَرْف موضوع لذلك، إذ قولك لا رجل في الدار يراد به نفي الذات، أي نفي صفة استقرار الذات في الدار، وكأنهم يتسامحون في العبارة،

ص: 239

قال الحلبي: ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالتصريح وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل دلالته على نفي الذات ثبت أن دلالته على نفي الصفات مستمرة، فحيث ولابد من مقدر يتوجه النفي إليه فما هو في حكم العدم، والشارح (يعني ابن دقيق العيد) ذكر مرجحا آخر وهو أن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال، يريد أن الأفعال الصحيحة أكثر وجودا من الأفعال الكاملة فيتوجه النفي إلى ملازم الحقيقة، فكان نفي الملازَم -بالفتح- وهو ملاق للأول، إذ نفي الملازَم كنفي الملازِم.

وقوله: لأن ما كان ألزم للشيء كان أقرب إلى خطوره بالبال، وهو مُلَاقٍ لقول أهل الأصول لسبق المقصود إلى الفهم.

قلت: وهنا مرجح أوضح وهو أن خطابات الشارع محمولة على تعريفه وتعليمه للمكلفين التكاليف الصحيحة إذ هي المطلوبة منهم، ولذا حملت الخطابات المطلقة في مثل {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: آية 230]، على النكاح الصحيح لأنه مطلوب الشارع، لا الفساد فلا يكون محللا، فكذلك يكون مطلوب الشارع تعريف العباد صحيح التكاليف التي يسقط الطلب بها وتستحق به الإثابة، وأما الكمال فهو مطلوب ندبا لا وجوبا وإلا لزم أن لا يجزئ إلا الكامل من الأفعال لا الصحيح، على أني أقول: ها هنا مانع من تقدير الكمال وهو أنه سيق الحديث لبيان الأعمال التي يثاب عليها العباد، فلو قدر الكمال لزم أن لا يثاب العباد، فلو قدر

(1)

الكمال على الأفعال الصحيحة حتى تتصف بالكمال وهو باطل، ثم الكمال يتفاوت بتفاوت رتب العاملين، فصلاة نبينا صلى الله عليه وسلم أكمل الصلوات، ثم تختلف رتبته على اختلاف طبقات الأتقياء،

(1)

هكذا العبارة في نسخة العُدَّة، وفيها ركاكة ولعل الصواب إسقاط فلو قدر الكمال الثاني، فيكون التركيب هكذا فلو قدر الكمال لزم أن لا يثاب العباد على الأفعال "الصحيحة"، الخ

ص: 240

فأيُّ كمال المقدرُ، فالقول بتقديره كالأحالة على مجهول، مع أن الكمال ليس بملازم لجميع الأفعال، والحديث عام لجميعها بخلاف الصحة، فهي شيء واحد ملازم لكل ما يُسقط التكليف، وهي ترتب الآثار، فعرفت أن تقدير الكمال غير صحيح هنا ولا مُلجئ إليه إلا الدليل الناهض كما نهض على تقديره في حديث "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" إن ثبت، وذلك أنه ثبت "صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته، وصلاته في سوقه خمسا وعشرين درجة" الحديث عند أحمد، والشيخين من حديث أبي هريرة.

وقول الشارح المحقق (يعني ابن دقيق العيد) إن من لم يشترط النية يُقَدِّر الكمال، فيه بحث؛ لأنا لا نعلم قائلا يقول: إنها لا تشترط النية في شيء من الأعمال حتى يقدر في جميعها الكمال، إنما وقع الخلاف في مسائل، وفروع من العبادات، وإلا فالكل يتفقون على شرطيتها في مواضع من المسائل مع أن من لم يشترطها في بعض المواضع لا يقدر الكمال فيها، وحينئذ لا يتم له تقدير الكمال هنا؛ لأن هذا الحديث عام لكل عمل كما عرفت، ومن الأعمال ما هي شرط في صحته عنده فلا يتم هذا الإطلاق إلا أن يثبت أن قائلا يقول: لا تشترط النية في عمل من الأعمال، ولا أظنه يوجد من يقول هذا، إلا أن يكون مراده أن من لازم كل عمل النية وأن شرطيتها لغو لأنها أمر لابد منه، كما قال بعض المتأخرين: إنه لو كلف بعمل بلا نية لكان من تكليف ما لا يطاق، على أن هذا لا يتم به حمل الحديث على الكمال، بل يقول: الحديث أتى لطلب أن يكون باعث النية ابتغاء رضي الله تعالى، ولا تقدر صحة، ولا كمال، فالكلام صادق عنده؛ لأنه لا يوجد عمل إلا بنية. اهـ كلام الصنعاني في العدة جـ 1/ ص 72 - 74.

المسألة الثالثة عشرة:

قال الحافظ رحمه الله: الأعمال تقتضي عاملين، والتقدير الأعمال

ص: 241

الصادرة من المكلفين، وعلى هذا هل تخرج أعمال الكفار؟ الظاهر لإخراج لأن المراد بالأعمال أعمال العبادة وهي لا تصح من الكافر، وإن كان مخاطبا معاقبا على تركها، ولا يرد العتق والصدقة لأنهما بدليل آخر اهـ فتح جـ 1/ ص 19.

المسألة الرابعة عشرة:

قال الحافظ أيضا: الظاهر أن الألف واللام في النيات معاقبَة للضمير، والتقدير الأعمال بنياتها، وعلى هذا فيدل على اعتبار نية العمل من كونه مثلا صلاة أو غيرها، ومن كونها فرضا أو نفلا ظهرا مثلا أو عصرا مقصورة أو غير مقصورة، وهل يحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد؟ فيه بحث، والراجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفك عن العدد المعين، كالمسافر مثلا ليس له أن يقصر إلا بنية القصر، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين لأن ذلك هو مقتضى القصر، والله أعلم. اهـ فتح جـ 1/ ص 20.

المسألة الخامسة عشرة:

قال العراقي: وذكر بعض المتأخرين من الحنفية وهو قاضي القضاة شمس الدين السروجي أن التقدير (يعني تقدير إنما الأعمال بالنيات) ثوابها لا صحتها لأنه الذي يطرد فإن كثيرا من الأعمال يوجد ويعتبر شرعا بدونها ولأن إضمار الثواب متفق على إرادته، ولأنه يلزم من انتفاء الصحة انتفاء الثواب دون العكس، فكان ما ذهبنا إليه أقل إضمارا فهو أولى، ولأن إضمار الجواز والصحة يؤدي إلى نسخ الكتاب بخبر الواحد، وهو ممتنع، ولأن العامل في قوله "بالنية" مقدر بإجماع النحاة ولا يجوز أن يتعلق بالأعمال لأنها رفع بالابتداء، فيبقى بلا خبر فلا يجوز، فالمقدر إما مجزئة أو صحيحة، أو مثيبة، فمثيبة أولى بالتقدير لوجهين:

ص: 242

أحدهما: أن عدم النية لا يبطل أصل العمل، وعلى إضمار الصحة والإجزاء يبطل، فلا يبطل بالشك.

الثاني: أن قوله "لكل امرئ ما نوى" يدل على الثواب والأجر؛ لأن الذي له إنما هو الثواب، وأما العمل فعليه. انتهى.

قال العراقي: وفيه نظر من وجوه:

أحدها: أنه لا حاجة إلى إضمار محذوف من الصحة، أو الكمال، أو الثواب، إذ الإضمار خلاف الأصل، وإنما المراد حقيقة العمل الشرعي فلا يحتاج حينئذ إلى إضمار، وأيضا فلابد من إضمار شيء يتعلق به الجار والمجرور فلا حاجة لإضمار مضاف لأن تقليل الإضمار أولى فيكون التقدير إنما الأعمال، وجودها بالنية ويكون المراد الأعمال الشرعية.

والثاني: أن قوله: إن تقدير الثواب أقل إضمارا لكونه يلزم من انتفاء الصحة انتفاء الثواب دون العكس فلا نسلم أن فيه تقليل الأضمار لأن المحذوف واحد، ولا يلزم من تقدير الصحة تقدير ما يترتب على نفيها من نفي الثواب ووجوب الإعادة، وغير ذلك فلا نحتاج إلى أن نقدر إنما صحة الأعمال والثواب وسقوط القضاء مثلا بالنية، بل المقدر واحد وإن ترتب على ذلك الواحد شيء آخر فلا يلزم تقديره.

والثالث: أن قوله: إن تقدير الصحة يؤدي إلى نسخ الكتاب بخبر الواحد فإنه أراد به أن الكتاب دال على صحة العمل بغير نية لكون النية لم تذكر في الكتاب فهذا ليس بنسخ، وأيضا فالثواب مذكور في قوله تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: آية 5]، فهذا هو القصد، والنية ولو سلم أن فيه نسخ الكتاب بخبر الواحد فلا مانع من ذلك عند أكثر أهل الأصول.

ص: 243

والرابع: أن قوله ان تقدير الصحة يبطل العمل،، ولا يبطل بالشك، ليس بجيد، بل إذا تيقنا شغل الذمة بوجوب العمل لم نسقطه بالشك ولا تبرأ الذمة إلا بيقين فحمله على الصحة أولى لتيقن البراءة به.

والخامس: أن قوله: إن الذي له إنما هو الثواب، وأما العمل فعليه، والأحسن في التقدير أن لا يقدر حذف مضاف فإنه لا حاجة إليه، ولكن يقدر شيء يتعلق به الجار والمجرور، فإنه لابد من تقديره كما تقدم، إنما الأعمال وجودها بالنية، ونفي الحقيقة أولى، والمراد نفي العمل الشرير وإن وجد صورة الفعل في الظاهر فليس بشرعي عند عدم النية. اهـ طرح جـ 2/ ص 8.

المسألة السادسة عشرة:

قال العراقي رحمه الله: يحتمل أن يكون معنى "إنما الأعمال بالنيات" من لم ينو الشيء لم يحصل له، ويحتمل أن يكون المراد من نوى شيئا لم يحصل له غيره.

قال ابن دقيق العيد: وبينهما فرق وإلى هذا يشير قوله "فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" انتهى.

وهذا يؤدي إلى أن التشريك في النية مفسد لها، وقد ورد لكل من الاحتمالين ما يؤكده، فمما يؤكد هذا الاحتمال ما رواه النسائي من حديث أبي أمامة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء له" الحديث، وفيه "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه".

ويدل للاحتمال الأول ما رواه النسائي أيضا من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا

ص: 244

عقالا فله ما نوى" فإتيانه بصيغة الحصر يقتضي أنه إذا نوى مع العقال شيئا آخر كان له ما نواه والله أعلم اهـ.

المسألة السابعة عشرة:

قوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى" قال العلامة الصنعاني رحمه الله: اختلف الناظرون هل هذه الجملة مؤكدة لما قبلها أم لا؟ والذي يظهر أنها مستأنفة لأنه بَيَّنَ في الأولى أن صحة الأعمال بالنيات، وهو حكم للأعمال صريح ثم بَيَّنَ في هذه الجملة ما يخص العاملين، وقول الشارح (يعني ابن دقيق العيد) يقتضي أن من نوى شيئا حَصَل له أي سواء عمله أو منعه عنه مانع يعذر شرعا معه بعدم عمله، وهذا صحيح موافق للأحاديث الكثيرة الواردة بثبوت الأجر لمن نوى خيرا ولم يعمله، كحديث "رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل بعلمه في ماله، وينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول: لو كان لي مثل مال هذا عملت فيه مثل العمل الذي يعمل، فهما في الأجر سواء" إلا أنه قد خرج بدليل آخر من هذه القاعدة عدة مسائل: فمنها ذكر الله كالتسبيح، فإنه لا يحتاج إلى نية لأنه يتميز بنفسه وإنما يحتاج إلى القيد، ومنها الألفاظ الصريحة من المعاملات في الطلاق والنكاح ونحوها، ومنها إذا وقع في الماء الكثير ثوب متنجس فإنه يطهر، ومنها من حج أو اعتمر عن غيره ولم يكن قد أدى ذلك عن نفسه فإنه ينقلب له مع أنه نواه عن غيره، ومنها إذا أحرم بالحج في غير أشهره فإنه ينقلب عمرة وغير ذلك مما يعرفه من تتبع فروع الكليات. اهـ العدة جـ 1/ ص 76.

وقال الحافظ في الفتح: قال القرطبي فيه (أي في قوله: إنما لكل امرئ الخ): تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال، فجنح إلى أنها مؤكدة، وقال غيره: بل تفيد غير ما أفادته الأولى؛ لأن الأولى

ص: 245

نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها، فيترتب الحكم على ذلك، والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه.

وقال ابن دقيق العيد: الجملة الثانية تقتضي أن مَنْ نوى شيئا يحصل له (يعني إذا عمله بشرائطه أو حال دون عمله له ما يعذر به شرعا بعدم عمله) وكل ما لم ينوه لم يحصل له.

ومراده بقوله: لم ينوه أي لا خصوصا ولا عموما، أما إذا لم ينو شيئا مخصوصا لكانت هناك نية عامة تشمله، فهذا مما اختلفت فيه أنظار العلماء، ويتخرج عليه من المسائل ما لا يُحصى، وقد يحصل غير المنوي لمدرَك آخر، كمن دخل المسجد فصلى الفرض أو الراتبة قبل أن يقعد، فإنه يحصل له تحية المسجد نواها أو لم ينوها؛ لأن القصد بالتحية شَغْل البُقْعة، وقد حصل، وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة فإنه لا يحصل له غسل الجمعة علي الراجح؛ لأن غسل الجمعة ينظر فيه إلى التعبد لا إلى محض التنظيف فلابد فيه من القصد إليه بخلاف تحية المسجد، والله أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه:

إنه لا يظهر لي فرق بين هاتين المسألتين: تحية المسجد، وغسل الجمعة، حيث جعلوا الأولى مما لا ينظر فيه جهة التعبد، والثانية جعلوها مما ينظر فيه جهة التعبد، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" كما قال "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل" وما ثَمَّ نص يُفَرِّق بينهما، فالظاهر أنهما عبادتان يحتاج فيهما إلى النية فلا يحصل كل منهما إلا إذا نواه، والله أعلم.

قال الحافظ: وقال النووي: أفادت الجملة الثانية اشتراط تعيين المنوي كمن عليه صلاة فائتة لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتى يعينها

ص: 246

ظهرا مثلا، أو عصرا، ولا يخفى أن محله إذا لم تنحصر الفائتة.

وقال ابن السمعاني في أماليه: أفادت أن الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثواب إلا إذا نوى بها فاعلها القربة كالأكل إذا نوى به القوة على الطاعة. وقال غيره: أفادت أن النيابة لا تدخل في النية، فإن ذلك هو الأصل فلا يرد مثل نية الولي عن الصبي ونظائره، فإنها على خلاف الأصل.

وقال ابن عبد السلام: الجملة الأولى لبيان ما يعتبر من الأعمال، والثانية لبيان ما يترتب عليها، وأفاد أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له كالأذكار، والأدعية، والتلاوة؛ لأنها لا تُرَدَّدُ بين العبادة والعادة، ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع، أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا، ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثوابا، ومن ثم قال الغزالي: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه يُحَصِّل الثواب؛ لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السكوت مطلقا، أي المجرد عن التفكر، قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب، انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لي وقفة هنا أيضا: وذلك أن ما ذَكَرَه، من الأذكار ونحوه داخل في عموم الأعمال، فبأي دليل خرج عنها؟ حتى نقول إنه لا يحتاج إلى النية، بل الظاهر أنه لابد فيه من النية ليثاب عليه، وأما قول الغزالي حركة اللسان الخ، فالظاهر أن المراد به الذكر مع عدم حضور القلب لا مع عدم النية، فلا يلزم من عدم حضور القلب عدم النية فتأمل.

قال الحافظ: ويؤيده (أي قول الغزالي) قوله صلى الله عليه وسلم: "في بضع أحدكم

ص: 247

صدقة" ثم قال في الجواب عن قولهم " أياتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ أرأيت لو وضعها في الحرام"؟.

وأورد على إطلاق الغزالي أنه يلزم منه أن المرء يثاب على فعل مباح لأنه خير من فعل الحرام، وليس ذلك مراده.

وخص من عموم الحديث ما يقصد حصوله في الجملة فإنه لا يحتاج إلى نية تخصه، كتحية المسجد كما تقدم.

قال الجامع: قد علمت ما فيه فيما تقدم.

قال: وكمن مات زوجها فلم يبلغها الخبر إلا بعد مدة العدة، فإن عدتها تنقضي؛ لأن المقصود حصول براءة الرحم، وقد وجد، ومن ثمَّ لم يحتج المتروك إلى نية.

ونازع الكرماني في إطلاق الشيخ محيي الدين كون المتروك، لا يحتاج إلى نية بأن الترك فعل، وهو كف النفس، وبأن التروك إذا أريد بها تحصيل الثواب بامتثال أمر الشارع فلابد فيها من قصد الترك، وتعقب بأن قوله: الترك فعل مختلف فيه، ومن حقّ المستدلّ على المانع أن يأتي بأمر متفق عليه، وأما استدلاله الثاني فلا يطابق المَوْرد؛ لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها؟ والذي أورده هل يحصل الثواب بدونها؟ والتفاوت بين المقامين ظاهر، والتحقيق أن الترك المجرد لا ثواب فيه وإنما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس، فمن لم تخطر المعصية بباله أصلا ليس كمن خطرت فكف نفسه عنها خوفا من الله تعالى، فرجع الحال إلى أن الذي يحتاج إلى النية هو العمل بجميع وجوهه، لا الترك المجرد، والله أعلم.

ص: 248

تنبيه:

قال الكرماني: إذا قلنا: إن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد القصر، ففي قوله:"وإنما لكل امرئ ما نوى" نوعان من الحصر قصر المسند على المسند إليه إذ المراد إنما لكل امرئ ما نواه، والتقديم المذكور. اهـ فتح جـ 1/ ص 20 - 21.

المسألة الثامنة عشرة:

في مذاهب العلماء في اشتراط النية في العبادة:

دل هذا الحديث على اشتراط النية لصحة العبادة وقد اتفق العلماء على ذلك في العبادة المقصودة لعينها التي ليست وسيلة إلى غيرها، وحكى أبو الوليد محمَّد بن أحمد بن رُشْد المالكي في كتابه بداية المجتهد اتفاق العلماء على اشتراط النية في العبادات، وحكى الاختلاف في الوضوء لاختلافهم في أنه وسيلة، أو مقصود، وحَكَى ابن التين السفاقسي أنهم لا يختلفون في أن العبادة المحضة مفتقرة إلى النية والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية.

وذكر النووي في شرح مسلم: أن الأعمال ضربان ضرب تشترط النية لصحته، وحصول الثواب فيه، كالأركان الأربعة، وغير ذلك مما أجمع العلماء أنه لا يصح إلا بنية، وكالوضوء، والغسل، والتيمم، وطواف الحج والعمرة، والوقوف، مما اشترطَ النيةَ فيه بعضُ العلماء.

وضرب لا تشترط النية لصحته، لكن تشترط لحصول الثواب كستر العورة، والأذان، والإقامة، وابتداء السلام، ورده، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإماطة الأذى، وبناء المدارس، والرُّبُط والأوقاف، والهبات، والوصايا، والصدقات، ورد الأمانات، ونحوها. اهـ طرح جـ 2/ ص 11.

ص: 249

المسألة التاسعة عشرة:

في اختلاف العلماء في اشتراط النية في الوضوء:

احتج بالحديث من أوجب النية في الوضوء والغسل، وهو قول الأئمة الثلاثة مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وداود، وأبي ثور، وأبي عبيد، وبه يقول الزهري، وربيعة الرأي شيخ مالك، وهو قول جمهور أهل الحجاز، ويُروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وذهبت طائفة إلى أنه يصح الوضوء والغسل والتيمم بلا نية حكاه ابن المنذر عن الأوزاعي، والحسن بن صالح، وزفر.

وقال أبو حنيفة، وسفيان الثوري: يصح الوضوء والغسل بلا نية ولا يصح التيمم إلا بالنية، وهي رواية عن الأوزاعي ورواية شاذة عن مالك.

واحتج هؤلاء بأن الوضوء ليس مقصودا، وأن المقصود به النظافة، فأشبه إزالة النجاسة، واعترض على الحنفية بأنهم أوجبوها في التيمم، وليس مقصودا، وأجابوا بأنه طهارة ضعيفة فافتقر إلى النية تقوية له، وبأن الله ذكر النية في التيمم {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} أي اقصدوا، وهو النية ولم يذكر ذلك في الوضوء والغسل، واحتجوا أيضا بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء للأعرابي، ولم يَذْكُر له النية مع جهل الأعرابي بأحكام الوضوء، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ونُقضَ عليهم بتعليمه الصلاة للأعرابي المسيء صلاته ولم يذكر له النية، وقد قلتم بوجوبها في الصلاة فما الفرق؟ وإنما بَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم لمن علمه الأفعال الظاهرة التي يقف الناظر على تركها لو تركها، فأما القصد للعبادة فكان معلوما عندهم. اهـ طرح بزيادة من المجموع.

قال الجامع عفا الله عنه: والراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من اشتراط النية في الوضوء والغسل لحديث الباب، والله أعلم.

ص: 250

العشرون:

أنه احتُجَّ بهذا الحديث على أبي حنيفة في ذهابه إلى أن الكافر إذا أجنب أو أحدث فاغتسل أو توضأ ثم أسلم أنه لا يجب عليه إعادة الغسل والوضوء، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي، وخالفهم الجمهور في ذلك فقالوا: تجب عليه إعادة الغسل والوضوء؛ لأن الكافر ليس من أهل العبادة، وبعضهم يعلله بأنه ليس من أهل النية. قاله في الطرح جـ 2/ ص 12.

الحادية والعشرون:

فيه حجة على أبي حنيفة حيث ذهب إلى أن المقيم إذا نوى في رمضان صوم قضاء أو كفارة أو تطوع وقع عن رمضان إذ ليس له إلا ما نواه ولم ينو صوم رمضان وتعيينه شرعا لا يغني عن نية المكلف لأداء ما كلف به، وذهب مالك، والشافعي، وأحمد إلى أنه لابد من تعيين رمضان لظاهر الحديث بخلاف الحج، وذهب زفر إلى أن صيام رمضان لا تشترط فيه النية للصحيح المقيم، لتعين الزمان له. انتهى طرح جـ 2/ ص 16.

الثانية والعشرون:

فيه حجة على مالك في اكتفائه بنية واحدة في أول الشهر من رمضان لجميع الشهر، وهي رواية عن أحمد أيضا؛ لأن كل يوم عمل بنفسه، وعبادة مستقلة بدليل ما يتخلل بين الأيام في لياليها مما ينافي الصوم من المفطرات.

وذهب أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى إلى وجوب النية لكل يوم إذ هو عمل، ولا عمل إلا بنية. اهـ طرح.

المسألة الثالثة والعشرون:

فيه حجة لمن ذهب إلى أنه إذا أحرم بالحج في غير أشهره أنه لا ينعقد

ص: 251

عمرة لأنه لم ينو العمرة وإنما له ما نواه، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وهو أحد قولي الشافعي إلا أن الأئمة الثلاثة قالوا: ينعقد إحرامه بالحج، ولكن يكره عندهم الإحرام به قبل أشهره، ولم يختلف قول الشافعي أنه لا ينعقد بالحج، وإنما اختلف قوله هل يتحلل بأفعال العمرة، وهو قوله المتقدم نقله عنه، أو ينعقد إحرامه عمرة وهو نصه في المختصر، وهو الذي صححه الرافعي والنووي، فعلى الأول لا تسقط عنه عمرة الإسلام، وعلى الثاني تسقط عنه اهـ طرح.

المسألة الرابعة والعشرون:

أنه احتج به لأبي حنيفة والثوري ومالك أن الصرورة

(1)

يصح حجه عن غيره، ولا يصح عن نفسه؛ لأنه لم ينوه عن نفسه، وإنما له ما نواه.

وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق والأوزاعي إلى أنه ينعقد عن غيره ويقع ذلك عن نفسه، لما روى أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شُبْرُمَة، فقال:"أحججت قط؟ " قال: لا، قال:"فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة"، وهذه رواية ابن ماجه بإسناد صحيح، وفي رواية أبي داود:"حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" ولك أن تقول ليس فيه تصحيح الإحرام عن نفسه، وإنما أمره أن ينشئ الأحرام عن نفسه، وقد يجاب بأن الظاهر أن هذا كان بعد مجاوزة الميقات، فلو لم يقع الإحرام المتقدم عن فرض نفسه

لأموه بالرجوع إلى الميقات، أو بإخراج دم لمجاوزة الميقات بغير إحرام صحيح، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذا كله على تقدير مجاوزته للميقات، وأما الرواية التي ذكرها الرافعي وغيرها "هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة" فقد رواها البيهقي، ولكنها ضعيفة فيها الحسن بن عُمارة، وهو ضعيف.

(1)

الصرورة هو الذي لم يحج.

ص: 252

واستدل لأبي حنيفة ومن وافقه بما رواه الطبراني، ثم البيهقي من طريقه من حديث ابن عباس أيضا: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يلبي عن نُبَيْشَة فقال: "أيها الملبي عن نبيشة احجج عن نفسك" وهذا ضعيف فيه الحسن بن عمارة وهو متروك، قال البيهقي: يقال إن الحسن بن عمارة كان يرويه ثم رجع عنه إلى الصواب، وقد ذهب محمَّد بن جرير الطبري إلى أن الصرورة إذا نوى الحج عن غيره لم يقع عن نفسه؛ لأنه لم ينوه عنه وإنما له ما نواه ويجب عليه أن ينوي ذلك عن نفسه. اهـ طرح جـ 2/ ص 1

قال الجامع عفا الله عنه: الصواب عندي القول الأول لحديث الملبي عن شُبْرُمَةَ. والله أعلم.

المسألة الخامسة والعشرون:

قال العراقي: إنهم كما اشترطوا النية في العبادة اشترطوا في تعاطي ما هو مباح في نفس الأمر أن لا يكون معه نية تقتضي تحريمه، كمن جامع امرأته أو أمته ظانا أنها أجنبية، أو شرب شرابا مباحًا ظانا على أنه خمر، أو أقدم على استعمال ملكه ظانا أنه لأجنبي ونحو ذلك، فإنه يحرم عليه تعاطي ذلك اعتبارا بنيته وإن كان مباحا له في نفس الأمر، غير أن ذلك لا يوجب حدًا ولا ضمانا، لعدم التعدي في نفس الأمر، بل زاد بعضهم على هذا بأنه لو تعاطى شرب الماء وهو يعلم أنه ماء ولكن على صورة

استعمال الحرام، كشربه في آنية الخمر في صورة مجلس الشراب صار حراما لتشبهه بالشَّرَبَة، وإن كانت نيته لا يتصور وقوعها على الحرام مع العلم بحله، ونحوه، ولو جامع أهله وهو في ذهنه مجامعة مَن تحرم عليه وصوَّر في ذهنه أنه يجامع تلك الصورة المحرمة فإنه يحرم عليه ذلك، وكل ذلك لتشبهه بصورة الحرام. اهـ طرح جـ 2/ ص 18.

ص: 253

المسألة السادسة والعشرون:

قال الخطابي: فيه دليل على أن المُطَلِّقَ إذا طلق بصريح لفظ الطلاق ونوى عددا من أعداد الطلاق، كمن قال لامرأته: أنت طالق ونوى ثلاثا، كان ما نواه من العدد واقعا واحدة أو اثنتين، أو ثلاثا، وإليه ذهب الشافعي، ومالك، وإسحاق، وأبو عبيد، وقال أصحاب الرأي: هي واحدة وهو أحق بها، وكذلك قال سفيان الثوري، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل. اهـ طرح جـ 2/ ص 19.

المسألة السابعة والعشرون:

فيه حجة على أهل الرأي في قولهم في الكنايات في الطلاق كقوله: أنت بائن، أنه إن نوى اثنتين فهي واحدة بائنة لكونها كلمة واحدة، وإن نوى الطلاق ولم ينو عددا فهي واحدة بائنة أيضا، والحديث حجة عليهم.

وذهب الشافعي والجمهور إلى أنه إن نوى اثنتين فهو كذلك وإن لم ينو عددا فهي واحدة رجعية، قال الخطابي: وهذا أشبه بمعنى الحديث وأولى به اهـ طرح جـ 2/ ص 19.

المسألة الثامنة والعشرون:

فيه رد على المرجئة في قولهم: إن الإيمان إقرار باللسان دون الاعتقاد بالقلب، وقد أورده البخاري في آخر كتاب الإيمان محتجا عليهم بذلك، وما ذهبوا إليه مردود بالنصوص القاطعة والإجماع على أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار اهـ طرح جـ 2/ ص 20.

المسألة التاسعة والعشرون:

في حجة على بعض المالكية من أنهم لا يُدَيِّنُون مَن سبق لسانه إلى

ص: 254

كلمة الكفر إذا ادَّعَى ذلك، وخالفهم الجمهور، ويدل لذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك في قصة الرجل الذي ضلت راحلته ثم وجدها، فقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أخطأ من شدة الفرح" والذي جرت به عادة الحكامِ الحُذَّاق منهم اعتبار حال الواقع منه ذلك، فإن تكرر منه ذلك، وعُرفَ منه وقوعه في المخالفات، وقلة المبالات بأمر الدين لم يلتفتوا إلى دعواه، ومن وقع منه ذلك فَلْتَةً، وعرف بالصيانة والتحفظ قبلوا قوله في ذلك، وهو توسط حسن انتهى طرح جـ 2/ ص 20.

المسألة الثلاثون:

فيه حجة لمالك ومن وافقه في إسقاط الحيَل، كمن مَلَّكَ ولده أو غيره مالا له قبل الحول أو باعه أو أتلفه أو بادل به، فرارا من الزكاة، أو باع بالعينة المشهورة، أو تزوج المرأة ليحلها لزوجها، وإن لم يشترط ذاك في نفس العقد، أو مَلَّك الدارَ لغير الشريك لإسقاط الشفعة، أو أوقع عقد الدار التي فيها الشفعة بثمن فيه ما تجهل قيمته كفص ونحوه أو زاد في ثمنها وعوضه عن عشرة آلاف دينار مثلا، ونحو ذلك من الحيل المسقطة للحقوق أو الموقعة في المناهي، وإنما يُخَادع بالنيات مَن لا يطلع عليها، وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري من حديث أنس أن أبا بكر كَتَبَ له فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" وقال في الحديث الصحيح: "يبعثون على نياتهم" والذي نص عليه الشافعي وقطع به جمهور أصحابه كراهة إزالة ملكه للفرار من الزكاة كراهة تنزيه، وجعل بعض أصحاب الشافعي الكرهة للتحريم كقول مالك، وعليه كلام الغزالي في قوله: أثم، وكذلك عندهم البيع بالعينة والاستحلال إذا لم يشترط في العقد، والتحيل لإسقاط الشفعة محمول على الكراهة لا

ص: 255

على التحريم، والحديث حجة لمن قال بالتحريم، والله أعلم.

قال العراقي: ورأيت في كلام بعض أصحاب الشافعي ممن صنف في الألغاز أن الحيل ليس فيها منافاة للشريعة، بل قد ورد الشرع بتعاطي الحيل كقوله تعالى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: آية 44]، فما كان من الحيل هكذا ليس فيه إسقاط حق لمستحق له فهو حسن مشروع، وما أدى من الحيل إلى إسقاط حق الغير فهو مذموم منهي عنه. اهـ طرح جـ 2/ ص 21.

المسألة الحادية والثلاثون:

استدل به على أنه لا يجب القَوَد في شبه العمد؛ لأنه لم ينو قتله، وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة، وصاحبيه، وأحمد، وإسحاق، إلا أنهم اختلفوا في الدية فجعلها الشافعي ومحمد بن الحسن أثلاثا، وجعلها الباقون أرباعا، وجعلها أبو ثور أخماسا، وأنكر مالك شبه العمد، وقال: ليس في كتاب الله إلا الخطأ والعمد، وأما شبه العمد فلا نعرفه.

واستدل الشافعي والجمهور بما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا "ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل" الحديث اهـ طرح جـ 2/ ص 22.

المسألة الثانية والثلاثون:

قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كانت هجرته" الخ، الهجرة بكسر الهاء فعلة من الهَجْر، وهو ضد الوصل، ثم غلب ذلك على الخروج من أرض إلى أرض وترك الأولى للثانية. قاله صاحب النهاية.

وقال ابن دقيق العيد: الهجرة: تقع على أمور:

ص: 256

الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة.

الثانية: من مكة إلى المدينة.

الثالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الرابعة: هجرة من أسلم من أهل مكة.

الخامسة: هجرة ما نهى الله عنه، قال: ومعنى الحديث وحكمه يتناول الجميع غير أن السبب

(1)

يقتضي أن المراد بالحديث الهجرة من مكة إلى المدينة لأنهم نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة ليتزوج امرأة تسمى أم قيس، فسمي مهاجر أم قيس. اهـ إحكام جـ 1/ ص 78.

وقال العراقي: بقي عليه من أقسام الهجرة ثلاثة أقسام وهي الهجرة الثانية إلى الحبشة، فإنهم هاجروا إلى الحبشة مرتين كما هو معروف في السير، ولا يقال كلاهما هجرة إلى الحبشة، فاكتفى بذكر الهجرة إليها مرة فإنه عَدَّد الهجرة إلى المدينة في الأقسام لتعددها، والثانية: هجرة من كان مقيما ببلاد الكفر، ولا يقدر على إظهار الدين فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى بلاد الإسلام، والثالثة: الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن، كما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها" الحديث. ورواه أحمد في مسنده، فجعله من حديث عبد الله بن عمر، قال صاحب النهاية: يريد به الشام لأن إبراهيم لما خرج من العراق مضى إلى الشام وأقام به، انتهى، وروى أبو داود أيضا من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغُوطَة إلى جانب مدينة يقال لها

(1)

كون قصة مهاجر أم قيس لحديث الباب لا يصح، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

ص: 257

دمشق من خير مدائن الشام" فهذه ثمانية أقسام للهجرة. اهـ طرح جـ 2/ ص 22.

وقال الحافظ بن رجب رحمه الله تعالى: وقوله صلى الله عليه وسلم "فمن كان هجرته" الخ، لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بحسب النيات، وأن حظ العامل من عمله نيته من خير أو شر، وهاتان الكلمتان جامعتان وقاعدتان كليتان لا يخرج عنهما شيء، ذكر بعد ذلك مثلا من الأمثال والأعمال التي صورتها واحدة ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات، وكأنه يقول: سائر الأعمال على حذو هذا المثال.

وأصل الهجرة: هجران بلد الشرك والانتقال منه إلى دار الإسلام، كما كان المهاجرون قبل فتح مكة يهاجرون منها إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد هاجر من هاجر منهم قبل ذلك إلى أرض الحبشة إلى النجاشي، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الهجرة تختلف باختلاف المقاصد والنيات بها.

فمن هاجر إلى دار الإسلام حبا لله ورسوله، ورغبة في تعلم دين الإسلام وإظهار دينه حيث كان يعجز عنه في دار الشرك فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقا، وكفاه شرفا وفخرا أنه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله، ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه، لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية الطلوب في الدنيا والآخرة، ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام ليطلب دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها في دار الإسلام فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأول تاجر والثاني خاطب، وليس بواحد منهما مهاجر، وفي قوله "إلى ما هاجر إليه" تحقير لما طلبه من أمر الدنيا، واستهانة به حيث لم يذكر بلفظه، وأيضا أن الهجرة إلى الله ورسوله واحدة فلا تعدد فيها، فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط، والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر، فقد

ص: 258

يهاجر الإنسان لطلب الدنيا مباحةً تارة، ومحرمةً تارة، وإفراد ما يقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر فلذلك قال:"فهجرته إلى ما هاجر إليه" يعني كائنا ما كان.

وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: آية 10] قال: كانت المرأة إذا أتت النبي صلى الله عليه وسلم حلفها بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله. أخرجه ابن أبي حاتم، وابن جرير، والبزار في مسنده.

وخرجه الترمذي في بعض نسخ كتابه مختصرا.

وقد روى وكيع في كتابه عن الأعمش، عن شقيق -هو أبو وائل- قال: خطب أعرابي من الحي امرأة يقال لها أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجته فكنا نسميه مهاجر أم قيس، قال: فقال عبد الله: يعني ابن مسعود: من هاجر يبتغي شيئا فهو له، وهذا السياق يقتضي أن هذا لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان في عهد عبد الله بن مسعود، قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر وتزوجها، وكنا نسميه مهاجر أم قيس،

قال ابن مسعود: من هاجر لشيء فهو له.

وقد اشتهر أن قصة مهاجر أم قيس كانت هي سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم "من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها" وذكر ذلك كثير من المتأخرين في كتبهم، ولم نر لذلك أصلا يصح والله أعلم.

وسائر الأعمال كالهجرة في هذا المعنى، فصلاحها وفسادها بحسب النية الباعثة عليها كالجهاد والحج وغيرهما.

ص: 259

وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم على اختلاف الناس في الجهاد، وما يقصد به من الرياء وإظهار الشجاعة والعصبية وغير ذلك أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" فخرج بهذا كل ما سألوه عنه من المقاصد الدنيوية، ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري: أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليُرَى مكانه فمن قاتل في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وفي رواية لمسلم: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حَميَّة، ويقاتل رياء، فأيُّ ذلك في سبيل الله؟ فذكر الحديث، وفي رواية له أيضا: الرجل يقاتل غضبا، ويقاتل حمية. وخرّج النسائي من حديث أبي أمامة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه".

وخرّج أبو داود من حديث أبي هريرة: أن رجلا قال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد وهو يريد عرضا من عرض الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا أجر له، فأعاد عليه ثلاثا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا أجر له" وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود من حديث معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الغزو غزوان، فأما من ابتغَى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد، فإن نومه ونَبْهَه أجر كله، وأما من غزا فخرا ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض، فإنه لم يرجع بالكفاف".

وخرَّج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الجهاد والغزو، فقال: "إن قاتلت صابرا

ص: 260

محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا، وإن قاتلت مرائيا مكاثرا بعثك الله مرائيا مكاثرا على أي حال قاتلت أو قُتلْت بعثك الله بتلك الحال".

وخرّج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استُشهد فأتيَ به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدتُ، قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جَريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت القرآن فيك، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ فقال: ما تركت من سبيل تحب أن يُنْفَق فيه إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار" وفي الحديث أن معاوية لما بلغه الحديث بكى حتى غُشي عليه، فلما أفاق قال: صدق الله ورسوله، قال الله عز وجل {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود: آية 15].

وقد ورد الوعيد على تعلم العلم لغير وجه الله، كما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" يعني ريحها.

ص: 261

وخرَّج الترمذي من حديث كعب بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يجاري به العلماء أو يصرف وجوه الناس إليه، أدخله الله النار" وخرجه ابن ماجه بمعناه من حديث ابن عمر، وحذيفة، وجابر رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظ حديث جابر:"لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تَخَيَّرُوا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار"

فقال ابن مسعود: لا تعلموا العلم لثلاث: لتماروا به السفهاء، أو لتجادلوا به الفقهاء، أو لتصرفوا وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم وفعلكم ما عند الله فإنه يبقى، ويذهب ما سواه.

وقد ورد الوعيد على العمل لغير الله عموما، كما أخرج الإمام أحمد من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بَشِّرْ هذه الأمة بالسناء والعز والرفعة والدين والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب".

واعلم أن العمل لغير الله أقسام:

فتارة يكون رياء محضا بحيث لا يراد به سوى مرئيات المخلوقين، لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم، قال الله عز وجل:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء: آية 142] وقال تعالى {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: آية 4]، وكذلك وصف الله تعالي الكفار بالرياء المحض في قوله {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال: آية 47] وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة، والحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة، والتي يتعدى نفعها فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن

ص: 262

صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.

وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضا وحبوطه، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يقول الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" وخرجه ابن ماجه ولفظه "فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك" وأخرج الإمام أحمد عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، فإن الله عز وجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي شيئا، فإن جدة عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني" وخرّج الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة، وكان من الصحابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله عز وجل، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك" وخرج البزار في مسنده من حديث الضحاك بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يقول: أنا خير شريك، فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكه، يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله عز وجل فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له، ولا تقولوا هذا لله والرحم، فإنها للرحم وليس لله منها شيء، ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم، فإنها لوجوهكم وليس لله منها شيء" وخرج النسائي بإسناد جيد عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا شيء له، فأعاد عليه ثلاث مرات، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء له" ثم قال: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له

ص: 263

خالصا، وابتغي به وجه الله" وخرج الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله، إني أقف الموقف أريد به وجه الله، وأريد أن يُرَى موطني، فلم يَرُدّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزلت:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: آية 110].

وممن يروى عنه هذا المعنى أن العمل إذا خالطه شيء من الرياء كان باطلا طائفة من السلف منهم: عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، والحسن، وسعيد بن المسيب، وغيرهم، وفي مراسيل القاسم بن

مخيمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله عملا فيه مثقال حبة خردل من

رياء" ولا نعرف عن السلف في هذا خلافا، وإن كان فيه خلاف عن بعض المتأخرين.

فإن خالط نيته الجهاد نية غير الرياء، مثل أخذه أجرة للخدمة، أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة؛ نقص بذلك جهاده، ولم يبطل بالكلية.

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الغزاة إذا غنموا غنيمة تعجلوا ثلثي أجرهم، فإن لم يغنموا شيئا تم لهم أجرهم" وقد ذكرنا فيما مضى أحاديث تدل على أن من أراد بجهاده عرضا من الدنيا أنه لا أجر له، وهي محمولة على أنه لم

يكن له غرض في الجهاد إلا الدنيا.

وقال الإمام أحمد: التاجر والمستأجر والمكاري، أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزواتهم، ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره، وقال أيضا فيمن يأخذ جُعْلا على الجهاد، إذا لم يخرج إلا لأجل الدراهم فلا بأس أن يأخذ كأنه خرج لدينه، فإن أعطي شيئا أخذه، وكذا روي عن عبد الله بن عمرو قال: إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقا فلا بأس بذلك، وأما أن أحدكم إن أعطى درهما

ص: 264

غزا، وإن منع درهما مكث، فلا خير في ذلك. وكذا قال الأوزاعي إذا كانت نية المغازي على الغزو، فلا أرى بأسا، وهكذا يقال فيمن أخذ شيئا في الحج ليحج به إما عن نفسه أو عن غيره، وقد روي عن مجاهد أنه قال في حج الحمال وحج الأجير وحج التاجر: هو تام لا ينقص من أجورهم شيء، وهذا محمول على أن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب.

وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء فلا يضره، فإن كان خاطرا ودفعه فلا يضره، بغير خلاف، فإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك، ويجازَى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف، قد حكاه الإمام أحمد، وابن جرير الطبري، وأرجو أن عمله لا يبطل بذلك وأنه يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن البصري، وغيره، ويستدل لهذا القول بما أخرجه أبو داود في مراسيله عن عطاء الخراساني: أن رجلا قال: يا رسول الله، إن بني سلمة كلهم يقاتل، فمنهم من يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نَجْدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله، فأيهم الشهيد؟ قال: كلهم إذا كان أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا" وذكر ابن جرير أن هذا

الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله كالصلاة والصيام والحج، فأما ما لا ارتباط فيه كالقراءة والذكر وإنفاق المال ونشر العلم، فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه ويحتاج إلى تجديد نية. وكذلك روي عن سليمان ابن داود الهاشمي أنه قال: ربما أحدث بحديث ولي فيه نية، فإذا أتيت على بعضه تغيرت نيتي، فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات، ولا يرد هذا على الجهاد كما في مرسل عطاء الخراساني، فإن الجهاد يلزم بحضور الصف ولا يجوز تركه حينئذ فيصير كالحج.

فأما إذا عمل العمل لله خالصا ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب

ص: 265

المؤمنين بذلك بفضل الله ورحمته واستبشر بذلك لم يضره ذلك.

وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير، يحمده الناس عليه، فقال:"تلك عاجل بشرى المؤمن" أخرجه مسلم، وخرجه ابن ماجه وعنده: الرجل يعمل فيحبه الناس عليه. ولهذا المعنى فسره الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وابن جرير الطبري وغيرهم، وكذلك الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيسره، فإذا اطلع عليه أعجبه،

فقال: "له أجران أجر السر، وأجر العلانية".

ولنقتصر على هذا المقدار من الكلام على الإخلاص والرياء فإن فيه كفاية.

وبالجملة فما أحسن قول سهل بن عبد الله: ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب، وقال يوسف بن الحسين الرازي: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر، وقال ابن عيينة: كان من دعاء مطرف بن عبد الله: اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلتُهُ لك على نفسي ثم لم أوف به لك، وأستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمت. اهـ كلام الحافظ بن رجب في جامع العلوم والحكم، وهو كلام نفيس جدًّا، والله أعلم ص 11 - 16.

المسألة الثالثة والثلاثون:

قال الحافظ العراقي رحمه الله: اختلفت الأحاديث الواردة في الهجرة هل انقطعت بفتح مكة أم هي باقية؟

ص: 266

ففي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا".

وروى البخاري عن ابن عمر قوله: لا هجرة بعد الفتح، وفي رواية له: لا هجرة اليوم، أو بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى البخاري أيضا عن عبيد بن عمير سأل عائشة عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفرُّ أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله مخافة أن يُفتَن عليه، فأما

اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية.

وروى البخاري ومسلم أيضا عن مجاشع بن مسعود قال: انطلقت بأبي معبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة قال: "مضت الهجرة لأهلها، أبايعه على الإسلام والجهاد" وفي رواية أنه جاء بأخيه مجالد، وروى أحمد من حديث أبي سعيد الخدري، ورافع بن خديج، وزيد بن ثابت أيضا:"لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية" فهذه الأحاديث دالة على انقطاع الهجرة.

وروى أبو داود والنسائي من حديث معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".

وروى أحمد من حديث ابن السعدي مرفوعا: "لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل" ورَوَى أيضا من حديث جنادة بن أبي أمية مرفوعا "إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد".

وجمع الخطابي في المعالم بين هذا الاختلاف بأن الهجرة كانت في أول الإسلام فرضا، ثم صارت بعد فتح مكة مندوبا إليها غير مفروضة. قال: فالمنقطعة منها هي الفرض، والباقية منها هي الندب، قال: فهذا

ص: 267

وجه الجمع بين الحديثين على أن بين الإسنادين ما بينهما، حديث ابن عباس متصل صحيح، وحديث معاوية فيه مقال انتهى.

وقال صاحب النهاية: إن الجمع بينهما أن الهجرة هجرتان إحداهما التي وعد الله عليه بالجنة كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويدع أهله وماله، ولا يرجع في شيء منه فلما فتحت مكة انقطعت هذه الهجرة، والثانية من هاجر من الأعراب وغزا مع المسلمين ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة وهو المراد بقوله: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، انتهى.

وفي حديث آخر ما يدل على أن المراد بالباقية هجر السيئات كما رواه أحمد في مسنده من حديث معاوية، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله ابن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الهجرة هجرتان: إحداهما تهجر السيئات، والأخرى تهاجر إلى الله وإلى رسوله، ولا تنقطع

الهجرة ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه وكُفيَ الناسُ العملَ".

وروى أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "جاء رجل أعرابي جَاف جريء، فقال: يا رسول الله أين الهجرة إليك، حيث كنت، أم إلى أرض معلومة، أو لقوم خاصة أم إذا مت انقطعت؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال: أين السائل عن الهجرة؟ قال: ها أنا ذا يا رسول الله قال: إذا أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة فأنت مهاجر، وإن مت بالحضرمة" قال: يعني أرضا باليمامة، وفي رواية له "الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة وتؤتي

الزكاة، ثم أنت مهاجر وإن مت بالحضر" اهـ طرح جـ 2/ ص 24.

المسألة الرابعة والثلاثون:

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: المتقرر عند أهل العربية أن الشرط

ص: 268

والجزاء، والمبتدأ والخبر لابد وأن يتغايرا، وها هنا وقع الاتحاد في قوله "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله" وجوابه أن التقدير: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدا، فهجرته إلى الله ورسوله حكما وشرعا. اهـ إحكام جـ 1/ ص 80.

وقال في الفتح ما نصه: فإن قيل: الأصل تغاير الشرط والجزاء، فلا يقال مثلا من أطاع أطاع، وإنما يقال مثلا من أطاع نجا، وقد وقعا في هذا الحديث متحدين فالجواب أن التغاير يقع تارة باللفظ، وهو الأكثر، وتارة بالمعنى، ويفهم ذلك من السياق، ومن أمثلته قوله تعالى:{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: آية 71] وهو مؤول على إرادة المعهود المستقر في النفس كقولهم: أنت أنت، أي الصَّديق الخالص، وقولهم: هم هم أي: الذين لا يُقَدَّرُ قَدْرُهم، وقول الشاعر:

أنَا أبُو النَّجْم وَشعْري شعْري

أو هو مؤول على إقامة السبب مقام المسبب لاشتهار السبب، وقال ابن مالك: قد يقصد بالخبر الفرد بيانُ الشهرة وعدم التغير، فيتحد بالمبتدأ لفظًا كقول الشاعر (من الطويل):

خَليلي خَليلي دُونَ رَيْب وَرُبَّمَا

ألانَ امرُؤٌ قَوْلًا فَظُنَّ خَليلا

وقد يفعل مثل هذا بجواب الشرط كقولك: من قصدني فقد قصدني، أي فقد قصد مَن عُرف بإنجاح قاصده، وقال غيره: إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر، والشرط والجزاء عُلم منهما المبالغة إما في التعظيم،

وإما في التحقير. اهـ فتح جـ 1/ ص 23.

المسألة الخامسة والثلاثون:

قال العراقي: لم يقل في الجزاء فهجرته إليهما، وإن كان أخصر بل

ص: 269

أتى بالظاهر فقال: "فهجرته إلى الله ورسوله"، وذلك من آدابه صلى الله عليه وسلم في تعظيم اسم الله أن يجمع مع ضمير غيره، كما قال للخطيب "بئس الخطيب أنت" حين قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى. وبَيَّن له وجه الإنكار فقال له: "قل ومن يعص الله ورسوله" وهذا يَدْفَع قول مَن قال: إنما أنكر عليه وقوفه على قوله: ومن يعصهما، وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الضمير في موضع آخر، فقال فيما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد .. الحديث وفيه "من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئا" وقد ظهر بهذا أن ترك جمعهما في ضمير واحد على وجه الأدب، وأنه إنما أنكر على الخطيب ذلك تنبيها على دقائق الكلام، ولأنه قد لا يكون عنده من المعرفة بتعظيم الله تعالى، ما يعلمه صلى الله عليه وسلم من عظمته وجلاله، والله أعلم. اهـ طرح جـ 2/ ص 24.

المسألة السادسة والثلاثون:

قال الحافظ العراقي: الدنيا فُعْلى من الدنو وهو القرب، سميت بذلك لسبقها للآخرة، وفي الدال لغتان الضم وهو الأشهر، والكسر حكاه ابن قتيبة وغيره، وهي مقصورة ليس فيها تنوين بلا خلاف نعلمه بين أهل اللغة والعربية، وحَكَى بعضُ المتأخرين من شراح البخاري أن فيها لغة عربية بالتنوين، وليس بجيد، فإنه لا يعرف في اللغة، وسبب الغلط أن بعض رواة البخاري رواه بالتنوين وهو أبو الهيثم الكشميهني، وأنكر ذلك عليه، ولم يكن ممن يُرجع إليه في ذلك، فأخذ بعضهم يَحكي ذلك لغة كما وقع لهم نحو ذلك في "خُلوف فم الصائم" فحكوا فيه لغتين، وإنما يعرف أهل اللغة الضم، وأما الفتح فرواية مردودة لا لغة. اهـ طرح جـ 2/ ص 25.

ص: 270

قال الجامع عفا الله عنه:

هذا الذي ادعى فيه الغلط من تنوين دنيا ثابت لغة، فقد أثبته في اللسان، و"ق"، وعبارة اللسان: والدنيا: نقيض الآخرة انقلبت الواو فيها ياء، لأن فُعْلى إذا كانت اسما من ذوات الواو أبدلت واوها ياء، كما أبدلت الواو مكان الياء في فَعْلَى يعني بالفتح، فأدخلوها عليها في فُعْلى -يعني بالضم- ليتكافأ في التغيير، قال: وحكى ابن الأعرابي: ماله دنيًا ولا آخرة، فنون دنيا تشبيها لها بفُعْلَل قال: والأصل أن لا تصرف لأنها فُعْلى، والجمع دُنَا مثل الكُبرى والكبر، والصغرى والصُّغَر. اهـ لسان باختصار.

وعبارة "ق" والدنيا نقيض الآخرة: وقد تُنَوَّن. اهـ.

وقال البدر العيني في شرح البخاري بعد ما نقل مثل ما تقدم عن العراقي: ما نصه: جاء التنوين في دنيا في اللغة، قال العجاج (من الرجز):

في جَمْع دُنْيًا طَالَ مَا قد عَنَّتِ

وقال المثلم بن رباح بن ظالم المري: (من الكامل):

إنِّي مُقَسِّمٌ مَا ملكتُ فَجَاعلٌ

أجرًا لآخرَةٍ ودُنْيَا تَنْفَعُ

فإن ابن الأعرابي أنشده بتنوين دُنْيًا، وليس ذلك بضرورة على ما لا يخفى. اهـ جـ 1/ ص 26.

والحاصل أن التنوين ثابت عند أهل اللغة إلا أنه قليل، فلا ينبغي أن يعد غلطا فتبصر، وقال ابن مالك: استعمال دنيا منكرا فيه إشكال، لأنها أفعل تفضيل، فكان حقها أن تستعمل باللام نحو الكبرى

والحسنى، إلا أنها خُلعت عنها الوصفية رأسًا وأجري مُجرى ما لم يك

ص: 271

وصفا، ونحوه قول الشاعر:(بسيط)

وإنْ دَعَوْتَ إلى جُلَّى ومَكْرُمَة

يَوْمًا سَرَاةَ كرَام النَّاس فادعينا

فإن الجُلَّى مونث الأجل، فخلعت عنها الوصفية، وجعلت اسما للحادثة العظيمة.

قال البدر العيني: قلت: من الدليل على جعلها بمنزلة الاسم الموضوع قلب الواو ياء لأنه لا يجوز ذلك إلا في الفُعْلَى الاسم، وقال التميمي: الدنيا تأنيث الأدنى لا ينصرف مثل حبلى لاجتماع أمرين فيهما

أحدهما الوصفية، والثاني لزوم حرف التأنيث.

وقال الكرماني: ليس ذلك لاجتماع أمرين فيها إذ لا وصفية

(1)

هنا بل امتناع صرفه للزوم التأنيث للألف المقصورة، وهو قائم مقام العلتين فهو سهو منه.

وتعقبه العيني قائلا: ليس بسهو منه لأن الدنيا في الأصل صفة لأن التقدير الحياة الدنيا كما في قوله تعالى {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: آية 185] وتركهم موصوفها واستعمالهم إياها نحو الاسم الموضوع لا ينافي الوصفية الأصلية اهـ عمدة جـ 1/ ص 27.

قال الجامع:

في تعقب العيني هذا نظر، بل الصواب ما قاله الكرماني. والله أعلم.

المسألة السابعة والثلاثون:

الجار والمجرور في قوله "إلى الله ورسوله" وفي قوله "إلى دنيا" يتعلق بالهجرة إن كانت كان تامة، أو خبر لكان إن كانت ناقصة، قال

(1)

ولو قال: إذ لا اعتبار للوصفيه هنا، بل امتناع صرفه الخ .. لكان أولى.

ص: 272

الكرماني: فإن قلت لفظ كانت إن كان باقيا في المضي فلا يعلم أن الحكم بعد صدور هذا الكلام من الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا كذلك أم لا؟ وإن نقل بسبب تضمين "مَنْ" لحرف الشرط إلى معنى الاستقبال فبالعكس ففي الجملة الحكم إما للماضي أو للمستقبل، قلت: جاز أن يراد به أصل الكون: أي الوجود مطلقا من غير تقييد بزمان من الأزمنة الثلاثة، أو يقاس أحد الزمانين على الآخر، أو يعلم من الإجماع على أن حكم المكلفين على السواء أنه لا تعارض اهـ قال العيني: في الجواب الأول نظر لا يخفى، لأن الوجود من حيث هو لا يخلو عن زمن من الأزمنة الثلاثة. اهـ

جـ 1/ ص 27.

المسألة الثامنة والثلاثون:

إن قيل: ما فائدة التنصيص على المرأة مع كونها داخلة في مسمى الدنيا؟ أجيب من وجوه:

الأول: أنه لا يلزم دخولها في هذه الصيغة لأن لفظة دنيا نكرة وهي لا تعم في الإثبات، فلا تقتضي دخول المرأة فيها، وتعقب بأنها في سياق الشرط فتعم، قاله في الفتح.

الثاني: أنه للتنبيه على زيادة التحذير فيكون من باب ذكر الخاص بعد العام كما في قوله تعالى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238].

الثالث: أنه إنما خص المرأة بالذكر من بين سائر الأشياء في هذا الحديث لأن العرب كانت في الجاهلية لا تزوج المولى العربية، ولا يزوجون بناتهم إلا من الأكفاء في النسب، فلما جاء الإسلام سَوَّى بين المسلمين في مناكحهم، وصار كل واحد من المسلمين كفؤا لصاحبه، فهاجر كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها حتى سمي بعضهم مهاجر أم

ص: 273

قيس، وتعقبه في الفتح بأنه يحتاج إلى نقل ثابت أن هذا المهاجر كان من الموالي، وأن المرأة كانت عربية، وبأنه ليس ما نفاه عن العرب على إطلاقه، بل قد زوج خلق كثير منهم جماعة من مواليهم وحلفائهم قبل الإسلام وإطلاقه أن الإسلام أبطل الكفاءة في مقام المنع. اهـ فتح جـ 1/ ص 24.

الرابع: أن هذا الحديث ورد على سبب، وهو أنه لما أمر بالهجرة من مكة إلى المدينة تخلف جماعة عنها فذمهم الله بقوله {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97 - 98]، ولم يهاجر جماعة لفقد استطاعتهم فعذرهم واستثناهم بقوله {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ} الآية، وهاجر المخلصون إليه فمدحهم في غير ما موضع من كتابه، وكان في المهاجرين جماعة خالفت نيتهم نية المخلصين: منهم من كانت نيته تزوج امرأة بالمدينة من المهاجرات يقال لها: أم قيس، وادعى ابن دحية أن اسمها قيلة، فسمي مهاجر أم قيس ولا يعرف اسمه، فكان قصده بالهجرة نية التزوج لها، لا لفضيلة الهجرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وبين مراتب الأعمال بالنيات، فلهذا خص ذكر المرأة دون سائر ما ينوي به الهجرة من أفراد الأغراض الدنيوية لأجل تبيين السبب لأنها كانت أعظم أسباب فتنة الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم:"ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" وذكر الدنيا معها من باب زيادة النص على السبب كما أنه لما سئل عن طهورية ماء البحر زاد حل ميتته، ويحتمل أن يكون هاجر لما لها مع نكاحها، ويحتمل أنه هاجر لنكاحها، وغيرُه لتحصيل دنيا من جهة ما

فعرض بها. أفاده العيني. جـ 1/ ص 31.

قال الجامع عفا الله عنه:

يأتي الرد عليه في دعواه كون مهاجر أم قيس سببا لحديث النية في المسألة التالية. إن شاء الله تعالى.

ص: 274

المسألة التاسعة والثلاثون:

قد اشتهر بين الشراح أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس، رواه الطبراني في المعجم الكبير بإسناد رجاله ثقات، من رواية الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود، قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فتزوجها فكنا نسميه مهاجر أم قيس. قاله العراقي.

قال الجامع عفا الله عنه:

قد تقدم عن الحافظ ابن رجب أن كونه سببا لهذا الحديث لا يصح.

والحاصل أن قصة مهاجر أم قيس روي بإسناد رجاله ثقات، ولكن كونه سببا لحديث إنما الأعمال الخ، لا يثبت فتبصر.

ثم اعلم أنه لم يسم أحد ممن صنف في الصحابة هذا الرجل الذي يقال له مهاجر أم قيس، وأما أم قيس، فقد ذكر أبو الخطاب ابن دحية أن اسمها قيلة، قاله العراقي.

المسألة الأربعون:

قال الحافظ العراقي: فإن قيل: ما وجه ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة أم سليم أن أبا طلحة الأنصاري خطبها مشركا، فلما علم أنه لا سبيل له إلا بالإسلام أسلم وتزوجها وحسن إسلامه، وهكذا روى النسائي من حديث أنس قال: تزوج أبو طلحة أمَّ سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها، فقالت: إنى قد أسلمت، فإن أسلمت نكحتك، فأسلم فكان صداق ما بينهما، بوَّب عليه النسائي "التزوج على الإسلام"، وروى النسائي أيضا من حديثه قال: خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله ما

ص: 275

مثلك يا أبا طلحة يرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن أسلمت فذاك مهري، فلا أسألك غيره، فأسلم، فكان ذلك مهرها، قال ثابت: فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرا من أم سليم، الإسلام" الحديث.

وأخرجه ابن حبان في صحيحه، من هذا الوجه فظاهر هذا أن إسلامه كان ليتزوج بها فكيف الجمع بينه وبين حديث الهجرة المذكورة مع كون الإسلام أشرف الأعمال؟

والجواب عنه من وجوه:

أحدها: أنه ليس في الحديث أنه أسلم ليتزوجها حتى يكون معارضا لحديث الهجرة وإنما امتنعت من تزوجه حتى هداه الله للإسلام رغبة في الإسلام لا ليتزوجها، ولا يظن ذلك بأبي طلحة أنه أسلم ليتزوج أم سليم، فقد كان من أجل الصحابة رضي الله عنهم.

قال الجامع عفا الله عنه:

وهذا الجواب من أبعد الأجوبة، فإنه ينافيه سياق الحديث فتبصر.

والوجه الثاني: أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها أنه لا يصح منه الإسلام رغبة فيه، فمتى كان الداعي إلى الإسلام الرغبة في الدين لم يضر معه كونه يعلم أنه يحل له بذلك نكاح المسلمات، ولا ميراث مورثه المسلم ولا استحقاق الغنيمة ونحو ذلك إذا كان الباعث على الإسلام الرغبة في الدين. وذكر ابن بطال عند حديث "الرجل يقاتل للمغنم" من كان ابتداؤه نية الأعمال لله تعالى لم يضره بعد ذلك ما عرض في نفسه وخطر بقلبه من حديث النفس ووسواس الشيطان، ولا يزيله عن حكمه إعجاب اطلاع العباد عليه بعد مضيه إلى ما ندبه الله إليه، ولا سروره بذلك، وإنما المكروه، أن يبدأ بنية غير مخلصة، وحكاه أيضا في موضع

ص: 276

آخر عن الطبري، وأنه حكاه عن قول عامة السلف رضي الله عنهم.

والحق في اجتماع الباعثين أو البواعث على الفعل الواحد أنه لا يخلو إما أن يكون كل واحد منهما أو منها لو انفرد لكان كافيا في الإتيان بالفعل أو يكون الكافي لذلك أحدهما أو لعلة أحدهما فإن كان كل واحد كافيا بالإتيان به فهذا يضر فيه التشريك لقوة الداعي، وإن غلب أحدهما بأن يكون حصوله أسرع إلى وقوع المنوي، وإن كان الباعث على الفعل أحدهما بحيث لو عدم الآخر لم يتخلف عن المنوي فالحكم للقوي، كمن يقوم للعبادة وهو يستحسن اطلاع الناس عليه مع أنه لو علم أنه لو لم يطلع عليه أحد لما صرفه ذلك عنها ولا عن الرغبة فيها فهذا لا يؤثر في صحة عبادته، وإن كان الأكمل في حقه التسوية بين اطلاع الناس وعدم اطلاعهم والأسلم له عدم محبة اطلاعهم.

والوجه الثالث: أنه لا يصح هذا عن أبي طلحة، والحديث وإن كان صحيح الإسناد فإنه معلل يكون المعروف أنه لم يكن حينئذ نزل تحريم المسلمات على الكفار إنما نزل بين الحديبية وبين الفتح حين نزل قوله تعالى {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: آية 10] كما ثبت في صحيح البخاري، فقول أم سليم في هذا الحديث: ولايحل لي أن أتزوجك، شاذ مخالف للحديث الصحيح، وما اجتمع عليه أهل السنن والله أعلم. اهـ طرح جـ 2/ ص 27.

المسألة الحادية والأربعون:

في قول علقمة: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول، ردّ على من يقول إن الواحد إذا ادعى شيئا كان في مجلس جماعة لا يمكن أن ينفرد بعلمه دون أهل المجلس لم يقبل حتى يتابعه غيره عليه كما قاله

بعض المالكية مستدلين بقصة ذي اليدين، وذلك لأنه لا يصح من رواية

ص: 277

أحد عن عمر إلا علقمة، مع كونه حدث به على المنبر كما ثبت في الصحيح بمحضر من الناس، وانفرد علقمة بنقله مع كونه من قواعد الدين بل ذكر ابن بطال أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب به حين وصل إلى دار الهجرة وشهر الإسلام، فإن ثبت ذلك فقد سمعه جمع من الصحابة ولم يروه عنه غير عمر من وجه يصح كما تقدم، وقد أجمع المسلمون على صحته، فلو اشترط شرط متابعة الراوي لما حضره غيره ولم يقبل انفراده به لما قبلوه والله أعلم.

وإنما استفهم النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين لأنه أخبره بخلاف ما كان في ظنه فاحتاج إلى أن يسأل عنه وليس في حديث عمر هذا مخالفة لما رواه غيره من الصحابة فوجب المصير إليه اهـ طرح جـ 2/ ص 27 - 28.

المسألة الثانية والأربعون:

قال ابن بطال

(1)

: ومما يجري بغير النية ما قاله مالك: إن الخوارج إذا أخذوا الزكاة من الناس بالقهر والغلبة أجزأت عمن أخذت منه، ومنها أن أبا بكر الصديق وجماعة من الصحابة أخذوا الزكاة من أهل الردة بالقهر والغلبة ولو لم يجزئ عنهم ما أخذت منهم، قال ابن بطال: واحتج من خالفهم وجعل حديث النية على العموم أن أخذ الخوارج للزكاة غلبة لا ينفك المأخوذ منه من النية لأن معنى النية ذكرها وقت أخذها منه أنه عن الزكاة أخذها المتغلب عليه، وقد أجمع العلماء أن أخذ الإمام الظالم لها يجزئه، فالخارجي في معنى الظالم لأنهم من أهل القبلة وشاهدة التوحيد.

وأما أبو بكر فلم يقتصر على أخذ الزكاة من أهل الردة بل قصد حربهم وغنيمة أموالهم وسبيهم لكفرهم، ولو قصد أخذ الزكاة فقط لرد عليهم ما فضل منها من أموالهم إلى آخر كلامه. اهـ. طرح.

(1)

اسمه: علي بن خلف أبو الحسن القرطبي المتوفى 449 هـ.

ص: 278

المسألة الثالثة والأربعون:

فيه حجة على ابن القاسم في قوله: إن الرجل إذا أعتق عبده عن غيره في كفارة الظهار بغير علمه أنه يجزئه في كفارته، وإن كانت الكفارة فرضا عليه فأسقط كفارة الظهار بغير نية من هي عليه، وذهب أبو حنيفة والشافعي وغيرهم إلى أنه لا يجزئه ذلك وكذلك خالفه من المالكية أشهب وابن المواز والأبهري، وقال القياس أنه لا يجزي لأن المعتق عنه بغير أمره لم ينو عتقه، والمعتق في الكفارات لا يجزي بغير نية وليس كالميت يعتق عنه في الكفارة فإن نيته معدومة. اهـ طرح جـ 2/ ص 29.

المسألة الرابعة والأربعون:

استثنى بعض العلماء من هذا الحديث مما لا تجب فيه النية من الواجبات ما إذا غاب عن المرأة زوجها مدة طويلة ومات ولم تعلم بموته أن عدتها من يوم موته لا من يوم بلغتها وفاته، فالعدة واجبة عليها وقد سقطت عنها بغير نية، كما اتفق عليه الحنفية والمالكية والشافعية فيما حكاه ابن بطال، وأجابوا عن الحديث بأن العدة جعلت لبراءة الرحم، وقد حصلت، وإن لم تعلم المرأة بذلك، وقد أجمعوا أن الحامل التي لم تعلم بوفاة الزوج أو طلاقه تنقضي عدتها بالوضع لبراءة الرحم. اهـ طرح جـ 2/ ص 29.

المسألة الخامسة والأربعون:

مما يستفاد من هذا الحديث:

أنه لا يجوز الإقدام على العمل قبل معرفة الحكم، لأن العمل فيه يكون منتفيا إذا خلا عن النية، ولا يصح نية فعل الشيء إلا بعد معرفة حكمه.

ص: 279

ومنها: أن الغافل لا تكليف عليه لأن القصد يستلزم العلم بالمقصود، والغافل غير قاصد.

ومنها: أن من صام تطوعا بنية قبل الزوال أنه لا يحسب له إلا من وقت النية وهو مقتضى الحديث لكن تمسك من قال بانعطافها بدليل آخر، ونظيره حديث "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها" أي أدرك فضيلة الجماعة أو الوقت، وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى.

ومنها: أن ما ليس بعمل لا تشترط فيه النية، ومن أمثلته: جمع التقديم فإن الراجح من حيث النظر أنه لا تشترط له نية، بخلاف ما رجحه كثير من الشافعية، قال الحافظ: وخالفهم شيخنا شيخ الإسلام

-يعني البلقيني- وقال: الجمع ليس بعمل، وإنما العمل الصلاة، ويقوي ذلك أنه عليه الصلاة والسلام جمع في غزوة تبوك ولم يذكر ذلك للمأمومين الذين معه، ولو كان شرطا لأعلمهم به.

ومنها: أنه يُستدل به على أن العمل إذا كان مضافا إلى سبب، ويَجمعُ مُتَعَددَهُ جنسٌ أن نية الجنس تكفي كمن أعتق عن كفارة ولم يعين كونها عن ظهار أو غيره، لأن معنى الحديث أن الإعمال بنياتها، والعمل هنا القيام بالذي يخرج عن الكفارة اللازمة وهو غير محوج إلى تعيين سبب، وعلى هذا لو كانت عليه كفارة وشك في سببها أجزأه إخراجها بغير تعيين.

ومنها: أن فيه زيادة النص على السبب، لأن الحديث سيق في قصة المهاجر لتزوج المرأة فذكر الدنيا مع القصة زيادة في التحذير والتنفير.

قال الحافظ: وقال شيخنا شيخ الإسلام: فيه إطلاق العام وإن كان سببه خاصا فيستنبط منه الإشارة إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. اهـ فتح جـ 1/ ص 25.

ص: 280

قال الجامع عفا الله عنه:

قد علمت أن السبب الذي ذكروه لم يثبت بطريق صحيح فتبصر.

المسألة السادسة والأربعون:

قد ذكر ابن المنير رحمه الله ضابطا لما تشترط فيه النية مما لا تشترط فيه فقال: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثواب فالنية مشترطة فيه، وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة، وتعاطته الطبيعة قبل الشريعة لملائمة بينهما فلا تشترط النية فيه إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب قال: وإنما اختلف العلماء في بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة، قال: وأما ما كان من المعاني المحضة كالخوف والرجاء فهذا لا يقال باشتراط النية فيه، لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويا،

ومتى فرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته، فالنية فيه شرط عقلي، ولذلك لا تشترط النية للنية فرارا من التسلسل.

وأما الأقوال: فتحتاج إلى النية في ثلاثة مواطن:

أحدها: التقرب إلى الله فرارا من الرياء.

والثاني: التمييز بين الألفاظ المحتملة لغير المقصود.

والثالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان. اهـ فتح الباري جـ 1/ ص 164 - 165.

المسألة السابعة والأربعون:

استنبط من الحديث أنه لا بأس للخطيب أن يورد أحاديث في أثناء الخطبة، وهو كذلك فقد فعله الخلفاء الراشدون أبو بكر وعثمان وعلي أيضا وهو مشهور معروف اهـ طرح جـ 2/ ص 28.

المسألة الثامنة والأربعون:

النية أبلغ من العمل كما قال التيمي، ولهذا تقبل النية بغير العمل،

ص: 281

فإذا نوى حسنة فإنه يُجزَى عليها، ولو عمل حسنة بغير نية لم يجز به.

قال البدر العيني: فإن قيل فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له واحدة، ومن عملها كتبت له عشرا" وروي أيضا أنه قال "نية المؤمن خير من عمله" فالنية في الحديث الأول دون العمل، وفي الثاني فوق العمل وخير منه، قلنا: أما الحديث الأول فلأن الهامّ بالحسنة إذا لم يعملها خالف العامل لأن الهامّ لم يعمل، والعامل لم يعمل حتى هَمَّ ثم عمل.

وأما الثاني: فلأن تخليد الله العبد في الجنة ليس لعمله، وإنما هو لنيته لأنه لو كان لعمله لكان خلوده فيها بقدر مدة عمله أو أضعافه، إلا أنه جازاه بنيته لأنه كان ناويا أن يطيع الله تعالى أبدا لو بقي أبدا، فلما اخترمته منيته دون نيته جزاه الله عليها وكذا الكافر لأنه لو كان يجازى بعمله لم يستحق التخليد في النار إلا بقدر مدة كفره، غير أنه نوى أن يقيم على كفره أبدا لو بقي فجزاه على نيته.

وقال الكرماني: أقول يحتمل أن المراد منه أن النية خير من عمل بلا نية، إذ لو كان المراد خير من عمل مع النية يلزم أن يكون الشيء خيرا من نفسه مع غيره إلى آخر كلامه اهـ عمدة القاري جـ 1/ ص 39.

قال الجامع عفا الله عنه:

حديث "نية المؤمن خير من عمله" ضعيف كما بينه السخاوي في المقاصد الحسنة لكنه قال: وتعدد طرقه يقوي بعضها بعضا والله أعلم.

ومباحث هذا الحديث كثيرة تحتاج إلى مؤلف مستقل، وهذه المسائل المذكورات هنا غَيْض من فَيْض

(1)

، كيف وقد قيل: إنه ثلث الإسلام، وقد أفرده بعضهم بتأليف مستقل، والله الهادي إلى سواء الصراط، اللهم ارزقنا حسن النية فيما نعمل، ويسر لنا الأعمال على وفق السنة، آمين.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

يقال: أعطاه غيْضًا من فَيْض، أي قليلا من كثير. قاله المجد في "ق".

ص: 282

‌61 - الْوُضُوءِ مِنَ الإِنَاءِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الوضوء من الإناء، وهو بضم الواو اسم للحدث، بخلاف ما يأتي في الحديث فإنه بفتحها لما يتوضأ به من الماء، والإناء بالكسر جمعه الآنية، كالوعاء والأوعية وزنا ومعنى، والأواني جمع جمعه، أفاده في المصباح.

76 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا، فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ.

77 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَجِدُوا مَاءً، فَأُتِيَ بِتَوْرٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ

ص: 283

أَصَابِعِهِ، وَيَقُولُ:"حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ، وَالْبَرَكَةِ مِنَ اللهِ عز وجل".

قَالَ الأَعْمَشُ: فَحَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ.

رجال الإسنادين

أما الحديث الأول: ففي إسناده [4]

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني ثقة ثبت [10] تقدم في 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام الفقيه ثقة ثبت فقيه [7] تقدم في 7/ 7.

3 -

(إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) المدني ثقة حجة [4] تقدم في 54/ 68.

4 -

(أنس) بن مالك رضي الله عنه تقدم في 6/ 6.

وأما الحديث الثاني ففيه [9]

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي ثقة حجة فقيه [10] تقدم في 2/ 2.

2 -

(عبد الرزاق) بن همام بن نافع أبو بكر الحمْيَري الصنعاني، أحد الأئمة الأعلام الحفاظ، عن ابن جريج، وهشام بن حسان، وثور بن يزيد، ومعمر، ومالك، وخلائق. وعنه أحمد وإسحاق، وابن المديني، وابن معين، ومحمد بن رافع وخلق. قال أحمد: من سمع منه

ص: 284

بعد ما ذهب بصره، فهو ضعيف السماع، وقال ابن عدي: رحل إليه أئمة المسلمين وثقاتهم، ولم نر بحديثه بأسا إلا أنهم نسبوه إلى التشيع، وقال أحمد: لم أسمع منه شيئا، لكنه رجل يعجبه أخبار الناس، قال ابن سعد: مات سنة 211 عن 85 سنة، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة حافظ مصنف شهير عمي في آخر عمره فتغير، وكان يتشيع من التاسعة.

3 -

(سفيان) بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفى ثقة ثبت حجة [7] تقدم في 33/ 37.

4 -

(الأعمش) سليمان بن مهران أبو محمَّد الكوفي ثقة ثبت [5] تقدم في 17/ 18.

5 -

(إبراهيم) بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي ثقة فقيه يرسل كثيرا [5] تقدم في 29/ 33.

6 -

(علقمة) بن قيس بن عبد الله بن علقمة بن سلامان بن كهيل بن بكر بن النخع النخعي، أبو شبل الكوفي، أحد الأعلام، مخضرم. عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وطائفة. وعنه إبراهيم النخعي، والشعبي، وسلمة بن كهيل، وخلق.

قال إبراهيم: كان يقرأ في خمس، وقال ابن المديني: أعلم الناس بابن مسعود علقمة، والأسود. قال ابن سعد: مات سنة -62 - وقال أبو نعيم: سنة -61 - قيل: عن تسعين سنة اهـ صه.

وفي (ت) ثقة ثبت فقيه عابد من الثانية. مات بعد 60، وقيل: بعد 70 اهـ. أخرج له الجماعة.

7 -

(عبد الله) بن مسعود الصحابي الجليل رضي الله عنه. تقدم في 35/ 39.

8 -

(سالم بن أبي الجعد) رافع الأشجعي الكوفي، أرسل عن عائشة وجماعة، وروى عن عبد الله بن عمرو، وابن عمر، وجابر، وعنه

ص: 285

عمرو بن مرة، وقتادة، والحكم بن عتيبة، وخلق، قال أحمد: لم يلق ثوبان، وقال البخاري: لم يسمع منه، قال أبو نعيم: مات سنة 97، وقيل 8، وقيل 100 أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة وكان يرسل كثيرا من الثالثة.

9 -

(جابر) بن عبد الله الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 31/ 35.

لطائف الإسنادين

من لطائف الإسناد الأول: أنه من رباعياته، وهو من عوالي المصنف وهو الثالث من رباعيات الكتاب، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، وكلهم مدنيون إلا شيخ المصنف فبغلاني، وفيه الإخبار، والعنعنة، والقول.

ومن لطائف الإسناد الثاني: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين مروزي وهو الأول، وصنعاني وهو عبد الرزاق، وكوفيين وهم الباقون.

ثم إن الأعمش يروي هذا الحديث عن شيخين: أحدهما إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، والثاني: سالم بن أبي الجعد، عن جابر، والثاني أعلى من الأول، لأن بينه وبين الصحابي واسطة بخلاف الأول فبينه وبين الصحابي واسطتان.

وفيه أيضا فائدة إسنادية وهي أن في الأول عنعنة الأعمش وهو مدلس، وقد صرح في الثاني بالتحديث.

وفيه عبد الله بالإطلاق، وهو ابن مسعود للقاعدة المعروفة: أنه إذا أطلق عبد الله في الكوفيين فهو ابن مسعود، كما أنه إذا أطلق في المدنيين فهو ابن عمر، وفي مكة فهو ابن الزبير، وفي البصرة فهو ابن عباس،

ص: 286

وفي مصر والشام فهو ابن عمرو بن العاص.

وكذا إذا أطلق عبد الله في غير الصحابة هو ابن المبارك، والله أعلم، وتقدم مرارا. وبالله تعالى التوفيق.

شرح الحديث الأول

(عن أنس) بن مالك رضي الله عنه أنه (قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت) بالحاء المهملة أي قربت، والواو للحال بتقدير قد، أي وقد قربت (صلاة العصر) أي وقتها، وزاد قتادة "وهو بالزوراء" وهو سوق بالمدينة (فالتمس الناس) أي طلبوا (الوضوء) بفتح الواو الذي يتوضأ به، وكذا فيما يأتي، بخلاف ما تقدم في الترجمة فإنه بضمها لأن المراد هناك الحدث (فلم يجدوه) أي الوضوء (فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم)"أتي" بالبناء للمجهول "ورسول الله" نائب الفاعل (بوضوء) بالفتح، وفي بعض الروايات "فأتي بقدح رَحْرَاح" أي واسع، وفي بعضها "زجاج" وفي بعضها "جفنة" وفي بعضها "ميضاة" وفي بعضها "مزادة" وفي رواية ابن المبارك "فانطلق رجل من القوم فجاء بقدح من ماء يسير" وروى المهلب أنه كان مقدار وضوء رجل واحد، قاله البدر العيني في عمدته جـ 2/ ص 332.

(فوضع) النبي صلى الله عليه وسلم (يده) الشريفة (في ذلك الإناء) الذي أتي به (وأمر الناس أن يتوضؤا) وكانوا خمس عشرة مائة، وفي بعض الروايات ثمانمائة وفي بعضها زهاء ثلاثمائة، وفي بعضها ثمانين، وفي بعضها سبعين قاله العيني، قال أنس رضي الله عنه (فرأيت الماء ينبع) فيه ثلاث لغات، ضم الباء، وكسرها، وفتحها، ومعناه يخرج مثل ما يخرج من العين اهـ عمدة جـ 2/ ص 331.

(من تحت أصابعه) صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات "يفور من بين أصابعه"

ص: 287

وفي بعضها "يتفجر من أصابعه كأمثال العيون" وفي بعضها "سكب ماء في ركوة، ووضع إصبعه، وبسطها وغسلها في الماء".

وهذه العجزة أعظم من تفجر الحجر بالماء، وقال المزني: نبع الماء من بين أصابعه أعظم مما أوتيه موسى عليه الصلاة والسلام حين ضرب بعصاه الحجر في الأرض، لأن الماء معهود أن يتفجر من الحجارة، وليس بمعهود أن يتفجر من بين الأصابع، وقال غيره: وأما من لحم ودم فلم يعهد من غيره صلى الله عليه وسلم اهـ عمدة جـ 2/ ص 331.

وجملة قوله "ينبع" قال العيني: في محل نصب على الحال، وقد علم أن الجملة الفعلية إذا وقعت حالا تأتي بلا واو إذا كان فعلها مضارعا مثبتا، قال ابن مالك:

وذَاتُ بَدْء بمضَارع ثَبَتْ

حَوَتْ ضميرًا ومنَ الوَاو خَلَتْ

قال البدر: فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون مفعولا ثانيا لرأيت؟

قلت: إن رأيت هنا بمعنى أبصرت، فلا تقتضي إلا مفعولا واحدا. اهـ عمدة.

(حتى توضئوا من عند آخرهم) قال السندي: أي حتى توضئوا كلهم حتى وصلت النوبة إلى الآخر، "فمن" بمعنى "إلى"، وقيل كلمة "من" للابتداء، والمعنى توضئوا وضوءا ناشئا من عند آخرهم، وكون الوضوء نشأ من آخرهم في وصف التوضؤ يستلزم حصول الوضوء للكل، وهو المراد كناية اهـ، وقال الكرماني:"حتى" للتدريج، و"من" للبيان، أي توضأ الناس حتى توضأ الذين هم عند آخرهم، وهو كناية عن جميعهم، ثم نقل عن النووي أن "من" في "من عند آخرهم" بمعنى "إلى" وهي لغة ثم قال: أقول: ورود "من" بمعنى "إلى" شاذ قلما يقع في فصيح الكلام.

ص: 288

قال البدر العيني: قلت "حتى" هنا حرف ابتداء يعني أنه حرف يبتدأ بعده جملة، أي تستأنف، فتكون اسميه أو فعلية، والفعلية يكون فعلها ماضيا، ومضارعا، ومثال الاسمية قول جرير:(من الطويل)

فَمَا زالَت القَتْلَى تَمُجُّ دمَاءَها

بدجْلَةَ حتَّى مَاءُ دجْلةَ أشْكَلُ

ومثال الفعلية التي فعلها ماض "حتى عفوا" و"حتى توضئوا" ومثال الفعلية التي فعلها مضارع {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: آية 214] في قراءة نافع يعني بالرفع، وقوله "من" للبيان، قلت: إنما تكون "من" للبيان إذا كان فيما قبلها إبهام، ولا إبها هنا لأن التقدير وأمَر الناسَ أن يتوضئوا فتوضؤا حتى توضأ من عند آخرهم، على أن "من" التي للبيان كثيرا ما يقع بعد "ما""ومهما" لإفراط إبهامهما، نحو {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: آية 2] و {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} [الأعراف: آية 132] ومع هذا أنكر قوم مجيء "من" لبيان الجنس، والظاهر أن من ها هنا للغاية، والمعنى: توضأ الناس ابتداء من أولهم حتى انتهوا إلى آخرهم، على أن "من" تأتي على خمسة عشر وجها، والغالب عليها أن تكون للغاية حتى ادعى قوم أن سائر معانيها راجعة إليها، ولم أجد في هذه المعاني الخمسة عشر مجيء "من" بمعنى "إلى"، وادعى الكرماني أنها لغة قوم ولم يبين ذلك، ثم ادعى أنه شاذ.

