المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سُنن النّسَائي المُسَمَّى ذَخِيْرَة العُقَبى في شَرْحِ المجْتَبَى   لجَامِعه الفَقير إلى مَوْلَاه - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ٢١

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح سُنن النّسَائي

المُسَمَّى

ذَخِيْرَة العُقَبى في شَرْحِ المجْتَبَى

لجَامِعه الفَقير إلى مَوْلَاه الغَنيّ القَديْر

محمد ابن الشيخ العلامة على بن آدم بن موسى الأيتُوبي الوَلَّوِي

المُدرّس بدَار الحَديثْ الخيريَّة بمكّة المكرَّمة

عَفَا اللَّه عَنْه وَعَنْ والدَيه آمِينْ

الجزْء العشْرون

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

شرح سُنن النّسَائي

ص: 3

جَمِيع الحقُوق مَحفُوظة

الطبعة الأولى

1424 هـ - 2003 م

دَار آل بُروم للِنشر وَالتّوزيع

المملكة العَربيّهَ السّعوديّة - مكّة المكرّمة - المكتب الرئيسي التنعيم

صَ بْ: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوّال 055541026)

ص: 4

‌32 - (ذِكْرِ الاِخْتِلَافِ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى أَبِي سَلَمَةَ فِيهِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن يحيي بن أبي كثير رواه عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وخالفه محمد بن عمرو بن علقمة، فرواه

(1)

عن أبي سلمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-: هذا خطأ.

يعني أن الصواب رواية يحيي بن أبي كثير السابقة، بدليل أن محمد بن عمرو رواه أيضًا موافقًا لرواية يحيي بن أبي كثير، فقد رواه الترمذيّ من طريق عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه

(2)

.

وعَبْدَةُ أثبت من أبي خالد الأحمر، وأبو خالد، وإن كان ثقة، إلا أنه سيء الحفظ يَغْلَط، ويخطىء، كما قاله ابن عديّ، وقال ابن معين: صدوق، وليس بحجة. وقال البزار في "السنن": ليس ممن تُلزِم زيادته حجة، لاتفاق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظًا، وأنه قد روى أحاديث عن الأعمش وغيره لم يُتابَع عليها. راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب"

(3)

.

فمخالفته لعبدة بن سليمان تُعتَبر من أخطائه، فالصحيح رواية عبدة، عنه الموافقة لرواية يحيي.

والحاصل أن الصحيح كون الحديث من مسند أبي هريرة رضي الله عنه، لا من مسند ابن عباس رضي الله عنهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2173 -

(أَخْبَرَنِي عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَتَقَدَّمَنَّ

(4)

أَحَدٌ الشَّهْرَ بِيَوْمٍ، وَلَا يَوْمَيْنِ، إِلاَّ أَحَدٌ كَانَ يَصُومُ صِيَامًا قَبْلَهُ فَلْيَصُمْهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، سوى:

(1)

أي من رواية أبي خالد الأحمر عنه كما يأتي في الرواية التالية.

(2)

- راجع "جامع الترمذيّ" بنسخة "تحفة الأحوذي" ج 3 ص 363.

(3)

-"تت" جـ 2 ص 89 - 90 نسخة مؤسسة الرسالة.

(4)

- وفي نسخة: "ألا لا يَتَقَدَّمَنَّ".

ص: 5

"عمران بن يزيد بن خالد"، فهو من أفراد المصنّف، ويقال له: عمران بن خالد بن

يزيد، وهو دمشقيّ، وثقه المصنّف [10] وتقدم 18/ 422.

و"محمد بن شُعَيب" بن شابور الدمشقيّ البيروتيّ، فهو من رجال الأربعة، وهو ثقة من كبار [9] 6/ 1190.

والإسناد إلى الأوزاعيّ دمشقيّون، والباقون مدنيّون، ويحيى وإن كان بصريا، لكنه سكن المدينة عشر سنين يطلب العلم، كما سبق قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "لا يتقدّمن الشهرَ" أي لا يستقبلنّ شهر رمضان. والحديث صحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه، وبيان مسائله في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2174 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَتَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِصِيَامِ يَوْمٍ، وَلَا يَوْمَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ يَوْمًا، كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ». قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، إلا أن أبا خالد الأحمر -وهو سليمان بن حيان- قد أخطأ فيه، كما قاله المصنّف، والصواب من رواية محمد بن عمرو رواية عبدة بن سليمان الموافقة لرواية يحيي بن أبي كثير، كما تقدّم في أول الباب.

والحديث صحيح بما سبق، وهو من أفراد المصنّف، أخرجه هنا -32/ 2174 - وفي "الكبرى" 32/ 2484. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌33 - (ذِكْرُ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ فِي ذَلِكَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا نسخ "المجتبى"، وعبارة "الكبرى":"ذكر حديث أم سلمة في ذلك". ولا تعارض بين العبارتين؛ لأن الحديث لأبي سلمة بن

ص: 6

عبد الرحمن، عن أم سلمة، فمؤدى العبارتين واحد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2175 -

(أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(شعيب بن يوسف) النسائيّ، ثقة [10] 42/ 49.

2 -

(محمد بن بشّار) بُندر البصريّ، ثقة حافظ [10] 24/ 27.

3 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ البصريّ، ثقة ثبت [9] 42/ 49.

4 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ، ثقة ثبت إمام [7] 33/ 37.

5 -

(منصور) بن المعتمر، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقة ثبت [6] 2/ 2.

6 -

(سالم) بن أبي الجعد الغطفانيّ الأشجعيّ الكوفيّ، ثقة يرسل كثيرًا [3] 61/ 77.

7 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن المذكور في الباب الماضي.

8 -

(أم سلمة) هند بنت أبي أميّة المخزوميّة، أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 123/ 183. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن أم سلمة وأبا سلمة ممن اتّفق كنيتاهما، وليسا زوجين، فإن أم سلمة صحابية، أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها -، وزوجها أبو سلمة عبد اللَّه بن عبد الأسد الصحابيّ رضي الله عنه توفّي عنها، فتزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعده، وأما أبو سلمة الراوي عنها، فهو ابن عبد الرحمن بن عوف تابعيّ مشهور. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ:"مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) أي أنه لم يستكمل صيام شهرين متتابعين، بل كان يصوم بعض الأيام من أي شهر كان (إِلاَّ أنَّهُ كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ") أي يصل صوم شعبان بصوم رمضان.

ولفظ الترمذيّ: "ما رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان". ولفظ حديث عائشة رضي الله عنها الآتي: "كان يصوم شعبان إلا قليلاً، بل كان يصومه كله".

ص: 7

ولفظ ابن ماجه: "كان يصوم شعبان كله، يصله برمضان".

ويجمع بين هذه الروايات بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كلّه تارة، ويصوم أكثره أخرى؛ لئلا يُتوهّم أنه واجب كله.

ونقل الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد رواية الحديثين عن ابن المبارك أنه كان قال في هذا الحديث: جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال: صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله تعشّى، واشتغل ببعض أمره.

قال الترمذيّ: كأنّ ابن المبارك قد رأى كلا الحديثين متفقين. يقول: إنما معنى هذا الحديث أنه كان يصوم أكثر الشهر انتهى

(1)

.

قال الحافظ في "الفتح": حاصله أن المراد بالكلّ الأكثر، وهو مجاز قليل الاستعمال. واستبعده الطيبيّ؛ لأن لفظ الكلّ تأكيد؛ لإرادة الشمول، ودفع التجوّز، فتفسيره بالبعض مناف له، قال: فيحمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة، ويصوم معظمه أخرى؛ لئلا يُتوهّم أنه واجب كلّه كرمضان. وقيل: المراد بقولها: "كله" أنه كان يصوم من أوله تارة، ومن آخره أخرى، ومن أثنائه طورًا، فلا يُخْلِي شيئا منه من صيام، ولا يخصّ بعضه بصيام دون بعض.

وقال الزين ابن المنيّر: إما أن يُحمَل قول عائشة على المبالغة، والمراد الأكثر، وإما أن يُجمع بأن قولها الثاني متأخّر عن قولها الأول، فأخبرت عن أول أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانيًا عن آخر أمره أنه كان يصومه كلّه انتهى.

قال الحافظ: ولا يخفى تكلفه، والأول هو الصواب، ويؤيده رواية عبد اللَّه بن شقيق، عن عائشة عند مسلم، وسعد بن هشام عنها عند النسائيّ، ولفظه:"ولا صام شهرًا كاملاً قط منذ قدم المدينة غير رمضان". وهو مثل حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري: "ما صام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملاً غير رمضان

" الحديث.

واختُلِف في الحكمة في إكثاره صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان فقيل: كان يشتغل عن صوم ثلاثة أيام من كلّ شهر لسفر أو غيره، فتجتمع، فيقضيها في شعبان، أشار إلى ذلك ابن بطال، وفيه حديث ضعيف، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق ابن أبي ليلى، عن أخيه عيسى، عن أبيه، عن عائشة:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -يصوم ثلاثة أيام من كلّ شهر، فربما أخّر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة، فيصوم شعبان". وابن أبي ليلى ضعيف، وحديث الباب، والذي بعده دال على ضعف ما رواه.

(1)

- راجع "جامع الترمذيّ" ج 3 ص 436. بنسخة "تحفة الأحوذيّ"

ص: 8

وقيل: كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان، وورد فيه حديث آخر أخرجه الترمذيّ من طريق صدقة بن موسى، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه، أنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: "شعبان؛ لتعظيم رمضان". قال الترمذيّ: حديث غريب، وصدقة عندهم ليس بذلك القويّ.

ويعارضه ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم".

وقيل: الحكمة في إكثاره من الصيام في شعبان دون غيره أن نساءه كنّ يقضين ما عليهنّ من رمضان في شعبان، وهذا عكس ما تقدّم في الحكمة في كونهنّ كنّ يؤخرن قضاء رمضان إلى شعبان؛ لأنه ورد فيه أن ذلك لكونهنّ كنّ يشتغلن معه صلى الله عليه وسلم عن الصوم.

وقيل: الحكمة في ذلك أنه يعقبه رمضان وصومه مفترض، وكان يكثر من الصوم في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره لما يفوته من التطوّع بذلك في أيام رمضان.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: والأولى في ذلك ما جاء في حديث أصحّ مما مضى، أخرجه النسائيّ -0/ 2357 -

(1)

وصححة ابن خزيمة عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول اللَّه، لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفَع فيه الأعمالُ إلى ربّ العالمين، فأُحِبّ أن يرفع عملي، وأنا صائم". ونحوه من حديث عائشة عند أبي يعلى، لكن قال فيه: "إن اللَّه يكتب كل نفس ميتة تلك السنة، فأحبّ أن يأتيني أجلي، وأنا صائم".

ولا تعارض بين هذا، وبين ما تقدّم من الأحاديث في النهي عن تقدّم رمضان بصوم يوم أو يومين، وكذا ما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني، فإن الجمع بينهما ظاهر بأن يُحمل النهي على من لم تدخل تلك الأيام في صيام اعتاده. انتهى كلام الحافظ

(2)

وهو كلام نفيس جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا صحيح.

(1)

- زاد في نسخة "الفتح" أبا داود، والظاهر أنه غلط، لأنه لم يخرجه، فليُتنبّه.

(2)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 732 - 734.

ص: 9

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-33/ 2175 - وفي "الكبرى" 33/ 2485. وأخرجه (د) في "الصوم" 1989 (ت) في "الصوم" 668 (ق) في "الصيام" 1638. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): أنه يدل على فضل الصوم في شعبان.

[فإن قلت]: أخرج مسلم، وأصحاب السنن

(1)

حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر اللَّه المحرّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل"، فلماذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يكثر الصوم في شعبان دونه؟.

[قلت]: أُجيب عن هذا بجوابين:

[أحدهما]: لعل النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلم بفضل صوم المحرّم إلا في آخر حياته، فمات قبل التمكّن من إكثار الصوم فيه.

[الثاني]: لعله يَعرِض له صلى الله عليه وسلم فيه أعذار تمنعه من إكثار الصوم فيه، كسفر، ومرض، وغيرهما أفاده النووي -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

(ومنها): جواز الصوم بعد نصف شعبان، وهو مذهب الجمهور.

[فإن قلت]: أخرج أبو داود، وغيره، وصححه ابن حبّان وغيره حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -قال: "إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا". فكيف يوفق بينه وبين حديث الباب؟.

[قلت]: الصواب في الجواب أن يحمل النهي المذكور على من يُضعفه الصوم.

وقد أجاب الجمهور عن هذا بتضعيف حديث العلاء هذا، قال أحمد، وابن معين: إنه منكر. وقال الخطابيّ: هذا حديث كان ينكره عبد الرحمن بن مهديّ من حديث العلاء. وقال أحمد: العلاء ثقة، لا يُنكر من حديثه إلا هذا؛ لأنه خلاف ما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يصل شعبان برمضان.

وقال المنذريّ في تلخيص "السنن": حَكَى أبو داود عن الإمام أحمد أنه قال: هذا منكر، قال: وكان عبد الرحمن -يعني ابن مهديّ- لا يحدث به، ويحتمل أن يكون الإمام أحمد إنما أنكره من جهة العلاء بن عبد الرحمن، فإن فيه مقالاً لأئمة هذا الشأن، وقد تفرّد بهذا الحديث، قال: والعلاء بن عبد الرحمن، وإن كان فيه مقال، فقد حدّث عنه الإمام مالك مع شدّة انتقاده للرجال، وتحرّيه في ذلك، وقد احتجّ به مسلم في

(1)

- تقدّم للمصنف في [باب فضل صلاة الليل] برقم 6/ 1613.