قال البدر: إن استعمل "من" بمعنى "إلى" في كون كل منهما للغاية، لأن "من" لابتداء الغاية، و"إلى" لانتهاء الغاية يجوز ذلك، لأن الحروف ينوب بعضها عن بعض، والمراد بالغاية في قولهم ابتداء الغاية وانتهاء الغاية جميع المسافة، إذ لا معنى لابتداء الغاية وانتهاء الغاية، فيكون معنى الحديث: حتى توضئوا وانتهوا إلى آخرهم، ولم يبق منهم أحد، والشخص وهو آخرهم داخل في هذا الحكم، لأن السياق يقتضي العموم والمبالغة.

ص: 289

قال البدر: فإن قلت: "عند" ظرف خاص واسم للحضور الحسي، فالعموم من أين يأتي؟ قلت:"عند" هنا تجعل لمطلق الظرفية حتى تكون بمعنى "في" كأنه قال: حتى توضأ الذين هم في آخرهم.

وأنس رضي الله عنه داخل في عموم لفظ الناس، ولكن الأصوليون اختلفوا في أن المخاطب بكسر الطاء داخل في عموم متعلق خطابه أمرا أو نهيا أو خبرا، أم غير داخل، والجمهور على أنه داخل اهـ كلام البدر العيني في عمدته جـ 2/ ص 332. وبالله تعالى التوفيق.

شرح الحديث الثاني

(عن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم) أي في سفر كما صرح به في رواية البخاري، والظاهر من صنيع المؤلف أنها غزوة الحديبية، لأنه ذكر حديث جابر بعده لتعيين عدد الناس الذين توضئوا من ذلك الماء، وحديث جابر صرح فيه بأنه كان يوم الحديبية على ما نبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

لكن رأيت الحافظ مال إلى أنها خيبر، وعبارته في الفتح جـ 6 "في كتاب المناقب" في باب "علامات النبوة" ص 684، قوله:"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر" هذا السفر يشبه أن يكون غزوة الحديبية لثبوت نبع الماء فيها كما سيأتي، وقد وقع مثل ذلك في تبوك، ثم وجدت البيهقي في الدلائل جزم بالأول، لكن لم يخرج ما يصرح به، ثم وجدت في بعض طرق هذا الحديث عند أبي نعيم في الدلائل أن ذلك كان في غزوة خيبر، فأخرج من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن إبراهيم، في هذا الحديث "قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، فأصاب الناس عطشٌ شديد، فقال: يا عبد الله التمس لي ماء، فأتيته بفضل ماء في إدواة" الحديث، فهذا أولى، ودل على تكرر

ص: 290

وقوع ذلك حضرا وسفرا. اهـ فتح جـ 6/ ص 684.

قال الجامع عفا الله عنه: إذا كان نبع الماء متعددا، وكان ابن مسعود حاضرا فلا يبعد ما مال إليه الصنف، والبيهقي، ولكن الذي مال إليه الحافط أولى وأقرب لتصريحه في الرواية بخيبر كما تقدم عند أبي نعيم والله أعلم.

ولفظ البخاري في الصحيح في علامات النبوة: عن محمَّد بن المثنى عن أبي أحمد الزبيري، عن إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال:"كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفا، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقلَّ الماء، فقال: اطلبوا لي فضلة من ماء فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الاناء ثم قال: "حَيَّ على الطهور المبارك، والبركة من الله" فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل".

(فلم يجدوا ماء) وفي رواية البخاري السابقة، فقل الماء (فأتي بتور) وفي رواية البخاري، فقال:"اطلبوا لي فضلة من ماء" فجاءوا بإناء فيه ماء قليل.

والتور بفتح التاء وسكون الواو: شبه الطست، وقيل هو الطست. اهـ زهر.

وفي اللسان: التور من الأواني: مذكر قيل هو عربي، وقيل: دخيل. قال الأزهري: التور، إناء معروف تُذَكِّرُهُ العرب، تشرب فيه، وهو إناء من صفر أو حجارة كالإجانة، وقد يتوضأ منه اهـ لسان.

وتقدم أن الذي أتى به هو ابن مسعود، كما في دلائل أبي نعيم، ولفظه: فقال "يا عبد الله التمس لي ماء" فأتيته بفضل ماء في إداوة.

ص: 291

ووقع عند أبي نعيم في الدلائل أيضا من طريق أبي الضحى، عن ابن

عباس، قال:"دعا النبي صلى الله عليه وسلم بلالا بماء، فطلبه فلم يجده فأتاه بشن فيه ماء". الحديث، وفي آخره فجعل ابن مسعود يشرب ويكثر، قال الحافظ: وهذا يشعر بأن ابن عباس حمله عن ابن مسعود، وأن القصة واحدة، ويحتمل أن يكون كل من ابن مسعود، وبلال أحضر الإداوة، فإن الشَّنَّةَ بفتح المعجمة وبالنون هو الإداوة اليابسة. اهـ فتح جـ 6/ ص 684.

(فأدخل) النبي صلى الله عليه وسلم (يده) الشريفة في ذلك التور، قال عبد الله (فلقد رأيت الماء يتفجر) أي يخرج بشدة وقوة، والجملة في محل نصب على الحال من الماء كما تقدم (من بين أصابعه) صلى الله عليه وسلم (ويقول) صلى الله عليه وسلم للناس الحاضرين، والواو يحتمل أن تكون استئنافية، ويدل له رواية البخاري، ثم قال:"حي على الطهور" يحتمل أن تكون حالية، ويقدر بعدها مبتدأ أي هو يقول، لأن المضارع المثبت إذا وقع حالا، لا يقرن بالواو، وإن قرن يقدر بعد الواو مبتدأ، خبره الجملة المضارعية على الأصح كما قال ابن مالك:

وذاتُ بَدْء بمضَارع ثَبَتْ

حَوَتْ ضميرًا ومن الوَاو خَلَتْ

وذاتُ واو بعدَها انْوِ مُبتدا

لهُ المُضَارعَ اجعَلَنَّ مُسْنَدَا

(حي) قال في اللسان: وحي على الغداء، والصلاة، ائتوها، فحي: اسم للفعل، ولذلك علق حرف الجر الذي هو "على" به، وقال الجوهري: وقولهم: حي على الصلاة معناه هلم وأقبل، وفتحت الياء

لسكونها وسكون ما قبلها كما قيل ليث ولعل، والعرب تقول: حي على الثريد، وهو اسم لفعل الأمر. اهـ.

وفي المصباح: وحي على الصلاة ونحوها: دعاء قال ابن قتيبة:

ص: 292

معناه هلم إليها، ويقال: حي على الغداء، وحي إلى الغداء: أي أقبل: ولم يشتق منه فعل. اهـ.

والمعنى هنا: هلموا (على الطهور) بفتح الطاء، والمراد به الماء، ويجوز ضمها، وهو المراد: الفعل: أي تطهروا. قاله في الفتح اهـ جـ 6/ ص 684.

(والبركة من الله عز وجل قال أبو البقاء: والبركة مجرور عطفا على الطهور، أي عطف الوصف على الشيء: مثل أعجبني زيد وعلمه قال: وصفه بالبركة لما فيه من الزيادة والكثرة، ولا معنى للرفع هنا.

قال السندي: لا بُعْدَ في الإخبار بأن البركة من الله تعالى في مثل هذا المقام دفعا لإيهام قدرة الغير عليه، واعترافا بالمنة، وإظهارا للنعمة، لقصد الشكر، فلا وجه لمنع الرفع. اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: الرفع هو الأوضح، وتدل عليه رواية البخاري "حي على الطهور المبارك، والبركة من الله" فوصف الطهور بالمبارك، ثم استأنف بقوله:"والبركة من الله" للعلة التي ذكرها

السندي، وهو الذي اقتصر عليه في الفتح حيث قال: والبركة مبتدأ، والخبر من الله- وهو إشارة إلى أن الإيجاد من الله. اهـ فتح.

وأما التوجيه الذي ذُكرَ في كلام أبي البقاء فغريب، فتأمل.

قال الحافظ: ووقع في حديث عمار بن رُزَيق عن إبراهيم في هذا الحديث "فجعلت أبادرهم إلى الماء أدخلُهُ في جوفي، لقوله: "البركة من الله" وفي حديث ابن عباس "فبسط كله فيه فنبعت تحت يده عين، فجعل ابن مسعود يشرب ويكثر".

والحكمة في طلبه صلى الله عليه وسلم -في هذه المواطن فضلة الماء لئلا يُظَنّ أنه الموجد

ص: 293

للماء، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن الله أجرى العادة في الدنيا غالبا بالتوالد، وأن بعض الأشياء يقع بينها التوالد، وبعضها لا يقع، ومن جملة ذلك ما نشاهده من فوران بعض المائعات إذا خمرت وتركت زمانا، ولم تجر العادة في الماء الصرف بذلك فكانت المعجزة بذلك ظاهرة جدًّا.

اهـ فتح جـ 6/ ص 685.

قال المصنف رحمه الله: (قال الأعمش) بالسند المتقدم فليس هذا معلقا، بل هو موصول غايته أن المصنف يروي حديث الأعمش هذا عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن سفيان، عنه بطريقين، أحدهما عنه عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، وثانيهما عنه عن سالم ابن أبي الجعد عن جابر.

ومقول القول قوله: (فحدثني سالم بن أبي الجعد) الأشجعي الكوفي، واسم أبيه رافع، أنه (قال: قلت لجابر) هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي رضي الله عنهما (كم كنتم يومئذ؟) أي إذ وقعت هذه المعجزة من النبي صلى الله عليه وسلم (قال) جابر رضي الله عنه (ألف وخمسمائة) هكذا بالرفع هنا، ووجهه أنه خبر لمبتدإ محذوف، أي نحن ألف وخمسمائة، وفي رواية البخاري من طريق حُصَين، عن سالم:"فقلت لجابر كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة".

وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الاختلاف في عدتهم في المسائل.

ولم يسق المصنف متن جابر اختصارا، وسنذكره عن رواية البخاري رحمه الله، إن شاء الله تعالى. وبالله تعالى التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بأحاديث الباب

المسألة الأولى: في درجتها: أحاديث الباب متفق عليها.

ص: 294

المسألة الثانية: فيمن أخرجها:

أما حديث أنس رضي الله عنه: فأخرجه البخاري ومسلم، والترمذي والمصنف.

فأما البخاري فأخرجه في الطهارة في الباب 33، عن عبد الله بن يوسف، وفي علامات النبوة الباب 25، الحديث 3 عن القعنبي.

وأما مسلم: فأخرجه في الفضائل الباب 3، الحديث 2، عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن، وفيه أيضا عن أبي الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، عن ابن وهب.

وأما الترمذي: فأخرجه في المناقب: الباب 12، عن إسحاق بن موسى، عن معن.

وأما المصنف فأخرجه هنا: الباب 61، عن قتيبة: خمستهم عن مالك بن أنس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، أفاده المزي.

وأما حديث عبد الله: فأخرجه المصنف هنا: عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن سفيان، عن الأعمش، عن علقمة، عن عبد الله.

وأخرج البخاري نحوه في المناقب الباب 25، الحديث 9، عن محمَّد بن المثنى، والترمذي في المناقب الباب 14، عن محمَّد بن بشار كلاهما عن أبي أحمد الزبيري، عن إسرائيل، عن منصور بن المعتمر،

عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود، وقد تقدم لفظه قريبا.

وأما حديث جابر رضي الله عنه فأخرجه البخاري، ومسلم، والمصنف:

فأما البخاري: فأخرجه في المناقب الباب 25 الحديث 6، عن

ص: 295

موسى بن إسماعيل، عن عبد العزيز بن مسلم، وفي المغازي: الباب 35، الحديث 6، عن يوسف بن عيسى، عن محمَّد بن فضيل: كلاهما عن حُصَين، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال:"عطش الناسُ يوم الحديبية والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة، فتوضأ، فجهش الناسُ نحوه، فقال: ما لكم؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ، ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون وتوضأنا، قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة".

هذا لفظه في المناقب، ولفظه في المغازي قريب منه.

وفي الأشربة الباب 31، عن قتيبة، عن جرير، عن الأعمش، عن سالم الخ، وقال: كنا ألفا وأربعمائة، والباقي بمعناه.

وأما مسلم فأخرجه في المغازي 71، الحديث 6، عن أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير كلاهما عن عبد الله بن إدريس، وعن رفاعة بن الهيثم، عن خالد بن عبد الله كلاهما عن حُصَين، وفي الحديث (5) عن أبي موسى وبندار، كلاهما عن غندر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، وعن عثمان بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن جرير، عن الأعمش، ثلاثتهم عن سالم، عن جابر.

وأخرجه المصنف هنا عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن سفيان، عن الأعمش، نحوه، هكذا قال المزي في تحفة الأشراف جـ 2/ ص 175، نحوه لكن المصنف ما ساق متن جابر، بل سؤال سالم ابن أبي الجعد لجابر: كم كنتم .. الخ فتبصر.

وأخرجه في الكبرى في التفسير عن علي بن الحسين الدرهمي، عن أمية بن خالد، عن شعبة نحوه، قاله الحافظ المزي رحمه الله.

ص: 296

المسألة الثالثة: في بيان الاختلاف في قصة نبع الماء:

إنه وقع اختلاف في قصة نبع الماء من حديث أنس، ومن حديث جابر، ومن حديث غيرهما، وقد بينه الحافظ رحمه الله بيانا شافيا في الفتح، في كتاب المناقب جـ 6/ ص 678 في باب (علامات النبوة) قال رحمه الله:

الحديث الثاني والثالث عن أنس في نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، أورده البخاري من أربعة طرق:

من رواية قتادة، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، والحسن البصري، وحميد، وتقدم عنده في الطهارة من رواية ثابت كلهم عن أنس، وعند بعضهم ما ليس عند بعض.

وظهر لي من مجموع الروايات أنهما قصتان في موطنين للتغاير في عدد من حضر، وهي مغايرة واضحة يبعد الجمع فيها، وكذلك تعيين المكان الذي وقع فيه، لأن ظاهر رواية الحسن أن ذلك كان في سفر،

بخلاف رواية قتادة، فإنها ظاهرة في أنها كانت بالمدينة وسيأتي في غير حديث أنس أنها كانت في مواطن أخر.

وقال بعد ذلك بنحو صفحة: ووقع في رواية همام عن قتادة، عن أنس "شهدت النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عند الزوراء، أو عند بيوت المدينة" أخرجه أبو نعيم، وعند أبي نعيم من رواية شريك بن أبي نمر، عن أنس أنه هو الذي أحضر الماء، وأنه أحضره إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بيت أم سلمة، وأنه رده بعد فراغهم إلى أم سلمة، وفيه قدر ما كان فيه أولا، ووقع في رواية عبيد الله بن عمر، عن ثابت، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى قباء فأتي من بعض بيوتهم بقدح صغير.

ص: 297

ووقع في حديث جابر الآتي التصريح بأن ذلك كان في سفر:

ففي رواية نُبَيح العَنَزي عند أحمد، عن جابر قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضرت الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أمَا في القوم من طهور؟ فجاء رجل بفضلة في إداوة فصبه في قدح، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن القوم أتوا ببقية الطهور، فقالوا: تمسحوا تمسحوا فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "عَلى رسْلكُم" فضرب بيده في القدح في جوف الماء ثم قال: أسبغوا الطهور، قال جابر: فوالذي أذهب بصري، لقد رأيت الماء يخرج من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توضئوا أجمعون، قال: حسبته قال كنا مائتين وزيادة".

وجاء عن جابر قصة أخرى أخرجها مسلم، من وجه آخر عنه في أواخر الكتاب في حديث طويل فيه أن الماء الذي أحضروه له كان قطرة في إناء من جلد لو أفرغها لشربها يابس الإناء، وأنه لم يجد في الركب قطرة ماء غيرها، قال: فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم وغمز بيده ثم قال: ناد

بجفنة الركب فجيء بها، فقال بيده في الجفنة فبسطها ثم فرق أصابعه، ووضع تلك القطرة في قعر الجفنة فقال: خذ يا جابر فصب عليّ، وقال: بسم الله، ففعلت، فقال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ثم فارت الجفنة ودارت حتى امتلأت، فَأتَي الناس فاستَقَوا حتى رووا، فرفع يده من الجفنة وهي ملأى" وهذه القصة أبلغ من جميع ما تقدم لاشتمالها على قلة الماء وعلى كثرة من استقى منه.

وقال الحافظ أيضا في كتاب المغازي، في باب غزوة الحديبية ما نصه:

الحديث الرابع: حديث البراء في تكثير ماء البئر بالحديبية ببركة بصاق النبي صلى الله عليه وسلم فيها ذكره (يعني البخاري) من وجهين عن أبي إسحاق عن البراء،

ص: 298

ووقع في رواية إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء "كنا أربع عشرة مائة" وفي رواية زهير عنه "أنهم كانوا ألفا وأربعمائة أو أكثر".

ووقع في حديث جابر الذي بعده من طريق سالم بن أبي الجعد عنه "أنهم كانوا خمس عشرة مائة" ومن طريق قتادة، قلت لسعيد بن المسيب: بلغني عن جابر "أنهم كانوا أربع عشرة مائة" فقال سعيد: حدثني جابر "أنهم كانوا خمس عشرة مائة" ومن طريق عمرو بن دينار عن جابر "كانوا ألفا وأربعمائة"، ومن طريق عبد الله بن أبي أوفى "كانوا ألفا وثلاثمائة" ووقع عند ابن أبي شيبة من حديث مُجَمِّع بن جارية "كانوا ألفا وخمسمائة".

والجمع بين هذا الاختلاف: أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال ألفا وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال ألفا وأربعمائة ألغاه، ويؤيده قوله في الرواية الثالثة من حديث البراء "ألفا وأربعمائة أو أكثر" واعتمد على هذا الجمع النووي، وأما البيهقي فمال إلى الترجيح، وقال: إن رواية من قال: ألف وأربعمائة أصح، ثم ساقه من طريق أبي الزبير، ومن طريق أبي سفيان كلاهما عن جابر كذلك، ومن رواية معقل ابن يسار وسلمة بن الأكوع، والبراء بن عازب، ومن طريق قتادة عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال الحافظ: قلت: ومعظم هذه الطرق عند مسلم، ووقع عند ابن سعد في حديث معقل بن يسار "زهاء ألف وأربعمائة" وهو ظاهر في عدم التحديد.

وأما قول عبد الله بن أبي أوفي "ألفا وثلاثمائة" فيمكن حمله على ما اطلع هو عليه، واطلع غيره على زيادة ناس لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة، أو العدد الذي ذكره هو عدد المُقَاتلَة، والزيادة

ص: 299

عليها من الأتباع، من الخَدَم، والنساء، والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم.

وأما قول ابن إسحاق: إنهم كانوا سبعمائة فلم يوافق عليه لأنه قاله استنباطا من قول جابر "نحرنا البدنة عن عشرة" وكانوا نحروا سبعين بدنة، وهذا لا يدل على أنهم لم ينحروا غير هذه البدن، مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلا.

وسيأتي في هذا الباب في حديث المسور، ومروان "أنهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بضع عشرة مائة" فيجمع أيضا بأن الذين بايعوا كانوا كما تقدم، وما زاد على ذلك كانوا غائبين عنها، كمن توجه مع عثمان إلى مكة، على أن لفظ البضع يصدق على الخمس والأربع فلا تخالف.

وجزم موسى بن عقبة بأنهم كانوا ألفا وستمائة، وفي حديث سلمة ابن الأكوع عند ابن أبي شيبة ألفًا وسبعمائة، وحكى ابن سعد أنهم كانوا ألفا وخمسمائة وخمسا وعشرين، وهذا إن ثبت تحرير بالغ، قال الحافظ: ثم وجدته موصولا عن ابن عباس عند ابن مردويه، وفيه رد على ابن دحية حيث زعم أن سبب الاختلاف في عددهم أن الذي ذكر عددهم لم يقصد التحديد، وإنما ذكره بالحدس والتخمين والله أعلم.

ثم قال الحافظ بعد ورقة، عند قوله "فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه": هذا مغاير لحديث البراء، أنه صب ماء وضوئه في البئر، فكثر الماء في البئر، وجمع ابن حبان بينهما، بأن ذلك وقع مرتين وسيأتي في الأشربة البيان بأن حديث جابر في نبع الماء كان حين حضرت صلاة العصر عند إرادة الوضوء، وحديث البراء كان لإرادة ما هو أعم من ذلك، ويحتمل أن يكون الماء لما تفجر من أصابعه، ويده في الركوة، وتوضئوا كلهم، وشربوا أمر بصب الماء الذي بقي في الركوة في البئر فتكاثر الماء فيها.

ص: 300

وقد أخرج أحمد من حديث جابر، من طريق نُبَيْح العَنَزيّ، عنه، وفيه "فجاء رجل بإداوة فيها شيء من ماء ليس في القوم ماء غيره، فصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدح، ثم توضأ، فأحسن، ثم انصرف، وترك القدح، قال: فتزاحم الناس على القدح، فقال: "على رسلكم، فوضع كفه في القدح، ثم قال: أسبغوا الوضوء، قال: فلقد رأيت العيون، عيون الماء تخرج من بين أصابعه" ووقع في حديث البراء: أن تكثير الماء كان بصب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءه في البئر، وفي رواية أبي الأسود عن عروة في دلائل البيهقي، أنه أمر بسهم فوضع في قعر البئر فجاشت بالماء.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره الحافظ رحمه الله من وجوه الجمع حسن جدا.

والحاصل أن قصة نبع الماء وقع مرارا في الحضر والسفر، فلذا ذُكر بوجوه متخالفة، وأساليب متغايرة، يُجمع بين شَتَاتها في الحمل المذكور، والله أعلم.

المسألة الرابعة:

قال القاضي عياض رحمه الله: هذه القصة رواها الثقات من العدد الكثير عن الجَمّ الغَفير، عن الكافة متصلة بالصحابة، وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل، ومجمع العساكر، ولم يَرد عن

أحد منهم إنكار على راوي ذلك، فهذا النوع ملحق بالقطعي من معجزاته.

وقال القرطبي: قضية نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم تكررت منه في عدة مواطن في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي.

ص: 301

قال الحافظ: وحديث نبع الماء جاء من رواية أنس عند الشيخين، وأحمد، وغيرهم من خمسة طرق، وعن جابر بن عبد الله من أربعة طرق، وعن ابن مسعود عند البخاري، والترمذي، وعن ابن عباس عند أحمد، والطبراني من طريقين، وعن أبي ليلى والد عبد الرحمن عند الطبراني، فعدد هؤلاء الصحابة ليس كما يفهم من إطلاقهما

(1)

.

وأما تكثير الماء بأن يلسمه بيده، أو يتفل فيه، أو يأمر بوضع شيء فيه كسهم من كنانته فجاء في حديث عمران بن حصين في الصحيحين، وعن البراء بن عازب عند البخاري، وأحمد من طريقين، وعن أبي قتادة عند مسلم، وعن أنس عند البيهقي في الدلائل، وعن زياد بن الحارث الصدائي عنده، وعن حَبَّان بن بُحّ بضم الموحدة وتشديد المهملة الصدائي أيضا، فإذا ضم هذا إلى هذا بلغ الكثرة المذكورة، أو قاربها.

وأما من رواها من أهل القرن الثاني فهم أكثر عددا، وإن كان شطر طرقه أفرادًا.

وبالجملة يستفاد منها الرد على ابن بطال حيث قال: هذا الحديث شهده جماعة كثيرة من الصحابة إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس، وذلك لطول عمره، وتطلب الناس العلو في السند، انتهى.

وهو ينادي عليه بقلة الاطلاع، والاستحضار لأحاديث الكتاب الذي شرحه، وبالله التوفيق.

وقال القرطبي: ولم يسمع بمثل هذه المعجزة من غير نبينا صلى الله عليه وسلم نبع الماء من بين عظمه، وعصبه، ولحمه، ودمه.

وقد نقل ابن عبد البر عن المزني أنه قال: نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى بالعصى،

(1)

أي إطلاق عياض والقرطبي اهـ.

ص: 302

فتفجر منه المياه، لأن خروج الماء من الحجارة معهود بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم، انتهى.

وظاهر كلامه أن الماء نبع من نفس اللحم الكائن في الأصابع، ويؤيده قوله في حديث جابر: فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه، وأوضح منه ما وقع في حديث ابن عباس عند الطبراني: فجاءوا بشن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عليه، ثم فرق أصابعه، فنبع الماء من أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عصى موسى، فإن الماء تفجر من نفس العصا، فتمثيله به يقتضي أن الماء خرج من بين أصابعه.

ويحتمل أن يكون المراد أن الماء كان ينبع من بين أصابعه بالنسبة إلى رؤية الرائي، وهو في نفس الأمر للبركة الحاصلة فيه، يفور ويكثر، وكفه صلى الله عليه وسلم في الماء، فرآه الرائي نابع من بين أصابعه، والأول أبلغ في المعجزة وليس في الإخبار ما يرده وهو أولى اهـ فتح جـ 6/ ص 676 - 677.

المسألة الخامسة:

يستنبط من الحديث:

ما ترجم له المصنف وهو مشروعية الوضوء من الإناء، ولا أعلم فيه خلافا.

وعدم وجوب طلب الماء للتطهر قبل دخول الوقت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم التأخير، فدل على الجواز، وعليه بوب البخاري "باب التماس الوَضُوء إذا حانت الصلاة".

قال البدر العيني: وذكر ابن بطال أن إجماع الأمة على أنه إذا توضأ قبل الوقت فحسن، ولا يجوز التيمم عند أهل الحجاز قبل دخول

ص: 303

الوقت، وأجازه العراقيون.

وفيه دليل على وجوب المواساة عند الضرورة لمن كان في مائه فضل عن وضوئه.

وفيه دليل على أن الصلاة لا تجب إلا بدخول الوقت، واستحباب التماس الماء لمن كان على غير طهارة، وعند دخول الوقت يجب.

وفيه رد على من ينكر المعجزة من الملاحدة.

واستنبط منه المهلب: أن الأملاك ترتفع عند الضرورة، لأنه لما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء لم يكن أحد أحقَّ من غيره، بل كانوا فيه سواء، ونوقش فيه، وإنما تجب المواساة عند الضرورة لمن كان في مائه فضل عن وضوئه، قاله البدر في العمدة جـ 2/ ص 333.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 304

‌62 - بَابُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْوُضُوءِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية التسمية في حال الوضوء، وقد استدل المصنف بحديث الباب على مشروعية التسمية في الوضوء، وكذا ابن خزيمة، والبيهقي، وموضع الاستدلال فيه قوله:"توضئوا باسم الله" لأن الظاهرأن التقدير قائلين هذا اللفظ، وقول الحافظ: لا دلالة في هذه اللفظة صريحة، لمقصودهم غير واضح، فهي وإن لم تكن صريحة ظاهرة الدلالة عليه، وهو المطلوب.

وسيأتي تحقيق المسألة في المسائل التي تأتي في آخر الباب إن شاء الله تعالى مع ذكر اختلاف العلماء.

والتسمية: مصدر سمى: إذا قال باسم الله.

والوضوء: هنا بضم الواو لأن المراد به الفعل.

78 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، وَقَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: طَلَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَضُوءًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مَاءٌ؟ " فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ، وَيَقُولُ:"تَوَضَّئُوا بِسْمِ اللهِ". فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ.

ص: 305

قَالَ ثَابِتٌ: قُلْتُ لأَنَسٍ: كَمْ تُرَاهُمْ؟ قَالَ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ.

رجال الإسناد ستة

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي ثقة حجة [10] تقدم في 2/ 2.

2 -

(عبد الرزاق) بن همام بن نافع أبو بكر الصنعاني ثقة حافظ [9] تقدم في الباب السابق، ح 77.

3 -

(معمر) بن راشد أبو عروة البصري نزيل اليمن ثقة ثبت [7] تقدم في 10/ 10.

4 -

(ثابت) بن أسلم البُنَاني أبو محمد البصري ثقة ثبت عابد [4] تقدم في 45/ 53.

5 -

(قتادة) بن دعامة أبو الخطاب البصري ثقة ثبت [4] تقدم في 30/ 34.

6 -

(أنس) بن مالك بن النضر أبو حمزة الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 6/ 6.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، وأنهم ما بين مروزي، وهو شيخه، ويمنيين وهما عبد الرزاق، وشيخه، وبصريين وهم الباقون.

ص: 306

وأن صحابيه أحد المكثرين السبعة، لأنه روى ألفين ومائتين وستة وثمانين حديثا.

شرح الحديث

(عن أنس) بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (طلب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) وفي رواية للبخاري من طريق حميد عن أنس رضي الله عنه قال "حَضَرَت الصلاةُ، فقام مَن كان قريب الدار من المسجد يتوضأ، وبقي قوم" الحديث فيحتمل أن يكون البعض هم الذين بَقُوا معه صلى الله عليه وسلم (وضوء) بفتح الواو أي ماء الوضوء (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل مع أحد منكم ماء؟ " فوضع يده في الماء) عطف على محذوف تبينه الروايات الأخرى. فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فوضع" (ويقول) صلى الله عليه وسلم جملة حالية بتقدير هو كما تقدم نظيره، أي وضع يده في ذلك الماء قائلا (توضئوا باسم الله) أي قائلين هذا اللفظ على أن الجار والمجرور أريد لفظه، أو متبركين أو مبتدئين، وعَلَى كل تقدير يحصل المطلوب، وهو الاستدلال به على طلب التسمية في الوضوء، وعدل عن الحديث المشهور، وهو "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" لما يأتي من الكلام في أسانيده.

قال أنس رضي الله عنه: (فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه) صلى الله عليه وسلم (حتى توضئوا من عند آخرهم) أي توضئوا كلهم حتى وصلت النوبة إلى الآخر "فمن" بمعنى "إلى"، وقيل كلمة للابتداء، والمعنى توضئوا وضوءا ناشئا من عند آخرهم، وكون الوضوء نشأ من آخرهم في وصف التوضؤ يستلزم حصول الوضوء للكل، وهو المراد كناية، قاله السندي، وتقدم تحقيق الكلام قريبًا.

(قال ثابت) البناني (قلت لأنس) بن مالك رضي الله عنه (كم تراهم؟) بالبناء للمفعول بضبط القلم، أي تظنهم، ويحتمل أن يكون

ص: 307

بالبناء للفاعل: أي تعلمهم (قال) أنس (نحوا) مفعول لفعل محذوف جوازا، أي أراهم نحوا (من سبعين) رجلا.

وفي رواية الحسن عند البخاري، "وكانوا سبعين أو نحوه" وفي رواية حميد عنده قال:"ثمانون رجلا"، وفي رواية قتادة قال:"ثلاثمائة" أو "زهاء ثلاثمائة" وفي رواية عند البخاري في الوضوء من طريق حماد عن ثابت، قال أنس: فحزرت من توضأ ما بين السبعين إلى الثمانين، وفي رواية حميد، كانوا ثمانين وزيادة.

قال الحافظ: والجمع بينهما -أي بين قوله ما بين السبعين إلى الثمانين، وبين قوله ثمانين وزيادة- أن أنسا لم يكن يضبط العدة بل كان يتحقق أنها تنيف على السبعين، وشك هل بلغت العقد الثامن أو تجاوزته، فربما جزم بالمجاوزة حيث يغلب ذلك على ظنه اهـ فتح جـ 1/ ص 364.

قال الجامع عفا الله عنه:

وكذا رواية الباب، ورواية سبعين أو نحوه، ورواية ثمانين رجلا تتفق بهذا الجمع، وأما رواية قتادة ثلاثمائة، فلابد من حملها على تعدد الواقعة. والله أعلم.

قال الحافظ رحمه الله: وظهر لي من مجموع الروايات أنهما قصتان في موطنين للتغاير في عدد من حضر وهي مغايرة واضحة يبعد الجمع فيها، وكذلك تعيين المكان الذي وقع ذلك، لأن ظاهر رواية الحسن أن ذلك كان في سفر، بخلاف رواية قتادة فإنها ظاهرة في أنها كانت بالمدينة. اهـ فتح 6/ 676. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

ص: 308

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث الباب صحيح.

المسألة الثانية: فيمن أخرجه:

حديث الباب بزيادة "توضئوا باسم الله" مما انفرد به المصنف، وإلا فقد تقدم أنه مما أخرجه كلهم إلا أبا داود، وابن ماجه.

المسألة الثالثة: في فوائده:

تقدمت فوائد هذا الحديث في الباب الذي قبله، وزاد هنا التسمية على الوضوء، قال السيوطي رحمه الله: قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: أفعال العباد على ثلاثة أقسام: ما سنت فيه التسمية، وما

لم تسن، وما تكره فيه.

الأول: كالوضوء، والغسل، والتيمم، وذبح المناسك، وقراءة القرآن، ومنه أيضا مباحات كالأكل، والشرب والجماع.

الثاني: كالصلاة والأذان، والحج، والعمرة، والأذكار، والدعوات.

والثالث: المحرمات لأن الغرض من البسملة التبرك في الفعل المشتمل عليه، والحرام لا يراد كثرته، وبركته وكذلك المكروه، قال: والفرق بين ما سنت فيه البسملة من القربات، وبين ما لم تسن فيه عسير

فإن قيل: إنما لم تسن البسملة في ذلك القسم لأنه بركة في نفسه، فلا يحتاج إلى التبريك، قلنا هذا مشكل بما سنت فيه البسملة كقراءة القرآن فإنه بركة في نفسه، ولو بسمل على ذلك جاز، وإنما الكلام في كونه سنة، ولو كانت سنة لنقل عن رسول صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح كما نقل غيره من السنن والنوافل اهـ زهر جـ 1/ ص 61.

ص: 309

المسألة الرابعة: في الكلام على أحاديث البسملة:

وقد لخص الكلام عليها الحافظ في التخليص، فقال: حديث "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي في العلل، وابن ماجه، والدارقطني، وابن السكن، والحاكم، والبيهقي من طريق محمَّد بن موسى المخزومي، عن يعقوب بن سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة بلفظ "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه".

ورواه الحاكم من هذا الوجه، فقال يعقوب بن أبي سلمة، وادعى أنه الماجشون، وصححه لذلك، والصواب أنه الليثي، قال البخاري: لا يعرف سماع من أبيه، ولا لأبيه من أبي هريرة، وأبوه ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ، وهذه عبارة عن ضعفه، فإنه قليل الحديث جدا، ولم يرو عنه سوى ولده، فإن كان يخطئ مع قلة ما روى فكيف يوصف بكونه ثقة.

قال ابن الصلاح: انقلب إسناده على الحاكم، فلا يحتج لثبوته بتخريجه له، وتبعه النووي، وقال ابن دقيق العيد: لو سلم للحاكم أنه يعقوب بن أبي سلمة الماجشون، واسم أبي سلمة سلمة بن دينار،

فيحتاج إلى معرفة حال أبي سلمة، وليس له ذكر في شيء من كتب الرجال، فلا يكون أيضا صحيحًا.

وله طريق أخرى عند الدارقطني، والبيهقي من طريق محمود بن محمَّد الظفري، عن أيوب بن النجار، عن يحيى، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة بلفظ "ما توضأ من لم يذكر اسم الله عليه، وما صلى من لم يتوضأ" ومحمود ليس بالقوي، وأيوب قد سمعه يحيى بن معين يقول: لم أسمع من يحيى بن أبي كثير إلا حديثا واحدا

ص: 310

"التقى آدم وموسى".

وقد ورد الأمر بذلك من حديث أبي هريرة، ففي الأوسط للطبراني، من طريق علي بن ثابت، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة إذا توضأت فقل: بسم الله، والحمد لله، فإن حفَظَتَك لا تزال تكتب لك الحسنات، حتى تحدث من ذلك الوضوء" قال: تفرد به عمرو بن أبي سلمة عن إبراهيم ابن محمَّد

(1)

عنه، وفيه أيضا من طريق الأعرج عن أبي هريرة رفعه "إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها، ويسمي قبل أن يدخلها" تفرد بهذه الزيادة عبد الله بن محمَّد بن يحيى بن عروة، وهو متروك، عن هشام بن عروة، عن أبي الزناد عنه.

وفي الباب عن أبي سعيد، وسعيد بن زيد، وعائشة وسهل بن سعد، وأبي سبرة، وأم سبرة، وعلي، وأنس.

أما حديث أبي سعيد، فرواه أحمد، والدارمي، والترمذي في العلل، وابن ماجه، وابن عدي، وابن السكن، والبزار، والدارقطني، والحاكم والبيهقي، من طريق كثير بن زيد عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، بلفظ حديث الباب، وزعم ابن عدي أن زيد بن الحباب تفرد به عن كثير، وليس كذلك فقد رواه الدارقطني من حديث أبي عامر العقدي وابن ماجه من حديث أبي أحمد الزبيري.

وأما حال كثير بن زيد، فقد قال ابن معين: ليس بالقوي، وقال أبو زرعة: صدوق، فيه لين، وقال أبو حاتم: صالح الحديث ليس بالقوي يكتب حديثه.

وربيح: قال أبو حاتم: شيخ، وقال الترمذي عن البخاري: منكر الحديث، وقال أحمد: ليس بالمعروف، وقال المروزي: لم يصححه

(1)

إبراهيم بن محمَّد بن ثابت الأنصاري، قال الذهبي: روى مناكير. وقال ابن عدي: أحاديثه صالحة محتملة ولعله أتى ممن قد رواه عنه اهـ الكامل جـ 1 ص 260. وقال الحافظ في لسان الميزان في ترجمته: هذا الحديث منكر. انظر لسان جـ 1 ص 98.

ص: 311

أحمد، وقال: ليس فيه شيء يثبت، وقال البزار: روى عنه فليح بن سليمان، وكثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، كل ما روي في هذا الباب فليس بقوي، ثم ذكر أنه روي عن كثير بن زيد، عن الوليد بن أبي رباح عن أبي هريرة، وقال العقيلي: الأسانيد في هذا الباب فيها لين، وقد قال أحمد بن حنبل: إنه أحسن شيء في هذا الباب، وقال السعدي: سئل أحمد عن التسمية فقال: لا أعلم فيه حديثا صحيحا، أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد عن ربيح، وقال إسحاق بن راهويه: هو أصح ما في الباب.

وأما حديث سعيد بن زيد: فرواه الترمذي، والبزار، وأحمد، وابن ماجه، والدارقطني، والعقيلي، والحاكم من طريق عبد الرحمن ابن حرملة، عن أبي ثفَال المُرِّيّ، عن رَباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب عن جدته، عن أبيها، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكر لفظ الترمذي، قال: وقال محمَّد: أحسن شيء في هذا الباب حديث رباح، ولابن ماجه بزيادة "لا صلاة لمن لا وضوء له" وصرح العقيلي والحاكم بسماع بعضهم من بعض، وزاد "ولا يؤمن بالله من لا يؤمن بي، ولا يؤمن بي من لا يحب الأنصار" وزاد الحاكم في روايته: حدثتني جدتي أسماء بنت سعيد بن زيد بن عمرو أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسقط منه ذكر أبيها، وقال الدارقطني في العلل: اختلف فيه فقال وهيب، وبشر بن المفضل، وغير واحد: هكذا، وقال حفص بن ميسرة، وأبو معشر، وإسحاق بن حازم عن ابن حرملة، عن أبي ثفال، عن رباح، عن جدته أنها سمعت، ولم يذكروا أباها، ورواه الدراوردي، عن أبي ثفال، عن رباح، عن ابن ثوبان مرسلا، ورواه صدقة مولى آل الزبير، عن أبي ثفال، عن أبي بكر بن حويطب مرسلا، وأبو بكر بن حويطب هو رباح المذكور. قاله الترمذي.

ص: 312

قال الدارقطني: والصحيح قول وهيب وبشر بن المفضل ومن تابعهما.

وفي المختارة للضياء من مسند الهيثم بن كليب، من طريق وهيب، عن عبد الرحمن بن حرملة سمع أبا غالب، سمعت رباح بن عبد الرحمن حدثتني جدتي أنها سمعت أباها كذا قال، قال الضياء: المعروف أبو ثفال، بدل أبي غالب، وهو كما قال، وصحح أبو حاتم، وأبو زرعة في العلل روايتهما أيضا بالنسبة إلى من خالفهما، لكن قالا: إن الحديث ليس بصحيح، أبو ثفال ورباح مجهولان، وزاد ابن القطان: إن جدة رباح أيضا لا يعرف اسمها، ولا حالها كذا قال، فأما هي فقد عرف اسمها من رواية الحاكم، ورواه البيهقي أيضا مصرحا باسمها، وأما حالها، فقد ذكرت في الصحابة وإن لم يثبت لها صحبة فمثلها لا يسأل عن حالها.

وأما أبو ثفال: فروى عنه جماعة، وقال البخاري في حديثه نظر، وهذه عادته فيمن يضعفه، وذكره ابن حبان في الثقات، إلا أنه قال: لست بالمعتمد على ما تفرد به فكأنه لم يوثقه.

وأما رباح: فمجهول، قال ابن القطان، فالحديث ضعيف جدا، وقال البزار: أبو ثفال مشهور، ورباح وجدته لا نعلمهما رويا إلا هذا الحديث، ولا حدث عن رباح إلا أبو ثفال، فالخبر من جهة النقل لا

يثبت.

وأما حديث عائشة: فرواه البزار، وأبو بكر بن أبي شيبة في مسنديهما، وابن عدي، وفي إسناده حارثة بن محمَّد، وهو ضعيف، وضعف به، قال ابن عدي: بلغني عن أحمد أنه نظر في جامع إسحاق ابن راهويه فإذا هو أول حديث قد أخرجه هذا الحديث فأنكره جدًّا،

ص: 313

وقال: أول حديث يكون في الجامع عن حارثة؟

وروى الحربي عن أحمد أنه قال: هذا يزعم أنه اختار أصح شيء في الباب، وهذا أضعف حديث فيه.

وأما حديث سهل بن سعد، فرواه ابن ماجه والطبراني، وهو من طريق عبد المهيمن بن عباس بن سهل، عن أبيه، عن جده، وهو ضعيف، لكن تابعه أخوه أبي بن عباس، وهو مختلف فيه.

وأما حديث أبي سبرة، وأم سبرة فروى الدولابي في الكنى والبغوي في الصحابة، والطبراني في الأوسط من حديث عيسى بن سبرة بن أبي سبرة عن أبيه عن جده.

وأخرجه أبو موسى في المعرفة، فقال: عن أم سبرة وهو ضعيف.

وأما حديث علي: فرواه ابن عدي في ترجمة عيسى بن عبد الله بن محمَّد بن عمر بن علي،، عن أبيه عن جده عن علي، وقال: إسناده ليس بمستقيم.

وأما حديث أنس فرواه عبد الملك بن حبيب الأندلسي عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بلفظ "لا إيمان لمن لم يؤمن بي، ولا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يسم الله" وعبد الملك شديد الضعف.

نظر العلماء فى أحاديث البسملة:

والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أنه له أصلا.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثبت لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم -قاله، وقال البزار: لكنه مؤول ومعناه أنه لا فضل لوضوء من لم يذكر اسم الله، لا على أنه

ص: 314

لا يجوز وضوء من لم يسم.

واحتج البيهقي على عدم وجوب التسمية بحديث رفاعة بن رافع "لا يتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله، فيغسل وجهه".

واستدل النسائي، وابن خزيمة، والبيهقي، في استحباب التسمية بحديث معمر عن ثابت، وقتادة، عن أنس، قال "طلب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءا، فلم يجدوا، فقال: "هل مع أحد منكم ماء، فوضع يده في الإناء، فقال: توضئوا باسم الله" وأصله في الصحيحين بدون هذه اللفظة، ولا دلالة فيها صريحة لمقصودهم.

وقد أخرج أحمد مثله من حديث نبيح العنزي عن جابر. اهـ تلخيص الحبير جـ 1/ ص 391. نسخة شرح المهذب.

واحتج الرافعي على عدم وجوب التسمية بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهورا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورا لأعضاء وضوئه" قال الحافظ: وسبقه أبو عبيد في كتاب الطهور.

رواه الدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عمر، وفيه أبو بكر الداهري وهو متروك، ورواه الدارقطني من حديث أبي هريرة بلفظ "لم يطهر إلا موضع الوضوء منه" وفيه مرداس بن محمَّد، ومحمد بن أبان، ورواه الدارقطني، والبيهقي من حديث ابن مسعود، بزيادة "فإذا فرغ من طهوره فليشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فإذا قال ذلك: فتحت أبواب السماء" وفي رواية البيهقي "أبواب الرحمة" وفي إسناده يحيى بن هاشم السمسار، وهو متروك، ورواه عبد الملك بن حبيب، عن إسماعيل بن عياش، عن أبان، وهو مرسل ضعيف جدا.

وقال أبو عبيد في كتاب الطهور: سمعت من خلف بن خليفة حديثا

ص: 315

يحدثه بإسناده إلى أبي بكر الصديق، فلا أجدني أحفظه، وهذا مع إعضاله موقوف اهـ تلخيص جـ 1/ ص 393.

وقال النووي رحمه الله: يمكن أن يحتج في المسألة بحديث: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أو بذكر الله" اهـ المجموع جـ 1/ ص 344.

وقد قال رحمه الله في أول الكتاب بعد أن ذكر ألفاظه بقوله عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله، أقطع" وفي رواية "بحمد الله" وفي رواية "بالحمد فهو أقطع" وفي رواية "كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله، فهو أجذم"، وفي رواية "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع".

روينا كل هذه الألفاظ في كعب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي، رويناه فيه من رواية كعب بن مالك الصحابي رضي الله عنه، والمشهور رواية أبي هريرة، وحديثه هذا حديث حسن، رواه أبو داود،

وابن ماجه، في سننيهما، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وأبو عوانة في أول صحيحه المخرج على صحيح مسلم، وروي موصولا ومرسلا، ورواية الموصول إسنادها جيد اهـ المجموع جـ 1/ ص 73.

قال الجامع عفا الله عنه:

هذا الحديث الذي حسنه النووي، وقبله ابن الصلاح قد اختلف في وصله وإرساله، فرجح النسائي، والدارقطني، فيه الإرسال، قاله في النيل.

وقد استوفى الكلام عليه العلامة الألباني في أول إروائه، وقال في آخره: وجملة القول أن الحديث ضعيف لاضطراب الرواة فيه على الزهري، وكل من رواه موصولا ضعيف، أو السند إليه ضعيف،

والصحيح عنه مرسلا كما تقدم عن الدارقطني وغيره اهـ إرواء الغليل جـ 1/ ص 32.

وبالجملة فالحديث ضعيف جدًّا، فلا يصلح للاحتجاج به. وقد أشبعت الكلام في هذا في شرح البسملة أول الكتاب، فارجع إليه تستفد. والله تعالى أعلم.

ص: 316

المسألة الخامسة:

في مذاهب العلماء في التسمية عند الوضوء: اختلف العلماء في التسمية في الوضوء.

قال الإمام النووي رحمه الله: إن التسمية سنة وليست بواجبة، فلو تركها عمدا صح وضوءه، هذا مذهبنا، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وجمهور العلماء، وهو أظهر الروايتين عن أحمد، وعنه رواية أنها

واجبة.

وحكى الترمذي، وأصحابنا عن إسحاق بن راهويه أنها واجبة إن تركها عمدا بطلت طهارته، وإن تركها سهوا أو معتقدا أنها غير واجبة لم تبطل طهارته، وقال أهل الظاهر: هي واجبة بكل حال، وعن أبي حنيفة رواية أنها ليست بمستحبة،، وعن مالك رواية أنه بدعة، ورواية أنها مباحة لا فضيلة في فعلها، ولا تركها. اهـ المجموع جـ 1/ ص 346.

وقال العلامة الشوكاني: وقد ذهب إلى الوجوب والفرضية العترة والظاهرية، وإسحاق وإحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل.

واختلفوا هل هي فرض مطلقا، أو على الذاكر؟ فالعترة على الذاكر.

والظاهرية مطلقا، وذهبت الشافعية والحنفية، ومالك وربيعة، وهو أحد قولي الهادي، إلى أنها سنة ثم ذكر أدلة الفريقين، وهو الذي ذكرناه في المسألة الرابعة، ثم قال: ولا يخفى على الفطن ضعف هذه المستندات وعدم صراحتها، وانتفاء دلالتها على المطلوب، وما

(1)

في الباب إن صلح للاحتجاج أفاد مطلوب القائل بالفرضية: لأن الظاهر أن النفي للصحة لكونها أقرب إلى الذات، وأكثر لزوما للحقيقة، فيستلزم

(1)

يعني حديث "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه".

ص: 317

عدمها عدم الذات، وما ليس بصحيح لا يجزي، ولا يقبل ولا يعتد به، وإيقاع الطاعة الواجبة على وجه يترتب قبولها وإجزاؤها عليه واجب اهـ كلام الشوكاني، نيل جـ 1/ ص 205 - 206.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجح عندي مذهب من قال باستحبابها، وأما أحاديث التسمية وإن قلنا بانتهاضها للاستدلال بها بمجموع طرقها فمحمولة على الاستحباب لا على الوجوب لحديث رفاعة بن رافع الذي تقدم استدلال البيهقي به على عدم الوجوب.

وقد أخرجه هو في سننه بسنده عن رفاعة بن رافع أنه كان جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث في صلاة الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله به بغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح رأسه، ورجليه إلى الكعبين" وذكر الحديث.

قال البيهقي: احتج أصحابنا في نفي وجوب التسمية بهذا الحديث اهـ فهذا الحديث ليس فيه ذكر التسمية فلو كان واجبا لبينه عليه الصلاة والسلام.

والحاصل أن أحاديث التسميه على فرض صحتها مصروفة عن الوجوب إلى الاستحباب بهذا الحديث

(1)

. والله أعلم.

المسألة السادسة:

الظاهر في لفظها قول "باسم الله" كما دل عليه حديث الباب، قال ابن قدامة في المغني: إذا ثبت هذا فإن التسمية هي قول "باسم الله" لا يقوم غيرها مقامها، كالتسمية المشروعة على الذبيحة، وعند أكل الطعام، وشرب الشراب، وموضعها بعد النية قبل أفعال الطهارة كلها

(1)

ولا يرد القول بوجوب المضمضة، والاستنشاق، والاستنثار، لأنها داخلة في غسل الوجه. فتنبه.

ص: 318

لتشمل النية جميع واجباتها، ويكون مسميا على جميعها كما يسمى على الذبيحة وقت ذبحها. اهـ بتصرف جـ 1/ ص 104.

المسألة السابعة:

قد يشكل على أحاديث التسمية في الوضوء ما أخرجه المصنف وابن ماجه عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن حضين بن المنذر، عن المهاجر بن قنفذ، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ، فسلمت عليه، فلم يرد علي، فلما فرغ قال:"إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير وضوء" وروى نحوه أبو داود، وفي رواية "إلا أني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة" رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، فإنه يدل على أن التسمية عند الوضوء ليست مطلوبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كره ذكر الله إلا على طهارة، فيدل على أنه صلى الله عليه وسلم توضأ قبل أن يذكر، والتسمية من الذكر.

ويجاب عنه من وجهين:

الأول: أنه معلول.

والثاني: أنه معارض.

أما كونه معلولا فقد قال ابن دقيق العيد في الإمام: سعيد بن أبي عروبة كان قد اختلط في آخره، فيراعى فيه من سمع منه قبل الاختلاط، قال: وقد رواه النسائي من حديث شعبة عن قتادة، وليس فيه "إنه ليمنعني" الخ ورواه حماد بن سلمة عن حميد، وغيره عن الحسن، عن مهاجر منقطعا فصار فيه ثلاث علل.

وأما كونه معارضا: فبما رواه مسلم عن ابن عباس قال: بت عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم من آخر الليل، فخرج، فنظر إلى السماء

ص: 319

ثم تلا هذه الآية في آل عمران {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} حتى بلغ {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الحديث، وروى البخاري نحوه، ففيه دلالة على جواز ذكر الله تعالى، وقراءة

القرآن مع الحدث.

ومعارض أيضًا بحديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم "كان يذكر الله على كل أحيانه"، أخرجه مسلم، وأبو داود والترمذي، وابن ماجه. أفاده في المنهل جـ 1/ ص 323.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث المهاجر بن قنفذ صحيح، لأن عبد الأعلى سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل اختلاطه، كما ثبت ذلك في ترجمته من تهذيب التهذيب جـ 6 ص 96. وأما الإعلال بالرواية المنقطعة، فلا يضر، لأن من وصل عنده زيادة علم. وأما المعارضة بحديث ابن عباس رضي الله عنه، فغير صحيح، لإمكان الجمع بحمل الكراهة على التنزيه، وخلاف الأولى، والحاصل أن الحديث صحيح سالم من المعارضات. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 320

‌63 - صَبِّ الْخَادِمِ الْمَاءَ عَلَى الرَّجُلِ لِلْوُضُوءِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية صب الخادم على الشخص المتوضئ ماءَ الوضوء ليتوضأ به، وإنما قيده بالصب ليحترز عن الاستعانة بغسل الأعضاء فإنه لم يرد، وسيأتي تمام البحث عنه في المسائل آخر الباب إن شاء الله تعالى.

والصب: السكب: يقال: صَبَّ الماءُ يَصبُّ من باب ضرب صَبًا انسكب، ويتعدى بالحركة -أي بتغيير حركة العين في المضارع من الكسر إلى الضم- فيقال: صَبَبْتُهُ صبًا من باب قتل، أي سكبته، أفاده في المصباح.

والمناسب هنا هو المعنى الثاني: أي سكبُ الخادم الماءَ على المتوضئ ليتوضأ به.

والخادم: واحد الخَدَم بفتحتين: يقع على الذكر والأنثى لإجرائه مجرى الأسماء غير المأخوذة من الأفعال، كحائض وعائق.

وقال ابن سيده: خدمه يخدُمه أي بالضم، ويخدمه أي بالكسر، والكسر عن اللحياني، خَدْمة أي بفتح الخاء عنه، وخدمة أي بكسرها: مَهَنَهُ، وقيل: الفتح المصدر، والكسر الاسم، والذكَر خادم، والجمع خُدّام، والخَدَم: أي بفتحتين: اسم للجمع كالعَزَب والرَّوَح، والأنثى خادم وخادمة، عربيتان فصيحتان، وخَدَم نفسه يَخدُمها، ويَخدمها، كذلك اهـ لسان بإيضاح.

وفي المصباح: خَدَمه يخدُمه: أي بالضم، والكسر، خَدمة: أي بالفتح، والكسر فهو خادم، غلامًا كان أو جارية، والخادمة بالهاء في

ص: 321

المؤنث قليل، والجمع خدم أي بفتحتين، وخدام، وقولهم فلانة خادمة غدًا، ليس بوصف حقيقي، والمعنى ستصير كذلك، كما يقال حائضة غدًا.

وأخدمتها بالألف: أعطيتها خادما، وخدّمتها بالتثقيل للمبالغة والتكثير، واستخدمته: سألته أن يخدمني أو جعلته يخدمني كذلك اهـ.

وقوله: على الرجل: ليس قيدا فالمرأة مثله.

وقوله: الوضوء: بضم الواو لا غير، لأن المراد الفعل.

79 -

أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَيُونُسَ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُمْ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: سَكَبْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تَوَضَّأَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَذْكُرْ مَالِكٌ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ.

رجال الإسناد: عشرة

1 -

(سليمان بن داود) بن حماد بن سعد المَهْري، أبو الربيع بن أخي رشدين المصري.

ص: 322

روى عن أبيه وجده لأمه الحجاج بن رشدين أبي سعد، وعبد الملك الماجشون، وعبد الله بن وهب، وعبد الله بن نافع وغيرهم.

وعنه أبو داود، والنسائي، وعمرو بن بجير، وأبو بكر بن أبي داود، وزكريا الساجي، ومحمد بن زَبَّان الحضرمي، وإبراهيم بن يوسف الهسنجاني، وغيرهم، قال الآجري: ذكر لأبي داود أبو الربيع ابن أخي رشدين، فقال: قَلَّ من رأيت في فضله، وقال النسائي: ثقة، وقال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي في الرحلة الثانية، وقال ابن يونس: كان زاهدا، وكان فقيها على مذهب مالك، حدثني محمَّد بن أحمد بن رشدين، عن أبيه، أن مولده سنة 178، وأن أبا الربيع أخبره بذلك، وتوفي يوم الأحد أول يوم من ذي القعدة سنة 253 قال الحافظ: وذكره ابن حبان في الثقات اهـ تهذيب التهذيب، وفي "ت" ثقة من الحادية عشرة روى عنه أبو داود، والمصنف.

2 -

(الحارث بن مسكين) أبو عمرو المصري قاضيها ثقة فقيه [10] تقدم في 9/ 9.

3 -

(ابن وهب) هو عبد الله أبو محمَّد المصري الفقيه ثقة حجة [9] تقدم في 9/ 9.

4 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة العلم المشهور ثقة فقيه حجة [7] تقدم في 7/ 7.

5 -

(يونس) بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي أبو يزيد ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وَهَمًا قليلا، وفي غير الزهري خطأ [7] وتقدم في 9/ 9.

6 -

(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاري، مولى قيس بن سعد بن عبادة، أبو أمية المصري، الفقيه المقرئ أحد الأئمة، عن أبيه،

ص: 323

والزهري، وعمرو بن شعيب، وخلق، وعنه بكير بن الأشج شيخه، ومالك، والليث، وابن وهب، وخلق.

وثقه ابن معين، وقال ابن وهب: لو بقي لنا عمرو ما احتجنا إلى مالك. قال يحيى بن بكير: مات سنة 148، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة فقيه، حافظ من السابعة.

7 -

(ابن شهاب) محمَّد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب، أبو بكر المدني، العلم المشهور حجة ثقة [4] تقدم في 1/ 1.

8 -

(عباد بن زياد) بن أبيه المعروف أبوه بزياد بن أبي سفيان، أخو عبيد الله بن زياد، يكنى أبا حرب.

روى عن عروة، وحمزة ابني المغيرة بن شعبة، وعنه الزهري، ومكحول، قال مصعب الزبيري: في حديث مالك عن الزهري، عن عباد بن زياد من ولد المغيرة، وعن المغيرة بن شعبة في المسح على الخفين، وغير ذلك ليس له عندهم غيره، أخطأ فيه مالك خطأ قبيحا، والصواب: عن عباد بن زياد، عن رجل من ولد المغيرة، وقال ابن المديني: روى الزهري عن عباد بن زياد، وهو رجل مجهول، لم يرو عنه غير الزهري، وذكره ابن حبان في الثقات وقال خليفة: ولاه معاوية سجستان سنة 53، وقال أبو حسان الزيادي، وابن أبي عاصم: مات سنة 100 هـ.

قال الحافظ: قلت: الذي حكاه مصعب من رواية مالك هو المشهور، ولكن الذي ذكر الدارقطني أن روح بن عبادة رواه عن مالك على الصواب، وذكر أحمد بن خالد الأندلسي: أن يحيى بن يحيى الليثي، قال فيه عن مالك، عن ابن شهاب، عن عباد، عن أبيه المغيرة ووهم فيه يحيى، والصواب إسقاط لفظة "عن أبيه"، وهو كما قال،

ص: 324

والأصل إنما هو الزهري، عن عباد بن زياد، عن ابن المغيرة، عن أبيه المغيرة، وذكر البخاري: أن بعضهم رواه عن مالك كذلك.

وكلام ابن المديني يشعر بأن زيادا والد عباد، ليس هو زيادًا الأمير، لأن عباد بن زياد الأمير مشهور، ليس بمجهول، وقد وقع في رواية يونس بن يزيد، وعمرو بن الحارث، عن الزهري، عن عباد بن زياد من ولد المغيرة أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي، والله أعلم اهـ تهذيب التهذيب، أخرج له مسلم، وأبو داود، والمصنف.

وفي التقريب: عباد بن زياد أخو عبيد الله يكنى أبا حرب، وثقه ابن حبان، وكان والي سجستان سنة 53، ومات سنة 100 هـ.

9 -

(عروة بن المغيرة) بن شعبة الثقفي، أبو يعفور الكوفي، روى عن أبيه، وعائشة رضي الله عنها، وعنه الشعبي، وعباد بن زياد، ونافع بن جبير بن مطعم، وبكر بن عبد الله المزني، والحسن البصري، وغيرهم، قال البخاري: قال الشعبي: كان خير أهل بيته، وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وقال خليفة بن خياط: ولاه الحجاج الكوفة سنة 57، وذكره في تسمية عمال الوليد على الصلاة بالكوفة سنة 90، قال الحافظ: وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من أفاضل أهل بيته، أخرج له الجماعة اهـ تهذيب التهذيب، وفي "ت" ثقة من الثالثة مات بعد التسعين.

10 -

(المغيرة) بن شعبة بن مسعود الثقفي الصحابي المشهور تقدم رضي الله عنه في 16/ 17.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سباعياته،، أن رواته ثقات، وأنهم ما بين مصريين، وهما سليمان، والحارث بن مسكين، وابن وهب،، وعمرو بن

ص: 325

الحارث، ومدنيين، وهما مالك، وابن شهاب، وسجستاني، وهو عباد، وكوفيين، وهما عروة وأبوه.

ومنها: ما في قوله: والحارث بن مسكين قراءة الخ، وقد تقدم غير مرة.

ومنها: ما في قوله واللفظ له، وتقدم أيضا.

ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه.

ومنها: أن فيه الإخبار، والعنعنة، والسماع.

شرح الحديث

(عن عروة بن المغيرة أنه سمع أباه) المغيرة بن شعبة رضي الله عنه (يقول) جملة حالية من المفعول (سكبت) يتعدى، ويلزم، ويقال: سكبت الماء سكبا: صببته، وسكَبَ الماءُ سكبا وسكوبا: انصب، أفاده في المصباح، والمراد هنا المتعدي: أي صببت الماء فالمفعول مقدر، وفي اللسان: السكب: صب الماء، سكب الماءَ والدمعَ ونحوَهما يسكبه سكبا وتَسْكابا، فسَكَبَ، وانسكب: صبه فانصب، وسكب الماءُ بنفسه سُكُوبا وتَسْكَابًا وانسكب بمعنى، وأهل المدينة يقولون: اسكب على يدي اهـ (على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توضأ) الجار والظرف متعلقا بسكب (في غزوة تبوك) الغزوة بالفتح المرة من الغزو، وهو كما في اللسان: السير إلى قتال العدو وانتهابه.

وفي المصباح: غزوت العدو غزوا، فالفاعل غاز، والجمع غُزَاة، وغُزّى، مثل قضاة، ورُكَّع، وجمع الغُزَاة غَزيّ على فَعيل، مثل الحَجيج والغَزْوة المرة، والجمع غَزَوَات مثل شَهْوة وشَهَوات، اهـ.

وتبوك: أرض بين الشام والمدينة اهـ، وفي التاج: ما نصه: وفي

ص: 326

العباب بين وادي القرى والشام، وإليها نسبت غزوة من غزواته صلى الله عليه وسلم.

واختلف في وزنها ووجهة تسميتها، قال الأزهري: فإن كانت التاء في تبوك أصلية فلا أدري اشتقاق تبوك، وإن كانت للتأنيث في المضارع فهي من باكت تبوك، ثم قال: وقد يكون تبوك على تفعول.

وقرأت في الروض للسهيلي: ما نصه: غزوة تبوك سميت بعين تبوك، وهي العين التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن لا يمسوا من مائها شيئا، فسبق إليها رجلان، وهي تَبضُّ بشيء من ماء فجعلا يدخلان فيها سهمين ليكثر ماؤها، فسبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لهما فيما ذكر القتيبي:"ما زلتما تبوكانها منذ اليوم" قال: فبذلك سميت العين تبوك، ووقع في السيرة فقال:"من سبق إلى هذا"؟ فقيل: فلان وفلان، وقال الواقدي فيما ذكر لي سبقه إليها أربعة من المنافقين، مُعَتِّب بن قشير، والحارث بن يزيد الطائي، ووديعة بن ثابت، وزيد بن نصيب اهـ قال في مادة باك جـ 7/ ص 113.

وفي المصباح: باكت الناقة تبوك بَوْكا، سمنت فهي بائك بغير هاء، وبهذا سميت غزوة تبوك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزاها في شهر رجب سنة تسع، فصالح أهلها على الجزية من غير قتال، فكانت خالية عن البؤس، فأشبهت الناقة التي ليس بها هزال، ثم سميت البقعة تبوك بذلك، وهو موضع من بادية الشام، قريب من مدين الذين بعث الله إليهم شعيبا اهـ

(فمسح) النبي صلى الله عليه وسلم (على الخفين) وهذا الحديث مختصر هنا، وقد ذكره بعد بابين بأطول من هذا، وسيأتي تمام الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى.

(قال أبو عبد الرحمن) أحمد بن شعيب النسائي صاحب الكتاب مشيرا إلى خلاف وقع في إسناد هذا الحديث (لم يذكر مالك) بن أنس

ص: 327

الإمام في روايته (عروة بن المغيرة) بل قال: عن عباد بن زياد من ولد المغيرة، عن المغيرة بن شعبة.

وغرض المصنف بهذا الطعن في رواية مالك، حيث إنه خالف غيره من أصحاب الزهري، ولذا خطؤوه في ذلك كما قدمناه في ترجمة عباد ابن زياد، وتقدم أيضا أن الخطأ من يحيى بن يحيى الليثي لا من مالك، إلا أن المشهور الأول فتنبه.

والحاصل أن يونس بن يزيد، وعمرو بن الحارث، اتفقا على الزهري أنه رواه عن عباد بن زياد، عن عروة بن المغيرة، وخالفهما مالك فقال عن الزهري، عن عباد، عن المغيرة، وَوُهِّمَ في ذلك.

وقد ذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في التمهيد في وَهَم مالك من حديث المغيرة هذا كلاما نفيسا ورأيت نقله هنا مُلَخِّصا، لاستيعابه جميع ما يتعلق به على أتم وجه وألخصه، قال رحمه الله:

وأما الحديث الأول (يعني حديث المغيرة في المسح على الخف) فرواه مالك ولم يُقمْهُ وأفسد إسناده، ثم قال: مالك عن ابن شهاب، عن عباد بن زياد من ولد المغيرة بن شعبة، عن أبيه المغيرة بن شعبة، فذكر الحديث، قال: هكذا قال مالك في هذا الحديث عن عباد بن زياد، وهو من ولد المغيرة بن شعبة لم يختلف رواة الموطأ عنه في ذلك، وهو وَهَم وغَلَط منه، ولم يتابعه أحد من رواة ابن شهاب ولا غيرهم عليه، وليس هو من ولد المغيرة بن شعبة عند جميعهم، وزاد يحيى بن يحيى في ذلك أيضا شيئا لم يقله أحد من رواة الموطأ، وذلك أنه قال فيه: عن أبيه المغيرة بن شعبة، ولم يقل أحد فيما علمت في إسناد هذا الحديث عن أبيه المغيرة، غير يحيى بن يحيى وسائر رواة الموطأ عن مالك يقولون: عن ابن شهاب، عن عباد بن زياد، وهو من ولد المغيرة بن شعبة، عن

ص: 328

المغيرة لا يقولون: عن أبيه المغيرة كما قال يحيى، ولم يتابعه واحد منهم على ذلك، كتبت هذا وأنا أظن أن يحيى بن يحيى وهم في قوله عن أبيه حتى وجدته لعبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عباد بن زياد، من ولد المغيرة بن شعبة عن أبيه كما قال يحيى، ذكره أحمد بن حنبل وغيره عن ابن مهدي، وقد ذكرناه، وذكر الدارقطني أن سعد بن عبد الحميد بن جعفر قال فيه: عن أبيه، كما قال يحيى، قال: وهو وهم، قال: رواه روح بن عبادة عن مالك، عن الزهري، عن عباد بن زياد عن رجل من ولد المغيرة عن المغيرة قال: فإن كان روح حفظ فقد أتى بالصواب، لأن الزهري يرويه عن عباد، عن المغيرة، وإسناد هذا الحديث من رواية مالك في الموطأ، وغيره إسناد ليس بالقائم.

لأنه إنما يرويه ابن شهاب عن عباد بن زياد، عن عروة، وحمزة ابني المغيرة بن شعبة، عن أبيهما المغيرة بن شعبة، وربما حدث به ابن شهاب، عن عباد بن زياد، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، ولا يذكر

حمزة بن المغيرة، وربما جمع حمزة وعروة ابني المغيرة في هذا الحديث عن أبيهما المغيرة، ورواية مالك لهذا الحديث عن ابن شهاب، عن عباد ابن زياد، عن المغيرة مقطوعة، وعباد بن زياد لم ير المغيرة، ولم يسمع

منه شيئًا.

أخبرنا عبد الله بن محمَّد بن عبد المؤمن، قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال: حدثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن عباد بن زياد، من ولد المغيرة بن شعبة، عن أبيه فذكر الحديث، سواء كما في الموطأ، قال مصعب: وأخطأ فيه مالك خطأ قبيحًا، ثم ذكر بسنده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثنا

ص: 329

أبي، قال: قرأت على عبد الرحمن يعني ابن مهدي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عباد بن زياد، من ولد المغيرة بن شعبة عن أبيه المغيرة، الحديث.

قال: وقد ذكر عبد الرزاق هذا الخبر عن معمر في كتابه عن الزهري أن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع رسول الله ع صلى الله عليه وسلم في سفر، وذكر الحديث هكذا مقطوعًا، وأظن هذا إنما أوتي من قبل الزهري، والله أعلم، لأن أحمد بن عبد الله بن محمَّد بن علي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أحمد بن خالد، قال: حدثنا قاسم بن محمَّد، قال: حدثنا أبو عاصم خشيش بن أصرم، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عباد بن زياد، عن عروة بن المغيرة بن شعبة، عن المغيرة ابن شعبة، قال: كنت .. الحديث، وحدثني سعيد بن نصر، وعبد الوارث بن سفيان، قالا: حدثنا قاسم بن أصْبَغ، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثني أخي عن سليمان بن بلال، عن يونس عن ابن شهاب، قال: حدثني عباد بن زياد، عن عروة وحمزة ابني المغيرة بن شعبة أنهما سمعا المغيرة بن شعبة يخبر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ على الخفين ثم صلى فيهما".

وروى ابن وهب في موطائه هذا الحديث عن مالك عن يونس بن يزيد، وعمرو بن الحارث، وابن سمعان أن ابن شهاب أخبرهم عن عباد ابن زياد من ولد المغيرة بن شعبة عن عروة بن المغيرة بن شعبة أنه سمع أباه يقول:"سكبت" .. الحديث، ولم يذكر مالك عروة بن المغيرة، ولم يذكر ابن سمعان عبادا هكذا، قال ابن وهب عن هؤلاء كلهم جمَعَهُم في إسناد واحد، ولفظ واحد كما ترى إلا ما خص من ذكر مالك في عروة، وذكر ابن سمعان في عباد بن زياد من ولد المغيرة إلا من رواية ابن وهب

ص: 330

هذه، وإنما يعرف هذا لمالك، وأظن أن ابن وهب حمل لفظ بعضهم على بعض، وكان يتساهل في مثل هذا كثيرا، وقد كان ابن شهاب ربما أرسل الحديث عن عروة بن المغيرة، ولا يذكر عباد بن زياد في ذلك، فمن هنالك لم يذكر ابن سمعان عن عباد بن زياد.

وقد حدّثنا سعيد بن نصر، وعبد الوارث بن سفيان: قالا: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن يونس، عن عروة وحمزة ابني المغيرة أنهما سمعا المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، قال إسماعيل: لم يذكر ابن أبي أويس في حديثه عن سليمان بن بلال، عن عباد بن زياد، وذكره في حديثه عن أخيه، عن سليمان بن بلال، وأما صالح بن كيسان، فرواه عن ابن شهاب فأتقن.

ثم ذكر بسنده عن صالح، عن ابن شهاب قال: حدثني عباد بن زياد، قال: حدثنا سعد بن أبي سفيان، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه المغيرة بن شعبة قال: تخلفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. الحديث، وذكره بسنده أيضا عن ابن جريج عن ابن شهاب بمثل حديث صالح عنه، ثم قال: وعند ابن شهاب في حديث المغيرة هذا إسناد آخر عن إسماعيل بن محمَّد بن سعد بن أبي وقاص، وكان لا يحدث به عن إسماعيل هذا لصغر سنه إلا عبادا، وقد رواه ابن جريج وابن عيينة عن الزهري عن إسماعيل بن محمَّد بن سعد، عن حمزة بن المغيرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعند ابن جريج الحديثان جميعا.

ثم ذكر أبو عمر الطرق كلها بأسانيدها، ثم قال: فهذا حديث ابن شهاب خاصة وتمهيده في المسح على الخفين.

وأما طرق حديث المغيرة على الاستيعاب فلا سبيل لنا إليها، وقد قال

ص: 331

أبو بكر البزار: روي هذا الحديث عن المغيرة من نحو ستين طريقا. اهـ

تمهييد للحافظ أبي عمر رحمه الله جـ 11/ ص 119 - 127.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

الأولى: في درجته: هذا الحديث متفق عليه.

الثانية: فيمن أخرجه: أخرجوه كلهم إلا الترمذي وسنذكر التفاصيل في الباب الثالث إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة: فيما يستفاد من هذا الحديث:

يستفاد منه ما ترجم له المصنف وهو صب الخادم على المتوضئ الماء، فيجوز الاستعانة على الوضوء بغيره وسيأتي تحقيق المسألة مع ذكر مذاهب العلماء في المسألة التالية إن شاء الله تعالى.

ومشروعية المسح على الخفين في الوضوء، وخدمة أهل الفضل، وجواز استخدام الحر برضاه.

المسألة الرابعة: في حكم الاستعانة بالغير في الوضوء:

قال الشوكاني رحمه الله بعد ذكر حديث المغيرة رضي الله عنه ما نصه: الحديث يدل على جواز الاستعانة بالغير في الوضوء، وقد قال بكراهتها العترة والفقهاء.

قال في البحر: والصب جائز اجماعا، إذ صبوا عليه صلى الله عليه وسلم، وهو يتوضأ، وقال الغزالي وغيره من أصحاب الشافعي: إنه إنما استعان به لأجل ضيق الكُمَّين، وأنكره ابن الصلاح وقال: الحديث يدل على الاستعانة مطلقا، لأنه غسل وجهه أيضا، وهو يصب عليه، وذكر بعض

الفقهاء: أن الاستعانة كانت بالسفر، فأراد أن لايتأخر عن الرفقة، قال الحافظ في التلخيص: وفيه نظر.

ص: 332

واستدل من قال بكراهة الاستعانة بقوله صلى الله عليه وسلم لعمر، وقد بادر ليصب الماء على يديه:"أنا لا أستعين في وضوئي بأحد" قال النووي في شرح المهذب: هذا حديث باطل لا أصل له.

وقد أخرجه البزار في كتاب الطهارة، وأبو يعلى في مسنده من طريق النضر بن منصور، عن أبي الجنوب عقبة بن علقمة، والنضر ضعيف مجهول، لا يحتج به، قال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: النضر بن منصور، عن أبي الجنوب، وعنه ابن أبي معشر تعرفه؟ قال: هؤلاء حمالةُ حَطَب.

واستدلوا أيضا بحديث ابن عباس قال: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَكلُ طَهُوره إلى أحد" أخرجه ابن ماجه والدارقطني، وفيه مطهر بن الهيثم وهو ضعيف.

وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم استعان بأسامة بن زيد في صب الماء على يديه في الصحيحين، وأنه استعان بالرُّبَيّع بنت مُعَوِّذ في صب الماء على يديه، أخرجه الدارمي، وابن ماجه، وأبو مسلم الكجي من حديثها، وعزاه ابن الصلاح إلى أبي داود، والترمذي، قال الحافظ: وليس في رواية

أبي داود إلا أنها أحضرت الماء حسب، وأما الترمذي فلم يتعرض فيه للماء بالكلية، نعم في المستدرك: أنها صبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء فتوضأ، وقال لها:"اسكبي فسكبت" وروى ابن ماجه عن أم عياش أنها قالت: كنت أوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائمة وهو قاعد. قال الحافظ: وإسناده ضعيف.

واستعان في الصب بصفوان بن عَسَّال.

وغاية ما في هذه الأحاديث الاستعانة بالغير على صب الماء، وقد عرفت أنه مُجمَع على جوازه، وأنه لا كراهة فيه إنما النزاع في الاستعانة بالغير على غسل أعضاء الوضوء، والأحاديث التي فيها ذكر عدم

ص: 333

الاستعانة لا شك في ضعفها، ولكنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وكل غسل أعضائه إلى أحد، وكذلك لم يأت من أقواله ما يدل على جواز ذلك، بل فيها أمر المُعَلَّمين بأن يغسلوا، وكل واحد منا مأمور بالوضوء، فمن قال: إنه يجزئ عن المكلف نيابة غيره في هذا الواجب فعليه الدليل.

فالظاهر ما ذهبت إليه الظاهرية من عدم الإجزاء، وليس المطلوب مجرد الأثر، كما قال بعضهم، بل ملاحظة التأثير في الأمور التكليفية أمر لابد منه، لأن تعلق الطلب لشيء بذات قاض بلزوم إيجادها له، وقيامه بها لغة وشرعا إلا لدليل يدل على عدم اللزوم، فما وجد من ذلك مخالفا لهذه الكلية فلذلك، اهـ نيل جـ 1/ ص 264 - 265.

قال الجامع عفا الله عنه:

هذا الذي قاله الشوكاني رحمه الله تحقيق نفيس جدًا والله أعلم.

وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر حديث أسامة بن زيد، وحديث المغيرة ما نصه: والحديثان دالان على عدم كراهة الاستعانة بالصب، وكذا إحضار الماء من باب الأولى، وأما المباشرة فلا دلالة فيها عليها،

نعم يستحب أن لا يستعين أصلا.

وأما ما رواه أبو جعفر الطبري عن ابن عمر أنه كان يقول: ما أبالي من أعانني على طهوري أو على ركوعي وسجودي. فمحمول على الإعانة بالمباشرة، لا الصب، بدليل ما رواه الطبري أيضا، وغيره عن مجاهد أنه كان يسكب على ابن عمر، وهو يغسل رجليه.

وقد روى الحاكم في المستدرك من حديث الرُّبَيّع بنت مُعَوِّذ أنها قالت: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بوَضُوء، فقال: اسكبي، فسكبت عليه" وهذا أصرح في عدم الكراهة من الحديثين المذكورين، لكونه في الحضر، ولكونه بصيغة الطلب، لكنه ليس على شرط المصنف، يعني البخاري

اهـ فتح جـ 1/ ص 343. والله تعالى أعلم.

إن إريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 334

‌64 - الْوُضُوءُ مَرَّةً مَرَّةً

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الوضوء مرة مرة، أي لكل عضو من أعضائه.

والوضوء: بضم الواو لا غير، لأن المراد الفعل.

ومرة: قال في اللسان: قال ابن سيده: المرة الفَعْلَة الواحدة والجمع: مَرّ بالفتح، ومرار بالكسر، ومرر بكسر ففتح، ومُرُر بضمتين، اهـ بإيضاح.

وفي المصباح: وفعلت ذلك مَرَّة، أي تارة، والجمع مَرَّات ومرار. اهـ

80 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:"أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِوُضُوءِ رَسُولِ اللهِ؟ صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن المثنى) بن عبيد بن قيس بن دينار العَنَزي بفتحتين، أبو موسى البصري الحافظ المعروف بالزمن.

روى عن معتمر، وابن عيينة، وغندر، وخلق. وعنه الجماعة

ص: 335

وخلق، قال محمَّد بن يحيى الذُّهلي: حجة، ووثقه ابن معين، وابن حبان، والدارقطني، والخطيب، وقال النسائي: لا بأس به كان يغير في كتابه، وقال أبو حاتم: صالح الحديث صدوق وقدمه الدارقطني على بندار، ولد سنة 167 هـ ومات 252، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة ثبت من [10] وكان هو وبندار فَرَسَيْ رهَان، وماتا في سنة واحدة.

2 -

(يحيى) بن سعيد بن فرُّوخ القطان أبو سعيد البصري ثقة حجة [9] تقدم في 4/ 4.

3 -

(سفيان) بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي ثقة حجة [7] تقدم في 33/ 37.

4 -

(زيد بن أسلم) العدوي مولاهم المدني، أحد الأعلام، عن أبيه، وابن عمر، وجابر، وعائشة في أبي داود، وأبي هريرة في الترمذي، وقال ابن معين: لم يسمع منه، ولا من جابر، وعنه بنوه، وداود بن قيس، ومعمر، ورَوح بن القاسم، قال مالك: كان زيد يحدث من تلقاء نفسه، فإذا قام فلا يجترئ عليه أحد، وثقه أحمد، ويعقوب بن شيبة. مات في سنة 136 في ذي الحجة، وروى له الجماعة، وفي "ت" ثقة عالم وكان يرسل من الثالثة.

5 -

(عطاء بن يسار) الهلالي أبو محمَّد المدني أحد الأعلام، عن مولاته ميمونة، وابن مسعود، وأبَيّ بن كعب، وأبي ذر، وخلق، وعنه أبو سلمة، وحبيب بن أبي ثابت، وأبو جعفر الباقر، وعمرو بن دينار، وخلق، قال النسائي: ثقة، قال الهيثم بن عدي: توفي سنة 97، وقال عمرو بن علي: سنة 103، أخرج له الجماعة وفي "ت" ثقة فاضل صاحب مواعظ وعبادة، من صغار الثالثة مات سنة 94، وقيل بعد ذلك.

ص: 336

6 -

(ابن عباس) هو عبد الله، حبر الأمة وبحرها رضي الله عنه تقدم في 27/ 31.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم أجلاء ثقات، اتفق الستة كلهم بتخريج أحاديثهم، وأنهم ما بين بصريين وهما مَن قَبْل سفيان، وكوفي، وهو سفيان، ومدنيين وهم البقية، فابنُ عباس وإن كان بصريا، فهو مدني أيضا، وفيه رواية تابعي، عن تابعي وهو زيد، عن عطاء، وهو من رواية الأقران، وأن صحابيه هو أحد المكثرين السبعة، روى 1696 حديثا، وقد تقدم غير مرة.

وهو أحد العبادلة الأربعة المجموعين في قول صاحب الألفية:

وَالبَحْرُ وَابْنَا عُمَر وَعَمْرِو

وَابْنُ الزُّبَيْر في اشْتهَار يَجْري

دُونَ ابْن مَسْعُود لَهُمْ عَبَادِ لَهْ

وَغَلَّطُوا مَنْ غَيْرَ هَذَا مَالَ لَهْ

وأن شيخ المصنف هو أحد مشايخ الستة، وتقدم غير مرة.

وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، والقول.

شرح الحديث

(عن ابن عباس) رضي الله عنهما، أنه (قال: ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام، تأتي لمعان خمسة، كما بينه ابن هشام في مغني اللبيب: الأول: التنبيه، والثاني: التوبيخ، والإنكار، والثالث: التمني، والرابع: الاستفهام عن النفي، والخامس: العرض، والتحضيض، وهو المناسب هنا، ومعناهما: طلب الشيء لكن العرض طلب بلين، والتحضيض طلب بحَثّ.

قال ابن هشام: وتختص ألا هذه بالفعلية نحو {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [سورة النور: آية 22]، {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: آية 13] اهـ مغني جـ 1/ ص 66، يحث ابن عباس رضي الله

ص: 337

تعالى عنهما الحاضرين قائلا: (أخبركم بوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي بكيفيته (فتوضأ) ابن عباس (مرة مرة) أي لكل عضو.

قال البدر العيني: نصب على الظرف: أي توضأ في زمان واحد، ولو كان ثمة غسلتان، أو غسلات لكل عضو من أعضاء الوضوء لكان التوضؤ في زمانين، أو أزمنة، إذ لابد لكل غسلة من زمان غير زمان الغسلة الأخرى.

أو منصوب على المصدر: أي توضأ مرة من التوضؤ أي غسل الأعضاء غسلة واحدة، وكذا حكم المسح.

فإن قلت: فعلى هذا التقدير يلزم أن يكون معناه توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع عمره مرة واحدة، وهو ظاهر البطلان،

قلت: لا يلزم بل تكرار لفظ مرة يقتضي التفصيل، والتكرير، أو نقول: إن المراد أنه غسل في كل وضوء في كل عضو مرة مرة، لأن تكرار الوضوء من رسول الله صلى الله عليه وسلم معلوم بالضرورة من الدين، هكذا قال الكرماني.

قال البدر العيني: في الجواب الثاني نظر، لأنه يلزم منه أن جميع وضوء النبي صلى الله عليه وسلم في عمره مرة مرة، وليس كذلك على ما لا يخفى.

واستدل ابن التين بهذا الحديث على عدم إيجاب تخليل اللحية، لأنه إذا غسل وجهه مرة لا يبقى معه من الماء ما يخلل به، قال: وفيه رد على من قال: فرضُ مغسول ثلاثٌ اهـ عمدة جـ 2/ ص 296. وبالله تعالى التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب

الأولى: في درجته: حديث الباب أخرجه البخاري.

الثانية: فيمن أخرجه: أخرجه البخاري والأربعة، قال البدر

ص: 338

العيني: هذا مما تفرد به البخاري عن مسلم، وأخرجه الأربعة، فأبو داود عن مسدد، عن يحيى، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، قال:"ألا أخبركم" الحديث، والترمذي عن محمَّد بن بشار، عن يحيى به، وعن قتيبة، وهناد، وأبى كريب ثلاثتهم عن وكيع، عن سفيان به.

والنسائي عن محمَّد بن المثنى، عن يحيى به، وابن ماجه عن أبي بكر ابن خلاد الباهلي، عن يحيى بإسناده "توضأ بغَرْفَة واحدة" وأيضًا الكل أخرجوه في كتاب الطهارة، وقال الترمذي عقب إخراجه: وفي الباب عن عُمر، وجابر، وبُريدة، وأبي رافع، وابن الفَاكه.

وحديث ابن عباس أحسن شيء في الباب، قال البدر: لا جرم اقتصر عليه البخاري، قال الترمذي: وروى رشدين بن سعد وغيره هذا الحديث عن الضحاك بن شُرَحبيل، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن

عمر مرفوعا به، وليس بشيء.

والصحيح ما روى ابن عجلان، وهشام بن سعد، وسفيان الثوري، وعبد العزيز بن محمَّد، عن زيد، عن عطاء، عن ابن عباس، ورواه عن سفيان جماعات غير شيخ البخاري منهم وكيع، ونبه الدارقطني أيضا على أن ابن لهيعة، ورشدين بن سعد روياه عن الضحاك أيضا كما سلف، وأن عبد الله بن سنان خالفه فرواه عن زيد، عن عبد الله بن عمر، قال: وكلاهما وَهَم، والصواب زيد، عن عطاء، عن ابن عباس.

وفي مسند البزار: ما أتى هذا إلا من الضحاك، وقد أغفل في مسنده قصد الصواب اهـ عمدة جـ 2/ ص 295.

المسألة الثالثة:

قال النووي رحمه الله: أجمع العلماء على أن الواجب الوضوء مرة

ص: 339

واحدة، وممن نقل الإجماع فيه ابن جرير في كتابه اختلاف العلماء وآخرون، وحكى الشيخ أبو حامد وغيره أن بعض الناس أوجب الثلاث، وحكاه صاحب الإبانة عن ابن أبي ليلى، وهو مذهب باطل لا يصح عن أحد من العلماء، ولو صح لكان مردودا بإجماع من قبله، وبالأحاديث الصحيحة اهـ المجموع جـ 1/ ص 437. وبالله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 340

‌65 - بَابُ الْوُضُوءِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الوضوء ثلاثا ثلاثا، وكان الأولى للمصنف أن يذكر الوضوء مرتين مرتين كما فعله البخاري، وغيره.

81 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْطَبٍ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، يُسْنِدُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(سويد بن نصر) بن سويد المروزي أبو الفضل لقبه الشاه راوية ابن المبارك ثقة [10] تقدم في 45/ 55.

2 -

(عبد الله بن المبارك) بن واضح الحنظلي مولاهم المروزي ثقة حجة [8] تقدم في 32/ 36.

3 -

(الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو، أبو عَمْرو، إمام أهل الشام ثقة حجة [7] تقدم في 45/ 56.

4 -

(المطلب بن عبد الله بن حنطب) المخزومي المدني، عن أبي هريرة، وعائشة، وأنس، وعنه ابناه عبد العزيز، والحكم، والأوزاعي،

ص: 341

وثقه أبو زرعة، والدارقطني، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، ولا يحتج بحديثه، وقال أبو حاتم: لم يدرك عائشة، ولم يسمع من جابر، وقال ابنه عبد الرحمن بن أبي حاتم: يشبه أن يكون سمع منه. روى له الأربعة.

وفي التقريب: صدوق كثير التدليس والإرسال من الرابعة.

5 -

(عبد الله بن عمر) أبو محبد الرحمن العدوي الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 12/ 12.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، والكلام في المطلب ليس في توثيقه، وإنما هو في كثرة إرساله، وأنهم ما بين مروزين، وهما شيخه، وشيخ شيخه، وشامي، وهو الأوزاعي، ومدنيين، وهما المطلب، وعبد الله.

ومنها: أن فيه الإخبار والإنباء، والتحديث.

ومنها: أن صحابيه هو أحد المكثرين السبعة روى 2630 حديثا، وهو أحد العبادلة الأربعة، وتقدم غير مرة.

شرح الحديث

(أن عبد الله بن عمر) رضي الله عنهما (توضأ ثلاثا ثلاثا) أي لكل عضو، وانتصابه على أنه صفة لمصدر محذوف، أي توضؤا ثلاثا (يسند ذلك) أي يرفع ابن عمر هذا الوضوء الثلاث، والجملة حالٌ من فاعل توضأ (إلى النبي صلى الله عليه وسلم) متعلق بيسند، يعني أن ابن عمر رضي الله عنهما

نقله عنه صلى الله عليه وسلم. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 342

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث ابن عمر رضي الله عنها: هذا صحيح بشواهده.

المسألة الثانية: فيمن أخرجه: أخرجه المصنف، وابن ماجه.

فأما المصنف فأخرجه هنا 65/ 81، وفي الكبرى 63/ 88 عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن المطلب، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وأما ابن ماجه: فأخرجه في الطهارة عن دُحَيم، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي به، وتابعهما بشر بن بكر، عن الأوزاعي، ورواه الوليد بن مزيد، عن الأوزاعي، عن المطلب، عن ابن عباس، قاله المزي.

المسألة الثالثة: أنه يستفاد من الحديث ما ترجم له المصنف، وهو مشروعية الوضوء ثلاثا ثلاثا، وهو مجمع عليه، لا خلاف بين أهل العلم في ذلك.

المسألة الرابعة: أنه أخذ بعضهم من هذا الإطلاق تثليث المسح أيضا، ولكن هذا الإطلاق بالنسبة للمغسولات فقط، لدلائل أخر، فلا يتم الإستدلال به، وسيأتي تحقيق المسألة في باب مسح الرأس إن شاء الله تعالى.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 343

‌66 - صِفَةِ الْوُضُوءِ - غَسْلُ الْكَفَّيْنِ

ولما بين المصنف في البابين المتقدمين كمية الوضوء، شرع يبين كفيته بقوله "صفة الوضوء".

والصفة: من الوصف كالعدة من الوَعْد، يقال: وصفته وصفا من باب وعد: نَعَتُّهُ بما فيه، ويقال: هو مأخوذ من قولهم: وصف الثوبُ الجسمَ: إذا أظهر حاله وَبَيَّنَ هيئته.

ويقال: الصفة إنما هي بالحال المنتقلة، والنعت بما كان في خَلْق، أو خُلُق، أفاده في المصباح.

ثم بدأ من صفة الوضوء بغسل الكفين: لأنه مبدأ المغسولات، قال في المصباح: الكَفُّ من الإنسان وغيره: أنثى، قال ابن الأنباري: وزعم من لا يوثق به أن الكف مذكر، ولا يعرف تذكيرها من يوثق بعلمه، وأما قولهم: كف مُخَضَّب فعلى معنى ساعد مخضب، وجمعها كُفُوف وأكُفّ مثل فلس، وفلوس، وأفلس، قال الأزهري: الكف الراحة مع الأصابع، سميت بذلك لأنها تكف الأذى عن البدن اهـ.

82 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَصْرِيُّ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ رَجُلٍ، حَتَّى رَدَّهُ إِلَى الْمُغِيرَةِ، قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: وَلَا أَحْفَظُ حَدِيثَ ذَا مِنْ حَدِيثِ ذَا، أَنَّ الْمُغِيرَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي

ص: 344

سَفَرٍ، فَقَرَعَ ظَهْرِي بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ، فَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ، حَتَّى أَتَى كَذَا وَكَذَا مِنَ الأَرْضِ، فَأَنَاخَ ثُمَّ انْطَلَقَ، قَالَ: فَذَهَبَ حَتَّى تَوَارَى عَنِّي، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ:"أَمَعَكَ مَاءٌ". وَمَعِي سَطِيحَةٌ لِي، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَأَفْرَغْتُ عَلَيْهِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، وَذَهَبَ لِيَغْسِلَ ذِرَاعَيْهِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، وَذَكَرَ مِنْ نَاصِيَتِهِ شَيْئًا، وَعِمَامَتِهِ شَيْئًا. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: لا أَحْفَظُ كَمَا أُرِيدُ. ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"حَاجَتَكَ؟ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسَتْ لِي حَاجَةٌ، فَجِئْنَا وَقَدْ أَمَّ النَّاسَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَقَدْ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَذَهَبْتُ لأُوذِنَهُ فَنَهَانِي، فَصَلَّيْنَا مَا أَدْرَكْنَا وَقَضَيْنَا مَا سُبِقْنَا.

رجال الإسناد سبعة

1 -

(محمَّد بن إبراهيم) بن صُدْران بضم المهملة الأولى، الأزدي

ص: 345

السَّليمي بتحتانية بعد اللام المكسورة، أبو جعفر المؤذن، يروي عن المعتمر، ويزيد بن زريع، وطائفة، وعنه أبو داود، والترمذي، والنسائي وخلق، وثقه أبو داود، قال ابن أبي عاصم: مات سنة 247، من [10](البصري) نسبة إلى البصرة البلدة المعروفة.

قال في المصباح: البَصْرة وزان تمرة، الحجارة الرِّخْوة، وقد تحذف الهاء مع فتح الباء وكسرها، وبها سميت البلدة المعروفة، وأنكر الزجاج فتح الباء مع الحذف، ويقال في النسبة بصري بالوجهين، وهي مُحدَثة إسلامية، بنيت في خلافة عمر رضي الله عنه، سنة ثماني عشرة من الهجرة بعد وقف السواد، ولهذا دخلت في حده، دون حكمه. اهـ.

2 -

(بشر بن المفضل) بن لاحق الرَّقَاشي -بفتح الراء والقاف المخففة نسبة إلى رَقَاش بنت قيس بن ثعلبة- مولاهم أبو إسماعيل البصري العابد، أحد الحفاظ الأعلام، عن يحيى بن سعيد، وحميد، وسهيل، وداود بن أبي هند، وخلق، وعنه أحمد، وإسحاق، ومسدد، وعمرو بن علي، قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، وقال ابن المديني: كان يصلي كل يوم أربعمائة ركعة، ويصوم يوما ويفطر يوما، قال ابن سعد: كان عثمانيا، توفي سنة 187، أخرج له الجماعة ثقة ثبت عابد من الثامنة.

3 -

(ابن عون) هو عبد الله بن عون بن أرطبان -بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الطاء- المزني مولاهم أبو عون الخَرَّاز بفتح المعجمة والمهملة البصري أحد الأعلام.

عن عطاء، ومجاهد، وسالم، والحسن، والشعبي، وخلق، وعنه شعبة، والثوري، وابن علية، ويحيى القطان، وخلائق، قال ابن مهدي: ما أحد أعلم بالسنة بالعراق من ابن عون وقال روح بن

ص: 346

عبادة: ما رأيت أعبد منه، قال يحيى القطان: مات سنة 151، أخرج له الجماعة ثقة فاضل من السادسة.

4 -

(عامر الشعبي) بن شَرَاحيل الحميري، أبو عمرو الكوفي الإمام العلم، ولد لست سنين خلت من خلافة عمر، روى عنه، وعن علي، وابن مسعود، ولم يسمع منهم، وعن أبي هريرة، وعن عائشة، وجرير، وابن عباس، وخلق. قال: أدركت خمسمائة من الصحابة.

وعنه ابن سيرين، والأعمش، وشعبة، وجابر الجعفي، وخلق، قال أبو مجْلَز: ما رأيت فيهم أفقه من الشعبي، وقال العجلي: مرسل الشعبي صحيح، وقال ابن عيينة: كانت الناس تقول: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، قال الشعبي: ما كتبت سوداء في بيضاء، قال يحيى بن بكير: توفي سنة 103، أخرج له الجماعة ثقة مشهور فقيه فاضل من الثالثة.

والشعبي: نسبة إلى شعب بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة بطن من همدان قاله في اللباب.

5 -

(عروة بن المغيرة) أبو يعفور الثقفي الكوفي ثقة [3] تقدم في 63/ 79.

6 -

(عن المغيرة) بن شعبة الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 16/ 17.

7 -

(محمَّد بن سيرين) البصري الإمام العلم المشهور ثقة ثبت [3] تقدم في 46/ 57.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وهم ما بين

ص: 347

بصريين، وهم الثلاثة الأولون، وابن سيرين، وكوفيين، وهم الباقون.

وفيه رواية تابعي، عن تابعي.

تنبيه: قوله: وعن محمَّد بن سيرين عطف على عامر الشعبي، يعني أن ابن عون يروي عن شيخين: الشعبي وابن سيرين، ويروي ابن سيرين عن رجل، ولم يسمه، وقوله: حتى رده يعني حتى رد ابن سيرين الحديث الذي أخذه عن رجل إلى المغيرة بن شعبة.

وقوله: قال ابن عون: ولا أحفظ حديث ذا، من حديث ذا، أي لا أمَيِّز حديث أحدهما من حديث الآخر، بل حفظته مجموعا.

فإن قلت: طريق ابن سيرين فيها عن رجل وهو مبهم، فيكون الحديث ضعيفا، قلت: الحديث صحيح، متصل من طريق الشعبي، وغيره، فلا يضره الإبهام الواقع في سند ابن سيرين.

ورواية محمَّد بن سيرين أخرجها البغوي في شرح السنة مختصرة، وسَمَّى الرجل عمرو بن وهب الثقفي، ونصُّهُ من طريق الشافعي: أنا يحيى بن حسان، عن حماد بن زيد، وابن علية عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عمرو بن وهب الثقفي، عن المغيرة بن شعبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم "توضأ فمسح بناصيته، وعلى عمامته وخفيه" هذا حديث صحيح أخرجه مسلم من وجه آخر عن المغيرة بن شعبة، وأخرجه محمَّد (يعني البخاري) من رواية عمرو بن أمية، عن النبي صلى الله عليه وسلم اهـ شرح السنة جـ 1/ ص 451.

لكن ذكر ابن أبي حاتم في العلل ما نصه:

سألت أبي، وأبا زرعة عن حديث رواه ابن المبارك عن عوف، وهشام عن محمَّد بن سيرين، قال: أخبرنا عمرو بن وهب، أن المغيرة

ص: 348

ابن شعبة حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين. فقال أبي: رواه أيوب السختياني من رواية حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمَّد، عن أبي عبد الله، عن عمرو بن وهب، عن المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو زرعة: رواه بعض أصحاب ابن عون، عن ابن عون، عن محمَّد، عن عمرو بن وهب، عن رجل عن آخر، عن المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قلت لأبي زرعة: أيهما الصحيح؟، قال: عمرو عن رجل، عن آخر، عن المغيرة اهـ جـ 1/ ص 14.

والحاصل أن طريق ابن سيرين فيها اختلاف، ورجح البغوي صحتها، وسمى المبهم عمرو بن وهب، وعلى هذا فقد زال الإبهام، عن السند الذي ذكره المصنف.

لكن ظاهر عبارة المصنف توهم أن ابن سيرين رواه عن رجل، عن آخر، لأن قوله: حتى رده إلى المغيرة، يرشد إليه، فيكون موافقا لقول أبي زرعة رحمه الله، فليتأمل.

قلت: لكن المصنف أخرج رواية ابن سيرين من طريق يونس بن عبيد، عنه قال: أخبرني عمرو بن وهب الثقفي، قال: سمعت المغيرة بن شعبة، فبين المبهم هنا أنه عمرو بن وهب، وأن عمرا سمع الحديث من المغيرة بن شعبة نفسه، فزال الانقطاع وصح الحديث ولله الحمد، وسيأتي في الحديث 109 "باب كيف المسح على العمامة"، والله أعلم.

شرح الحديث

(عن المغيرة) رضي الله عنه أنه (قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر) وقد تقدم في الحديث 79 أنها غزوة تبوك (فقرع ظهري بعصا) أي ضربه بها، وليس المراد الضرب الشديد، بل وضع العصا للإعلام، قاله

ص: 349

السندي، وكان ذلك قبل الفجر، كما وقع في رواية أبي داود، ويرشد إليه ما يأتي للمصنف (فعدل) أي مال صلى الله عليه وسلم عن الطريق، إلى ناحية ليقضي حاجته (فعدلت معه) امتثالا لأمره، وفي رواية لابن سعد، "فتبعته بماء بعد الفجر"، ولا تنافي بين هذا، وما تقدم، لحمل ما تقدم على الصلاة يعني أن خروجه كان بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الفجر (حتي أتى كذا وكذا من الأرض) غاية للعدول، أي مال عن الطريق ذاهبا إلى جهة، حتى أتَي مكانا من الأمكنة (فأناخ) أي أبرك ناقته، يقال: أنخت البعير، فاستناخ، ونوّخته فتنوخ، وأناخ الإبل: أبركها، واستناخت بركت، قاله في اللسان.

(ثم انطلق) أي ذهب صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته (قال) المغيرة موضحا لقوله: انطلق بالفاء التفصيلية (فذهب حتى توارى عني) أي اختفى، وهذه الجملة تفصيل لقوله "ثم انطلق"، فالفاء تفصيلية كما في قوله تعالى:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54](ثم جاء) بعد قضاء حاجته، ففي رواية الشيخين، فانطلق حتى توارى عني ثم قضى حاجته (فقال: أمعك ماء؟ ومعي سطيحة لي) أي مزادة، قال في النهاية: السطيحة من المزادة ما كان من جلدين، قوبل أحدهما بالآخر، فسطح عليه، وتكون صغيرة وكبيرة، وهي من أواني المياه اهـ زهر جـ 1/ ص 64.

وفي رواية أحمد: أن الماء أخذه المغيرة من أعرابية صبته له من قربة، من جلد ميتة، فقال له صلى الله عليه وسلم:"سَلْها، فإن كانت دبغتها، فهو طهورها" فقالت: إي والله دبغتها.

قال في المنهل: ودلت رواية أحمد هذه على قبول خبر الواحد في الأحكام، ولو امرأة، سواء أكان مما تعم به البلوى أم لا، لقبول

ص: 350

خبر الأعرابية اهـ جـ 2/ ص 103.

(فأتيته بها) أي بتلك السطيحة (فأفرغت عليه) من مائها (فغسل يديه) أي كفيه كما في رواية أبي داود، وهو المطابق للترجمة (ووجهه وذهب ليغسل ذراعيه) أي قصد: يقال: ذهب مذهب فلان، قصد قصده، وطريقته، قاله في المصباح.

والمعنى: أراد النبي صلى الله عليه وسلم غسل ذراعيه (وعليه جبة شامية) جملة حالية: أي والحال أن على النبي صلى الله عليه وسلم جبة شامية، والجبة بالضم: ضرب من مقطعات الثياب تلبس، وجمعها جُبَب أي بالضم، وجبَاب أي بالكسر، والجبة من أسماء الدرع، قاله في اللسان.

وقوله شامية: أي منسوبة إلى الشام البلد المعروف، لأنها تعمل فيه، وهكذا في رواية البخاري جبة شامية، وفي رواية لأبي داود: وعليه جبة من صوف من جباب الروم (ضيقة الكمين) تثينة كم بضم الكاف وتشديد الميم، معروف، جمعه أكمام وكمَمَة مثال عنبة، قاله في المصباح.

(فأخرج يده من تحت الجبة) لعدم تمكنه من حسر ذراعيه، كما بينته رواية أبي داود:"ثم حسر عن ذراعيه، فضاق كُمَّا جبته، فأدخل يديه فأخرجهما من تحت الجبة فغسلهما إلى المرفق"(فغسل وجهه وذراعيه) وهذه الجملة بيان للأولى، فكأنه قال: فانتهى غسله على الوجه والذراعين، وأما ما بعد ذلك فهو مسح.

(وذكر) المغيرة بن شعبة أنه صلى الله عليه وسلم مسح (من ناصيته شيئا) من (عمامته شيئا) أي ذكر أنه مسح على شيء من ناصيته، وشيء من عمامته (قال) عبد الله (ابن عون: لا أحفظ كما أريد) أي لا أحفظ الحديث في الناصية والعمامة على الوجه الذي أريده، بل الذي أتذكر منه ذكرُ شيء من

ص: 351

ناصيته، وشيء من عمامته، ولكن غيره حفظ ذلك، وبينه كما سيأتي في "بابُ كيف المسح على العمامة" عن يونس بن عبيد، عن ابن سيرين، قال: أخبرني عمرو بن وهب الثقفي، قال: سمعت المغيرة بن شعبة فذكر الحديث وفيه "فتوضأ ومسح بناصيته وجانبي عمامته" الحديث.

(ثم مسح على خفيه) وفيه دلالة على مشروعية المسح على الخفين، وسيأتي تحقيقه في بابه إن شاء الله تعالى (ثم قال: حاجتك) بالنصب مفعولا لفعل محذوف، أي اقض حاجتك من البول والغائط، قال المغيرة:(قلت يا رسول الله ليست لي حاجة) يريد صلى الله عليه وسلم بذلك أن ينتظره حتى يقضي حاجته من البول والغائط.

وفيه كمال شفقته صلى الله عليه وسلم، قال (فجئنا وقد أمَّ الناسَ عبدُ الرحمن بن عوف) وفي رواية أبي داود "ثم ركب، فأقبلنا نسير حتى نجد الناسَ في الصلاة قد قدَّموا عبد الرحمن بن عوف".

وهو عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة

القرشي الزهري أحد العشرة، أسلم قديما، ومناقبه شهيرة مات سنة 32، وقيل غير ذلك اهـ "ت".

وفي الخلاصة: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن الحارث ابن زهرة بن كلاب بن مرة الزهري، أبو محمَّد المدني، شهد بدرا، والمشاهد، له خمسة وستون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بخمسة، وهو أحد العشرة، وهاجر الهجرتين، وأحد الستة، وعنه بنوه إبراهيم، وحميد، وأبو سلمة، ومصعب، وغيرهم، قال الزهري: تصدق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف، ثم بأربعين ألفا، ثم حمل على خمسمائة فرس، ثم على خمسمائة راحلة، وأوصى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بحديقة قومت بأربعمائة ألف، قال خليفة: مات سنة 32،

ص: 352

وقيل 3، ودفن بالبقيع، وزاد بعضهم وهو ابن 75 سنة، أخرج له الجماعة اهـ.

(وقد صلى بهم ركعة من صلاة الصبح) قال المغيرة (فذهبت لأوذنه) أي لأعلمه بحضور النبي صلى الله عليه وسلم، لئلا يصلي خلفه، وقد قال الله تعالى {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: آية 1] (فنهاني) صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وفي رواية ابن سعد "فانتهينا إلى عبد الرحمن، وقد ركع ركعة فسبح الناس له حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كادوا يفتنون، فجعل عبد الرحمن يريد أن ينكص، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن أثبت"(فصلينا ما أدركنا) مع الناس وهي الركعة الثانية (وقضينا ما سُبقْنا) بعد ما سلم عبد الرحمن، ففي رواية المصنف الآتية في باب "كيف المسح على العمامة""فلما سلم ابن عوف قام النبي صلى الله عليه وسلم فقضى ما سبق به".

وفي رواية مسلم: "فلما سلم عبد الرحمن بن عوف، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته، فأفزع ذلك المسلمين، فأكثروا التسبيح، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم، ثم قال: أحسنتم، أو قال: قد أصبتم، يغبطهم أن صلُّوا الصلاةَ لوقتها".

فإن قيل: كيف قام عبد الرحمن في صلاته، وتأخر أبو بكر حين مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها؟.

أجيب: بأن عبد الرحمن كان قد ركع ركعة، فترك النبي صلى الله عليه وسلم التقدم لئلا يختلَّ ترتيبُ الصلاة في حق المأمومين، بخلاف قصة أبي بكر، فإنه لم يركع ركعة، وقت مجيئه صلى الله عليه وسلم، أو بأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين لهم حكم قضاء المسبوق، بفعله كما بينه بقوله.

ولا يقال: إنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى كل من الصديق، وابن عوف بعدم التأخر

ص: 353

فلم تأخر الصديق، دون ابن عوف، لأن أبا بكر فهم أن سلوك الأدب أولى من امتثال الأمر الذي ليس للوجوب، بخلاف عبد الرحمن، فإنه فهم أن امتثال الأمر أولى، ولا شك أن الأول أكمل.

وقد يقال: إن أبا بكر بلغ من الفرح بشفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغًا لم يملك نفسه معه عن التأخر، قاله في المنهل جـ 1/ ص 106. والله أعلم، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب

الأولى: في درجته: حديث الباب متفق عليه.

الثانية: فيمن أخرجه: أخرجه الستة إلا الترمذي.

فأخرجه المصنف: فيما تقدم عن سليمان بن داود الحراني، والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن وهب، عن مالك، ويونس، وعمرو بن الحارث، ثلاثتهم عن الزهري، عن عباد بن زياد، عن عروة ابن المغيرة، عن أبيه المغيرة بن شعبة، إلا أن مالكا لم يذكر عروة.

وهنا عن محمَّد بن إبراهيم بن صُدْران، عن بشْر بن المُفَضَّل، عن ابن عون، عن الشعبي، عن عروة، عن المغيرة، وهو أتم.

وفي الباب 96: في الحديث [7] عن قتيبة عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع بن جبير، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، مختصرا، وفي الكبرى 108 الحديث1، عن عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد، عن عمه، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، و 108/ 2 عن إبراهيم بن الحسين، عن حجاج بن محمَّد، عن ابن جريج، كلاهما عن الزهري.

وأخرجه البخاري في الطهارة 36/ 2 عن عمرو بن علي، عن عبد الوهاب الثقفي و 50/ 2 عن عمرو بن خالد، عن الليث كلاهما عن يحيى بن سعيد وفي المغازي 82/ 1 عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن

ص: 354

عبد العزيز بن أبي سلمة كلاهما عن سعد بن إبراهيم، عن نافع، عن جبير بن مطعم عنه به. وفي الطهارة أيضا (51) وفي اللباس (11) عن أبي نعيم، عن زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي، عنه به.

ومسلم في الطهارة 22/ 5 عن قتيبة، و 22/ 25 عن محمَّد بن رمح كلاهما عن الليث، عن يحيى بن سعيد به، و 22/ 6 عن محمَّد بن المثنى، عن عبد الوهاب الثقفي، به، و 22/ 10 عن محمَّد بن عبد الله ابن نمير، عن أبيه، عن زكريا بن أبي زائدة به.

و22/ 11 عن محمَّد بن حاتم، عن إسحاق بن منصور السَّلُولي، عن عمر بن أبي زائدة عن الشعبي به مختصرا، وفي الصلاة عن محمَّد بن رافع، وحسن الحلواني كلاهما عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن

الزهري، عن عباد بن زياد، عنه به زاد قصة الصلاة خلف عبد الرحمن بن عوف.

وأبو داود في الطهارة 59/ 1 عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، عن يونس عن الزهري، ولم يذكر قصة الصلاة خلف عبد الرحمن بن عوف

(1)

.

و59/ 3، عن مسدد، عن عيسى بن يونس، عن أبيه، عن الشعبي به، وابن ماجه في الطهارة 84/ 3، عن محمَّد بن رمح به، اهـ تحفة الأشراف. وأخرجه أحمد، ومالك، والبيهقي.

المسألة الثالثة: في فوائد هذا الحديث:

يستفاد منه ما ترجم له المصنف، وهو غسل الكفين، وموضع

(1)

هكذا قال المزي، قال الحافظ في النكت: بل ذكرها فيه من هذا الوجه.

ص: 355

الاستدلال منه قوله "فغسل يديه" وفي رواية أبي داود "كفيه" وهي أصرح.

وفيه من الفوائد أيضًا: الإبعاد عند قضاء الحاجة، والتواري عن الأعين، واستحباب الدوام على الطهارة، ولأمره صلى الله عليه وسلم المغيرة أن يتبعه بالماء، مع أنه لم يستنج به، وإنما توضأ به حين رجع.

وفيه جواز الاستعانة، وغسل ما يصيب اليد من الأذى عند الاستجمار، وأنه لا يكفي إزالته بغير الماء، والاستعانة على إزالة الرائحة بالتراب، ونحوه، وقد يستنبط منه أن ما انتشر عن المعتاد لا يزال إلا بالماء، وفيه الانتفاع بجلود الميتة، إذا دبغت، والانتفاع بثياب الكفار حتى تتحقق نجاستها، لأنه صلى الله عليه وسلم لبس الجبة الرومية، ولم يستفصل.

واستدل به القرطبي على أن الصوف لا ينجس بالموت لأن الجبة كانت شامية، وكانت الشام إذ ذاك دار كفر، ومأكول أهلها الميتات، كذا قال، وفيه الرد على من زعم أن المسح على الخفين منسوخ بآية الوضوء التي في المائدة لأنها نزلت في غزوة المريسيع، وكانت هذه القصة في غزوة تبوك، وهي بعدها باتفاق.

وسيأتي حديث جوير البجلي في معنى ذلك، وفيه التشمير في السفر، ولبس الثياب الضيقة فيه، لكونه أعون على ذلك، وفيه المواظبة على سنن الوضوء حتى في السفر، وفيه قبول خبر الواحد في الأحكام، ولو كانت امرأة، سواء كان ذلك فيما تعم به البلوى أم لا؟ لأنه صلى الله عليه وسلم قبل خبر الأعرابية كما تقدم.

وفيه أن الاقتصار على غسل معظم المفروض غسله لا يجزئ لإخراجه صلى الله عليه وسلم يديه من تحت الجبة، ولم يكتف فيما بقي منها بالمسح عليه، وقد يستدل به على من ذهب إلى وجوب تعميم مسح الرأس لكونه كمل

ص: 356

بالمسح على العمامة، ولم يكتف بالمسح على ما بقي من ذراعيه اهـ فتح جـ 1/ ص 368.

قال الجامع عفا الله عنه:

وفيه نظر بل هو ظاهر لمن يستدل به على وجوب التعميم، غايته أنه عمم الرأس حيث كمَّل على العمامة، والحاصل أن التعميم واجب ولكن لا يجب على الشعر فقط، بل على الرأس، وما عليه من العمامة ونحوها، وسيأتي تحقيق المسألة في "باب مسح الرأس" إن شاء الله تعالى.

وفيه مشروعية خدمة من يستحق الخدمة، واقتداء الفاضل بالمفضول وجواز صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف بعض أمته، وبيان حال المسبوق، وأنه يصلي مع الإمام ما أدركه، ثم يصلي ما بقي عليه بعد سلام الإمام، ولا يسقط ذلك عنه، وطلب اتباع المسبوق للإمام في ركوعه وسجوده

وجلوسه، وإن لم يكن موضع جلوس للمأموم، وأن المأموم إنما يفارق الإمام بعد سلام الإمام، وأن الأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت حيث إنهم فعلوها في أول الوقت، ولم ينتظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَدَحَهم على ذلك، وأن من بادر إلى الطاعة يُشكر، وأنه يُطلب من الجماعة أن يقدموا أحدهم يصلي بهم إذا تأخر الإمام الراتب عن أول الوقت.

وفيه فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، حيث قدموه للصلاة بهم. قاله في المنهل جـ 2/ ص 107. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 357

‌67 - كَمْ تُغْسَلَانِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواب سؤال من سأل عن الكفين كم تغسلان؟ أي كم مرة تغسلان؟ واستدل المصنف بحديث الباب على أنهما يغسلان ثلاثا، ولكن فيه نظر لما يأتي إن شاء الله، واستدل غيره بحديث أبي هريرة "إذا استيقظ أحدكم" الذي مر في أول الكتاب وهو أولى.

83 -

أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ -وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ- عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْسٍ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَوْكَفَ ثَلَاثًا.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(حُمَيد بن مَسْعدة) بن المبارك السامي الباهلي البصري صدوق من العاشرة، مات سنة 244، وقد تقدم في 5/ 5.

2 -

(سفيان بن حَبيب) البزاز أبو محمَّد البصري، عن سليمان التيمي، وحبيب بن الشهيد، وعنه حميد بن مسعدة، والحسن بن عرفة، ونصر بن علي.

وثقه أبو حاتم والنسائي، قال أبو بشر الدولابي: مات سنة 182 أخرج له البخاري في الأدب المفرد، والأربعة، وفي "ت" ثقة من التاسعة.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الواسطي البصري ثقة حجة [7] تقدم في

ص: 358

24/ 26.

4 -

(النعمان بن سالم) الطائفي، روى عن جدته، وعثمان بن أبي العاص، وأوس بن أبي أوس، وعمرو بن أوس، وابن الزبير، وابن عمر، ويعقوب بن عاصم، وعنه داود بن أبي هند، وحاتم بن أبي صغيرة، وسماك بن حرب، وشعبة، وعامر الأحول، والحكم بن عبد الملك، قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: ثقة صالح الحديث، وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال اللالكائي: جعل البخاري الذي روى عن ابن عمر، غير الذي روى عن عمرو بن أوس.

قال الحافظ: والأمر كذلك في تاريخ البخاري الكبير، فكأن المزي

ما راجع التاريخ، وكذا يصنع ابن حبان في الثقات، فذكر صاحب الترجمة في أتباع التابعين، وذكر الذي روى عن ابن عمر، وعنه شعبة

في طبقة التابعين، وقال وكيع عن شعبة: ثنا النعمان بن سالم، وكان ثقة، أخرج له مسلم والأربعة اهـ تهذيب التهذيب، وفي "ت" ثقة من الرابعة.

5 -

(ابن أوس بن أبي أوس، عن جده) هكذا في بعض النسخ، ابن أوس بن أبي أوس عن جده، وفي بعضها عن ابن أبي أوس، عن جده، وفي تحفة الأشراف: عن ابن ابن أبي أوس، عن جده، وعند البيهقي في السنن الكبرى بسنده إلى آدم بن أبي إياس ثنا شعبة، ثنا النعمان، يعني ابن سالم، قال: سمعت ابن عمرو بن أوس، يحدث عن جده أوس بن أويس، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم "توضأ فاستوكف ثلاثا" قال: شعبة: فقلت للنعمان: وما استوكف؟ قال: غسل كفه ثلاثا، وقد أقام آدم بن أبي إياس إسناده، واختلف فيه على شعبة اهـ جـ 1/ ص 46.

ص: 359

وقال المزي في تحفة الأشراف جـ 2/ ص 457: ما نصه: حديث "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استوكف ثلاثا" أخرجه النسائي في الطهارة عن حميد بن مسعدة، عن سفيان بن حبيب، عن شعبة، عن النعمان بن سالم، عن ابن أبي أوس عن جده به.

رواه محمَّد بن يونس الكديمي، عن أبي عامر العقدي، عن شعبة، عن النعمان بن سالم قال: سمعت رجلا يقال له: عبد الرحمن، جده أوس، عن أبيه، عن جده، ولم يتابع على قوله: عن أبيه، فإنه محفوظ عن شعبة عن النعمان عن ابن عمرو بن أوس، عن جده أوس اهـ

قال الجامع عفا الله عنه:

قد وقع اختلاف في هذا الإسناد، على شعبة فرواه محمَّد بن جعفر، غندر، ويزيد بن هارون عنه، عن النعمان بن سالم، عن ابن أبي أوس عن جده أوس كما عند أحمد جـ 4/ ص 9 و 10 ووافقهم وكيع كما في المسند أيضا جـ 4/ ص 58، فهؤلاء ثلاثة: غندر، ويزيد، ووكيع، قالوا: ابن أبي أوس، عن جده أوس، ورواه علي بن حفص المدائني، وحسين بن محمَّد بن بهرام، عنه، عن النعمان، قال: سمعت عمرو بن أوس يحدث، عن جده أوس بن أبي أوس، كما عند أحمد جـ 4/ ص 10، وتابعهما عاصم بن علي بن عاصم، حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، قال عمرو بن أوس، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم .. كما عند الطبراني في المعجم الكبير رقم (602) إلا أنه قال عمر بدل عمرو، ولعله من تحريف النساخ.

فهؤلاء ثلاثة: علي بن حفص، وحسين بن محمَّد، وعاصم بن علي، قالوا: عمرو بن أوس عن جده.

ورواه هاشم بن القاسم: أنا شعبة، أخبرنا النعمان بن سالم، قال:

ص: 360

سمعت ابن عمرو بن أوس يحدث عن جده، أوس بن أبي أوس أنه رأى .. كما عند الدارمي جـ 1/ ص 187 - 188 رقم 692. وتابعه آدم بن أبي إياس، ثنا شعبة، ثنا النعمان يعني ابن سالم قال: سمعت ابن عمرو بن أوس يحدث عن جده أوس بن أويس كما عند البيهقي جـ 1/ ص 46.

فهذان اثنان، هاشم وآدم، قالا: ابن عمرو بن أوس عن جده.

ورواه سفيان بن حبيب، عن شعبة، عن النعمان بن سالم، عن ابن أوس بن أبي أوس، عن جده قال: رأيت

كما عند المصنف هنا.

وتابعه أبو داود الطيالسي، قال: ثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، عن ابن أوس، عن جده قال: رأيت

كما في ص 151.

فهذان اثنان سفيان، وأبو داود الطيالسي، قالا: عن ابن أوس عن جده، إلا أن سفيان نسبه فقال: ابن أبي أوس.

والحاصل أن هذا السند مضطرب اضطرابا شديدا يحتاج إلى بحث شديد والله أعلم.

6 -

(أوس بن أبي أوس) حذيفة والد عمرو بن أوس الثقفي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن علي بن أبي طالب، وعنه ابنه عمرو، وابن ابنه عثمان بن عبد الله، والنعمان بن سالم، وجماعة.

قال الحافظ: قال أحمد في مسنده: أوس بن أبي أوس الثقفي، هو

أوس بن حذيفة. وقال البخاري في تاريخه: أوس بن حذيفة والد عمرو بن أوس بن أبي أوس، ويقال: أوس بن أوس، وكذا قال ابن حبان في الصحابة، وقال أبو نعيم في معرفة الصحابة: اختلف المتقدمون في أوس هذا فمنهم من قال: أوس بن حذيفة، ومنهم من

ص: 361

قال: أوس بن أبي أوس، وكنى أباه، ومنهم من قال أوس بن أوس، وأما أوس بن أوس الثقفي، وقيل: أوس بن أبي أوس، فروى عنه الشاميون.

قال: وتوفي أوس بن حذيفة سنة 59، وروينا في جزء أبي بكر بن محمَّد بن العباس بن نجيح ما يدل على أن كنية هذا أبو إياس. اهـ تهذيب التهذيب.

وفي الإصابة: أوس بن حذيفة بن ربيعة بن أبي سلمة بن عميرة بن عوف، وقيل: إن حذيفة هو ابن أبي عمرو بن عمرو بن عوف بن وهب ابن عامر بن يسار بن مالك بن حطيط بن جشم الثقفي، وهو أوس بن أبي أوس.

وروى له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وصح من طريقه أحاديث، إلى آخر ما تقدم في التهذيب، جـ 1/ ص 94.

لطائف الإسناد

أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، إلا حميد بن مسعدة فصدوق، وابن أوس فما تَبَيَّن لي من هو؟ لما تقدم من الاضطرابات، وهم ما بين بصريين، وهم الثلاثة الأولون، وطائفيين، وهم الباقون،

إن كان ابن أوس هو عمرا.

شرح الحديث

(قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استوكف ثلاثا) قال في اللسان: قال غير واحد: معناه أنه غسل يديه ثلاثا، وبالغ في صب الماء على يديه، حتى وكف الماء من يديه: أي قطر اهـ.

وقال في النهاية: أي استقطر الماء، وصبه على يديه ثلاث مرات،

ص: 362

وبالغ حتى وكف منها الماء. اهـ، وقد تقدم سؤال شعبة للنعمان عن معناه وتفسيره له في رواية البيهقي.

وقال السندي: هو من وكف البيت والدمع، إذا تقاطر، فلا دلالة للفظ على تخصيص اليدين، فكأنهم أخذوا ذلك من بعض الأمارات جـ 1/ ص 64.

وقال ابن التركماني في الجوهر النقي بعد ذكر سؤال شعبة، وجواب النعمان له: ما نصه: قلت: هذا الكلام يوهم أن استوكف مشتق من الكف وليس كذلك، بل هو مشتق من وكف البيت إذا قطر، فالصواب في الحديث ما قال بعض العلماء: إن معنى استوكف استقطر الماء، يعني توضأ ثلاثا، وبالغ في صب الماء حتى وكف، فليس بمختص بغسل اليدين، وبهذا يظهر أن هذا الحديث غير مختص بهذا الباب اهـ جـ 1/ ص 46. وبالله تعالى التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: قال الشوكاني: الحديث عند النسائي رجاله ثقات إلا حميد بن مسعدة فهو صدوق اهـ نيل جـ 1/ ص 206، وكذا صححه الألباني في صحيح النسائي، قلت: لكن فيه نظر

للاضطراب المتقدم.

المسألة الثانية: فيمن أخرجه: هو من أفراد المصنف رحمه الله ذكره في هذا الموضع، 83، وفي الكبرى، 87، بهذا السند.

المسألة الثالثة: استدل به المصنف على غسل اليدين ثلاث مرات، وقد علمت ما فيه، وقد استدل غيره على ذلك بحديث أبي هريرة الذي مر في أول الكتاب "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثا، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" وقد

ص: 363

تقدم الكلام عليه في أوائل هذا الشرح.

وقال الشوكاني: وهذا الحديث -يعني حديث أوس- معناه في الصحيحين من حديث عثمان بلفظ "فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما، وقال في آخره "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا".

وأخرج أبو داود من حديث عثمان أيضا بلفظ "أفرغ بيده اليمنى على اليسرى، ثم غسلهما إلى الكوعين وثبت نحوه أيضا من حديث علي، وعبد الله بن زيد، عند أهل السنن اهـ نيل جـ 1/ ص 206 - 207.

قال الجامع عفا الله عنه:

هذه الأحاديث المروية عن عثمان، وعلي، وعبد الله بن زيد تأتي قريبًا للمصنف إن شاء الله تعالى، وكلها نص في الموضوع إلا حديث عبد الله، فإن فيه: فغسل يديه مرتين، فكان الأولى للمصنف أن يستدل بها في هذا الباب، والله أعلم.

المسألة الرابعة: في مذاهب العلماء في حكم هذه المسألة:

قال العلامة الشوكاني رحمه الله: ذهب الحنفية، والشافعية، والهادي في أحد قوليه، والمؤيد بالله، وأبو طالب، والمنصور بالله إلى أن غسل اليدين إلى الكوعين قبل الوضوء سنة، ولا يجب لحديث

"توضأ كما أمرك الله" ولم يذكر فيه غسل اليدين، وقال القاسم، وهو أحد قولي الهادي، وابنه أحمد بن يحيى: إنه واجب لخبر الاستيقاظ.

وأجيب بأنه لا يدل على الوجوب، لقوله فيه "فإنه لا يدري أين باتت يده".

قال الشوكاني: وليعلم أن محل النزاع غسلهما قبل الوضوء،

ص: 364

وحديث الاستيقاظ الغسل فيه، لا للوضوء، فلا دلالة له على المطلوب، ومجرد الأفعال لا تدل على الوجوب اهـ نيل جـ 1/ ص 207.

قال الجامع: وقد استوفيت الكلام على حديث الاستيقاظ في أوائل هذا الشرح. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 365

‌68 - الْمَضْمَضَة وَالاِسْتِنْشَاقُ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية المضمضة، والاستنشاق في الوضوء.

والمضمضة: تحريك الماء في الفم.

قال في اللسان: ومَضْمَضَ إناءه أي بالضاد المعجمة ومَصْمَصَه أي بالصاد المهملة: إذا حركه، وقيل: إذا غسله، وتمضمض في وضوئه، والمضمضة: تحريك الماء في الفم، ومضمض الماء في فيه حركه، وتمضمض به، اهـ.

وفي المصباح: ومضمضت الماء في فمي: حركته بالإدارة فيه، وتمضمضت بالماء: فعلت ذلك، قال الفارابي: والمضمضة صوت الحية ونحوها، ويقال هو تحريكها لسانها اهـ.

والاستنشاق: جعل الماء في الأنف، وجذبه بالنَّفَس لينزل ما في الأنف، من استنشقتُ الريحَ شَمَمْتُها، فكأن الماء مجعول للاشتمام مجازا، والفقهاء يقولون: استنشقت بالماء بزيادة الباء. أفاده في المصباح.

وفي اللسان: النَّشْق: صَبُّ سَعُوط في الأنف، قال ابن سيدَهْ: النَّشُوق، سَعُوط يُجعَل أو يصب في المنخرين، تقول: أنشقته إنشاقا، وفي الحديث "أنه كان يستنشق في وضوئه ثلاثا في كل مرة يستنثر أي يبلغ الماء خياشيمه، وهو من استنشاق الريح: إذا شممتها مع قوة اهـ.

84 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، أَنْبَأَنَا

(1)

عَبْدُ اللهِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ

(1)

وفي نسخة "أخبرنا".

ص: 366

الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَبَانَ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه تَوَضَّأَ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ثَلَاثًا، فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثًا، ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هذا، ثُمَّ قَالَ:"مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِمَا بِشَيْءٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(سويد بن نصر) أبو الفضل المروزي، راوية ابن المبارك ثقة [10] تقدم في 45/ 55.

2 -

(عبد الله) بن المبارك بن واضح الحنظلي المروزي ثقة حجة [8] تقدم في 32/ 36.

3 -

(معمر) بن راشد أبو عروة البصري، نزيل اليمن ثقة ثبت [7] تقدم في 10/ 10.

4 -

(الزهري) محمَّد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، أبو بكر

ص: 367

المدني ثقة حجة [4] تقدم في 1/ 1.

5 -

(عطاء بن يزيد الليثي) الجُندَعي -بضم الجيم، وسكون النون، وفتح الدال- أبو محمَّد المدني، نزيل الشام، عن تميم الداري، وأبي أيوب، وأبي هريرة، وعنه أبو صالح السمان، وسهيل بن أبي صالح، والزهري، وثقه النسائي قال عمرو بن علي: مات سنة 105، وقال ابن سعد سنة، 9، وقد جاوز، 80 سنة أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة من الثالثة.

6 -

(حُمران بن أبان) مولى عثمان كان من النمر بن قاسط سبي بعين التمر، فابتاعه عثمان من المُسَيَّب بن نَجَبَةَ، فأعتقه.

أدرك أبا بكر، وعمر، وروى عن عثمان، ومعاوية، وعنه أبو وائل شقيق بن سلمة، وهو من أقرانه، وأبو صخرة جامع بن شداد، وعروة ابن الزبير، ومعاذ بن عبد الرحمن التيمي، وعطاء بن يزيد الليثي، وأبو التياح، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وبيان بن بشر البجلي، وغيرهم. قال معاوية بن صالح، عن يحيى بن معين: حمران من تابعي أهل المدينة ومحدثيهم، وقال ابن سعد: نزل البصرة وادعى ولده في النمر بن قاسط، وكان كثير الحديث، ولم أرهم يحتجون بحديثه، وحكى قتادة أنه كان يصلي الصبح مع عثمان، فإذا أخطأ فتح عليه، وحكى الليث بن سعد أن عثمان أسرَّ إليه سرًّا، فأخبر به عبد الرحمن بن عوف، فاستأمن له عبد الرحمن عثمان، وأخبره بما أخبر به، فغضب عليه عثمان ونفاه، وذكره في تسمية عمال عثمان، فقال: وحاجبه حمران، وقال في موضع آخر: مات بعده سنة 75.

قال الحافظ: أورد ابن عبد البر نسبه إلى النمر بن قاسط، في ترجمة هشام بن عروة من التمهيد، وقال: إنه ابن عم صهيب بن سنان، يلتقي

ص: 368

معه في خالد بن عبد عمرو، قال: وكان حمران أحد العلماء الجلة أهل الوجاهة والرأي والشرف، وروينا بسند صحيح عن ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن المسْوَر أن عثمان، مرض فكتب العهد لعبد الرحمن بن عوف، ولم يُطلع على ذلك إلا حمران، ثم أفاق عثمان، فأطلع حمرانُ عبدَ الرحمن على ذلك، فبلغ عثمان فغضب عليه فنفاه، وذكره ابن حبان في الثقات، وأرخ ابن قانع وفاته سنة 76، وابن جرير الطبري سنة، 71، أخرج له الجماعة اهـ تهذيب التهذيب، وفي "ت" ثقة من الثانية.

7 -

(عثمان بن عفان) بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي، أبو عمرو المدني ذو النورين، وأمير المؤمنين، ومجهز جيش العسرة، وأحد العشرة، وأحد الستة، هاجر الهجرتين، له مائة وستة وأربعون حديثا، اتفقا على ثلاثة وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بخمسة.

وعنه أبناؤه: أبان، وسعيد، وعمرو، وأنس، ومروان بن الحكم، وخلق. غاب عن بدر لتمريض ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهم، قال ابن عمر: كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وقال ابن سيرين: كان يحيى الليل كله بركعة، قتل في سابع ذي الحجة يوم الجمعة سنة خمس وثلاثين، قال عبد الله بن سلام: لقد فتح الناس على أنفسهم بقتل عثمان باب فتنة لا يغلق إلى يوم القيامة، رضي الله عنه، روى له الجماعة.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، وهم ما بين مروزين وهما شيخه، وعبد الله، ويمني وهو معمر، ومدنيين، وهم

ص: 369

الباقون، وفيه رواية ثلاثة من التابعين بعضهم من بعض، الزهري، وعطاء، وحمران، وهي من رواية الأقران، وفيه الإخبار، والإنباء، والعنعنة، والقول.

شرح الحديث

(عن حمران) بضم الحاء المهملة وسكون الميم غير منصرف للعلمية وزيادة الألف والنون (بن أبان) اختلفوا في صرفه وعدمه، والجمهور على صرفه، فمن صرفه جعل الهمزة أصلية فوزنه فَعَال، ومن منعه جعلها زائدة فوزنه أفعل، أفاده النووي.

وفي المصباح: هو في تقدير أفعل لكنه أعل بالنقل، ولم يعتد بالعارض، فلا ينصرف، وبعض العرب يعتد بالعارض، فيصرفه، لأنه لم يبق فيه إلا العلمية، ومنهم من يقول وزنه فعال فيكون مصروفا على

قولهم اهـ باختصار.

أنه (قال: رأيت عثمان بن عفان) رضي الله عنه (توضأ) جملة حالية بتقدير "قد" عند البصريين، كما في قوله تعالى {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: آية 90] ولفظة "رأيت" بمعنى أبصرت فلذلك اكتفت بمفعول واحد، وهو عثمان (فأفرغ) أي الماء، والفاء فيه فاء التفسير والتفصيل، فإن قوله "توضأ" مجمل فصله بقوله "فأفرغ"(على يديه) أي كفيه، كما في رواية البخاري "فأفرغ على كفيه"، ويؤخذ منه الإفراغ عليهما معا، وفي رواية "أفرغ بيده اليمنى على اليسرى" قاله في المنهل جـ 2/ ص 5 (ثلاثا) منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف أي إفراغا ثلاثا قاله العيني (فغسلهما) أي يديه معا على ما هو الظاهر.

ويحتمل أنه غسل كل واحدة منهما على حدة، قال ابن دقيق العيد: قوله "غسلهما" قدر مشترك بين كونه غسلهما مجموعتين، أو متفرقتين،

ص: 370

والفقهاء اختلفوا أيهما أفضل، قاله في المنهل جـ 2/ ص 5.

(ثم تمضمض) تقدم الكلام عليه في أول الباب، وقال في الفتح: أصل المضمضة في اللغة التحريك، ثم اشتهر استعماله في وضع الماء في الفم وتحريكه، وأما معناه في الوضوء الشرعي، فأكمله أن يضع الماء في الفم ثم يديره، ثم يمجه، انتهي.

وقال في المنهل: والمبالغة فيه سنة، وأقلها أن يجعل الماء في فمه، ولا يشترط إدارته على المشهور الذي قاله الجمهور.

وقال النووي: قال جماعة من أصحابنا تشترط إدارته، قال ابن دقيق العيد: قال بعض الفقهاء: المضمضة أن يجعل الماء في فيه، ثم يمجه، فأدخل المج في حقيقة المضمضة، فعلى هذا لو ابتلع الماء لم يكن مؤديا للسنة، وهذا الذي يكثر في أفعال المتوضئين أعني الجعل والمجّ، ويمكن أن يكون ذكر ذلك بناء على أنه الأغلب والعادة، لا أنه يتوقف تأدية السنة على مجه اهـ (واستنشق) أي جعل الماء في أنفه، وجذبه بنفسه، لينزل ما فيه من الأوساخ، وليس في هذه الرواية ذكر العدد، وثبتت في رواية أبي داود وغيره.

وقال العيني: وليس في طرق هذا الحديث تقييد المضمضة، والاستنشاق بعدد غير طريق يونس، عن الزهري فيما ذكره ابن المنذر، وكذا فيما ذكره أبو داود من وجهين آخرين عن عثمان رضي الله عنه،

فإن في إحداهما، فتمضمض ثلاثا، واستنثر ثلاثا، وفي الآخر "ثم تمضمض، واستنشق ثلاثا اهـ جـ 2/ ص 300.

(ثم غسل وجهه ثلاثا) عطف بكلمة "ثم"، لأنها تقتضي الترتيب والمهلة، قاله العيني.

وحد الوجه من منابت شعر الرأس المعتاد إلى أسفل الذقن طولا،

ص: 371

ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا، وغسلُهُ فرض بالنص بلا خلاف، والتثليث قام الإجماع على سنيته.

والحكمة في تأخير غسل الوجه عن المضمضة، والاستنشاق اعتبار

أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر، والطعم يدرك بالفم، والريح يدرك بالأنف، فقدم الأقوى منها، وهو الطعم، ثم اللون، قاله اليدر العيني.

(ثم غسل يديه) وتقدم وجه العطف بثم، واليدين تثينة يد، قال في المصباح: واليد مؤنثة، وهي من المنكب إلى أطراف الأصابع، ولامها محذوفة، وهي ياء، والأصل يدي، قيل: بفتح الدال، وقيل: بسكونها اهـ لكن سقط ما وراء المرفق بالنص، وقوله (اليمنى) بدل تفصيل من يديه، مؤنث اليمين ضد اليسار، وأنثه لأن اليد مؤنثة (إلى المرفق) بفتح الميم وكسر الفاء، وعكسه لغتان، وهو موصل الذراع بالعضد.

ولا خلاف في وجوب غسل اليدين للنص، والجمهور على "وجوب غسل المرفق، وخالف في ذلك زفر من الحنفية، وداود الظاهري، ويأتي تحقيق المسألة في المسائل آخر الباب إن شاء الله تعالى (ثلاثا) أي غسلا ثلاثا (ثم اليسرى مثل ذلك) أي ثلاثا (ثم مسح برأسه) بزيادة الباء، وفي رواية للبخاري "رأسه" بلا باء، وهي رواية أبي داود.

قال القرطبي: الباء للتعدية يجوز حذفها، وإثباتها، وقال في الفتح: دخلت الباء لتفيد معنى آخر، وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به، فلو قال "وامسحوا رؤسكم" لأجزأ المسح باليد بغير ماء، فكأنه قال: وامسحوا برؤسكم الماء فهو على القلب، والتقدير امسحوا رؤسكم بالماء اهـ.

ص: 372

والمسح لغة: إمرار اليد على الشيء، قال في المصباح: مسحتُ الشيء بالماء مسحا: أمررت اليد عليه، قال أبو زيد: المسح في كلام العرب يكون مسحا، وهو إصابة الماء، ويكون غسلا يقال: مسحت يدي بالماء إذا غسلتها، وتمسحت بالماء إذا اغتسلت، فالمسح مشترك بين معنيين. اهـ بحذف.

ثم إن ظاهر الحديث: يدل على أنه مسح جميع الرأس، لأن اسم الرأس حقيقة في العضو كله وسيأتي تحقيق المسألة في المسائل الآتية آخر الباب إن شاء الله تعالى.

(ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثا) والقدم مؤنثة، لذا أنث اليمنى، وتصغر على قُدَيمة وجمعها أقْدَام مثل سَبَب وأسباب، أفاده في المصباح.

قال ابن دقيق العيد: قوله: "ثلاثا"، يدل على استحباب التكرار في غسل الرجل ثلاثا، وبعض الفقهاء لا يرى هذا العدد في الرجل كما في غيرها من الأعضاء، وقد ورد في الروايات "فغسل رجليه، حتى أنقاهما" ولم يذكر عددا، فاستدل به لهذا المذهب، وأكد من جهة المعنى بأن الرجل لقربها من الأرض في المشي عليها تكثر فيها الأوساخ والأدْرَان، فيُحَال الأمر فيه على مجرد الإنقاء من غير اعتبار العدد، والرواية التي فيها ذكر العدد زائدة على الرواية التي لم يذكر فيها، فالأخذ بها متعين، والمعنى المذكور لا ينافي اعتبار العدد، فليعمل بما دل عليه لفظ الحديث اهـ إحكام الأحكام جـ 1 ص 183 - 184.

قال الجامع عفا الله عنه:

هذا الذي قاله ابن دقيق العيد أخيرا نهاية التحقيق، والقول المخالف له بعيد عن الصواب سَحيق، والله أعلم.

(ثم) غسل قدمه (اليسرى مثل ذلك) أي ثلاثا (ثم قال) عثمان

ص: 373

رضي الله عنه (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ) جملة حالية، لأن "رأى" بصرية كما مر (نحو وضوئي) أي مثله في الكيفيات المذكورة (ثم قال) صلى الله عليه وسلم (من توضأ نحو وضوئي هذا) قال النووي: إنما قال "نحو وضوئي" ولم يقل مثل، لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره، ورده العيني بأنه جاء في رواية البخاري في الرقاق "من توضأ مثل هذا الوضوء" وجاء في رواية مسلم أيضا "من توضأ مثل وضوئي هذا" وكل واحد من لفظ "نحو" ومثل من أدوات التشبيه، والتشبيه لا عموم له، سواء قال نحو وضوئي هذا، أو مثل وضوئي، فلا يلزم ما ذكره.

وقال الحافظ بعد ذكر الروايات التي فيها مثل: وعلى هذا فالتعبير بنحو من تصرف الرواة، لأنها تطلق على المثلية مجازا، ولأن مثل وإن كانت تقتضي المساواة ظاهرا لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم

الروايتان ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود اهـ فتح جـ 1/ ص 313.

لكن رد عليه العيني قوله من تصرفات الروات، لأنه تطلق على المثلية مجازا، أنه ليس بشيء لأنه ثبت في اللغة مجيء نحو بمعنى مثل، يقال: هذا نحو ذاك: أي مثله اهـ.

وقال في المنهل: والفرق بين مثل، وبين نحو، أن مثل يقتضي ظاهرها المساواة من كل وجه إلا في الوجه الذي يقتضي التغاير بين الحقيقتين بحيث يخرجهما عن الوحدة، ونحو لا تقتضي ذلك اهـ.

(ثم صلى ركعتين) وهما مستحبتان، وقالت الشافعية: هذه الصلاة سنة مؤكدة، قاله في المنهل (لا يحدث نفسه فيهما بشيء) جملة في محل نصب صفة لركعتين، أي لا يحدث فيهما بشيء من أمور الدنيا، لما ثبت في الترمذي الحكيم "لا يحدث نفسه بشيء من الدنيا"، وأما ما يتعلق بالصلاة من أمور الآخرة كالتدبر في معاني الآيات المتلوة،

ص: 374

والتسابيح، فلابد منه، لأن به تمام الخشوع والثواب، وكذا ما لا يتعلق بالصلاة من أمور الآخرة، لما رُوي عن عمر أنه قال:"إني أجَهِّزُ الجيشَ، وأنا في الصلاة". ولو عرض له حديث، فأعرض عنه، فبمجرد إعراضه عفي عن ذلك، وحصلت له هذه الفضيلة، لأن هذا ليس من فعله، وقد عفي لهذه الأمة عن الخواطر التي تَعرض، ولا تستقر، لما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعا "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به، أو تعمل به" اهـ المنهل.

وقال الحافظ: المراد به ما تسترسل النفس معه، ويمكن قطعه، لأن قوله "يحدث" يقتضي تكسبا منه، فأما ما يَهجُم من الخَطَرات، والوساوس، ويتعذر دفعه، فذلك معفو عنه.

ونقل القاضي عياض عن بعضهم: أن المراد من لم يحصل له حديث النفس أصلا، ورأسا، ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في الزهد بلفظ "لم يُسرَّ فيهما".

ورده النووي فقال: الصواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرة، نعم من اتفق أن يحصل له عدم حديث النفس أصلا أعلى درجة بلا ريب.

ثم إن تلك الخواطر منها ما يتعلق بالدنيا، والمراد دفعه مطقا، ووقع في رواية للحكيم الترمذي في هذا الحديث "لا يحدث نفسه بشيء من الدنيا" وهي في الزهد لابن المبارك أيضا، والمصنف لابن أبي شيبة.

ومنها ما يتعلق بالآخرة فإن كان أجنبيا أشبه أحوال الدنيا، وإن كان من متعلقات تلك الصلاة فلا. اهـ فتح جـ 1/ ص 313.

وقال ابن دقيق العيد: الخواطر والوساوس الواردة على النفس قسمان:

ص: 375

أحدهما: ما يَهْجُم هَجْما يتعذر دفعه عن النفس.

والثاني: ما تسترسل معه النفس، ويمكنه قطعه ودفعه، فيمكن حمل الحديث على هذا، دون الأول، لعسر اعتباره، ويشهد لذلك لفظة "يحدث نفسه" فإنه يقتضي تكسبا منه، وتفعلا لهذا الحديث، ويمكن أن يُحمَل على النوعين معا، لأن العسر إنما يجب دفعه عما يتعلق بالتكاليف، والحديث إنما يقتضي ترتب ثواب مخصوص على عمل مخصوص، فمن حصل له ذلك العمل حصل له ذلك الثواب، ومن لا فلا، وليس ذلك من باب التكاليف حتى يلزم دفع العسر عنه، نعم لابد أن تكون تلك الحالة ممكنة الحصول، أعني الوصف المترتب عليه الثواب المخصوص، والأمر كذلك فإن المتجردين عن شواغل الدنيا الذين غلب ذكر الله على قلوبهم وعمرها تحصل لهم تلك الحالة.

وحديث النفس يعم الخواطر المتعلقة بالدنيا، والخواطر المتعلقة بالآخرة، والحديث محمول والله أعلم على ما يتعلق بالدنيا، إذ لابد من حديث النفس فيما يتعلق بالآخرة، كالفكر في معاني المتلو من القرآن

العزيز، والمذكور من الدعوات والأذكار، ولا نريد بما يتعلق من أمر الآخرة كل أمر محمود، أو مندوب إليه فإن كثيرا من ذلك لا يتعلق بأمر الصلاة فإدخاله فيها أجنبي عنها، اهـ كلام ابن دقيق العيد، إحكام جـ 1 ص 189 - 192.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحافظ، وابن دقيق العيد من أن أمور الآخرة التي لا تعلق لها بالصلاة غير داخلة فيما يستثنى من حديث النفس، بل المغتفر ما يتعلق بالصلاة فقط، فيه نظر لما تقدم من تقييد حديث النفس بأمور الدنيا في حديث الترمذي الحكيم، فتبصر. والله أعلم.

ص: 376

(غفر له) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله (ما تقدم من ذنبه) والجملة خبر "مَنْ" الموصولة في قوله "من توضأ" قاله العيني.

والذنب: الإثم، فإن تُوُعِّد عليه كان كبيرا، وإلا فصغيرا، قاله في المنهل.

ثم ظاهر الحديث يعم غفران الصغائر والكبائر، لكن خصه العلماء بالصغائر لما في بعض الأحاديث من التقييد بها.

ففي صحيح مسلم عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله" فهذا صريح في الذُّنُوب الصغائر، وحديث الباب مطلق، فحملوا المطلق على المقيد.

قال الحافظ في الفتح: هو في حق من له كبائر وصغائر، ومن ليس له إلا الصغائر كفرت عنه، ومن ليس له إلا كبائر خفف عنه منها بقدر ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزاد في حسناته بنظير ذلك اهـ ومثله لابن دقيق العيد، فإن قيل: إذا كان الوضوء وحده مكفرًا للصغائر كما في حديث عثمان الآخر الذي فيه "خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره" فما الذي يكفره الوضوء مع صلاة النافلة، كما في حديث الباب، وإذا كانت هذه مكفرة أيضا، فما الذي تكفره المكتوبات؟ أجيب بأن جميع ما ذكر صالح للتكفير فإن صادف شيء منها شيئا من الذنوب المذكورة كفره، وإلا كفر بقدرها من الكبائر، فإن لم يوجد شيء من الصغائر ولا من الكبائر زيد في حسناته كما تقدم اهـ المنهل جـ 2/ ص 15.

ص: 377

مسائل تتعلق بحديث الباب

الأولى: في درجته: حديث الباب متفق عليه.

الثانية: في ذكر مواضعه عند المصنف: أخرجه المصنف هنا عن سويد ابن نصر، عن ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن حمران بن أبان، عن عثمان بن عفان.

وفي الباب 94 عن أحمد بن عمرو بن السرح، والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري به، وفي 96 عن أحمد بن محمَّد بن المغيرة، عن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري به.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه البخاري في الطهارة الباب 25 عن عبد العزيز بن عبد الله، عن إبراهيم بن سعد،، وفي 29 عن أبي اليمان، عن شعيب، وفي الصوم الباب 27 عن عبدان عن ابن

المبارك، عن معمر.

وأخرجه مسلم في الطهارة الباب 3 الحديث 1 عن أبي الطاهر بن السرح، وحرملة بن يحيى كلاهما عن ابن وهب، عن يونس و 3/ 2 عن زهير بن حرب، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه أربعتهم عن الزهري عنه به.

وأخرجه أبو داود في الطهارة عن الحسن بن علي، عن عبد الرزاق، عن معمر به، قاله في تحفة الأشراف.

وأخرجه الدارقطني، والبيهقي.

المسألة الرابعة: هكذا الحديث أصل عظيم في صفة الوضوء اشتمل على مسائل كثيرة نلخصها فيما يأتي:

ص: 378

فمنها: قوله "فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما" يدل على مشروعية غسل الكفين، أوَّلًا قبل إدخالهما الإناء، ولو لم يكن عَقِبَ النوم، وهذا مستحب بلا خلاف، وقد استوفينا الكلام على هذه المسألة في أول هذا الشرح عند الكلام على الحديث الأول، فلنكمل ما تبقَّى، فنقول:

المسألة الخامسة: (قوله: ثم تمضمض واستنشق) فيه دلالة على مشروعية المضمضة والاستنشاق، وقد اختلف العلماء في حكمها على مذاهب:

أحدها: أنهما واجبتان في الوضوء والغسل وهو مذهب أحمد في المشهور، وإسحاق، وأبي

(1)

عبيد، وأبي ثور، وابن المنذر، وابن أبي ليلى، وحماد بن أبي سليمان، والهادي، والقاسم، والمؤيد بالله.

قال أبو محمَّد بن حزم في المحلى: وممن صح عنهم الأمر بذلك جماعة من السلف روينا عن علي بن أبي طالب: "إذا توضأت فانثر فأذهب ما في المنخرين من الخبث"، وعن شعبة قال حماد بن أبي سليمان فيمن نسي أن يمضمض ويستنشق قال: يستقبل، وعن شعبة عن الحكم بن عتيبة فيمن صلى وقد نسي أن يمضمض ويستنشق قال: أحب إلى أن يعيد، يعني الصلاة، وعن وكيع، عن سفيان الثوري، عن

مجاهد: الاستنشاق شطر الوضوء، وعن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى قالا جميعا: إذا نسي المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد يعنون الصلاة، وعن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري: من نسي المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد يعني الصلاة اهـ المحلى جـ 1/ ص 51.

الثاني: واجبتان في الغسل، دون الوضوء، وهو قول أبي حنيفة، وأصحابه، وسفيان الثوري، وزيد بن علي.

(1)

لعل أبا عبيد وأبا ثور وابن المنذر لهم مذهبان لما يأتي بَعدُ.

ص: 379

الثالث: أن الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل دون المضمضة، وهو مذهب أبي ثور، وأبي عبيد، وداود، ورواية عن أحمد، قال ابن المنذر: وبه أقول.

الرابع: أنهما سنتان فيهما، وهو مذهب مالك، والشافعي، والأوزاعي، والليث، والحسن البصري، والزهري، وربيعة، ويحيى ابن سعيد، وقتادة، والحكم بن عتيبة، ومحمد بن جرير الطبري، والناصر من أهل البيت.

واحتج من قال بالوجوب فيهما بأدلة:

منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم -كان يفعلهما وفعله بيان للطهارة المأمور بها، قاله في المجموع.

ومنها: حديث أبي هريرة المتفق عليه: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء، ثم لينتثر".

ومنها: حديث سلمة بن قيس عند الترمذي، والنسائي بلفظ "إذا توضأت فانتثر".

ومنها: ما أخرجه أحمد، ومالك، والشافعي، وابن الجارود، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وأهل السنن الأربع من حديث لقيط بن صبرة في حديث طويل، وفيه "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما" وفي رواية من هذا الحديث "إذا توضأت فمضمض" أخرجهما أبو داود وغيره.

قال الحافظ في الفتح: إن إسنادها صحيح، وقد رَدَّ الحافظ أيضا في التلخيص ما أُعِلُّ به حديثُ لقيط من أنه لم يروه عن عاصم بن لقيط بن صبرة إلا إسماعيل بن كثير، وقال: ليس بشيء لأنه روي عنه، وعن

ص: 380

غيره، وصححه الترمذي، والبغوي، وابن القطان، وقال النووي: هو حديث صحيح، رواه أبو داود، والترمذي، وغيرهما بالأسانيد الصحيحة.

ومنها: حديث حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة قال:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق" رواه الدارقطني، وقال: لم يسنده عن حماد غير هدبة وداود بن المحبر، وغيرهما يرويه عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يذكر أبا هريرة،. قال المجد ابن تيمية في المنتقى: قلت: وهذا لا يضر لأن هدبة ثقة مُخَرَّجٌ عنه في الصحيحين، فيقبل رفعه، وما ينفرد به، انتهى، وقال الشوكاني في النيل: وقد ذكر هذا الحديث ابن سيد الناس في شرح الترمذي منسوبا إلى أبي هريرة، ولم يتكلم عليه، وعادته التكلم على ما فيه وهن اهـ.

ومنها: ما قدمناه عن المجموع أنهما من تمام غسل الوجه، فالأمر بغسله أمر بهما، قالوا: وهذا وإن كان مستبعدا في بادئ الرأي باعتبار أن الوجه في لغة العرب معلوم المقدار، لكن يعضد دعوى دخولهما في

الوجه أنه لا موجب للتخصيص بظاهره دون باطنه، فإن الجميع في لغة العرب يسمى وجها.

فإن قلت: قد أطلق على خرق الفم،، والأنف اسم خاص، فليسا في لغة العرب وجها، قلت: كذلك أطلق على الخدين، والجبهة، وظاهر الأنف والحاجبين، وسائر أجزاء الوجه أسماء خاصة، فلا تسمى وجها، وهذا في غاية السقوط، لاستلزامه عدم غسل الوجه.

فإن قلت: يلزم على هذا وجوب غسل باطن العين، قلت: يلزم ذلك لولا اقتصار الشارع في البيان على غسل ما عداه، وقد بَيَّنَ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نزل إلينا فداوم على المضمضة والاستنشاق، ولم يحفظ

ص: 381

أنه أخلَّ بهما مرة واحدة كما ذكره ابن القيم في الهدي، ولم ينقل عنه غسل باطن العين مرة واحدة، على أنه قد ذهب إلى وجوب غسل باطن العين ابن عمر، والمؤيد بالله، وروي في البحر عن الناصر والشافعي أنه يستحب، واستدل لهم بظاهر الآية اهـ نيل بتصرف.

واحتج من قال بوجوبهما في الغسل دون الوضوء: بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: آية 6] فإنه أمر بتطهير جميع البدن إلا ما تعذر إيصال الماء إليه، وداخل الفم والأنف لا يتعذر إيصاله إليه بخلاف الوضوء، فإن الواجب فيه غسل الوجه، وهو ما تقع به المواجهة وهي فيهما منعدمة.

واستدلوا بما رواه الدارقطني عن عائشة بنت عجرد في جُنُب نسي المضمضة والاستنشاق، قالت: قال ابن عباس: يمضمض ويستنشق ويعيد الصلاة.

ورواه عنها من عدة طرق، وقال: عائشة بنت عجرد لا يحتج بها اهـ ولا وجه للتفرقة بين الوضوء والغسل فيهما، فإن ما احتجوا به من الآية مجمل بُيِّنَ بنحو حديث أبي ذر الآتي، وفيه "إذا وجد الماء فليمسه بشرته" والبشرة ظاهر الجلد، فلا تشمل داخل الفم والأنف.

واحتجوا أيضا على عدم الوجوب في الوضوء بحديث "عشر من سنن المرسلين" وقد رده الحافظ في التلخيص، وقال: إنه لم يرد بلفظ "عشر من السنن" بل بلفظ من الفطرة، ولو ورد لم ينتهض دليلا على الوجوب لأن المراد به السنة: أي الطريقة، لا السنة بمعناها الاصطلاحي الأصولي، واستدلوا أيضا بحديث ابن عباس مرفوعا بلفظ "المضمضة والاستنشاق سنة" رواه الدارقطني، وهو حديث ضعيف.

وبحديث "توضأ كما أمرك الله" وليس في القرآن ذكر المضمضة

ص: 382

والاستنشاق.

ورد بأن الأمر بغسل الوجه أمر بهما، وبأن وجوبهما ثبت بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر منه أمر من الله بدليل:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: آية 7]{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: آية 31].

قال الشوكاني: ويمكن مناقشة هذا بأنه إنما يتم لو أحاله فقط كما وقع لابن دقيق العيد، وغيره، وأما بالنظر إلى تمام الحديث وهو "فاغسل وجهك، ويديك، وامسح رأسك، واغسل رجليك" فيصير نصا على أن المراد كما أمرك الله في خصوص آية الوضوء، لا في عموم القرآن، فلا يكون أمره صلى الله عليه وسلم بالمضمضة داخلا تحت قوله للأعرابي "كما أمرك الله" فيقتصر في الجواب على أنه قد صح أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما، والواجب الأخذ بما صح عنه، ولا يكون الاقتصار على البعض في مبادئ التعليم ونحوها موجبا لصرف ما ورد بعده وإخراجه عن الوجوب، وإلا لزم قصر واجبات الشريعة بأسرها على الخمس المذكورة في حديث ضمام بن ثعلبة مثلا، لاقتصاره على ذلك المقدار في تعليمه، وهذا خرق للإجماع، واطِّرَاح لأكثر الأحكام الشرعية، اهـ ما قاله الشوكاني.

واحتج من قال بوجوب الاستنشاق دون المضمضة بما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعا "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم ليستنثر" وبما رواه الدارقطني عن ابن سيرين قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستنشاق في الجنابة ثلاثا" وقالوا: إن المضمضة ثابتة بفعله صلى الله عليه وسلم لا بأمره، بخلاف الاستنشاق فإنه ثابت بهما، وفعله لا يفيد الوجوب، وفي قولهم هذا نظر، فقد روى الدارقطني عن عائشة، وسليمان بن موسى، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من توضأ فليتمضمض وليستنشق" فلا وجه للتفرقة، قاله في المنهل جـ 2/ ص 6.

ص: 383

واحتج من قال بسنيتهما في الغسل والوضوء بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وقوله {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: آية 6] والوجه عند العرب ما حصلت به المواجهة، وبقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر، وقد سأله عن الجنابة تصيبه، ولا يجد الماء "الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر حجج، فإن وجد الماء فليمسه بشرته" حديث صحيح، قال أهل اللغة: البشرة ظاهر الجلد، وأما باطنه فأدَمَة بفتح الهمزة والدال.

واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله" وهو صحيح وقد سبق الجواب عنه.

قال الجامع عفا الله عنه:

إذا علمت هذا كله، فالذي يترجح عندي، قول من قال بوجوبهما، فيهما، وهو الذي رجحه الشوكاني في النيل، قال: وقد اعترف جماعة من الشافعية وغيرهم بضعف دليل من قال بعدم وجوب المضمضة والاستنشاق، والاستنثار، قال الحافظ في الفتح: وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به إلا بكونه لا يعلم خلافا في أن تاركه لا يعيد، وهذا دليل فقهي، فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة والتابعين، إلا عن عطاء.

قال الجامع: وقد مر عن ابن حزم أنه نقل عن مجاهد أنه قال: الاستنشاق شطر الوضوء، وعن حماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى والزهري، من نسي المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة، فظهر بهذا أن عطاء ليس منفردا به والله أعلم.

قال الشوكاني: وذكر ابن سيد الناس في شرح الترمذي بعد أن ساق حديث لقيط بن صبرة، ما لفظه: وقال أبو بشر الدولابي فيما جمعه من

ص: 384

حديث الثوري: حدثنا محمَّد بن بشار، أخبرنا ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي هاشم، عن عاصم بن لقيط، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم "إذا توضأت فأبلغ في المضمضة والاستنشاق، إلا أن تكون صائما"، قال أبو الحسين

(1)

بن القطان: وهذا صحيح، فهذا أمرصحيح صريح، وانضم إليه مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم فثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا مع المواظبة في الفعل انتهى.

ومن جملة ما أورده في شرح الترمذي من الأدلة القاضية بوجوبها حديث عائشة عند البيهقي بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لابد منه" وقد ضعف بمحمد بن الأزهر الجوزجاني.

وقد رواه البيهقي لا من طريقه: فرواه عن أبي سعد أحمد بن محمَّد الصوفي، عن ابن عدي الحافظ، عن عبد الله بن سليمان بن الأشعث، عن الحسين بن علي بن مهران، عن عصام بن يوسف، عن ابن المبارك، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة عنها اهـ نيل جـ 1/ ص 214.

قال الجامع:

لكن نقل البيهقي عن أبي بكر الفقيه عن علي هو ابن عمر الدارقطني الحافظ أنه قال: تفرد به عصام، ووهم فيه، والصواب عن ابن جريج عن سلميان بن موسى، مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والحاصل أن أدلة القائلين بالوجوب واضحة، فوجب القول به، والله أعلم.

المسألة السادسة: قوله "ثم غسل وجهه ثلاثا" فيه دليل على مشروعية غسل الوجه.

(1)

لعله أبو الحسن.

ص: 385

قال العلامة ابن رشد في كتابه بداية المجتهد: اتفق العلماء على أن غسل الوجه بالجملة من فرائض الوضوء لقوله تعالى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: آية 6] واختلفوا في ثلاثة مواضع: في غسل البياض الذي بين العذار والأذن، وفي غسل ما انسدل من اللحية، وفي تخليل اللحية، فالمشهور من مذهب مالك أنه ليس البياض الذي بين العذار والأذن من الوجه، وقد قيل في المذهب بالفرق بين الأمرد والملتحي، فيكون في المذهب ثلاثة أقوال.

وقال أبو حنيفة والشافعي: هو من الوجه.

وأما ما انسدل من اللحية فذهب مالك إلى وجوب إمرار الماء عليه، ولم يوجبه أبو حنيفة، ولا الشافعي في أحد قوليه، وسبب اختلافهم في هاتين المسألتين هو خفاء تناول اسم الوجه لهذين الموضعين، أعني هل يتناولهما أو لا يتناولهما؟ وأما تخليل اللحية: فمذهب مالك أنه ليس واجبا، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي في الوضوء، وأوجبه ابن عبد الحكم من أصحاب مالك.

وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في صحة الآثار التي ورد فيها الأمر بتخليل اللحية، والأكثر على أنها غير صحيحة، مع أن الآثار الصحاح التي ورد فيها صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام ليس في شيء منها التخليل اهـ بداية جـ 1/ ص 11.

قال الجامع: سيأتي الكلام على أحاديث التخليل إن شاء الله تعالى.

وقال النووي رحمه الله: غسل الوجه واجب في الوضوء بالكتاب والسنن المتظاهرة والإجماع اهـ المجموع جـ 1/ ص 371.

وقال في المسألة الأولى، وهي مسألة البياض الذي بين العذار والأذن: كونه من الوجه هو مذهب الشافعي، وحكاه أصحاب الشافعي

ص: 386

عن أبي حنيفة، ومحمد، وأحمد، وداود، وعن مالك أنه ليس من الوجه، وعن أبي يوسف يجب على الأمرد غسله دون الملتحي، وحكى الماوردي هذا التفصيل عن مالك.

قال: ودليلنا أنه تحصل به المواجهة كالخد، واحتج الماوردي وغيره فيه بحديث علي رضي الله عنه في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال في غسل الوجه "ضرب بالماء على وجهه، ثم ألقم إبهاميه ما أقبل من أذنيه" ورواه أبو داود، والبيهقي، وليس بقوي؛ لأنه من رواية محمَّد بن إسحاق صاحب المغازي، وهو مدلس، ولم يذكر سماعه، فلا يحتج به كما عرف، فلهذا لم أعتمده، وإنما اعتمدت المعنى وذكرته تقويةً، ولأبَيِّنَ حاله، والله أعلم اهـ المجموع جـ 1/ ص 373.

قال الجامع عفا الله عنه: قال في التلخيص: رواه البزار، وقال: لا نعلم أحدا روى هذا هكذا إلا من حديث عبيد الله الخولاني، ولا نعلم أحدا رواه عنه إلا محمَّد بن طلحة بن يزيد بن رُكانة، وقد صرح ابن إسحاق بالسماع فيه.

وأخرجه ابن حبان من طريقه مختصرا اهـ، وقد صرح ابن إسحاق بالسماع فيه أيضا في رواية أحمد بالتحديث جـ 1/ ص 82.

وقال ابن التركماني في الجوهر النقي: في كتاب الإمام أن ابن إسحاق صرح بأنه حدثه في رواية يعقوب الدورقي عن ابن علية عنه، فسلم الحديثُ من التدليس.

وقال شيخنا يعني المنذري، في مختصر السنن، قال الترمذي: سألت محمَّد بن إسماعيل عنه، يعني هذا الحديث فضعفه، وقال: ما أدري ما هذا؟ اهـ جـ 1/ ص 53.

والحاصل أنه زال ما ضعفه به النووي، وغيره بسببه، فصح الاستدلال به والله أعلم.

ص: 387

وقال في المسألة الثانية، وهي مسألة ما انسدل من اللحية: ما حاصله: أن فيه قولين في مذهب الشافعي، والصحيح منهما الوجوب، وهو محكي عن مالك، وأحمد، وعدم الوجوب محكي عن أبي

حنيفة، وداود، واختاره المزني.

واحتج الأولون بأنه شعر ظاهر ثابت على بشرة الوجه، فأشبه شعر الخد.

واحتج الآخرون بأنه شعر لا يلاقي محل الفرض، فلم يكن محلا للفرض كالذؤابة اهـ. المجموع بتصرف.

وأما المسألة الثالثة: وهي تخليل اللحية، فقال الشوكاني في النيل: وقد اختلف الناس في ذلك -يعني تخليل اللحية. فذهب إلى وجوبه في الوضوء والغسل العترة، والحسن بن صالح، وأبو ثور، والظاهرية كذا في البحر.

واستدلوا بما وقع في الحديث بلفظ "هكذا أمرني ربي".

وذهب مالك، والشافعي، والثوري، والأوزاعي، إلى أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء، قال مالك: وطائفة من أهل المدينة: ولا في غسل الجنابة.

وقال الشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهما، والثوري والأوزاعي، والليث، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، والطبري، وأكثر أهل العلم: إن تخليل اللحية واجب في غسل الجنابة، ولا يجب في الوضوء هكذا في شرح الترمذي لابن سيد الناس، قال: وأظنهم فرقوا بين ذلك والله أعلم، لقوله صلى الله عليه وسلم "تحت كل شعرة جنابة، فبُلُّوا الشعرَ وأنقُوا البَشَرَ.

واستدلوا لعدم الوجوب في الوضوء بحديث ابن عباس الذي ساقه

ص: 388

البخاري، فإنه ليس فيه تخليل اللحية: قال: وقد روي عن ابن عباس، وابن عمرو، وأنس، وعلي، وسعيد بن جبير، وأبي قلابة، ومجاهد، وابن سيرين، والضحاك، وإبراهيم النخعي: إنهم كانوا يخللون

لحاهم.