(2)

- راجع "شرح مسلم" ج 8 ص 279.

ص: 10

"صحيحه"، وذكر له أحاديث كثيرة فهو على شرطه، ويجوز أن يكون تركه لأجل تفرُّده به، وإن كان قد أخرج في "الصحيح" أحاديث انفرد بها رواتها، وكذلك فعل البخاريّ أيضًا، وللحفّاظ في الرجال مذاهب فعل كلّ منهم ما أدى إليه اجتهاده من القبول والردّ انتهى كلام المنذريّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحق أن حديث العلاء هذا صحيح، كما قال به جمع من العلماء، فالأولى أن يُسلَك مسلك الجمع كما تقدّم قريبًا.

قال الحافظ: وقد استدلّ البيهقيّ على ضعفه بحديث النهي عن تقدّم رمضان بصوم يوم أو يومين المذكور في البابين السابقين، وكذا صنع قبله الطحاويّ، واستظهر بحديث أنس مرفوعًا:"أفضل الصيام بعد رمضان شعبان". لكنه ضعيف، كما تقدّم، واستظهر أيضًا بحديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "هل صمت من سَرَرِ هذا الشهر شيئًا؟ " قال: لا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"فإذا أفطرت رمضان، فصم يومين مكانه". متفق عليه.

و"السَّرَر" -بفتح السين المهملة"، ويجوز كسرها، وضمها- ويقال أيضًا: سرار - بفتح أوله، وكسره، ورجح الفرّاء الفتح- وهو الاستسرار، قال أبو عُبيدة، والجمهور: المراد بالسرر هنا آخر الشهر، سميت بذلك لاستسرار القمر فيها، وهي ليلة ثمان وعشرين، وتسع وعشرين، وثلاثين. ونقل أبو داود عن الأوزاعيّ، وسعيد بن عبد العزيز أن سرره أوله. ونقل الخطابيّ عن الأوزاعيّ كالجمهور. وقيل: السرر وسط الشهر، حكاه أبو داود أيضًا، ورجحه بعضهم، ووجَّهَه بأن السرر جمع سرّة، وسرّة الشيء وسطه، ويؤيده الندب إلى صيام البيض، وهي وسط، وأنه لم يرد في صيام آخر الشهر ندب، بل ورد فيه نهي خاصّ بآخر شعبان لمن صامه لأجل رمضان، ورجحه النوويّ بأن مسلمًا أفرد الرواية التي فيها سرّة هذا الشهر عن بقية الروايات، وأردف بها الروايات التي فيها الحضّ على صيام البيض، وهي وسط الشهر، كما تقدّم.

قال الحافظ: لكن لم أره في جميع طرق الحديث باللفظ الذي ذكره، وهو "سرّة"، بل هو عند أحمد من وجهين بلفظ:"سرار"، وأخرجه من طرق عن سليمان التيميّ في بعضها "سرر"، وفي بعضها "سرار"، وهذا يدلّ على أن المراد آخر الشهر. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قال فيه الحافظ: إنه لم يره في جميع طرق الحديث لعله في النسخة التي عنده، وإلا فهو موجود في النسخة التي عندي من

(1)

- راجع "مختصر السنن" ج 3 ص 224 - 225.

ص: 11

"صحيح مسلم"، فقد أخرجه من طريق غيلان بن جرير، عن مطرّف، عن عمران بن حُصين رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له -أو لرجل، وهو يسمع-: "يا فلان أصمت من سُرّة هذا الشهر؟

" الحديث. انظر "صحيح مسلم" ج 8 ص290 بنسخة شرح النووي. واللَّه تعالى أعلم.

وقال الخطابيّ: قال بعض أهل العلم: سؤاله صلى الله عليه وسلم عن ذلك سؤال زجر وإنكار؛ لأنه قد نهى أن يستقبل الشهر بيوم أو يومين. وتُعُقّب بأنه لو أنكر ذلك لم يأمره بقضاء ذلك. وأجاب الخطابيّ باحتمال أن يكون الرجل أوجبها على نفسه فلذلك أمره بالوفاء، وأن يقضي ذلك في شوّال انتهى.

وقال ابن المنيّر في "الحاشية": قوله: "سؤال إنكار" فيه تكلّف، ويَدفع في صدره قول المسؤول: لا يا رسول اللَّه، فلو كان سؤال إنكار لكان صلى الله عليه وسلم قد أنكر عليه أنه صام، والفرض أن الرجل لم يصم، فكيف ينكر عليه فعل ما لم يفعله؟. ويحتمل أن يكون الرجل كانت له عادة بصيام آخر الشهر، فلما سمع نهيه صلى الله عليه وسلم أن يتقدّم أحد رمضان بصوم يوم أو يومين، ولم يبلغه الاستثناء ترك صيام ما كان اعتاده من ذلك، فأمره بقضائها لتستمرّ محافظته على ما وظّف على نفسه من العبادة؛ لأن أحبّ العمل إلى اللَّه تعالى ما داوم عليه صاحبه.

وقال ابن التين: يحتمل أن يكون هذا كلاما جرى من النبيّ صلى الله عليه وسلم منه جوابًا لكلام لم يُنقل إلينا انتهى. قال الحافظ: ولا يخفى ضعف هذا المأخذ.

وقال آخرون: فيه على أن النهي عن تقدّم رمضان بيوم أو يومين إنما هو لمن يقصد به التحرّي لأجل رمضان، وأما من يقصد ذلك فلا يتناوله النهي، ولو لم يكن اعتاده. وهو خلاف ظاهر حديث النهي؛ لأنه لم يستثن منه إلا من كانت له عادة.

وأشار القرطبيّ إلى أن الحامل لمن حمل سرر الشهر على غير ظاهره، وهو آخر الشهر الفرار من المعارضة لنهيه صلى الله عليه وسلم عن تقدّم رمضان بيوم أو يومين، وقال: الجمع بين الحديثين ممكن بحمل النهي على من ليست له عادة بذلك، وحمل الأمر على من له عادة؛ حملاً للمخاطب بذلك على ملازمة عادة الخير حتى لا يقطع.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في وجه الجمع بين الحديثين أولى الأوجه المذكورة في الجمع.

وحاصله أن يحمل حديث النهي عن تقدّم رمضان بصوم يوم أو يومين على من ليست له عادة بصوم ذلك، وأما من كانت له عادة بصومه فلا بأس، لحديث السرر.

كما تقدّم حمل النهي عن الصوم بعد نصف شعبان، على من يُضعفه الصوم، وأما

ص: 12

من ليس كذلك فلا، لثبوت أنه صلى الله عليه وسلم -كان يصوم شعبان كله، أو إلا قليلاً منه، ودعوى الخصوصية في هذا غير صحيحة، لاستثنائه صلى الله عليه وسلم من اعتاد صومه من النهي، ولأمره الرجل الذي لم يصم سرر شعبان بقضائه، فلو لم يُشرع له ذلك لما أمره بالقضاء، فدلّ ما ذُكر على الردّ على من ادعى الخصوصيّة.

وقد حمل الإمام ابن خزيمة -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" على من صام شعبان كله، ووصله برمضان، ودونك عبارته:

[باب] إباحة وصل صوم شعبان بصوم رمضان، والدليل على أن معنى خبر أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا حتى رمضان"، أي لا تصلوا شعبان برمضان، فتصوموا جميع شعبان، أو أن يوافق ذلك صومًا كان يصومه المرء قبل ذلك، فيصوم ذلك الصيام بعد النصف من شعبان، لا أنه نهى عن الصوم إذا انتصف شعبان نهيًا مطلقًا.

ثم أخرج حديث عائشة رضي الله عنها من طريق عُقَيل، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عنها، قالت:"ما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصوم من أشهر السنة أكثر من صيامه من شعبان، كان يصومه كله". ثم أخرجه من طريق هشام -يعني الدستوائيّ- عن يحيى، قال: وزاد: قال: وكان يقول: "خذوا من العمل ما تطيقون، فإن اللَّه لا يملّ حتى تملّوا

" الحديث. انتهى كلام ابن خزيمة

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن ما حمل عليه ابن خزيمة لا يخالف الحمل الذي قدمناه، فإن صيام شعبان كله يؤدي إلى الضعف عن صوم رمضان الذي هو سبب النهي المذكور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: قال القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-: وفيه -يعني قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أفطرت، فصم يومين"- إشارة إلى فضيلة الصوم في شعبان، وأن صوم يوم منه يعدل صوم يومين في غيره أخذًا من قوله في الحديث:"فصم يومين مكانه" يعني مكان اليوم الذي فوّته من صيام شعبان.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا لا يتمّ إلا إن كانت عادة المخاطب بذلك أن يصوم من شعبان يومًا واحدًا، وإلا فقوله:"هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا" أعمّ من أن يكون عادته صيام يوم منه أو أكثر، نعم وقع في "سنن أبي مسلم الكجيّ":"فصم مكان ذلك اليوم يومين". انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

- راجع "صحيح ابن خزيمة" ج 3 ص 282.

(2)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 754 - 755.

ص: 13

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌34 - (الاخْتِلَافُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن توبة العنبريّ رواه عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، ووافقه سالم بن أبي الجعد، كما في الرواية السابقة في الباب الماضي، وخالفه أسامة بن زيد الليثيّ،

فرواه عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها، ووافقه يزيد بن الهاد، كما في الرواية التي بعد هذه.

وهذا الاختلاف لا يضرّ بصحة الحديث كما بينه الحافظ في "الفتح"، ودونك نصّ عبارته:

قال: واتفق أبو النضر، ويحيى، ووافقهما محمد بن إبراهيم، وزيد بن أبي عَتَّاب عند النسائيّ، ومحمد بن عمرو عند الترمذيّ على روايتهم إياه عن أبي سلمة، عن عائشة، وخالفهم يحيي بن سعيد، وسالم بن أبي الجعد، فروياه عن أبي سلمة، عن أم سلمة، أخرجهما النسائيّ، وقال الترمذيّ عقب طريق سالم بن أبي الجعد: هذا إسناد صحيح، ويحتمل أن يكون أبو سلمة رواه عن كلّ من عائشة وأم سلمة.

قال الحافظ: ويؤيده أن محمد بن إبراهيم التيميّ رواه عن أبي سلمة، عن عائشة تارة، وعن أم سلمة تارة أخرى، أخرجهما النسائيّ انتهى كلام الحافظ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- تحقيق حسنٌ جدًّا، وحاصله أن الحديث صحيح من رواية كُلِّ من أم سلمة، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنهما -. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2176 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا النَّضْرُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ تَوْبَةَ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ").

(1)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 732.

ص: 14

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"إسحاق ابن إبراهيم" هو ابن راهويه. و"النضر": هو ابن شُميل، وكلهم تقدّموا سوى:

1 -

(توبة العنبريّ) ابن أبي الأسد، واسم أبي الأسد كيسان بن راشد، وقيل: توبة ابن أبي راشد، ويقال: ابن أبي المورِّع. أبو المورّع -بضم الميم، وفتح الواو المشدّدة المكسورة، بعدها مهملة- البصريّ، ثقة [4].

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين، وأبو حاتم، وإبراهيم بن عزرة، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: أخبرنا إسحاق بن المورّع بن توبة العنبريّ، قال: هو توبة بن كيسان بن أبي الأسد، أصله من سجستان، ومولده اليمامة، ومنشؤه بها، ثم تحوّل إلى البصرة، وهو مولى أيوب بن أزهر، وَفَدَ على عمر بن عبد العزيز، وولاه يوسف بن عمر سابور، ثم ولاّه الأهواز، وكان يوم توفي ابن (74) سنة. وقال خليفة: مات بعد الثلاثين ومائة. وقال حفيده العباس بن عبد العظيم العنبريّ: مات في الطاعون سنة (131). قال ابن المدينيّ: له نحو ثلاثين حديثًا. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الأزديّ وحده: توبة منكر الحديث، وروى بإسناد له عن ابن معين: يُضَعَّفُ. وقال ابن أبي خيثمة عن المدائنيّ، عن توبة: عملتُ ليوسف بن عمر، فحبسني حتى لم يبق في رأسي شعرة سوداء، فذكر قصّة.

وقال في "التقريب": وأخطأ الأزدي إذ ضعّفه. روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث: هذا 2176 و 2353 و 4073.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث صحيح، وقد تقدّم شرحه، وتخريجه في الباب الماضي، فلا تنس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2177 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ ، فَقَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ، حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ، حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، وَكَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ، أَوْ عَامَّةَ شَعْبَانَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الربيع بن سليمان) الجيزيّ، أبو محمد المصريّ الأعرج، ثقة [11] 122/ 173.

[تنبيه]: يحتمل أن يكون الربيع بن سليمان هذا هو المراديّ أبا محمد المصريّ

ص: 15

المؤذّن، صاحب الشافعي، ثقة [11] 195/ 311 فكلاهما يروي عنه المصنف، ويرويان عن ابن وهب. واللَّه تعالى أعلم ..

2 -

(ابن وهب) عبد اللَّه المصريّ، ثقة حافظ عابد [9] 9/ 9.

3 -

(أسامة بن زيد) الليثيّ مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوق يهم [7].