وممن روي عنه أنه كان لا يخلل: إبراهيم النخعي، والحسن، وابن الحنفية، وأبو العالية، وأبو جعفر الهاشمي، والشعبي، ومجاهد، والقاسم، وابن أبي ليلى، ذكر ذلك ابن أبي شيبة بأسانيده إليهم.

وقد وردت أحاديث في تخليل اللحية:

فمنها: حديث عثمان رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته" رواه ابن ماجه، والترمذي، وصححه، وابن خزيمة، والحاكم، والدارقطني، وابن حبان، وفيه عامر بن شقيق ضعفه يحيى بن معين، وقال البخاري: حديثه حسن، وقال الحاكم: لا نعلم فيه طعنا بوجه من الوجوه، وأورد له شواهد.

ومنها: حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء، فأدخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل" رواه أبو داود، وفيه الوليد بن زوران مجهول الحال، قال الحافظ: وله طرق أخرى ضعيفة، عن أنس منها ما رويناه في فوائد أبي جعفر البختري، ومستدرك الحاكم، ورجاله ثقات، لكنه معلول، فإنما رواه موسى بن أبي عائشة، عن زيد بن أبي أنيسة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، أخرجه ابن عدي، وصححه ابن القطان من طريق أخرى ذكرها الذهلي في الزهريات، وهو معلول، وصححه الحاكم قبل ابن القطان، قال الحافظ: ولم تقدح هذه العلة عندهما فيه.

وفي الباب عن علي، وعائشة، وأم سلمة، وأبي أيوب، وأبي

ص: 389

أمامة، وعمار، وابن عمر، وجابر، وجرير، وابن أبي أوفى، وابن عباس، وعبد الله بن عكبرة

(1)

، وأبي الدرداء.

وأما حديث علي فرواه الطبراني فيما انتقاه عليه ابن مردويه، وإسناده ضعيف ومنقطع، وأما حديث عائشة، فرواه أحمد من رواية طلحة بن عبد الله بن كريز عنها، وإسناده حسن، وأما حديث أم سلمة

فرواه الطبراني، والعقيلي والبيهقي بلفظ "كان إذا توضأ خلل لحيته" وفي إسناده خالد بن الياس، وهو منكر الحديث.

وأما حديث أبي أيوب: فرواه ابن ماجه، والعقيلي، وأحمد، والترمذي في العلل، وفيه أبو سورة لا يعرف، وأما حديث أبي أمامة فرواه أبي بكر بن أبي شيبة في مصنفه، والطبراني في الكبير، وإسناده ضعيف، وأما حديث عمار فرواه الترمذي، وابن ماجه، وهو معلول، وأما حديث ابن عمر: فرواه الطبراني في الأوسط من طريق مؤمل بن إسماعيل، عن العمري، عن نافع، عنه، وإسناده ضعيف، وله حديث آخر أخرجه ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وصححه ابن السكن من حديث الأوزاعي، عن عبد الواحد بن قيس، عن نافع، عن ابن عمر، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ عَرَكَ عارضيه بعض العَرْك، ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها"، وعبد الواحد مختلف فيه، واختلف فيه عن الأوزاعي، فقال عبد الحميد بن أبي العشرين هكذا، وخالفه أبو المغيرة، فرواه عن الأوزاعي بهذا السند موقوفا، قال الدارقطني: وهو الصواب، وخالفهما الوليد، فقال عن الأوزاعي، عن عبد الواحد، عن يزيد الرقاشي، وقتادة مرسلا، حكاه ابن أبي حاتم في العلل.

وأما حديث جابر فرواه ابن عدي في الكامل من طريق أصرم بن

(1)

هكذا في التلخيص عكبرة بهاء التأنيث، والذي في مشتبه الذهبي والقاموس: عكبر بلا هاء كجعفر، وقيل فيه غيره، انظر التاج.

ص: 390

غياث، ثنا مقاتل بن حيان، عن جابر قال:"وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاث، فرأيته يخلل لحيته بأصابعه، كأنها أنياب مشط" وأصرم متروك الحديث، قاله النسائي، وفي الإسناد انقطاع أيضا.

وأما حديث جرير، فرواه ابن عدي، وفيه ياسين الزيات، وهو متروك، وأما حديث ابن أبي أوفى، فرواه أبو عبيد في كتاب الطهور، وفي إسناده أبو الورقاء وهو ضعيف، وهو في الطبراني أيضا، وأما حديث ابن عباس، فرواه العقيلي، في ترجمة نافع أبي هرمز، وهو ضعيف، وهو في الطبراني أيضا، وأما حديث عبد الله بن عكبرة فرواه الطبراني في الصغير، ولفظه، عن عبد الله بن عكبرة، وكانت له صحبه قال:"التخليل سنة" وفيه عبد الكريم أبو أمية، وهو ضعيف، وأما حديث أبي الدرداء: فرواه الطبراني، وابن عدي بلفظ "توضأ فخلل لحيته مرتين، وقال هكذا أمرني ربي" وفي إسناده تمام بن نجيح، وهو لين الحديث اهـ تلخيص الحبير بتقديم وتأخير جـ 1/ ص 85 - 87.

قال الحافظ:

فائدة: قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس في تخليل اللحية شيء صحيح، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في تخليل اللحية شيء اهـ تلخيص.

قال الشوكاني: ولكنه يعارض هذا تصحيح الترمذي، والحاكم، وابن القطان لبعض أحاديث الباب، وكذلك غيرهم اهـ. نيل جـ 1/ ص 225.

قال الجامع عفا الله عنه: الحق أن أحاديث الباب بمجموعها ترتقي إلى درجة الصحيح أو الحسن، وقد صححها العلامة الألباني في الإرواء جـ 1/ ص 130.

ص: 391

والحاصل أنها تصلح للاحتجاج بها، لكنها كما قال الشوكاني: بعد تسليم انتهاضها للاحتجاج، وصلاحيتها للاستدلال لا تدل على الوجوب، لأنها أفعال، وما ورد في بعض الروايات من قوله صلى الله عليه وسلم "هكذا أمرني ربي" لا يفيد الوجوب على الأمة لظهوره في الاختصاص به، وهو يتخرج على الخلاف المشهور في الأصول، هل يعم الأمة ما كان ظاهرا الاختصاص به أم لا؟

والفرائض لا تثبت إلا بيقين، والحكم على ما لم يفرضه الله بالفرضية كالحكم على ما فرضه بعدمها، لا شك في ذلك، لأن كل واحد منهما من التقول على الله بما لم يقل. ولا شك أن الغَرْفَة الواحدة لا تكفي كث اللحية لغسل وجهه، وتخليل لحيته، ودفعه كما قال بعضهم بالوجدان مكابرة منه، نعم الاحتياط والأخذ بالأوثق لا شك في أولويته، لكن بدون مجاراة على الحكم بالوجوب اهـ نيل جـ 1/ ص 226.

قال الجامع عفا الله عنه:

الحاصل أن تخليل اللحية مستحب لثبوت الأحاديث الدالة عليه، وأما إثبات الوجوب فمحل نظر، والله أعلم.

المسألة السابعة: قوله "ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق" الخ.

فيه دلالة على مشروعية غسل اليدين، قال العلامة ابن رشد في بدايته: اتفق العلماء على أن غسل اليدين والذراعين من فروض الوضوء لقوله تعالي {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: آية 6].

واختلفوا في إدخال المرافق فيها، فذهب الجمهور، ومالك والشافعي، وأبو حنيفة إلى وجوب إدخالها، وذهب بعض أهل الظاهر، وبعض متأخري أصحاب مالك، والطبري إلى أنه لا يجب إدخالها في الغسل.

ص: 392

قال الجامع:

وممن قال بهذا القول زفر من الحنفية، قال ابن رشد: والسبب في اختلافهم في ذلك الاشتراك الذي في حرف "إلى"، وفي اسم اليد في كلام العرب، وذلك أن حرف "إلى" مرة يدل في كلام العرب على الغاية، ومرة يكون بمعنى "مع". واليد أيضا في كلام العرب تطلق على ثلاثة معان على الكف فقط، وعلى الكف والذراع، وعلى الكف والذراع والعضد، فمن جعل "إلى" بمعنى "مع" أو فهم من اليد مجموع الثلاثة الأعضاء أوجب دخولها في الغسل، ومن فهم من "إلى" الغاية، ومن اليد ما دون المرفق ولم يكن الحد عنده داخلا في المحدود لم يدخلها في الغسل.

وخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم اليسرى كذلك، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل اليسرى كذلك، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ" وهو حجة لقول من أوجب إدخالها في الغسل، لأنه إذا تردد اللفظ بين المعنيين على السواء وجب أن لا يصار إلى أحد المعنيين إلا بدليل.

وإن كانت "إلى" في كلام العرب أظهر في معنى الغاية منها في معنى "مع"، وكذلك اسم اليد أظهر فيما دون العضد منه فيما فوق العضد، فقول من لم يدخلها من جهة الدلالة اللفظية أرجح، وقول من أدخلها من جهة هذا الأثر أبين، إلا أن يحمل هذا الأثر على الندب، والمسألة محتملة كما ترى، وقد قال قوم: إن الغاية إذا كانت من جنس ذي الغاية دخلت فيه، وإن لم تكن من جنسه لم تدخل فيه اهـ بداية المجتهد جـ 1/ ص 11 - 12.

ص: 393

وقال النووي رحمه الله: ذكر ابن قتيبة، والأزهري، وآخرون من أهل اللغة، والفقهاء في كيفية الاستدلال بالآية كلاما مختصره: إن جماعة من أهل اللغة منهم أبو العباس ثعلب، وآخرون، قالوا "إلى" بمعنى "مع"، وقال أبو العباس المبرد، وأبو إسحاق الزجاج وآخرون "إلى" للغاية، وهذا هو الأصح الأشهر، فإن كانت بمعنى "مع" فدخول المرفق ظاهر، وإنما لم يدخل العضد للإجماع، وإن كانت للغاية فالحد يدخل في المحدود إذا كان التحديد شاملا للحد والمحدود، كقولك قطعت أصابعه من الخنصر إلى المسبحة، أو بعت هذه الأشجار من هذه إلى هذه، فإن الأصبعين والشجرتين داخلات في القطع والبيع بلا شك لشمول اللفظ، ويكون المراد بالتحديد في مثل هذا إخراج ما وراء الحد مع بقاء الحد داخلا، فكذا هنا اسم اليد شامل من أطراف الأصابع إلى الإبط، ففائدة التحديد بالمرافق إخراج ما فوق المرفق مع بقاء المرفق.

ثم ذكر النووي حديث أبي هريرة المتقدم، وقال: وفعله بيان للوضوء المأمور به، ولم ينقل تركه ذلك، اهـ المجموع جـ 1/ ص 385.

وقال الشوكاني: واستدل لغسلهما أيضا بحديث "أنه صلى الله عليه وسلم أدار الماء على مرفقيه، ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" عند الدارقطني، والبيهقي من حديث جابر مرفوعا، وفيه القاسم بن محمَّد ابن عبد الله بن عقيل، وهو متروك، وقال أبو زرعة: منكر، وضعفه أحمد، وابن معين، وانفرد ابن حبان بذكره في الثقات، ولم يلتفت في ذلك إليه، وصرح بضعف هذا الحديث المنذري، وابن الجوزي، وابن الصلاح، والنووي، وغيرهم.

وذكر ما تقدم من حديث أبي هريرة، لكن قال: وفيه أنه فعل لا ينتهض بمجرده للوجوب، وأجيب بأنه بيان للمجمل، فيفيد الوجوب،

ص: 394

ورد بأنه لا إجمال، لأن "إلى" حقيقة في انتهاء الغاية مجاز في معنى "مع"، وقد حقق الكلام في ذلك الرضي في شرح الكافية، وغيره فليرجع إليه، واستدل أيضا لذلك أنه من مقدمة الواجب فيكون واجبا، وفيه خلاف في الأصول معروف اهـ نيل جـ 1/ ص 214.

قال الجامع عفا الله عنه:

الذي يترجح عندي القول بوجوب دخولهما، لأن الراجح أن الآية مجملة، وفعله صلى الله عليه وسلم بيان، فيكون ما فعله واجبًا إلا بدليل كعدم وجوب التثليث، ونحوه، والحاصل أن الراجح دخولهما كما تقدم تقريره في كلام النووي رحمه الله.

وقال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن غسل اليدين إلى المرفقين من الفرض الذي إن تركه، أو شيئا منه تارك لم تجز الصلاة مع تركه غسله، فأما المرفقان وما وراءهما فإن غسل ذلك من الندب الذي ندب إليه صلى الله عليه وسلم أمته بقوله "أمتي الغر المحجلون من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" فلا تفسد صلاة تارك غسلهما، وغسل ماوراءهما لما قد بينا قبلُ فيما مضى من أن كل غاية بإلي، فقد تحتمل في كلام العرب دخول الغاية في الحد وخروجها منه، وإذا احتمل الكلام ذلك لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيه إلا لمن لا يجوز خلافه فيما بَيَّنَ وحَكَم، ولا حكم بأن المرفق داخلة فيما يجب غسله عندنا ممن يجب التسليم بحكمه اهـ كلام ابن جرير جـ 6/ ص 124.

قال الجامع:

بلى عندنا حُكْم يجب تسليمه وهو فعله صلى الله عليه وسلم الواقع بيانا لمجمل الأمر في الآية، وقد قال أهل اللغة بدخول الغاية في المغيا، لقرينة، وهنا

ص: 395

القرينة في دخولها فعله المبين للمجمل فتبصر. والله أعلم.

فائدة: قال في المصباح: إنما جمع المرفق في الآية لأن العرب إذا قابلت جمعا حملت كل مفرد من هذا على كل مفرد من هذا، وعليه قوله تعالي {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: آية 102]{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] أي وليأخذ كل واحد سلاحه، ولا ينكح كل واحد ما نكح أبوه من النساء، ولذلك إذا كان للجمع الثاني متعلق واحد، فتارة يفردون المتعلق باعتبار وحدته بالنسبة إلى إضافته إلى متعلقه نحو {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] أي خذ من كل مال واحد منهم صدقة، وتارة يجمعونه ليتناسب اللفظ بصيغ الجموع قالوا: ركب الناس دوابهم برحالها وأرسانها، أي ركب كل واحد دابته برحلها ورسنها، ومنه قوله تعالى {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] أي وليغسل كل واحد كل يد إلى مرفقها، لأن لكل يد مرفقا واحدا، وإن كان له متعلقان ثنوا المتعلق في الأكثر قالوا: وطئنا بلادهم بطرفيها، أي كل بلدة بطرفيها، ومنه قوله تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وجاز الجمع، فيقال بأطرافها، وغَسَلُوا أرجلهم إلى الكعاب، أي مع كل كعب اهـ جـ 1/ ص 233 - 234.

المسألة الثامنة: قوله "ثم مسح برأسه"

قال ابن رشد: اتفق العلماء على أن مسح الرأس من فروض الوضوء، واختلفوا في القدر المجزئ منه، فذهب مالك إلى أن الواجب مسحه كله.

وذهب الشافعي، وبعض أصحاب مالك، وأبو حنيفة إلى أن مسح بعضه هو الفرض، ومن أصحاب مالك من حد هذا البعض بالثلث،

ص: 396

ومنهم من حَدَّ بالثلثين، وأما أبو حنيفة فحده بالربع، وحد مع هذا القدر من اليد الذي يكون به المسح، فقال: إن مسحه بأقل من ثلاثة أصابع لم يجزه.

وأما الشافعي فلم يحد في الماسح، ولا في الممسوح حدا.

وأصل هذا الاختلاف في الاشتراك الذي في الباء في كلام العرب، وذلك أنها مرة تكون زائدة مثل قوله تعالى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] على قراءة تنبت بضم التاء وكسر الباء من أنبت، ومرة تدل على التبعيض مثل قول القائل: أخذت بثوبه، وبعضده، ولا معنى لإنكار هذا في كلام العرب، أعني كون الباء مبعضة، وهو قول الكوفيين من النحويين، فمن رآها زائدة أوجب مسح الرأس كله، ومعنى الزائدة ها هنا كونها مؤكدة، ومن رآها مبعضة أوجب مسح بعضه، وقد احتج من رجح هذا المفهوم بحديث المغيرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعمامته" أخرجه مسلم، وإن سلمنا أن الباء زائدة بقي ها هنا أيضا احتمال آخر، وهو هل الواجب الأخذ بأوائل الأسماء، وأواخرها. اهـ بداية المجتهد جـ 1/ ص 12.

وقال الشوكاني: والحديث -يعني حديث عبد الله بن زيد- يدل على مشروعية مسح جميع الرأس، وهو مستحب باتفاق العلماء، قاله النووي، وعلل ذلك بأنه طريق إلى استيعاب الرأس، ووصول الماء إلى جميع شعره، وقد ذهب إلى وجوبه أكثر العترة، ومالك، والمزني، والجبائي، وإحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل، وابن علية، وقال الشافعي: يجزئ مسح بعض الرأس، ولم يحده بحد.

قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: وهو قول الطبري، وقال أبو حنيفة: الواجب الربع، وقال الثوري، والأوزاعي، والليث: يجزئ

ص: 397

مسح بعض الرأس، ويمسح المقدم، وهو قول أحمد، وزيد بن علي، والناصر، والباقر، والصادق.

وأجاز الثوري، والشافعي، مسح الرأس بأصبع واحدة.

واختلفت الظاهرية، فمنهم من أوجب الاستيعاب، ومنهم من قال: يكفي البعض.

احتج الأولون بحديث عبد الله بن زيد الآتي، وبحديث "أنه مسح برأسه حتى بلغ القذال" عند أحمد، وأبي داود، من حديث طلحة بن مصرف، ورد بأن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب، وفي حديث

طلحة بن مصرف مقال.

قالوا: قال الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] والرأس حقيقة اسم لجميعه، والبعض مجاز، ورد بأن الباء للتبعيض، وأجيب بأنه لم يثبت كونها للتبعيض، وقد أنكره سيبويه في خمسة عشر موضعا

من كتابه.

ورد أيضا بأن الباء تدخل في الآلة، والمعلوم أن الآلة لا يراد استيعابها كمسحت رأسي بالمنديل، فلما دخلت الباء في الممسوح كان ذلك الحكم: أعني عدم الاستيعاب في الممسوح أيضًا. قاله التفتازاني.

قالوا: جعله جار الله مطلقا، وحكم على المطلق بأنه مجمل، وبينه النبي صلى الله عليه وسلم بالاستيعاب، وبيان المجمل الواجب واجب، ورد بأن المطلق ليس بمجمل، لصدقه على الكل والبعض، فيكون الواجب مطلق المسح كلا أو بعضا، وأيا ما كان وقع به الامتثال، ولو سلم أنه مجمل لم يتعين مسح الكل، لورود البيان بالبعض عند أبي داود من حديث أنس بلفظ "أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة" وعند مسلم، وأبي داود، والترمذي، من حديث المغيرة بلفظ "أنه صلى الله عليه وسلم -

ص: 398

توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة".

قالوا: قال العلامة ابن القيم: إنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة، ولكن كان إذا مسح بناصيته أكمل على العمامة قال: وأما حديث أنس فمقصود أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقض عمامته حتى يستوعب مس الشعر كله، ولم ينف التكميل على العمامة، وقد أثبته حديث المغيرة، فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه، وأيضا قال الحافظ: إن حديث أنس في إسناده نظر، وأجيب بأن النزاع في الوجوب وأحاديث التعميم وإن كانت أصح، وفيها زيادة، وهي مقبولة، لكن أين دليل الوجوب، وليس إلا مجرد أفعال، ورد بأنها وقعت بيانا للمجمل، فأفادت الوجوب، وذكر الشوكاني كلاما فيه مناقشة مع من أوجب التعميم، ولكن تركته لعدم جدواه.

قال الجامع عفا الله عنه:

الإنصاف أن الآية من قبيل المجمل، كما حققه الزمخشري، وابن الحاجب في مختصره، والزركشي كما عزاه إليهم الشوكاني، والله تعالى يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وما ينقطع هذا النزاع إلا بالرد إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهو لم يمسح إلا على جميع رأسه، إما مباشرة، أو على ما عليه من العمامة، ففعله بيان للآية، قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].

فظهر بهذا أن الحق مع من أوجب التعميم، والله أعلم.

وسنذكر الآية الواردة في المسح في بابه إن شاء الله تعالى.

المسألة التاسعة: في قوله "ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثا" الخ.

يستفاد منه وجوب غسل القدمين، وهو مذهب الجمهور.

ص: 399

قال النووي رحمه الله: اختلف الناس على مذاهب، فذهب جميع الفقهاء من أهل الفتوى في الأعصار والأمصار إلى أن الواجب غسل القدمين مع الكعبين، ولا يجزئ مسحهما، ولا يجب المسح مع الغسل، ولم يثبت عن أحد من الصحابة، خلاف ذلك إلا عن علي وابن عباس وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك.

قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين، رواه سعيد بن منصور، وادعى الطحاوى، وابن حزم أن المسح منسوخ، وقالت الإمامية: الواجب مسحهما.

وقال محمَّد بن جرير الطبري، والجبائي، والحسن البصري: إنه مخير بين الغسل والمسح.

وقال بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بين الغسل والمسح، واحتج من لم يوجب غسل الرجلين بقراءة الجر في قوله {وَأَرْجُلَكُمْ} وهو عطف على قوله {بِرُءُوسِكُمْ} قالوا: وهي قراءة صحيحة سبعية مستفيضة، والقول بالعطف على غسل الوجوه، وإنما قرئ بالجر للجوار، وقد حكم بجوازه جماعة من أئمة الإعراب، كسيبويه، والأخفش، لا شك أنه قليل نادر مخالف للظاهر، لا يجوز حمل المتنازع فيه عليه.

قلنا: أوجب الحمل عليه مداومته صلى الله عليه وسلم على غسل الرجلين، وعدم ثبوت المسح عنه من وجه صحيح، وتَوَعُّده على المسح بقوله "ويل للأعقاب من النار" ولأمره بالغسل كما ثبت في حديث جابر عند الدارقطني بلفظ "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأنا للصلاة أن نغسل أرجلنا" ولثبوت ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمرو بن عبسة وأبي

هريرة "ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع

ص: 400

الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه" الحديث أخرجه مسلم وغيره.

ولقوله صلى الله عليه وسلم بعد أن توضأ وضوءا غسل قدميه فيه "فمن زاد على هذا أو نقص، فقد أساء وظلم" أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة من طرق صحيحة، وصححه ابن خزيمة، ولا شك أن المسح بالنسبة إلى الغسل نقص، وبقوله للأعرابي "توضأ كما أمرك الله" ثم ذكر له صفة الوضوء، وفيها غسل الرجلين، وبإجماع الصحابة على الغسل، فكانت هذه الأمور موجبة لحمل تلك القراءة على ذلك الوجه النادر.

قالوا: أخرج أبو داود من حديث أوس بن أبي أوس الثقفي "أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كظامة قوم، فتوضأ ومسح على نعله وقدميه" قلنا: في رجال إسناده يعلي بن عطاء، عن أبيه، وقد أعله ابن القطان بالجهالة في عطاء، وبأن في الرواة من يرويه عن أوس بن أبي أوس، عن أبيه، فزيادة "عن أبيه" توجب كون أوس من التابعين، فيحتاج إلى النظر في حاله، وأيضا في إسناده هشيم عن يعلى، قال أحمد: لم يسمع هشيم هذا من يعلى مع ما عرف من تدليس هشيم، ويمكن الجواب عن هذه بأنه وثق عطاء هذا أبو حاتم، وذكر أوس بن أبي أوس أبو عمر بن عبد البر في الصحابة، وبأن هشيما قد صرح بالتحديث عن يعلى في رواية سعيد بن منصور، فأزال إشكال عنعنة هشيم، ولكنه قال أبو عمر في ترجمة أوس بن أبي أوس: وله أحاديث منها في المسح على القدمين، وفي إسناده ضعف، فلا يكون الحديث مع هذا حجة، لا سيما بعد تصريح أحمد بعدم سماع هشيم من يعلى.

قالوا: أخرج الطبراني عن عباد بن تميم، عن أبيه، قال: "رأيت

ص: 401

رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ويمسح على رجليه" قلنا: قال أبو عمر: في صحبة تميم هذا نظر، وضعف حديثه المذكور.

قالوا: أخرج الدارقطني عن رفاعة بن رافع مرفوعا بلفظ "لا تتم صلاة أحدكم" وفيه "ويمسح برأسه ورجليه" قلنا: إن صح فلا ينتهض لمعارضة ما أسلفنا، فوجب تأويله لمثل ما ذكر في الآية.

قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: قال الحازمي بعد ذكره حديث أوس بن أبي أوس المتقدم من طريق يحيى بن سعيد: لا يعرف هذا الحديث مجودا متصلا إلا من حديث يعلى، وفيه اختلاف، وعلى

تقدير ثبوته ذهب بعضهم إلى نسخه، ثم أورده من طريق هشيم، وفي آخره قال هشيم: كان هذا في أول الإسلام.

وأما الموجبون للمسح، وهم الإمامية، فلم يأتوا مع مخالفتهم للكتاب والسنة المتواترة قولا وفعلا بحجة نيرة، وجعلوا قراءة النصب عطفا على محل قوله {بِرُءُوسِكُمْ} ومنهم من يجعل الباء الداخلة على روس زائدة، والأصل امسحوا رؤسكم وأرجلكم، وما أدري بماذا يجيبون على الأحاديث المتواترة؟ اهـ نيل جـ 1/ ص 252 - 254.

المسألة العاشرة: مما يستفاد من هذا الحديث:

استحباب الركعتين بعد الوضوء، ويفعل ذلك في كل وقت، واختلفوا في أوقات النهي، فأباحها الشافعية، ومنعها الحنفية، وقالت المالكية: ليست هذه من السنن، وقالت الشافعية: هل تحصل هذه الفضيلة بركعة؟ الظاهر المنع قاله العيني.

ومنها: إثبات حديث النفس وهو مذهب أهل الحق، قاله العيني.

ومنها: أن الثواب الموعود به مرتب على أمرين: الأول: وضوءه

ص: 402

على النحو المذكور، والثاني: صلاته ركعتين عقبه بالصفة المذكورة في الحديث، والمرتب على مجموع أمرين لا يلزم ترتبه على أحدهما إلا بدليل خارج، وقد يكون للشيء فضيلة بوجود أحد جزئيه فيصح كلام من أدخل هذا الحديث في فضل الوضوء فقط لحصول مطلق الثواب، لا الثواب المخصوص المترتب على مجموع الوضوء على النحو المذكور، والصلاة الموصوفة بالوصف المذكور، قاله البدر العيني، جـ 2/ ص 305.

ومنها: الترتيب في أفعال الوضوء، وقد اختلف العلماء فيه، فمنهم من رآه سنة، وهم الحنفية، ومنهم من رآى الترتيب في المفروض دون المسنون، كالمضمضة، والاستنشاق، وهو مذهب مالك، قال العيني: واختلف أصحابه في الترتيب على ثلاثة أقوال: الوجوب، والندب، وهو المشهور عندهم والاستحباب، ومنهم من أوجبه: وهم الشافعية، وخالفهم المزني، فقال: لا يجب، واختاره ابن المنذر والبندنيجي، وحكاه البغوي عن أكثر المشايخ، وحكاه قولا قديما وعزاه إلى صاحب التقريب، وقال إمام الحرمين: لم ينقل أحد قط أنه صلى الله عليه وسلم نكس وضوءه، فاطرد الكتاب والسنة على وجوب الترتيب، قاله العيني جـ 2/ ص 305.

قال الجامع: وهذا القول هو الراجح عندي لوضوح دليله. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 403

‌69 - بِأَيِّ الْيَدَيْنِ يَتَمَضْمَضُ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواب من سأل بأي اليدين يتمضمض؟ فالجار والمجرور متعلق بيتمضمض مقدم عليه وجوبا لأن المجرور اسم استفهام له صدر الكلام.

85 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ -هُوَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ الْحِمْصِيُّ- عَنْ شُعَيْبٍ -هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ- عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ حُمْرَانَ: أَنَّهُ رَأَى عُثَّمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ فَغَسَلَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ مِنْ رِجْلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ:"مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ بِشَيْءٍ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

ص: 404

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(أحمد بن محمَّد بن المغيرة) بن سنان، بنونين، وقيل سيار بتحتانية وآخره راء، العَوْهي، بفتح العين وسكون الواو بعدها، الأزدي، أبو حميد الحمصي.

عن أبي المغيرة، والمعافى الطهوي، وعثمان بن سعيد بن كثير، وعنه النسائي، وابن أبي حاتم، وقال: ثقة، مات سنة 264، أخرج له المصنف فقط، وفي "ت" صدوق [11].

2 -

(عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار) القرشي مولاهم أبو عمرو الحمصي، عن حسان بن روح، وحريز بن عثمان، وشعيب بن أبي حمزة، وعنه عباس الترقفي، وأحمد بن محمَّد العوهي. وثقه أحمد،

وابن معين، قال عبد الوهاب بن نجدة: كان يقال: إنه من الأبدال، توفي في حدود العشرين ومائتين، أخرج له المصنف، وأبو داود، وابن ماجه. وفي "ت" ثقة عابد [9].

3 -

(شعيب بن أبي حمزة) واسمه دينار، الأموي مولاهم، أبو بشر الحمصي، روى عن الزهري، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، وأبي الزناد، وابن المنكدر، ونافع، وهشام بن عروة وغيرهم، وعنه ابنه بشر، وبقية بن الوليد، والوليد بن مسلم، ومسكين بن بكير، وأبو اليمان، وعلي بن عياش الحمصي، وعدة، قال أبو زرعة الدمشقي، عن أحمد: رأيت كتب شعيب فرأيتها مضبوطة مقيدة، ورَفَع من ذكره، قلت: فأين هو من الزُّبَيْدي؟ قال: مثله، وقال الأثرم عن أحمد: نحو ذلك، وقال محمَّد بن علي الجوزجاني، عن أحمد: ثبت صالح الحديث، وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: ثقة مثل

يونس، وعُقَيل يعني في الزهري، وكتب عن الزهري إملاء للسلطان

ص: 405

وقال ابن الجنيد عن ابن معين: شعيب من أثبت الناس في الزهري، كان كاتبا له، وقال العجلي، ويعقوب بن شيبة وأبو حاتم، والنسائي: ثقة، وقال علي بن عياش: كان من كبار الناس، وكان ضنينًا بالحديث، وكان من صنف آخر في العبادة، وكان من كُتَّاب هشام، وقال أبو اليمان: كان عسرا في الحديث، قال يزيد بن عبد ربه: مات سنة 162، وقال يحيى بن صالح وغيره: مات سنة 3، وقال علي بن عياش: كان قويا قد جاز السبعين، قلت: وقال ابن حبان في الثقات: مات سنة 2، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن شعيب، وابن أبي الزناد، فقال: شعيب أشبه حديثا وأصح من ابن أبي الزناد، وقال العجلي: ثقة ثبت، وقال الخليلي: كان كاتب الزهري، وهو ثقة متفق عليه، حافظ

أثنى عليه الأئمة، وقال الآجري عن أبي داود: كان أصح حديثا عن الزهري بعد الزبيدي، أخرج له الجماعة اهـ تهذيب التهذيب، وفي "ت" ثقة عابد [7].

4 -

(الزهري) محمَّد بن مسلم أبو بكر القرشي المدني ثقة حجة [4] تقدم في 1/ 1.

5 -

(عطاء بن يزيد) أبو محمَّد الليثي المدني ثقة [3] تقدم في 20/ 21.

6 -

(حمران) بن أبان مولى عثمان المدني ثقة [2] تقدم في 68/ 84.

7 -

(عثمان) بن عفان بن أبي العاص الأموي المدني أبو عمرو ذو النورين الخليفة الثالث رضي الله عنه تقدم في 68/ 84.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، وهم إلى

ص: 406

شعيب حمصيون، ومن بعده مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وهم الزهري وعطاء، وحمران، وفيه رواية الأقران.

وفيه الإخبار والتحديث والعنعنة، وفيه أن شيخ المصنف من أفراده.

شرح الحديث

(عن حمران) بن أبان (أنه رأى عثمان) رضي الله عنه، و"رأى" هنا بصرية لا تنصب إلا مفعولا واحدا وهو عثمان كما تقدم (دعا بوضوء) بفتح الواو لا غير، أي بماء يتوضأ به، والجملة في محل نصب حال بتقدير "قد" على رأي البصريين، أي قد دعا بوضوء (فأفرغ) أي صب الماء (على يديه من إنائه) أي من الإناء الذي أتى به وفيه الماء، قال السندي: وظاهره أنه جمعهما في الغسل، واحتمال التفريق بعيد، واختار بعض الفقهاء التفريق اهـ.

(فغسلهما) أي اليدين هكذا في النسخة الهندية فغسلهما بضمير التثنية وهو الصواب، وفي النسخة المصرية فغسلها بالإفراد مع قوله على يديه وهو تحريف، وقد أشار في النسخة الهندية إلى أن في بعض النسخ فأفرغ على يده من إنائه فغسلها، وهذا أيضًا صواب، ويراد به الجنس فلا ينافي رواية اليدين (ثلاث مرات) مفعول مطلق على النيابة أي غسلا ثلاث مرات (ثم أدخل يمينه في الوضوء) بالفتح كما مر (فتمضمض) أي أدار الماء في فيه، قال الحافظ: أصل المضمضة في اللغة التحريك، ثم اشتهر استعماله في وضع الماء في الفم وتحريكه، وأكمله في الوضوء أن يضع الماء في الفم ثم يديره ثم يمجه اهـ لكن قال ابن دقيق العيد: ليس المَجّ من شرط المضمضة، بل هذا بناء على الغالب، وتقدم البحث عنه في الباب السابق.

وليس في هذه الرواية ذكر العدد، وسيأتي في رواية علي، وأبي

ص: 407

هريرة، رضي الله عنهما، أنه ثلاث مرات إن شاء الله، وأفادت هذه الرواية أن المضمضة باليد اليمنى، وهو جواب الترجمة، بأي اليدين يتمضمض؟ (واستنشق) أي جعل الماء في أنفه وجذبه بنفسه لينزل ما في أنفه من الأوساخ، وقد تقدم معناه في الباب السابق.

(ثم غسل وجهه ثلاثا) أشار بثم إلى وجوب الترتيب، وسيأتي تحقيقه، وتقدم حد الوجه طولا وعرضا في الباب السابق (و) غسل (يديه إلى المرفقين ثلاث مرات) أي معهما كما سيأتي أنه القول الراجح (ثم

مسح برأسه) ولم يذكر عدد المسح فأفاد أنه مرة واحدة، وهو قول أكثر العلماء، وسيأتي البحث عنه في باب عدد مسح الرأس 82.

(ثم غسل كل رجل من رجليه ثلاثا) أي إلى الكعبين كما هو في رواية الشيخين (ثم قال) عثمان رضي الله عنه (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ وضوئي) أي نحوه كما تقدم في الرواية السابقة (ثم قال) صلى الله عليه وسلم (من توضأ مثل وضوئي هذا) أي على الكيفية المذكورة من غير تقصير على الواجبات فقط (ثم قام فصلى ركعتين) فيه استحباب صلاة ركعتين عَقِبَ الوضوء (لا يحدث) من التحديث (فيهما) أي في الركعتين (نفسه) بالنصب مفعول "يحدث"(بشيء) من أمور الدنيا كما قيد به في رواية الحكيم الترمذي، والمراد كما قال الحافظ: ما تسترسل النفس معه ويمكن

المرء قطعه، لأن قوله: يحدث يقتضي تكسبا منه، فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس، ويتعذر دفعه، فذلك معفو عنه.

(غفر الله له ما تقدم من ذنبه) رتب هذه المثوبة على مجموع الوضوء الموصوف، بتلك الصفة، وصلاة ركعتين مقيدتين بهذا القيد، فلا تحصل إلا بمجموعهما،، وظاهره مغفرة جميع الذنوب، وقد قيل إنه مخصوص بالصغائر، لورود مثل ذلك مقيدًا، كحديث "الصلوات

ص: 408

الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينها ما اجتنبت الكبائر" قاله الشوكاني في نيل جـ 1/ ص 216.

ومسائل هذا الحديث تقدمت مستوفاة في الباب الماضي، فلا نطيل الكتاب بإعادتها فإن شئت فارجع إليه.

وأما ما ترجم له المصنف فواضح من قوله "ثم أدخل يمينه في الوَضُوء فتمضمض واستنشق" لأنه يفيد أنهما باليمين.

قال النووي في المجموع: قال الشافعي في المختصر: يستحب أن

يأخذ الماء للمضمضة بيده اليمنى، واتفق الأصحاب على استحباب ذلك، ودليله حديث عثمان في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه أخذ الماء للمضمضة بيمينه" رواه البخاري ومسلم، اهـ جـ 1/ ص 375.

قال الجامع: في عبارة النووي قصور لأن في حديثهما فيه ذكر المضمضة والاستنثار، والاستنشاق، فافهم. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 409

‌70 - اتِّخَاذُ الاسْتِنْشَاقِ

أي هذا باب ذكرالحديث الدال على مشروعية اتخاذ الاستنشاق، وفي بعض النسخ الاستنشاق بحذف لفظ اتخاذ، وهي أوضح، وتقدم معنى الاستنشاق في الباب 68.

وأما الاتخاذ، فهو افتعال من الأخذ، يقال: ائتَخَذُوا في الحرب، إذا أخذ بعضهم بعضا ثم لينوا الهمزة، وأدغموا فقالوا: اتخذوا، ويستعمل بمعنى جعل، ولما كثر استعماله توهموا أصالة التاء فبنوا منه وقالوا: تَخذتُ زيدًا صديقًا، من باب تَعبَ: إذا جعلته كذلك، والمصدر تَخْذًا بفتح الخاء وسكونها قاله في المصباح، ولعل المصنف أتى به هنا ليفيد معنى المبالغة، والله أعلم.

86 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ (ح) وَأَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى، عَنْ مَعْنٌ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِى أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لْيَسْتَنْثِرْ".

رجال الإسناد: ثمانية

1 -

(محمَّد بن منصور) بن ثابت بن خالد الخُزَاعي أبو عبد الله

ص: 410

الجَوَّاز بالجيم وتشديد الواو، المكي، عن سفيان بن عيينة، ومروان بن معاوية، والوليد بن مسلم، وأبي سعيد مولى بني هاشم، وزيد بن الحباب، ومعاذ بن هشام، ويعقوب بن محمَّد الزهري، وبشر بن السري، وعبد الملك بن إبراهيم الجُدِّيّ، وغيرهم، روى عنه النسائي، وروى أيضا عن زكرياء السجزي عنه، وأبو حاتم الرازي، ويعقوب بن شيبة، وعلي بن عبد العزيز، وعبد الله بن صالح البخاري، وأحمد بن علي الأبَّارُ، وإبراهيم بن موسى الحواري، وزكرياء بن يحيى الساجي، وأبو بشر الدولابي، والمفضل بن محمَّد الجندي، ويحيى بن محمَّد بن صاعد، وآخرون.

قال عنه الدارقطني: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، قال أبو بشر الدولابي: مات سنة 252، قلت: وقال النسائي في مشيخته: ثقة، وتقدم في 20/ 21. وفي "ت" ثقة [10].

2 -

(سفيان) بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي أبو محمَّد الكوفي ثم المكي الإمام العَلَم، ثقة حجة [8] تقدم في 1/ 1.

3 -

(أبو الزناد) عبد الله ذكوان أبو عبد الرحمن المدني ثقة فقيه [5] تقدم في 7/ 7.

4 -

(الحسين بن عيسى) بن حُمْران -بضم فسكون- الطائي أبو علي القومسي

(1)

البسطامي الدامغاني، سكن نيسابور، ومات بها، روى عن ابن عيينة، وابن أبي فديك، وأبي قتيبة، وأبي أسامة، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وجعفر بن عون، وطبقتهم، وعنه الجماعة إلا الترمذي، وابن ماجه، وأبو العباس الأزهري، والحسين بن

(1)

بضم القاف ومهملة: نسبة إلى قومس وهي من بسطام إلى سمنان، (والبسطامي) بفتح الموحدة نسبة إلى بسطام بلد بطريق نيسابور، (والدامغانى) بفتح الميم والمعجمة نسبة إلى دامغان مدينة من بلاد القومس كذا في اللباب.

ص: 411

محمد القَبَّاني، وأبو حاتم، ويحيى الذهلي، وابن خزيمة، والبحتري، ومأمون بن هارون، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صدوق، وقال الحاكم: كان من كبار المحدثين،

وثقاتهم من أئمة أصحاب العربية، وقال البخاري: مات سنة 247، وكذا قال ابن حبان في الثقات.

قال الحافظ: قال النسائي في الكنى، وفي أسماء شيوخه: ثقة، وكذا قال الدارقطني، وقال الإدريسي: كان عالما فاضلا كثير الحديث، وفي "ت" صدوق صاحب حديث [10].

5 -

(معن) بن عيسى القزاز الأشجعي، أبو يحيى المدني، ثقة أثبت أصحاب مالك من كبار [10] تقدم في 50/ 62.

6 -

(مالك) بن أنس أبو عبد الله إمام دار الهجرة ثقة حجة فقيه [7] تقدم في 7/ 7.

7 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز، أبو داود المدني ثقة ثبت [3] تقدم في 7/ 7.

8 -

(أبو هريرة) الدوسي، الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته بالنسبة إلى الطريقة الأولى، ومن سداسياته بالنسبة إلى الثانية، فالأولى فيها العلو.

ومنها: أن شيخه محمد بن منصور ممن انفرد هو بالرواية عنه من بين الأئمة الستة، وفي طبقته محمد بن منصور بن داود الطوسي، نزيل بغداد يروي عنه المصنف، وأبو داود، مات سنة 4، أو 256.

ص: 412

ومنها: كتابة (ح) إشارة إلى التحويل من سند إلى آخر، وقد تقدم البحث عنها غير مرّة.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات، وهم ما بين مكيين، وهما شيخه محمد، وسفيان، ونيسابوري وهو شيخه الحسن، ومدنيين، وهم الباقون.

ومنها: رواية تابعي، عن تابعي، وهما أبو الزناد، عن الأعرج، ومنها: أن صحابيه أحد المكثرين السبعة، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا توضأ أحدكم) أي شرع في الوضوء (فليجعل في أنفه ماء) أي ليستنشق، لأن هذا هو معنى الاستنشاق، ففي القاموس: استنشق الماء أدخله في أنفه، اهـ، وقد تقدم موضحا في باب المضمضة والاستنشاق 68.

(ثم ليستنثر) أي ليخرج ذلك الماء من أنفه، فالاستنثار غير الاستنشاق عند الأكثرين، ويدل له ظاهر الحديث.

قال النووي رحمه الله: قال جمهور أهل اللغة، والفقهاء، والمحدثون: الاستنثار: هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، وقال ابن الأعرابي، وابن قتيبة: الاستنثار هو الاستنشاق، قال أهل اللغة: هو مأخوذ من النثرة

(1)

، وهي طرف الأنف، وقال الخطابي وغيره: هي الأنف، والمشهور الأول، قال الأزهري: روى سلمة عن الفراء أنه يقال: نَثَرَ الرجل، وانثر، واستنثر: إذا حرك النثرة في الطهارة انتهى.

(1)

فيِ "ق" والنَّثْرَةُ -أي بفتح، فسكون-: الخَيشُومُ، وما وَالاه، أو الفُرْجة بين الشَّاربَين حيَالَ وَتَرَة الأنف. اهـ ص 616.

ص: 413

وقد تقدم بيان حكم المضمضة والاستنشاق في بابه، وسيأتي بيان حكم الاستنثار بعد باب إن شاء الله تعالى. وبالله تعالى التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث الباب متفق عليه.

المسألة الثانية: فيمن أخرجه: أما طريق سفيان فأخرجها المصنف هنا بالسند المذكور، وأخرجها مسلم أيضا، عن قتيبة، وعمرو الناقد، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ثلاثتهم عن سفيان، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه "إذا استجمر أحدكم فليوتر، وإذا توضأ" الخ، وأما طريق مالك: فأخرجها المصنف بسنده المذكور.

وأخرجها البخاري في الطهارة أيضا عن عبد الله بن يوسف، عن مالك الخ، ولفظه "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء، ثم لينتثر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده".

وأخرجها أبو داود عن القعنبي عن مالك به، بلفظ حديث الباب.

وأخرجه مالك في الموطأ، والبيهقي.

المسألة الثالثة: يستفاد من هذا الحديث ما ترجم له المصنف وهو مشروعية الاستنشاق، وتقدم الخلاف في وجوبه وعدمه، ومشروعية الاستنثار وسيأتي الخلاف فيه في -72 - إن شاء الله تعالى. والله تعالى

أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 414

‌71 - الْمبَالَغَةُ فِي الاسْتِنشَاقِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية المبالغة في الاستنشاق، والمبالغة مصدر بالغت في كذا: إذا بذلت جهدك في تتبعه، أفاده في المصباح.

87 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ (ح) وَأَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْوُضُوءِ؟ قَالَ:"أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَبَالِغْ فِي الاِسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا".

رجال الإسناد: ثمانية

1 -

(قتيبة بن سعيد) أبو رجاء الثقفي البغلاني ثقة ثبت [10] تقدم في 1/ 1.

2 -

(يحيى بن سُلَيم) القرشي الطائفي، أبو محمد، ويقال أبو زكريا المكي الحَذَّاء الخَرَّاز -بمعجمة ثم مهملة-.

قال ابن سعد: طائفي سكن مكة ورى عن عبيد الله بن عمر

ص: 415

العمري، وموسى بن عقبة، وداود بن أبي هند، وابن جريج، وإسماعيل بن أمية، وعبد الله بن عثمان بن خثيم، وعثمان بن الأسود وعثمان بن كثير، والثوري، وعمران القصير، وغيرهم.

روى عنه وكيع، وهو من أقرانه، والشافعي، وابن المبارك، ومات قبله، وأبو بكر بن أبي شيبة، وبشر بن عيسى، وإسحاق بن راهويه، والحميدي، وقتيبة، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، وهشام بن عَمَّار،

والحسين بن حريث، ويوسف بن محمد العصفري، ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وأحمد بن عبدة الضبي، والحسين بن محمد الزعفراني، والحسن بن عرفة، وآخرون.

قال الميموني عن أحمد بن حنبل: سمعت منه حديثا واحدا، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: يحيى بن سليم كذا وكذا، والله إن حديثه يعني فيه شيء، وكأنه لم يحمده.

وقال في موضع آخر: كان قد أتقن حديث ابن خثيم، فقلنا له: أعطنا كتابك، فقال: أعطوني رهنا، وقال الدوري عن ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: شيخ صالح محله الصدق، ولم يكن بالحافظ، يكتب حديثه، ولا يحتج به، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال النسائي: ليس به بأس، وهو منكر الحديث، عن عبيد الله بن عمر.

وقال الدولابي: ليس بالقوي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ، مات سنة ثلاث أو أربع وتسعين ومائة،، وهو مكي كان يختلف إلى الطائف، فنسب إليه.

قال الحافظ: وقال الشافعي: فاضل كنا نعده من الأبدال، وقال العجلي: ثقة وقال يعقوب بن سفيان: سني رجل صالح، وكتابه لا بأس به، وإذا حدث من كتابه فحديثه حسن، وإذا حدث حفظا، فيعرف،

ص: 416

وينكر، وقال النسائي في الكنى: ليس بالقوي وقال العقيلي: قال أحمد بن حنبل: أتيته فكتبت عنه شيئا، فرأيته يخلط في الأحاديث فتركته، وفيه شيء، قال أبو جعفر: ولين أمره، وقال الساجي: صدوق يهم في الحديث، وأخطأ في أحاديث رواها عبيد الله بن عمر لم يحمده أحمد، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالحافظ عندهم، وقال الدارقطني: سيء الحفظ، وقال البخاري: في تاريخه في ترجمة

عبد الرحمن بن نافع: ما حدث الحميدي عن يحيى بن سليم، فهو صحيح، أخرج له الجماعة.

وقال في التقريب: صدوق سيء الحفظ [9].

3 -

(إسماعيل بن كثير) الحجازي، أبو هاشم المكي، روى عن عاصم بن لقيط بن صبرة، وسعيد بن جبير، ومجاهد وغيرهم، وعنه الثوري، وابن جريج، ويحيى بن سليم الطائفي، ومسْعَر بن كدَام وغيرهم، قال أحمد والنسائي: ثقة، وقال ابن سعد: ثقة كثير الحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث.

قال الحافظ: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال يعقوب بن شيبة، ويعقوب بن سفيان، والعجلي: مكي ثقة، وصحح حديثه في الوضوء ابن خزيمة، وابن الجارود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم، وقال الآجري عن أبي داود: كان من تبالة

(1)

وهو صاحب مجاهد، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، والأربعة، وفي "ت" ثقة من السادسة.

4 -

(إسحاق بن للراهيم) الحنظلي المعروف بابن راهويه ثقة حافظ حجة [10] تقدم في 2/ 2.

(1)

تبالة بلد باليمن خصبة. اهـ

ص: 417

5 -

(وكيع) بن الجرَّاح، أبو سفيان الكوفي الحافظ ثقة حجة [9] تقدم في 23/ 25.

6 -

(سفيان) بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة حجة ثبت [7] تقدم في 33/ 37.

7 -

(عاصم بن لقيط بن صَبرَة) بفتح المهملة، وكسر الموحدة، وبعضهم يسكنها، العقيلي -بالتصغير- حجازي، قال البخاري: هو ابن أبي رزين العقيلي، وقيل: هو غيره.

روى عن أبيه لقيط بن صبرة، وافد بني المنتفق، وعنه أبو هاشم إسماعيل بن كثير المكي، قال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، والأربعة له عندهم حديث واحد في المبالغة في الاستنشاق، وغيردّلك، وفي "ت" ثقة من الثالثة.

8 -

(لقيط بن صبرة) بفتح اللام وكسر القاف، وبطاء مهملة وهو لقيط بن عامر بن صبرة بن عبد الله بن المنتفق بن عامر بن عُقَيل بن كعب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة، أبو رزين العُقَيلي، وقيل هو لقيط بن عامر بن صبرة.

قال ابن عبد البر: وقيل: إن لقيط بن عامر غير لقيط بن صبرة، وليس بشيء، وقال عبد الغني بن سعيد: أبو رزين العقيلي، هو لقيط ابن عامر بن المُنتَفق، وهو لَقيط بن صَبرة، وقيل: إنه غيره وليس بصحيح.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه عاصم بن لقيط، وابن أخيه وكيع بن عُدُس، وعبد الله بن الحاجب بن عامر، وعمرو بن أوس الثقفي.

ص: 418

قال الحافظ: تناقض في هذا المزي فجعلهما هنا واحدا، وفي الأطراف اثنين، وقد جعلهما ابن معين واحدا، وقال: ما يعرف لقيط غير أبي رَزين، وكذا حكى الأثرم عن أحمد بن حنبل، وإليه نحا البخاري، وتبعه ابن حبان، وابن السكن، وأما علي بن المديني، وخليفة ابن خياط، وابن أبي خيثمة، وابن سعد، ومسلم، والترمذي، وابن قانع، والبغوي، وجماعة فجعلوهما اثنين، وقال الترمذي: سألت

عبد الله بن عبد الرحمن عن هذا، فأنكر أن يكون لقيط بن صبرة هو لقيط ابن عامر، والله أعلم.

أخرج له البخاري في الأدب المفرد، والأربعة اهـ تهذيب تهذيب بزيادة، وفي الخلاصة: لقيط بن عامر بن صبرة بكسر الموحدة، وهو لقيط بن صبرة، ولقيط بن المنتفق بضم الميم وإسكان النون وفتح المثناة

فوق، وكسر الفاء، آخره قاف، ابن عامر بن عُقَيل بن كعب العقيلي أبو رَزين صحابي له أربعة وعشرون حديثا اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي للحافظ خلاف ما صوبه هنا في المسائل إن شاء الله تعالى.

لطائف الإسناد

منها: أن الأول من خماسياته، وهو عال بالنسبة إلى الثاني، وأن الثاني من سداسياته، وهو نازل بالنسبة إلى الأول، وأن رواته ثقات، وهم ما بين بغلاني، وهو قتيبة، ومكيين وهما يحيى بن سليم، وأبو هاشم، ومروزي وهو إسحاق، وكوفيين وهما وكيع، وسفيان، ويمنيين، وهما عاصم، وأبوه

(1)

.

وفيه (ح) للتحويل من سند إلى آخر، فملتقى الإسنادين إسماعيل

(1)

بين ذلك ابن حبان في كتابه مشاهير علماء الأمصار ص 58، وص 124.

ص: 419

ابن كثير، وهو أبو هاشم، فيحيى في الأول، وسفيان في الثاني كلاهما يرويان عن إسماعيل، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه الإخبار والتحديث، والإنباء، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن عاصم بن لقيط) بفتح اللام وكسر القاف (بن صبرة) بفتح الصاد وكسر الباء وسكونها لبعضهم (عن أببه) لقيط رضي الله عنه أنه (قال: قلت: يا رسول الله) هذا الحديث أخرجه المصنف في المجتبى، وفي الكبرى أيضا في مواضع وهو حديث طويل إلا أنه اختصره، وقد ساقه أبو داود في سننه، وابن حبان في صحيحه بطوله.

ولفظ أبي داود في سننه "قال كنت وافد بني المنتفق، أو في وفد بني المنتفق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نصادفه في منزله، وصادفنا عائشة أم المؤمنين، قال: فأمرت لنا بخزيرة، فصُنعت لنا، قال: وأتينا بقناع، ولم يقل قتيبة: القناع، والقناع طبق فيه تمر- ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: "هل أصبتم شيئا؟ أو أمر لكم بشيء؟ قلنا: نعم يا رسول الله، قال: فبينا نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ دفع الراعي غنمه إلى المُرَاح، ومعه سَخْلة تَيْعر، فقال: ما وَلَّدت يا فلان؟ قال: بَهْمة، قال: فاذبح لنا مكانها شاة، ثم قال: لا تحسبَنَّ، ولم يقل لا تحسَبَنَّ أنَّا من أجلك ذبحناها، لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد، فإذا ولّد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة، قال: قلت يا رسول الله، إن لي امرأة وإن في لسانها شيئا يعني البذاء، قال: فطلقها إذا، قال: قلت يا رسول الله، إن لها صحبة ولي منها ولد، قال: فمرها، يقول: عظها فإن يك فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظعينتك كضربك أمتك، فقلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء، قال:

ص: 420

أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما".

(أخبرني عن الوضوء) أي الوضوء الكامل الزائد على ما عَرَفناه، وهو ما عُرف، واستقر في الشرع مدحه، والثناء على فاعله، فأل في الوضوء للعهد الذهني، قاله في المنهل جـ 2/ ص 88.

(قال) صلى الله عليه وسلم (أسبغ الوضوء) بقطع الهمزة أي أكمله، ولا تترك شيئا من فرائضه، وسننه ومستحباته (وبالغ في الاستنشاق) أي أتمه بجذب الماء إلى أعلى الأنف، وبامتخاطه في كل مرة (إلا أن تكون صائما) أي إلا في حال صومك فلا تبالغ فيه خشية دخول الماء من الخيشوم إلى الحلق

فيفسد الصوم، فلذا كره الاستنشاق للصائم، قاله في المنهل جـ 2/ ص 90.

وروى الدُّولابي في حديث الثوري من جمعه من طريق ابن مهدي، عن الثوري ولفظه:"وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما" وفي رواية لأبي داود من طريق أبي عاصم، عن ابن جريج، عن إسماعيل بن كثير بلفظ "إذا توضأت فتمضمض" قال الحافظ في الفتح: إسناد هذه الرواية صحيح اهـ.

فدلت هذه الروايات على وجوب المضمضة، والاستنشاق، ووجوب المبالغة لغير الصائم، وأما هو فلا يبالغ لما تقدم.

فإن قلت: السؤال عن أعمال الوضوء تفصيلا، فلم أجمل النبي صلى الله عليه وسلم في الجواب بذكر الإسباغ في الوضوء، واقتصر في التفصيل على تخليل الأصابع، كما يأتي للمصنف في الباب 92، وتقدم في رواية أبي داود وغيره، والمبالغة في الاستنشاق؟

أجيب: إما بأنه اقتصار من الرواة بسبب أن الحاجة دعتهم إلى نقل

ص: 421

البعض، والنبي صلى الله عليه وسلم بَيَّن كيفية الوضوء بتمامها.

وإما بأنه اقتصار من النبي صلى الله عليه وسلم، بناء على أن مقصد السائل البحثُ عن هذه الخصال، وإن أطلق لفظه في السؤال، إما بقرينة حال، أو وحي، أو إلهام. أفاده السندي جـ 1/ ص 66.

وعبارة المنهل: أجيب بأنه صلى الله عليه وسلم عَلمَ من حال السائل أنه كان يعلم أصل الوضوء، فأجابه بما ذكر مفصلا له ما ظن خفاءه عليه من تخليل الأصابع، لأنه قد يضمها، فلا يصل الماء إلى ما بينها، والمبالغة في الاستنشاق، لأن غسل أعلى باطن الأنف غير معلوم. اهـ جـ 2/ ص 90. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته:

حديث الباب: صححه الترمذي، والبغوي، وابن القطان، ولفظه عندهم "أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائما".

وهو من رواية وكيع عن الثوري، عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط، عن أبيه، وروى الدولابي في حديث الثوري جمعه من طريق بن مهدي عن الثوري، ولفظه "وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما".

وفي رواية لأبي داود من طريق أبي عاصم، عن ابن جريج، عن إسماعيل بن كثير بلفظ "إذا توضأت فتمضمض" قال في الفتح: إسناد هذه الرواية صحيح، وتقدم قريبًا.

وقال النووي حديث لقيط بن صبرة أسانيده صحيحة، وقد وَثَّقَ إسماعيل بن كثير، أحمد، وقال أبو حاتم: هو صالح الحديث، وقال

ص: 422

ابن سعد: هو ثقة كثير الحديث، وعاصم وثقه أبو حاتم، ومن عدا هذين من رجال إسناده فمخرج له في الصحيح. ذكره في النيل جـ 1/ ص 220.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا عن طريقين طريق قتيبة عن يحيى بن سليم، وطريق إسحاق بن إبراهيم، عن وكيع عن سفيان كلاهما عن إسماعيل بن كثير به، بقصة الوضوء، وأخرجه في الباب 92، عن إسحاق بن إبراهيم، عن يحيى بن سليم، وعن محمد بن رافع، عن يحيى بن آدم، عن سفيان به.

وفي الكبرى في الصوم عن محمد بن مثنى، عن عبد الرحمن، عن سفيان بقصة الاستنشاق، وفي الكبرى في الوليمة أيضا عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن عبد الملك بن جريج، عن إسماعيل بن كثير بقصة العصيدة مختصرة.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:

أخرجه أبو داود بطوله في الطهارة [55/ 3] عن قتيبة بن سعيد في آخرين كلهم عن يحيى بن سليم عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير به.

وفي الباب [55/ 4] عن عقبة بن مُكْرَم، عن يحيى بن سعيد، وفي [55/ 5] عن محمد بن يحيى بن فارس، عن أبي عاصم كلاهما، عن ابن جريج، عن إسماعيل بن كثير نحوه، وأعاد قصة المضمضة في الصيام [27/ 2] عن قتيبة وحده، وأعاد بعضه في الحروف، عن قتيبة أيضا.

أخرجه الترمذي أيضا في الطهارة [30/ 1] عن قتيبة، وهناد،

ص: 423

كلاهما عن وكيع، عن سفيان، عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير الخ، بقصة التخليل مختصرة، وقال: حسن صحيح، وفي الصوم عن أبي عمار الحسين بن حريث، وعبد الوهاب الوراق، كلاهما عن يحيى بن سليم بقصة الوضوء إلى قوله:"إلا أن تكون صائمًا".

وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن سليم بقصة المضمضة، وتخليل الأصابع، وإسباغ الوضوء

(1)

، أفاده الحافظ المزي في تحفته جـ 8/ ص 472.

وأخرجه أيضا الشافعي، وأحمد، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم والبيهقي، أفاده الحافظ في التلخيص جـ 1/ ص 81.

المسألة الرابعة: قد تقدم عن الحافظ في تهذيبه أنه أشار إلى ترجيح أن لقيط بن صبرة هو لقيط بن عامر، وكذا صرح صاحب الخلاصة به.

ولكن الحافظ صرح في الإصابة بترجيح أنهما اثنان، ودونك عبارته بطولها، قال رحمه الله:

(لقيط) بن صبرة بن عبد الله بن المنتفق بن عامر بن عُقَيل بن كعب بن ربيعة بن صعصعة بن عامر العامري، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه عاصم.

قرأت على فاطمة بنت المنجا عن سليمان بن ضمرة، وأنبأنا أبو هريرة بن الذهبي إجازة، أنبأنا أبو نصر الشيرازي، كلاهما عن محمد بن عبد الواحد المديني، أنبأنا إسماعيل بن علي الحماني، أنبأنا أبو مسلم الأديب، أنبأنا أبو بكر بن المقري، حدثنا مأمون بن هارون، حدثنا حسين بن عيسى البسطامي، حدثنا الفضل بن دكين حدثنا سفيان، عن

(1)

هكذا قال المزى، "بقصة المضمضة" وفيه أنه ليس عند ابن ماجَهْ ذكر المضمضة، ولفظه "أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع". انظر سنن ابن ماجَهْ جـ 1 ص 153.

ص: 424

أبي هاشم، واسمه إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما" هذا حديث صحيح، أخرجه أحمد عن شيخ سفيان، فوافقناه في شيخ شيخه بعلو، وأخرجه الترمذي، عن قتيبة، والنسائي، عن إسحاق بن إبراهيم كلاهما عن وكيع، والنسائي أيضا عن محمد بن رافع عن يحيى بن آدم، وعن محمد بن المثنى، عن عبد الرحمن بن مهدي، ثلاثتهم عن سفيان الثوري، فوقع لنا عاليا بدرجتين، وأخرجه أبو داود، والترمذي والنسائي، وابن ماجه، من رواية يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن كثير طوّله بعضهم، وفيه "كنت وافد بني المنتفق، وفيه قصة طويلة جرت له مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع عائشة، وأخرجه بطوله ابن حبان في صحيحه.

ثم قال: لقيط بن عامر بن المنتفق بن عامر بن عُقَيل بن عامر العامري، أبو رَزين العُقَيلي، وافد بني المنتفق، روى عنه ابن أخيه وكيع ابن عُدُس، وعبد الله بن حاجب، وعمرو بن أوس الثقفي. ذهب علي بن المديني، وخليفة بن خياط، وابن أبي خيثمة، ومحمد بن سعد، ومسلم، والبغوي، والدارمي، والبارودي، وابن قانع وغيرهم إلى أنه غير لقيط بن صبرة المذكور قبله، وقال ابن معين: إنهما واحد وإن من قال: لقيط بن عامر نسبة لجده، وإنما هو لقيط بن صبرة، والذي في جامع الأصول: لقيط بن عامر بن صبرة، وضبطه قتيبة، ونسبه من بني عامر، وحكاه الأثرم عن أحمد، ومال إليه البخاري، وجزم به ابن حبان، وابن السكن، وعبد الغني بن سعيد في إيضاح الإشكال، وقال: وقيل: إنه غيره وليس بصحيح، وكذا قال ابن عبد البر، وقال في مقابله: ليس بشيء، وتناقض فيه المزي، فجزم في الأطراف بأنهما

ص: 425

اثنان، وفي التهذيب بأنهما واحد.

قال الحافظ: والراجح في نظري أنهما اثنان، لأن لقيط بن عامر معروف بكنيته، ولقيط بن صبرة لم يذكر كنيته إلا ما شذ به ابن شاهين، فقال: أبو رزين العقيلي أيضا، والرواة عن أبي رزين جماعة، ولقيط بن صبرة لا يعرف له راو إلا ابنه عاصم.

وإنما قَوَّى كونهما واحدا عند من جزم به لأنه وقع في صفة كل واحد منهما أنه وافد بني المنتفق، وليس بواضح لأنه يحتمل أن يكون كل منهما رأسًا.

ومن حديثه ما أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند، وأبو حفص بن شاهين، والطبراني من طريق عبد الرحمن بن عياش الأنصاري، ثم السمعي، عن دَلْهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي، عن جده، عن عمه لقيط بن عامر، أنه خرج وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق، قال: قدمنا المدينة انسلاخ رجب -الحديث بطوله في صفة البعث يوم القيامة في نحو ورقتين، وهو الذي وقع فيه لعمرو، وفيه ذكر كعب بن الخدارية، وغير ذلك.

ومنه ما أخرجه في العتيرة في رجب، وأخرج البخاري في تاريخه من طريق شعبة عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عدس، عن أبي رزين العقيلي رفعه "مثل المؤمن مثل النحلة لا تأكل إلا طيبا" وتقدم له ذكر في ترجمة كعب بن الخدارية، سيأتي فيمن كنيته أبو رزين في الكنى، وأغرب ابن شاهين، فقال: يكنى أبا مصعب اهـ الإصابة جـ 3/ ص 311.

المسألة الخامسة: يستفاد من الحديث: مشروعية إسباغ الوضوء،

ص: 426

والمراد به الإنقاء كما فسره ابن عمر عند البخاري، واستكمال الأعضاء والحرص على أن يتوضأ وضوءا يصح عند الجميع، وغسل كل عضو ثلاث مرات هكذا قيل.

قال الشوكاني: فإذا كان التثليث مأخوذا في مفهوم الإسباغ، فليس بواجب، لحديث أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة ومرتين، وإن كان مجرد الإنقاء والاستكمال فلا نزاع في وجوبه اهـ.

ويدل أيضا على وجوب الاستنشاق، وقد تقدم الكلام عليه مُستَوفىً في حديث عثمان رضي الله عنه.

وعلى وجوب المبالغة فيه، لأن الأمر للوجوب، ولا صارف له هنا، إلا إذا كان صائما، فلا يشرع له ذلك خشية إفساد صومه.

وقد ذهب الجمهور إلى استحبابه، قالوا: لأن الأحاديث الكثيرة ليس فيها ذكر المبالغة، وفيما قالوا نظر. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 427

‌72 - الأَمْرُ بِالاِسْتِنْثَارِ

أي هذا باب ذكرالحديث الدال على الأمر بالاستنثار.

والاستنثار: قد تقدم اختلاف العلماء في تفسيره، وأن الجمهور على أنه هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، يقال: نَثَرَ الرجل، وانتثر، واستنثر: إذا حرك النَّثْرَةَ في الطهارة، والنَّثْرَة طرف الأنف،

وقيل: هي الأنف.

وقيل: الاستنثار هو الاستنشاق.

88 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، (ح) وَأَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ".

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي أبو رجاء البغلاني ثقة ثبت [10] تقدم في 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة ثقة ثبت حجة [7] تقدم في 7/ 7.

3 -

(إسحاق بن منصور) بن بَهْرام الكَوْسَج، أبو يعقوب التميمي

ص: 428

المروزي، نزيل نيسابور، روى عن ابن عيينة، وابن نمير، وعبد الرزاق، وأبي داود الطيالسي، وجعفر بن عون، وبشر بن عمر، وابن مهدي، والقطان، وخلق كثير، وتتلمذ لأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وله مسائل، وعنه الجماعة سوى أبي داود، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وإبراهيم الحربي، وعبد الله بن أحمد، والجُوزَجاني، وأبو بكر محمد بن علي بن أخت مسلم بن الحجاج، وغيرهم.

قال مسلم: ثقة مأمون، أحد الأئمة من أصحاب الحديث، وقال النسائي: ثقة ثبت، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال الحاكم: هو أحد الأئمة من أصحاب الحديث الزهاد، والمتمسكين بالسنة، وقال

الخطيب: كان فقيهًا عالمًا.

قال البخاري: مات بنيسابور يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لعشر خلون من جمادى الأولى سنة 251.

قال الحافظ: وكذا نُقل عن ابن حبان في الثقات، قال عثمان بن أبي شيبة: ثقة صدوق، وكان غيره أثبت منه، وفي "ت" ثقة ثبت من الحادية عشرة.

4 -

(عبد الرحمن) بن مهدي بن حسان العنبري، أبو سعيد البصري ثقة حجة [9] تقدم في 42/ 49.

5 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم أبو بكر الزهري المدني الحجة الشهير [4] تقدم في 1/ 1.

6 -

(أبو إدريس الخولاني) عائذ بن عبد الله بن عمرو، ويقال: عبد الله بن إدريس بن عائذ بن عبد الله بن عتبة بن غيلان العَوْذي، بفتح المهملة، وسكون الواو، ويقال: العَيْذي.

ص: 429

روى عن عمر بن الخطاب، وأبي الدرداء، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر، وبلال، وثوبان، وحذيفة، وعبادة بن الصامت، وعوف بن مالك، والمغيرة، ومعاوية، والنواس بن سمعان، وأبي ثعلبة الخشني، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وحسان بن الضمري، وعبد الله بن الديلمي، وعبد الله بن السعدي، وعمير بن سعد، وواثلة بن الأسقع، ويزيد بن عميرة الزبيدي، وأبي مسلم الخولاني، وغيرهم.

وعنه الزهري، وربيعة بن يزيد، وبسر بن عبيد الله، وعبد الله بن ربيعة بن يزيد، والقاسم بن محمد، والوليد بن عبد الرحمن بن أبي مالك، ويونس بن ميسرة بن حلبس، وأبو عون الأنصاري، ويونس بن سيف، ومكحول، وشهر بن حوشب، وأبو حازم سلمة بن دينار، وعدة.

قال مكحول: ما رأيت أعلم منه، وقال الزهري: كان قاص أهل الشام، وقاضيهم في خلافة عبد الملك، وقال سعيد بن عبد العزيز: كان أبو إدريس عالم الشام بعد أبي الدرداء، وقال أبو زرعة الدمشقي: أحسن أهل الشام لقيا لأجلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جبير بن نفير، وأبو إدريس، وقد قلت لدحيم: من المقدم منهم؟ قال: أبو إدريس، قال أبو زرعة: وأبو إدريس أروى عن التابعين من جبير بن نفير.

فأما معاذ بن جبل، فلم يصح له سماع، وإذا حدث أبو إدريس عن معاذ أسند ذلك إلى يزيد بن عميرة، قال أبو زرعة: قال محمد بن أبي عمر، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن أبي إدريس، أنه أدرك عبادة بن الصامت، وأبا الدرداء، وشداد بن أوس، وفاته معاذ بن جبل، قال أبو زرعة: وقد حدثنا محمد بن المبارك، ثنا الوليد بن مسلم، عن يزيد ابن أبي مريم، عن أبي إدريس، قال: جلست خلف معاذ بن جبل،

ص: 430

وهو يصلي، فلما انصرف من الصلاة قلت:"إني لأحبك في الله" الحديث، قال أبو زرعة: وقال هشام، عن صدقة، عن ابن جابر، عن عطاء الخراساني، سمعت أبا إدريس نحوه، قال: وحدثني سليمان، عن خالد بن يزيد، عن أبي مالك، عن أبي إدريس، قال أبو زرعة: أبو إدريس يروي عن أبي مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غنم، وكلاهما يحدثان بهذا الحديث، عن معاذ، والزهري يحفظ عن أبي إدريس أنه لم يسمع من معاذ، والحديث حديثهما، وقال أبو عمر بن عبد البر: سماع أبي إدريس من معاذ عندنا صحيح من رواية أبي حازم، وغيره، فلعل رواية الزهري عنه أنه فاتني معاذ بن جبل في معنى من المعاني، وأما لقاؤه، وسماعه منه، فصحيح غير مدفوع.

وقد سئل الوليد بن مسلم، وكان عالما بأيام أهل الشام، هل لقي أبو إدريس معاذ بن جبل؟ قال: نعم، أدرك معاذ بن جبل. وأبا عبيدة، وهو ابن عشر سنين، ولد يوم حنين، سمعت عبد العزيز يقول ذلك،

قال ابن معين وغيره: مات سنة ثمانين.

قال الحافظ: إذا كان ولد في غزوة حنين وهي في أواخر سنة ثمان، ومات معاذ سنة ثمان عشرة، فيكون سنه حين مات معاذ تسع سنين ونصفًا أو نحو ذلك، فيبعد في العادة أن يجاري معاذا في المسجد هذه المجاراة، أو يخاطبه هذه المخاطبة على ما اشتهر من عادتهم أنهم لا يطلبون العلم إلا بعد البلوغ، والجمع الذي جمع به ابن عبد البر قد سبقه إليه الطحاوي في مشكله وساقه من طرق كثيرة إلى أبي إدريس أنه سمع معاذا، وعبادة بالقصة المذكورة، وقال العجلي: دمشقي تابعي ثقة، وقال أبو حاتم، والنسائي، وابن سعد: ثقة، وقال أبو مسهر: لم نجد له

ص: 431

ذكرا بعد عبد الملك، وقال الهيثم بن عدي: توفي زمن عبد الملك، وذكره الطبري في طبقات الفقهاء في نفر من أهل الشام أهل فقه في الدين، وعلم بالأحكام، والحلال والحرام.

وروى مالك عن أبي حازم، عن أبي إدريس قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا أنا بفتى براق الثنايا، فسألت عنه، فقالوا: معاذ، فلما كان الغد هجرت فوجدته يصلي، فلما انصرف سلمت عليه، فقلت: والله إني لأجهد .. الحديث، وهو الذي أشار إليه ابن عبد البر، وقال البخاري: لم يسمع من عُمَر، وقال ابن حبان في الثقات: ولاه عبد الملك القضاء بعد عزل بلال بن أبي الدرداء، وكان من عباد أهل

الشام، وقرائهم، ولم يسمع من معاذ، وقال ابن أبي حاتم

(1)

: أسمع أبو إدريس من معاذ؟ فقال: يختلفون فيه، فأما الذي عندي فلم يسمع منه.

والخولاني: بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو نسبة إلى قبيلة نزلت الشام أفاده في اللباب.

7 -

(أبوهريرة) عبد الرحمن بن صخر الدوسي الصحابي الجليل رضي الله عنه تقدم في 1/ 1.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته من طريق قتيبة، وهي عالية بدرجة، ومن سداسياته من طريق إسحاق، وهي نازلة، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، وهم ما بين بغلاني، وهو قتيبة، ومروزي وهو إسحاق، ومدنيين،

(1)

هكذا في "تت" والظاهر أنه سقط منه سألت أبي، أو نحو ذلك.

ص: 432

وهم مالك، وابن شهاب، وأبو هريرة، وبصري، وهو عبد الرحمن بن مهدي، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، ابن شهاب، عن أبي إدريس، وأن صحابيه أحد المكثرين السبعة، وتقدم غير مرة، وفيه التحويل، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من توضأ) أي شرع في الوضوء (فليستنثر) أي ليخرج الماء الذي استنشقه، وذلك يكون بريحه بإعانة يده أو بغيرها مع إخراج الأذى، لما يأتي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه "إن الشيطان يبيت على خيشومه" ولما فيه من المعونة على القراءة، لأن بتنقية مجرى النفس تصح مخارج الحروف، أفاده في الفتح.

(ومن استجمر) أي استعمل الجمار، وهي الحجارة الصغار في الاستنجاء، وحمله بعضهم على استعمال البخور، فإنه يقال فيه: تجمر واستجمر، حكاه ابن حبيب عن ابن عمر، ولا يصح عنه، وابن عبد البر

عن مالك، وروى ابن خزيمة في صحيحه عنه خلافه، وقال عبد الرزاق عن معمر أيضا بموافقة الجمهور، قاله في الفتح جـ 1/ ص 316.

وقال البدر العيني: قوله "ومن استجمر" من الاستجمار وهو مسح محل البول والغائط بالجمار، وهي الأحجار الصغار، ويقال: الاستطابة، والاستجمار، والاستنجاء لتطهير محل الغائط والبول، والاستجمار مختص بالمسح بالأحجار، والاستطابة، والاستنجاء يكونان بالماء وبالأحجار.

ثم ذكر ما تقدم عن ابن عمر، ومالك من التفسير الثاني، ثم قال:

ص: 433

ويقال: إنما سمي به التمسح بالجمار التي هي الأحجار الصغار، لأنه يطيب المحل كما يطيبه الاستجمار بالبخور، ومنه سميت جمار الحج، وهي الحصيات التي يُرمى بها اهـ عمدة جـ 2/ ص 309.

(فليوتر) أي فليجعل الحجارة التي يستنجى بها وترا، ثلاثا، لا أقل لما ورد من النهي في حديث سلمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ولا يستنج أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار" رواه مسلم، وتقدم نحوه للمصنف في "باب النهي عن الاكتفاء في الاستطابة بأقل من ثلاثة أحجار" 37/ 41.

وبهذا أخذ الشافعي، وأحمد، وأصحاب الحديث، فاشترطوا أن لا ينقص من الثلاثة مع مراعاة الإنقاء، إذا لم يحصل بها فيزاد حتى ينقى، لكن يستحب مع ذلك الإيتار، لقوله "ومن استجمر فليوتر" وليس بواجب لزيادة في أبي داود حسنة الإسناد، قال:"ومن لا فلا حرج" وبهذا يحصل الجمع بين الروايات، في هذا الباب، قاله في الفتح.

قال الجامع عفا الله عنه: وهذا المذهب هو الراجح، للجمع بين الأدلة، وقد قدمنا مذاهب العلماء بأدلتها، وترجيح ما هو الراجح في الباب السابع والثلاثين "باب النهي عن الاكتفاء" الخ 37/ 41 والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

89 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا تَوَضَّأْتَ فَاسْتَنْثِرْ وَإِذَا اسْتَجْمَرْتَ فَأَوْتِرْ".

ص: 434

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد بن جميل بن طريف الثقفي أبورجاء البغلاني ثقة ثبت [10] تقدم في 1/ 1.

2 -

(حماد) بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي، أبو إسماعيل البصري الأزرق مولى آل جرير بن حازم، قال ابن منجويه، وابن حبان: كان ضريرًا، روى عن ثابت البناني، وأنس بن سيرين، وعبد العزيز بن صهيب، وعاصم الأحول، ومحمد بن زياد القرشي، وأبي جمرة الضبعي، والجعد أبي عثمان، وأبي حازم سلمة بن دينار، وشعيب بن الحبحاب، وصالح بن كيسان، وعبد الحميد صاحب الزيادي، وأبي عمران الجوني، وعمرو بن دينار، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وغيرهم من التابعين، فمن بعدهم.

وعنه ابن المبارك، وابن مهدي، وابن وهب، والقطان، وابن عيينة، وهو من أقرانه، والثوري، وهو أكبر منه، وإبراهيم بن أبي عَبْلَة، وهو في عداد شيوخه، ومسلم بن إبراهيم، وعارم، ومسدد، ومؤمل بن إسماعيل، وأبو أسامة، وسليمان بن حرب، وعفان، وعمرو بن عوف، وعلي بن المديني، وقتيبة، ومحمد بن زنبور المكي، وأبو الأشعث: أحمد بن المقدم العجلي، وخلق كثير آخرهم الهيثم بن سهل التستري مع ضعفه.

قال رسْتَه: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: أئمة الناس في زمانهم أربعة: سفيان الثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز،، والأوزاعي بالشام، وحماد بن زيد بالبصرة، وقال ابن مهدي: ما رأيت أعلم من هؤلاء فذكرهم سوى الأوزاعي، وقال فطر

(1)

بن حماد: دخلت على

(1)

في تهذيب الكمال: نصر بن حماد.

ص: 435

مالك، فلم يسألني عن أحد من أهل البصرة إلا عن حماد بن زيد، وقال ابن مهدي: لم أر أحدا أعلم بالسنة، ولا بالحديث الذي يدخل في السنة من حماد بن زيد، وقال أبو حاتم: قال ابن مهدي: ما رأيت أحدا بالبصرة أفقه من حماد بن زيد، وقال محمد بن المنهال الضرير: سمعت يزيد بن زريع، وسئل: ما تقول في حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، أيهما أثبت؟ قال: حماد بن زيد، وكان الآخر رجلا صالحا، وقال وكيعِ: وقيل له أيهما أحفظ؟ فقال: حماد بن زيد، ما كنا نشبهه إلا بمسْعَر، وقال يحيى بن يحيى النيسابوري: ما رأيت أحفظ منه، وقال أحمد بن حنبل: حماد بن زيد أحب إلينا من عبد الوارث، حماد من أئمة المسلمين من أهل الدين والإسلام، وهو أحب إلى من حماد بن سلمة، وقال يحيى بن معين: حماد بن زيد أثبت من عبد الوارث، وابن عُليَّة، والثقفي، وابن عيينة.

وقال أيضا: ليس أحد أثبت في أيوب منه، وقال أيضا: من خالفه من الناس جميعا، فالقول قوله في أيوب، وقال أبو زرعة: حماد بن زيد أثبت من حماد بن سلمة بكثير، وأصح حديثا وأتقن.

وقال أبو عاصم: مات حماد يوم مات ولا أعلم له في الإسلام نظيرا في هيئته، ودلِّه، وقال خالد بن خدَاش: كان من عقلاء الناس، وذوي الألباب، وقال يزيد بن زريع يوم مات: اليوم مات سيد المسلمين، وقال محمد بن سعد: كان عثمانيا وكان ثقة ثبتا حجة كثير الحديث، وقال أبو زرعة: سمعت أبا الوليد يقول: ترون حماد بن زيد دون شعبة في الحديث؟ وقال عبد الله بن معاوية الجمحي: حدثنا حماد بن سلمة بن دينار، وحماد بن زيد بن درهم، وفضل ابن سلمة على ابن زيد كفضل الدينار على الدرهم، وقال ابن حبان في الثقات: وقد وَهمَ من زعم أن بينهما كما بين الدينار والدرهم، إلا أن يكون القائل أراد فضل ما

ص: 436

بينهما مثل الدينار والدرهم في الفضل والدين؛ لأن حماد بن سلمة كان أفضل وأدين، وأورع من حماد بن زيد.

قال خالد بن خداش: ولد سنة 98، وقال عارم، وجماعة: مات في رمضان سنة 179، قال الحافظ: وقال يعقوب بن شيبة: حماد بن زيد أثبت من ابن سلمة، وكل ثقة، غير أن ابن زيد معروف بأنه يقصر في الأسانيد، ويوقف المرفوع كثير الشك بتوقيه، وكان جليلا، لم يكن له كتاب يرجع إليه، فكان أحيانا يذكر فيرفع الحديث، وأحيانا يهاب الحديث ولا يرفعه، وكان يعد من المتثبتين في أيوب خاصة، حدثني الحارث بن مسكين عن ابن عيينة، قال: لربما رأيت الثوري جاثيا بين يدي حماد بن زيد، وقال ابن أبي خيثمة: سأل إنسان عبيد الله بن عمر، كان حماد أميا؟ قال: أنا رأيته، وأتيته يوم مطر، فرأيته يكتب، ثم ينفخ فيه ليجف، قال: وسمعت يحيى يقول لم يكن أحد يكتب عند أيوب إلا حماد.

قال الحافظ: فهذا يدل على أن العمى طرأ عليه، وقال الخليلي: ثقة ثبت متفق عليه رضيه الأئمة، وقال: والمعتمد في حديث يرويه حماد ويخالفه غيره عليه والمرفوع إليه، وقال ابن أبي حاتم في المراسيل عن أبيه لم يسمع من أبي المهزم شيئا، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة ثبت فقيه من كبار الثامنة.

3 -

(منصور) بن المعتمر بن عبد الله بن ربيعة، وقيل المعتمر بن عتاب بن فرقد السلمي، أبو عتاب

(1)

الكوفي.

روى عن أبي وائل، وزيد بن وهب، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، وربعي بن حراش، وتميم بن سلمة، وخيثمة بن عبد الرحمن،

(1)

بمثناة ثقيلة ثم موحدة. اهـ تقريب.

ص: 437

وذَرّ بن عبد الله المُرْهبي، وسعد بن عبيدة، وسعيد بن جبير، وأبي حازم الأشجعي، وطلحة بن مصرف، وعبد الله بن مرة، ومجاهد، وأبي الضحى، والمسيب بن رافع، والمنهال بن عمرو، وهلال بن

يساف، وأبي عثمان التبان، وعبد الله بن يسار الجهني، وعلي بن الأقمر، وخلق.

وعنه أيوب، وحصين بن عبد الرحمن، والأعمش، وسليمان التيمي، وهم من أقرانه، والثوري، وشعبة، ومسعر، وشيبان، وزهير بن معاوية، وإسرائيل، وعلي بن صالح، وروح بن القاسم، وعمار بن رُزَيق، ووهيب، والجراح بن مليح، وأبو الأحوص، وسفيان بن عيينة، وعَبيدة بن حُميد، وجرير بن عبد الحميد، وعبد العزيز بن عبد الصمد العمي، وزياد بن عبد الله البكائي وآخرون.

قال الآجري عن أبي داود: كان منصور لا يروي إلا عن ثقة، وقال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد: قال سفيان: كنت لا أحدث الأعمش عن أحد من أهل الكوفة إلا رده، فإذا قلت: منصور سكت، قلت ليحيى: منصور، عن مجاهد، أحب إليك، أم ابن أبي نجيح؟ قال: منصور أثبت، ثم قال: ما أحد أثبت عن مجاهد، وإبراهيم، عن منصور، وقال حجاج، عن شعبة، عن منصور: ما كتبت حديثا قط، وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة قال لي الثوري: رأيت منصورًا، وعبد الكريم الجزري، وأيوب، وعمرو بن دينار، فهؤلاء الأعين الذين لا يشك فيهم، وقال بشر بن المفضل: لقيت الثوري بمكة، فقال: ما بالكوفة آمن على الحديث من منصور، وقال: أحمد بن سنان القطان، عن ابن مهدي: أربعة بالكوفة لا يختلف في حديثهم، فمن اختلف عليهم فهو مخطئ، ليس هو منهم، منهم: ابن المعتمر، وقال الأثرم عن أحمد: منصور أثبت من إسماعيل بن أبي خالد، وقال صالح بن

ص: 438

أحمد: قلت لأبي: إن قوما يقولون: منصور أثبت في الزهري، عن مالك، قال: هؤلاء جهال، منصور إذا نزل إلى المشايخ اضطرب، وقال عبد الله بن أحمد: سالت أبي من أثبت الناس في إبراهيم؟ قال: الحكم، ثم منصور.

وقال عباس عن ابن معين. منصور أحب إلى من حبيب بن أبي ثابت، ومن عمرو بن مرة، ومن قتادة، قيل ليحى: فأيوب؟ قال: هو نظيره عندي.

وقال عثمان الدارمي: قلت ليحيى: أبو معشر أحب إليك، عن إبراهيم، أو منصور؟ فقال: منصور خير منه، قلت: الأعمش عن إبراهيم، أحب إليك، أو منصور؟ فقال: منصور، قلت: فالحكم أو منصور؟ قال: منصور، قلت: فمنصور أو المغيرة؟ قال: منصور، وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين، وأبي حاضرٌ يقول: إذا اجتمع منصور والأعمش، فقدم منصورًا.

وقال أيضًا: سمعت يحيى يقول: منصور أثبت من الحكم، ومنصور بن المعتمر من أثبت الناس، وقال أيضا: رأيت في كتاب علي ابن المديني، وسئل أي أصحاب إبراهيم أعجب إليك؟ قال: إذا حدثك عن منصور ثقة فقد ملأت يديك، ولا تريد غيره، وقال عبدان: سمعت أبا حمزة يقول: دخلت إلى بغداد فرأيت جميع من بها يثني على منصور، وقال وكيع، عن سفيان: إذا جاءت المذاكرة جئنا بكل، وإذا

جاء التحصيل جئنا بمنصور، وقال عبد الرزاق: حدث سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، فقال: هذا لشرف على الكرسي.

ص: 439

وقال أبو زرعة، عن إبراهيم بن موسى: أثبت أهل الكوفة منصور، ثم مسعر.

وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن منصور؟ فقال: ثقة، قال: وسئل أبي عن الأعمش ومنصور؟ فقال: الأعمش حافظ يخلط، ويدلس، ومنصور أتقن، لا يخلط، ولا يدلس، وقال العجلي: كوفي ثقة ثبت في الحديث، كان أثبت أهل الكوفة، وكان حديثه القدح لا يختلف فيه أحد، متعبد رجل صالح أكره على القضاء شهرين، وكان فيه تشيع قليل، ولم يكن بغَال، وكان قد عمش من البكاء وصام ستين

سنة، وقامها، وقالت فتاة لأبيها: يا أبت الأسطوانة التي كانت في دار منصور ما فعلت؟ قال: يا بنيه ذاك منصور يصلي بالليل فمات.

قال ابن سعد، وخليفة في آخرين مات سنة 132، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة ثبت من طبقة الأعمش.

4 -

(هلال بن يساف) بكسر التحتانية ثم مهملة ثم فاء، ويقال ابن إساف الأشجعي مولاهم الكوفي أدرك عليا، وروى عن الحسن بن علي، وأبي الدرداء، وأبي مسعود الأنصاري، وسعيد بن زيد، وسمرة ابن جندب، وسالم بن عبد الله الأشجعي، وسلمة بن قيس، وسويد بن مُقَرِّن، وعمران بن حصين، ووابصة بن مَعْبَد، وعائشة، والبراء بن عازب، وفَرْوَة بن نوفل، وعمرو بن ميمون، والربيع بن عَميلة،

وعبد الله بن ظالم، وضمضم أبي المثنى الأملوكي، وأبي يحيى الأعرج، وجماعة.

وعنه أبو إسحاق السبيعي، والأعمش، وسلمة بن كهيل، وعبدة ابن أبي لبابة، ومنصور بن المعتمر، وعلي بن المدرك، وعبد الأعلى بن ميسرة، وحصين بن عبد الرحمن، وغيرهم.

ص: 440

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات.

قال الحافظ: وقال ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل الكوفة: وكان ثقة كثير الحديث، وقال ابن أبي حاتم: قال يحيى بن سعيد القطان: أنكر أن يكون هلال بن يساف سمع من أبي مسعود، قال: وقال أبي: هلال بن يساف، عن عمر مرسل، وقال أبو زرعة: لم يلق حذيفة، وقال أبو حاتم: منهم من يدخل بين هلال، ووابصة، عمرو بن راشد.

وأما قول المصنّف -يعني المزي-: أدرك عليا، وروى عن أبي الدرداء، فعجيب؛ لأن أبا الدرداء مات قبل علي، فلا معنى لقوله حينئذ أدرك عليا؛ لأنه إن صح سماعه من أبي الدرداء، وَمَا إخَاله صحيحا لكان مدركا لعثمان، فضلا عن علي، علق له البخاري، وأخرج له الباقون، وفي "ت" ثقة من الثالثة.

5 -

(سلمة بن قيس) الأشجعي الغطفاني، له صحبة وسكن الكوفة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء، وعنه هلال بن يساف، وأبو إسحاق السبيعي.

وذكر أبو الفتح الأزدي، وأبو صالح المؤذن، أن هلالا تفرد بالرواية عنه، وقال أبو القاسم البغوي: روى ثلاثة أحاديث، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح أن عمر استعمله على بعض مغازي فارس، أخرج له الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رواته كوفيون إلا قتيبة، فبغلاني، وحمادًا فبصري.

ومنها: أن صحابيه من المقلين ليس له في الكتب الستة إلا هذا

ص: 441

الحديث المذكور في الباب عند المصنّف، والترمذي، وابن ماجه، وقد مر آنفًا أنه روى ثلاثة أحاديث، وأنه ممن انفرد بالرواية عنه هلالٌ على ما قاله بعضهم.

ومنها: أن فيه الإخبار والتحديث والعنعنة، من صيغ الأداء.

شرح الحديث

(عن سلمة بن قيس) الأشجعي الغطفاني رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا توضأت) أي شرعت في الوضوء.

(فاستنثر) أي أخرج الماء الذي أدخلته في الاستنشاق ليخرج ما في الأنف من الأوساخ، وفي "ق" استنثر: استنشق الماء ثم استخرج بنَفَس الأنف كانتثر. اهـ.

وفي المصباح: نثر المتوضئ، واستنثر بمعنى استنشق، ومنهم من يفرق، فيجعل الاستنشاق إيصال الماء، والاستنثار إخراج ما في الأنف من مخاط وغيره، ويدل عيه لفظ الحديث "كان صلى الله عليه وسلم يستنشق ثلاثًا، وفي كل مرة يستنثر" وفي حديث "إذا استنشقت فانثر" بهمزة وصل وتكسر

الثاء، وتضم، وأنثر المتوضئ إنثارا لغة، وحمل أبو عبيد الحديث على هذه اللغة. اهـ.

وقال الحافظ في الفتح: الاستنثار هو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضئ أي يجذبه بريح أنفه لتنظيف ما في داخله، فيخرجه بريح أنفه، سواء كان بإعانة يد أم لا.

وحكى مالك كراهية فعله بغير إعانة اليد، لكونه يشبه فعل الدابة، والمشهور عدم الكراهة، وإذا استنثر بيده فالمستحب أن يكون باليسرى كما بوب عليه المصنف في الباب 74، وأخرجه مقيدا بها من حديث علي رضي الله عنه.

ص: 442

قال الجامع عفا الله عنه: الأحسن تفسير الاستنثار بما فسر به في الفتح لدلالة ظواهر الأحاديث عليه، والله أعلم.

(وإذا استجمرت فأوتر) أي إذا استعملت الجمار في الاستنجاء، فاجعله وترا، ثلاثا، أو خمسا، أو أكثر، لكن الثلاث واجب، وما زاد مستحب كما تقدم. والله تعالى أعلم، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديثي الباب

الأولى: في درجتهما: حديثا الباب صحيحان، أما حديث أبي هريرة فمتفق عليه، وأما حديث سلمة فصححه الترمذي.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكرهما عند المصنف:

أما حديث أبي هريرة فأخرجه هنا 72/ 88، وفي الكبرى 68/ 95، عن قتيبة عن مالك، وعن إسحاق بن منصور، عن ابن مهدي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأما حديث سلمة فأخرجه هنا 72/ 89، عن قتيبة، عن حماد، عن منصور، عن هلال بن يساف عنه، وفي 39/ 43، عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن منصور به، بقصة الاستجمار فقط.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجهما معه: أما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري في الطهارة عن عبدان، عن عبد الله، عن يونس عن الزهري به.

وأخرجه مسلم في الطهارة أيضا عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن الزهري به، وعن سعيد بن منصور، عن حسان إبراهيم، وعن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب كلاهما عن يونس، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن أبي هريرة، وأبي سعيد كلاهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخرجه ابن ماجه: في الطهارة أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن زيد بن الحباب، وداود بن عبد الله الجعفري، كلاهما عن مالك به.

ص: 443

وأما حديث سلمة بن قيس: فأخرجه معه الترمذي، وابن ماجه، فأما الترمذي، فأخرجه في الطهارة، عن قتيبة، عن حماد بن زيد، وجرير بن عبد الحميد، كلاهما عن منصور، عن هلال به، وقال: حسن صحيح، وأما ابن ماجه فأخرجه في الطهارة، أيضا عن أحمد بن عبدة، عن حماد به، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي الأحوص به.

المسألة الرابعة: في أحكام تستنبط من حديثي الباب، ومذاهب العلماء في ذلك:

يستنبط من حديثي الباب، وجوبُ المضمضة، والاستنشاق، والاستنثار، لأن الأمر للوجوب، ولا صارف عنه مع مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك، وهو مذهب أحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وابن المنذر، وهو الراجح كما تقدم.

وذهب الجمهور إلى أن الأمر للندب، واستدلوا بما حسنه الترمذي، وصححه الحاكم من قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي "توضأ كما أمرك الله" فأحاله على الآية، وليس فيها ذكر الاستنشاق.

وأجيب بأنه يحتمل أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء، فقد أمر الله سبحانه باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله أمْرَهُ، ولم يَحك أحد ممن وصف وضوءه عليه الصلاة والسلام على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق، ولا المضمضة، وبأنها داخلة في الأمر بغسل الوجه، كما تقدم بيانه. وقد ورد الأمر بالمضمضة في سنن أبي داود بإسناد صحيح، كما قاله الحافظ، وهو يردّ على ابن حزم حيث يقول: لم يصح بها أمر، وإنما هي فعل.

ويستنبط أيضا وجوب الإيتار في الاستجمار، وقد تقدم تحقيقه في الباب 37، ولم يذكر في حديث الباب عدد الاستنثار، ويأتي في الباب التالي أنه ثلاث، وأخرج الحميدي في مسنده من رواية سفيان، عن أبي الزناد ولفظه "وإذا استنثر، فليستنثر وترًا".

ص: 444

‌73 - بَابُ الأَمْرِ بِالاِسْتِنْثَارِ عِنْدَ الاِسْتِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الأمر بالاستنثار عنوإلاستيقاظ من النوم، أي الانتباه منه.

والنوم: غشية ثقيلة تهجُم على القلب، فتقطعه عن المعرفة بالأشياء، ولهذا قيل: هو آفة لأن النوم أخو الموت، وقيل: مزيل للقوة، والعقل، وأما السِّنَة ففي الرأس والنُّعَاس في العين، وقيل: هي النعاس، وقيل السنة: ريح النوم تبدو في الوجه، ثم تنبعث إلى القلب، فينعس الإنسان، فينام اهـ المصباح.

90 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زُنْبُورٍ الْمَكِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَهُ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ، فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن زنبور) أبو صالح المكي، وهو محمد بن جعفر بن أبي الأزهر، مولى بني هاشم، وزنبور لقب.

روى عن إسماعيل بن جعفر، والحارث بن عمير، وحماد بن زيد،

ص: 445

وعبد العزيز بن أبي حازم، والدراوردي، وعيسى بن يونس، وفضيل بن عياض، ومحمد بن جابر الحنفي، ومحمد بن فضيل، وأبى بكر بن عياش، وغيرهم.

روى عنه النسائي، وأبو بكر البزار، ومحمد بن علي الحكيم الترمذي، ومحمد بن يوسف البنا، وعلي بن إسحاق بن زاطيا، وروح بن حاتم البغدادي، وعبد الله بن الصباح الضبي البزاز، وعبد الله بن ميمون الأصبغ، وعلي بن الحسن بن سليمان، والقطيعي، ومحمد بن حصن بن خالد الألوسي، وإبراهيم بن محمد بن متويه، والحسين بن إسحاق التستري ويحيى بن محمد بن صاعد، وعمر بن محمد بن بجير، وأبو عروبة الحراني، وأبو علي أحمد بن محمد بن علي بن رزين الباشاني، ومحمد بن إبراهيم الدبيلي، وآخرون.

قال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: ليس به بأس، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم، تركه أبو بكر محمد بن إسحاق ابن خزيمة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ.

قال أبو القاسم: مات سنة 8، وقيل 249، وأرخه القراب في ذي الحجة سنة 8، وقال مسلمة في الصلة: تكلم فيه، لأنه رَوَى عن الحارث بن عمير مناكير لا أصول لها، وهو ثقة، وهو من أفراد المصنف، وفي "ت" صدوق له أوهام.

2 -

(ابن أبي حازم) هو عبد العزيز بن أبي حازم، سلمة بن دينار المحاربي، مولاهم أبو تمام المدني الفقيه.

روى عن أبيه، وسهيل بن أبي صالح، وهشام بن عروة، وموسى بن عقبة، ويزيد بن الهاد، والعلاء بن عبد الرحمن، وكثير بن زيد بن أسلم، وغيرهم.

ص: 446

وعنه ابن مهدي، وابن وهب، والقعنبي، وإبراهيم بن حمزة الزبيري، وعلي بن المديني، وإسماعيل بن أبي أويس، وسعيد بن أبي مريم، وسعيد بن منصور، وسويد بن سعيد، والحميدي، وعبد الوهاب الحَجَبي، وعبد العزيز الأويسي، وعمرو الناقد، وأبو الأحوص، والبغوي، وأبو ثابت المديني، ويعقوب الدورقي، ويحيى بن يحيى النيسابوري، ويحيى بن أكثم، وعلي بن حجر، وقتيبة بن سعيد، ولُوين، وأبو مصعب الزهري، ومحمد بن زنبور المكي، وآخرون.

قال أحمد: لم يكن يعرف بطلب الحديث إلا كتب أبيه، فإنهم يقولون: إنه سمعها، وكان يتفقه لم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه، ويقال: إن كتب سليمان بن بلال وقعت إليه ولم يسمعها، وقد روى عن أقوام لم يكن يعرف أنه سمع منهم، وقال ابن معين: ثقة صدوق، وليس به بأس، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عبد العزيز بن أبي حازم، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم؟ فقال: متقاربون، قيل له: فعبد العزيز؟ قال: صالح الحديث، وقال هو، وأبو زرعة: عبد العزيز أفقه من الدراوردي، وأوسع حديثا منه، وقال النسائي: ثقة، وقال مرة: ليس به بأس، وذكره ابن عبد البر فيمن كان مدار الفتوى عليه في آخر زمان مالك وبعده، وقال ابن سعد: ولد سنة 107، وقال عبد الرحمن بن شيبة مات سنة 184، وهو ساجد، وكذا أرخه مطين وزاد: ويقال: سنة 82.

قال الحافظ: وقال أحمد بن علي الأبَّار: ثنا أبو إبراهيم الترجماني، قال: قال مالك: قوم يكون فيهم ابن أبي حازم لا يصيبهم العذاب، قال أبو إبراهيم: مات وهو ساجد، وقال ابن حبان في الثقات: مات سنة 4، وله 82 سنة، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث دون الدراوردي، وقال مصعب الزبيري: كان فقيها، وقد سمع مع سليمان

ص: 447

ابن بلال، فلما مات سليمان أوصى له بكتبه، وقال العجلي، وابن نمير: ثقة، أخرج له الجماعة، وفي "ت" صدوق فقيه من الثامنة.

3 -

(يزيد بن عبد الله) بن أسامة بن الهاد الليثي، أبو عبد الله المدني روى عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، وله رؤية، وعمير مولى آبي اللحم، وله صحبة، والصحيح أن بينهما محمد بن إبراهيم التيمي، وقهيد بن مطرف، ومعاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي، وعبد الله بن خباب، وعبد الله بن دينار، وزياد بن أبي زياد، ومحمد بن كعب القرظي، وأبي حازم بن دينار، وسهيل بن أبي صالح، وعبادة بن الوليد بن عبادة، وعمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، ومحمد بن عمرو بن عطاء، والزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبي مرة مولى أم هانئ، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد، وسعد بن إبراهيم، وهو أكبر منه، ويُحَنَّس مولى مصعب بن الزبير، وآخرين.

وعنه شيخه يحيى بن سعيد الأنصاري، وإبراهيم بن سعد، ومالك، وعبد العزيز الدراوردي، وعبد الله بن جعفر المخرمي، وحيوة ابن شريح، وعمر بن مالك الشرعبي وابن عيينة، وأبو ضمرة، وآخرون، وقال الأثْرَم، عن أحمد: لا أعلم به بأسا، وقال ابن معين والنسائي: ثقة، وقال ابن أبي حازم

(1)

عن أبيه: ابن الهاد أحب إلى من عبد الرحمن بن الحارث، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وهو، ومحمد ابن عجلان، متساويان، وهو في نفسه ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: توفي بالمدينة سنة 139 وكان ثقة كثير الحديث.

قال الحافظ: وقال يعقوب بن سفيان: مدني ثقة، حسن الحديث،

(1)

لعله ابن أبي حاتم.

ص: 448

يروي عن الصغار والكبار، وقال العجلي: مدني ثقة، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة مكثر من الخامسة.

4 -

(محمد بن إبراهيم) بن الحارث بن خالد بن صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، القرشي التيمي، أبو عبد الله المدني، كان جده الحارث من المهاجرين الأولين.

رأى سعد بن أبي وقاص، وروى عن أبي سعيد الخدري، وعمير مولى آبي اللحم، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وقيس بن عمرو الأنصاري، ومحمود بن لبيد، وعائشة، وعلقمة بن وقاص، وبسر بن سعيد، وخالد بن معدان، وعامر بن سعد، وعبد الله بن حنين، وعبد الرحمن بن بجيد، وعروة بن الزبير، وعطاء بن يسار، وعيسى بن طلحة، ومحمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، ونافع بن عجير، وأبي حازم التمار، وأبي الهيثم نصر بن دهر، ومالك ابن أبي عامر الأصبحي، ومعاذ بن عبد الرحمن التيمي، وأبي سلمة ابن عبد الرحمن، وآخرين.

وأرسل عن أسيد بن حضير، وأبي أمامة، وابن عمر، وابن عباس، فيما قيل.

روى عنه ابنه موسى، ويحيى، وعبد ربه، وسعد، بنو سعيد الأنصاري، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وهشام بن عروة، ويزيد بن الهاد، ويحيى بن أبي كثير، وعمارة بن غزية، وابن إسحاق، والأوزاعي، وحميد بن قيس الأعرج، وأسامة بن زيد الليثي، وتوبة العنبري، وآخر ون.

قال ابن معين، وأبو حاتم والنسائي، وابن خراش: ثقة، وقال ابن سعد: قال محمد بن عمرو: وكان محمد بن إبراهيم يكنى أبا عبد الله

ص: 449

توفي سنة 120، وكان ثقة كثير الحديث، وقال العقيلي، عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه: في حديثه شيء يروي أحاديث مناكير، أو منكرة، وقال أبو حسان الزيادي: كان شريف قومه، مات سنة 19، وقيل 20 وفي سنة 20، أرخه غير واحد، وقال خليفة: مات سنة 21.

قال الحافظ: له رواية عن أبيه في المعرفة لابن منده، فزعم أبو نعيم أنه أراد بقوله عن أبيه جده، وعلى هذا فيكون أرسل عنه، فإن أباه ولد بأرض الحبشة، وتبعه ابن حبان في الثقات، وقال: سمع من ابن عمر، وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: لم يسمع من جابر، ولا من أبي سعيد، انتهى.

وحديثه عن عائشة عند مالك، والترمذي، وصححه، وعائشة ماتت قبل أبي سعيد، وجابر، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة له أفراد من الرابعة.

5 -

(عيسى بن طلحة) بن عبيد الله التيمي، أبو محمد المدني، وأمه سعدى بنت عوف المرية، روى عن أبيه، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وعائشة، ومعاوية، وعمر بن سلمة

الضمري، وحمران بن أبان، وغيرهم.

وعنه ابنا أخيه: طلحة وإسحاق ابنا يحيى بن طلحة، والزهري، ومحمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وخالد بن سلمة المخزومي، ومحمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، ويزيد بن أبي حبيب، وغيرهم. ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل المدينة، وقال: كان ثقة، كثير الحديث، وقال ابن الجنيد، عن ابن معين: ثقة، وكذا قال النسائي، والعجلي.

قال خليفة وغيره: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقال ابن منجويه: مات سنة 100.

ص: 450

قال الحافظ: هو قول ابن حبان في الثقات، قال: وكان من أفاضل أهل المدينة وعقلائهم، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة فاضل من كبار الثالثة.

6 -

(أبو هريرة) الدوسي الصحابي رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1.

لطائف الإسناد:

منها: أنه من سداسياته، وأن شيخه ممن انفرد هو به من بين الستة، وأن رواته كلهم مدنيون، إلا شيخه فمكي، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وهما محمد بن إبراهيم، وعيسى، وأن صحابيه أحد المكثرين السبعة، روى 5374 حديثًا.

وأن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: إذا استيقظ أحدكم من منامه) أي نومه، فالمنام مصدر ميمي لنام (فتوضأ) أي شرع في الوضوء (فليستنثر ثلاث مرات) أي ليخرج الماء الذي أدخله بالاستنشاق مع الأوساخ.

ثم ذكر علة الأمر بذلك بقوله (فإن الشيطان).

قال في المصباح: فيه قولان: أحدهما: أنه من شطن: إذا بَعُد عن الحق، أو رحمة الله، فتكون النون أصلية، ووزنه فيعال، وكل عات متمرد من الجن، والإنس، والدواب، فهو شيطان، ووصف أعرابي

فرسه فقال: كانه شيطان في أشطان

(1)

.

والقول الثاني: أن الياء أصلية، والنون زائدة عكس الأول، وهو

(1)

الأشطان جمع شطن بفتحتين، وهو الحبل اهـ مصباح.

ص: 451

من شاط يشيط: إذا بطل، أو احترق فوزنه فعلان، اهـ (يبيت على خيشومه) بفتح الخاء المعجمة، وسكون الياء التحتانية، وضم المعجمة، وسكون الواو: هو الأنف، وقيل: المنخر، قاله الحافظ، وقال التوربشتي: هو أقصى الأنف المتصل بالبطن المقدم من الدماغ، نقله السندي، وقوله:"فليستنثر"، أكثر فائدة من قوله "فليستنشق"؛ لأن الاستنثار يقع على الاستنشاق بغير عكس، فقد يستنشق، ولا يستنثر، والاستنثار من تمام فائدة الاستنشاق؛ لأن حقيقة الاستنشاق جذب الماء بريح الأنف إلى أقصاه، والاستنثار إخراج ذلك الماء، والمقصود من الاستنشاق تنظيف داخل الأنف، والاستنثار يخرج ذلك الوسخ مع الماء، فهو من تمام الاستنشاق.

وقيل إن الاستنثار مأخوذ من النَّثْرَة، وهي طرف الأنف، وقيل: الأنف نفسه فعلى هذا، فمن استنشق، فقد استنثر، لأنه يصدق أنه تناول الماء بأنفه، أو بطرف أنفه، وفيه نظر.

ثم إن ظاهر الحديث أن هذا يقع لكل نائم، ويحتمل أن يكون مخصوصا بمن لم يحترس من الشيطان بشيء من الذكر، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك" أخرجه الشيخان، والترمذي، وابن ماجه.

وكذلك آية الكرسي، لحديث أبي هريرة في حفظ زكاة الفطر، وفيه "إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، لن يزال عليك من الله حافظ،

ص: 452

ولا يقربك شيطان حتى تصبح" الحديث، أخرجه البخاري تعليقًا، والمصنف في عمل اليوم والليلة.

ويحتمل أن يكون المراد بنفي القرب هنا أنه لا يقرب من المكان الذي يوسوس فيه، وهو القلب، فيكون مبيته على الأنف ليتوصل منه إلى القلب إذا استيقظ، فمن استنثر منعه من التوصل إلى ما يقصد من الوسوسة، فحينئذ فالحديث متناول لكل مستيقظ، أفاده الحافظ في الفتح جـ 6، في كتاب "بدء الخلق" في باب "صفة إبليس" ص 395. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث الباب متفق عليه.

المسألة الثانية: فيمن أخرجه:

أخرج حديث هذا الباب المصنف، والبخاري، ومسلم.

فأما المصنف: فأخرجه هنا وفي الكبرى 69/ 96 عن محمد بن زنبور، عن ابن أبي حازم، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة.

وأما البخاري: فأخرجه في بدء الخلق، في صفة إبليس، عن إبراهيم بن حمزة، عن عبد العزيز بن أبي حازم به.

وأما مسلم: فأخرجه في الطهارة عن بشْر بن الحكَم، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، به.

المسألة الثالثة: يستفاد من الحديث تأكد الاستنثار عند الاستيقاظ من النوم، وقد تقدم حكمه، واختلاف العلماء فيه في الباب السابق، وأن علته كون الشيطان يبيت على خيشوم الإنسان، ومبيت الشيطان، إما حقيقة؛ لأنه أحد منافذ الجسم يتوصل منها إلى القلب، والمقصود من الاستنثار إزالة آثاره، وإما مجاز، فإن ما ينعقد فيه من الغبار والرطوبة

ص: 453

قذرات توافق الشيطان، فالمراد أن الخيشوم محل قذر لبيتوتة الشيطان، فينبغي للإنسان تنظيفه، قاله السندي.

قال الجامع عفا الله عنه: الأول: هو الصحيح، ولا داعي للمجاز مع أن الحقيقة هي الأصل، ولا مانع من وقوعها، والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 454

‌74 - بِأَيِّ الْيَدَيْنِ يَسْتَنْثِرُ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواب مَن سأل بأي اليدين يستنثر من يتوضأ؟.

91 -

أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَنَثَرَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، فَفَعَلَ هَذَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا طُهُورُ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(موسى بن عبد الرحمن) بن سعيد بن مسروق الكندي المسروقي، أبو عيسى الكوفي، عن حسين الجعفي، وزيد بن الحباب وطائفة، وعنه الترمذي، والنسائي، ووثقه، وابن ماجه، قيل: توفي

سنة 258، وفي "ت" ثقة من كبار الحادية عشرة.

2 -

(حسين بن علي) بن الوليد الجعفي، بضم الجيم وسكون العين المهملة نسبة إلى جُعْفَى بن سعد العَشيرة من مذحج، مولاهم، أبو محمد، وأبو عبد الله الكوفي أحد الأعلام، والزهاد، عن الأعمش،

وجعفر بن برقان، وزائدة وفضيل بن مرزوق، وخلق.

ص: 455

وعنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، ومحمد بن رافع، وإسحاق الكوسج، وخلق، قال أحمد: ما رأيت أفضل منه، وقال حميد بن الربيع: أملى علينا الحسين فقالت امرأة: أيش بدا للحسين؟ فقيل: رأى كأن القيامة قد قامت، وكأن مناديا ينادي، ليقم العلماء فيدخلوا الجنة، فقاموا، فقمت معهم، فقيل: اجلس لست منهم، أنت لا تحدث، فلم يزل يحدث في البرد، والحر، والمطر، حتى كتبنا عنه أكثر من عشرة آلاف مات سنة 203. عن 84 سنة أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة عابد، من التاسعة.

3 -

(زائدة) بن قدامة الثقفي، أبو الصَّلْت الكوفي، أحد الأعلام، عن سماك بن حَرْب، وزياد بن علاقة، وعاصم بن بَهْدَلة، وعنه ابن عيينة، وحسين الجعفي، وابن مهدي، وثقه أبو حاتم، وغيره.

قال مُطَيَّن: مات غازيا بأرض الروم سنة 162، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة ثبت سنين من السابعة.

4 -

(خالد بن علقمة) أبو حَيَّة الهَمْداني الوادعي، عن عبد خير، وعنه الثوري، وزائدة، وثقه ابن معين، أخرج له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وفي "ت" صدوق من السادسة.

5 -

(عبد خير) ويقال: اسمه عبد الرحمن بن يزيد، أو يحمد، ويقال: ابن بجيد، أبو عُمارة الهمداني الكوفي، روى عن أبي بكر الصديق، وابن مسعود، وعائشة، وعلي، وزيد بن أرقم، وعنه ابنه المسيب، وأبو إسحاق السبيعي، والحكَم بن عتيبة، والشعبي، وغيرهم.

وثقه ابن معين، والنسائي، والعجلي، وذكره ابن حبان في الثقات، أسلم زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرو عنه، ولم تصح له صحبة، وهو من كبار أصحاب علي رضي الله عنه، عاش فوق مائة وعشرين سنة،

ص: 456

وذكره أحمد في الأثبات عن علي، وذكره مسلم في الطبقة الأولى، من تابعي أهل الكوفة، وفي "ت" مخضرم ثقة من الثانية، لم تصح له صحبة. أخرج له الجماعة.

6 -

(علي) بن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، أبو الحسن، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وختنه على بنته، أميرُ المؤمنين يكنى أبا تراب، وأمُّهُ فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهي أول هاشمية ولدت هاشميًا، له خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثًا، اتفقا على عشرين، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر، شهد بدرا والمشاهد كلها.

روى عنه أولاده الحسن، والحسين، ومحمد، وفاطمة، وعمر، وابن عباس، والأحنف، وأمم، قال أبو جعفر: كان شديد الأدْمَة

(1)

رَبعَة إلى القصر، وهو أول من أسلم من الصبيان، جمعا بين الأقوال، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أنت مني بمنزلة هارون من موسى" وفضائله كثيرة، استشهد ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت، أو خلت من رمضان سنة 40، وهو حينئذ أفضل مَن على وجه الأرض، أخرج له الجماعة.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وكلهم كوفيون، وهذا من طرف الإسناد حيث إن الرواة كلهم من بلد واحد، كلهم ثقات. وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن علي) بن أبي طالب رضي الله عنه (أنه دعا بوضوء) بفتح الواو، أي ماء يتوضأ به، وفي الرواية الآتية بطَهُور (فتمضمض،

(1)

الأدمة بضم، فسكون، كالسمرة وزنا ومعنى.

ص: 457

واستنشق، ونَثَرَ) من باب قتل، وضرب لغة في "استنثر"(بيده اليسرى ففعل هذا ثلاثا، ثم قال) علي رضي الله عنه بعد أن أكمل الوضوء على الكيفية الآتية في الباب الآتي (هذا) إشارةً إلى ما صنعه من كيفية الوضوء، لا المضمضة، والاستنشاق، والاستنثار فقط، فإن المصنف اختصر الحديث على موضع الاستدلال (طُهور) بضم الطاء، أي وضوء (نبي الله صلى الله عليه وسلم) الذي كان يفعله في غالب الأحيان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ على كيفيات: مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا، وبعض الأعضاء مرتين وبعضها ثلاثا، لكن الغالب هو الثلاث كما يرشد إليه كلام علي رضي الله عنه هذا.

ودل الحديث على ما ترجم له المصنف، وهو الاستنثار باليد اليسرى. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 458

‌75 - بَابُ غَسْلِ الْوَجْهِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية غسل الوجه.

والوجه: ما يواجه به الإنسان غيرَه.

وَحَدُّه طولًا من منابت شعر الرأس إلى الذقن، وعرضا من الأذن إلى الأذن، والاعتبار بالمنابت المعتادة لا بمن تصلع الشعر عن ناصيته، ولا بمن نزل إلى جبهته.

92 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، قَالَ: أَتَيْنَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، وَقَدْ صَلَّى فَدَعَا بِطَهُورٍ، فَقُلْنَا: مَا يَصْنَعُ بِهِ وَقَدْ صَلَّى؟ مَا يُرِيدُ إِلاَّ لِيُعَلِّمَنَا، فَأُتِيَ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ، وَطَسْتٍ، فَأَفْرَغَ مِنَ الإِنَاءِ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، مِنَ الْكَفِّ الَّذِي يَأْخُذُ بِهِ الْمَاءَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَغَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا وَيَدَهُ الشِّمَالَ ثَلَاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا، وَرِجْلَهُ الشِّمَالَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَعْلَمَ وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ هَذَا.

ص: 459

رجال الإسناد: [5]

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي أبو رجاء البغلاني ثقة ثبت [10] تقدم في 1/ 1.

2 -

(أبو عوانة) وَضَّاح بن عبد الله اليشكري، الواسطي ثقة ثبت [7] تقدم في 41/ 46.

3 -

(خالد بن عَلْقمة) الهَمْداني الوَادعي الكوفي صدوق [6] تقدم في 74/ 91.

4 -

(عبد خير) قيل: اسمه عبد الرحمن بن يزيد، أبو عمارة الكوفي ثقة مخضرم [2] تقدم في 74/ 91.

5 -

(علي) بن أبي طالب رضي الله عنه تقدم في 74/ 91.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رواته موثوقون، وكلهم كو فيون إلا شيخه فبغلاني، وأبا عوانة فواسطي، وفيه الإخبار، والتحديث والعنعنة.

شرح الحديث

عن عبد خير أنه (قال: أتينا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أي في منزله، وفي رواية أبي داود "أتانا علي" أي في منازلنا (وقد صلى) جملة حالية، أي والحال أنه قد صلى (فدعا بطهور) بفتح الطاء، أي بماء الوضوء (فقلنا) أي في أنفسنا، أو فيما بيننا (ما يصنع به؟)"ما" استفهامية، أيْ أيَّ شيء يصنع بالطهور؟ (وقد صلى) أي والحال أنه صلى (ما) نافية (يريد) علي بوُضوئه أمرا من الأمور (إلا ليعلمنا) من التعليم، أو الإعلام، أي إلا ليبين لنا كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل،

ص: 460

لكونه أبلغ، فالاستثناء من العموم، وهذا جواب عن الاستفهام والمجيب هو البعض المسؤول، أو أنهم بعد أن خطر ببالهم السؤال، خطر ببالهم الجواب، قاله في المنهل جـ 2/ ص 27.

(فأتي) بالبناء للمفعول (بإناء فيه ماء، وطست) بالجر، يحتمل أنه عطف تفسير، فيكون المراد بالإناء الطست، أو أن العطف للمغايرة، فيكون الطست غير الإناء.

والمعنى أنه أتي بالماء في قدح أو إبريق، أو نحو ذلك ليتوضأ منه، وأتي بطست ليتساقط فيه الماء السائل من أعضاء الوضوء، والاحتمال الثاني هو الأولى، لأن الأصل في العطف أن يكون للمغايرة، ورجح في عون المعبود الاحتمال الأول، لما أخرجه الطبراني في كتابه مسند الشاميين بسنده، عن عثمان بن سعيد النخعي، عن علي، وفيه "فأتي بطست من ماء".

قال الجامع: ما قاله في العون هو الأولى.

والطست بفتح الطاء، أصلها طس، فأبدل أحد السينين تاء لثقل اجتماع المثلين، لأنه يقال في الجمع: طساس، مثل سَهْم وسهام، وفي التصغير: طُسَيسَة، وجمعت أيضا على طُسُوس باعتبار الأصل، وعلى طسوت باعتبار اللفظ، وهي مؤنثة.

ونقل عن بعضهم التذكير، والتأنيث، فيقال: هو الطسة، والطست، وهي الطسة والطست، وقال الزجاج: التأنيث أكثر كلام العرب، وجمعها طسات على لفظها، وقال السجستاني: هى أعجمية معربة، ولهذا قال الأزهري: هي دخيلة في كلام العرب، لأن التاء والطاء لا يجتمعان في كلمة عربية اهـ، وحكى طشت بالشين المعجمة، وهو آنية من النحاس، اهـ المنهل جـ 2/ ص 27.

ص: 461

(فأفرغ) أي صب الماء الذي في الإناء (على يديه) هكذا في النسخة المصرية، وفي النسخة الهندية "على يده" بالأفراد، وهي الموافقة لقوله "فغسلها" وفي رواية أبي داود "فأفرغ من الإناء على يمينه، فغسل يديه، ثلاثا" وهي أوضح، وهذا الغسل للتنظيف قبل إدخالهما في الإناء.

كما يأتي للمصنف: "فبدأ، فغسل كفيه ثلاث مرات قبل أن يدخلهما في وَضوئه"(ثم تمضمض واستنشق) وفي رواية للمصنف تأتي، وهي رواية أبي داود "واستنثر" ولا تنافي بينهما، لأن الاستنثار يستلزم الاستنشاق (ثلاثًا) راجع لكل من المضمضة، والاستنشاق، أي تمضمض ثلاث مرات، واستنشق ثلاث مرات، لما يأتي للمصنف "ثم تمضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا"(من الكف الذي يأخد به الماء) يتعلق بكل من "تمضمض"، و"استنشق" على سبيل التنازع، والمراد بالكف الذي يأخذ به الماء، هو الكف اليمين، كما تقدم في حديث عثمان "ثم أدخل يمينه في الوَضوء، فتمضمض، واستنشق" وقدمنا أن في رواية هناك "فأفرغ على يمينه" الخ، فالمراد أنه تمضمض، واستنشق من اليد اليمنى، وأما الاستنثار فباليسرى لما في الباب السابق من رواية علي رضي الله عنه "ونثر بيده اليسرى".

(ثم غسل وجهه ثلاثا، وفسل يده اليمنى ثلاثا، وغسل الشمال ثلاثا) أي إلى المرفق، لما في رواية تأتي للمصنف "ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا، ثم اليسرى كذلك"(ومسح برأسه مرة واحدة) أي مسحة واحدة وفيه تصريح بأن مسح الرأس مرة واحدة، قال العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: والصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه، بل كان إذا كرر غسل الأعضاء أفرد مسح الرأس، هكذا جاء عنه صريحا، ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم خلافه البتة، بل ما عدا هذا إما صحيح غير صريح، كقول الصحابي "توضأ ثلاثا ثلاثا" وإما صريح غير صحيح انتهى

ص: 462

ملخصا جـ 1 ص 193.

وسيأتي تمام الكلام على هذه المسألة في باب مسح الرأس إن شاء الله تعالى.

(ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا، ورجله الشمال ثلاثا، ثم قال) علي رضي الله عنه بعد أن أكمل الوضوء على هذه الكيفية تعليمًا للحاضرين (مَن سَرَّه أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقال: سَرَّه الأمر، يسُرُّه، سُرُورًا بالضم، والاسم السَّرور بالفتح: إذا أفرحه، والمسرة منه، وهو ما يُسَرُّ به الإنسان، والجمع المَسَارّ اهـ المصباح.

يعني أن من أراد أن يفرح بمعرفة كيفية وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم (فهو هذا) أي مثله، أو أطلقه مبالغة، وقال السندي: أي فليعلم هذا فإنه هو هذا، فحذف الجزاء وأقيمت علته مقامه اهـ جـ 1/ ص 68 وما ترجم له المؤلف واضح من قوله "ثم غسل وجهه". والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 463

‌76 - عَدَدِ غَسْلِ الْوَجْهِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على عدد غسل الوجه.

93 -

أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ -وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ- عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ عُرْفُطَةَ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: أَنَّهُ أُتِيَ بِكُرْسِيٍّ فَقَعَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَوْرٍ فِيهِ مَاءٌ فَكَفَأَ عَلَى يَدَيْهٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، وَأَخَذَ مِنَ الْمَاءِ فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَأَشَارَ شُعْبَةُ، مَرَّةً مِنْ نَاصِيَتِهِ إِلَى مُؤَخَّرِ رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا أَدْرِي أَرَدَّهُمَا أَمْ لَا؟ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى طُهُورِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا طُهُورُهُ.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ: خَالِدُ بْنُ عَلْقَمَةَ، لَيْسَ مَالِكَ بْنَ عُرْفُطَةَ.

ص: 464

رجال الإسناد: ستة

كلهم تقدموا في السند السابق إلا ثلاثة:

1 -

(سويد بن نصر) بن سويد المروزي، أبو الفضل لقبه الشَّاهْ، راوية ابن المبارك ثقة [10] وقد تقدم في 45/ 55.

2 -

(عبد الله بن المبارك) المروزي الحنظلي مولاهم، ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد اجتمعت فيه خصال الخير [8] مات سنة 181 وله 63، وتقدم في 32/ 36.

3 -

(شعبة) بن الحجاج بن الورد أبو بسطام الواسطي البصري الحجة الثبت [7] تقدم في 24/ 26.

شرح الحديث

(عن علي) رضي الله عنه (أنه أتي) بالبناء للمفعول (بكرسي) بالضم، وبالكسر السرير اهـ "ق"، وفي المصباح: والكرسي بضم الكاف أشهر من كسرها، والجمع مثقل، وقد يخفف، قال ابن السكيت في باب ما يشدد: وكل ما كان واحده مشددا شددت جمعه، وإن شئت خففت اهـ.

(فقعد عليه ثم دعا بتَور) بفتح التاء، وسكون الواو، مذكر، قيل: هو عربي، وقيل: دَخيل، قال الأزهري: التور: إناء معروف تُذَكِّره العرب، تشرب فيه.

وفي حديث أم سليم: أنها صنعت حَيْسا في تَور، هو إناء من صفر، أو حجارة، كالإجانة، وقد يتوضأ منه، أفاده في اللسان.

(فيه ماء) جملة من مبتدإ وخبر، صفة لتور في محل جر (فكفأ على يديه ثلاثا) بالهمز أي أمال ذلك التور قاله السندي.

ص: 465

وفي المصباح: وكَفَأته كَفْئا من باب نفع: كَبَبْته، وقد يكون بمعنى أملته اهـ، يعني أنه صب على يده من ذلك التور، ليغسل كفيه ثلاثا (ثم مضمض، واستنشق بكف واحد) أي بغرفة واحدة (ثلاث مرات) يعني أنه جمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة، وفعل ذلك ثلاث مرات.

قال العلامة ابن القيم في الهدي: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمضمض، ويستنشق، تارة بغرفة، وتارة بغرفتين، وتارة بثلاث، وكان يصل بين المضمضة والاستنشاق، فيأخذ نصف الغرفة لفمه، ونصفها لأنفه، ولا يمكن في الغرفة إلا هذا، وأما الغرفتان، والثلاث، فيمكن الفصل والوصل، إلا أن هديه صلى الله عليه وسلم كان الوصل بينهما كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمضمض، واستنشق من كف واحدة فعل ذلك ثلاثا" وفي لفظ "تمضمض، واستنثر بثلاث غرفات" فهذا أصح ما روي في المضمضة والاستنشاق، ولم يجيء الفصل بين المضمضة والاستنشاق في حديث صحيح البتة اهـ. جـ 1 ص 192 - 193.

(وغسل وجهه ثلاثا، وغسل ذراعيه ثلاثا) أي غسل كل ذراع ثلاث مرات (وأخذ من الماء فمسح برأسه، وأشار شعبة مرة) إلى كيفية مسح الرأس مُبتَدءًا (من ناصية رأسه) الناصية: واحدة النواصي، قال ابن سيدَه: الناصية، والناصاة، لغة طيئية: قصاص الشعر في مقدم الرأس، وليس لها نظير إلا حرفان: بَادية وبَاداة، وقَاريَة وقَارَاة، وهي الحاضرة.

وقال الأزهري: الناصية عند العرب: منبت الشعر في مقدم الرأس، لا الشعر الذي تسميه العامة الناصية، وسمي الشعر ناصية لنباته من ذلك الموضع اهـ لسان العرب.

ص: 466

وقال النووي: الناصية هي الشعر الذي بين النَّزَعَتين، والنَّزَعَتان بفتح النون والزاي: هي اللغة الفصيحة المشهورة، وحكيت لُغَيَّة بإسكان الزاي: هما الموضعان المحيطان بالناصية في جانبي الجَبين، اللذان ينحسر شعر الرأس عنهما في بعض الناس. انتهى المجموع بتصرف جـ 1/ ص 395.

(إلى موخر رأسه) أي ذاهبا إلى مؤخر رأسه (ثم قال) شعبة (لا أدري أرَدَّهما) إلى مقدم رأسه (أم لا؟) أي أم لم يردهما إليه؟ يعني أنه تحقق لديه كون بداية المسح من ناصيته إلى مؤخره، ولكنه ما علم، هل

وقف هناك، أم ردهما إلى المقدم؟ (وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا) أي غسل كل رجل ثلاث مرات (ثم قال) علي رضي الله عنه (من) شرطية (سره) أي أفرحه (أن ينظر إلى طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم) وجواب "من" محذوف تقديره: أي فلينظر إلى هذا، وقوله (فهذا طهوره) بضم الطاء كالماضي، علة للجواب، أي لأن هذا طهوره صلى الله عليه وسلم.

(وقال أبو عبد الرحمن) النسائي (هذا خطأ) أي قول شعبة عن مالك بن عرفطة خطأ منه (والصواب) فيه (خالد بن علقمة، ليس مالك ابن عرفطة) لاتفاق الحفاظ على تخطئته، قال الترمذي: روى شعبة هذا الحديث عن خالد بن علقمة، فأخطأ في اسمه، واسم أبيه، فقال: مالك بن عرفطة، والصحيح خالد بن علقمة اهـ.

وقال الحافظ: ذَكَر أبو داود في السنن في رواية أبي الحسن بن العبد عنه أن أبا عوانة قال يوما: حدثنا مالك بن عرفطة، فقال له عمرو الأغضف: هذا خالد بن علقمة، ولكن شعبة يخطئ فيه، فقال أبو عوانة: هو في كتابي، خالد بن علقمة، ولكن قال لي شعبة: هو مالك بن عرفطة، قال أبو داود حدثنا عمرو بن عون، حدثنا أبو عوانة،

ص: 467

حدثنا مالك بن عرفطة، قال أبو داود: وسماعه أي عمرو بن عون قديم، قال: وحدثنا أبو كامل، حدثنا أبو عوانة، حدثنا خالد بن علقمة، قال أبو داود: وسماعه متأخر، كأنه بعد ذلك رجع إلى الصواب، وقال البخاري، وأحمد، وأبو حاتم، وابن حبان في الثقات، وجماعة: وَهم شَعبة في تسميته حيث قال: مالك بن عرفطة، وعاب بعضهم على أبي عوانة كونه كان يقول: خالد بن علقمة، مثل الجماعة، ثم رجع عن ذلك حين قيل له: إن شعبة يقول: مالك بن عرفطة، واتبعه، وقال: شعبة أعلم مني، وحكاية أبي داود تدل على أنه رجع عن ذلك ثانيا إلى ما كان يقول أولا، وهو الصواب اهـ تهذيب التهذيب جـ 3/ ص 108. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 468

‌77 - غَسْلُ الْيَدَيْنِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية غسل اليدين.

94 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَحُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ يَزِيدَ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ عُرْفُطَةَ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا دَعَا بِكُرْسِيٍّ فَقَعَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فِي تَوْرٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَيَدَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَمَسَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وُضُوءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا وَضُوؤُهُ.

رجال الإسناد: سبعة

تقدموا في الباب السابق إلا ثلاثة:

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس الصيرفي الثقة الثبت [10] تقدم في 4/ 4.

2 -

(حميد بن مسعدة) بن المبارك السامي الباهلي البصري، صدوق

ص: 469

[10]

تقدم في 5/ 5.

3 -

(يزيد بن زريع) أبو معاوية البصري ثقة ثبت [8] تقدم في 5/ 5.

وكذلك متن الحديث مَرَّ مشروحا في الباب السابق، ومحل الترجمة واضح في قوله:"ويديه ثلاثا ثلاثا". والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 470

‌78 - باب صِفَةِ الْوُضُوءِ

أي هذا ذكر الحديث الدال على كيفية الوضوء.

ومقصود المصنف رحمه الله مع استنباط هذه الأحكام تعداد طرق حديث علي رضي الله عنه، وبيان خطأ من أخطأ في الإسناد.

والصفة من الوصف كالعدة من الوَعْد، والجمع: صفات.

يقال: وصفته وصفا، من باب وعد: نَعَتُّه بما فيه، ويقال: مأخوذ من قولهم: وصف الثوبُ الجسم: إذا أظهر حاله وَبَيَّنَ هيئته، ويقال: الصفة إنما هي بالحال المنتقلة، والنعت بما كان في خَلق أو خُلُق اهـ المصباح بتصرف.

95 -

أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِقْسَمِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي شَيْبَةُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَلِيٌّ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَالَ: دَعَانِي أَبِي عَلِيٌّ بِوَضُوءٍ، فَقَرَّبْتُهُ لَهُ، فَبَدَأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي وَضُوئِهِ، ثُمَّ مَضْمَضَ ثَلَاثًا، وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثًا، ثُمَّ الْيُسْرَى كَذَلِكَ، ثُمَّ

ص: 471

مَسَحَ بِرَأْسِهِ مَسْحَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثًا، ثُمَّ الْيُسْرَى كَذَلِكَ ثُمَّ قَامَ قَائِمًا، فَقَالَ: نَاوِلْنِي، فَنَاوَلْتُهُ الإِنَاءَ فِيهِ فَضْلُ وَضُوئِهِ، فَشَرِبَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ قَائِمًا، فَعَجِبْتُ فَلَمَّا رَآنِي، قَالَ: لَا تَعْجَبْ، فَإِنِّي رَأَيْتُ أَبَاكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ مِثْلَ مَا رَأَيْتَنِي صَنَعْتُ، يَقُولُ لِوُضُوئِهِ هَذَا، وَشُرْبِ فَضْلِ وَضُوئِهِ قَائِمًا.

رجال السند ثمانية

1 -

(إبراهيم بن الحسن المقْسمي) بكسر الميم الخثعمي أبو إسحاق المصيصي، ثقة [11] تقدم في 51/ 64.

2 -

(حجاج) بن محمد المصيصي الأعور، أبو محمد الترمذي الأصل نزيل بغداد، ثم المصيصة ثقة [9] تقدم في 28/ 32.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز، أبو الوليد، وأبو خالد المكي ثقة يدلس ويرسل [6] تقدم في 28/ 32.

4 -

(شَيْبَة) بن نصَاح بكسر النون وتخفيف الصاد المهملة، بن سَرْجس، المخزومي المدني، القارئ، مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أتيَ به إليها، وهو صغير فمسحت رأسه، ودعت له بالخير والصلاح.

روى عن خالد بن مغيث، ومحمد بن علي، وعبد الرحمن بن

ص: 472

الحارث، وغيرهم.

وعنه محمد بن إسحاق، وابن جريج، وسعيد بن أبي هلال، وغيرهم، قال الدراوردي: كان ابن نصاح قاضيا بالمدينة، ووثقه النسائي، وابن معين، والواقدي، وقال: كان قليل الحديث، مات سنة 130، أخرج له النسائي، وفي "ت" ثقة من الرابعة.

5 -

(محمد بن علي) بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو جعفر المدني، الإمام المعروف بالباقر، عن أبيه، وأبي سعيد، وجابر، وابن عمر، وطائفة، وعنه ابنه جعفر، والزهري، ومخول

(1)

بن راشد، وخلق. قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، قال أبو نعيم: توفي سنة 114، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة فاضل من الرابعة.

6 -

(علي بن الحسين) بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو الحسين زين العابدين المدني.

عن جده مرسلا، وعن أبيه، وعن عائشة، وصفية بنت حيي، وأبي هريرة، وابن عباس، وطائفة. وعنه: بنوه: محمد، وعمر، وعبد الله، وزيد، والزهري، والحكم بن عتيبة.

قال الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل منه، وما رأيت أفقه منه، وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أصح الأسانيد الزهري، عن علي بن الحسين عن أبيه، عن علي.

وقال ابن المسيب: ما رأيت أورع منه، وقال أبو جعفر، عن أبيه: أنه قاسم الله تعالى ماله مرتين.

وقال ابن عيينة: حج علي بن الحسين، فلما أحرم اصْفَرَّ، وانتفض وارتعد، ولم يستطع أن يلبي، فقيل: مالك لا تلبي؟ فقال: أخشى أن

(1)

بوزن محمد، وقيل بوزن منبر، هامش الخلاصة.

ص: 473

أقول لبيك، فيقول لي: لا لبيك، فقيل له: لابد من هذا، فلما لبى غشي عليه، وسقط من راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قَضَى حجه، قال أبو نعيم: مات سنة 92، وقيل غير ذلك، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة عابد فقيه فاضل، مشهور من الثالثة.

7 -

(الحسين بن علي) بن أبي طالب الهاشمي، أبو عبد الله المدني، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانته، وأخو الحسن، ومُحَسِّن بفتح المهملة

روى عن جده ثمانية أحاديث، وعن أبيه، وأمه، وعمر، وعنه ابنه: علي، وابن ابنه زيد، وبنتاه سكينة وفاطمة، قال ابن سعد: ولد سنة أربع.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حسين مني وأنا من حسين، حسين سبط من الأسباط" وعن علي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لابنته فاطمة: "إني وإياك وهذين، وهذا الرائد

(1)

والدهما عليا في الجنة في مكان واحد" رواه أبو داود الطيالسي، وعن أم سلمة، كان الحسن، والحسين يلعبان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل جبريل، فقال: يا محمد، إن أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضمه، ثم قال: وضعت عندك هذه التربة فشمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ريح كرب وبلاء، وقال لأم سلمة: يا أم سلمة إذا تحولت هذه التربة دما فاعلمي أن ابني قتل، فجعلتها في قارورة، وجعلت تنظر إليها كل يوم وتقول: إن يومًا تحولَّين دمًا ليوم عظيم.

وروي أن السماء مكثت سبع أيام بلياليهن لما قتل كأنها علقة، استشهد بكربلاء من أرض العراق يوم عاشوراء سنة 61 عن 54 سنة، أخرج له الجماعة.

(1)

وفي التهذيب: وهذا الراقد اهـ.

ص: 474

قال الجامع عفا الله عنه: أشار الحافظ رحمه الله في الإصابة إلى أن هذه القصة لا تصح، انظر جـ 2/ ص 252. والله أعلم.

8 -

(علي) بن أبي طالب رضي الله عنه تقدم في 74/ 91.

لطائف الإسناد

منها: أنه من ثمانياته، وأن رواته كلهم ثقات، وهم ما بين مصيصيين، وهما إبراهيم، وحجاج

(1)

، ومكي: وهو ابن جريج، ومدنيين، وهم الباقون.

وأن هذا الإسناد من أصح أسانيد أهل البيت، وتقدم عن أبي بكر بن أبي شيبة أنه قال: أصح الأسانيد: الزهريُّ، عن علي بن الحسين، عن أبيه، علي رضي الله عنه، ومثله عن عبد الرزاق، وقال الحاكم: وأصح أسانيد أهل البيت: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، عن أبيه عن جده، عن علي، إذا كان الراوي عن جعفر ثقة.

هذه عبارة الحاكم ووافقه من نقلها، وفيها نظر، فإن الضمير في جده إن عاد إلى جعفر، فجده علي لم يسمع من علي بن أبي طالب، أو إلى محمد فهو لم يسمع من الحسين، قاله في التدريب جـ 1/ ص 83.

ومن لطائفه: أن فيه رواية الشخص، عن أبيه، عن جده، وقد نقل الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بسنده عن أبي القاسم بن منصور بن محمد العلوي، أنه قال: الإسناد بعضه عَوَال وبعضه مَعَال، وقولُ الرجل: حدثني أبي، عن جدي من المعالي، اهـ تدريب جـ 2/ ص 257.

وفيه الإخبار، والإنباء، والقول، والتحديث.

(1)

وتقدم أن الحجاج ترمذي الأصل، نزيل بغداد ثم مصيصة.

ص: 475

شرح الحديث

قال الحسين رضي الله عنه (دعاني أبي علي) بن أبي طالب رضي الله عنه (بوَضوء) بفتح الواو في الموضعين الأولين، أي طلب مني أن آتيه بماء يتوضأ به (فقربته له) من التقريب (فبدأ) يتوضأ (فغسل كفيه) قال السندي: الفاء لتفسير البداءة، أو للتعقيب، ومعنى "فبدأ" فأراد البداءة، وهذان الوجهان هما المشهوران في قوله تعالى {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ} [هود: آية 45] فالفاء في "فقال" تحتمل الوجهين، اهـ جـ 1/ ص 70.

وقوله: (ثم مسح برأسه مسحة واحدة) فيه تصريح بأن مسح الرأس في رواية علي مرة واحدة، وهي الرواية الصحيحة من رواية حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن شيبة، وقد خالفه ابن وهب، عن ابن جريج، فقال: ومسح برأسه ثلاثًا.

قال أبو داود: وحديث ابن جريج عن شيبة يشبه حديث علي، لأنه قال: فيه حجاج بن محمد، عن ابن جريج "ومسح برأسه مرة واحدة"، وقال ابن وهب، عن ابن جريج "ومسح برأسه ثلاثًا".

يعني: أن رواية حجاج بن محمد أقوى من رواية عبد الله بن وهب، لأنه يشبه حديث علي المتقدم، فإن فيه أن بعض الرواة روى مسح الرأس مرة واحدة، وبعضهم لم يذكر، فرواية ابن وهب مخالفة للروايات "الصحيحة" وأيضا فإنه دلس فيه حيث روى حديث ابن جريج عن محمد ابن علي بالعنعنة، ولا يذكر شيبةَ شيخَ ابن جربج، فروايته لا تقاوم رواية حجاج بن محمد.

ورواية ابن وهب وصلها البيهقي في السنن الكبرى قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصَّفَّار، ثنا عباس ابن الفضل، ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا ابن وهب، عن ابن جريج، عن محمد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده، عن علي أنه توضأ

ص: 476

فغسل وجهه ثلاثا، وغسل يديه ثلاثا، ومسح برأسه ثلاثا، وغسل رجليه ثلاثا، وقال:"هكذا رأيت رسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ" هكذا قال ابن وهب "ومسح برأسه ثلاثا" وقال فيه حجاج عن ابن جريج "ومسح برأسه مرة" أفاده في المنهل جـ 2/ ص 41.

(ثم قام) علي رضي الله عنه (قائما) أي قياما، فهو مصدر جاء على وزن فاعل، ويحتمل أن يكون حالًا مؤكدة مثل قوله تعالى {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85] (فقال: ناولني) أي أعطني الإناء (فناولته) أي أعطيته (الإناء الذي فيه فضل وُضوئه) بفتح الواو، أي ما بقي من الماء (فشرب من فضل وضوئه قائما فتعجبت) أي من شربه قائمًا إذ المعتاد هو الشرب قاعدًا، وهو الوارد في الأحاديث، ولذلك قال بعض العلماء: إن الشرب قائما مخصوص بفضل الوضوء بهذا الحديث، وبماء زمزم، لما جاء فيه أيضا، وفي غيرهما: لا ينبغي الشرب قائمًا للنهي.

والحق أنه جاء في غيرهما أيضا، فالوجه أن النهي للتنزيه، وكان لأمر طبي، لا لأمر ديني

(1)

، وما جاء فهو لبيان الجواز. اهـ سندي جـ 1/ ص 70.

(فلما رآني) متعجبا من فعله (قال: لا تعجب) من فعلي (فإني رأيت أباك النبي) بالنصب بدل من أباك (صلى الله عليه وسلم يصنع) جملة حالية من المفعول، لأن رأى بصرية، لا تحتاج إلى مفعول ثان (مثل ما رأيتني صنعت، يقول) علي رضي الله عنه هذا الكلام (لوضوئه هذا) بضم الواو أي في شأن وضوئه الذي توضأه (و) شأن (شرب فضل وضوئه) بضم الواو (قائما) فلا يتعجب منه، ولا يستغرب لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

قلت: الأمر الطبي إذا ورد به الشرع فهو ديني، فلا وجه للفرق بينهما، فتبصر.

ص: 477

‌79 - عَدَدُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ

96 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي حَيَّةَ -وَهُوَ ابْنُ قَيْسٍ- قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه تَوَضَّأَ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَامَ، فَأَخَذَ فَضْلَ طَهُورِهِ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ طَهُورُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفي البغلاني الثقة الثبت [10] تقدم في 1/ 1.

2 -

(أبو الأحوص) سَلام بن سُلَيم الحنفي مولاهم، الكوفي الحافظ، عن آدم بن علي، والأسود بن قيس، وزياد بن علاقة، وخلق وعنه ابن مهدي، وسعيد بن منصور، ويحيى بن يحيى، وهناد بن

السَّريّ، وخلق، قال ابن معين: ثقة متقن، وقال العجلي: صاحب سنة واتباع، حديثه نحو أربعة آلاف، قال البخاري: مات سنة 179،

ص: 478

روى له الجماعة، وفي "ت" ثقة متقن صاحب حديث من السابعة.

3 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي الكوفي، ثقة ثبت [3] تقدم في 38/ 42.

4 -

(أبو حَيَّة) بفتح الحاء وتشديد الياء التحتانية، بن قيس الهمداني الوادعي، عن علي، وعنه أبو إسحاق فقط، قال أحمد: شيخ، اهـ.

وفي تهذيب التهذيب: أبو حية بن قيس الوادعي الخَارفي، الهمداني. الكوفي، عن علي بن أبي طالب، وعن عبد خير عنه، روى عنه أبو إسحاق السبيعي، قال الحاكم أبو أحمد: روى عنه المنهال بن عمرو، إن كان محفوظا، لا يعرف اسمه، قال أبو زرعة: لا يسمى، وقال ابن ماكولا: مختلف في اسمه، فيقال: عمرو بن نصر، ويقال: عامر بن الحارث، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: شيخ.

قال الحافظ: وذكره ابن حبان في الثقات، وسماه عمرو بن عبد الله، وقال ابن المديني، وأبو الوليد الفرضي: مجهول، وقال ابن القطان: وثقه بعضهم، وصحح حديثه ابن السكن، وغيره، وقال ابن

الجارود في الكنى: وثقه ابن نمير اهـ.

وقال الذهبي في الميزان: تفرد عنه أبو إسحاق بوُضُوء علي فمسح برأسه ثلاثا، وغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا، رواه عنه زهير وأبو الأحوص. اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: لم أجد التثليث في مسح الرأس من طريق أبي حية، والله أعلم.

5 -

(علي) بن أبي طالب رضي الله عنه تقدم في 74/ 91.

ص: 479

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات إلا أبا حية، فمختلف فيه، وأنهم كوفيون إلا قتيبة، فبغلاني، وأن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

وأما شرح الحديث فتقدم في الأبواب الثلاثة السابقة.

وموضع الاستدلال للترجمة قوله: "وغسل ذراعيه ثلاثا".

وقال السندي: قوله "حتى أنقاهما" والانقاء عادة يكون بثلاث، وقد جاء التصريح بذلك في الروايات السابقة، فلإفادة هذا المعنى ذكر المصنّف هذا الحديث في هذه الترجمة، يعني أن المراد بالإنقاء هو الغسل ثلاثا، فيكون عدد غسل اليدين ثلاثا، قال: ويحتمل أنه أراد غسل الذراعين ويحتمل أن مراده التنبيه على أن القصود الإنقاء دون التثليث، وهذا بعيد مخالف لقواعد الأصول، لوجوب حمل المجمل على المفصل، وأقوال الفقهاء اهـ كلام السندي.

قال الجامع: الاحتمال الثاني هو الراجح بدليل أنه ذكر عدد غسل الكفين في "باب كم تغسلان" 67، وأنه ذكر في هذا الباب غسل اليدين يعني الذراعين فتأمل، والله أعلم.

مسائل تتعلق بحديث علي رضي الله عنه

الأولى: في درجتها:

أحاديث علي رضي الله عنه في هذه الأبواب الستة

(1)

من باب 74 "بأي اليدين يستنثر" إلى هنا 79 المروية عن عبد خير في الأبواب الأربعة الأول، وعن الحسين بن علي في الخامس، وعن أبي حية بن قيس في السادس؛ صحاح. وقد تقدم أن ابن السكن وغيره صححوا حديث أبي حية.

(1)

ويأتي باب سابع برقم 93، برواية أبي حية.

ص: 480

المسألة الثانية: فيمن أخرج حديث علي رضي الله عنه.

أما حديث عبد خير فأخرجه المصنف، وأبو داود، والترمذي.

فأما الصنف فأخرجه في هذه الأبواب الأربعة في 75، عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن خالد بن علقمة، عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه.

وفي 74، عن موسى بن عبد الرحمن المسروقي، عن حسين بن علي الجعفي، عن زائدة عن خالد به. والأول أتم.

وفي 77 عن عمرو بن علي، وحميد بن مسعدة كلاهما، عن يزيد بن زريع، وفي 76 عن سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، كلاهما عن شعبة، عن مالك بن عرفطة بمعناه، قاله الحافظ المزي.

وفي الطهارة أيضا في الكبرى 106 عن إسحاق بن إبراهيم، عن مسهر بن عبد الملك بن سلع، عن أبيه، عن عبد خير، نحوه، قاله الحافظ.

وأما أبو داود فأخرجه في الطهارة أيضا عن مسدد، عن أبي عوانة، وعن الحلواني، عن الحسين بن علي الجعفي، عن زائدة، كلاهما عن خالد بن علقمة، عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه. وعن محمد

بن المثنى، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن مالك بن عرفطة، عن عبد خير نحوه.

وقد تقدم كلام أبي داود في هذا السند قريبًا.

وأما الترمذي: فأخرجه في الطهارة أيضا: عن قتيبة، وهناد، كلاهما عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عبد خير نحوه، أفاده المزي، والحافظ.

ص: 481

وأما حديث الحسين بن علي رضي الله عنه، فأخرجه المصنف، وأبو داود.

فأما المصنف فأخرجه في 78 عن إبراهيم بن الحسن المقسمي، عن حجاج، عن ابن جريج، عن شيبة، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن الحسين بن علي، عن علي رضي الله عنه.

وأما أبو داود فذكره تعليقًا عقيب حديث ابن عباس رضي الله عنه، وأما حديث أبي حيَّة فأخرجه المصنف وأبو داود والترمذي.

فأما المصنف فأخرجه في 79 عن قتيبة عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن أبي حية عن علي رضي الله عنه.

وفي 93 الآتي عن محمد بن آدم عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن أبيه، وغيره جميعًا عن أبي إسحاق الخ.

وأما أبو داود، فأخرجه في الطهارة أيضا عن مسدد، وأبي توبة الربيع بن نافع، وعمرو بن عون، ثلاثتهم عن أبي الأحوص به.

وأما الترمذي، فأخرجه أيضا في الطهارة، عن هناد، وقتيبة كلاهما عن أبي الأحوص به.

وأخرج حديث علي أيضا: أحمد، والدارمي، والدارقطني، وابن حبان، والبزار، والبيهقي.

المسألة الثالثة: أنه يستفاد من حديث علي رضي الله عنه زيادة على ما ترجم له الصنف في الأبواب السابقة، مشروعية الجمع بين المضمضة، والاستنشاق بماء واحد.

والجمع بينهما هو الذي وردت به الأحاديث الكثيرة الصحيحة.

قال النووي رحمه الله: القول بالجمع أكثر في كلام الشافعي، وهو

ص: 482

أيضا أكثر في الأحاديث، بل هو الموجود في الأحاديث الصحيحة.

منها: حديث علي رضي الله عنه يعني الحديث المذكور عن عبد خير

في الأبواب السابقة، ومنها حديث عبد الله بن زيد، أنه وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم "فتمضمض، واستنشق من كف واحدة، فعل ذلك ثلاثا" رواه الشيخان.

وفي رواية للبخاري "فمضمض، واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات" وفي رواية لمسلم "فمضمض، واستنثر من ثلاث غرفات" وفي رواية "تمضمض، واستنشق، ثلاث مرات، من غرفة واحدة" رواه البخاري.

ومنها: حديث ابن عباس في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم "فأخذ غرفة من ماء تمضمض بها واستنشق" رواه البخاري، وعن ابن عباس أيضا "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، وجمع بين المضمضة والاستنشاق" رواه الدارمي في مسنده بإسناد صحيح فهذه أحاديث صحاح في الجمع، وأما الفصل، فلم يثبت فيه حديث أصلا، وإنما جاء فيه حديث طلحة بن مصرف وهو ضعيف.

واختلف في الأفضل من الجمع والفصل.

قال النووي: والصحيح بل الصواب تفضيل الجمع، للأحاديث الصحيحة المتظاهرة فيه، وليس لها معارض، وأما حديث الفصل، فالجواب عنه من أوجه:

أحدها: أنه ضعيف كما سبق فلا يحتج به، لو لم يعارضه شيء، فكيف إذا عارضته أحاديث كثيرة صحاح.

الثاني: أن المراد بالفصل أنه تمضمض، ثم مج، ثم استنشق، ولم يخلطهما.

ص: 483

الثالث: أنه محمول على بيان الجواز، وهذا جواب صحيح، لأن هذا كان مرة واحدة لأن لفظه في سنن أبي داود، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يتوضأ، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق، وهذا لا يقتضي أكثر من مرة، فَحَمله على بيان الجواز تأويل حسن.

وأما ما تأوله الآخرون من حمل أحاديث الجمع على بيان الجواز ففاسد، لأن روايات الجمع كثيرة من جهات عديدة، وعن جماعة من الصحابة، ورواية الفصل واحدة، وهي ضعيفة، وهذا لا يناسب بيان

الجواز في الجمع، فإن بيان الجواز يكون في مرة ونحوها، ويداوم على الأفضل، والأمر هنا بالعكس، فحصل أن الصحيح تفضيل الجمع.

وفي كيفية الجمع وجهان: أصحهما بثلاث غرفات، يأخذ غرفة يمضمض منها، ثم يستنشق منها، ثم يأخذ غرفة ثانية يفعل بها كذلك، ثم ثالثة كذلك، ودليله حديث عبد الله بن زيد.

والوجه الثاني: يجمع بغرفة واحدة فعلى هذا في كيفيته وجهان:

أحدهما: يخلط المضمضة بالاستنشاق، فيمضمض ثم يستنشق، ثم يمضمض، ثم يستنشق.

والثاني: لا يخلط بل يتمضمض ثلاثًا متوالية، ثم يستنشق ثلاثًا متوالية.

وأما كيفية الفصل، ففيها وجهان: أحدهما بست غرفات، يتمضمض بثلاث، ثم يستنشق بثلاث، والثاني بغرفتين يتمضمض بأحدهما ثلاثا، ثم يستنشق بالثانية ثلاثا، وهذا الثاني أصح.

والحاصل: أن في المسألة خمسة أوجه، الصحيح منها تفضيل الجمع بثلاث غرفات، والثاني بغرفة بلا خلط، والثالث بغرفة مع الخلط، والرابع الفصل بغرفتين، والخامس بست غرفات، وهو أضعفها، هذا

ص: 484

خلاصة ما ذكره النووي رحمه الله في المجموع جـ 1/ ص 359 - 362.

المسألة الرابعة: مما يستفاد من حديث على: جواز الشرب قائما من فضل الوَضُوء.

وقد وردت أحاديث تدل على جواز الشرب قائما، وأحاديث تدل على النهي عنه.

فمن الأحاديث الدالة على الجواز: حديث علي هذا.

ومنها: أنه في رحبة الكوفة شرب وهو قائم قال: "إن ناسا يكرهون الشرب قائما وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت" رواه البخاري، وأحمد.

ومنها: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال "شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائما من زمزم" متفق عليه، ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:"كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام" رواه أحمد، والترمذي، وصححه، وابن ماجه.

ومن الأحاديث الدالة على النهي، حديث أبي سعيد رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائما" رواه أحمد، ومسلم.

ومنها: حديث قتادة عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما، قال قتادة: فقلنا: فالأكل؟ قال: ذاك شر وأخبث" رواه أحمد ومسلم، والترمذي.

ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشربن أحد منكم قائما، فمن نسي فليستقئ" رواه مسلم.

قال العلامة الشوكاني رحمه الله: ظاهر النهي في حديث أبي سعيد، وأبي هريرة أن الشرب من قيام حرام، ولا سيما بعد قوله "فمن

ص: 485

نسي فليستقيء" فإنه يدل على التشديد في المنع والمبالغة في التحريم،

ولكن حديث ابن عباس، وحديث علي يدلان على جواز ذلك.

قال: وفي الباب أحاديث غير ما ذكره المصنف: يعني ابن تيمية: منها: ما أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان عن أبي هريرة بلفظ "لو يعلم الذي يشرب وهو قائم لاستقاء" ولأحمد من وجه آخر عن أبي هريرة "أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يشرب قائما فقال: قه، قال: لمه: قال: أيسرك أن يشرب معك الهر؟ قال: لا، قال: قد شرب معك من هو شر منه: الشيطان" وهو من رواية شعبة عن أبي زياد الطحان مولى الحسن بن علي رضي الله عنهما، وأبو زياد لا يعرف اسمه، وقد وثقه يحيى بن معين.

قال المازري: اختلف الناس في هذا:

فذهب الجمهور إلى الجواز وكرهه قوم، فقال: بعض شيوخنا: لعل النهي منصرف إلى من أتى أصحابه بماء فبادر بشربه قائما قبلهم استبدادا به، وخروجا عن كون ساقي القوم آخرهم شربا، قال: وأيضا فإن الحديث تضمن المنع من الأكل قائما، ولا خلاف في جواز الأكل قائما

(1)

، قال: والذي يظهر لي أن أحاديث شربه قائما تدل على الجواز، وأحاديث النهي تحمل على الاستحباب، والحث على ما هو

أولى وأكمل، قال: ويحمل الأمر بالقيئ على أن الشرب قائما يحرك خلطا يكون القيء دواؤه، ويؤيده قول النخعي: إنما نهي عن ذلك لداء البطن.

وقد تكلم عياض على أحاديث النهي، وقال: إن مسلما أخرج حديث أبي سعيد، وحديث أنس من طريق قتادة، وكان شعبة يتقي من حديث قتادة ما لا يصرح فيه بالتحديث.

(1)

قلت: يعارض هذا ما تقدم عن قتادة، قلنا: فالأكل؟ قال: ذاك شر، وأخبث.

ص: 486

قال: واضطراب قتادة فيه مما يعله مع مخالفة الأحاديث الأخرى، والأئمة له.

وأما حديث أبي هريرة ففي سنده عُمر بن حمزة، ولا يتحمل منه مثل هذه المخالفة غَيرُهُ له، والصحيح أنه موقوف، انتهى ملخصا.

قال النووي ما ملخصه: هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالا باطلة، وزاد حتى تجاسر، ورام أن يضعف بعضها، ولا وجه لإشاعة الغلطات، بل يُذكَر الصواب، ويُشار إلى التحذير عن الغلط، وليس في الأحاديث إشكال، ولا فيها ضعف، بل الصواب أن النهي فيها محمول على التنزيه، وشربه قائما لبيان الجواز، وأما من زعم نسخا، أو غيره فقد غلط؛ فإن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ، وفعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز لا يكون في حقه مكروها أصلا فإنه كان يفعل الشيء للبيان مرة أو مرات، ويواظب على الأفضل، والأمر بالاستقاء محمول على الاستحباب، فيستحب لمن يشرب قائما أن يستقيء لهذا الحديث الصحيح، فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب يحمل على الاستحباب، وأما قول عياض: لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب قائمًا ليس عليه أن يتقيأ، وأشار به إلى تضعيف الحديث، فلا يلتفت إلى إشارته، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاء لا يمنع من الاستحباب، فمن ادعى منع الاستحباب بالإجماع فهو مجازف، وكيف تترك السنة الصحيحة بالتوهمات، والدعاوي، والترهات.

قال الحافظ: ليس في كلام عياض التعرض للاستحباب أصلا، بل ونقلُ الاتفاق المذكور إنما هو في كلام المازري كما مضى، وأما تضعيف عياض للأحاديث فلم يتشاغل النووي بالجواب عنه، قال: فأما إشارته

ص: 487

إلى تضعيف حديث أنس يكون قتادة مدلسا، فيجاب عنه بأنه صرح في نفس الحديث بما يقتضي السماع فإنه قال: قلنا لأنس: فالأكل .. إلخ، وأما تضعيف حديث أبي سعيد بأن أبا عيسى غير مشهور

(1)

فهو قول سبق إليه ابن المديني، لأنه لم يرو عنه إلا قتادة، لكن وثقه الطبراني، وابن حبان، ودعواه اضطرابه مردودة لأن لقتادة فيه إسنادين وهو حافظ، وأما تضعيفه لحديث أبي هريرة بعمر بن حمزة فهو مختلف في توثيقه، ومثله يخرج له مسلم في المتابعات، وقد تابعه الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، كما رواه أحمد، وابن حبان، فالحديث بمجموع طرقه صحيح.

قال النووي والعراقي، في شرح الترمذي: إن قوله "فمن نسي" لا مفهوم له، بل يستحب ذلك للعامد أيضا بطريق الأولى، وإنما خص الناسي بالذكر لكون المؤمن لا يقع ذلك منه بعد النهي غالبا إلا نسيانا،

قال الحافظ: وقد يطلق النسيان، ويراد به الترك، فيشمل السهو والعمد، فكأنه قيل: من ترك امتثال الأمر، وشرب قائما فليستقىء.

وقال القرطبي في المفهم: لم يصر أحد إلى أن النهي فيه للتحريم، وإن كان القول به جاريا على أصول الظاهرية: وتعقب بأن ابن حزم منهم جزم بالتحريم، وتمسك من لم يقل بالتحريم بحديث علي المذكور في الباب.

وفي الباب

(2)

عن سعد بن أبي وقاص، أخرجه الترمذي، وعن عبد الله بن أنيس، أخرجه الطبراني، وعن أنس، أخرجه البزار، والأثرم، وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أخرجه الترمذي وحسنه، وعن عائشة أخرجه البزار، وأبو علي الطوسي في الأحكام،

(1)

وهو أبو عيسى الأسواري البصري الراوي عن أبي سعيد الخدري لا يعرف اسمه، كما أفاده في "تت". وفي "ت": مقبول من الرابعة بخ م.

(2)

أي باب جواز الشرب قائما.

ص: 488

وعن أم سليم أخرجه ابن شاهين، وعن عبد الله بن السائب عن خباب عن أبيه، عن جده، أخرجه ابن أبي حاتم.

ومما يدل على الجواز أيضا حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن جدته كبشة، قالت:"دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب من قربة معلقة، قائما، فقمت إلى فيها فقطعته" رواه ابن ماجه، والترمذي، وصححه، وعن كلثم نحوه أخرجه أبو موسى بسند حسن.

وحديث أم سليم، قالت:"دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي البيت قربة معلقة، فشرب منها، وهو قائم، فقطعت فاها فإنه لعندي" رواه أحمد.

وثبت الشرب قائما عن عمر، أخرجه الطبري، وفي الموطأ أن عمر، وعثمان، وعليا، كانوا يشربون قيامًا، وكان سعد وعائشة لا يرون بذلك بأسا، وثبتت الرخصة عن جماعة من التابعين.

قال الحافظ: وسلك العلماء في ذلك مسالك:

أحدها: الترجيح، وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي، وهذه طريقة أبي بكر الأثرم، فقال: حديث أنس -يعني في النهي- جيد الإسناد، ولكن قد جاء عنه خلافه يعني في الجواز، قال: ولا يلزم من كون الطريق إليه في النهي أثبت من الطريق إليه في الجواز أن لا يكون الذي يقابله أقوى، لأن الثبت قد يروي من هو دونه الشيء فيرجح عليه، فقد رجح نافع على سالم في بعض الأحاديث عن ابن عمر، وسالم مقدم على نافع في الثبت، وقدم شريك على الثوري في حديثين، وسفيان مقدم في جملة أحاديث، ثم أسند إلى أبي هريرة قال:"لا بأس بالشرب قائما" قال الأثرم: فدل على أن الرواية عنه في النهي ليست بثابتة، وإلا لما قال: لا بأس به، قال: ويدل على وهاء أحاديث النهي

ص: 489

أيضا اتفاق العلماء على أنه ليس على أحد شرب قائما أن يستقيء.

المسلك الثاني: دعوى النسخ، وإليها جنح الأثرم، وابن شاهين، فقرروا على أن أحاديث النهي على تقدير ثبوتها منسوخة بأحاديث الجواز، بقرينة عمل الخلفاء الراشدين، ومعظم الصحابة والتابعين

بالجواز.

وقد عكس ذلك ابن حزم، فادعى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي متمسكا بأن الجواز على وفق الأصل، وأحاديث النهي مقررة لحكم الشرع، فمن ادعى الجواز بعد النهي فعليه البيان، فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال.

وأجاب بعضهم بأن أحاديث الجواز متأخرة لما وقع منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أنه شرب من زمزم، وهو قائم، وإذا كان ذلك الأخير من فعله صلى الله عليه وسلم دل على الجواز، ويتأيد بفعل الخلفاء الراشدين بعده.

المسلك الثالث: الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل، فقال أبو الفرج الثقفي في نصرة الصحاح: والمراد بالقيام هنا المشي، يقال: قام في الأمر إذا مشى فيه، وقمت في حاجتي: إذا سعيت فيها وقضيتها ومنه قوله تعالى {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] أي مواظبًا بالمشي عليه.

وجنح الطحاوي إلى تأويل آخر، وهو حمل النهي على من لم يسم عند شربه، وهذا إن سلم له في بعض ألفاظ الحديث، لم يسلم له في بقيتها.

ومسلك آخر في الجمع: يحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه، وأحاديث الجواز على بيانه، وهي طريقة الخطابي، وابن بطال في آخرين، وهذا أحسن المسالك، وأسلمها وأبعدها من الاعتراض، وقد

ص: 490

أشار الأثرم إلى ذلك أخيرًا، فقال: إن ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد، والتأديب، لا على التحريم، وبذلك جزم الطبري، وأيده بأنه لو كان جائزًا، ثم حرمه، أو كان حرامًا، ثم جوزه لبين صلى الله عليه وسلم ذلك بيانًا واضحًا، فلما تعارضت الأخبار بذلك جمعنا بينها بهذا.

وقيل: إن النهي عن ذلك إنما هو من جهة الطب مخافة وقوع ضرر به، فإن الشرب قاعدا أمكن وأقوى، وأبعد من الشَّرَق، وحصول الوَجَع في الكبد، أو الحَلْق، وكل ذلك قد لا يأمن منه من شرب قائما اهـ فتح الباري جـ 10/ ص 85 - 87.

قال الجامع: الذي يترجح عندي مسلك من جمع يحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه، كما رجحه الحافظ، لأن به تجتمع الأدلة من غير إجحاف ببعضها، ولا تكلف، والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 491

‌80 - بَابُ حَدِّ الْغَسْلِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حد الغسل، والمراد: حد غسل اليدين، ومحل الترجمة قَولُه "إلى المرفقين".

97 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ -وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ؟ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ: نَعَمْ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ.

ص: 492

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(محمد بن سلمة) المرادي الجَمَليُّ، أبو الحارث المصري الفقيه ثقة ثبت [11] تقدم في 19/ 20.

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمد بن يوسف، الأموي مولاهم، أبو عَمْرو المصري الفقيه، رأى الليث، وسأله، وروى عن ابن القاسم، وابن وهب، وابن عيينة، وأشهب، ويوسف بن عمرو الفارسي، وغيرهم، وعنه أبو داود، والنسائي، وابنه أحمد بن الحارث، وعبد الله بن أحمد، ويعقوب بن شيبة، وأبو يعلى، وابن أبي داود، ومحمد بن زَبَّان وعدة.

قال عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان: سألت أحمد بن حنبل عن الحارث بن مسكين قاضي مصر، فقال فيه قولا جميلا، وقال: ما بلغني عنه إلا خير، وقال إبراهيم بن الجنيد، عن ابن معين: لا بأس به، وقال

الحسين بن حبان: قال أبو زكريا يعني ابن معين: الحارث بن مسكين خير من أصبغ، وأفضل، وقال النسائي: ثقة مأمون.