قال أحمد: تركه القطّان بأَخَرَة. وقال الأثرم عن أحمد: ليس بشيء. وقال عبد اللَّه ابن أحمد، عن أبيه: روى عن نافع أحاديث مناكير، فقلت له: أراه حسن الحديث، فقال: إن تدبرّت حديثه فستعرف فيه النُّكْرة. وقال ابن معين في رواية أبي بكر بن أبي خيثمة: كان يحيى بن سعيد يُضعّفه. وقال أبو يعلى الموصليّ عنه: ثقة صالح. وقال عثمان الدارميّ عنه: ليس به بأس. وقال الدوريّ وغيره عنه: ثقة. زاد غيره حجة. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يُحتجّ به. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وقال أبو أحمد بن عديّ: يَروِي عنه الثوريّ وجماعة من الثقات، ويروي عنه ابن وهب نسخةً صالحةً، وهو كما قال ابن معين: ليس به بأس، وهو خير من أسامة بن زيد بن أسلم. وقال البرقيّ عن ابن معين: أنكروا عليه أحاديث. وقال ابن نمير: مدنيّ مشهور. وقال العجليّ: ثقة. وقال الآجريّ عن أبي داود: صالح إلا أن يحيي -يعني ابن سعيد- أمسك عنه بأَخَرَة. وذكره ابن المدينيّ في الطبقة الخامسة من أصحاب نافع. وقال الدارقطنيّ: لما سمع يحيى القطّان أنه حدث عن عطاء، عن جابر، رفعه:"أيام منى كلها منحر"، قال: اشهدوا أني قد تركت حديثه. قال الدارقطنيّ: فمن أجل هذا تركه البخاريّ. وقال الحاكم في "المدخل": روى له مسلم، واستدللت بكثرة روايته له على أنه عنده صحيح الكتاب، على أن أكثر تلك الأحاديث مُستشهد بها، أو هو مقرون في الإسناد. وقال ابن حبان في "الثقات": يخطئ، وهو مستقيم الأمر، صحيح الكتاب، وأسامة بن زيد بن أسلم مدنيّ وَاهٍ، وكانا في زمن واحد إلا أن الليثيّ أقدم، مات سنة (153) وكان له يوم مات بضع وسبعون سنة. وقال ابن القطاّن الفاسيّ: لم يحتجّ به مسلم، إنما أخرج له استشهادًا، قال: وقال عمرو بن عليّ الفلاّس: حدثنا يحيى بن سعيد عنه، ثم تركه. قال: يقول: سمعت سعيد بن المسيّب. قال ابن القطّان: هذا أمر منكر؛ لأنه بذلك يساوي شيخه الزهريّ. انتهى كلام ابن القطّان.

قال الحافظ: ولم يرد يحيى القطّان بذلك ما فهمه عنه، بل أراد ذلك في حديث مخصوص يتبيّن من سياقه، اتفق أصحاب الزهريّ على روايته عن الزهريّ، سمعت سعيد بن المسيّب، فأنكر عليه القطّان هذا لا غيره، انتهى كلام الحافظ. علّق له البخاريّ، وأخرج له الباقون، وله عند المصنّف في هذا الكتاب أربعة أحاديث: هذا 2177 و 4102 و 4337 و 4809.

ص: 16

4 -

(محمد بن إبراهيم) التيميّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة له أفراد [4] 60/ 75.

5 -

(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهريّ المدنيّ الفقيه، ثقة [3] 1/ 1.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وابن وهب، فمصريّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة من الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف -رحمه اللَّه تعالى- (أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟، فَقَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ) أي يستمرّ على الصوم في بعض الشهور (حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ) أي في هذا الشهر الذي شرع في صومه (وَيُفْطِرُ) أي يستمرّ على الفطر في بعض الشهور (حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ) أي في ذلك الشهر (وَكَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ، أَؤ عَامَّةَ شَعْبَانَ") قال السنديّ: "أو" بمعنى "بل"، أي بل غالبه. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ويحتمل أن تكون "أو" للشكّ من بعض الرواة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-34/ 2177 و 2178 و 2179/ 35 و 2180 و 218 - وفي "الكبرى" 34/ 2487 و2448 و 35/ 2489 و2490. وأخرجه (خ) في "الصوم" 1969 و1970 (م) في "الصوم" 1274 و 1275 و 2716. (د) في "الصوم" 2434 (ت) في "الشمائل" 144 (ق) في "الصيام"1710. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2178 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّ ابْنَ الْهَادِ، حَدَّثَهُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ -يَعْنِي ابْنَ

ص: 17

عَبْدِ الرَّحْمَنِ- عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"لَقَدْ كَانَتْ إِحْدَانَا، تُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ، فَمَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَقْضِيَ، حَتَّى يَدْخُلَ شَعْبَانُ، وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ فِي شَهْرٍ، مَا يَصُومُ فِي شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ إِلاَّ قَلِيلاً، بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أحمد بن سعد بن الحكم) بن محمد بن سالم الْجُمَحيّ، أبو جعفر ابن أبي مريم المصريّ، صدوق [11].

قال النسائيّ: لا بأس به. وقال أبو عمر الكنديّ في "كتاب "الموالي": كان من أهل العلم والرحلة والتصنيف. وروى عنه بقيّ بن مَخْلَد، وكان لا يُحدّث إلا عن ثقة. وقال ابن يونس: توفّي يوم عرفة سنة (253). انفرد به أبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان: هذا 2178 و 3379 حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "تزوجني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست سنين .. "الحديث.

2 -

(عمه) هو سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم، أبو محمد المصريّ، ثقة ثبت فقيه، من كبار [10] 3/ 2098.

3 -

(نافع بن يزيد) الْكَلَاعيّ، أبو يزيد المصريّ، يقال: إنه مولى شُرحْبيل بن حسنة، ثقة عابد [7] 3/ 2098.

4 -

(ابن الهاد) هو يزيد بن عبد اللَّه بن أُسَامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة مكثر [5] 73/ 90. والباقون تقدّموا في السند الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أن الثلاثة الأولين منهم مصريون، والباقون مدنيّون، وأبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210). واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها -كلهَا (قَالَتْ: "لَقَدْ كَانَتْ إِحْدَانَا) أي إحدى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (تُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ) أي للحيض، ونحوه (فَمَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَقْضِيَ) أي لاحتمال أن يريدها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وفي نسخة:"أن تقضي" بحذف "على"(حَتَّى يَدْخُلَ شَعْبَانُ) أي لكونه صلى الله عليه وسلم فيه مشغولاً بالصوم، كما بينته بقولها (وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ في شَهر، مَا يَصُومُ في شَعبَانَ)"ما" الأولى نافية، والثانية مصدريّة، أي لم يكن صلى الله عليه وسلم -يصوم في شهر

ص: 18

من شهور السنة تطوّعًا مثل صومه في شعبان، فلذلك كنّ أزواجه رضي الله عنهن يستطعن قضاء ما فاتهنّ في رمضان فيه (كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ إِلاَّ قَلِيلاً، بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ) قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرحه": أي يصومه بحيث يصحّ أن يقال فيه أنه يصومه كله لغاية قلّة المتروك، بحيث يمكن أن لا يُعتدّ به من غاية قلّته انتهى.