وقال الخطيب: كان فقيها على مذهب مالك، وكان ثقة في الحديث ثبتا حمله المأمون إلى بغداد في أيام المحنة، وسجنه لأنه لم يُجب إلى القول بخلق القرآن، فلم يزل محبوسا إلى أن ولي جعفر المتوكل، فأطلقه، وحدث ببغداد، ورجع إلى مصر، وكتب المتوكل بعهده على قضاء مصر، فلم يزل يتولاه من سنة 237 إلى أن صرف عنه في سنة 254، وقال ابن يونس: كان فقيها، أخذ الفقه عن ابن وهب وابن القاسم، ولد سنة 154، وتوفي في شهر ربيع الأول سنة 255.

قال الحافظ: وقال الحاكم: ثقة مأمون، وقال أبو عمر الكندي: إنه استعفى من القضاء فأعفي، وتولى بكار بن قتيبة.

ص: 493

والمسألة التي سأل عنها الحارث الليث هي في العصير، وليس له عن الليث غيرها.

وقال مسلمة الأندلسي: ثقة أخبرنا عنه غير واحد، وذكر ابن الطحان المصري في الرواة عن مالك أن الحارث بن مسكين قال: حججت فرأيت رجلا في عَمَارية

(1)

، فسألت عنه؟ فقيل لي: هذا مالك بن أنس، فرأيته ولم أسمع منه.

وفي "ت" ثقة فقيه من العاشرة، أخرج له أبو داود والمصنف.

3 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جُنَادة العُتَقي

(2)

أبو عبد الله المصري الفقيه، روى عن مالك الحديث والمسائل، وعن بكر بن مضر، ونافع بن أبي نعيم القارئ، ويزيد بن عبد الملك النوفلي، وابن عيينة، وغيرهم، وعنه ابنه موسى، وأصبغ بن الفرج، وسعيد بن عيسى بن تَليد، ومحمد بن سلمة المرادي، والحارث بن مسكين، وسحنون بن سعيد، وعبد الرحمن بن أبي الغمر المصري، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وعيسى بن حماد، زُغْبَة، وغيرهم.

قال أبو زرعة: مصري ثقة، رجل صالح، كان عنده ثلاثمائة جلد، أو نحوه عن مالك مسائل، مما سأله أسد، رجل من العرب، كان سأل محمد بن الحسن عن مسائل، وأتى ابن وهب وسأله أن يجيبه بما كان

عنده عن مالك، وما لم يكن عنده عن مالك، فمن عنده فأبَى، فأتى عبد الرحمن بن القاسم فأجابه على هذا، فالناس يتكلمون في هذه المسائل، قال النسائي: ثقة مأمون، أحد الفقهاء، وقال الحاكم: ثقة

(1)

العمارة بالفتح، ويكسر، رقعة مزينة، تخاط في المظلة. أفاده المجد في "ق" ص 571.

(2)

بضم العين، وفتح التاء.

ص: 494

مأمون، وقال الخطيب: ثقة، وقال ابن يونس: ذكر أحمد بن شعيب النسوي، ونحن عنده عبدَ الرحمن بن القاسم، فأحسن الثناء عليه، وأطنب، وذكره ابن حبان في الثقات، قال: كان خيرا فاضلا ممن تفقه على مالك، وفرّع على أصوله، وذبّ عنها، ونصر من انتحلها.

قال يونس بن عبد الأعلى: مات في صفر سنة 191 وقيل: إن مولده سنة 28، وقيل: إحدى، وقيل: اثنتين وثلاثين، له في صحيح البخاري حديث واحد.

قال الحافظ: وقال سلمة بن القاسم: كان فقيه البدن، من ثقات أصحاب مالك، وكان ورعا صالحا، ولم يكن صاحب حديث، وقال أحمد بن محمد الحضرمي: سألت يحيى بن معين عنه، فقال: ثقة ثقة،

وقال ابن وضاح: لم يكن عند ابن القاسم إلا الموطأ الذي روى عن مالك، وسماعه من مالك يعني المسائل، كان يحفظها حفظًا.

حكى ذلك سحنون وغيره، قال: ورآه ابن معبد في المنام، فسأله: كيف وجدت المسائل؟ فقال: أفّ أفّ، فقلت: فما أحسن ما وجدت؟ قال: الرباط، قال: ورأيت ابن وهب أحسن حالا منه، وقال الخليلي: زاهد متفق عليه، أول من حمل الموطأ إلى مصر، وهو إمام، وفي "ت" ثقة من كبار العاشرة.

أخرج له البخاري، وأبو داود، في المراسيل، والنسائي.

4 -

(مالك) بن أنس أبو عبد الله إمام دار الهجرة ثقة حجة [7] تقدم في 19/ 20.

5 -

(عمرو بن يحيى المازني) بن عمارة بن أبي الحسن، الأنصاري المدني، ابن بنت عبد الله بن زيد بن عاصم، واسم أبي حسن تميم بن عمرو، فيما قيل.

ص: 495

روى عن أبيه، وعباد بن تميم، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعباس بن سهل بن سعد، ودينار القرَّاط، وأبي الحُباب سعيد بن يسار، ويوسف بن محمد بن ثابت بن قيس بن شمَّاس، وأبي زيد مولى بني ثعلبة، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وعيسى بن عمر، ومريم بنت إياس ابن البكير، وغيرهم.

وعنه يحيى بن أبي كثير، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهما من أقرانه، وأيوب، ومالك، وابن جريج، ووهيب بن خالد، وإبراهيم بن طهمان، وروح بن القاسم، وزائدة، وداود بن عبد الرحمن العطار، وعبد العزيز بن الاجشون، والدراوردي، وابن المختار، وخالد الواسطي، واسماعيل بن جعفر، وعبد الواحد بن زياد، وسليمان بن بلال، والحمادان والسفيانان، وغيرهم.

قال أبو حاتم: ثقة صالح، وقال النسائي: ثقة.

قال الحافظ: وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال العجلي، وابن نمير: ثقة، نقله ابن خلفون، وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة، إلا أنه اختلف عنه في حديثين "الأرض كلها مسجد""وكان يسلم عن يمينه" وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: صويلح وليس بالقوي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عبد البر: مات سنة 140.

وقول المصنف -يعني المزي-: أنه ابن بنت عبد الله بن زيد، وهم تبع فيه صاحب الكمال، وسببه ما في رواية مالك، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، أن رجلا سأل عبد الله بن زيد، وهو جد عمرو بن يحيى، فظنوا أن الضمير يعود على عبد الله، وليس كذلك بل إنما يعود على الرجل، وهو عمرو بن أبي الحسن عم يحيى، وقيل له: جد عمرو

ص: 496

ابن يحيى تجوزا؛ لأن العم صنو الأب، وأما عمرو بن يحيى، فأمه فيما ذكر محمد بن سعد في الطبقات، حميدة بنت محمد بن إياس بن البكير، وقال غيره: أم النعمان بنت أبي حية اهـ "تت"، وفي "ت" ثقة [6] أخرج له الجماعة.

6 -

(يحيى المازني) بن عمارة بن أبي الحسن الأنصاري المدني، روى عن عبد الله بن زيد بن عاصم، وأنس بن مالك، وأبي سعيد الخدري، وعنه ابنه عَمْرو، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، وعمارة بن غزية، ومحمد بن يحيى بن حبان، والزهري، وأبو طُوالة، قال ابن إسحاق: كان ثقة، وقال النسائي، وابن خراش: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وفي "ت" ثقة من الثالثة أخرج له الجماعة.

7 -

(عبد الله بن زيد بن عاصم) بن كعب بن عوف بن مبذول بن عُمَر بن غَنْم بن مالك بن النجار، الأنصاري المدني، وقيل في نسبه غير ذلك، ذكر الواقدي: أنه هو الذي قتل مسليمة الكذاب، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الوضوء وغيره.

وعنه ابن أخيه عباد بن تميم، وسعيد بن المسيب، ويحيى بن عمارة، وكان صهره على ابنته، وواسع بن حبان، وأبو سفيان مولى ابن أبي أحمد، قال خليفة وغير واحد: قتل بالحرة، وكان في آخر ذي القعدة

سنة 63، زاد الواقدي وهو ابن 70 سنة.

قال الحافظ: وقال أبو القاسم البغوي: قيل إنه شهد بدرا، ولا يصح، وحكاه أبو نعيم الأصبهاني عن البخاري، وقال ابن سعد: بلغني أنه قتل بالحرة، وقتل معه ابناه خلاد، وعلي، أخرج له الجماعة، وله أحاديث اتفق (خ م) على [8] وانفرد (خ) بحديث.

ص: 497

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين مصريين، ومدنيين، فمن قبل مالك مصريون، ومنه إلى آخره مدنيون، وفيه رواية الابن، عن أبيه.

وفيه قوله "قراءة عليه، وأنا أسمع" وقوله "واللفظ له"، وقد تقدم البحث عنهما غير مرة، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن عمرو بن يحيى المازني) نسبة إلى مازن الأنصار، وهو مازن بن النجار، واسمه تيم اللات بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة، بطن كبير من الأنصار ثم من الخزرج، ثم من بني النجار اهـ لباب

جـ 3/ ص 145.

(عن أبيه) يحيى بن عمارة بن أبي الحسن (أنه قال لعبد الله بن زيد بن عاصم) رواية المصنف، وأبي داود صريحة في أن القائل لعبد الله بن زيد، هو يحيى بن عمارة، وكذا رواية الشافعي في الأم، عن مالك،

ورواية الإسماعيلي، عن أبي خليفة، عن القعنبي، عن مالك.

وهذا خلاف ما ورد في الروايات الأخر، كرواية محمد بن الحسن الشيباني، قال في الموطأ عن مالك: حدثني عمرو، عن أبيه يحيى، أنه سمع جده، أبا الحسن يسأل عبد الله بن زيد، وكذا ساقه سحنون في

المدونة، وقال معن بن عيسى في روايته: عن عمرو، عن أبيه يحيى أنه سمع أبا الحسن، وهو جد عمرو بن يحيى قال لعبد الله بن زيد.

فإن هذه الروايات تفيد أن السائل لعبد الله بن زيد هو أبو حسن، وفي رواية للبخاري: أخبرنا مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن

ص: 498

أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد: الخ، قال الحافظ في الفتح: قوله أن رجلا: هو عمرو بن أبي حسن، كما سماه المصنف في الحديث ما الذي بعد هذا من طريق وهيب عن عمرو بن يحيى.

وقد اختلف رواة الموطأ في تعيين هذا السائل، وأما أكثرهم فأبهمه،

والذي يجمع الاختلاف: أن يقال: اجتمع عند عبد الله بن زيد أبو الحسن الأنصاري، وابنه عمرو، وابن ابنه يحيى بن عمارة بن أبي حسن فسألوه عن صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وتولى السؤال منهم له عمرو بن أبي حسن، فحيث نسب السؤال إلى عمرو كان على الحقيقة، ويؤيده رواية سليمان بن بلال، عند البخاري في "باب الوضوء من التور" قال: حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه، قال: كان عمي يعني عمرو بن أبي حسن، يكثر الوضوء، فقال لعبد الله بن زيد: أخبرني، فذكره، وحيث نسب السؤال إلى أبي حسن، فعلى المجاز، لكونه كان الأكبر، وكان حاضرا، وحيث نسب السؤال ليحيى بن عمارة، فعلى المجاز

أيضا لكونه ناقل الحديث، وقد حضر السؤال.

ووقع في رواية مسلم عن محمد بن الصباح، عن خالد الواسطي، عن عمرو بن يحيى عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، قال: قيل له: توضأ لنا، فذكره مبهما، وفي رواية الإسماعيلي من طريق وهب بن بقية، عن خالد المذكور، بلفظ قلنا له، وهذا يؤيد الجمع المتقدم من كونهم اتفقوا على سؤاله، لكن متولي السؤال منهم عمرو بن أبي حسن، ويزيد ذلك وضوحا رواية الدراوردي عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عمرو بن أبي حسن، قال: كنت كثير الوضوء، فقلت لعبد الله بن زيد، فذكر الحديث، أخرجه أبو نعيم في المستخرج، اهـ فتح جـ 1/ ص 348.

(وكان) عبد الله بن زيد (من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جد عمرو بن

ص: 499

يحيى) أي أن عبد الله بن زيد جد لعمرو بن يحيى لأمه، لأنه ابن بنته، قاله المزي تبعا لصاحب الكمال، وتقدم عن الحافظ أن هذا وَهَم لأن ابن سعد ذكر أن أم عمرو بن يحيى حميدةُ بنتُ محمد بن إياس بن البكير، وقال غيره: هي أم النعمان بنت أبي حية اهـ.

وفي الموطأ: حدثني يحيى عن مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أنه قال لعبد الله بن زيد بن عاصم، وهو جد عمرو بن يحيى الخ، قال ابن عبد البر: قوله: وهو جد عمرو بن يحيى كذا لجميع رواة

الموطأ، وانفرد به مالك ولم يتابعه عليه أحد، فلم يقل أحد أن عبد الله بن زيد جد عمرو.

قال ابن دقيق العيد: هذا وَهَم قبيح من يحيى بن يحيى، أو غيره، وأعجب منه أن ابن وضاح سئل عنه، وكان من الأئمة في الحديث والفقه فقال: هو جده لأمه، ورحم الله من انتهى إلى ما سمع، ووقف دون ما لم يعلم، وكيف جاز هذا على ابن وضاح، والصواب في المدونة التي كان يُقرئها، ويرويها عن سحنون، وهي بين يديه ينظر فيها كل حين، قال: وصواب الحديث مالك عن عمرو بن يحيى، عن أبيه أن رجلا قال لعبد الله بن زيد، وهذا الرجل هو عمارة بن أبي حسن، وهو جد عمرو بن يحيى، قاله الزرقاني جـ 1/ ص 43.

فتحصل من كلامهم أن عبد الله بن زيد ليس جدًا لعمرو بن يحيى، لا من جهة أمه، ولا من جهة أبيه، خلافا لظاهر هذه الرواية.

(هل تستطيع أن تريني) الخ إنما سأله ذلك لأنه أبلغ في التعليم، وسبب الاستفهام ما قام عنده من احتمال أن يكون عبد الله بن زيد نسي ذلك لبعد العهد، أفاده الحافظ (فقال عبد الله بن زيد: نعم) أستطيع ذلك (فدعا بوَضوء) بفتح الواو ما يتوضأ به، وللبخاري عن ابن

ص: 500

يوسف، عن مالك "فدعا بماء" وله وجه آخر "فدعا بتور من ماء" بفوقية مفتوحة قدح أو إناء يشرب منه، أو الطست، أو شبه الطست، أو مثل القدر يكون من صفر أو حجارة.

وله طريق آخر عن عبد الله بن زيد "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجنا له ماء في تور من صفر" بضم المهملة، وقد تكسر: صنف من جيد النحاس، ويسمى أيضا الشَّبَه بفتح المعجمة والموحدة، سمي بذلك لأنه يشبه الذهب، والتورُ المذكورُ هو الذي توضأ منه عبد الله بن زيد إذ سئل

عن صفة الوضوء فيكون أبلغ في حكايته صورة الحال على وجهها.

(فأفرغ) أي صب، يقال: أفرغ، وفَرَّغ، يعني بالتشديد لغتان، حكاهما في المُحْكَم (على يديه) بالتثنية، وفي الباب الآتي "فأفرغ على يده اليمنى"(فغسل بديه) بالتثنية، يعني كفيه، وفي بعض روايات الموطأ "يده" بالإفراد، وهو مفرد مضاف، فيعم اليدين جميعا.

(مرتين مرتين) كذا في رواية مالك والبخاري بذكر المرتين، وفي رواية وهيب، وسليمان بن بلال عند البخاري، ورواية الدراوردي عند أبي نعيم، ورواية خالد بن عبد الله عند مسلم ذكر الثلاث، وعند أبي داود من دون ذكر عدد.

والجمع بين هذه الروايات أن تحمل الرواية المطلقة على المقيدة، فيكون غسل مرتين أو ثلاثا، والظاهر ترجيح الثلاث لقوتها بكثرة طرقها المعوَّل عليها.

ولا يقال يحمل فعل المرتين والثلاث على واقعتين، لأن المخرج واحد، والأصل عدم تعدد الواقعة، وقد ذكر مسلم من طريق بهز، عن وهيب، أنه سمع حديث الثلاث مرتين من عمرو بن يحيى إملاء، فتأكد ترجيح روايته، أفاده الحافظ.

ص: 501

(ثم تمضمض، واستنشق ثلاثا)"ثم" هنا للترتيب في الحكم، خلافا لمن قال: إنها للترتيب في الإخبار، ولمن قال: إنها بمعنى الواو، وفي رواية البخاري "ثم تمضمض واستنثر" والاستنثار يستلزم الاستنشاق بلا عكس، وقد ذكر في رواية وهيب الثلاثة، وزاد بعد قوله "ثلاثا""بثلاث غرفات"، واستدل به على استحباب الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة، وفي رواية خالد بن عبد الله "مضمض، واستنشق من كف واحد فعل ذلك ثلاثا" وهو صريح في الجمع كل مرة بخلاف رواية وهيب، فإنه تطرقها احتمال التوزيع بلا تسوية، كما نبه عليه ابن دقيق العيد، قاله الحافظ جـ 1/ ص 349.

(ثم غسل وجهه ثلاثا) لم تختلف الروايات في هذا، ويلزم من استدل بالحديث على وجوب تعميم الرأس بالمسح أن يستدل به على وجوب الترتيب للإتيان بثم في الجميع لأن كلا من الحكمين مجمل في الآية بينته السنة بالفعل، قاله الحافظ (ثم غسل يديه مرتين مرتين) بالتكرار لئلا يتوهم أن المرتين لكلتا اليدين، قال الولي العراقي: المنقول في علم العربية أن أسماء الأعداد، والمصادر والأجناس إذا كررت كان المراد حصولها مكررة، لا التأكيد اللفظي، فإنه قليل الفائدة، لا يحسن حيث يكون للكلام محمل غيره.

مثال ذلك: جاء القوم، اثنين، اثنين، أو رجلا، رجلا، وضربته ضربًا، ضربًا، أي اثنين بعد اثنين، ورجلا بعد رجل، وضربًا بعد ضرب، وقال: هذا منه أي غسلهما مرتين بعد مرتين، أي أفرد كل

واحدة منهما بالغسل مرتين.

قال الحافظ: لم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين.

ص: 502

ولمسلم من طريق حَبَّان بن واسع، عن عبد الله بن زيد، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، وفيه "وغسل يده اليمنى ثلاثا، ثم الأخرى ثلاثا"، نقله الزرقاني جـ 1/ ص 44.

وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم: في هذا الحديث دلالة على جواز مخالفة الأعضاء، وغسل بعضها ثلاثا، وبعضها مرتين، وهذا جائز، والوضوء على هذه الصفة صحيح بلا شك، ولكن المستحب التثليث، وإنما كانت مخالفته من النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات بيانًا للجواز، كما توضأ صلى الله عليه وسلم مرة مرة في بعض الأوقات، بيانا للجواز، وكان في ذلك الوقت أفضل في حقه صلى الله عليه وسلم، لأن البيان واجب عليه.

فإن قيل: البيان يحصل بالقول، قلنا: بالفعل أوقع في النفوس، وأبعد من التأويل اهـ.

(إلى المرفقين) تثنية مرفق بكسر الميم وفتح الفاء، وبفتح الميم وكسر الفاء لغتان مشهورتان، قاله الزرقاني، وقال الحافظ: هو العظم الناتئ في آخر الذراع، وسمي بذلك لأنه يرتفق به في الاتكاء ونحوه.

وقد اختلف العلماء: هل يدخل المرفقان في غسل اليدين أم لا؟ فقال المعظم: نعم، وخالف في ذلك زفر، وحكاه بعضهم عن مالك، واحتج بعضهم للجمهور بأن "إلى" في الآية بمعنى "مع"، كقوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] وتعقب بأنه خلاف الظاهر، وأجيب بأن القرينة دلت عليه وهي كون ما بعد "إلى" من جنس ما قبلها، وقال ابن القصار: اليد يتناولها الاسم إلى الإبط لحديث عمار أنه تيمم إلى الإبط، وهو من أهل اللغة، فلما جاء قوله تعالى {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] بقي المرفق مغسولا مع الذراعين، بحق الاسم، انتهى. فعلى هذا فَـ"إلى" هنا حد للمتروك من غسل اليدين لا

ص: 503

للمغسول، وفي كون ذلك ظاهرا من السياق نظر، والله أعلم.

وقال الزمخشري: لفظ "إلى" يفيد معنى الغاية مطلقا، فأما دخولها في الحكم، وخروجها فأمر يدور مع الدليل، فقوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] دليل على عدم دخول النهي عن الوصال، وقول القائل: حفظت القرآن من أوله إلى آخره دليل على الدخول كون الكلام مسوقا لحفظ جميع القرآن، وقوله تعالى {إِلَى الْمَرَافِقِ} لا دليل فيه على أحد الأمرين، قال: فأخذ العلماء

بالاحتياط، ووقف زفر مع المتيقن، انتهى.

قال الحافظ: ويمكن أن يستدل لدخولهما بفعله صلى الله عليه وسلم، ففي الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء "فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين" وفيه عن جابر قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه" لكن إسناده ضعيف، وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء "وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق" وفي الطحاوي، والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد، عن أبيه، مرفوعا "ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه" فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضًا.

قال إسحاق بن راهويه: "إلى" في الآية يحتمل أن تكون بمعنى الغاية، وأن تكون بمعنى "مع" فبينت السنة أنها بمعنى "مع" انتهى، وقد قال الشافعي في الأم: لا أعلم مخالفا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، فعلى هذا فزفر محجوج بالإجماع قبله، وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر بعده، ولم يثبت ذلك عن مالك صريحا وإنما حكى عنه أشهب كلاما محتملا اهـ فتح جـ 1/ ص 350.

قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي ما قاله الجمهور

(1)

للأحاديث

(1)

وقد تقدم الكلام عليه في شرح حديث عثمان رضي الله عنه، حديث 84 في المسألة السابعة.

ص: 504

المذكورة، وكذا حديث مسلم عن أبي هريرة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه:"ثم غسل يديه حتى أشرع في العضد" إلى أن قال: "ثم غسل رجليه حتى أشرع في الساق".

وقد تقدم أنه إن دلت قرينة على دخول الغاية عمل بها، وها هنا القرينة فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه بيان للآية، ولا يقال: إنه توضأ ثلاثا، فيدل على وجوب التثليث أيضا، لأنا نقول: إن ذلك خرج بالنصوص التي دلت على أنه توضأ مرة مرة وغيرها، والله أعلم.

(ثم مسح رأسه) زاد ابن الطباع "كله"، وفي رواية سفيان الآتية "برأسه" بزيادة الباء، وكذا في رواية خالد بن عبد الله كما قال الحافظ.

قال القرطبيّ: الباء للتعدية يجوز حذفها، وإثباتها، كقولك مسحت رأس اليتيم، ومسحت برأسه، وقيل: دخلت الباء لتفيد معنى آخر، وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به، والمسح لا يقتضي ممسوحا به، فلو قال: وامسحوا رؤوسكم لأجزأ المسح باليد بغير ماء، فكأنه قال: وامسحوا برؤسكم الماءَ فهو على القلب، والتقدير: امسحوا رؤسكم بالماء.

وقال الشافعي: احتمل قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} جميع الرأس، أو بعضه، فدلت السنة على أن بعضه يجزئ، والفرق بينه وبين قوله تعالى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} في التيمم: أن المسح فيه بدل عن الغسل، ومسح الرأس أصل، فافترقا، ولا يرد كون مسح الخف بدلا عن غسل الرجل، لأن الرخصة فيه ثبتت بالإجماع.

فإن قيل: فلعله اقتصر على مسح الناصية لعذر، لأنه كان في سفر، وهو مظنة العذر، ولهذا مسح على العمامة بعد مسح الناصية، كما هو ظاهر من سياق مسلم في حديث المغيرة بن شعبة: قلنا: قد روي عنه

ص: 505

مسح مقدم الرأس من غير مسح على العمامة، ولا تعرض لسفر، وهو ما رواه الشافعي من حديث عطاء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة عن رأسه، ومسح مقدم رأسه. وهو مرسل لكنه اعتضد بمجيئه من وجه آخر موصولا، أخرجه أبو داود من حديث أنس، وفي إسناده أبو معقل، لا يعرف حاله، فقد اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر وحصلت القوة من الصورة المجموعة، وهذا مثال لما ذكره الشافعي من أن المرسل يعتضد بمرسل آخر، أو مسند، وظهر بهذا جواب من أورد أن الحجة حينئذ بالمسند، فيقع المرسل لغوا، وقد قررت

(1)

جواب ذلك فيما

كتبته على علوم الحديث لابن الصلاح، وفي الباب أيضا عن عثمان في صفة الوضوء قال:"ومسح مقدم رأسه" أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبي مالك مختلف فيه.

وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك، قاله ابن حزم، وهذا كله مما يقوي به المرسل المتقدم ذكره، والله أعلم اهـ فتح 1/ 351.

وقال الزرقاني: وأخرج ابن خزيمة عن إسحاق بن عيسى بن الطباع قال: سألت مالكًا عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه أيجزيه ذلك؟ فقال: حدثني عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد قال:"مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه ثم رد يديه إلى ناصيته فمسح رأسه كله" فإن كان لفظ الآية محتملًا مسح الكل فالباء زائدة، أو البعض فتبعيضية، فقد تبين بفعله صلى الله عليه وسلم أن المراد الأول، ولم ينقل عنه أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة أنه مسح على ناصيته، وعمامته، رواه مسلم، قال علماؤنا: -يعني المالكية- ولعل ذلك كان لعذر بدليل أنه لم يكتف بمسح لناصية، حتى مسح على

(1)

القائل: وقد قررت الخ هو الحافظ رحمه الله.

ص: 506

العمامة إذ لو لم يكن مسح كل الرأس واجبًا ما مسح على العمامة، واحتجاج المخالف بما صح عن ابن عمر من الاكتفاء بمسح مقدم الرأس ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك، لا ينهض إذ المختلف فيه لا يجب إنكاره، وقول ابن عمر لم يرفعه، فهو رأي له فلا يعارض المرفوع اهـ كلام الزرقاني جـ 1/ ص 45.

قال الجامع: وقد مر في حديث عثمان رضي الله عنه أن الراجح وجوب التعميم، فتنبه. والله أعلم.

(بيديه) بالتثنية (فأقبل بهما وأدبر) قال عياض: قيل: معناه أقبل إلى جهة قفاه، ورجع كما فسر بعده، وقيل: المراد: أدبر، وأقبل، والواو لا تعطي ترتيبا، قال: وهذا أولى، ويعضده رواية وهيب في البخاري، فأدبر بهما، وأقبل، وفي مسلم "مسح رأسه كله، وما أقبل، وما أدبر وصدغيه" اهـ زرقاني، وفي المنهل: قد اختلف في كيفية الإقبال والإدبار، على ثلاثة أقوال:

الأول: أن يبدأ بمقدم رأسه الذي يلي الوجه فيذهب إلى القفا، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه، وهو مبتدأ الشعر من حد الوجه، هذا هو ظاهر قوله "بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه" الخ، وهو مذهب مالك، والشافعي، وفيه أن هذه الصفة تخالف ظاهر قوله "فأقبل بهما، وأدبر" لأن ذهابه إلى جهة القفا إدبار، ورجوعه إلى جهة الوجه إقبال، وأجيب بأجوبة:

منها: أن الواو لا تقتضي الترتيب، فالتقدير: أدبر، وأقبل، يدل عليه قوله "بدأ بمقدم رأسه" الخ وما رواه البخاري عن عبد الله بن زيد، وفيه "ثم أخذ بيده ماء، فمسح به رأسه، فأدبر به وأقبل".

ومنها: أن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية التي تُنسب إلى ما

ص: 507

يُقبَل إليه ويُدبَر عنه، والمؤخر محل يمكن أن ينسب إليه الإقبال، والإدبار.

ومنها: حمل قوله "أقبل" على البداءة بالقبل، "وأدبر" على البداءة بالدبر، فيكون من باب تسمية الفعل بابتدائه، وهو أحد قولين للأصوليين في تسمية الفعل هل يكون بابتدائه أو انتهائه.

القول الثاني: أنه يبدأ بمؤخر رأسه، ويمر إلى جهة الوجه، ثم يرجع إلى المؤخر محافظة على ظاهر لفظ "أقبل، وأدبر" فالإقبال إلى مقدم الوجه، والإدبار إلى ناحية المؤخر.

وقد وردت هذه الصفة في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم "بدأ بموخر رأسه" لكن يَرُدُّ هذه الصفة قوله "بدأ بمقدم رأسه" الذي ذُكر بيانا للإقبال والإدبار، ويحمل حديث البداءة بالمؤخر على تعدد الحالات لبيان الجواز، على أن حديث البداءة بالمقدم أكثر وأصح إسنادًا من حديث البداءة بالمؤخر كما ذكره الترمذي.

القول الثالث: أنه بدأ بالناصية، ويذهب إلى ناحية الوجه، ثم يذهب إلى جهة مؤخر الرأس، ثم يعود إلى ما بدأ منه، وهو الناصية، ولعل قائل هذا قصد المحافظة على قوله "بدأ بمقدم رأسه" مع المحافظة أيضا على ظاهر لفظ "أقبل، وأدبر" لأنه إذا بدأ بالناصية صدق أنه بدأ بمقدم رأسه، وصدق أنه أقبل أيضا، لأنه ذهب إلى ناحية الوجه، وهو القبل، ويرده أيضا قوله "بدأ بمقدم رأسه" الخ فإنه جعله بادئا بالمقدم، إلى غاية الذهاب إلى قفاه، ومقتضى الصفة الثالثة أنه بدأ بمقدم الرأس غير ذاهب إلى قفاه، بل إلى ناحية وجهه، أفاده ابن دقيق العيد، والظاهر أن هذا من العمل المخير فيه، وأن المقصود من ذلك تعميم الرأس بالمسح.

ص: 508

وقال النووي: قوله "ثم يمسح رأسه بيديه" الخ، هذا هو المستحب باتفاق العلماء، فإنه طريق إلى استيعاب الرأس ووصول الماء إلى جميع شعره، قال أصحابنا: وهذا الرد إنما يستحب لمن كان له شعر غير مضفور، أما من لا شعر على رأسه، أو كان شعره مضفورا، فلا يستحب له الرد إذ لا فائدة فيه، وليس في هذا الحديث دلالة لوجوب استيعاب الرأس بالمسح، لأن الحديث ورد في كمال الوضوء لا فيما لابد منه اهـ باختصار.

والتفرقة بين من له شعر، وبين من لا شعر له لم نقف على ما يؤيده من الأحاديث، فالظاهر عدم التفرقة، وتقدم الخلاف في ذلك وأن المذهب القوي، وجوب استيعاب المسح، اهـ ما في المنهل جـ 2/ ص 45.

(بدأ) أي ابتدأ (بمقدم رأسه) بفتح الدال مشددة، ويجوز كسرها والتخفيف، وكذا مؤخر قاله الزرقاني، والذي في المصباح: ومُؤخر العين ساكن الهمزة: ما يلي الصُّدْغ، ومُقْدمها بالسكون: طرفها الذي يلي الأنف، قال الأزهري: مؤخر العين، ومقدمها بالتخفيف لا غير، وقال أبو عبيدة: مؤخر العين الأجود فيه التخفيف، فأفهم جواز التثقيل على قلة، ومُؤَخَّر كل شيء بالتثقيل والفتح خلاف مُقَدَّمه. اهـ.

وفي اللسان: ومُؤَخَّر كل شيء بالتشديد خلاف مُقَدَّمه، يقال: ضربت مُقَدَّم رأسه ومُؤَخَّره، وآخرةُ العين ومُؤخرُها ومُؤْخرَتها: ما ولي اللِّحَاظ، ولا يقال: كذلك إلا في مُؤْخر العين، ومُؤْخر العين مثل مُؤْمن: الذي يلي الصُّدْغ، ومُقْدمها: الذي يلي الأنف، يقال: نظر إليه بمُؤخر عينه، وبمُقْدم عينه، ومُؤْخر العين ومُقْدمها جاء في العين بالتخفيف خاصة. اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أنه يستفاد من عبارة الصباح،

ص: 509

واللسان أن مُقَدَّم الرأس، ومُؤَخَّره بالتثقيل فقط، لا كما يقول الزرقاني من جواز التخفيف، لأن ذلك خاص بمُؤْخر العين ومُقْدمها، فتفطن.

وقوله: "بدأ بمقدم رأسه" الخ، بيان لقوله: فأقبل بهما وأدبر، ولذلك لم تدخل الواو عليه. قاله العيني جـ 2/ ص 375.

(ثم ذهب بهما) أي باليدين (إلى قفاه) بالقصر: مؤخر العنق، وألفها واو، والعرب تؤنثها، والتذكير أعم، قاله الأزهري، وقال ابن سيدَهْ: القفا وراء العنق أنثى، وقال اللحياني: القفا يذكر ويؤنث، وحكي عن عُكْل: هذه قفاه بالتأنيث، وحكى ابن جني المد في القفا وليست بالفاشية ولهذا جمع على أقفيه، أفاده في اللسان.

وفي المصباح: وجمعه على التذكير أقفيَة، وعلى التأنيث أقْفَاء، مثل أرجاء، قاله ابن السراج، وقد يجمع على قُفيّ، والأصل مثل فلوس، وعن الأصمعي أنه سمع ثلاث أقف، قال الزجاج: التذكير أغلب، وقال ابن السكيت: القفا مذكر، وقد يؤنث، وألفه واو، ولهذا يثنى قَفَوَين. اهـ.

(ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه) ليستوعب جهتي الشعر بالمسح، والمشهور عند من أوجب التعميم أن الأولى واجبة والثانية سنة.

وقال الحافظ: الظاهر أن قوله "بدأ بمقدم رأسه" الخ، من الحديث، وليس مدرجا من كلام مالك، ففيه حجة على من قال: السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس إلى أن ينتهي إلى مقدمه لظاهر قوله: "أقبل"، و"أدبر"، ويرد عليه أن الواو لا تقتضي الترتيب، وفي رواية للبخاري "فأدبر بيديه، وأقبل" فلم يكن في ظاهره حجة لأن الإقبال، والإدبار من الأمور الإضافية، ولم يعين ما أقبل إليه، ولا ما أدبر عنه، ومخرج

ص: 510

الطريقين متحد، فهما بمعنى واحد، وعينت رواية مالك البداءة بالمقدم، فيحمل قوله "أقبل" على أنه من تسمية الفعل بابتدائه، أي بدأ بقبل الرأس اهـ فتح جـ 1/ ص 351.

وقال ابن عبد البر: روى ابن عيينة هذا الحديث، فذكر فيه مسح الرأس مرتين، وهو خطأ، لم يذكره أحد غيره وقال: وأظنه تأوله على أن الإقبال مرة، والإدبار أخرى، اهـ زرقاني جـ 1/ ص 45 - 46.

قلت: وهذه الرواية تأتي في الباب 82 إن شاء الله تعالى.

(ثم غسل رجليه) زاد في رواية وهيب عند البخاري "إلى الكعبين" والبحث فيه كالبحث في قوله "إلى المرفقين".

والمشهور أن الكتب: هو العظم الناشز عند مُلتَقَى الساق والقدم، وحَكَى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك.

وروي عن ابن القاسم عن مالك مثله، والأول هو الصحيح الذي يعرفه أهل اللغة، وقد أكثر المتقدمون من الرد على من زعم ذلك، ومن أوضح الأدلة فيه حديثُ النعمان بن بشير الصحيح في صفة الصف في الصلاة: فرأيت الرجل منا يُلزق كعبه بكعب صاحبه، وقيل إن محمدًا إنما رأى ذلك في حديث قطع المحرم الخفين إلى الكعبين إذا لم يجد النعلين اهـ فتح جـ 1/ ص 351.

وقد رد البدر العيني ما قال الحافظ: بأن هذه الحكاية لم تنقل عن أبي حنيفة أصلا، بل نقلت عن محمد نفسه، وهو أيضا نقل غلط ولأنه فسر به حديث المحرم "إذا لم يجد النعلين، فيلبس الخفين، وليقطعهما بأسفل الكعبين" لا أنه فسر به آية الوضوء. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 511

مسائل تتعلق بحديث الباب

الأولى: في درجته: حديث الباب متفق عليه.

الثانية: فيمن أخرجه: حديث عبد الله بن زيد أخرجه الجماعة.

فأما المصنف: فأخرجه هنا 80، عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن القاسم، عن مالك، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه.

وفي 81 وفي الكبرى 74/ 103 عن عتبة بن عبد الله اليُحمدي، عن مالك به.

وفي 82، عن محمد بن منصور، عن سفيان عن عمرو به.

وأما البخاري: فأخرجه في الطهارة عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، وعن موسى بن إسماعيل، وسليمان بن حرب كلاهما عن وهيب، وعن خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، وعن مسدد، عن خالد بن عبد الله، وعن أحمد بن يونس، عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون: خمستهم عن عمرو بن يحيى به.

وأما مسلم: فأخرجه في الطهارة عن محمد بن الصباح، عن خالد بن عبد الله به.

وعن القاسم بن زكريا، عن خالد بن مخلد به، وعن إسحاق بن موسى، عن معن، عن مالك به، وعن عبد الرحمن بن بشْر بن الحَكَم، عن بهز بن أسد، عن وهيب به.

وأما أبو داود: فأخرجه فيه: عن مسدد به، وعن القعنبي، عن مالك به، وعن الحسن بن علي، عن أبي الوليد، وسهل بن حماد، كلاهما عن عبد العزيز بن الماجشون به.

ص: 512

وأما الترمذي: فأخرجه في الطهارة عن إسحاق بن موسى الأنصاري، به مختصرا "مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما، وأدبر" بهذه القصة "ثم غسل رجليه"، وعن ابن أبي عمر عن سفيان، عن عمرو بن يحيى به مختصرا، وعن يحيى بن موسى، عن إبراهيم بن موسى، عن خالد بن عبد الله الطحان به مختصرا.

وأما ابن ماجه: فأخرجه في الطهارة أيضا عن الربيع بن سليمان، وحرملة بن يحيى كلاهما عن محمد بن إدريس الشافعي، عن مالك به بتمامه، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أحمد بن عبد الله بن يونس،

عن الماجشون به، مختصرا، وعن علي بن محمد، عن زيد بن الحباب، عن خالد بن عبد الله به مختصرا، أفاده الحافظ المزي في تحفته جـ 1/ ص 343.

المسألة الثالثة: من فوائد الحديث:

غسل اليدين قبل شروعه في الوضوء مرتين أو ثلاثا، والمضمضة، والاستنشاق ثلاثا بثلاث غرفات، وغسل الوجه ثلاث مرات، وليس فيه خلاف، وغسل اليدين إلى المرفقين مرتين، وهو الذي بوب عليه المصنف، ومسح الرأس مستوعبا، وبداءة المسح بمقدم الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين.

وفيه جريان التلطف بين الشيخ وتلميذه، في قوله: هل تستطيع أن تريني الخ.

وجواز الاستعانة في إحضار الماء من غير كراهة، وفيه التعليم بالفعل لأنه أبلغ، وأن الاغتراف من الماء القليل لا يصير الماء مستعملا، لأن في رواية وهيب وغيره "ثم أدخل يده"، وفيه الاقتصار على مرة واحدة في مسح الرأس. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 513

‌81 - بَابُ صِفَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على كيفية مسح الرأس.

قال في اللسان: والمسح: إمرارك يدك على الشيء السائل، أو المتلطخ، تريد إذهابه بذلك، كمسحك رأسك من الماء، وجبينك من الرشح. اهـ.

وفي المصباح: مسحت الشيء بالماء مسحًا: أمررت اليد عليه، قال أبو زيد: المسح في كلام العرب يكون مسحًا، وهو إصابة الماء، ويكون غسلا، يقال: مسحت يدي بالماء إذا غسلتها، وتمسحت بالماء إذا اغتسلت اهـ.

والرأس: عضو معروف، وهو مذكر، وجمعه أرؤس، ورؤوس، مهموز في أكثر لغاتهم إلا بني تميم فإنهم يتركون الهمز لزومًا اهـ المصباح.

وفي اللسان: ورأس كل شيء أعلاه، والجمع في القلة: أرؤس، وآراس، على القلب، ورؤوس في الكثير، ولم يقلبوا هذه، ورؤس، الأخيرة على الحذف اهـ.

98 -

أَخْبَرَنَا عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مَالِكٍ، هُوَ ابْنُ أَنَسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ،: أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ: نَعَمْ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى، فَغَسَلَ يَدَيْهِ

ص: 514

مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ.

رجال الإسناد: خمسة

كلهم تقدموا في الباب الماضي إلا عتبة بن عبد الله.

وهو عتبة بن عبد الله بن عتبة اليُحْمدي، بضم التحتانية، الأزدي أبو عبد الله المروزي، روى عن مالك، وابن المبارك، وابن عيينة، والفضل بن موسى، وأبي غانم يونس بن نافع، وسعيد بن سالم القداح، وغيرهم، وعنه النسائي، وابن خزيمة، ومحمد بن علي الحكيم الترمذي، وإسحاق بن إبراهيم البستي، وأبو رجاء حاتم بن محمد بن حاتم، وأبو رجاء محمد بن حمدويه المروزي، والحسن بن سفيان، وجماعة.

قال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات.

قال ابن حمدويه: مات سنة 244، قلت: وقال مسلمة: مروزي ثقة. وفي "ت" صدوق من العاشرة، انفرد به المصنف.

شرح الحديث

مضى في الباب السابق.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله علي توكلت، وإليه أنيب.

ص: 515

‌82 - عَدَدُ مَسْحِ الرَّأْسِ

الظاهر من صنيع المصنف أنه لا يرى تعدد مسح الرأس، حيث إنه ذكر حديث سفيان الذي حكموا بخطائه، فكأنه يقول: لا يثبت في تعدد مسح الرأس حديث، بل الأحاديث الصحيحة ليس فيها ذكر العدد، فلا ينبغي تكراره.

99 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو ابْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي أُرِيَ النِّدَاءَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَيَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّتَيْنِ.

رجال الإسناد: خمسة

كلهم تقدموا في السند السابق إلا اثنين:

1 -

(محمد بن منصور) بن ثابت بن خالد الخزاعي، أبو عبد الله الجَوَّاز المكي، روى عن سفيان بن عيينة، ومروان بن عيينة، والوليد بن مسلم، وأبي سعيد مولى بني هاشم، وزيد بن الحباب، ومعاذ بن هشام، ويعقوب بن محمد الزهري، وبشر بن السري، وعبد الملك بن إبراهيم الجُدِّيّ، وغيرهم.

ص: 516

روى عنه النسائي، وروى أيضا عن زكريا السجزي عنه، وأبو حاتم الرازي ويعقوب بن شيبة، وعلي بن عبد العزيز، وعبد الله بن صالح البخاري، وأحمد بن علي الأبّار، وإبراهيم بن موسى، وزكريا ابن يحيى الساجي، وأبو بشر الدولابي، والمفضل بن محمد الجندي، ويحيى بن محمد بن صاعد، وآخرون.

قال الدارقطني: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، قال أبو بشر الدولابي: مات سنة 252، قال الحافظ: وقال النسائي في مشيخته: ثقة، انفرد به المصنف، وفي "ت" ثقة [10] وتقدم في 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة، أبو محمد الهلالي، مولاهم الكوفي، نزيل مكة، ثقة ثبت حجة، فقيه إمام من كبار [7] تقدم في 1/ 1.

قوله (عبد الله بن زيد الدي أري النداء) هكذا في رواية سفيان أن عبد الله هذا هو الذي أريَ النداء، وأجمعوا على تخطئة سفيان فيه، وممن خطأه المصنف قال: في كتاب الاستسقاء في (خروج الإمام إلى المصلَّى للاستسقاء) ما نصه: قال أبو عبد الرحمن: هذا غلط من ابن عيينة، وعبد الله بن زيد الذي أري النداء هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وهذا عبد الله بن زيد بن عاصم اهـ جـ 3/ ص 155.

ومنهم البخاري: قال: في (باب تحويل الرداء في الاستسقاء) ما نصه قال أبو عبد الله: كان ابن عيينة يقول: هو صاحب الأذان، ولكنه وهم؛ لأن هذا عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، مازن الأنصار، اهـ.

قال الحافظ: وقد اتفقا في الاسم، واسم الأب والنسبة إلى الأنصار، ثم الخزرج، والصحبة والرواية، وافترقا في الجد والبطن الذي من الخزرج، لأن حفيد عاصم من مازن، وحفيد عبد ربه من بلحارث بن الخزرج اهـ جـ 2/ ص 581.

ص: 517

وقد تقدم ترجمة عبد الله بن زيد بن عاصم، في باب "حد الغسل".

وأما عبد الله بن زيد الذي أُري الأذان، فهو عبد الله بن زيد بن عبد ربه بن ثعلبة بن زيد بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، أبو محمد المدني، وقيل في نسبه كير ذلك، شهد العَقَبة، وبدرا،

والمشاهد، وهو الذي أري النداء للصلاة في النوم، وكانت رؤياه في السنة الأولى بعد بناء المسجد، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وعنه ابنه محمد، وابن ابنه عبد الله بن محمد على خلاف فيه، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وقيل: لم يسمع منه، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال الترمذي، عن البخاري: لا

يعرف له إلا حديث الأذان، وقال يحيى بن بكير، وخليفة، وغير واحد: مات سنة 32، زاد يحيى وسنُّهُ 64.

قال الحافظ: وقال ابن عدي: لا نعرف له شيئا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديث الأذان، انتهى، وهذا يؤيد كلام البخاري، وهو المعتمد، وقد وجدت له أحاديث غير الأذان جمعتها في جزء، واغتر الأصفهاني بالأول فجزم به، وتبعه جماعة، فوهموا.

وقال الحاكم: الصحيح أنه قتل بأحد، والروايات عنه كلها منقطعة، كذا قال، وفي ترجمة عمر بن عبد العزيز من الحلية بسند صحيح، عن عبيد الله بن عمر العمري، قال: دخلت ابنة عبد الله بن زيد بن عبد ربه على عمر بن عبد العزيز، فقالت: أنا ابنة عبد الله بن زيد، شهد أبي بدرًا، وقتل بأحد، فقال: سليني ما شئت، فأعطاها. اهـ تهذيب التهذيب جـ 5/ ص 224.

قال الجامع عفا الله عنه: شرح الحديث واضح مما سبق وقوله: (ومسح برأسه مرتين) قال البيهقي: هكذا في مسح الرأس مرتين، وقد خالفه -

ص: 518

يعني سفيان- مالك، ووهيب، وسليمان بن بلال، وخالد الواسطي، وغيرهم، فرووه عن عمرو بن يحيى في مسح الرأس، إلا أنه قال: أقبل وأدبر اهـ السنن الكبرى جـ 1/ ص 64.

وقال ابن عبد البر: روى ابن عيينة هذا الحديث، فذكر فيه مسح الرأس مرتين، وهو خطأ لم يذكره أحد غيره، وقال: وأظنه تأوله على أن الإقبال مرة، والإدبار أخرى، اهـ نقله الزرقاني في شرحه على الموطأ جـ 1/ ص 46. والله أعلم سبحانه وتعالى أعلم، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بحديث الباب

الأولى: في درجته: هذا الحديث ضعيف للمخالفة المذكورة، وحاصلها، أن سفيان وقع له مخالفة للأكثرين في هذا الحديث سندًا ومتنًا، أما سندًا ففي قوله: الذي أري النداء، وأما متنًا ففي قوله: وغسل رجليه مرتين، ومسح برأسه مرتين، فأما الأول، والثالث، فصرحوا بتغليطه، وأما الثاني فلم أر من صرح به، والظاهر أنه كذلك، لأن غيره رواه إما مطلقًا، وإما مقيدًا بالثلاث، والله أعلم.

الثانية: في مذاهب العلماء في حكم تكرار مسح الرأس:

قال الإمام النووي رحمه الله: مذهب الشافعي، وأصحابه رضي الله عنهم استحباب الثلاث، وهو مذهب داود، ورواية عن أحمد، وحكاه ابن المنذر عن أنس بن مالك، وسعيد بن جبير، وعطاء، وزاذان، وميسرة رضي الله عنهم، وحكى ابن المنذر وأصحابنا عن ابن سيرين أنه قال: يمسح رأسه مرتين.

وقال أكثر العلماء: إنما يسن مسحة واحدة، هكذا حكاه عن أكثر العلماء الترمذي وآخرون، قال ابن المنذر: وممن قال به: عبد الله بن عمر، وطلحة بن مصرف، والحكَم، وحماد، والنخعي، ومجاهد،

ص: 519

وسالم بن عبد الله، والحسن البصري، وأصحاب الرأي، وأحمد، وأبو ثور رضي الله عنهم، وحكاه غير ابن المنذر عن غيرهم أيضًا، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأصحابهما، وسفيان الثوري، وإسحاق

بن راهويه، واختاره ابن المنذر.

فأما ابن سيرين فاحتج له بحديث الرُّبَيِّع بنت معوذ "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه مرتين"، وعن عبد الله بن زيد مثله.

وأما القائلون بمسحة واحدة: فاحتجوا بالأحاديث الصحيحة المشهورة في الصحيحين وغيرهما، من روايات جماعات من الصحابة في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه مسح رأسه مرة واحدة، مع غسله بقية الأعضاء ثلاثًا ثلاثًا".

منها: رواية عثمان، وابن عباس، وعبد الله بن زيد رضي الله عنهم، وروي ذلك أيضا من رواية عبد الله بن أبي أوفى، وسلمة بن الأكوع، والربيع بنت معوذ، وغيرهم، وقد قال أبو داود في سننه وغيره من الأئمة: الصحيح في أحاديث عثمان، وغيره مسح الرأس مرة، وقد سَلَّم لهم البيهقي هذا واعترف به، ولم يُجب عنه، مع أنه المعروف بالانتصار لمذهب الشافعي رضي الله عنه.

قالوا: ولأنه مسح واجب، فلم يسن تكراره كمسح التيمم والخف، ولأن تكراره يؤدي إلى أن يصير المسح غسلًا، ولأن الناس أجمعوا قبل الشافعي على عدم التكرار، فقوله خارق للإجماع.

واحتج الشافعي وأصحابه بأحاديث وأقيسة:

أحدها: وهو الذي اعتمده الشافعي، حديث عثمان رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا" رواه مسلم، ووجه الدلالة منه أن قوله:"توضأ" يشمل المسح والغسل، وقد منع البيهقي وغيره الدلالة من هذا،

ص: 520

لأنها رواية مطلقة، وجاءت الروايات الثابتة في الصحيح المفسرة مصرحة بأن غسل الأعضاء ثلاثًا ثلاثًا ومسح الرأس مرة، فصرحوا بالثلاث في غير الرأس، وقالوا في الرأس: ومسح برأسه، ولم يذكروا عددًا ثم قالوا بعده: وغسل رجليه ثلاثا ثلائا، وجاءت في روايات في الصحيح "ثم غسل يديه ثلاثًا، ثم مسح برأسه مرة، ثم غسل رجليه ثلاثًا ثلاثًا" فلم يبق فيه دلالة.

الحديث الثاني: عن عثمان رضي الله عنه "أنه توضأ فمسح رأسه ثلاثًا، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ هكذا" رواه أبو داود بإسناد حسن، وقد ذكر أيضًا الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله أنه حديث حسن.

وربما ارتفع من الحسن إلى الصحة بشواهده وكثرة طرقه: فإن البيهقي وغيره رووه من طرق كثيرة غير طريق أبي داود.

الحديث الثالث: عن علي رضي الله عنه "أنه توضأ فمسح رأسه ثلاثا ثم قال: هكذا رأيت رسول الله فعل" رواه البيهقي من طرق، وقال: أكثر الرواة رووه عن علي رضي الله عنه دون ذكر التكرار، قال: وأحسن ما روي عن علي رضي الله عنه فيه: ما رواه عنه ابنه الحسن بن علي رضي الله عنهما، فذكره بإسناده عنه، وذكر مسح الرأس ثلاثا، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، وإسناده حسن.

وروي عن أبي رافع، وابن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه مسح رأسه ثلاثا".

وأما الأقيسة فقالوا: أحد أعضاء الطهارة، فيسن تكراره كغيره، وقالوا: ولأنه إيراد أصل على أصل، فسن تكراره كالوجه.

وأما الجواب عما احتج به ابن سيرين من حديث الربيع فمن أوجه:

ص: 521

أحدها: أنه ضعيف، رواه البيهقي، وغيره من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو ضعيف عند أكثر أهل الحديث.

والثاني: لو صح لكان حديث الثلاث مقدما عليه لما فيه من الزيادة.

والثالث: أنه محمول على بيان الجواز، وأحاديث الثلاث للاستحباب جمعا بين الأحاديث.

وأما حديث عبد الله بن زيد فرواه النسائي بإسناد صحيح، والجواب عنه من الوجهين الأخيرين، وقد أشار البيهقي إلى منع الاحتجاج به من حيث أن سفيان بن عيينة انفرد عن رفقته فرواه مرتين، والباقون رووه مرة، فعلى هذا يجاب عنه بالأجوبة الثلاثة.

وأما دليل القائلين بمسحة واحدة فأحسن الأجوبة عنها أنه نقل عن رواتها المسح ثلاثا، وواحدة، فوجب الجمع بينها، فيقال: الواحدة لبيان الجواز، والثنتان لبيان الجواز، وزيادة الفضيلة على الواحدة، والثلاث للكمال والفضيلة، ويؤيد هذا أنه روي الوضوء على أوجه كثيرة، فروي على هذه الأوجه المذكورة، وروي غسل بعض الأعضاء مرة، وبعضها مرتين.

وروي على غير ذلك، وهذا يدل على التوسعة، وأنه لا حرج كيف توضأ على أحد هذه الأوجه، ولم يقل أحد من العلماء يستحب غسل بعض الأعضاء ثلاثا، وبعضها مرتين مع أن حديثه هكذا في الصحيحين، فعلم بذلك أن القصد بما سوى الثلاث بيان الجواز، فإنه لو واظب النبي صلى الله عليه وسلم على الثلاث لظن أنه واجب، فبين في أوقات الجواز بدون ذلك وكرر بيانه في أوقات، وعلى أوجه ليستقر معرفته، ولاختلاف الحاضرين الذين لم يحضروا الوقت الآخر.

فإن قيل: فإذا كانت الثلاث أفضل، فكيف تركه في أوقات؟

ص: 522

فالجواب: ما قدمناه أنه قصد صلى الله عليه وسلم البيان، وهو واجب عليه صلى الله عليه وسلم فثوابه فيه أكثر، وكان البيان بالفعل آكد، وأقوى في النفوس، وأوضح من القول وأما قول أبي داود وغيره فجوابه من وجهين:

أحدهما: أنه قال: الأحاديث الصحاح، وهذا حديث حسن غير داخل في قوله.

والثاني: أن عموم إطلاقه مخصوص بما ذكرناه من الأحاديث الحسان وغيرها. اهـ خلاصة ما في المجموع جـ 1/ ص 433 - 436.

وقال العلامة الشوكلاني رحمه الله نقلا عن الحافظ رحمه الله بعد ذكر استدلال من استحب التثليث بحديث علي، وعثمان أنهما مسحا ثلاث مرات، ما نصه:

وفي كلا الحديثين مقال: أما حديث علي، فمن طرق منها عند الدارقطني من طريق عبد بن خير من رواية أبي يوسف، عن أبي حنيفة، عن خالد بن علقمة، عنه، وقال: إن أبا حنيفة خالف الحفاظ في ذلك، فقال: ثلاثا، وإنما هو مرة واحدة، وهو أيضا عند الدارقطني من طريق عبد الملك بن سلع، عن عبد خير بلفظ "ومسح برأسه وأذنيه ثلاثا".

ومنها عند البيهقي في الخلافيات من طريق أبي حية، عن علي، وأخرجه البزار أيضا، ومنها عند البيهقي في السنن من طريق محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن علي في صفة الوضوء، قال البيهقي: كذا قال ابن وهب، عن ابن جريج عنه، وقال حجاج عن ابن جريج:"ومسح برأسه مرة واحدة".

ومنها عند الطبراني في مسند الشاميين عن عثمان بن سعيد الخزاعي،

ص: 523

عن علي في صفة الوضوء، وفيه عبد العزيز بن عبيد الله، وهو ضعيف.

وأما حديث عثمان: فرواه أبوداود، والبزار، والدراقطني، بلفظ "فمسح رأسه ثلاثا، وفي إسناده عبد الرحمن بن وَرْدَان، قال أبو حاتم: ما به بأس، وقال ابن معين: صالح، وذكره ابن حبان في الثقات، وتابعه هشام بن عروة، عن أبيه، عن حمران، أخرجه البزار، وأخرجه أيضا من طريق عبد الكريم، عن حمران بإسناد ضعيف، ورواه أيضا من حديث أبي علقمة مولى ابن عباس عن عثمان، وفيه ضعف، ورواه أبو داود، وابن خزيمة، والدارقطني أيضا من طريق عامر بن شقيق، عن شقيق بن سلمة، قال: رأيت عثمان غسل ذراعيه ثلاثا، ومسح برأسه ثلاثا، ثم قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل هذا" وعامر بن شقيق مختلف فيه، ورواه أحمد، والدارقطني، وابن السكن من حديث ابن دارة، عن عثمان، وابن دارة مجهول الحال، ورواه البيهقي من حديث عطاء بن أبي رباح، عن عثمان، وفيه انقطاع، ورواه الدارقطني من طريق ابن البَيْلمَاني، عن أبيه، عن عثمان، وابن البيلماني ضعيف جدًا، وأبوه ضعيف أيضًا.

ورواه أيضًا من حديث عبد الله بن جعفر، عن عثمان، وفيه إسحاق بن يحيى، وليس بالقوي، وروى البزار من طريق خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، عن عثمان، أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا، وإسناده حسن، وهو عند مسلم، والبيهقي من وجه آخر هكذا، دون التعرض للمسح، وقد قال أبو داود: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على مسح الرأس مرة، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا، وقالوا فيها:

ص: 524

"ومسح رأسه" ولم يذكروا عددًا كما ذكروا في غيره، وقال البيهقي: روي من أوجه غريبة عن عثمان، وفيها: مسح الرأس ثلاثا، إلا أنها مع خلاف الحفاظ الثقات ليست بحجة عند أهل المعرفة، وإن كان بعض أصحابنا يحتج بها، ومال ابن الجوزي في كشف المشكل، إلى تصحيح التكرير.

فائدة: قال أبوعبيد القاسم بن سلام: لا نعلم أحدا من السلف جاء عنه استكمال الثلاث في مسح الرأس إلا عن إبراهيم التيمي.

قال الحافظ: قلت: قد رواه ابن أبي شيبة، عن سعيد بن جبير، وعطاء، وزاذان، وميسرة، وأورده أيضا من طريق أبي العلاء عن قتادة عن أنس.

وأغرب ما يذكر هنا أن الشيخ أبا حامد الإسفرايني حكى عن بعضهم أنه أوجب الثلاث، وحكاه صاحب الإبانة عن ابن أبي ليلى اهـ تلخيص جـ 1/ ص 85.

قال العلامة الشوكاني: والإنصاف: أن أحاديث الثلاث لم تبلغ درجة الاعتبار حتى يلزم التمسك بها لما فيها من الزيادة، فالوقوف على ما صح من الأحاديث الثابتة في الصحيحين، وغيرهما من حديث عثمان، وعبد الله بن زيد، وغيرهما هو المتعين، لا سيما بعد تقييده في تلك الروايات السابقة بالمرة الواحدة.

وحديث "من زاد على هذا، فقد أساء وظلم" الذي صححه ابن خزيمة، وغيره قاض بالمنع من الزيادة على الوضوء الذي قال بعده النبي صلى الله عليه وسلم هذه المقالة، كيف، وقد ورد في رواية سعيد بن منصور في هذا الحديث التصريح بأنه مسح مرة واحدة، ثم قال:"من زاد" قال الحافظ في الفتح: ويُحمَل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح إن صحت على

ص: 525

إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنها مسحات مستقلة لجميع الرأس، جمعا بين الأدلة اهـ نيل الأوطار جـ 1/ ص 340.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ، وقرره الشوكاني رحمهما الله تعالى، نهاية التحقيق، وخلاصة التوفيق، والله محبحانه وتعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 526

‌83 - بَابُ مَسْحِ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية مسح المرأة رأسها في الوضوء، وفي كيفيته.

وقد تقدم معنى المسح، والرأس، وأما المرأة، فمؤنث المرء، قال في المصباح: والمرء الرجل بفتح الميم، وضمها لغة، فإن لم تأت بالألف والسلام قلت: امرؤ وامرآن، والجمع رجال، من غير لفظه، والأنثى: امرأة بهمز وصل، وفيها لغة أخرى: مَرْأة، وزان تمرة، ويجوز نقل حركة هذه الهمزة إلى الراء فتحذف وتبمَى مَرَة، وزان سَنَة، وربما قيل فيها: امرأ بغير هاء اعتمادًا على قرينة تدل على المسمى قال الكسائي: سمعت امرأة من فصحاء العرب تقول: أنا امرأ أريد الخير، بغير هاء، وجمعها نساء، ونسوة من غير لفظها، اهـ المصباح جـ 2/ ص570.

100 -

أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ جُعَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ سَالِمٌ سَبَلَانُ، قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَسْتَعْجِبُ بِأَمَانَتِهِ وَتَسْتَأْجِرُهُ، فَأَرَتْنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ، فَتَمَضْمَضَتْ، وَاسْتَنْثَرَتْ ثَلَاثًا، وَغَسَلَتْ

ص: 527

وَجْهَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَتْ يَدَهَا الْيُمْنَى ثَلَاثًا، وَالْيُسْرَى ثَلَاثًا، وَوَضَعَتْ يَدَهَا فِي مُقَدَّمِ رَأْسِهَا، ثُمَّ مَسَحَتْ رَأْسَهَا مَسْحَةً وَاحِدَةً إِلَى مُؤَخَّرِهِ، ثُمَّ أَمَرَّتْ يَدَيْهَا بِأُذُنَيْهَا، ثُمَّ مَرَّتْ عَلَى الْخَدَّيْنِ. قَالَ سَالِمٌ: كُنْتُ آتِيهَا مُكَاتَبًا، مَا تَخْتَفِي مِنِّي فَتَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيَّ، وَتَتَحَدَّثُ مَعِي حَتَّى جِئْتُهَا ذَاتَ يَوْمٍ، فَقُلْتُ: ادْعِي لِي بِالْبَرَكَةِ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ قُلْتُ أَعْتَقَنِي اللهُ. قَالَتْ: بَارَكَ اللهُ لَكَ. وَأَرْخَتِ الْحِجَابَ دُونِي، فَلَمْ أَرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(الحسين بن حريث) بن الحسين بن ثابت بن قطبة الخزاعي مولاهم أبو عمار المروزي، روى عن الفضل بن موسى السيناني، والفضيل بن عياض، وابن عيينة، وابن المبارك، وجرير، وسعيد القداح، وابن علية، والدراوردي، وابن أبي حاتم، والوليد بن مسلم، ووكيع، وغيرهم، وعنه الجماعة سوى ابن ماجه، وسوى أبي داود، فكتابةً، وحامد بن شعيب البلخي، وابن خزيمة، وأبو أحمد الفراء، والذهلي، وأبو زرعة، وأبو الضريس، وأحمد بن علي الأبَّار، والحسن بن سفيان، وابن أبي الدنيا، ومُطَيَّن، ومحمد بن هارون

ص: 528

الحضرمي، والبغوي، وابن صاعد، وعدة.

قال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال السراج: مات بعد 200 منصرفا من الحج سنة 244، وفي "ت" ثقة [10] أخرج له الجماعة، إلا ابن ماجه.

2 -

(الفضل بن موسى) السيناني

(1)

، أبو عبد الله المروزي مولى بني قطيعة، بضم القاف وفتح الطاء.

روى عن إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وهشام بن عروة، وعبيد الله، وعبد الله ابني عمر، وطلحة بن يحيى بن طلحة، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، وعبد الحميد بن جعفر، وحنظلة بن أبي سفيان، والجعيد بن عبد الرحمن، وغيرهم.

وعنه إسحاق بن راهويه، وإبراهيم بن موسى الرازي، وأبو عمار الحسين بن حريث، ويوسف بن عيسى المروزي، ومعاذ بن أسد، وآخرون.

قال ابن معين، وابن سعد: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق صالح، وقال علي بن خشرم: سألت وكيعًا عنه؟ فقال: أعرفه ثقة، صاحب سنة، وقال ابن الأنباري، عن أبي نعيم: هو أثبت من ابن المبارك،

وقال أبو إسماعيل الترمذي: سمعت أبا نعيم ذكره، فقال: كان والله عاقلًا لبيبًا، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان مولده سنة 115، ومات سنة إحدى، أو اثنتين، وتسعين ومائة.

قال الحافظ: وقال أبو رجاء محمد بن حمدويه السبخي: مات في ربيع الأول سنة اثنتين، وقال الحاكم: هو كبير السن عالي الإسناد، إمام من أئمة عصره في الحديث، وقال ابن شاهين في الثقات: كان ابن

(1)

بكسر السين المهملة ثم تحتانية ثم نونين نسبة إلى سينان قرية من قرى خراسان أفاده في المغني.

ص: 529

المبارك يقول: حدثني الثقة، يعنيه، وقال البخاري: فضل بن موسى مروزي، أبو عبد الله، ثقة، وقال إبراهيم بن شماس: سألت وكيعا عن السيناني؟ فقال: ثَبْت سمع الحديث معنا، لا تبالي سمعت الحديث منه، أو من ابن المبارك، وقال عبد الله بن علي بن المديني: سألت أبي عن حديث الفضل بن موسى، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهر سيفه فدمه هدر"؟ فقال: منكر ضعيف، وقال عبد الله أيضا: سألت أبي عن الفضل، وأبي تميلة؟ فقدم أبا تميلة، وقال: رَوَى الفضلُ مناكيرَ. روى له الجماعة. وفي "ت" ثبت، وربما أغرب من كبار [9] مات في ربيع الأول 192.

3 -

(جعيد بن عبد الرحمن) بالتصغير هو الجعد بن عبد الرحمن بن أوس، ويقال: أويس الكندي المدني، ويقال: التميمي، وقد ينسب إلى جده.

روى عن السائب بن يزيد، وعائشة بنت سعد، ويزيد بن خصيفة، وغيرهم.

وعنه سليمان بن بلال، والدراوردي، وحاتم بن إسماعيل، والقطان، ومكي بن إبراهيم، وغيرهم، قال ابن معين والنسائي: ثقة.

قال البخاري: قال مكي سمعت منه سنة 144.

قال الحافظ: وذكره ابن حبان في الثقات في التابعين، ثم أعاده في أتباعهم، وقال: روى عن السائب بن يزيد إن كان سمع منه، انتهى.

ولا معنى لشكه في ذلك، فقد أخرج له البخاري بسماعه من السائب، وذلك في الطهارة، وقال ابن المديني: لم يرو عنه مالك، قال الساجي: أحسبه لصغره، وكناه الباجي في رجال البخاري، أبا زيد، وذكره الأزدي في الجعيد مصغرا، وقال: فيه نظر اهـ تهذيب التهذيب.

ص: 530

أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. وفي "ت" ثقة من الخامسة.

4 -

(عبد الملك بن مروان بن الحارث بن أبي ذباب) بضم المعجمة، وموحدتين، الأولى خفيفة، الدوسي المدني، روى عن أبي عبد الله سالم سَبَلان، عن عائشة في صفة الوضوء، وعنه الجعد بن عبد الرحمن، قال الحافظ: ذكره ابن حبان في الثقات، اهـ تهذيب التهذيب، روى له النسائي، وفي التقريب: مقبول من السادسة.

5 -

(أبو عبد الله سالم سبلان) هو سالم بن عبد الله النَّصْري

(1)

، وهو سالم مولى شداد بن الهاد، وهو سالم مولى النصريين، وهو سالم مولى مالك ابن أوس بن الحدثان، وهو سالم مولى دوس، وهو سالم

أبو عبد الله الدوسي، وهو سالم مولى المَهْري

(2)

، وهو أبو عبد الله الذي رَوَى عنه بكير بن الأشج.

روى عن عثمان، وأبي هريرة، وعائشة، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأبي سعيد الخدري.

وعنه: بكير بن الأشج، وسعيد المقبري، وسعيد بن مسلم بن بَانَك، وعبد الملك بن مروان بن الحارث بن أبي ذباب، وأبو الأسود يتيم عروة، ومحمد بن عمرو بن علقمة، ونعيم المجمر، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، ويحيى بن أبي كثير، وعمران بن بشر بن محرز، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم، قال أبو حاتم: شيخ.

قال الحافظ: وأخرج له النسائي في الطهارة من طريق عبد الملك بن مروان بن أبي ذباب، قال: أخبرني أبو عبد الله سالم سبلان، وكانت

(1)

بفتح النون وسكون الصاد نسبة إلى قبيلة هوازن. أفاده في اللباب.

(2)

بفتح الميم وسكون الهاء نسبة إلى قبيلة أيضا، لباب.

ص: 531

عائشة تستعجب بأمانته إلى آخر ما ذكره المصنف.

وقال عبد الغني بن سعيد في إيضاح الإشكال: وهو الذي روى عنه أبو سلمة، فقال: ثنا أبو سالم، أو سالم مولى المهري، وقال العجلي: سالم مولى المهري، تابعي ثقة، وسالم مولى النصريين تابعي ثقة، وسالم سبلان تابعي ثقة، هكذا فرق بينهم.

وذكره ابن حبان في الثقات في موضعين، فقال: سالم أبو عبد الله مولى دوس، ثم قال: سالم بن عبد الله سبلان مولى مالك بن أوس، وذكر الحاكم أبو أحمد: أن مسلما والحسين القباني، وَهمَا حيث أخرجا سالم سبلان، وسالم مولى شداد كل واحد في ترجمة على الانفراد، وذكر ابن أبي عاصم أنه مات سنة 110، أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وفي "ت" صدوق من الثالثة.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواته ما بين مروزين، وهما الحسين والفضل، ومدنيين وهم الباقون.

شرح الحديث

(عن جعيد) بالتصغير، هو الجعد بالتكبير (بن عبد الرحمن) الكندي المدني، والتكبير أشهر من التصغير، ففي أسماء الرجال ذكروه في المكبر.

(قال: أخبرني عبد الملك بن مروان بن الحارث بن أبي ذباب) بضم الذال المعجمة المدني، انفرد به المصنف (قال: أخبرني أبو عبد الله سالم) اسمه (سبلان) بفتحتين لقبه، كما في القاموس، فيكون سالم مضافا بناء على القاعدة المشهورة أنه إذا اجتمع الاسم واللقب، وكانا مفردين، أي غير مركبين، وجب إضافة الاسم إلى اللقب عند

ص: 532

البصريين، قال ابن مالك:

وَإنْ يَكُونَا مُفْرَدَين فَأضفْ

حَتمًا وَإلا أتْبع الَّذي رَدفْ

ويكون سبلان مضافًا إليه مجرورًا بالفتحة، لكونه غير منصرف للعلمية، وزيادة الألف والنون، وأجاز الكوفيون الإتباع، فيكون سبلان مرفوعًا بدلا، أو عطف بيان لسالم.

(قال) سالم (وكانت عائشة تستعجب بأمانته) أي تتعجب من كونه أمينا، أي تستحسنه، وفيه التفات إذ الظاهر أن يقول: بأمانتي، ويحتمل أن يكون فاعل "قال" عبد الملك، فتكون الجملة معترضة بين الفعل ومفعوله، وقوله "فأرتني" مفعول "أخبرني" والفاء زائدة، والاحتمال الأول هو الظاهر.

(وتستأجره) أي تستعمله بالأجرة في تجارة، أو غيرها لكونه أمينا (فأرتني) عائشة (كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فتمضمضت، واستنثرت ثلاثا) هذا بيان للكيفية (وغسلت وجهها ثلاثا، ثم غسلت يدها اليمنى ثلاثا، واليسرى ثلاثا، ووضعت يدها) مفرد مضاف يعم اليدين، لقوله الآتي، ثم أمَرَّت يديها (في مقدم رأسها) يعني أنها ابتدأت المسح منه (ثم مسحت رأسها مسحة واحدة) فيه تصريح بأن مسح الرأس مرة واحدة (إلى مُوَخَّره) وقد تقدم ضبط مقدم، ومؤخر بصيغة اسم المفعول المضعف في 80/ 97 (ثم أمرت يديها بأذنيها) تعميمًا للرأس بالمسح (ثم مرت) وفي نسخة "أمرت" أي اليدين (على الخدين) تثنية خدّ بالفتح، قال في اللسان: والخَدَّان: جانبا الوجه، وهما ما جاوز مؤخر العين إلى منتهى الشدق، وقيل الخد من الوجه من لدن المحجر

(1)

إلى اللَّحْي من الجانبين جميعا، ومنه اشتق اسم المخَدَّة

(1)

المحجر مثال مجلس ما ظهر من النقاب من الرجل والمرأة من الجَفْن الأسفل، وقد يكون من الأعلى، وقال بعض العرب: هو ما دار بالعين من جميع الجوانب، وبدا من البُرْقُع، والجمع مَحَاجر اهـ المصباح جـ 1/ ص 122.

ص: 533

بالكسر، وهي المصدغة؛ لأن الخد يوضع عليها، وقيل الخدان: اللذان يكتنفان الأنف عن يمين وشمال، قال اللحياني: هو مذكر لا غير. اهـ.

قال السندي: ولعل ذلك يعني إمرار اليدين على الخدين لأنه قد تبقى عليهما بقية الماء، فيمر الإنسان اليد الخالي عليهما، أو إزالة له سيما في أيام البرد اهـ (قال سالم: كنت آتيها) أي عائشة رضي الله عنها (مكاتبا) منصوب على الحال أي في حال كتابتي.

قال السندي: وهذا مبني على أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولعله كان عبدا لبعض أقرباء عائشة، وأنها كانت ترى جواز دخول العبد على سيدته وأقربائها. اهـ.

(وما تختفي مني) أي تحتجب (فتجلس بن يدى، وتتحدث معي، حتى جئتها ذات يوم) أي يوما من الأيام فـ "ذات" مقحمة (فقلت: ادعي لي بالبركة يا أم المرمنين) أي اسألي الله تعالى أن يبارك لي في مستقبلي (قالت: وما ذاك) أي ما هو الشيء الحامل لطلب الدعاء مني بالبركة (قلت: أعتقني الله) أي أزال عني الرق، وأنعم علي بالحرية، فأردت أن يبارك لي في هذه النعمة الجسيمة (قالت: بارك الله لك) أي فيما أولاك (وأرخت الحجاب دوني) أي احتجبت مني (فلم أرها بعد ذلك اليوم) لكونه حرا غير جائز النظر إليها والله تعالى أعلم، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب

الأولى: في درجته: حديث الباب صحيح

(1)

.

الثانيهْ: فيمن أخرجه: هو مما انفرد به الصنف من الكتب الستة.

(1)

قال الشيخ الألباني: صحيح الإسناد. قلت: في سنده عبد الملك بن مروان، قال في "ت": مقبول: روى عنه الجعد بن عبد الرحمن، ووثقه ابن حبان، والراجح في مثل هذا صحة حديثه. والله تعالى أعلم.

ص: 534

الثالثة: في فوائده: مما يستفاد منه مشروعية تعميم المرأة رأسها بالمسح، وهو محل الترجمة، والتعليمُ بالفعل لكونه أبلغ، والمضمضةُ، والاستنثارُ ثلاثًا، وغسل الوجه ثلاثًا، وغسل اليدين ثلاثًا، والبداءة في

مسح الرأس بمقدمه، وكون المسح مرة.

المسألة الرابعة: قوله "ما تختفي مني الخ" فيه جواز نظر المكاتب إلى الأجنبية، وهي مسألة اختلف فيها العلماء.

قال الألوسي رحمه الله تعالى عند تفسير قوله تعالى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] ما نصه: أي من الإماء ولو كوافر، وأما العبيد فهم كالأجانب، وهذا مذهب أبي حنيفة، وأحد قولين في مذهب الشافعي رضي الله عنهما، وصححه كثير من الشافعية، والقول الآخر أنهم كالمحارم، وصحح أيضا.

قال: وإلى كون العبد كالأمة، ذهب ابن المسيب، ثم رجع عنه، وقال: لا تغرنكم آية النور، فإنها في الإناث، دون المذكور، وعلل بأنهم فحول، ليسوا أزواجا ولا محارم، والشهوة متحققة فيهم، لجواز

النكاح في الجملة كما في الهداية.

وروي عن ابن مسعود، والحسن، وابن سيرين، أنهم قالوا: لا ينظر العبد إلى شعر مولاته، وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، عن طاوس، أنه سئل هل يرى غلام المرأة رأسها وقدمها؟ قال: ما أحب ذلك إلا أن يكون غلاما يسيرا، فأما رجل ذو لحية فلا.

ومذهب عائشة، وأم سلمة رضي الله عنهما، وروي عن بعض أهل البيت رضي الله عنهم: أنه يجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما ينظر أولئك المُسْتَثْنَوْن، وروي عن عائشة أنها كانت تمتشط، وعبدها ينظر إليها، وأنها قالت لذكوان: إذا وضعتني في القبر، وخرجت فأنت حر.

ص: 535

وعن مجاهد: كانت أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم.

وأخرج أحمد في مسنده، وأبو داود، وابن مردويه، والبيهقي، عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة رضي الله عنها بعبد قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال:"إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك، وغلامك"

(1)

.

والذي يقتضيه ظاهر الآية: عدم الفرق بين الذكر والأنثى لعموم "ما" ولأنه لو كان المراد الإناث خاصة لقيل أو إمائهن، فإنه أخصر، ونص في المقصود، وإذا ضم الخبر المذكور إلى ذلك قوي القول بعدم الفرق، والتفصي عن ذلك صعب.

وخرج بإضافة الملك إليهن عبد الزوج، فهو والأجنبي سواء، قيل: وجعله بعضهم كالمحرم لقراءة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} اهـ المقصود من كلام الألوسي جـ 12/ ص 143 - 144.

قال الجامع: عندي أن الراجح قول من قال بجواز نظر العبد إلى سيدته إلى ما ينظر المستثنون في الآية، لظاهر الآية وصحة قصة فاطمة رضي الله عنها. فتبصر. والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

حديث صحيح. انظر صحيح أبي داود للعلامة الألباني، جـ 2، ص 774، رقم 3460.

ص: 536

‌84 - مَسْحُ الأُذُنَيْنِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية مسح الأذنين.

والأذنان: تثينة أذن بضمتين، وتسكن تخفيفا، وهي مؤنثة، والجمع الآذان قاله في المصباح.

قاعدة نافعة: فيما يذكر ويؤنث من الأعضاء، وما يجوز فيه الأمران، قال العلامة أحمد بن محمد بن علي المقري الفَيُّومي في كتابه المصباح المنير، في غريب الشرح الكبير: ما نصه:

(فصل) الأعضاء ثلاثة أقسام: الأول: يذكر، ولا يؤنث، والثاني: يؤنث، ولا يذكر، والثالث: جواز الأمرين.

القسم الأول: ما يذكر: الروح، والتذكير أشهر، والوجه، والرأس، والحلق، والشعر، وقصاصه، والفم، والحاجب، والصدغ، والصدر، واليافوخ، والدماغ، والخد، والأنف، والمنخر، والفؤاد، وحكى بعضهم تأنيث الفؤاد، فيقول: هي الفؤاد، قال ابن الأنباري: ولا أعلم أحدا من شيوخ اللغة حكى تأنيث الفؤاد.

واللِّحَى، والذَّقَن، والبطن، والقلب، والطِّحال، والخَصْر، والحَشَى، والظهر، والمرفق، والزند، والظفر، والثدي، والعُصْعُصُ، وكل اسم للفرج من الذكر والأنثى كالرَّكَب، والنحرُ، والكُوع، وهو طرف الزَّنْد الذي يلي الإبهام، والكُرْسُوعُ، وهو طرفه الذي يلي الخنصر، وشعر العين، وهو حرفها، وأصول منابت الشعر، والجَفْن، وهو غطاء العين من أسفلها، وأعلاها، والهُدْب وهو الشعر النابت في الشُّفْر والحجَاجُ

(1)

وهو العظم المشرف على غَار العين، والماقُ وهو طرف

(1)

بكسر الحاء المهملة.

ص: 537

العين، والنُّخَاع، وهو الخيط يأخذ من الهامة ثم ينقاد في فَقَار الصلب حتى يبلغ إلى عَجْب الذَّنَب، والَمصير

(1)

والنَّابُ، والضِّرْس، والناجذ، والضاحك، وهو الملاصق للناب، والعارض وهو الملاصق للضاحك، واللسان، وربما أنث على معنى الرسالة، والقصيدة من الشعر، وقال الفراء: لم أسمع اللسان من العرب إلا مذكرا، وقال أبو عمرو بن العلاء: اللسان يذكر، ويؤنث، والساعد من الإنسان.

القسم الثاني: ما يؤنث:

العين، وأما قول الشاعر:

وَالعَيْنُ بِالإِثْمِدِ الحَارِيِّ مَكْحُولُ

فإنما ذكّر مكحولا لأنه بمعنى كحيل، وكحيل فعيل، وهي إذا كانت متابعة للموصوف، لا يلحقها علامة التأنيث، فكذلك ما هو بمعناها، وقيل: لأن العين لا علامة للتأنيث فيها، فحملها على معنى الطَّرْف، والعرب تجتزي على تذكير المؤنث إذا لم يكن فيه علامة تأنيث، وقام مقامه لفظ مذكر، حكاه ابن السكيت، وابن الأنباري، وحكى الأزهري قريبًا من ذلك، وقولهم: كفٌّ مُخَضَّب على معنى ساعد مخضب، لكن قال ابن الأنباري: باب ذلك الشِّعرُ، ومنه الأذن، والكبد، وكبد القوس، والسماء، ونحو ذلك مؤنث أيضا، والأصبع، والعقب، لمؤخر القدم، والساق، والفخذ، واليد والرجل، والقدم، والكف، ونقل التذكير من لا يوثق بعلمه، والضلع، وفي الحديث "خلقت المرأة

من ضلع عوجاء" قال الفراء: وبعض عُكْل يذَكِّر، فيقول هو الذراع، والسن، وكذلك السنن من الكبر، يقال: كبرت سني، والوَرك، والأنملة، واليمين والشمال والكرش.

(1)

المصير: المعَى جمعه مُصْران، كرغيف، ورُغْفان. اهـ المصباح.

ص: 538

القسم الثالث: ما يذكر ويؤنث:

العنق مؤنثة في الحجاز مذكر في غيرهم، ولم يعرف الأصمعي التأنيث، وقال أبو حاتم: التذكير أغلب، لأنه يقال: للعنق: الهادي، والعاتق، حكى التأنيث الفراء، والأحمر، وأبو عبيدة، وابن السِّكِّيت، والقفا، والتذكير أغلب، وقال الأصمعي: لا أعرف إلا التأنيث، والمِعَى

(1)

، والتذكير أكثر، والتأنيث لدلالته على الجمع، وإن كان واحدًا، فصار كأنه جمع، ومن التذكير "المؤمن يأكل في معى واحد" بالتذكير، وهذا هو المشهور، رواية ولأنه موافق لما بعده من قوله "والكافر يأكل في سبعة أمعاء" بالتذكير، وبعضهم يرويه واحدة بالتأنيث، والإبهام، والتأنيث لغة الجمهور، وهو الأكثر والإبط، فيقال: هو الإبط، وهي الإبط، والعضد، فيقال: هو العضد، وهي العضد، والعجز من الإنسان، وأما النفس فإن أريد بها الروح فمؤنثة لا غير، قال تعالى {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] وإن أريد بها الإنسان نفسه، فمذكر، وجمعه أنفس، على معنى أشخاص، تقول: ثلاث أنفس، وثلاثة أنفس، وطباع الإنسان بالوجهين، والتأنيث أكثر، فيقال: طباع كريمة، ورحم المرأة مذكر على أكثر، لأنه اسم للعضو قال الأزهري: والرحم بيت منبت الولد، ووعاؤه في البطن، ومنهم من يحكي التأنيث، ورحم القرابة أنثى، لأنه بمعنى القربى، وهي القرابة، وقد يذكر على معنى النسب اهـ المصباح جـ 2/ ص 702 - 704.

101 -

أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ أَيُّوبَ الطَّالَقَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ

(1)

بكسر الميم وتخفيف العين المهملة، مقصورا.

ص: 539

- صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّةً مَرَّةً، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً. قَالَ: عَبْدُ الْعَزِيزِ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ ابْنَ عَجْلَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ: وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(الهيثم بن أيوب الطالَقَاني) أبو عمران السلمي، روى عن إبراهيم بن سعد، وحفص بن غياث، وفضيل بن عياض، ومعتمر بن سليمان، والوليد بن مسلم، وسعيد بن إبراهم بن أبي العطوف، وابن أبي فديك، وابن أبي زائدة، ويحيى بن سليم، ويزيد بن هارون.