ولفظ مسلم: "كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً". قال النووي في "شرحه": وقولها: "كان يصوم شعبان كله، كان يصومه إلا قليلاً"، الثاني تفسير للأول، وبيان أن قولها:"كله" أي غالبه. وقيل: كان يصوم كله في وقت، ويصوم بعضه في سنة أخرى. وقيل: كان يصوم تارة من أوله، وتارة من آخره، وتارة بينهما، وما يُخْلِي منه شيئًا بلا صيام، لكن في سنين. انتهى كلام النوويّ

(1)

..

والحديث متفق عليه، وتقدم تخريجه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌35 - (ذِكْرُ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ عَائِشَةَ فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الضمير في "فيه" عائد على حديث الصوم المرويّ عنها المتقدّم في الباب الماضي.

ووجه الاختلاف المذكور أن أبا سلمة رواه عن عائشة رضي الله عنها بذكر صومه صلى الله عليه وسلم لشعبان كله، ووافقه على ذلك خالد بن سعد، وخالفه هشام بن سعد، فرواه عنها بأنه صلى الله عليه وسلم ما صام شهرًا كاملاً قط غير رمضان، ووافقه عليه عبد اللَّه بن شقيق، كما يأتي تفصيل ذلك في أحاديث الباب.

قلت: لكن مثل هذا الاختلاف لا يضرّ بصّحة الحديث، لإمكان الجمع؛ يحمل قولها:"كان يصوم شعبان كله" على معظمه، كما تقدّم بيان ذلك في حديثها المذكور في الباب، وفي الباب الماضي، وقد تقدّم في كلام الترمذيّ أن ابن المبارك رحمهما اللَّه تعالى فسره بذلك، فلا ينافي قولها:"ما صام شهرًا كاملا غير رمضان".

(1)

- "شرح صحيح مسلم" ج 8 ص 278 - 279.

ص: 19

ومن ثَمَّ أخرج الحديث الشيخان في "صحيحيهما"، فأخرج البخاريّ حديثها في صوم شعبان في "باب صوم شعبان" برقم 1969 و 1970. وأخرجه أيضًا في -6465. بنسخة "الفتح".

وأخرجه أيضًا مسلم في "صحيحه" برقم-1274 و1275 و 2716 بنسخة "شرح النوويّ".

وأخرج حديثها في صوم رمضان برقم-1270 و 1271 و 2712 و 2713. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2179 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ أَخْبِرِينِي عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: "كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ، وَلَمْ يَكُنْ يَصُومُ شَهْرًا، أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ، إِلاَّ قَلِيلاً، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -؛ رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخ المصنّف، وهو محمد بن عبد اللَّه بن يزيد، أبو يحيى المقرئ المكيّ، ثقة [10] 11/ 11 - فإنه ممن انفرد به هو، وابن ماجه.

و"سفيان" هو ابن عيينة. و"عبد اللَّه بن أبي لبيد": -بفتح اللام، وكسر الموحّدة- أبو المغيرة المدنيّ، نزيل الكوفة، ثقة رمي بالقدر [6] 23/ 541.

وقولها: "قد صام": أي يصوم بعض الشهور حتى نقول: قد أراد أن يصوم ذلك الشهر كله، لكنه يفطر بعضه، ويفطر بعض الشهور حتى نقول: قد أراد أن يفطر ذلك الشهر، ومع ذلك لا ينسلخ ذلك الشهر حتى يصوم بعضه، كما بينه حديثها الآتي:"ولا أفطر حتى يصوم منه".

والحديث متفق عليه، وقد تقدّم تخريجه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2180 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ، أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ، فِي شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة. و"شيخه" هو المعروف بـ" ابن راهويه". و" هشام": هو الدستوائيّ. وشيخه مروزيّ، ثم نيسابوريّ، ومعاذ، وأبوه، ويحيى بصريون، والباقيان مدنيّان. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 20

وقولها: "أكثر صيامًا" قال في "الفتح": كذا لأكثر الرواة بالنصب، وحكى السهيليّ أنه روي بالخفض، وهو وهم، ولعلّ بعضهم كتب "صيامًا" بغير ألف على رأي من يقف على المنصوب بغير ألف، فتوهم مخفوضًا، أو أن بعض الرواة ظنّ أنه مضاف؛ لأن أفعل تضاف كثيرًا، فتوهمها مضافةٌ، وذلك لا يصحّ هنا قطعًا. انتهى.

والحديث متفق عليه، وقد تقدّم تخريجه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2181 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ شَعْبَانَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فقد

تفرّد به، وهو ثقة [11] 38/ 42. و"أبو داود": هو عُمَر بن سَعْد بن عُبيد الْحَفَريّ، ثقة عابد [9] 15/ 523. و "سفيان": هو الثوريّ. و "منصور": هو ابن المعتمر، وكلهم كوفيّون، غير شيخه، فرُهَاويٌّ، وعائشة، فمدنيّة، وكلهم تقدّموا، سوى:

1 -

(خالد بن سعد) الكوفيّ، مولى أبي مسعود الأنصاريّ، ثقة [2].

قال إسحاق بن منصور، عن يحيي بن معين: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف ثلاثة أحاديث: هذا 2181 و 2362 حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "يتحرى يوم الاثنين والخميس"، وفي "كتاب الأشربة"5705.

[تنبيه]: ذَكَر في "تهذيب التهذيب" جـ ص 520 - 521 في ترجمة خالد بن سعد المذكور: ما نصّه: له عندهم حديث واحد في ذكر الدّجّال، قال: وله عند النسائيّ آخر

انتهى.

قال الجامع: هكذا قال، والذي في "تهذيب الكمال" ج8 ص 80 - 81 بعد أن أخرج بسنده عنه، عن ابن أبي عتيق، عن عائشة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "عليكم بهذه الحبّة السوداء، فان فيها شفاء من كلّ داء، إلا الموت" -يعني الشونيز-: رواه البخاريّ، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، فوافقناهما فيه بعلوّ، وعندهما فيه قصّة لغالب بن أبجر، وليس لخالد بن سعد عندهما غير هذا الحديث الواحد، وهو حديث عزيز انتهى.

قال الجامع: وهذا يخالف ما في "تهذيب التهذيب"، فليُنظر. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: ذكر الحافظ المزيّ في "تحفته" بعد أن أرود حديث عائشة المذكور، نقلاً عن المصنّف: ما نصّه: هذا خطأ. يعني أن الصواب: عن سفيان، عن ثور، عن خالد بن

ص: 21

مَعْدَان، عن عائشة، كما سيأتي

(1)

انتهى كلام الحافظ المزيّ -رحمه اللَّه تعالى-.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لم أر هذا الكلام للمصنّف، لا في "المجتبى"، ولا في "الكبرى"، ولعله لاختلاف النسخ، وحديث خالد بن معدان سيأتي للمصنّف برقم 36/ 2187 - وسيأتي الكلام عليه هناك، إن شاء اللَّه تعالى.