وعنه النسائي، وموسى بن هارون الحافظ، والعباس بن أبي طالب، وعبد العزيز بن منيب، وجعفر الفريابي، ومحمد بن عبد الرحمن السامي، والفضل بن محمد الشعراني، وغيرهم.

قال النسائي: ثقة، وقال مرة: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال موسى بن هارون: مات بالطالقان سنة 238، وكان نبيلا من الرجال، اهـ تهذيب التهذيب، وفي "ت" ثقة من العاشرة،

تفرد به المصنف.

والطالقاني: بفتح الطاء واللام بينهما ألف هكذا ضبطه، في "ق" ومعجم البلدان، وفي اللباب، أن اللام ساكنة، وهي بلدة بين بلخ ومرو الرُّوذ، وبلدة أو كُورَة بين قَزْوين وأبْهَر، قاله في "ق".

ص: 540

2 -

(عبد العزيز بن محمد) بن عبيد بن أبي عبيد الدراوردي، أبو محمد المدني مولى جُهَينة، وقال ابن سعد: دَرَاوَرْد قرية بخراسان، وقال أبو حاتم، عن داود الجعفري: كان أصله من قرية من قرى فارس، يقال لها: دراورد، وقال البخاري: دار بجرد بفارس كان جده منها، وقال أحمد بن صالح: كان من أهل أصبهان، نزل المدينة، وكان يقول للرجل: إذا أراد أن يدخل أندرون

(1)

فلقبه أهل المدينة الدراوردي.

روى عن زيد بن أسلم، وشريك بن عبد الله، بن أبي نمر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وعمرو بن أبي عمرو، وثور ابن زيد الديلي، وحميد الطويل، وجعفر الصادق، والحارث بن فضيل، وربيعة، وسعد بن سعيد الأنصاري، وأبي حازم بن دينار، وسهيل بن أبي صالح، وغيرهم.

وعنه شعبة، والثوري، وهما أكبر منه، وإسحاق، وهو من شيوخه، والشافعي، وابن مهدي، وابن وهب، ووكيع، وداود بن عبد الله الجعفري، وعبد الله بن جعفر الرقي، والقعنبي، وأصبغ بن الفرج، وبشر بن الحكم، وسعيد بن منصور، والحميدي، وخلق.

قال مصعب الزبيري: كان مالك يوثق الدراوردي، وقال أحمد بن حنبل: كان معروفا بالطلب، وإذا حدث من كتابه، فهو صحيح، وإذا حدث من كتب الناس وَهمَ، وكان يقرأ من كتبهم فيخطئ، وربما قلب حديث عبد الله بن عمر يرويها عن عبيد الله بن عمر، وقال الدوري، عن ابن معين: الدراوردي أثبت من فليح، وابن أبي الزناد، وأبي أويس، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ليس به بأس، وقال

(1)

هكذا في الأصول، وأظنه تصحيفا من كلمة (أندرون درآ) ومعناها في العربية: أدخل داخل البيت، فلقب من كلمة دارا دراوردى اهـ من هامش تهذيب التهذيب.

ص: 541

أحمد بن أبي مريم، عن ابن معين: ثقة حجة، وقال أبو زرعة: سيء الحفظ، فربما حدث من حفظه الشيء فيخطئ، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن يوسف بن الماجشون، والدراوردي؟ فقال: عبد العزيز محدث، ويوسف شيخ، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال في موضع آخر. ليس به بأس، وحديثه عن عبيد الله بن عمر منكر، وقال ابن سعد: ولد بالمدينة، ونشأ بها، وسمع بها العلم والأحاديث، ولم يزل بها حتى مات سنة 187 وكان ثقة كثير الحديث، يغلط، قال المزي: روى له البخاري مقرونا بغيره.

قال الحافظ: حكى البخاري أنه مات سنة 89 وجزم به ابن قانع والقراب، وقال ابن حبان في الثقات: مات سنة 86 وكان يخطئ، وكان أبوه من دار بجرد مدينة بفارس، فاستثقلوا أن يقولوا: دار بجردي، فقالوا: دراوردي، وقد قيل: إنه من اندرانه، وقد قيل: إنه توفي سنة 82 انتهى، ووقع في سنن أبي داود في الجهاد: حدثنا النفيلي، ثنا عبد العزيز الاندراوردي، قال أبو حاتم السجستاني، عن الأصمعي: نسبوا إلى داربجرد الدراوردي، فغلطوا، قال أبو حاتم: والصواب درابي، أو جردي، ودرابي أجود، وقال العجلي: هذا ثقة، وقال الساجي: كان من أهل الصدق، والأمانة، إلا أنه كثير الوهم، قال: وقال أحمد: حاتم بن إسماعيل أحب إلي منه، وقال عمرو بن علي: حدث عنه ابن مهدي حديثا واحدا، وقال الزبير: حدثني عياش بن المغيرة بن عبد الرحمن: جاء الدراوردي إلى أبي يعرض عليه الحديث، فجعل يلحن لحنا منكرًا، فقال له أبي: ويحك إنك كنت إلى لسانك أحوج منك إلى هذا، وفي "ت" كان يحدث من كتب غيره، فيخطىء، قال النسائي حديثه عن عبيد الله منكر، من الثامنة أخرج له الجماعة.

3 -

(زيد بن أسلم) العدوي، أبو أسامة، ويقال: أبو عبد الله

ص: 542

المدني الفقيه مولى عمر.

روى عن أبيه، وابن عمر، وأبي هريرة، وعائشة، وجابر، وربيعة ابن عباد الديلي، وسلمة بن الأكوع، وأنس، وأبي صالح السمان، وبسر بن سعيد، والأعرج، وعلي بن الحسين، وغيرهم، وعنه أولاده الثلاثة: أسامة، وعبد الله، وعبد الرحمن، ومالك، وابن عجلان، وابن جريج، وسليمان بن بلال، وحفص بن ميسرة، وداود بن قيس الفراء، وأيوب السختياني، وجرير بن حازم، وعبيد الله بن عمر، وابن إسحاق، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير، ومعمر، وهشام بن سعد، والسفيانان، والدراوردي، وجماعة.

قال الدوري عن ابن معين: لم يسمع من جابر، ولا من أبي هريرة، وقال مالك عن ابن عجلان: ما هبت أحدا هيبتي زيد بن أسلم، وقال العطاف بن خالد: حدث زيد بن أسلم بحديث فقال له رجل: يا أبا أسامة عمن هذا؟ فقال: يا ابن أخي ما كنا نجالس السفهاء، وقال أحمد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن سعد، والنسائي، وابن خراش: ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة من أهل الفقه والعلم، وكان عالما بتفسير القرآن، قال خليفة، وغير واحد: مات سنة 136، زاد بعضهم في العشر الأول من ذي الحجة، وقيل غير ذلك.

قلت: وقال البخاري في تاريخه: قال زكريا بن عدي: ثنا هُشَيم، عن محمد بن عبد الرحمن القرشي، قال: كان علي بن الحسين يجلس إلى زيد بن أسلم، ويتخطا مجالس قومه، فقال له نافع بن جبير بن مطعم: تتخطا مجالس قومك إلى عبد عمر بن الخطاب، فقال علي: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه، وقال حماد بن زيد عن عبيد الله بن عمر: لا أعلم به بأسا، إلا أنه يفسر برأيه القرآن، ويكثر

منه، وقال الساجي: ثنا أحمد بن محمد، ثنا المطيعي، قال: قال ابن

ص: 543

عيينة كان زيد بن أسلم رجلا صالحا وكان في حفظه شيء، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، توفي قبل خروج محمد بن عبد الله بن الحسن، وقال أبو زرعة: لم يسمع من سعد، ولا من أبي أمامة، قال: وزيد بن أسلم عن عبد الله بن زياد، أو زياد عن علي مرسل، وقال أبو حاتم: زيد عن أبي سعيد مرسل، وذكره ابن حبان في الثقات، وذكر ابن عبد البر في مقدمة التمهيد ما يدل على أنه كان يدلس، وقال في موضع آخر: لم يسمع من محمود بن لبيد، اهـ تهذيب التهذيب ص 3 ص 395 -

397، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة عالم، يرسل من الثالثة.

4 -

(عطاء بن يسار) الهلالي أبو محمد المدني القاضي، مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أخو سليمان بن يسار، وعبد الملك بن يسار، وعبد الله بن يسار.

روى عن معاذ بن جبل، وفي سماعه منه نظر، وعن أبي ذر، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن الحكم السلمي، وأبي أيوب، وأبي قتادة، وأبي واقد الليثي، وأبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأبي رافع، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وعائشة، وأبي عبد الله الصنابحي، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وهو من أقرانه وجماعة.

وروى عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو من أقرانه، ومحمد بن عَمْرو بن عطاء، ومحمد بن عمرو بن حَلْحَلَة، وهلال بن علي، وزيد بن أسلم، وشريك بن أبي نمر، ومحمد بن أبي حرملة، وعمرو بن دينار، ومحمد بن إبراهيم التيمي، ويزيد بن عبد الله بن قسيط، وحبيب بن أبي ثابت، وصفوان بن سليم، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وآخرون.

ص: 544

قال البخاري، وابن سعد: سمع من ابن مسعود، وقال أبو حاتم:

لم يسمع منه، وقال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث سمع من أبي عبد الله الصنابحي، وأما

مالك فقال: عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي.

روى الواقدي أنه مات سنة ثلاث، أو أربع ومائة، وقال غيره: سنة 94، وقال ابن سعد: وهو أشبه، وقال عمرو بن علي، وغيره: مات سنة 103، وهو ابن 84، سنة، وقيل: توفي بالإسكندرية، وقال الحافظ: جزم بذلك ابن يونس في تاريخ مصر، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: قدم الشام فكان أهل الشام يكنونه بأبي عبد الله، وقدم مصر فكان أهلها يكنونه بأبي يسار، وكان صاحب قصص وعبادة، وفضل، كان مولده سنة 19، ومات سنة 103، وكان موته بالإسكندرية، وفي "ت" ثقة فاضل صاحب مواعظ وعبادة من صغار [3] أخرج له الجماعة.

5 -

(عبد الله بن عباس) البحر الحبر رضي الله عنهما تقدم في 27/ 31.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن شيخه ممن انفرد هو به من بين الستة، وأن رواته ما بين طالقاني، وهو شيخه، ومدنيين وهم الباقون، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن ابن عباس) رضي الله عنهما أنه (قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل يديه) الفاء تفسيرية لأن غسل يديه الخ، تفسير لتوضأ، يعني غسل كفيه (ثم تمضمض، واستنشق من غرفة واحدة) قيل: هو

ص: 545

بفتح الغين، وهو بالفتح مصدر للمرة من غرف، إذا أخذ الماء بالكف، وبالضم المغروف أي ملء الكف.

قال السندي: والوجه جواز الفتح، والضم، كما بها القراءة في قوله تعالى {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة: 249] وصفة الوَحْدَة على تقدير الفتح للتأكيد، وعلى الضم للتأسيس، وقيل: هما بمعنى المصدر، وقيل: بمعنى المغترف، وهو القدر الصالح في الكف بعد الاغتراف، وقيل: المفتوح للمصدر للمرة، والمضموم اسم للقدر الحاصل في الكف بالاغتراف اهـ عبارة السندي (وغسل وجهه وغسل يديه مرة بعد مرة) يعني غسل كل واحد من الوجه واليدين مرة مرة (ومسح برأسه وأذنيه مرة) فيه تصريح يكون مسح الرأس مرة واحدة، وكذا مسح الأذنين، وهو الذي ترجم له المصنف (قال عبد العزيز) بن محمد الدراوردي (وأخبرني من سمع ابن عجلان) هو محمد بن عجلان المدني صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة من الخامسة مات سنة 184 (يقول) جملة حالية من المفعول، أي حال كونه قائلا (في ذلك) أي مع ذلك يعني المذكور من صفة الوضوء (وغسل رجليه) يعني أنه زاد غسل الرجلين.

والحاصل أن عبد العزيز الدراوردي يروي حديث ابن عباس عن شيخين: أحدهما: زيد بن أسلم، وقد ساق المصنف متنه، والثاني من سمع عن ابن عجلان، وفيه زيادة غسل الرجلين، ورواية ابن عجلان

تأتي في الباب التالي إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب

الأولى: في درجته: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه البخاري.

ص: 546

الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:

أخرجه هنا 84/ 101، عن الهيثم بن أيوب، عن عبد العزيز، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وفي الكبرى عن قتيبة، عن عبد العزيز به. وفي 85/ 102، عن مجاهد بن موسى، عن عبد الله بن إدريس، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، به نحوه.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (خ د ت ق).

فأما البخاري: فأخرجه في الطهارة عن محمد بن عبد الرحيم، عن أبي سلمة منصور بن سلمة الخُزَاعي، عن سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم به.

وأما أبو داود فأخرجه في الطهارة عن عثمان بن أبي شيبة، عن محمد بن بشر، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم به.

وأما الترمذي: فأخرجه في الطهارة عن هنَّاد بن السَّريّ، عن ابن إدريس به، ببعضه.

وأما ابن ماجه: فأخرجه في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن إدريس به.

وعن عبد الله بن الجَرَّاح، وأبي بكر بن خَلاد، كلاهما عن الدراوردي، به، ببعضه.

وأخرجه الحاكم، والبيهقي.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: جواز الوضوء مرة مرة، وهو مُجمَع عليه، إذا عمَّ العضو، قال النووي رحمه الله: قد أجمع المسلمون على أن الواجب غسل

ص: 547

الأعضاء مرة مرة اهـ وكون الثلاث سنة، وجواز المضمضة، والاستنشاق من غرفة واحدة، وجواز مسح الرأس والأذنين بماء واحد، وسيأتي تمام البحث فيه في الباب التالي إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 548

‌85 - بَابُ مَسْحِ الأُذُنَيْنِ مَعَ الرَّأْسِ وَمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُمَا مِنَ الرَّأْسِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية مسح الأذنين، وتقدم ضبطهما حال كونه مع الرأس، وباب ذكر ما يستدل به من الحديث على كونها من جملة الرأس، فيمسحان معه.

102 -

أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَغَرَفَ غَرْفَةً، فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَرَفَ غَرْفَةً فَغَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ غَرَفَ غَرْفَةً فَغَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ غَرَفَ غَرْفَةً فَغَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ بَاطِنِهِمَا بِالسَّبَّاحَتَيْنِ، وَظَاهِرِهِمَا بِإِبْهَامَيْهِ، ثُمَّ غَرَفَ غَرْفَةً فَغَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ غَرَفَ غَرْفَةً فَغَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى.

رجال الإسناد: ستة

ص: 549

تقدموا إلا ثلاثة:

1 -

(مجاهد بن موسى) بن فَرُّوخ الخوارزمي، أبو علي الخُتَّلي

(1)

نزيل بغداد.

روى عن هُشَيم، ومروان بن معاوية، وابن عيينة، وعبد الله بن إدريس، وإبن علية، وابن مهدي، والوليد بن مسلم، ويونس بن محمد، وعثمان بن عمر بن فارس، وحجاج الأعور، وأبي النضر وغيرهم.

وعنه الجماعة سوى البخاري، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والذهلي، وإبراهيم الحربي، وإبراهيم بن الجنيد، وموسى بن هارون، وابن أبي الدنيا، والحسن بن سفيان، وأبو يعلى، وأبو القاسم البغوي، وآخرون. قال ابن محرز، عن ابن معين: ثقة، لا بأس به، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وقال صالح بن محمد: صدوق، وقال موسى بن محمد: صدوق، وقال النسائي: بغدادي ثقة، وأصله خراساني، وقال موسى ابن هارون: كان مولده فيما أرى سنة 58، وقال البغوي: مات في ربيع الأول سنة 244، ذكره ابن حبان في الثقات قلت: وقال: مات يوم الجمعة لتسع بقين من رمضان سنة 244، وكان عسر الحفظ، وهو الذي يقال له مجاهد بن موسى الخُتَّلي، كان أصله من خُتَّل خراسان، وقال مسلمة بن قاسم: كان ثقة، وفي "ت" ثقة من العاشرة، أخرج له الجماعة إلا البخاري.

2 -

(عبد الله بن إدريس) بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي، بسكون الواو، أبو محمد الكوفي ثقة فقيه عابد، من الثامنة مات سنة 192، وله بضع 70 سنة، أخرج له الجماعة.

(1)

بضم المحجمه وتشديد المثناه المفتوحه، نسبة إلى قرية على طريق خراسان، أفاده في اللباب.

ص: 550

3 -

(محمد بن عجلان) المدني القرشي، مولى فاطمة بنت الوليد بن ربيعة، أبو عبد الله، أحد العلماء العاملين، روى عن أبيه، وأنس بن مالك، وسلمان أبي حازم الأشجعي، وإبراهيم بن عبد الله بن حنين، ورجاء بن حيوة، وسُمَيّ مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، وصيفي مولى أبي أيوب، وعامر بن عبد الله بن الزبير وغيرهم.

وعنه صالح بن كيسان، وهو أكبر منه، وعبد الوهاب بن بخت، ومات قبله، وإبراهيم بن أبي عبلة، وهو من أقرانه، ومالك، ومنصور، وشعبة، وزياد بن سعد، والسفيانان، والليث، وسليمان ابن بلال، وابن لهيعة، وآخرون.

قال صالح بن أحمد، عن أبيه: ثقة، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: سمعت ابن عيينة يقول: حدثنا محمد بن عجلان، وكان ثقة، وقال أيضا: سألت أبي عن محمد بن عجلان، وموسى بن عقبة، فقال: جميعا ثقة، وما أقربهما، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وقدمه على داود بن قيس الفراء، وقال الدوري، عن ابن معين: ثقة أوثق من محمد بن عمرو، ما يشك في هذا أحد، كان داود ابن قيس يجلس إلى ابن عجلان يتحفظ عنه، وكان يقول: إنها اختلطت على ابن عجلان يعني أحاديث سعيد المقبري، وقال يعقوب بن شيبة: صدوق وسط، وقال أبو زرعة: ابن عجلان من الثقات، وقال أبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال الواقدي: سمعت عبد الله بن محمد بن عجلان يقول: حمل بأبي أكثر من ثلاث سنين.

قال: وقد رأيته، وسمعت منه، ومات سنة 8، أو تسع وأربعين ومائة، وكان ثقة كثير الحديث، وقال ابن يونس: قدم مصر، وصار إلى الإسكندرية، فتزوج بها امرأة فأتاها في دبرها، فشكته إلى أهلها،

ص: 551

فشاع ذلك فصاحوا به، فخرج منها، وتوفي بالمدينة سنة 48.

قال الحافظ: إنما أخرج له مسلم في المتابعات، ولم يحتج به، وقال

يحيى القطان عن ابن عجلان: كان سعيد المقبري يحدث عن أبي هريرة، وعن أبيه، عن أبي هريرة، وعن رجل، عن أبي هريرة، فاختلطت عليه، فجعلها كلها عن أبي هريرة، ولما ذكر ابن حبان في الثقات هذه القصة، قال: ليس هذا يوهن الإنسان به؛ لأن الصحيفة كلها في نفسها صحيحة، وربما قال ابن عجلان: عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، فهذا مما حمل عنه قديما قبل اختلاط صحيفته، فلا يجب الاحتجاج إلا بما رَوىَ عنه الثقات، وقال ابن سعد: كان عابدًا ناسكًا فقيهًا، وكانت له حلقة في المسجد وكان يفتي، وقال العجلي: مدني ثقة، وقال الساجي: هو من أهل الصدق، لم يحدث عنه مالك إلا يسيرا، وقال ابن عيينة: كان ثقة عالما، وقال العقيلي: يضطرب في حديث نافع، أخرج له مسلم، والأربعة، وفي "ت" صدوق اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، من الخامسة.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواته ثقات، وهم ما بين بغدادي، وهو شيخه، وكوفي، وهو ابن إدريس، ومدنيين وهم الباقون، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وهم ابن عجلان، وزيد وعطاء.

شرح الحديث

تقدم قريبا، ومحل الشاهد منه قوله:

(ثم، مسح برأسه وأذنيه باطنهما) بالجر بدل من أذنيه (بالسباحتين) قال السندي: السباحة، والمسبحة: الأصبع التي تلي الإبهام، سميت بذلك لأنها يشار بها عند التسبيح، وهذا اسم إسلامي، وضعوها مكان

ص: 552

السبابة، لما فيه من الدلالة على المكروه اهـ يعني أنه مسح باطن أذنيه بالسباحتين.

(وظاهرهما) بالجر أيضا عطفا على باطنهما (بإبهاميه) يعني أنه مسح ظاهر أذنيه بإبهاميه.

وقد تقدم ذكر ما يستفاد من الحديث في الباب السابق، فلا حاجة إلى إعادته. إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.

103 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ وَعُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ فَتَمَضْمَضَ، خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ فِيهِ، فَإِذَا اسْتَنْثَرَ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ أَنْفِهِ، فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ وَجْهِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَشْفَارِ عَيْنَيْهِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ يَدَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ يَدَيْهِ، فَإِذَا مَسَحَ بِرَأْسِهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رِجْلَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ كَانَ مَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ

ص: 553

وَصَلَاتُهُ نَافِلَةً لَهُ".

قَالَ قُتَيْبَةُ عَنِ الصُّنَابِحِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلاني ثقة ثبت [10] تقدم في 1/ 1.

2 -

(عتبة بن عبد الله) بن عتبة اليُحْمَدي

(1)

الأزدي أبو عبد الله المروزي.

روى عن مالك، وابن المبارك، وابن عيينة، والفضل بن موسى، وأبي غانم يونس بن نافع، وسعيد بن سالم القدَّاح وغيرهم.

وعنه النسائي، وابن خزيمة، ومحمد بن علي الحكيم الترمذي، وإسحاق بن إبراهيم البستي، وأبو رجاء حاتم بن محمد بن حاتم، وأبو رجاء محمد بن حمدويه المروزي، والحسن بن سفيان، وجماعة، قال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، قال ابن حمدويه: مات سنة 244، قال الحافظ: وقال مسلمة: مروزي ثقة. تقدم في 81/ 98.

3 -

(مالك) بن أنس الإمام الحجة الثبت [7] تقدم في 19/ 20.

4، 5 - (زيد بن أسلم، وعطاء بن يسار) تقدما 84/ 101.

6 -

(عبد الله الصنابحي) بضم الصاد المهملة، وفتح النون، وكسر الموحدة نسبة إلى صنابح بن زاهر، بطن من مراد، أفاده في اللباب.

(1)

بضم التحتانية اهـ خلاصة.

ص: 554

قال الحافظ في الإصابة: عبد الله الصنابحي مختلف فيه، قال مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله الصنابحي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا توضأ العبد المسلم خرجت خطاياه" الحديث كذا عند أكثر رواة الموطأ، وأخرجه النسائي من طريق مالك، ووقع عند مطرف، وإسحاق بن الطَّبَّاع، عن مالك بهذا السند، عن أبي عبد الله الصنابحي زادا أداة الكنية، وشذا بذلك، وأخرجه ابن منده من طريق أبي غَسَّان محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم بهذا السند عن عبد الله الصنابحي مثل رواية مالك، ونقل الترمذي، عن البخاري أن مالكا وَهمَ في قوله عن عبد الله الصنابحي، وإنما هو أبو عبد الله، وهو عبد الرحمن بن عُسَيلة، ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهره أن عبد الله الصنابحي لا وجود له، وفيه نظر، فقد روى سويد بن سعيد، عن حفص ابن ميسرة، عن زيد بن أسلم، حديثا غير هذا، وهو عن عطاء بن يسار أيضًا عن عبد الله الصنابحي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الشمس تطلع بين قرني شيطان" الحديث، وكذا أخرجه الدارقطني في غرائب مالك من طريق إسماعيل بن أبي الحارث، وابن منده من طريق إسماعيل الصائغ، كلاهما عن مالك، وزهير بن محمد، قالا: حدثنا زيد بن أسلم بهذا، قال ابن منده: رواه محمد بن جعفر بن أبي كثير، وخارجة بن مصعب، عن زيد.

قال الحافظ: وروى زهير بن محمد، وأبو غسان محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم بهذا السند حديثًا آخر عن عبد الله الصنابحي، عن عبادة بن الصامت في الوتر، أخرجه أبو داود، فورود عبد الله الصنابحي في هذين الحديثين من رواية هؤلاء الثلاثة عن شيخ مالك يدفع الجزم بوهم مالك فيه.

وقال العباس بن محمد الدُّوري، عن يحيى بن معين: عبد الله

ص: 555

الصنابحي الذي روى عنه المدنيون يشبه أن يكون له صحبة، وذكر ابن منده عن ابن أبي خيثمة قال: قال يحيى بن معين: عبد الله الصنابحي، ويقال: أبو عبد الله، وخالفه غيره، فقال: هذا عن أبي عبد الله، وذكر أبو عمر مثل هذا المحكي عن ابن معين، وقال: الصواب أبو عبد الله، إن شاء الله، وقال ابن السكن: يقال: له صحبة، معدود في المدنيين، وروى عنه عطاء بن يسار، وأبو عبد الله الصنابحي مشهور، روى عن أبي بكر، وعبادة، وليست له صحبة، وقد وهم ابن قانع فيه وَهَمًا فاحشًا، فزعم أن أباه الأعسر، فكأنه توهم أنه الصنابح بن الأعسر، وليس كما توهم. اهـ الإصابة جـ 2/ ص 377.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وهم ما بين بغلاني، ومروزي، ومدنيين، وأن شيخ المصنف عتبة بن عبد الله ممن انفرد هو به من بين الستة.

شرح الحديث

(عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا) بفتح الخاء جمع خَطيئة، على وزن فَعيلة، وهو جمع نادر، والخطيئة: الذنب على عمد، ولك أن تشدد الياء، لأن كل ياء ساكنة قبلها كسرة أو واو ساكنة قبلها ضمة، وهما زائدتان للمد، لا للإلحاق، ولا هما من نفس الكلمة، فإنك تقلب الهمزة بعد الواو واوًا، وبعد الياء ياء، وتدغم.

وحكى أبو زيد في جمعه خطائئ بهمزتين على فعائل.

والفعل أخطأ، وخَطىَء، وأخطأ يُخطئُ، إذا سلك الخطأ عمدًا وسهوًا، ويقال: خطئ بمعنى أخطأ، وقيل: خطىء إذا تعمد، وأخطأ

ص: 556

إذا لم يتعمد، ويقال لمن أراد شيئا، ففعل غيره، أو فعل غير الصواب: أخطأ.

وقال الأُموي: المخطئ، من أراد الصواب، فصار إلى غيره، والخاطئ: من تعمد لما لا ينبغي، وتقول: لأن تخطئ في العلم أيسر من أن تخطئ في الدين، ويقال: قد خَطئت إذا أثمت، فأنا أخطأ، وأنا خاطئ، قال المنذري: سمعت أبا الهيثم يقول: خطئت لماَ صنعه عمدًا، وهو الذنب، وأخطأت: لما صنعه خطَأ غير عمد، قال: والخطأ مهموز مقصور: اسم من أخطأت خَطَأً وإخْطَاءً، قال: وخَطِئت خِطْأ بكسر الخاء مقصورًا: إذا أثمت. اهـ من اللسان بتصرف.

وفي المصباح: قال أبو عبيدة: خَطئ خْطئا من باب عَلم، وأخطأ بمعنى واحد، لمن يذنب على غير عمد، وقال غيره: خَطئ في الدين، وأخطأ في كل شيء عامدا كان أو غير عامد، وقيل: خَطئ إذا تعمد ما

نهي عنه، فهو خاطئ، وأخطأ إذا أردا الصواب، فصار إلى غيره، فإن أراد غير الصواب، وفعله، قيل: قصده، أو تعمده، والخِطْء -يعني بكسر فسكون- الذنب تسميه بالمصدر. اهـ.

(من فيه) أي من فمه، قال السندي: أي خرجت خطايا فيه من فيه، فاللام بدل من المضاف إليه، أو للعهد بالقرينة المتأخرة، وهكذا فيما بعد، فلا يرد أن تمام الخطايا إذا خرجت من فيه، فماذا يخرج من سائر الأعضاء، وقد حملوا الخطايا على الصغائر. اهـ جـ 1/ ص 74.

وقال الباجي: يحتمل أن المضمضة كفارة لما يخص الفم من الخطايا، فعبر عن ذلك بخروجها منه، ويحتمل أن يعفو تعالى عن عقاب الإنسان بالذنوب التي اكتسبها وإن لم تختص بذلك العضو، وقال عياض: ذكْرُ خروج الخطايا استعارة لحصول المغفرة عند ذلك، لا أن الخطايا في

ص: 557

الحقيقة شيء يَحُلُّ في الماء، أي لأنها ليست بأجسام، ولا كائنة في أجسام، فتخرج حقيقة، وإنما هو تمثيل، شبه الخطايا الحاصلة باكتساب أعضائه بأجسام ردية امتلا بها وعاء أريد تنظيفه، فتخرج منه شيئًا فشيئًا. اهـ زرقاني على الموطأ جـ 1/ ص 67.

وقال ابن العربي في عارضة الأحوذي: قوله "خرجت الخطايا" يعني غفرت لأن الخطايا هي أفعال، وأعراض، لا تبقى، فكيف توصف بدخول أو بخروج، ولكن الباري لما أوقف المغفرة على الطهارة

الكاملة في العضو ضرب لذلك مثلًا بالخروج. اهـ.

وقال السيوطي في قوت المغتذي بعد نقل كلام ابن العربي هذا: ما لفظه: بل الظاهر حمله على الحقيقة، وذلك أن الخطايا تورث في الباطن والظاهر سوادًا يطلع عليه أرباب الأحوال والمكاشفات، والطهارة تزيله، وشاهد ذلك ما أخرجه المصنف يعني الترمذي، والنسائي، وابن ماجه والحاكم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن العبد إذا أذنب ذنبا نُكتَت في قلبه نكتة، فإن تاب ونزع واستغفر، صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، وذلك الران الذي ذكره الله في القرآن {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] وأخرج أحمد، وابن خزيمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحجرالأسود ياقوتة بيضاء من الجنة، وكان أشد بياضًا من الثلج، وإنما سودته خطايا المشركين" قال السيوطي: فإذا أثرت الخطايا في الحجر ففي جسد فاعلها أولى، فإما أن يقدر خرج من وجهه أثر خطيئته، أو السواد الذي أحدثته، وإما أن يقال: إن الخطيئة نفسها تتعلق بالبدن على أنها جسم لا عرض بناء على إثبات عالم المثال، وأن كل ما هو في هذا العالم عرض له صورة في عالم المثال، ولهذا صح عرض الأعراض على آدم عليه السلام، ثم الملائكة، وقيل لهم:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} [البقرة: آية 31] وإلا

ص: 558

فكيف يتصور عرض الأعراض لو لم يكن لها صورة تشخص بها، قال: ومن شواهده في الخطايا، ما أخرجه البيهقي في سننه عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن العبد إذا قام يصلي أتي بذنوبه، فجعلت على رأسه، وعاتقه، فكلما ركع، وسجد تساقطت عنه".

وأخرج البزار، والطبراني، عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم يصلي وخطاياه مرفوعة على رأسه كلما سجد تحاتت عنه" انتهى كلام السيوطي، قال العلامة المباركفوري: لا شك في أن الظاهر هو حملة على الحقيقة، وأما إثبات عالم المثال، فعندي فيه نظر، فتكر. اهـ تحفة الأحوذي جـ 1 ص 29.

قال الجامع: ما قاله العلامة المباركفوري رحمه الله حسن جدًا.

والحاصل أن حمله على الظاهر هو الصواب، كما دلت عليه النصوص المتقدمة. والله تعالى أعلم.

(فإذا استثثر) بوزن استفعل، أي أخرج ماء الاستنشاق (خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه، حتى تخرج من تحت أشفار عينيه) جمع شُفْر كقُفْل، وأقفال، وهو حرف

الجَفْن الذي ينبت عليه الهدب.

قال ابن قتيبة: والعامة تجعل أشفار العين الشعر، وهو غلط، وإنما الأشفار حروف العين التي ينبت عليها الشعر، والشعر الهدب، اهـ المصباح بتصرف.

وقال الباجي: جعل العينين مخرجًا لخطايا الوجه، دون الفم، والأنف، لأنهما يختصان بطهارة مشروعة في الوضوء دون العينين اهـ زرقاني جـ 1/ ص 68.

(فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يده) في المصباح: الظفر للإنسان مذكر، وفيه لغات، أفصحها بضمتين وبها قرأ السبعة في قوله تعالى {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146]

ص: 559

والثانية الإسكان للتخفيف، وقرأ بها الحسن البصري، والجمع أظفار، وربما جمع على أظفر مثل رُكْن وأرْكُن، والثالثة بكسر الظاء وزان حمل. والرابعة بكسرتين للإتباع، وقري بهما في الشاذ، والخامسة أظفور، والجمع أظافير، مثل أسبوع وأسابيع، اهـ

(فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه) قال الزرقاني: قال الباجي: جعلهما مخرجًا لخطايا الرأس مع إفرادهما بأخذ الماء لهما، ولم يجعل الفم والأنف مخرجًا لخطايا الوجه، لأنهما مقدمان على الوجه، فلم يكن لهما حكم التبع، وخرجت خطاياهما منهما قبل خروجها من الوجه، والأذنان مؤخران عن الرأس، فكان لهما حكم التبع اهـ، وفيه إشعار بأن خطايا الرأس متعلقة بالسمع، وأصرح منه حديث أبي أمامة عند الطبراني في الصغير "وإذا مسح برأسه كفر به ما سمعت أذناه" اهـ كلام الزرقاني جـ 1/ ص 68.

وقال السندي: والمصنف رحمه الله استدل بقوله "حتى تخرج من أذنيه" على أن الأذنين من الرأس، لأن خروج الخطايا منهما بمسح الرأس إنما يحسن إذا كانا منه، وعدل عن الحديث المشهور في هذه المسألة، وهو حديث "الأذنان من الرأس" لما قيل: إن حَمادًا تردد فيه أهو مرفوع، أم موقوف؟ وإسناده ليس بقائم، نعم قد جاء بطرق عديدة مرفوعا، فتقوى رفعه، وخرج من الضعف، لكن الاستدلال بما استدل به المصنف أجود، وأولى، وهذا من تدقيق نظره رحمه الله. اهـ كلام السندي.

قال الجامع: وسيأتي تحقيق هذه المسألة والحديث المذكور في المسائل الآتية آخر الباب إن شاء الله تعالى.

(فإن غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه، ثم كان مشيه إلى المسجد، وصلاته نافلة له) أي زيادة له

ص: 560

في الأجر على خروج الخطايا وغفرانها، ومعلوم ما في المشي، والصلاة من الثواب الجزيل. قاله الزرقاني.

وخص العلماء هذا ونحوه من الأحاديث التي فيها غفران الذنوب بالصغائر، أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة، وقد تقدم تحقيق القول في ذلك عند شرح حديث عثمان رضي الله عنه 68/ 84، وسيأتي أيضًا مزيد لذلك في المسائل إن شاء الله تعالى.

(قال قتيبة) بن سعيد في روايته (عن الصنابحي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال) يعني أن قتيبة خالف عُتْبَةَ بن عبد الله في روايته لهذا الحديث في قوله: الصنابحي، فإنه قال: عن عبد الله الصنابحي، وفي قوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وهذا من تدقيقات المصنف حيث نَبَّهَ فيما يختلف الأشياخ فيه من الألفاظ، فلله دره عالمًا. وبالله تعالى التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديثي الباب

المسألة الأولى: في درجتهما: أما حديث ابن عباس فتقدم أنه صحيح.

وأما حديث الصنابحي: فقد صححه الحاكم، لكن تقدم أن البخاري رجح إرساله، ومثله لابن عبد البر في التمهيد، لكن ذكر بعد ذكر حديث عبد الله الصنابحي حديث عمرو بن عَبَسَة بأسانيده، وهو مثل حديث الصنابحي، إلا أنه ليس فيه قوله:"فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه" قال أبو عمر: وإنما ذكرناها -يعني رواية عمرو بن عَبَسَة- ليُبين بها حديث الصنابحي، ويتصل، ويستند فلذا ذكرناها. اهـ جـ 4/ ص 57. يعني أنها تشهد لحديث الصنابحي فيتقوى بها، وإن كان مرسلا، والحاصل أن حديث الصنابحي صحيح لتقويه بما ذكر. والله أعلم.

المسألة الثانية: فيمن أخرجهما: أما حديث ابن عباس، فقد تقدم من أخرجه في الباب السابق، وأما حديث الصنابحي: فأخرجه الإمام

ص: 561

أحمد، وابن ماجه، والحاكم وصححه، وصححه أيضا الشيخ الألباني.

المسألة الثالثة: استدل المصنف رحمه الله بحديث الصنابحي على أن الأذنين يمسحان مع الرأس، وأنهما من الرأس، لأن قوله "حتى تخرج من أذنيه" يدل على أنهما داخلتان في مسماه.

وهذه المسألة، وهي مسألة كون الأذنين من الرأس اختلف فيها العلماء، قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في التمهيد: وأما اختلاف العلماء في حكم الأذنين في الطهارة، فإن مالكا قال فيما رَوَى عنه ابنُ وهب، وابن القاسم، وأشهب وغيرهم: الأذنان من الرأس، إلا أنه قال: يُستَأنف لهما ماء جديد سوى الماء الذي يمسح به الرأس، فوافق الشافعي في هذه، لأن الشافعي قال: يمسح الأذنين بماء جديد، كما قال مالك، ولكنه قال: هما سنة على حيَالهما، لا من الوجه، ولا من الرأس، وقول أبي ثور في ذلك كقول الشافعي سواءً حرفا بحرف، وقول أحمد بن حنبل في ذلك كقول مالك سواءً في قوله: الأذنان من الرأس، وفي أنهما يستأنف لهما ماء جديد.

وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: الأذنان من الرأس يمسحان بماء واحد، ورَوَى جماعة من السلف مثل ذلك القول من الصحابة والتابعين، وقال ابن شهاب الزهري: الأذنان من الوجه، وقال الشعبي: ما أقبل منهما من الوجه، وظاهرهما من الرأس، وبهذا القول قال الحسن بن حَيّ، وإسحاق بن راهويه: إن باطنهما من الوجه، وظاهرهما من الرأس، وحكيا عن أبي هريرة هذا القول، وعن الشافعي، والمشهور من مذهبه ما تقدم ذكره، رواه المزني، والربيع، والزعفراني، والبويطي، وغيرهم، وقد رُوي عن أحمد بن حنبل مثلُ قول الشافعي، وإسحاق في هذا أيضا، وقال داود: إن مسح أذنيه

ص: 562

فحسن، وإن لم يمسح فلا شيء عليه.

وأهل العلم يكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه، ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوجبون عليه إعادة، إلا إسحاق بن راهويه، فإنه قال: إن ترك مسح أذنيه عامدًا لم يجزه، وقال أحمد بن حنبل: إن تركهما عمدا أحببت أن يعيد، وقد كان بعض أصحاب مالك يقول: من ترك سنة من سنن الوضوء، أو الصلاة عامدا أعاد، وهذا عند الفقهاء ضعيف، وليس لقائله سلف، ولا له حظ من النظر، ولو كان كذلك لم يعرف الفرضُ الواجبُ من غيره، وقال بعضهم: من ترك مسح أذنيه، فكأنه ترك مسح بعض رأسه، وهو ممن يقول بأن الفرض مسح بعض الرأس، وأنه يجزئ المتوضئ مسح بعضه، وقوله هذا كله على أصل مذهب مالك الذي يقتدى به.

واحتج مالك، والشافعي، في أخذهما للأذنين ماء جديدا، بأن عبد الله بن عمر كان يفعل ذلك، وحجة أبي حنيفة، وأصحابه، ومن قال بقولهم: إن الأذنين يمسحان مع الرأس بماء واحد حديث زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كذلك فعل، وذلك موجود أيضا في حديث عبد الله الخولاني، عن ابن عباس، عن علي، في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حديث الرُّبَيّع بنت مُعَوِّذ بن عفراء، وفي حديث طلحة بن مصرف، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

واحتجوا أيضا بحديث الصنابحي هذا، قوله صلى الله عليه وسلم:"فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه" كما قال في الوجه "من أشفار عينيه"، وفي اليدين "من تحت أظفاره".

ومعلوم أن العمل في ذلك بماء واحد.

ص: 563

واحتجوا أيضا بما رواه أبو داود بسنده عن ابن عباس: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فذكر الحديث كله ثلاثا ثلاثا، وفيه قال: ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما، وباطنهما بمسحة واحدة، وأكثر الآثار على هذا، وقد يحتمل أنه مسح رأسه مرة واحدة، وأذنيه مرة واحدة، لأنه ذكر

الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، إلا الرأس والأذنيين.

وحجة من قال بغسل باطنهما مع الوجه، وبمسح ظاهرهما مع الرأس: أن الله قد أمر بغسل الوجه وهو مأخوذ متن المواجهة، فكل ما وقع عليه اسم وجه، وجب عليه غسله، وأمر عز وجل بمسح الرأس،

وما لم يواجهك من الأذنين من الرأس لأنهما، في الرأس، فوجب المسح على ما لم يواجه منهما مع الرأس.

قال أبو عمر: هذا قول ترده الآثار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمسح ظهور أذنيه وبطونهما من حديث علي، وعثمان، وابن عباس، والربيع بنت معوذ وغيرهم.

وحجة ابن شهاب في أنهما من الوجه، لأن ما لم ينبت عليه الشعر، فهو من الوجه، لا من الرأس إذا أدركته المواجهة، ولم يكن قفاء، والله قد أمر بغسل الوجه أمرا مطلقا، ويمكن أن يحتج له بحديث ابن أبي مليكة أنه رأى عثمان بن عفان ذكر صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ثلاثا،

قال: ثم أدخل يده فأخذ ماء فمسح به رأسه وأذنيه، فغسل ظهورهما وبطونهما.

ومن الحجة له أيضا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده: "سجد وجهي للذي خلقه، فشق سمعه وبصره" فأضاف السمع إلى الوجه، وهذا كلام محتمل للتأويل يمكن فيه الاعتراض.

وحجة الشافعي في قوله: إن مسح الأذنين سنة على حالهما،

ص: 564

وليستا من الوجه، ولا من الرأس: إجماعُ القائلين بإيجاب الاستيعاب في مسح الرأس أنه إن ترك مسح أذنيه، وصلى لم يعد، فبطل قولهم: إنهما من الرأس، لأنه لو ترك شيئا من رأسه عندهم لم يجزئه، وإجماع العلماء في أن الذي يجب عليه حلق رأسه في الحج ليس عليه أن يأخذ ما على أذنيه من الشعر، فدل ذلك على أنهما ليستا من الرأس، وأن مسحهما سنة على الانفراد، كالمضمضة، والاستنشاق.

قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: المعنى الذي يجب الوقوف على حقيقته في الأذنين: أن الرأس قد رأينا له حكمين: فما واجه منه كان حكمه الغسل، وما علا منه وكان موضعا لنبات الشعر كان حكمه المسح، واختلاف الفقهاء في الأذنين إنما هو هل حكمهما المسح كحكم الرأس، أو حكمهما الغسل كغسل الوجه، أو لهما من كل واحد منهما حكم، أو هما من الرأس فيمسحان معه؟ فلما قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث حديث الصنابحي "فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه" فأتى بذكر الأذنين مع الرأس، ولم يقل: إذا غسل وجهه خرجت الخطايا من أذنيه: علمنا أن الأذنين ليس لهما من حكم الوجه شيء لأنهما لم يذكرا معه، وذكرا مع الرأس، فإن حكمهما المسح كحكم الرأس، فليس يصح من الاختلاف في ذلك عندي إلا مسحهما مع الرأس بماء واحد، واستئناف الماء لهما في المسح، فإن هذين القولين محتملان للتأويل، وأما قول من أمر بغسلهما، أو غسل بعضهما فلا معنى له، وذلك مدفوع بحديث الصنابحي هذا، مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسحهما اهـ كلام الحافظ ابن عبد البر في التمهيد ببعض تصرف جـ 4/ ص 39 - 42.

وقد ذكر الإمام النووي رحمه الله في شرح المهذب في تفصيل هذه المسألة، وذكر المذاهب بأدلتها كلاما نفيسا، أحببت نقله، وإن كان جله

ص: 565

مذكورًا في كلام الحافظ بن عبد البر، لأن فيه زوائد مفيدة، وتفاصيل جيدة

(1)

.

قال رحمه الله:

(فرع): مذاهب العلماء في الأذنين: مذهبنا أنهما ليستا من الوجه، ولا من الرأس، بل عضوان مستقلان يسن مسحهما على الانفراد، ولا يجب، وبه قال جماعة من السلف، حكوه عن ابن عمر، والحسن، وعطاء، وأبي ثور، وقال الزهري: هما من الوجه، فيغسلان معه، وقال أكثرون: هما من الرأس.

قال ابن المنذر: رويناه عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي موسى، وبه قال عطاء، وابن المسيب، والحسن، وعمر بن عبد العزيز، والنخعي، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومالك، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد.

قال الترمذي: وهو قول أكثر العلماء من الصحابة، فمن بعدهم، وبه قال الثوري، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، واختلف هؤلاء: هل يأخذ لهما ماء جديدا، أم يمسح بماء الرأس؟ وقال الشعبي، والحسن ابن صالح: ما أقبل منهما، فهو من الوجه يغسل معه، وما أدبر فمن الرأس، يمسح معه، قاله ابن المنذر، واختاره إسحاق.

واحتج لمن قال: هما من الوجه، بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده "سجد وجهي الحذي خلقه، وشق سمعه وبصره" فأضاف السمع إلى الوجه، كما أضاف إليه البصر، واحتج من قال: هما من الرأس بقوله تعالى {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 150] وقيل المراد به

الأذن، واحتجوا بحديث شهر بن حوشب، عن أبي أمامة أن رسول الله

(1)

نقلت كلام النووي، وإن كنت لا أرجح ما ذهب إليه هو، لما ذكرته من تفصيل الأقوال بأدلتها فتفطن.

ص: 566

- صلى الله عليه وسلم قال: "الأذنان من الرأس" رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي، وغيرهم، وروي من رواية ابن عباس، وابن عمر، وأنس، وعبد الله بن زيد، وأبي هريرة، وعائشة، وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه، وقال بالوُسْطَيين من أصابعه في باطن أذنيه والإبهامين من وراء أذنيه.

واحتج للشعبي ومن وافقه بما روي عن علي رضي الله عنه أنه مسح رأسه ومؤخر أذنيه، ولأن الوجه ما حصلت به المواجهة، وهي حاصلة بما أقبل.

واحتج أصحابنا -يعني الشافعية- بأشياء أحسنها حديث عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أخذ لأذنيه ماء خلاف الذي أخذ لرأسه" وهو حديث صحيح، فهذا صريح في أنهما ليستا من الرأس إذ لو كانتا منه لما أخذ لهما ماء كسائر أجزاء الرأس، وهو صريح في أخذ ماء جديد

(1)

، فيحتج به أيضا على من قال: يمسحهما بماء الرأس، وفيه رد على من قال. هما من الوجه، فقد جمع هذا الحديث الصحيح الدلالة للمذهب والرد على جميع المخالفين، واحتجوا على من قال: هما من الوجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسحهما، ولم ينقل غسلهما مع كثرة رواة صفة الوضوء، واختلاف صفاته، ولأن الإجماع منعقد على أن المتيمم لا يلزمه مسحهما، قال القاضي أبو الطيب: ولأن الأصمعي، والمفضل بن سلمة قالا: الأذنان ليستا من الرأس، وهما إمامان من أجل أئمة اللغة، والمرجع في اللغة إلى نقل أهلها.

واحتجوا على من قال: هما من الرأس بأن الإجماع منعقد على أنه لا يجزئ مسحهما عن الرأس، بخلاف أجزائه، وبأنه لو قصر المحرم من شعرهما لم يجزئه عن تقصير الرأس بالإجماع، ولأنه عضو يخالف

(1)

يأتى الجواب عنه قريبًا.

ص: 567

الرأس خلقة وسمتا، فلم يكن منه كالخد، وقولنا: وسمتا: احتراز من النَّزَعة، ولأن الإجماع منعقد على أن البياض الدائر حول الأذن ليس من الرأس مع قربه، فالأذن أولى ولأنه لا يتعلق بالأذن شيء من أحكام الرأس سوى المسح، فمن ادعى أن حكمهما في المسح حكم الرأس فعليه البيان.

وأما الجواب عن احتجاج الزهري، فمن وجهين:

أحدهما: المراد بالوجه الجملة، والذات، كقوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ

(1)

} [القصص: 88] والدليل على هذا أن السجود حاصل بأعضاء أخر.

الثاني: أن الشيء يضاف إلى ما يقاربه، وإن لم يكن منه.

والجواب عما احتج به القائلون بأنهما من الرأس من الآية أنه تأويل للآية على خلاف ظاهرها، فلا يقبل، والمفسرون مختلفون في ذلك، فقيل: إن المراد الرأس، وقيل: الأذن، وقيل: الذؤابة، فكيف يحتج بها، والحالة هذه.

والجواب عن الأحاديث أنها ضعيفة متفق على ضعفها، مشهور في كتب الحديث تضعيفها إلا حديث ابن عباس فإسناده جيد، ولكن ليس فيه دليل لما ادعوه، لأنه ليس فيه أنه مسحهما بماء الرأس المستعمل في الرأس، قال البيهقي: قال أصحابنا: كأنه كان يعزل من كل يد أصبعين، فإذا فرغ من مسح الرأس مسح بهما أذنيه.

وأما الجواب عن احتجاج الشعبي بفعل علي، فمن أوجه.

أحدها: أنها رواية ضعيفة لا تعرف.

والثاني: ليس فيها دليل على الفرق بين مقدم الأذن ومؤخرها.

والثالث: أن ذلك محمول على أنه استوعب الرأس فانْمَسَحَ مؤخر

(1)

قال الجامع: تفسير الوجه بالذات إن كان تأويلا لمعنى الوجه الحقيقي إلى معنى آخر نفيا لصفة الوجه فهذا غير صحيح، وإن كان مع إثبات معنى الوجه الحقيقي إلا أنه أريد في الآية أنه يهلك كل شيء إلا الله تعالى، وإنما عبر بالوجه لأنه أشرف ما في الذات فهذا معنى صحيح فتنبه.

ص: 568

الأذن معه ضمنًا لا مقصودًا، لأن الاستيعاب لا يتأتى غالبًا إلا بذلك.

الرابع: لو صح ذلك عن علي، وتعذر تأويله، كان ما قدمناه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وما هو المشهور عن علي أولى، والله أعلم. انتهى المجموع جـ 1/ ص 413 - 416.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر من الأقوال: أن الأذنين من الرأس، لظاهر حديث الصنابحي، وأن مسحهما بمائه لا بماء جديد، وأما ما استدل به الشافعية من حديث عبد الله بن زيد، قال:"أخذ لأذنيه ماء خلاف الذي أخذ لرأسه" كما قال النووي، فالصحيح أن المحفوظ "ومسح برأسه بماء غير فضل يديه" لم يذكر الأذنين، قاله الحافظ، وقال العلامة ابن القيم في الهدي: لم يثبت عنه أنه أخذ لهما

ماء جديدًا، وإنما صح ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما. والله تعالى أعلم. نيل الأوطار جـ 1 ص 243.

المسألة الرابعة: في حديث "الأذنان من الرأس":

قال الحافظ في الدراية في تخريج أحاديث الهداية: حديث "الأذنان من الرأس" أخرجه أبو داود من حديث أبي أمامة، قال: توضأ النبي صلى الله عليه وسلم فغسل وجهه ثلاثا، ويديه ثلاثا، ومسح برأسه وقال:"الأذنان من الرأس" وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ "الأذنان من الرأس، وكان يمسح رأسه مرة وكان يمسح الماقين" وأخرجه الترمذي، قال قتيبة: قال حماد: لا أدري هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم، أو من قول أبي أمامة، وقال الترمذي: ليس إسناده بالقائم.

وقال الدارقطني: رفعه وَهَم، وأخرجه الطحاوي بلفظ:"أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح أذنيه مع الرأس، وقال: الأذنان من الرأس".

وفي الباب عن عبد الله بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأذنان من الرأس" أخرجه ابن ماجه، وفيه سويد بن سعيد، وقد اختلط، وعن ابن عباس مثله، أخرجه الدارقطني واختلف في وصله وإرساله، والراجح إرساله، وعن أبى هريرة مثله أخرجه ابن ماجه والدارقطني من

طريقين ضعيفين، وعن أبي موسى أخرجه الدارقطني، والطبراني،

ص: 569

وعن ابن عمر أخرجه الدارقطني من طريقين ضعيفين، ورجح له طريقا موقوفة، وأخرجه عن أنس بإسناد ضعيف، وعن عائشة، ورجح إرساله، اهـ الدراية جـ 1/ ص 20 - 21.

وفي التلخيص ما نصه: ذكر الأحاديث الواردة في أن الاذنين من الرأس:

الأول: حديث أبي أمامة، رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وقد بينت أنه مدرج في كتابي ذلك.

الثاني: حديث عبد الله بن زيد، قوّاه المنذري، وابن دقيق العيد، وقد بينت أيضا أنه مدرج.

الثالث: حديث ابن عباس، رواه البزار، وأعله الدارقطني بالاضطراب، وقال: إنه وهم، والصواب رواية ابن جريج عن سليمان ابن موسى مرسلا.

الرابع: حديث أبي موسى أخرجه الدارقطني، واختلف في وقفه، ورفعه، وصوب الوقف، وهو منقطع أيضا.

السادس: حديث ابن عمر: أخرجه الدارقطني وأعله أيضا.

السابع: حديث عائشة أخرجه الدارقطني، وفيه محمد بن الأزهر، وقد كذبه أحمد.

الثامن: حديث أنس أخرجه الدارقطني من طريق عبد الحكيم، عن أنس وهو ضعيف اهـ تلخيص الحبير جـ 1/ ص 91 - 92.

قال الجامع عفا الله عنه: تبين بهذا كله أن حديث: "الأذنان من الرأس" ما صح مرفوعا، لكنه ثبت بما تقدم من حديث الصنابحي وغيره حكم المسألة، وقد يكون ما تقدم شاهدا لهذه الأحاديث، فتصح ولا

سيما مع كثرة طرقها

(1)

والله أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

وقد صححه العلامة الألباني. انظر إرواءه جـ 1 ص 124 - 125.

ص: 570

‌86 - بابُ المَسْح عَلَى الْعمِامَةِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية المسح على العمامة.

قال في اللسان: والعمامة يعني بالكسر: من لباس الرأس، معروفة وربما كُني بها عن البيضة، أو المغفر، والجمع عَمائم، وعمام، بالكسر في الثاني، قال: والعرب تقول: لما وضعوا عمَامهم عرفناهم، فإما

يكون جمع عمامة جمع التكسير، وإما أن يكون من باب طلحة -يعني مما يفرق بينه وبين واحدة بالتاء- وقد اعتم بها وتعمم بمعنى. اهـ.

104 -

أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ (ح) وَأَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ بِلَالٍ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ.

105 -

وَأَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَرْجَرَائِيُّ، عَنْ طَلْقِ بْنِ غَنَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى،

ص: 571

عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنْ بِلَالٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

106 -

أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ بِلَالٍ، قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى الْخِمَارِ وَالْخُفَّيْنِ.

رجال الأسانيد

الإسناد الأول فيه ثمانية

1 -

(الحسين بن منصور) بن جعفر بن عبد الله بن رزين بن محمَّد بن برد السلمي، أبو علي النيسابوري، عن الحسين بن محمَّد المروزي، وأبي ضمرة الليثي، وابن عيينة، وأبي أسامة، وابن نمير، ومبشر بن إسماعيل الحلبي، وعم أبيه مبشر بن عبد الله بن رزين، وابن أبي فديك، وأبي معاوية، وأحمد بن حنبل، وخلق.

وعنه البخاري، والنسائي، ويحيى بن يحيى، وهو من شيوخه، وبشر بن الحكم العبدي، وهو أكبر منه، وأبو أحمد الفراء، وأحمد بن إبراهيم بن بنت نصر بن زياد القاضي، وأبو الفضل أحمد بن سلمة، والحسن بن سفيان، والحسين القباني، وأبو العباس السراج، وعدة.

قال النسائي: ثقة، وقال الحاكم: هو شيخ العدالة، والتزكية في عصره، وكان أخص الناس بيحيى بن يحيى، وكان يحيى بن يحيى يعيب

ص: 572

عليه اشتغاله بالشهادة، وقال أبو عمرو أحمد بن نصر: عرض عليه قضاء نيسابور، واختفى ثلاثة أيام، ودعا الله، فمات في اليوم الثالث، وذكره ابن حبان في الثقات، قال السراج وغيره: مات سنة 238، قال الحافظ: وقال الحاكم أيضا في تاريخه: سئل عنه أبو أحمد الفراء، فقال: بخ بخ، ثقة مأمون فقيه البلد، وقال صالح بن محمَّد: لا بأس به، وليس له في البخاري إلا حديثه الذي أورده في كتاب الإكراه عن حسين بن منصور، عن أسباط، ولم يزد البخاري على قوله: حدثنا حسين بن منصور، فجزم الكلاباذي، ومن تبعه بأنه النيسابوري، مع احتمال أن يكون واحدا من الثلاثة الذين بعده هنا (يعني: الحسين بن منصور الطويل، أبا عبد الرحمن التمار الواسطي، والحسين بن منصور الكسائي، والحسين

ابن منصور الرَّقّي أبا علي البغدادي).

اهـ تهذيب التهذيب جـ 2/ ص 371، وفي "ت" ثقة فقيه من العاشرة. اهـ أخرج له البخاري، والمصنف.

2 -

(أبو معاوية) محمَّد بن خازم الضرير الكوفي، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهم في حديث غيره، من كبار التاسعة، وتقدم في 26/ 30.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران أبو محمَّد الكاهلي مولاهم الكوفي ثقة حافظ عارف بالقراءة، وَرع لكنه يدلس من الخامسة، وتقدم في 17/ 18.

4 -

(عبد الله بن نمير) مصغرا الهمداني الخارفي، أبو هشام الكوفي، روى عن إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، ويحيى بن سعيد، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وموسى الجُهَني، وزكريا ابن أبي زائدة، وسعد بن سعيد الأنصاري، وحنظلة بن أبي سفيان،

ص: 573

وسيف بن سليمان، والأوزاعي، وعثمان بن حكيم الأودي، والثوري، وعمرو بن عثمان بن موهب، ومجالد بن سعيد، وابن أبي ذئب، وعبد العزيز ابن سياه، ومالك بن مغول، وفضيل بن غزوان، وطائفة.

وعمه ابنه محمَّد، وأحمد، وأبو خيثمة، ويحيى بن يحيى، وعلي ابن المديني، وأبو بكر، وعثمان ابنا أبي شيبة، وأبو قدامة السرخسي، وأبو كريب، وأبو موسى، وأبو سعيد الأشج، وهناد بن السري، وأبو مسعود الرازي، وعلي بن حرب الطائي، والحسن بن علي بن عفان، وغيرهم، قال أبو نعيم: سئل سفيان عن أبي خالد الأحمر؟ فقال: نعم الرجل عبد الله بن نمير، وقال عثمان الدارمي: قلت ليحى بن معين: ابن إدريس أحب إليك في الأعمش، أو ابن نمير؟ فقال: كلاهما ثقة، وقال أبو حاتم: كان مستقيم الأمر، قال ابنه محمَّد وغيره: مات سنة 199، وقيل: إنه ولد في سنة 115.

قال الحافظ: وذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: ثقة صالح الحديث، صاحب سنة، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، صدوقا. أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة صاحب حديث من أهل

السنة، من أكابر [9].

5 -

(الحكَم) بن عتيبة مصغرا الكندي مولاهم أبو محمَّد، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو عمر الكوفي، وليس هو الحكم بن عتيبة بن النهاس.

روى عن أبي جحيفة، وزيد بن أرقم، وقيل: لم يسمع منه، وعبد الله ابن أبي أوفى، هؤلاء صحابة، وشريح القاضي، وقيس بن أبي حازم، وموسى بن طلحة، ويزيد بن شريك التيمي، وعائشة بنت سعد، وعبد الله بن شداد بن الهاد، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وطاوس

ص: 574

والقاسم بن مخيمرة، ومصعب بن سعد، ومحمد بن كعب القرظي، وابن أبي ليلى، وغيرهم من التابعين، وروى عن عمرو بن شعيب وهو أكبر منه، وعنه الأعمش، ومنصور، ومحمد بن جُحَادة، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو إسحاق الشيباني، وقتادة، وغيرهم من التابعين، وأبان بن صالح، وحجاج بن دينار، وسفيان بن حسين، والأوزاعي، ومسعر، وشعبة، وأبو عوانة، وعدة.

قال الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، وعبدة بن أبي لبابة: ما بين لابتيها أفقه من الحكم، وقال مجاهد بن رومي: رأيت الحكم في مسجد الخيف، وعلماء الناس عيال عليه.

وقال جرير، عن مغيرة: كان الحكم إذا قدم المدينة أخلوا له سارية النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليها، وقال عباس الدوري: كان صاحب عبادة وفضل، وقال ابن عيينة: ما كان بالكوفة بعد إبراهيم، والشعبي مثل الحكم، وحماد، وقال ابن مهدي: الحكم بن عتيبة ثقة ثبت، ولكن يختلف معنى حديثه، وقال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: أيّ أصحاب إبراهيم أحب إليك؟ قال: ليس هو بدون عمرو بن مرة، وأبي حَصين، وقال أحمد أيضا: أثبت الناس في إبراهيم الحكم، ثم منصور، وقال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة، زاد النسائي: ثبت، وكذا قال العجلي، وزاد: وكان من فقهاء أصحاب إبراهيم، وكان صاحب سنة، واتباع، وكان فيه تشيع، إلا أن ذلك لم يظهر منه، ذكر ابن منجويه أنه ولد سنة 50، وقيل إنه مات سنة 113، وقال الواقدي: 14، وقال عمرو بن علي وغيره: سنة 15، قال الحافظ: وكذا ذكر مولده ابن حبان، وأرخه ابن قانع سنة 47، وقال ابن سعد: كان ثقة فقيها عالما رفيعا كثير الحديث، وقال الآجري عن أبي داود: قال أبو الوليد الطيالسي: ما أرى الحكم سمع من عاصم بن ضمرة، وقال ابن أبي حاتم،

ص: 575

عن أبيه: لا أعلم الحكم روى عن عاصم شيئًا.

قال أبو داود: ورأى زيدَ بنَ أرقم، وعبد الله بنَ أبي أوفى، وليس له عنهما رواية، وقال الكناني، عن أبي حاتم: الحكم لقي زيد بن أسلم، ولا نعلم أنه سمع منه شيئًا، وقال أبو القاسم الطبراني: لم يثبت منه سماع، وقال يعقوب بن سفيان: كان فقيها ثقة، وقال أحمد: لم يسمع من علقمة شيئًا، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن الحكم عن عبيدة السلماني متصل؟ قال: لم يلقه، وقال أحمد وغيره: لم يسمع الحكم حديث مقسم، كتاب

(1)

، إلا خمسة أحاديث، وعدها يحيى القطان: حديث الوتر، والقنوت، والشفاعة، وعزمة الطلاق، وجزاء الصيد، والرجل يأتي امرأته وهي حائض، رواه ابن أبي خيثمة في تاريخه عن علي بن المديني، عن يحيى، وقال البخاري في التاريخ الكبير: قال القطان: قال شعبة: الحكم عن مجاهد كتاب إلا ما قال: سمعت، وقال ابن حبان في الثقات: كان يدلس، وكان سنُّه سنَّ إبراهيم

النخعي، وفي "ت" ثقة ثبت فقيه، إلا أنه ربما دلس من الخامسة، أخرج له الجماعة.

6 -

(عبد الرحمن بن أبي ليلى) واسمه يسار، ويقال بلال، ويقال: داود بن بلال بن بليل بن أحيحة بن الجلاة بن الحريشي بن جحجبا بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن أوس الأنصاري الأوسي، أبو عيسى الكوفي، والد محمَّد، ولد لست بقين من خلافة عمر.

روى عن أبيه، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد، ومعاذ بن جبل، والمقداد، وابن مسعود، وأبي ذر، وأبي بن كعب، وبلال بن رباح، وسهل بن حنيف، وابن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وقيس بن سعد، وأبي أيوب، وكعب بن عجرة، وعبد الله بن زيد بن

(1)

قوله: كتاب خبر لمحذوف، أي هو كتاب، يعني أن حديث مقسم لم يسمعه منه الحكم، وإنما وجد كتباه.

ص: 576

عبد ربه، ولم يسمع منه، وأبي سعيد، وأبي موسى، وأم هانئ بنت أبي طالب، وأنس، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وسمرة بن جندب، وصهيب، وعبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عكيم، وأسيد بن حضير، وغيرهم.

وعنه ابنه عيسى، وابن ابنه عبد الله بن عيسى، وعمرو بن ميمون الأودي، وهو أكبر منه، والشعبي، وثابت البناني، والحكم بن عتيبة، وحُصَين بن عبد الرحمن، وعمرو بن مرة، ومجاهد بن جبر، ويحيى ابن الجزار، وهلال الوزان، ويزيد بن أبي زياد، وأبو إسحاق الشيباني، والمنهال بن عمرو، وعبد الملك بن عمير، والأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وجماعة.

قال عطاء بن السائب عن عبد الرحمن: أدركت عشرين ومائة من الأنصار صحابة، وقال عبد الملك بن عمير: لقد رأيت عبد الرحمن في حلقة فيها نفر من الصحابة، فيهم البراء يسمعون لحديثه، وينصتون له، وقال عبد الله بن الحارث بن نوفل: ما ظننت أن النساء ولدن مثله، وقال الدوري، عن ابن معين: لم ير عمر، قال: قلت له: فالحديث الذي يروى كنا مع عمر نترا أى الهلال؟ فقال: ليس بشيء، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وقال العجلي: كوفي ثقة، ذكر أبو عبيد أنه أصيب سنة 71، وهو وهم، ثم قال أبو عبيد: وأخبرني يحيى بن سعيد، عن سفيان، أن ابن شداد، وابن أبي ليلى، فقدا بالجماجم، وقد اتفقوا على أن الجماجم كانت سنة 82

(1)

وفيها أرخه خليفة وغير واحد، ويقال: إنه غرق بدجيل، والله أعلم.

قال الحافظ: قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: يصح لابن أبي ليلى

(1)

وفي التقريب سنة 86، وفي الخلاصة مات سنة 83 اهـ من الهامش.

ص: 577

سماع من عمر؟ قال: لا، قال أبو حاتم: روي عن عبد الرحمن أنه رأى عمر، وبعض أهل العلم يدخل بينه وبين عمر البراء بن عازب، وبعضهم كعب بن عجرة، وقال الآجري، عن أبي داود: رأى عمر، ولا أدري أيصح أم لا؟ وقال أبو خيثمة في مسنده: ثنا يزيد بن هارون، أنا سفيان الثوري، عن زيد، وهو الأيامي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، سمعت عمر يقول: "صلاة الأضحى ركعتين

(1)

، والفطر ركعتين" الحديث، قال أبو خيثمة: تفرد به يزيد بن هارون، هكذا ولم يقل أحد: سمعت عمر غيره، ورواه يحيى بن سعيد، وغير واحد، عن سفيان، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن الثقة، عن عمر، ورواه شريك، عن زبيد، عن عبد الرحمن، عن عمر، ولم يقل: سمعت، وقال ابن أبي خيثمة: في تاريخه: وقد روي سماعه من عمر من طرق، وليست بصحيحة، وقال الخليلي في الإرشاد: الحفاظ لا يثبتون سماعه من عمر، وقال ابن المديني: وكان شعبة ينكر أن يكون سمع من عمر، قال ابن المديني: ولم يسمع من معاذ بن جبل، وكذا قال الترمذي في العلل الكبير، وابن خزيمة، وقال يعقوب بن شيبة: قال ابن معين: لم يسمع من عمر، ولا من عثمان، وسمع من علي، وقال ابن معين: لم يسمع من المقداد، وقال العسكري: روى عن أسيد بن حضير مرسلا، وقال الذهلي والترمذي في جامعه: لم يسمع من عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وقال الأعمش: ثنا إبراهيم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكان لا يعجبه، يقول: هو صاحب مراء، وقال حفص بن غياث، عن الأعمش: سمعت عبد الرحمن يقول: أقامني الحجاج، فقال: العن الكاذبين، فقلت: لعن الله

(2)

الكاذبين علي بن أبي طالب، وعبد الله

(1)

هكذا نسخة تت بالياء، ولعل الصواب "ركعتان" بالألف.

(2)

الصواب حذف الجلالة من قوله: لعن الله؛ لأنه أراد أن اللاعن لهم علي ومن بعده، ليستقيم قوله: أهل الشام حمير، وقد رأيته في نسخة بحذف الجلالة، وهو الصواب بلا ريب. اهـ من الهامش.

ص: 578

ابن الزبير، والمختار بن أبي عبيد،، قال حفص: وأهل الشام حَمير، يظنون أنه يوقعها عليهم، وقد أخرجهم منها ورفعهم، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة من [2].

7 -

(كعب بن عجرة) بضم العين وسكون الجيم الأنصاري المدني، أبو محمَّد، وقيل أبو عبد الله، وقيل أبو إسحاق، من بني سالم بن عوف، وقيل: من بني سالم بن بَليّ حليف بني الخزرج، وقيل في نسبه غير ذلك، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر بن الخطاب، وبلال، وروى عنه: بنوه إسحاق، والربيع، ومحمد، وعبد الملك، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، وعبد الله بن معقل بن مقرن المزني، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو وائل، ومحمد بن سيرين، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وطارق بن شهاب، ومحمد بن كعب القرظي، وأبو ثمامة الحناط، وسعيد المقبري، وقيل: بينهما رجل، وإبراهيم وليس بالنخعي، وعاصم العدوي، وموسى بن وردان، وغيرهم.

قال الواقدي: كان استأخر إسلامه، ثم أسلم، وشهد المشاهد، وهو الذي نزلت فيه بالحديبية الرخصة، في حلق المحرم رأسه والفدية.

قال خليفة: مات سنة 51، وقال الواقدي وآخرون: مات سنة 2.

قال بعضهم: وهو ابن خمس، وقيل: سبع وسبعين سنة. أخرج له الجماعة.

8 -

(بلال) بن رباح التيمي، مولاهم المؤذن، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، وقيل: غير ذلك في كنيته، وهو ابن حمامة، وهي أمه، أسلم قديما، وعذب في الله، وشهد بدرا، والمشاهد كلها، وسكن دمشق.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه أبو بكر، وعمر، وأسامة بن زيد، وكعب

ص: 579

ابن عجرة، وأبو زيادة، وابن عمر، والبراء بن عازب، والصنابحي، وأبو عثمان النهدي، وأبو إدريس الخولاني، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وطارق بن شهاب، وقيس بن أبي حازم، وقيل: لم يلقه، وغيرهم.

قال البخاري: بلال بن رباح، أخو خالد، وعفرة، مات بالشام زمن عمر، وقال عمرو بن علي: سنة 25، وهو ابن بضع وستين سنة، وقال الذهلي، عن يحيى بن بكير: مات بدمشق في طاعون عمواس سنة 17 أو 18، وقال شعيب بن طلحة: كان بلال ترب أبي بكر، وقال ابن زبر: مات بداريا، وحمل على رقاب الرجال، فدفن بباب كيسان، وقيل دفن بباب الصغير، وقال ابن منده في المعرفة: دفن بحلب رضي الله عنه. أخرج له الجماعة.

رجال الإسناد الثاني: تسعة

1 -

(الحسين بن عبد الرحمن الجرجرائى

(1)

) أبو علي، روى عن الوليد بن مسلم، وطلق بن غنام، وابن نمير، وخلف بن تميم، وغيرهم. وعنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد بن علي الأبَّار، وجعفر الفريابي، والقاسم المطرز، ومحمد بن إسحاق السراج وغيرهم، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: حدثنا عنه أهل واسط، وقال غيره: مات سنة 253، قال الحافظ: وقال أبو حاتم: مجهول،

فكأنه ما خبر أمره، اهـ تهذيب التهذيب جـ 2/ ص 343.

وفي التقريب: مقبول من العاشرة، مات سنة 253 اهـ.

2 -

(طلق بن غَنَّام) بفتح الغين المعجمة، والنون المشددة بن طلق بن

(1)

في الخلاصة: الجرجرائي بجيمين ورائين مهملتين، الأولى ساكنة والثانية ممدودة نسبة إلى جرجرايا بلدة بين بغداد وواسط. اهـ من الهامش.

ص: 580

معاوية، النخعي، أبو محمَّد الكوفي، روى عن أبيه، وشيبان بن عبد الرحمن، وقيس بن الربيع، ومالك بن مغْوَل، ويعقوب القُمِّي، وزائدة، وابن عمه حفص بن غياث، وشريك القاضي، وكان كاتبه، وإسرائيل، والمسعودي، وعبد السلام بن حرب، وغيرهم.

وعنه البخاري، وروى الأربعة له بواسطة عثمان بن أبي شيبة، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، والحسين بن عيسى البسطامي، والحسين ابن عبد الرحمن الجرجرائي، والقاسم بن زكريا بن دينار، وأبو كريب،

وأبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبو سعيد الأشج، وأبو أمية الطرسوسي، وجماعة.

قال الآجري عن أبي داود: صالح، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال مطين وابن سعد: توفي في رجب سنة 211، قال الحافظ: وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقا، وكان عنده أحاديث، وقال العجلي، ومحمد بن عبد الله بن نمير، والدارقطني: ثقة. وقال ابن شاهين في الثقات: قال عثمان بن أبي شيبة: ثقة صدوق، لم يكن بالمتبحر في العلم، وقال أبو محمد بن حزم وحده: ضعيف. اهـ تهذيب التهذيب

جـ 5/ ص 33.

وفي التقريب: ثقة من كبار العاشرة، أخرج له البخاري والأربعة.

3 -

(زائدة) بن قدامة بضم القاف، وتخفيف الدال المهملة، الثقفي أبو الصلت الكوفي.

روى عن أبي إسحاق السبيعي، وعبد الملك بن عمير، وسليمان التيمي، وإسماعيل بن أبي خالد، وإسماعيل السُّدّي، وحميد الطويل، وزياد بن علاقة، وسماك بن حَرب، وشَبيب بن غَرْقَدَة، والمختار بن فُلْفُل، وهشام بن عروة، وأبي إسحاق الشيباني، وأبي الزناد،

ص: 581

والأعمش، وهشام بن حسان، وخلق، وعنه ابن المبارك، وأبو أسامة وحسين بن علي الجعفي، وابن مهدي، وابن عيينة، وأبو إسحاق الفزاري، وأبو سعيد مولى بني هاشم، والطيالسيان، وطلق بن غنام، ومعاوية بن عمرو، وأبو حذيفة، وأبو نعيم، وأحمد بن يونس، وجماعة.

قال عثمان بن زائدة: قدمت الكوفة، فقلت للثوري: ممن أسمع؟ قال: عليك بزائدة، وقال أبو أسامة: حدثنا زائدة، وكان من أصدق الناس، وأبَرِّهم، وقال أبو داود الطيالسي، وسفيان بن عيينة: حدثنا زائدة بن قدامة، وكان لا يحدث قدريا، ولا صاحب بدعة، وقال أحمد: المتثبتون في الحديث أربعة: سفيان، وشعبة، وزهير، وزائدة.

وقال أيضًا: إذا سمعت الحديث عن زائدة، وزهير فلا تبال، أن لا تسمعه عن غيرهما، إلا حديث أبي إسحاق، وقال أبو زرعة: صدوق من أهل العلم، وقال أبو حاتم: كان ثقة صاحب سنة، وهو أحب إلى من أبي عوانة، وأحفظ من شريك، وأبي بكر بن عياش، قال العجلي: كان ثقة صاحب سنة، وقال أحمد بن يونس: رأيت زهير بن معاوية جاء إلى زائدة، فكلمه في رجل يحدثه، فقال: من أهل السنة هو؟ قال: ما أعرفه ببدعة، فقال: من أهل السنة هو؟ فقال زهير: متى كان الناس هكذا، فقال زائدة: متى كان الناس يشتمون أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما، وقال النسائي: ثقة، وقال محمَّد بن عبد الله الحضرمي: مات في أرض الروم غازيا سنة ستين، أو إحدى وستين ومائة.

قال الحافظ: وكذا قال ابن سعد، وقال: كان ثقة مأمونا، صاحب سنة، وأرخه القراب تبعا لعلي بن الجعد سنة 63، وقال ابن حبان في الثقات: كان من الحفاظ المتقنين، لا يعد السماع حتى يسمعه ثلاث مرات، مات سنة إحدى، وكذا أرخه ابن قانع، وقال أبو نعيم: كان

ص: 582

زائدة لا يكلم أحدًا حتى يمتحنه، فأتاه وكيع فلم يحدثه.

وقال عثمان بن سعيد: قلت ليحيى: زهير أحب إليك من الأعمش أو زائدة؟ فقال: كلاهما ثقة، وقال الدارقطني: من الأثبات الأئمة، وقال أبو داود الطيالسي: لم يكن زائدة بالأستاذ في حديث أبي إسحاق، وقال الذهلي: ثقة حافظ. اهـ تهذيب التهذيب جـ 3/ ص 306، وفي "ت" ثقة ثبت صاحب سنة من السابعة.

4 -

(حفص بن غياث) بن طلق بن معاوية بن مالك بن الحارث بن ثعلبة النخعي، أبو عمر الكوفي، قاضيها، وقاضي بغداد أيضا، روى عن جده، وإسماعيل بن أبي خالد، وأشعث الحداني، وأبي مالك الأشجعي، وسليمان التيمي، وعاصم الأحول، وعبيد الله بن عمر، ومصعب بن سليم، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، والأعمش، والثوري، وجعفر الصادق، ويزيد بن عبد الله بن أبي بردة، وابن جريج، وليث بن أبي سليم، وخلق.

وعنه أحمد، وإسحاق، وعلي، وابنا أبي شيبة، وابن معين، وأبو نعيم، وأبو داود الحَفَريّ، وأبو خيثمة، وعفان، وأبو موسى، ويحيى ابن يحيى النيسابوري، وعمرو بن محمَّد الناقد، وأبو كريب، وابنه عمر بن حفص بن غياث، والحسن بن عرفة، وجماعة، وروى عنه يحيى القطان، وهو من أقرانه، قال ابن كامل: ولاه الرشيد قضاء الشرقية

(1)

ببغداد ثم عزله، وولاه قضاء الكوفة، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: صاحب حديث، له معرفة، وقال العجلي: ثقة مأمون فقيه، وكان وكيع ربما سئل عن الشيء فيقول: اذهبوا إلى قاضينا فَسَلوُه، وقال يعقوب: ثقة ثبت إذا حدث من كتابه، ويتقى بعض حفظه، وقال ابن خراش: بلغني عن علي بن المديني، قال:

(1)

اسم محلة ببغداد "ق".

ص: 583

سمعت يحيى بن سعيد يقول: أوثق أصحاب الأعمش حفص بن غياث، فأنكرت ذلك، ثم قدمت الكوفة بآخره فأخرج إليّ عمر بن حفص كتاب أبيه، عن الأعمش، فجعلت أترحم على يحيى، وحَكَى صاعقةُ، عن علي بن المديني شبيها بذلك، وقال ابن نمير: كان حفص أعلم بالحديث من ابن إدريس، وقال أبو زرعة: ساء حفظه بعد ما استقضي فمن كتب عنه في كتابه، فهو صالح، وإلا فهو كذا، وقال أبو حاتم: حفص أتقن وأحفظ من أبي خالد الأحمر، وقال الدوري عن ابن معين: حفص أثبت من عبد الواحد بن زياد.

وقال النسائي، وابن خراش: ثقة، وقال ابن معين: جميع ما حدث به ببغداد من حفظه، وقال الآجري، عن أبي داود: كان ابن مهدي لا يقدم من الكبار من أصحاب الأعمش غير حفص بن غياث، وقال داود ابن رشيد: حفص كثير الغلط، وقال ابن عمار: كان لا يحفظ حسنا، وكان عسرا، وقال الحسن بن سفيان، عن أبي بكر بن أبي شيبة: سمعت حفص بن غياث يقول: والله ما وليت القضاء حتى حلت لي الميتة، وكذا قال سجادة عنه، وزاد: ولم يخلف درهما يوم مات، وخلف عليه الدين، وكان يقال: ختم القضاء بحفص. وقال يحيى بن الليث بعد أن ساق قصة من عدله في قضائه: كان أبو يوسف لما ولي حفص قال لأصحابه: تعالوا نكتب نوادر حفص، فلما وردت قضاياه عليه، قال أصحابه: أين النوادر، فقال: ويحكم إن حفصا أراد الله فوفقه.

قال هارون بن حاتم: سئل حفص وأنا أسمع عن مولده فقال: ولدت سنة 117.

قال: ومات سنة 94 وكذا قال جماعة، وقال مسلم بن جنادة: مات سنة 95، وقال الفلاس، وأبو موسى: 96، والأول أصح.

ص: 584

قال الحافظ: وقال ابن حبان في الثقات: مات في عشر ذي الحجة سنة خمس أو ست وتسعين، وذكر الأثرم عن أحمد بن حنبل، أن حفصا كان يدلس، وقال العجلي: ثبت فقيه البدن، وقال أبوجعفر محمَّد بن الحسين البغدادي: قلت لأبي عبد الله: من أثبت عندك: شعبة، أو حفص بن غياث؟ يعني في جعفر بن محمَّد، فقال: ما منهما إلا ثبت، وحفص أكثر رواية، والقليل من شعبة كثير، وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونا كثير الحديث يدلس.

وقال أبو عبيد الآجري عن أبي داود: كان حفص بآخره دخله نسيان، وكان يحفظ، ومما أنكر على حفص حديثه عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر:"كنا نأكل ونحن نمشي"، قال ابن معين: تفرد، وما أراه إلا وهم فيه، وقال أحمد: ما أدري ماذا؟ كالمنكر له، وقال أبو زرعة: رواه حفص وحده، وقال ابن المديني: انفرد حفص نفسه بروايته، وإنما هو حديث أبي البزري، وكذا حديثه عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رفعه "من أقال مسلما عثرته" الحديث، قال ابن معين: تفرد به عن الأعمش، وقال صالح بن محمَّد: حفص لما ولي القضاء جفا كُتُبَه، وليس هذا الحديث في كتبه. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ليس هذا الحديث

(1)

قال ابن عدي: وقد رواه عن حفص يحيى بن معين، وزكريا بن عدي، وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: في حديث حفص عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، مرفوعا "خمروا وجوه موتاكم" الحديث هذا خطأ، وأنكره، وقال: قد حدثناه حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء مرسلا، اهـ تهذيب التهذيب جـ 2/ ص 415 - 418. وفي "ت" ثقة فقيه، تغير حفظه قليلا في الآخر [8].

(1)

هكذا نسخة تهذيب التهديب فيها بياض في هذا الموضع، والله أعلم.

ص: 585

5 -

(الأعمش)، 6 - و (عبد الرحمن بن أبي ليلى)، 7 - و (بلال) تقدموا في السند السابق.

8 -

(البراء) بتخيف الراء، (بن عازب) بن الحارث بن عدي بن مجدعة بن حارثة الأوسي، أبو عمارة، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو الطفيل المدني الصحابي ابن الصحابي، نزل الكوفة ومات بها زمن مصعب بن الزبير، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي أيوب، وبلال، وغيرهم.

وعنه عبد الله بن يزيد الخطمي، وأبو جحيفة، ولهما صحبة، وعبيد، والربيع، ويزيد، ولوط، أولاد البراء، وابن أبي ليلى، وعدي ابن ثابت، وأبو إسحاق، ومعاوية بن سويد بن مقرن، وأبو بردة، وأبو

بكر، ابنا أبي موسى، وخلق.

قال الحافظ: لم يسق الشيخ من أخباره شيئا، وقال ابن حبان: استصغره النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وكان هو وابن عمر لدَةً، مات سنة 72، وذكر ابن قانع في معجم الصحابة، أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم 15 غزوة، وقال ابن عبد البر: هو الذي افتتح الري، وقيل: هو الذي أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معه السهم إلى قليب الحديبية، فجاش بالري، والمشهور أن ذلك ناجية بن جتدب، قال: وأول مشاهده أحد، وقال العسكري، أول مشاهده الخندق، وشهد مع علي الجَمَل، وصفِّين، والنهروان، وكان يلقب ذا الغرة، كذا قيل، وعندي أن ذا الغرة آخر. أخرج له الجماعة، اهـ تهذيب التهذيب جـ 1/ ص 425 - 426.

رجال الإسناد الثالث: سته

1 -

(هناد بن السري) بفتح السين وكسر الراء، وتشديد الياء، بن مصعب بن أبي بكر بن شبر بن صعفون بن عمرو بن زرارة بن عدس بن

ص: 586

زائدة بن عبد الله بن دارم التميمي، الدارمي، أبو السري، الكوفي.

روى عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهشيم، وأبي بكر بن عياش، وعبد الله بن إدريس، وأبي الأحوص، وحفص بن غياث، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وأبي معاوية الضرير، وإسماعيل بن عياش، وشريك، وأبي زبيد عبثر بن القاسم، وعبد الله بن المبارك، وعبد السلام بن حرب، وعلي بن مسهر، وعبدة بن سليمان، وفضيل ابن عياض، وابن عيينة، ووكيع، وغيرهم.

روى عنه البخاري في خلق أفعال العباد، والباقون، وابن أخيه محمَّد بن السري بن يحيى بن السري، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأحمد ابن منصور الرمادي، ومحمد بن عبد الملك الدقيقي، ومطين، وعبدان الأهوازي، وبقي بن مخلد، وابن أبي الدنيا، ومحمد بن صالح بن دريح، ومحمد بن إسحاق السراج، قال أحمد بن حنبل: عليكم بهناد، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال قتيبة: ما رأيت وكيعا يعظم أحدا تعظيمه لهناد، وقال النسائي: ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات.، وقال السراج: قال هناد بن السري: ولدت سنة 152، قال: ومات في ربيع

(1)

الآخر سنة 243. اهـ تهذيب التهذيب جـ 11/ ص 71، وفي "ت" ثقة من العاشرة.

2 -

(وكيع) بن الجراح بن مليح الرُّؤَاسي، أبو سفيان الكوفي، ثقة حافظ، عابد من كبار التاسعة، مات في آخر سنة ست، أو سنة سبع وتسعين، وله 70 سنة، وتقدم في 23/ 25.

3 -

(شعبة) بن الحجاج بن الورد العتكي، الأزدي، مولاهم أبو بسطام الواسطي، ثم البصري. روى عن أبان بن تغلب، وإبراهيم

(1)

يوم الأربعاء آخر يوم من شهر ربيع الآخر اهـ تهذيب الكمال.

ص: 587

ابن عامر بن مسعود، وإبراهيم بن محمَّد بن المنتشر، وإبراهيم بن مسلم الهجري، وإبراهيم بن مهاجر، وأبي إسحاق السبيعي، وإبراهيم بن ميسرة، وإسماعيل بن أبي خالد، وبُدَيل بن ميسرة، وثابت البناني، وجامع بن شداد، وحبيب بن الشهيد، وسعد بن إبراهيم، وجماعة آخرين.

وعنه أيوب، والأعمش، وسعد بن إبراهيم، ومحمد بن إسحاق، وهم من شيوخه، وجرير بن حازم، والثوري، والحسن بن صالح، وغيرهم، من أقرانه، ويحيى بن القطان، وابن مهدي، ووكيع، وابن إدريس، وابن المبارك، ويزيد بن زريع، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان، وابن علية، وإبراهيم بن طهمان، وأبو أسامة، وشريك القاضي، وعيسى بن يونس، ومعاذ بن معاذ. وهشيم، ويزيد بن هارون، وأبو عامر العقدي، ومحمد بن جعفر غندر، ومحمد بن أبي عدي، والنضر بن شميل، وآدم بن أبي إياس، وبدل بن المحبر، وآخرون.

قال أبو طالب عن أحمد: شعبة أثبت في الحكم من الأعمش، وأعلم بحديث الحكم، ولولا شعبة ذهب حديث الحكم، وشعبة أحسن حديثا من الثوري، لم يكن في زمن شعبة مثله في الحديث، ولا أحسن حديثا منه، قسم له من هذا الحظ.

وروى عن ثلاثين رجلا من أهل الكوفة لم يرو عنهم سفيان، وقال محمَّد بن العباس النسائي: سألت أبا عبد الله من أثبت، شعبة، أو سفيان؟ فقال: كان سفيان رجلا حافظا، وكان رجلا صالحا، وكان شعبة أثبت منه، وأنقى رجلا، وسمع من الحكم قبل سفيان بعشر سنين، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: كان شعبة وحده في هذا

ص: 588

الشأن، يعني في الرجال، وبصره بالحديث، وتثبته، وتنقيته الرجال، وقال معمر: كان قتادة يسأل شعبة عن حديثه، وقال حماد بن زيد: قال لنا أيوب: الآن يقدم عليكم رجل من أهل واسط، هو فارس في الحديث، فخذوا عنه، وقال أبو الوليد الطيالسي: قال لي حماد بن سلمة: إذا أردت الحديث فالزم شعبة، وقال حماد بن زيد: ما أبالي من خالفني إذا وافقني شعبة، فهذا خالفني شعبة في شيء تركته، وقال ابن مهدي: كان الثوري يقول: شعبة أمير المؤمنين في الحديث، وقال الثوري لسَلْم بن قتيبة: ما فعل أستاذنا شعبة، وقال أبو قطن عن أبي حنيفة: نعم حشو المصر هو، وقال الشافعي: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق، وقال أبو زيد الهروي: قال شعبة: لأن أقطع الطريق أحب إلى من أن أقول لما لم أسمع، سمعت، وقال يزيد بن زريع: كان شعبة من أصدق الناس في الحديث، وقال أبو بحر البكراوي: ما رأيت أعبد لله من شعبة، لقد عبد الله حتى جف جلده على ظهره.

وقال مسلم بن إبراهيم: ما دخلت على شعبة في وقت صلاة قط إلا رأيته قائما يصلي.

وقال النضر بن شميل: ما رأيت أرحم بمسكين منه، وقال قراد أبو نوح: رأى علي شعبة قميصا، فقال: بكم أخذت هذا؟ قلت: بثمانية دراهم، قال لي: ويحك أما تتق الله، تلبس قميصا بثمانية، ألا اشتريت قميصا بأربعة، وتصدقت بأربعة، قلت: أنا مع قوم نتجمل لهم، قال: أيش تتجمل لهم؟، وقال وكيع: إني لأرجو الله أن يرفع لشعبة في الجنة درجات، لذبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال يحيى القطان: ما رأيت أحدا قط أحسن حديثا من شعبة، وقال ابن إدريس: ما جعلت بينك وبين الرجال مثل شعبة، وسفيان.

وقال ابن المديني: سألت يحيى بن سعيد، أيما كان أحفظ للأحاديث

ص: 589

الطوال، سفيان، أو شعبة؟ فقال: كان شعبة أمَرَّ فيها، قال: وسمعت يحيى يقول: كان شعبة أعلم بالرجال، فلان عن فلان، وكان سفيان صاحب أبواب، وقال أبو داود: لما مات شعبة: قال سفيان: مات الحديث، قيل لأبي داود: هو أحسن حديثا من سفيان؟ قال: ليس في الدنيا أحسن حديثا من شعبة، ومالك على قلته، والزهري أحسن الناس حديثًا، وشعبة يخطئ فيما لا يضره، ولا يعاب عليه، يعني في الأسماء، وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونا ثبتا حجة صاحب حديث.

وقال العجلي: ثقة ثبت في الحديث، وكان يخطئ في أسماء الرجال قليلا، وقال صالح جزرة: أول من تكلم في الرجال شعبة، ثم تبعه القطان، ثم أحمد، ويحيى، وقال ابن سعد: توفي أول سنة 160 وله 77 سنة، وكان من سادات أهل زمانه، حفظا، وإتقانًا وورعًا، وفضلا، وهو أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين، وجانب الضعفاء، والمتروكين، وصار عَلَما يقتدى به، وتبعه بعده عليه أهل العراق.

قال الحافظ: هذا بعينه كلام ابن حبان في الثقات، نقله ابن منجويه منه، ولم يعزه إليه، لكن عند ابن حبان أن مولده سنة 82، وذكر ابن أبي خيثمة: أنه مات في جمادى الآخرة، وأما ما تقدم من أنه كان يخطئ في الأسماء، فقد قال الدارقطني في العلل: كان شعبة يخطئ في أسماء الرجال كثيرا، لتشاغله بحفظ المتون، وقال صالح بن سليمان: كان لشعبة أخوان يعالجان الصرف، وكان شعبة يقول لأصحاب الحديث: ويلكم، الزموا السوق، فإنما أنا عيال على إخوتي، وقال ابن معين: كان شعبة صاحب نحو، وشعر، وقال الأصمعي: لم نر أحدا أعلم بالشعر منه، وقال بدل بن المحبر: سمعت شعبة يقول: تعلموا العربية، فإنها تزيد في العقل، وقال ابن إدريس: شعبة قبان

(1)

المحدثين، ولو

(1)

كشداد القسطاس، والأمين ق اهـ من الهامش.

ص: 590

استقبلت من أمري ما استدبرت ما لزمت غيره، وقال أبو قطن: ما رأيت شعبة ركع إلا ظننت أنه قد نسي، وفي تاريخ ابن أبي خيثمة قال شعبة: ما رويت عن رجل حديثا إلا أتيته أكثر من مرة، والذي رويت عنه عشرة أتيته أكثر من عشر مرار، وقيل لابن عوف: مالكَ لا تحدث عن فلان؟ قال: لأن أبا بسطام تركه، وقال الحاكم: شعبة إمام الأئمة في معرفة الحديث بالبصرة، رأى أنس بن مالك، وعمرو بن سلمة الصحابيين

(1)

، وسمع من أربعمائة من التابعين اهـ تهذيب التهذيب جـ 4/ ص 338 - 346 أخرج له الجماعة.

4 -

وأما (الحكم) 5 - و (عبد الرحمن بن أبي ليلى)، و (بلال)، فقد تقدموا في السند السابق.

لطائف الأسانيد

أما الإسناد الأول:

ففيه أنه من ثمانياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين نيسابوري، وهو شيخه، وكوفيين وهم الباقون، إلا كعبا، فمدني، وبلالا، فمدني، ثم شامي.

وفيه رواية تابعي، عن تابعي، الأعمش، عن عبد الرحمن، ورواية صحابي، عن صحابي كعب عن بلال.

وفيه كتابة "ح" وهي إشارة إلى تحويل السند، وقد تقدم الكلام عليها.

وفيه الإخبار، والتحديث، والإنباء، والعنعنة.

وفيه عنعنة الأعمش، وهو مدلس، إلا أنه صرح بالتحديث عند

(1)

هذا يستلزم أن يكون تابعيا، من الطبقة الخامسة كالأعمش ونحوه، وقد عده في "ت" من كبار الطبقة السابعة، وهم من أتباع التابعين، فيتأمل.

ص: 591

مسلم من طريق عيسى بن يونس، ونصه، وفي حديثا عيسى، حدثني الحكم، حدثني بلال، يعني أن الأعمش صرح بالتحديث كما صرح كعب به، فانتفت تهمة التدليس، والحمد لله.

وأما الإسناد الثاني: ففيه أنه من تساعياته، وأن رواته ما بين جرجرائي، وهو شيخه، وكوفيين، وهم الباقون، إلا بلالا فمدني، ثم شامي، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وصحابي، عن صحابي، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، وأنه نازل لأن بينه وبين الأعمش ثلاث وسائط، بخلاف الأول، فإنه بواسطتين.

وأما الإسناد الثالث:

ففيه أنه من سداسياته، وأنه أعلى من الأولين، وأن رواته ثقات أجلاء، وأنهم كوفيون، إلا شعبة فواسطي، ثم بصري، وبلالا فمدني، ثم دمشقي.

وفيه رواية ثلاثة من التابعين، بعضهم عن بعض، إن صح أنَّ شعبة رأى أنسا وعمرا كما تقدم، لأن الأصح أن التابعي هو الذي رأى الصحابي.

شرح الحديث

(عن بلال) بن رباح رضي الله عنه أنه (قال: رأيت النبي) وفي الروايتين الآتيتين رسول الله (صلى الله عليه وسلم يمسح على الحفين) تثنية خف بضم الخاء وتشديد الفاء، وهو الذي يلبس على الرجل، والجمع أخفاف، وخفاف، بالكسر، أفاده في اللسان.

(والخمار) بالكسر: ما تغطي به المرأة رأسها، والجمع خُمُر، مثل كتاب وكُتُب، أفاده في المصباح، وقال في النهاية: أراد به العمامة؛ لأن

ص: 592

الرجل يغطي بها رأسه، كما أن المرأة تغطيه بخمارها، وذلك إذا كان قد اعتم عمَّة العرب، فأدارها تحت الحنك، فلا يستطيع رفعها في كل وقت، فتصير كالخفين غير أنه يحتاج إلى مسح القليل من الرأس ثم يمسح اهـ.

وقال السندي: قوله "والخمار" أي العمامة؛ لأن الرجل يغطي بها رأسه، كما أن المرأة تغطي الرأس بخمارها، وقد اعتذرمن لا يقول بالمسح على العمامة عن الحديث بأنه من أخبار الآحاد، فلا يعارض الكتاب، لأن الكتاب يوجب مسح الرأس، ومسح العمامة لا يسمى مسح الرأس، على أنه حكايته حال، فيجوز أن تكون العمامة صغيرة رقيقة بحيث ينفذ البلة منها إلى الرأس، ويؤيده اسم الخمار، فإن الخمار ما تستر به المرأة رأسها، وذاك يكون عادة بحيث يمكن نفوذ البلة منها إلى الرأس، إذا كانت البلة كثيرة فكأنه عبر باسم الخمار عن العمامة، لكونها كانت لصغرها كالخمار، على أن الحديث يحتمل أن يكون قبل نزول المائدة، والله أعلم اهـ السندي جـ 1/ ص 75.

قال الجامع عفا الله عنه: الأحسن تفسير الخمار بما خمر به الرأس من عمامة أو منديل، أو غيرهما، قال في "ق": الخمار بالكسر النصيف، وكل ما ستر به شيئا، فهو خمارُهُ اهـ. ويدل عليه حديث ثوبان "أمرهم أن يمسحوا على العصائب" وسيأتي إن شاء الله تعالى، وما قاله في النهاية من أنه يحتاج إلى مسح القليل من الرأس، وكذا ما نقله السندي من اعتذار من لا يقول بالمسح على العمامة ليس مذهبا مرضيا، بل الصواب أن المسح على العمامة جائز، وسيأتي تحقيق الكلام فيه في المسائل إن شاء الله تعالى.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث بلال رضي الله عنه هذا أخرجه

ص: 593

مسلم.

المسألة الثانية: فيمن أخرجه: أخرج حديث بلال مسلم، والمصنف، والترمذي، وابن ماجه.

أما مسلم: فأخرجه في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية، وعن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس، وعن سويد بن سعيد، عن علي بن مسهر ثلاثتهم عن الأعمش، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن بلال رضي الله عنهما.

وأما المصنف: فأخرجه هنا -86/ 104 - عن الحسين بن منصور، عن أبي معاوية، عن الأعمش به.

وعن الحسين بن منصور، عن عبد الله بن نمير، عن الأعمش به.

وأخرجه أيضا -86/ 105 - عن الحسين بن عبد الرحمن الجرجرائي، عن طلق بن غنام، عن زائدة، وحفص بن غياث، كلاهما عن الأعمش، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، عن بلال، وعن هناد، عن وكيع، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بلال نفسه.

وأما الترمذي: فأخرجه في الطهارة عن هناد، عن علي بن مسهر، عن الأعمش، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب عن بلال.

وأما ابن ماجه: فأخرجه في الطهارة أيضا عن هشام بن عمار، عن عيسى بن يونس، عن الأعمش به، أفاده المزي.

المسألة الثالثة: في مذاهب العلماء في المسح على العمامة، وترجيح جوازه:

وقد اختلف الناس في المسح على العمامة:

فذهب إلى جوازه الأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو

ص: 594

ثور، وداود بن علي.

وقال الشافعي: إن صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أقول.

قال الترمذي: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم أبو بكر، وعمر، وأنس، ورواه ابن رسلان عن أبي أمامة، وسعد بن مالك، وأبي الدرداء، وعمر بن عبد العزيز، والحسن وقتادة، ومكحول.

وروى الخلال بإسناده عن عمر أنه قال: من لم يطهره المسح على العمامة، فلا طهره الله، ورواه في الفتح عن الطبري، وابن خزيمة، وابن المنذر، واختلفوا هل يحتاج الماسح على العمامة إلى لبسها على طهارة، أو لا يحتاج؟ فقال أبو ثور: لا يمسح على العمامة والخمار إلا من لبسها على طهارة، قياسا على الخفين، ولم يشترط ذلك الباقون، وكذا اختلفوا في التوقيت، فقال أبو ثور أيضا: إن وقته كوقت المسح على الخفين، وروي مثل ذلك عن عمر، والباقون لم يوقتوا، قال ابن حزم: إن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة، والخمار، ولم يوقت ذلك بوقت، وفيه أن الطبراني قد روى من حديث أبي أمامة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين، والعمامة ثلاثا في السفر، ويوما وليلة في الحضر" لكن في إسناده مروان أبو سلمة، قال ابن أبي حاتم

(1)

: ليس بالقوي، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال الأزدي: ليس بشيء، وسئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، فقال: ليس بصحيح، قاله في النيل جـ 1/ ص 248 - 249.

وذهب كثير من العلماء إلى عدم جواز الاقتصار على مسح العمامة، ونسبه في الفتح إلى الجمهور، قال الترمذي في جامعه: وقال غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لا يمسح على العمامة إلا أن يمسح برأسه مع

(1)

الذي رأيته في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم جـ 8 ص 274 نقلًا عن أبيه، قال: مجهول منكر الحديث.

ص: 595

العمامة، وهو قول سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وابن المبارك، والشافعي اهـ.

وقال الحافظ في الفتح: اختلف علماء السلف في معنى المسح على العمامة، فقيل: إنه كمل عليها بعد مسح الناصية، وقد تقدمت رواية مسلم بما يدل على ذلك، وإلى عدم الاقتصار على المسح عليها ذهب الجمهور، وقال الخطابي: فرض الله مسح الرأس، والحديث في مسح الرأس محتمل للتأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل، قال: وقياسه على مسح الخف بعيد لأنه يشق نزعه بخلافها، وتعقب بأن الذين أجازوا الاقتصار على مسح العمامة شرطوا فيه المشقة في نزعها كما في الخف، وطريقه أن تكون محكمة كعمائم العرب، وقالوا: عضو يسقط فرضه في التيمم فجاز المسح على حائله كالقدمين، وقالوا: الآية لا تنفي ذلك، ولا سيما عند من يحمل المشترك على حقيقته ومجازه؛ لأن من قال: قَبَّلت رأس فلان يصدق، ولو كان على حائل، انتهى كلام الحافظ.

قال الجامع عفا الله عنه: وفي قوله: اشترطوا فيه المشقة نظر؛ لأن هذا ليس مذهبا لكل من أجاز، بل هو مذهب لبعضهم، وهو قول لا دليل عليه، كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

وقال العلامة الشوكلاني بعد نقل أقوال الفريقين، وأدلتهم، ما نصه: والحاصل أنه قد ثبت المسح على الرأس فقط، وعلى العمامة فقط، وعلى الرأس والعمامة، والكل صحيح ثابت، فقصر الإجزاء على

بعض ما ورد لغير موجب ليس من دأب المنصفين. اهـ نيل جـ 1/ ص 249

وقال العلامة المباركفوري في شرحه على الترمذي بعد نقل الشروط التي ذكرها ابن قُدامة لصحة المسح على العمامة ما نصه: قلت: لا ريب في أنه صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة كما تدل عليه أحاديث الباب، وأما هذه

ص: 596

الشرائط التي ذكرها ابن قدامة، فلم أر ما يدل على ثبوتها من الأحاديث الصحيحة وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالتلحي، ونهى عن الاقتعاط

(1)

فلم يذكر ابن قدامة سنده، ولم يذكر تحسينه، ولا تصحيحه عن أحد من أئمة الحديث، ولم أقف على سنده، ولا على من حسنه، أو صححه فالله أعلم كيف هو؟ وأما ما رواه في توقيت المسح على العمامة ففي إسناده شهر بن حوشب الأشعري الشامي مولى أسماء بنت يزيد بن السكن صدوق كثير الإرسال والأوهام، كذا في التقريب.

وقد أخرجه الطبراني أيضا، وفي إسناده مروان أبو سلمة، وقد عرفت أن البخاري قال: إنه منكر الحديث، وقال ابن أبي حاتم: ليس بالقوي، وقد عرفت أيضا أنه سئل أحمد بن حنبل، عن هذا الحديث، فقال: ليس بصحيح، اهـ كلام المباركفوري جـ 1/ ص 348.

وقال الحافظ المحقق أبو محمَّد بن حزم الظاهري في كتابه "المُحَلَّى":

وكل ما لُبسَ على الرأس من عمامة أو خمار، أو قلنسوه، أو بيضة، أو مغفرة، أو غير ذلك أجزأ المسح عليها، المرأةُ والرجلُ سواء في ذلك، لعلة أو غير علة.

برهان ذلك حديث المغيرة الذي ذكرنا آنفا -يعني حديث "أن رسول الله توضأ فمسح بناصيته، ومسح على الخفين، ومسح على العمامة"- وهو حديث صحيح.

ثم ذكر بسنده إلى أحمد بن حنبل، قال: حدثني الحكم بن موسى، ثنا بشر بن إسماعيل، عن الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف، حدثني عمرو بن أمية الضمري "أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والعمامة".

(1)

الاقتعاط أن لا يكون تحت الحنك منها شيء اهـ المغني.

ص: 597

قال أبو محمَّد: ورويناه من طريق البخاري، عن عبدان، عن عبد الله ابن داود الخريبي، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، وهذا قوة للخبر؛ لأن أبا سلمة سمعه من عمرو بن أمية الضمري سماعا، وسمعه أيضا من جعفر ابنه عنه، ثم ذكر بسنده حديث بلال المذكور في الباب، وذكره أيضا من طريق أبي إدريس الخولاني، عن بلال، بلفظ

"أنه عليه السلام مسح على العمامة، والموقين" قال: ورويناه أيضا من طريق أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن سلمان، وذكر حديث أبي ذر رضي الله عنه "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الموقين والخمار".

قال: فهؤلاء ستة من الصحابة رضي الله عنهم: المغيرة بن شعبة، وبلال، وسلمان، وعمرو بن أمية، وكعب بن عجرة، وأبو ذر، كلهم يروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد لا معارض لها، ولا مطعن فيها. وبهذا القول يقول جمهور الصحابة، والتابعين، كما رويناه من طريق ابن أبي شيبة، عن عبد الله بن نمير، وإسماعيل بن علية، كلاهما عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني، عن عبد الرحمن بن عُسَيلة الصنابحي، قال: رأيت أبا بكر الصديق يمسح على الخمار يعني في الوضوء. وعن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن عمران بن مسلم، عن سويد بن غفلة قال: سأل نباتة

(1)

الجعفي عمر بن الخطاب عن المسح على العمامة، فقال له عمر بن الخطاب: إن شئت فامسح على العمامة، وإن شئت فدع.

(1)

بضم النون ويقال بفتحها، ثم باء موحدة مفتوحة ثم مثناة مفتوحة، ذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان من المعلمين على عهد عمر اهـ من هامش المحلى.

ص: 598

وعن عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي جعفر بن عبد الله الرازي، عن زيد بن أسلم، قال: قال عمر بن الخطاب: "من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله".

وعن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، وعبيد الله بن أبي بكر بن أنس، كلاهما عن أنس بن مالك: أنه كان يمسح على الجوربين، والخفين والعمامة، وهذه أسانيد في غاية الصحة.

وعن الحسن البصري، عن أمه: أن أم سلمة أم المؤمنين كانت تمسح على الخمار، وعن سلمان الفارسي، أنه قال لرجل: امسح على خفيك، وعلى خمارك، وامسح بناصيتك.

وعن أبي موسى الأشعري: أنه خرج من حَدَث، فمسح على خفيه، وقلنسوته، وعن أبي أمامة الباهلي، أنه كان يمسح على الجوربين، والخفين، والعمامة، وعن علي بن أبي طالب أنه سئل عن المسح على الخفين؟ فقال: نعم، وعلى النعلين، والخمار.

وهو قول سفيان الثوري، رويناه عن عبد الرزاق عنه، قال:

القلنسوة بمنزلة العمامة، يعني في جواز المسح عليها، وهو قول الأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وداود بن علي، وغيرهم، وقال الشافعي: إن صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبه أقول.

قال أبو محمَّد بن حزم: والخبر، ولله الحمد قد صح، فهو قوله.

قال أبو محمَّد: وسواء لبس ما ذكر على طهارة أو غير طهارة، قال أبو ثور: لا يمسح على العمامة والخمار إلا من لبسهما على طهارة قياسا على الخفين. ثم رد ابن حزم على أبي ثور في اشتراطه هذا، فأجاد.

ص: 599

قال: ويمسح على كل ذلك أبدًا بلا توقيت ولا تحديد، وقد جاء عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، التوقيت في ذلك ثابتا عنه كالمسح على الخفين، وبه قال أبو ثور، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة، والخمار، ولم يخص لنا حالا من حال، فلا يجوز أن يخص بالمسح حال دون حال، اهـ المقصود من كلام ابن حزم في المحلى جـ 2/ ص 58 - 65.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله أبو محمَّد ابن حزم رحمه الله حسن جدًا.

وحاصله أن المسح على العمامة ونحوها جائز سواء لبسها على طهارة أم لا، وسواء مسح بعض رأسه بماء أم لا، وذلك بلا توقيت، وهذا هو المذهب الراجح، لوضوح الأدلة فيه. والله تعالى أعلم.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.

ص: 600

‌87 - باب الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ مَعَ النَّاصِيَةِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية المسح على العمامة مع الناصية. وتقدم معنى المسح والعمامة.

وأما الناصية: فقد تقدم تفسيرها، وضبطها أيضا عن اللسان، والمجموع، ونزيد هنا ما قاله الفيومي في مصباحه، قال رحمه الله: الناصية: قُصاص الشعر، وجمعها النواصي، نَصَوت فلانا نَصْوًا، من باب قتل: قبضت على ناصيته، وقول أهل اللغة: النَّزَعَتَان: هما البياضان اللذان يكتنفان الناصية، والقفا مؤخر الرأس، والجانبان ما بين النَّزَعَتين، والقفا والوسط ما أحاط به ذلك، وتسميتهم كل موضع باسم يخصه كالصريح في أن الناصية مقدم الرأس، فكيف يستقيم على هذا تقدير الناصية بربع الرأس، وكيف يصح إثباته بالاستدلال، والأمور النقلية إنما تثبت بالسماع، لا بالاستدلال، ومن كلامهم جر ناصيته، وأخذ بناصيته، ومعلوم أنه لا يتقدر لأنهم قالوا: الطُّرَّة هي الناصية، وأما الحديث "ومسح بناصيته" فهو قال على هيئة، ولا يلزم منها نفي ما سواها، وإن قلنا الباء للتبعيض ارتفع النزاع. اهـ المصباح.

107 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَمَسَحَ نَاصِيَتَهُ

ص: 601

وَعِمَامَتَهُ، وَعَلَى الْخُفَّيْنِ.

قَالَ بَكْرٌ: وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ.

108 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَحُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ يَزِيدَ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيُّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَخَلَّفْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَ:"أَمَعَكَ مَاءٌ". فَأَتَيْتُهُ بِمِطْهَرَةٍ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يَحْسُرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، فَضَاقَ كُمُّ الْجُبَّةِ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ، وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَعَلَى الْعِمَامَةِ، وَعَلَى خُفَّيْهِ.

رجال الإسنادين

أما الإسناد الأول ففيه [7]

1 -

(عمرو بن علي) بن بحر بن كُنَيز -مصغرا- الباهلي، أبو حفص البصري، الصيرفي الفلاس، روى عن عبد الوهاب الثقفي، ويزيد بن زريع، وخالد بن الحارث، وأبي قتيبة، سَلْم بن قتيبة، وأبي داود

ص: 602

الطيالسي، وأبي عاصم النبيل، والخريبي، وعبد الأعلي بن عبد الأعلى، وابن مهدي، وغندر، وعبد الله بن إدريس، وابن أبي عدي، ومعاذ بن معاذ، ومعاذ بن هشام، ومعاذ بن هانئ، ويحيى ابن سعيد القطان، ووهب بن جرير بن حازم، ويزيد بن هارون، وأبي بكر، وأبي علي الحنفيين، وبشر بن المفضل، وأزهر بن سعد السمان، وعفان، وفضيل ابن سليمان، والنميري، وابن عيينة، ومحمد بن فضيل، وخلق كثير.

وروى عنه الجماعة، وروى النسائي عن زكريا السجزي عنه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وعبد الله بن أحمد، وابن أبي الدنيا، ومحمد بن يحيى بن منده، وجعفر الفريابي، إسحاق بن إبراهيم البستي، وشعيب بن محمد الدَّارع، ومحمد بن علي الحكيم الترمذي، والهيثم ابن خلف الدوري، وقاسم المطرز، وأحمد بن محمَّد بن عمر الحراني، والحسن بن سفيان، ومحمد بن إبراهيم بن شعيب المغازي، ومحمد بن صالح بن الوليد النرسي، ومحمد بن يونس المعصفري، وأحمد بن محمَّد ابن منصور الجوهري، ومحمد بن جرير الطبري، ويحيى بن يحيى بن محمَّد بن صاعد، وأبو روق أحمد بن بكر الهزاني.

قال أبو حاتم: كان أرشق

(1)

من علي بن المديني، وهو بصري صدوق، وقال أيضا: سمعت العنبري يقول: ما تعلمت الحديث إلا من عمرو بن علي، وقال حجاج بن الشاعر: عمرو بن علي لا يبالي أحدث من حفظه، أو من كتابه، وقال النسائي: ثفة صاحب حديث حافظ، وقال أبو الشيخ الأصبهاني: قدم أصبهان سنة 16، وسنة 36، وحكى ابن مكرم بالبصرة، قال: ما قدم علينا بعد علي بن المديني مثل عمرو بن

(1)

أي أحسن.

ص: 603

علي، مات بالعسكر في آخر ذي القعدة سنة 249.

قال الحافظ: وقال أبو زرعة: كان من فرسان الحديث، وفي الترمذي: سمعت أبا زرعة يقول: روى عفان عن عمرو بن علي حديثا، وقال الدارقطني: كان من الحفاظ، وبعض أصحاب الحديث يفضلونه على ابن المديني، ويتعصبون له، وقد صنف المسند، والعلل والتاريخ، وهو إمام متقن، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحسين ابن إسماعيل المحاملي: ثنا أبو حفص الفلاس، وكان من نبلاء المحدثين، وقال عبد الله بن علي بن المديني: سألت أبي عنه، فقال: قد كان يطلب، قلت: روى عن عبد الأعلى، عن هشام، عن الحسن "الشفعة لا تورث"، فقال: ليس هذا في كتاب عبد الأعلى، قال الحاكم: وقد كان عمرو بن علي أيضا يقول في علي بن المديني، وقد أجل الله تعالى محلهما جميعا عن ذلك يعني أن كلام الأقران غير معتبر في حق بعضهم بعضا، إذا كان غير مُفَسَّر لا يقدح، وقال إبراهيم بن أرومة الأصبهاني: حدث عمرو بن علي بحديث عن يحيى القطان فبلغه، أن بندارًا قال: ما نعرف هذا من حديث يحيى، فقال أبو حفص: وبلغ بندار إلى أن يقول: ما نعرف؟ قال إبراهيم: وصدق أبو حفص، بندار رجل صاحب كتاب، وأما أن يأخذ على أبي حفص فلا، وقال صالح جزرة: ما رأيت في المحدثين بالبصرة أكيس من خياط، ومن أبي حفص الفلاس، وكانا جميعا متهمين، وما رأيت بالبصرة مثل ابن عرعرة، وكان أبو حفص أرجح عندي منهما، وقال ابن إشكاب: كان عمرو بن علي يحسن كل شيء، وقال العباس العنبري: حدث يحيى بن سعيد القطان بحديث، فأخطأ فيه، فلما كان من الغد اجتمع أصحابه حوله، وفيهم ابن المديني، وأشباهه، فقال لعمرو بن علي من بينهم: أخطئ في حديث وأنت حاضر فلا تنكر؟ وقال مسلمة بن قاسم: ثقة حافظ، وقد

ص: 604

تكلم فيه علي بن المديني، وطعن في روايته، عن يزيد بن زريع، انتهى، وإنما طعن في روايته عن يزيد؛ لأنه استصغره فيه، وفي الزهرة، روى عنه (خ) سبعة وأربعين حديثًا، ومسلم حديثين، اهـ تهذيب

التهذيب جـ 8/ ص 80 - 82، أخرج عنه الجماعة. وفي "ت" ثقة حافظ من العاشرة.

2 -

(يحيى بن سعيد) بن فروخ بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة وسكون الواو، أبو سعيد القطان، البصري، ثقة متقن [9] تقدم في 4/ 4.

3 -

(سليمان التيمي) هو ابن طرخان، أبو المعتمر البصري، ولم يكن من بني تيم، إنما نزل فيهم، روى عن أنس بن مالك، وطاوس، وأبي إسحاق السبيعي، وأبي عثمان النهدي، وأبي نضرة العبدي، وأبي عثمان، وليس بالنهدي، ونعيم بن أبي هند، وأبي السليل: ضُرَيب بن نُقَير، وأبي المنهال: سَيَّار بن سلامة، والحسن البصري، وثابت البناني، وأبي مجْلز، وأبي بكر بن أنس بن مالك، وبكر بن عبد الله المزني، وخالد الأشج، ورَقَبة بن مَصْقَلَة، والسميط السدوسي، ومعبد بن هلال، وغنيم بن قيس، وقتادة، وعبد الرحمن بن آدم، وصاحب السقاية، ويزيد بن عبد الله بن الشخير، ويحيى بن معمر،

والأعمش، وهو من أقرانه، وغيرهم.

وعنه: ابنه معتمر، وشعبة، والسفيانان، وزائدة، وزهير، وحماد بن سلمة، وابن علية، وابن المبارك، وعبد الوارث بن سعيد، وإبراهيم بن سعيد، وجرير، وحفص بن غياث، وسليم بن أخضر، وأبو زبيد عبثرُ بنُ القاسم، وعيسى بن يونس، وابن أبي عدي، ومعاذ بن معاذ، وهشيم، والقطان، ويزيد بن هارون، ويوسف بن يعقوب الضبعي، ومروان بن معاوية، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وأبو عاصم النبيل، وغيرهم.

ص: 605

قال الربيع بن يحيى عن سعيد: ما رأيت أحدا أصدق من سليمان التيمي، وقال أبو بحر البكراوي، عن شعبة: شَكُّ ابن عون، وسليمان التيمي يقين، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: هو ثقة، وهو في أبي عثمان أحب إلى من عاصم الأحول، وقال ابن معين، والنسائي: ثقة، وقال العجلي: تابعي ثقة، فكان من خيار أهل البصرة، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وكان من العباد المجتهدين، وكان يصلي الليل كله بوضوء عشاء الآخرة، وكان مائلا إلى علي بن أبي طالب، وقال الثوري: حفاظ البصرة ثلاثة: فذكره فيهم، وكذا ذكره فيهم ابن عُلَيَّة، وقال ابن المديني، عن يحيى: ما جلست إلى رجل أخوف لله منه، وقال محمَّد بن علي الوراق، عن أحمد بن حنبل: كان يحيى بن سعيد يثني على التيمي، وكان عنده عن أنس أربعة عشر حديثا، ولم يكن يذكر أخباره، قال: وأرى أن أصل التيمي كان قد ضاع، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي، سليمانُ أحب إليك في أبي عثمان، أو عاصمٌ؟ قال: سليمان. قال سليمان التيمي: أتَوني بصحيفة جابر، فلم أرْوها، فراحوا بها إلى الحسن فرواها، وراحوا بها إلى قتادة فرواها، حكاه القطان عنه، وقال ابن سعد: توفي بالبصرة في ذي القعدة سنة 143،

وقال ابنه المعتمر: مات وهو ابن 97 سنة.

قال الحافظ: وقال ابن حبان في الثقات: كان من عباد أهل البصرة، وصالحيهم، ثقة، وإتقانًا، وحفظًا وسنةً، وقال يحيى بن معين: كان يدلس، وفي تاريخ البخاري عن يحيى بن سعيد: ما روى عن الحسن وابن سيرين صالح، إذا قال: سمعت، أو حدثنا، وقال يحيى بن سعيد: مرسلاته شبه لا شيء، وقال ابن المبارك في تاريخه: التيمي

(1)

وعلية مشايخ أهل البصرة لم يسمعوا من أبي العالية، وقال ابن

(1)

قال المجد: عليَهُ الناس، وعليُهُم مكسورين: جلَّتُهُم. اهـ.

ص: 606

أبي حاتم في المراسيل، عن أبي زرعة: لم يسمع من عكرمة، قال: وقال أبي: لا أعلمه سمع من سعيد بن المسيب، وقال أبو غسان النهدي: لم يسمع من نافع، ولا من عطاء. اهـ تهذيب التهذيب جـ 4/ ص 301 - 303، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة عابد من الرابعة.

4 -

(بكر بن عبد الله المزني) هو بكر بن عبد الله بن عمرو المزني، أبو عبد الله البصري، قال أبو حاتم: هو أخو علقمة بن عبد الله المزني، وقال غيره: ليس بأخيه.

روى عن أنس بن مالك، وابن عباس، وابن عمر، والمغيرة بن شعبة، وأبي رافع الصائغ، والحسن البصري، وحمزة، وعروة ابني المغيرة بن شعبة، وأبي تميمة الهجيمي، وغيرهم.

وعنه ثابت البناني، وسليمان التيمي، وقتادة، وغالب القطان، وعاصم الأحول، وسعيد بن عبد الله بن جبير بن حية، ومطر الوراق.

قال ابن المديني: له نحو خمسين حديثا، قال: أدركت ثلاثين من فرسان مزينة: منهم عبد الله بن مغفل، ومعقل بن يسار، وقال ابن معين، والنسائي: ثقة، وقال أبو زرعة: ثقة مأمون، وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتا مأمونا حجة، وكان فقيها، مات سنة 108، وقال ابن المديني، وغيره: مات سنة 106، ورجح ابن سعد الأول.

قال الحافظ: وبالثاني قال البخاري، وابن أبي خيثمة، وأبو نصر الكلاباذي، وغيرهم، وقال ابن حبان في الثقات: روى عن عبد الله ابن عمرو بن هلال المزني، وله صحبة، وكان عابدا فاضلا، وهو والد عبد الله بن بكر، وقال حميد الطويل: كان بكر مجاب الدعوة، وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين: لم يسمع بكر من المغيرة، وقال ابن

ص: 607

أبي حاتم عن أبيه: روايته عن أبي ذر مرسلة، وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، وكان بكر يقول: إياك من الكلام ما إن أصبت فيه لم تؤجر، وإن أخطأت فيه أثمت، وهو سوء الظن بأخيك اهـ تهذيب التهذيب جـ 1/ ص 484 - 485. أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة ثبت جليل من الثالثة.

5 -

(الحسن) بن أبي الحسن، يسار البصري، أبو سعيد مولى الأنصاري، وأمه خَيْرة مولاة أم سلمة، قال ابن سعد: ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، ونشأ بوادي القرى وكان فصيحا، رأى عليا وطلحة، وعائشة، وكتب للربيع بن زياد والي خراسان في عهد معاوية، روى عن أبي بن كعب، وسعد بن عبادة، وعمر بن الخطاب، ولم يدركهم، وعن ثوبان، وعمار بن ياسر، وأبي هريرة، وعثمان بن أبي العاص، ومعقل بن سنان، ولم يسمع منهم، وعن عثمان وعلي، وأبي موسى، وأبي بكر، وعمران بن حصين، وجندب البجلي، وابن عمر، وابن عباس، وابن عمرو بن العاص، ومعاوية، ومعقل بن يسار، وأنس، وجابر، وخلق كثير من الصحابة والتابعين.

وعنه حميد الطويل، ويزيد بن أبي مريم، وأيوب، وقتادة، وعوف الأعرابي، وبكر بن عبد الله المزني، وجرير بن حازم، وأبو الأشهب، والربيع بن صَبيح، وسعيد الجريري، وسعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف، وسماك بن حرب، وشيبان النحوي، وابن عون، وخالد الحذاء، وعطاء بن السائب، وعثمان البتي، وقرة بن خالد، ومبارك بن فضالة، والمعلي بن زياد، وهشام بن حسان، ويونس بن عبيد، ومنصور بن زاذان، ومعبد بن هلال، وآخرون من أواخرهم يزيد بن إبراهيم التستري، ومعاوية بن عبد الكريم الثقفي المعروف بالضال.

ص: 608

قال ابن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، قال لي الحجاج: كم أمدك؟، قلت: سنتان من خلافة عمر، وقال عبيد الله بن عمرو الرقي، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أمه، أنها كانت ترضع لأم سلمة، وقال أنس بن مالك: سلوا الحسن فإنه حفظ، ونسينا، وقال سليمان التيمي: الحسن شيخ أهل البصرة، وقال مطر الوراق: كان جابر بن زيد، رجل من أهل البصرة، فلما ظهر الحسن جاء رجل كأنما كان في الآخرة، فهو يخبر عما رأى وعاين، وقال محمَّد بن فضيل، عن عاصم الأحول: قلت للشعبي: لك حاجة؟ قال: نعم، إذا أتيت البصرة فأقرئ الحسن مني السلام، قلت: ما أعرفه، قال: إذا دخلت البصرة فانظر إلى أجمل رجل تراه في عينك، وأهيبه في صدرك، فأقرأه مني السلام، قال: فما عدا أن دخل المسجد، فرأى الحسن والناس حوله جلوس، فأتاه فسلم عليه، وقال أبو عوانة، عن قتادة: ما جالست فقيها قط إلا رأيت فضل الحسن عليه، وقال أيوب: ما رأت عيناي رجلا قط كان أفقه من الحسن، وقال غالب القطان، عن بكر المزني: من سره أن ينظر إلى أعلم عالم أدركناه في زمانه فلينظر إلى الحسن، فما أدركنا الذي هو أعلم منه. وقال يونس بن عبيد: إن كان الرجل ليرى الحسن، لا يسمع كلامه، ولا يرى علمه، فينتفع به.

وقال حماد بن سلمة، عن يونس بن عبيد، وحميد الطويل: رأينا الفقهاء، فما رأينا أحدا أكمل من الحسن، وقال الحجاج بن أرطأة: سألت عطاء بن أبي رباح، فقال لي: عليك بذاك، يعني الحسن، ذاك إمام ضخم يقتدى به، وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: اختلفت إلى الحسن عشر سنين، أو ما شاء الله، فليس من يوم إلا أسمع منه ما لم أسمع قبل ذلك.

وقال الأعمش: ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها، وكان إذا

ص: 609

ذكر عند أبي جعفر يعني الباقر، قال: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء، وقال هشيم، عن ابن عون: كان الحسن والشعبي يحدثان بالمعاني، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم، عن صالح بن أحمد بن حنبل، عن أبيه سمع الحسن من ابن عمر، وأنس، وعبد الله بن مغفل، وعمرو ابن تغلب، قال عبد الرحمن: فذكرته لأبي، فقال: قد سمع من هؤلاء الأربعة ويصح له السماع من أبي برزة، ومن غيرهم، ولا يصح له السماع من جندب، ولا من معقل بن يسار، ولا من عمران بن حصين، ولا من أبي هريرة، وقال همام بن يحيى، عن قتادة: والله ما حدثنا الحسن عن بدري مشافهة، وقال ابن المديني: مرسلات الحسن إذا رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما يسقط منها

(1)

.

وقال أبو زرعة: كل شيء يقول الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدت أصلا ثابتا، ما خلا أربعة أحاديث، وقال محمَّد بن سعد: كان الحسن جامعا عالما رفيعا، فقيها، ثقة مأمونا، عابدا ناسكا، كثير العلم، فصيحا جميلا، وسيما، وكان ما أسند من حديث، وروى عمن سمع منه حجة، وما أرسل فليس بحجة.

وقال حماد بن زيد، عن هشام بن حسان: كنا عند محمَّد يعني ابن سيرين، عشية يوم الخميس، فدخل عليه رجل بعد العصر، فقال: مات الحسن، قال: فترحم عليه محمَّد، وتغير لونه، وأمسك عن الكلام، قال ابن علية، والسري بن يحيى: مات سنة 110، زاد ابن علية: في رجب، وقال ابنه عبد الله: هلك أبي وهو ابن نحو من 88 سنة.

قال الحافظ: سئل أبو زرعة، هل سمع الحسن أحدا من البدرين؟

(1)

زاد في هامش الخلاصة ها هنا من تهذيب الكمال ما نصه: وقال يونس بن عبيد: سألت الحسن قلت يا أبا سعيد: إنك تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنك لم تدركه؟ قال: يا ابن أخي لقد سألتني عن شيء ما سألني أحد قبلك، ولولا منزلتك مني ما أخبرتك، إني في زمان كما ترى -وكان في عمل الحجاج- كل شيء سمعتني أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عن علي بن أبي طالب، غير أني في زمن لا أستطيع أن أذكر عليا. اهـ

ص: 610

قال: رآهم رؤية، رأى عثمان، وعليا، قيل: هل سمع منهما حديثا؟ قال: لا، رأى عليا بالمدينة، وخرج علي إلى الكوفة والبصرة، ولم يلقه الحسن بعد ذلك، وقال الحسن: رأيت الزبير يبايع عليا، وقال ابن المديني: لم ير عليا إلا أن كان بالمدينة، وهو غلام، ولم يسمع من جابر بن عبد الله، ولا من أبي سعيد، ولم يسمع من ابن عباس، وما رآه قط، كان الحسن بالمدينة أيام كان ابن عباس بالبصرة، وقال أيضا: في قول الحسن: خطبنا ابن عباس بالبصرة، قال: إنما أراد خطب أهل البصرة، كقول ثابت: قدم علينا عمران بن حصين، وكذا قال أبو حاتم، وقال بهز بن أسد: لم يسمع الحسن من ابن عباس، ولا من أبي هريرة، ولم يره ولا من جابر، ولا من أبي سعيد الخدري، واعتماده على كتب سمرة، قال السائل: فهذا الذي يقوله أهل البصرة سبعون بدريًا، قال: هذا كلام السوقة، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: ما حدثنا الحسن عن أحد من أهل بدر مشافهة، وقال أحمد: لم يسمع من ابن عباس، إنما كان ابن عباس بالبصرة واليا عليها أيام علي، وقال شعبة: قلت ليونس بن عبيد: سمع الحسن من أبي هريرة؟ قال: ما رآه قط، وكذا قال ابن المديني، وأبو حاتم، وأبو زرعة، زاد: ولم يره، قيل له: فمن قال: حدثنا أبو هريرة؟ قال يخطئ، قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول، وذكر حديثًا حدثه مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا ربيعة بن كلثوم، قال: سمعت الحسن، يقول: حدثنا أبو هريرة، قال أبي: لم يعمل ربيعة شيئًا، لم يسمع الحسن من أبي هريرة شيئًا، قلت لأبي: إن سالمًا الخياط روى عن الحسن، قال: سمعت أبا هريرة، قال: هذا مما يبين ضعف سالم، وقال أبوزرعة: لم يلق جابرًا، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي سمع الحسن من جابر؟ قال: ما أدري، ولكن هشام بن حسان يقول، عن الحسن: ثنا جابر، وأنا أنكر هذا، إنما الحسن عن

ص: 611

جابر كتاب، مع أنه أدرك جابرًا، وقال ابن المديني: لم يسمع من أبي موسى، وقال أبو حاتم وأبو زرعة: لم يره، وقال ابن المديني: سمعت يحيى يعني القطان، وقيل له: كان الحسن يقول: سمعت عمران بن حصين، قال: أما عن ثقة فلا، وقال ابن المديني، وأبو حاتم: لم يسمع منه، وليس يصح ذلك من وجه يثبت، وقال أحمد: قال بعضهم، عن الحسن، ثنا أبو هريرة، وقال بعضهم، عن الحسن: حدثني عمران بن حصين، وقال ابن المديني: لم يسمع من الأسود بن سريع

(1)

لأن الأسود خرج من البصرة أيام علي، وكذا قال ابن منده، وقال ابن المديني: روي عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن، أن سراقة حدثهم، وهذا إسناد ينبو عنه القلب، أن يكون الحسن سمع من سراقة إلا أن يكون معنى حدثهم حدث الناس، فهذا أشبه، وقال عبد الله بن أحمد: سئل أبي: سمع الحسن من سراقة؟ قال: لا، وقال ابن المديني: لم يسمع من عبد الله بن عمرو، ولا من أسامة بن زيد، ولا النعمان بن بشير، ولا من الضحاك بن سفيان، ولا من أبي برزة الأسلمي، ولا من عقبة بن عامر، ولا من أبي ثعلبة الخشني، ولا من قيس بن عاصم، ولا من عائذ ابن عمرو، ولا من عمرو بن تغلب، وقال أحمد: سمع الحسن من عمرو بن تغلب، وقال أبو حاتم: سمع منه، وقال أبو حاتم: لم يسمع من أسامة بن زيد، ولا يصح له سماع من معقل بن يسار، وقال أبو زرعة: الحسن عن معقل بن سنان بعيد جدا، وعن معقل بن يسار أشبه، وقال أبو زرعة: الحسن عن أبي الدرداء مرسل، وقال أبو حاتم: لم يسمع من سهل ابن الحنظلية، وقال الترمذي: لا يعرف له سماع من علي، وقال أحمد: لا نعرف له سماعا من عتبة بن غزوان، وقال البخاري: لا يعرف له سماع من دغفل.

(1)

بفتح السين وكسر الراء، صحابي نزل البصرة. اهـ تقريب.

ص: 612

وأما رواية الحسن عن سمرة بن جندب، ففي صحيح البخاري سماعا منه لحديث العقيقة، وقد رَوَى عنه نسخة كبيرة غالبا في السنن الأربعة، وعند علي بن المديني أن كلها سماع، وكذا حكى الترمذي عن البخاري، وقال يحيى القطان وآخرون: هي كتاب، وذلك لا يقتضي الانقطاع، وفي مسند أحمد: حدثنا هشيم، عن حميد الطويل، قال: جاء رجل إلى الحسن، نقال له: إن عبدا له أبق، وأنه نذر إن قدر عليه أن يقطع يده، فقال الحسن: حدثنا سمرة، قال:"قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمر فيها بالصدقة، ونهى عن المثلة" وهذا يقتضي سماعه منه لغير حديث العقيقة، وقال أبو داود عقب حديث سليمان بن سمرة، عن أبيه في الصلاة: دلت هذه الصحيفة على أن الحسن سمع من سمرة، قال الحافظ: ولم يظهر لي وجه الدلالة بعد، وقال العباس الدوري: لم يسمع الحسن من الأسود بن سَريع، وكذا قال الآجري، عن أبي داود، وقال عنه في حديث شريك، عن أشعث عن الحسن: سألت جابرًا عن الحائض، فقال: لا يصح، وقال البزار في مسنده، في آخر ترجمة

سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: سمع الحسن البصري من جماعة، وروى عن آخرين لم يدركهم، وكان يتأول، فيقول: حدثنا، وخطبنا، يعني قومه الذين حدثوا، وخطبوا بالبصرة، قال: ولم يسمع من ابن

عباس، ولا الأسود بن سريع، ولا عبادة، ولا سلمة بن المحبق، ولا عثمان، ولا أحسبه سمع من أبي موسى، ولا من النعمان بن بشير، ولا من عقبة بن عامر، ولا سمع من أسامة، ولا من أبي هريرة، ولا من ثوبان، ولا من العباس، ووقع في سنن النسائي من طريق، أيوب عن الحسن، عن أبي هريرة، غير هذا الحديث، أخرجه عن إسحاق بن راهويه، عن المغيرة بن سلمة، عن وهيب، عن أيوب، وهذا إسناد لا مطعن من أحد في رواته، وهو يؤيد أنه سمع من أبي هريرة في الجملة،

ص: 613

وقصته في هذا شبيهة بقصته في سمرة سواء، وقال سليمان ابن كثير عن يونس بن عبيد، قال: وولاه علي بن أرطأة قضاء البصرة، يعني الحسن في أيام عمر بن عبد العزيز، ثم استعفى، قال يونس بن عبيد: ما رأيت رجلا أصدق بما يقول منه، ولا أطول حزنا، وقال ابن عون: كنت أشبه لهجة الحسن، بلهجة رُؤْبَة يعني في الفصاحة، وقال العجلي: تابعي ثقة رجل صالح صاحب سنة، وقال الدارقطني: مراسيله فيها ضعف، وقال ابن عون: قلت له: عمن تحدث هذه الأحاديث؟ قال: عنك، وعن ذا، وعن ذا، وقال ابن حبان في الثقات: احتلم سنة 37، وأدرك بعض صفين، ورأى مائة وعشرين صحابيا، وكان يدلس، وكان من أفصح أهل البصرة، وأجملهم، وأعبدهم، وأفقههم، وروى معمر، عن قتادة، عن الحسن، قال: الخير بقدر، والشر ليس بقدر، قال أيوب: فناظرته في هذه الكلمة، فقال: لا أعود، وقال حميد الطويل: سمعته يقول: خلق الله الشياطين، وخلق الخير، وخلق الشر، وقال حماد بن سلمة عن حميد: قرأت القرآن على الحسن، ففسره على الإثبات، يعني على إثبات القدر، وكذا قال حبيب بن الشهيد، ومنصور بن زاذان، وقال رجاء بن أبي سلمة، عن ابن عون: سمعت الحسن يقول: من

كذّب بالقدر، فقد كفر، وقال أبو داود: لم يحج الحسن إلا حجتين وكان من الشجعان، وقال جعفر بن سليمان: كان المهلب يقدمه يعني في الحرب. اهـ تهذيب التهذيب جـ 2/ ص 263 - 270، أخرج له الجماعة

6 -

(ابن المغيرة) بن شعبة، هو حمزة بن المغيرة بن شعبة الثقفي، روى عن أبيه، وعنه إسماعيل بن محمَّد بن سعد بن أبي وقاص، وعباد ابن زياد ابن أبي سفيان، والنعمان أبي خالد، وروى بكر بن عبد الله المزني عنه، عن أبيه في المسح على الخفين، وقال مرة: عروة بن المغيرة، عن أبيه، وقال الحسن البصري، عن ابن المغيرة، عن أبيه في المسح على

ص: 614

الخفين، وقال مرة، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، ولم يسمعه، قال العجلي: تابعي ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات، اهـ تهذيب التهذيب، وفي "ت" ثقة [3]، أخرج له مسلم، والنسائي، وابن ماجه.

7 -

(المغيرة بن شعبة) بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس، وهو ثقيف، أبو عيسى، ويقال: أبو محمَّد الثقفي شهد الحديبية وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنه أولاده عروة وحمزة، وعقار، ومولاه وراد، وابن عم أبيه جبيرة

ابن حية، وزياد بن جبير على خلاف فيه، والمسور بن مخرمة، وقيس ابن أبي حازم، ومسروق بن الأجدع، ونافع بن جبير بن مطعم، وعامر الشعبي، وعروة بن الزبير، وعمرو بن وهب الثقفي، وقبيصة بن ذويب، وعبيد بن نَضْلَة، وبكر بن عبد الله المزني، وزياد بن علاقة، والأسود بن هلال، وتميم بن حَذْلَم، وعلقمة بن وائل الحضرمي، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعلي بن ربيعة الوالبي، وهُزَيل بن شُرَحْبيل، وزُرَارة ابن أوفى، وآخرون.

قال ابن سعد: كان يقال له: مغيرة الرأي، وشهد اليمامة، وفتوح الشام، والقادسية، وقال مجالد، عن الشعبي: كان دهاة الناس أربعة، فذكر فيهم المغيرة.

وقال معمر عن الزهري: كان دهاة الناس في الفتنة خمسة، فذكره فيهم، وقال مجالد عن الشعبي: سمعت قبيصة بن جابر يقول: صحبت المغيرة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب، لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج من أبوابها كلها، وقال ابن عبد البر: ولاه عمر البصرة، فلما شُهدَ عليه عند عمر عزله، ثم ولاه الكوفة، وأقره عثمان عليها ثم عزله، ثم اعتزل الفتنة، ثم حضر الحكمين، وولاه معاوية الكوفة، وقال أبو عبيد

ص: 615

القاسم بن سلام: توفي سنة 49، وهو أميرها.

وقال ابن سعد، وأبو حسان الزيادي، وغير واحد: مات سنة 50، ونقل الخطيب الإجماع من أهل العلم على ذلك، وقال ابن عبد البر: مات سنة 51.

قال الحافظ: إنما حكى ابن عبد البر ذلك بصيغة التمريض، بعد أن جزم في موضعين من ترجمته أنه مات سنة 50، وفيها في شعبان أرخه ابن حبان، وقيل: إنه أول من سلم عليه بالإمرة، وقال أبو القاسم البغوي، وكان أول من وضع ديوان البصرة. اهـ تهذيب التهذيب جـ 10/ ص 262 - 263.

أما الإسناد الثاني ففيه [7] أيضا

1 -

(عمرو بن علي) تقدم في السند السابق.

2 -

(حميده بن مسعدة) بميم مفتوحة وسين ساكنة- بن المبارك السامي الباهلي، أبو علي، ويقال: أبو العباس البصري، روى عن حماد بن زيد، وبشر بن المفضل، وابن علية، وعبد الوهاب الثقفي، وعبد الوارث ابن سعيد، ومعتمر بن سليمان، ويزيد بن زريع، وجماعة.

وعنه الجماعة سوى البخاري، وأبو زرعة، وأبو يحيى صاعقة، وموسى بن هارون، وجعفر الفريابي، وأبو جعفر الطبري، ومحمد بن إبراهيم بن الحزور، والبغوي، وغيرهم.

قال أبو حاتم: كتبت حديثه في سنة نيف وأربعين ومائتين، فلما قدمت البصرة، كان قد مات، وكان صدوقا، وقال أبو الشيخ: توفي سنة 44، وكذا قال ابن حبان في الثقات في تاريخ وفاته، قال الحافظ:

وقال النسائي في أسماء شيوخه: ثقة، وقال إبراهيم بن أرومة: كل

ص: 616

حديث حميد فائدة، وينظر كيف يجتمع الباهلي والسامي. اهـ تت.

جـ 3/ ص 49. أخرج عنه الجماعة إلا البخاري، وفي "ت" صدوق من العاشرة.

3 -

(يزيد بن زريع) بضم الزاي وفتح الراء مصغرا- العيشي، ويقال: التميمي، أبو معاوية البصري الحافظ، روى عن سليمان التيمي، وحميد الطويل، وأبي سلمة سعيد بن يزيد، وعمرو بن ميمون بن مهران، وأيوب، وحبيب المعلم، وحبيب بن الشهيد، وخالد الحذاء، وحجاج بن أبي هند، وسعيد بن إياس الجريري، وسعيد بن أبي عروبة، وهشام بن حسان، ويونس بن عبيد، وابن عون، وشعبة، والثوري، وعمر بن محمَّد بن يزيد العمري، ومعمر بن راشد، وهشام الدستوائي، وعوف الأعرابي، وحسين المعلم، وروح بن القاسم، وغيرهم.

وعنه ابن المبارك، وابن مهدي، وبهز بن أسد، ويحيى بن غيلان، وعفان، وأمية بن بسطام، وزكرياء بن عدي، وأبو الربيع الزهراني، وعبدان، وعبد الأعلي بن حماد، والقعنبي، ويحيى بن يحيى النيسابوري ومعلي بن أسد، وأبو كامل الجحدري، ومسدد، وعلي ابن المديني، وعبد الوهاب الحجبي، وخليفة بن خياط، ومحمد بن أبي بكر المقدمي، وأحمد بن عبدة الضبي، والحسن بن عمر بن شقيق، وروح بن عبد المؤمن، وصالح بن حاتم بن وردان، والصلت بن محمَّد الخاركي، والعباس بن الوليد النرسي، وعمر بن عبد الوهاب الرياحي، ومحمد بن عبد الله بن بزيع، وأبو موسى، وبندار، وعمرو بن علي، وقتيبة،

ومحمد بن المنهال، ويحمى بن حبيب بن عربي، ومحمد بن عبد الملك ابن أبي الشوارب، وآخرون.

ص: 617

قال إبراهيم بن محمَّد بن عرعرة: لم يكن أحد أثبت من يزيد بن زريع، وقال أبو بكر الأسدي عن أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: كان ريحانة البصرة، وقال أبو طالب عن أحمد: ما أتقنه، وما أحفظه، يالك من صحة حديث، صدوق متقن، قال: وكل شيء رواه يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة فلا تبال أن لا تسمعه من أحد سماعه منه قديم، وكان يأخذ الحديث بنية، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وقال عبد الخالق بن منصور، عن ابن معين: يزيد بن زريع الصدوق الثقة المأمون، وقال الدوري: سئل ابن معين عن يزيد بن زريع وعبد العزيز العمي، أيهما مقدم؟ فقال: يزيد أوثق، وقال معاوية بن صالح: قلت لابن معين: من أثبت شيوخ البصريين؟ قال: يزيد بن زريع، وقال سعيد بن صالح: سمعمت ابن المبارك يقول لرجل يحدث عن يزيد بن زريع عن مثله: فحدث.

وقال أبو عوانة: صحبت يزيد بن زريع أربعين سنة، يزداد في كل يوم خيرا، وقال محمَّد بن المثنى السمسار: سمعت بشر بن الحكم، وذكر يزيد بن زريع، فقال: كان متقنًا حافظًا ما أعلم أني رأيت مثله ومثل صحة حديثه، وقال عمرو بن علي: أعلى من روى عن شعبة، يزيد بن زريع، ويحيى بن سعيد، وذكر جماعة، وقال أبو حاتم: ثقة إمام وقال ابن سعد: كان ثقة حجة كثير الحديث، وتوفي بالبصرة سنة 182، وقال عمرو بن علي: ولد سنة 101، وقال ابن حبان: مات سنة 2، أو 183 في شوال وكان من أورع أهل زمانه، مات أبوه وكان واليًا على الأبُلَّة، وخلف خمسمائة ألف، فما أخذ منها حبَّة، وقال نصر بن علي الجهضمي: رأيت يزيد بن زريع في النوم، فقلت: ما فعل الله تعالى بك؟ قال: أدخلني الجنة، قلت بم ذاك؟ قال: بكثرة الصلاة.

ص: 618

قال الحافظ: وقال علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد: ابن زريع أثبت من وهيب.

وعنه أيضا قال: يزيد بن زريع، ثم ابن علية، زاد أبو حاتم: ثم بشر ابن المفضل، ثم عبد الوارث، وقال الفلاس: سمعته مرة يقول: ثنا أيوب، فقال رجل: من أيوب؟ فقال: ابن أبي

(1)

، روى عن أيوب بن خوط، وإنما استأمره أيوب بن خوط قوما، فحدثهم، وقال عبد العزيز القواريري: لم يكن يحيى بن سعيد يقدم في سعيد بن أبي عروبة أحدا إلا يزيد بن زريع، وقال محمد بن عيسى بن الطباع: ذكروا الفقهاء، وأصحاب الحديث، ومن لا يطعن عليه في شيء، فذكروا مالكا، وحماد بن زيد، ويزيد بن زريع، وحكى ابن أبي خيثمة أن يزيد بن زريع سئل عن التدليس، فقال: التدليس كذب، وقال النسائي: ثقة، وقال الزهري

(2)

، عن عفان: كان أثبت الناس، وقد أشار ابن طاهر في ترجمة عباس البحراني إلى أنه تغير بآخره اهـ تهذيب التهذيبب جـ 11/ ص 325 - 328، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة ثبت من [8].

4 -

(حميد) بن أبي حميد الطويل، أبو عبيدة الخزاعي مولاهم، وقيل غير ذلك البصري.

واسم أبي حميد: تير، ويقال: تيرويه، ويقال: زاذويه، ويقال: داور، ويقال: طرخان، ويقال: مهران، ويقال: عبد الرحمن، ويقال: مخلد، ويقال: غير ذلك.

روى عن أنس بن مالك، وثابت البناني، وموسى بن أنس، وبكر ابن عبد الله المزني، وإسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، والحسن البصري، وابن أبي مليكة، وعبد الله بن شقيق، وأبي المتوكل الناجي

وغيرهم.

(1)

قوله: ابن أبي الخ. هكذا نسخه "تت" إلا أن الكلام غير متضح، فليحرر.

(2)

هكذا نسخة "تت" الزهري، وليحرر.

ص: 619

وعنه ابن أخته حماد بن سلمة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهو من أقرانه، وحماد بن زيد، والسفيانان، وشعبة، ومالك، وابن إسحاق، ووهيب بن خالد، والقطان، وزائدة، وزهير، وجرير بن حازم، وسليمان بن بلال، ويزيد بن هارون، وعبد الله بن بكر السهمي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وقريش بن أنس، وآخرون.

قال البخاري: قال الأصمعي: رأيت حميدا، ولم يكن بطويل

(1)

وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقة، وقال الدارمي: قلت لابن معين: يونس بن عبيد أحب إليك في الحسن، أو حميد؟ قال: كلاهما، قال الدارمي: يونس أكبر من حميد بكثير، وقال العجلي: بصري ثقة، وقال أبو حاتم: ثقة لا بأس به، وأكبر أصحاب الحسن عبادة، وحميد.

وقال ابن خراش: ثقة صدوق، وقال مرة: في حديثه شيء، يقال: إن عامة حديثه عن أنس إنما سمعه من ثابت، وقال يحيى بن أبي بكير، عن حماد بن سلمة أخذ حميد كتب الحسن فنسخها، ثم ردها عليه، وقال الأصمعي عن حماد: لم يدع حميد لثابت علمًا إلا ووعاه وسمعه منه، وقال مؤمل، عن حماد: عامة ما يروي حميد عن أنس سمعه من ثابت، وقال أبو عبيدة الحداد عن شعبة: لم يسمع حميد من أنس إلا

أربعة وعشرين حديثا، والباقي سمعها من ثابت، أو ثَبَّته فيها ثابت، وقال علي بن المديني عن أبي داود: سمعت شعبة يقول: سمعت حبيب ابن الشهيد يقول لحميد وهو يحدثني: انظر ما تحدث به شعبة، فإنه

يرويه عنك، ثم يقول هو: إن حميدا رجل نسي، فانظر ما يحدثك به.

(1)

زاد في هامش الخلاصة: لم يكن طويلا ولكن كان طويل اليدين، وكان قصيرا لم يكن بذاك الطويل، ولكن كان له جار، يقال له حميد القصير، فقيل حميد الطويل ليعرف من الآخر قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: كان حميد لطول يديه يقف عند البيت فتصل إحدى يديه رأسه، والأخرى رجليه. اهـ

ص: 620

وقال عيسى بن عامر بن الطيب، عن أبي داود، عن شعبة: كل شيء سمع حميد عن أنس خمسة أحاديث، وقال علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد: كان حميد الطويل إذا ذهَبْتَ تَقِفُهُ على بعض حديث أنس يشك فيه.

وقال الحميدي عن سفيان: كان عندنا شُوَيب بصري يقال له درست فقال لي: إن حميدا قد اختلط عليه ما سمع من أنس، ومن ثابت، وقتادة، عن أنس إلا شيء يسير، فكنت أقول له: أخبرني بما شئت عن غير أنس، فسأل حميدا عنها، فيقول: سمعت أنسا، وقال يوسف بن موسى، عن يحيى بن يعلى المحاربي: طرح زائدة حديث الطويل، وقال ابن عدي: له أحاديث كثيرة مستقيمة، وقد حدث عنه الأئمة، وأما ما ذكر عنه، أنه لم يسمع من أنس إلا مقدار ما ذكر، وسمع الباقي من ثابت عنه، فأكثر ما في بابه أن بعض ما رواه عن أنس يدلسه، وقد سمعه من ثابت، وقال رسته، عن يحيى بن سعيد: مات حميد الطويل، وهو قائم يصلي، وأرخه ابن سعد وجماعة سنة 142، وقال إبراهيم بن حميد الطويل: مات سنة 43، وقد أتت عليه 75 سنة، ولم أسمع منه شيئًا.

وكذا أرخه عمرو بن علي وغيره.

قال الحافظ: وقال النسائي: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث إلا أنه ربما دلس عن أنس، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: وهو الذي يقال له حميد بن أبي داود، وكان يدلس سمع من أنس ثمانية عشر حديثا، وسمع من ثابت البناني، فدلس عنه، وقال أبو بكر البرديجي: وأما حديث حميد فلا يحتج منه إلا بما قال: حدثنا أنس، وقال الحافظ أبو سعيد العلائي، فعلى تقدير أن يكون أحاديث حميد

ص: 621

مدلسة، فقد تبين الواسطة فيها، وهو ثقة صحيح.

قال الحافظ: ورواية عيسى بن عامر المتقدمة أن حميدًا إنما سمع من أنس أحاديث قول باطل، فقد صرح حميد بسماعه من أنس بشيء كثير، وفي صحيح البخاري من ذلك جملة، وعيسى بن عامر ما عرفته، وحكاية سفيان عن درست ليس بشيء، فإن درست هالك، وأما ترك زائدة حديثه فذاك لأمر آخر، لدخوله في شيء من أمور الخلفاء. اهـ تهذيب التهذيب جـ 3/ ص 38 - 40. وفي "ت" ثقة مدلس [5].

5 -

وأما (بكر بن عبد الله المزني)، 6 - و (ابن المغيرة بن شعبة)، 7 - وأبوه (المغيرة) فقد تقدموا في السند السابق.

لطائف الإسنادين

أما الإسناد الأول: ففيه من اللطائف أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، وقد خرج أحاديثهم الستة، ما عدا حمزة بن المغيرة، فقد خرج له مسلم، والمصنف، وابن ماجه فقط، وكلهم بصريون ما عدا المغيرة، وابنه فكوفيان.

وفيه رواية أربعة من التابعين، بعضهم عن بعض، سليمان، وبكر، والحسن، وحمزة، وفيه رواية الابن عن أبيه.

وفيه أن شيخ المصنف ممن اتفق الستة بالرواية عنه من دون واسطة، وهم تسعة، وقد تقدموا غير مرة، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة

وأما الإسناد الثاني: ففيه من اللطائف أنه من سداسياته، وفيه العلو لأن في الأول بين بكر وابن المغيرة الحسن، وهنا روى عن ابن المغيرة من دون واسطة، وفيه قوله: وهو ابن زريع، ولم يقل: ابن زريع، وذلك لأن شيخه لم ينسبه له، فلما أراد تبيين نسبه فصَّل ما زاده على شيخه

ص: 622

بكلمة، "وهو" وقد تقدم غير مرة، قال الحافظ السيوطي رحمه الله في ألفيته:

وَلا تَزدْ في نَسَب أوْ وَصْف مَنْ

فَوْقَ شُيُوخ عَنْهم مَا لَمْ يُبَنْ

بنَحْو يَعْني أوْ بأنَّ أوْ بهُو

أمَّا إذَا أتَمَّهُ أوَّلَهُ

أجَزْهُ في البَاقي لَدَى الجمْهُورِ

والفَصْلُ أوْلَى قَاصرَ المَذْكُور

وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، وأن رواته كلهم ثقات، وكلهم بصريون ما عدا حمزة، وأباه، فكوفيان، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: حميد، وبكر، وحمزة، وفيه رواية الابن عن أبيه.

شرح الحديث الأول

(عن ابن المغيرة بن شعبة) هو حمزة بن المغيرة الثقفي، أو عروة أخوه، ومال القاضي عياض إلى أنه حمزة بن المغيرة، وقال: هو الصحيح عندهم في هذا الحديث، وعروة في الأحاديث الآخر، وحمزة وعروة ولدا المغيرة، والحديث مروي عنهما جميعا، لكن رواية بكر المزني إنما هي عن حمزة اهـ المنهل جـ 1.

وعبارة النووي في شرح مسلم عند قوله: وحدثني محمَّد بن عبد الله ابن بزيع، حدثنا يزيد يعني ابن زريع، حدثنا حميد الطويل، حدثنا، بكر بن عبد الله المزني، عن عروة بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه، قال الحافظ أبو علي الغساني: قال، أبو مسعود الدمشقي: هكذا يقول مسلم في حديث ابن بزيع، عن يزيد بن زريع، عن عروة بن المغيرة، وخالفه الناس

(1)

فقالوا: فيه حمزة بن المغيرة بدل عروة.

(1)

فقد خالفه عند المصنف عمرو بن علي، وحميد بن مسعد، عن يزيد بن زريع، فقالا: عن بكر، عن حمزة، عن المغيرة.

ص: 623

وأما أبو الحسن الدارقطني: فنسب الوهم فيه إلى محمَّد بن عبد الله ابن بزيع لا إلى مسلم، هذا آخر كلام الغساني.

قال القاضي عياض: حمزة بن المغيرة هو الصحيح في هذا الحديث، وإنما عروة بن المغيرة في الأحاديث الآخر، وحمزة وعروة ابنان للمغيرة والحديث مروي عنهما جميعا، لكن رواية بكر بن عبد الله المزني إنما هي عن حمزة بن المغيرة، وعن ابن المغيرة غير مسمى، ولا يقول بكر: عروة، ومن قال عنه، فقد وهم، وكذلك اختلف عن بكر، فرواه معتمر في أحد الوجهين عن أبيه، عن بكر، عن الحسن، عن ابن المغيرة، وكذا رواه يحيى بن سعيد، عن التيمي، وقد ذكر هذا مسلم، وقال غيرهم: عن بكر عن المغيرة، قال الدارقطني: وهو وهم، هذا آخر كلام القاضي عياض. اهـ كلام النووي في شرحه جـ 2/ ص 293.

قال في المنهل بعد نقل كلام القاضي عياض ما نصُّه: أقول: أراد القاضي بهذا الرد على مسلم حيث صرح في سند هذا الحديث بأن بكر ابن عبد الله المزني، رواه عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، ونسبة الوهم إلى مسلم في هذا أو إلى شيخه محمَّد بن عبد الله بن بزيع غير مسلمة، فقد قال الحافظ في ترجمة حمزة بن المغيرة: روى عن أبيه، وروى عبد الله بن بكر عنه، عن أبيه في المسح على الخفين، وقال مرة: عن عروة ابن المغيرة، عن أبيه، اهـ وهو يدل على أن رواية مسلم لا وهم فيها.

وعليه فيحتمل أن يكون ابن المغيرة في سند المصنف -يعني أبا داود- حمزة أو عروة اهـ المنهل جـ 2/ ص 158.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الراجح هنا حمزة بن المغيرة لمخالفة رواية مسلم هذه لرواية الناس حيث إنهم قالوا: حمزة بن المغيرة، وقد نقل الحافظ أبو الحجاج المزي كلام أبي مسعود المتقدم في "تحفة الأشراف" جـ 8/ ص 474، ولم يتعقبه، وكذا الحافظ لم يتعقبه

ص: 624

في "النكت الظراف" فدل على أن ذكر عروة في طريق بكر بن عبد الله وهم. والله أعلم.

وسيأتي الكلام على عروة بن المغيرة في "باب المسح على الخفين" 96/ ح 124، إن شاء الله تعالى.

(عن المغيرة) بن شعبة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ) أي شرع في الوضوء (فمسح ناصيته) أي مقدم رأسه (وعمامته) يعني مسح ناصيته ثم كمل المسح على العمامة (وعلى الخفين) أي ومسح على الخفين.

(قال بكر) هوابن عبد الله المزني الراوي عن الحسن (وقد سمعته) أي حديث المغيرة هذا (من ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه) يعني أنه سمع الحديث المذكور من ابن المغيرة نفسه كما سمعه عن الحسن عن ابن المغيرة.

والحاصل أن بكر بن عبد الله سمع الحديث من الحسن البصري، عن ابن المغيرة، كلاهما هذه الرواية، وسمعه أيضا من ابن المغيرة نفسه وهو حمزة بلا واسطة الحسن كما في الرواية الآتية.

شرح الحديث الثاني

(عن حمزة بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه) المغيرة رضي الله عنه أنه (قال: تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي تأخر عن العسكر، يقال: تخلف عن القوم: إذا قعد عنهم ولم يذهب معهم، قاله في المصباح (فتخلفت معه) بأمره لما تقدم في باب غسل الكفين 66/ ح 82، من قوله:"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقرع ظهري بعصا كانت معه، فعدل، وعدلت معه" الحديث (فلما قضى) صلى الله عليه وسلم (حاجته، قال: أمعك ماء؟ فأتيته بمطهرة) بكسر الميم وتفتح، قال في المصباح: والمطهرة بكسر الميم: الإداوة، والفتح لغة، ومنه "السواك مطهرة للفم" بالفتح، وكل إناء

ص: 625

يتطهر به مطهرة، والجمع مطاهر. اهـ.

وقال في اللسان: والمطهرة -أي بالكسر-: الإناء الذي يتوضأ به، ويتطهر به.

والمطهرة: الإداوة على التشبيه بذلك، والجمع المطاهر، وكل إناء يتطهرمنه مثل سَطْل: ركوة فهو مطهرة، وقال الجوهري: المطهرة الإداوة.

والفتح أعلى، والمطهرة: البيت الذي يتطهر فيه. اهـ لسان ببعض اختصار.

وفي الرواية السابقة: فقال: "أمعك ماء؟ ومعي سطيحة لي، فأتيته بها" والسطيحة هي المزادة.

والمعنى: أتيته بإداوة فيها ماء ليتوضأ منها (فغسل يديه) أي كفيه (وغسل وجهه ثم ذهب) أي أراد، أو شرع، قاله السندي (يحسر) من باب نصر، وضرب، أي يكشف (عن ذراعيه) ليغسل يديه إلى المرفقين (فضاق كم الجبة) قال ابن سيده: الكم، أي بالضم من الثوب مَدخَل اليد، ومخربها.

والجمع أكمام، لا يُكَسَّر على غير ذلك، وزاد الجوهري في جمعه كِمَمَة -أي بكسر الكاف، وفتح الميمين- مثل حُبّ وحبَبَة، وأكمَّ القميصَ: جعل له كمين، اهـ لسان.

والجبة بالضم: ضرب من مقطعات الثياب تلبس، وجمعها جُبَب وجبَاب، والجبة من أسماء الدرع، وجمعها جُبَب. اهـ لسان. وفي الزرقاني على الموطأ: وهي ما قطع من الثياب مشمرًا، قاله في المشارق، وللبخاري "وعليه جبة شامية".

ص: 626

ولأبي داود "من صوف من جباب الروم" قال القرطبي: ففيه أن الصوف لا ينجس بالموت لأن الشام إذ ذاك دار كفر، ومأكلولها كلها الميتات، كذا قاله الزرقاني اهـ جـ 1/ ص 77.

(فألقاه) أي كم الجبة بعد أن أخرج يديه من تحت الجبة كما يأتي في الرواية الآتية في باب المسح (على منكبيه) بفتح الميم وكسر الكاف تثنية منكب وزان مجلس، وهو مجتمع رأس العضد، والكتف أفاده في المصباح (فغسل فراعيه) ولأحمد "فغسل يده اليمنى ثلاث مرات، ويده اليسرى ثلاث مرات" وكذا في غسل الوجه (ومسح بناصيته وعلى العمامة) وهذا محل الشاهد من الحديث يعني أنه أكمل المسح على العمامة، فدل على جواز المسح على بعض الرأس والعمامة معا (و) مسح (على خفيه) فيه دليل على جواز المسح على الخفين، وفيه رد على من زعم أن المسح عليها منسوخ بآية المائدة؛ لأنها نزلت في غزوة المريسيع، وهذه القصة في غزوة تبوك بعدها باتفاق، إذ هي آخر المغازي، قاله الزرقاني جـ 1/ ص 77. وبالله تعالى التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديثي الباب

المسألة الأولى في درجتهما: حديثا الباب أخرجهما مسلم في صحيحه.

المسألة الثانية: فيمن أخرجهما:

أما الحديث الأول: فأخرجه مسلم، والمصنف، وأبو داود، والترمذي.

أما المصنف: فأخرجه هنا عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان التَّيمي، عن بكر بن عبد الله المزني، عن الحسن، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن المغيرة.

ص: 627

وقال بكر: وقد سمعته من ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه.

وأما مسلم: فأخرجه في الطهارة عن أمية بن بسطام، ومحمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه، وعن محمَّد بن عبد

عبد الأعلى، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن بكر بن عبد الله، عن الحسن، عن ابن المغيرة به.

وعن محمَّد بن بشار بندار، ومحمد بن حاتم، كلاهما عن يحيى القطان، عن سليمان التَّيمي، عن بكر بن عبد الله، عن الحسن به، قال بكر: وقد سمعته من ابن المغيرة بن شعبة.

وأما أبو داود: فأخرجه في الطهارة عن مسدد، عن معتمر بن سليمان، وعن مسدد، عن يحيى كلاهما عن سليمان التيمي، عن بكر ابن عبد الله، عن الحسن، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه، قال في

حديث معتمر: قال بكر: وقد سمعته من ابن المغيرة. الخ.

وأما الترمذي: فأخرجه في الطهارة أيضًا عن بندار الخ، وقال: حسن صحيح.

وأما الحديث الثاني: فأخرجه المصنف، ومسلم، وابن ماجه.

فأما المصنف: فأخرجه هنا عن عمرو بن علي، وحميد بن مسعدة، كلاهما، عن يزيد بن زريع.

وفي الكبرى: عن قتيبة بن سعيد، عن ابن أبي عدي كلاهما عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني، عن حمزة بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه، وأخرجه أيضا في المجتبى 98/ 125 عن محمَّد بن منصور، عن سفيان، عن إسماعيل بن محمَّد بن سعد، عن حمزة بن المغيرة.

ص: 628

وأما مسلم: فأخرجه في الطهارة عن محمَّد بن عبد الله بن بزيع، عن يزيد بن زريع، عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني، عن عروة بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه به.

وقال أبو مسعود: كذا يقول مسلم في حديث ابن بزيع، عن ابن

زريع: عروة بن المغيرة، وخالفه الناس فقالوا: حمزة بن المغيرة، بدل عروة بن المغيرة، وأخرجه في الصلاة عن محمَّد بن رافع، وحسن

الحلواني كلاهما عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن الزهري، عن إسماعيل بن محمَّد بن سعد، عن حمزة بن المغيرة، عن أبيه.

وأما ابن ماجه: فأخرجه في الصلاة عن محمَّد بن المثنى، عن ابن أبي عدي، عن حميد الطويل، بقصة الصلاة خلف عبد الرحمن بن عوف حسب، أفاده الحافظ المزي في تحفته جـ 8/ ص 473 - 475.

المسألة الثالثة: فيما يستفاد من الحديث:

يستفاد من الحديث: مشروعية خدمة الصغير للكبير، وجواز لبس الضيق من الثياب الذي لا يصف العورة، لا سيما في السفر لأنه أعون، قال ابن عبد البر: بل هو مستحب في الغزو للتشمير، والتأسى به صلى الله عليه وسلم، ولا بأس به عندي في الحضر انتهى.

وفيه: وجوب تعميم الرأس بالمسح، حيث كمل بالمسح على العمامة، وهي إحدى كيفيات مسح الرأس؛ لأنه ثبت مسح الرأس كله من دون عمامة، ونحوها، وثبت المسح على العمامة، وثبت المسح على الرأس مع العمامة، ولا داعي لدعوى أنه كان لمرض، أو سفر، أو لتأويلات أخرى، كما هو المذهب الراجح، وقد قدمناه في الباب السابق.

وفيه: مشروعية المسح على الخفين، وسيأتي البحث عنه في بابه إن شاء الله تعالى.

ص: 629

وفيه: الدلالة على أنه لا يصح الوضوء إلا بتعميم غسل اليدين إلى المرفقين، ولا يكفي فيه غسل ما ظهر منها، ومسح ما ستر بالكم، ولو ضيقا، ولذا أخرج النبي صلى الله عليه وسلم يده من تحت الجبة، ولم يكتف بالمسح على ما بقي من ذراعيه.

وهْيه: جواز الانتفاع بثياب الكفار، ما لم تتحقق نجاستها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لبس الجبة الرومية، وفيه استحباب مصاحبة المسافر معه الماء للطهارة به، والله تعالى أعلم، ومنه الإعانة، والتوفيق، وعليه التكلان.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.

اللهم صَلِّ على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما صليت على آل إيراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

السلام على النبي ورحمة الله وبركاته.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

قال الجامع الفقير إلى ربه الغني القدير،

محمَّد ابن الشيخ علي بن آدم الإتيوبيّ الولَّوي، غفر الله له، ولوالديه آمين: هذا آخر الجزء الثاني من شرح سنن الإمام أبي عبد الرحمن النسائي رحمه الله تعالى المسمى (ذخيرةَ العقبى، في شرح المجْتبَى) أو (غاية المُنَى في شرح المجْتَنَى) أسأل الله تعالى أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، ونافعًا لي، ولكل من تلقاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.

ويليه الجزء الثالث، وأوله [88] باب "كيف المسح على العمامة؟ ".

ص: 630