وحديث عائشة رضي الله عنها هذا رجاله ثقات، إلا أن المصنّف تكلّم فيه، كما ذكرناه آنفًا، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-35/ 2181 - وفي "الكبرى" - 35/ 2491. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2182 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ،، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "لَا أَعْلَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلَا قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ، وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلاً

(2)

قَطُّ، غَيْرَ رَمَضَانَ")

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غيرَ شيخه، "هارون بن إسحاق" بن محمد بن عبد الملك الْهَمْدَاني، أبي القاسم الكوفيّ، صدوق، من صغار [10] 13/ 346 - فمن رجال البخاريّ في "جزء القراءة"، وأصحاب "السنن".

و"عبدة": هو ابن سليمان الكلابيّ الكوفيّ الثقة الثبت. و"سعيد": هو ابن أبي عَرُوبة الثقة الثبت. وشيخه، وعبدة كوفيان، وسعد، وعائشة مدنيّان، والباقون بصريّون. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم سندًا ومتنًا في باب [الاختلاف على حديث عائشة في إحياء الليل] رقم 17/ 1641 - وتقدم تمام البحث فيه هناك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2183 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي يُوسُفَ الصَّيْدَلَانِيُّ، حَرَّانِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ: سَأَلْتُهَا عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ ، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ، حَتَّى نَقُولَ قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ، وَلَمْ يَصُمْ شَهْرًا تَامًّا، مُنْذُ أَتَى الْمَدِينَةَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَمَضَانُ").

رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه محمد بن أحمد بن محمد بن

(1)

- هو الحديث الآتي للمصنف برقم 36/ 2187.

(2)

- سقطت بعض النسخ: لفظة "كاملا".

(3)

- ووقع في بعض النسخ: "كاملا غير رمضان".

ص: 22

الحجّاج بن ميسرة الكُرَيزيّ، أبو يوسف الصيدلانيّ الرّقّيّ، فقد انفرد به هو، وابن ماجه، وهو ثقة حافظ [10] 171/ 266.

[تنبيه]: قوله: "ابن أبي يوسف" هكذا نسخ "المجتبى"، والظاهر أنه غلطٌ، والصواب أبو يوسف، كما هو في "تهذيب الكمال" جـ24 ص 350، و"تهذيب التهذيب" ج1 ص496 - ، و"التقريب" ص 289 - ، وكما تقدّم للمصنّف في 171/ 266 - ونصّه هناك: "أخبرنا محمد بن أحمد أبو يوسف الصيدلانيّ الرقيّ

وقوله: "الصيدلاني" نسبة إلى بيع الأدوية والعقاقير. قاله في "لب اللباب" ج2 ص 76.

وقوله: "حرانيّ": أي هو منسوب إلى حَرّان -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء، اسم مدينة بالجزيرة. كما في "لب اللباب"جـ 1 ص 240.

و"محمد بن سلمة": هو الحرّانيّ. و"هشام": هو ابن حسان القُرْدُوسيّ البصريّ. وشيخه، ومحمد بن سلمة حرّانيّان، والباقون بصريون، غير عائشة رضي الله عنها. والحديث أخرجه المصنّف هنا -35/ 22183 - وفي "الكبرى" 35/ 2493.

[تنبيه]: أخرج هذا الحديث مسلم في "صحيحه" من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، وهشام، كلاهما عن محمد -يعني ابن سيرين- عن عبد اللَّه بن شقيق، قال حمّاد: وأظن أيوب سمعه من عبد اللَّه بن شقيق

ثم أخرجه عن قتيبة، عن حماد، عن أيوب، عن عبد اللَّه بن شقيق، قال: سألت عائشة رضي الله عنها بمثله، ولم يذكر في الإسناد هشاما، ولا محمدا انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: صنيع الإمام مسلم -رحمه اللَّه تعالى- يدلّ على أنه صحيح من الطريقين جميعًا؛ لأنه يحمل على أن أيوب سمعه من محمد بن سيرين، ثم سمعه من عبد اللَّه بن شقيق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2184 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا خَالِدٌ -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- عَنْ كَهْمَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَى؟ ، قَالَتْ: "لَا إِلاَّ أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ"، قُلْتُ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ شَهْرًا كُلَّهُ؟ ، قَالَتْ: "لَا، مَا عَلِمْتُ صَامَ شَهْرًا كُلَّهُ، إِلاَّ رَمَضَانَ، وَلَا أَفْطَرَ حَتَّى يَصُومَ مِنْهُ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدَريّ، أبو مسعود البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

ص: 23

2 -

(خالد بن الحارث) الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(كهمس) بن الحسن التميميّ، أبو الحسن البصريّ، ثقة [5] 39/ 681.

4 -

(عبد اللَّه بن شقيق) الْعُقيليّ البصريّ، ثقة فيه نصب [3] 17/ 1544.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فمدنية. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ) -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَى؟، قَالَتْ: "لَا" أي لا يصليها (إِلاَّ أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ) - بفتح الميم، وكسر المعجمة- يكون مصدرًا لغاب يَغِيب غَيْبَةً، وغِيَابًا -بالكسر، وغُيُوباً، ويكون مَحَلَّ الغَيْبَة، وهو المراد هنا، أي إلا أن يقدَم من سفره.

ووقع في النسخة الهندية: "من مغيبة" بهاء التأنيث: ولعله بمعنى "سفرته".

وهذا الذي قالته عائشة رضي الله عنها، يفيد أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة الضحى إلا عند القدوم من السفر، وقد جاء عنها في ذلك أشياء مختلفة، فقد أخرج الشيخان من طريق عروة، عنها، أنها قالت:"ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سبّح الضحى، وإني لأسبّحها". وفي لفظ: "ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُصلي سُبحة الضحى قطّ، وإني لأسبّحها، وإن كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليَدَع العمل، وهو يُحبّ أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس، فيُفرض عليهم"

(1)

.

وأخرج مسلم من طريق معاذة العدوية، أنها سألت عائشة رضي الله عنها: كم كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟، قالت:"أربعًا، ويزيد ما شاء"، وفي رواية:"ويزيد ما شاء اللَّه".

ففي الأول نفي صلاته صلى الله عليه وسلم صلاةَ الضحى مُقيّدًا بغير المجيء من مغيبه، وفي الثاني نفي رؤيتها لذلك مطلقًا، وفي الثالث إثباتها مطلقًا.

قال النووي -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح مسلم": ما حاصله: الجمع بين حديثي عائشة في نفي صلاته صلى الله عليه وسلم الضحى، وإثباتها، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصليها في بعض الأوقات

(1)

- متفق عليه، واللفظ الأول للبخاريّ، والثاني لمسلم.

ص: 24

لفضلها، ويتركها في بعضها خشية أن تُفرض، كما ذكرته عائشة، ويتأول قولها:"ما كان يصليها إلا أن يجيء من مغيبه"، على أن معناه: ما رأيته؛ كما قالت في روايتها الأخرى: "ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى".

وسببه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما كان يكون عند عائشة في وقت الضحى إلا في وقت نادر من الأوقات، فإنه قد يكون في ذلك مسافرًا، وقد يكون حاضرًا، ولكنه في المسجد، أو في موضع آخر، وإذا كان عند نسائه، فإنما كان لها يوم من تسعة، فيصحّ قولها:"ما رأيته يصليها"، وتكون قد علمت بخبره، أو خبر غيره أنه صلاها، أو يقال: قولها: "ما كان يصليها"، أي يداوم عليها، فيكون نفيًا للمداومة، لا لأصلها. واللَّه أعلم. انتهى كلام النووي

(1)

.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الفتح": وقد اختلف العلماء في ذلك:

فذهب ابن عبد البرّ وجماعة إلى ترجيح ما اتفق الشيخان عليه، دون ما انفرد به مسلم، وقالوا: إن عدم رؤيتها لذلك لا يستلزم عدم الوقوع، فيقدّم من رُوِي عنه من الصحابة الإثباتُ.

وذهب آخرون إلى الجمع بينهما، قال البيهقيّ: عندي أن المراد بقولها: "ما رأيته يسبّحها"، أي يُداوم عليها، وقولها:"وإني لأسبّحها"، أي أداوم عليها، وكذا قولها:"وما أحدث الناس شيئًا" تعني المداومة عليها، قال: وفي بقية الحديث إشارة إلى ذلك، حيث قالت:، وإن كان لَيَدَعُ العملَ، وهو يحبّ أن يعمله خشية أن يعمل به الناس، فيفرضَ عليهم". انتهى.

وحكى المحبّ الطبريّ أنه جمع بين قولها: "ما كان يصلي إلا أن يجيء من مغيبه"، وقولها:"كان يصليّ أربعًا، ويزيد ما شاء اللَّه": بأن الأول محمول على صلاته إياها في المسجد، والثاني على البيت، قال: ويعكُرُ عليه قولها: "ما رأيته يسبحها قطّ"، ويجاب عنه بأن المنفي صفة مخصوصة، وأَخَذَ الجمعَ المذكورَ من كلام ابن حبّان. وقال عياض وغيره: قولهِا:"ما صلاها" معناه ما رأيته يصلّيها، والجمع بينه وبين قولها:"كان يصليها" أنها أَخبَرت في الإنكار عن عدم مشاهدتها، وفي الإثبات عن غيرها. وقيل في الجمع أيضًا: يحتمل أن تكون نفت صلاة الضحى المعهودة حينئذ، من هيئة مخصوصة، بعدد مخصوص، في وقت مخصوص، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يصليها إذا قدم من سفر، لا بعدد مخصوص، ولا بغيره، كما قالت: "يصلي أربعًا، ويزيد ما شاء

(1)

- راجع "شرح مسلم" ج 6 ص 237.

ص: 25

اللَّه". انتهى كلام الحافظ

(1)

.

[تنبيهان]:

(الأول): حديث عائشة رضي الله عنها هذا يدلّ على ضعف ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه، وعدّها لذلك جماعة من العلماء من خصائصه، ولم يثبت ذلك في خبر صحيح، وقول الماورديّ في "الحاوي": إنه صلى الله عليه وسلم واظب عليها بعد يوم الفتح إلى أن مات يَعكُر

(2)

عليه ما رواه مسلم من حديث أم هانئ رضي الله عنها أنه لم يصلّها قبلُ، ولا بعدُ.

ولا يقال: إن نفي أم هانئ لذلك لا يلزم منه العدم؛ لأنا نقول: يحتاج من أثبته إلى دليل، ولو وجد لم يكن حجة؛ لأن عائشة رضي الله عنها ذكرت أنه كان إذا عمل عملا أثبته، فلا تستلزم المواظبة على هذا الوجوبَ عليه. قاله في "الفتح"

(3)

.

(الثاني): ذَكَرَ النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: ما حاصله: صحّ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال في الضحى: هي بدعة، فيحمل على أنه أراد أن صلاتها في المسجد، والتظاهر بها، كما كانوا يفعلونه بدعة، لا أن أصلها في البيوت، ونحوها مذموم، أو يقال: قوله: بدعة، أي المواظبة عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواظب عليها خشية أن تُفرض، وهذا في حقّه صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت استحباب المحافظة في حقّنا بحديث أبي الدرداء، وأبي ذرّ رضي الله عنهما؛ أو يقال: إن ابن عمر لم يبلغه فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم الضحى، وأمره بها، وكيف كان، فجمهور العلماء على استحباب الضحى، وإنما نُقل التوقّف فيها عن ابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهما واللَّه أعلم انتهى كلام النوويّ

(4)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أحسن الأجوبة عندي الجواب الأخير، وأضعفها، بل هو غير صحيح، ثانيها، لأن قوله: إن المواظبة عليها بدعة، يبطله ما ثبت في حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ، وأبي الدرداء رضي الله عنهما مما يدلّ على أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمحافظة على صلاة الضحى

(5)

.

فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَوّرْ بتقليد ذوي الاعتساف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(1)

- راجع "الفتح" ج 3 ص 373 - 374.

(2)

- عكر الشيءُ يعكر، من بأبي ضرب، وقتل: عطف، ورجع.

(3)

- راجع "الفتح" ج 3 ص 373.

(4)

- راجع "شرح مسلم" ج 6 ص 237.

(5)

- لفظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم -بثلاث: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقُد". متفق عليه.

ولفظ حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: "أوصانى حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث-لن أدعهنّ ما عشت-: بصيام ثلاثة أيام من كلّ شهر، وصلاة الضحى، وبأن لا أنام حتى أوتر". أخرجه مسلم. =

ص: 26

(قُمتُ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ شهرًا كُلَّهُ؟، قَالَتْ: "لَا، مَا عَلِمْتُ صَامَ شَهْرًا كُلَّهُ، إِلاَّ رَمَضَانَ) تقدّم وجه الجمع بين هذا، وقولها:"كان يصوم شعبان كله"، فلا تغفل (وَلَا أَفْطَرَ) أي لم يكن يفطر شهرا من الشهور (حَتَّى يَصُومَ مِنْهُ) أي بعضه، فـ"من، بمعنى بعض (حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ) أي إلى أن مات صلى الله عليه وسلم.واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-35/ 2183 و 2184 و 2185 و 70/ 2349 - وفي "الكبرى" 35/ 2493 و 2494 و 2495 و 69/ 2658. وأخرجه (م) باختصار جزء الصوم فقط في "الصوم" 2710 و 1271 و 2712 و 2713، وأخرج جزء الصلاة فقط في "الصلاة" 1657 و 1658. و (ت) في "الصوم"768. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): مشروعية صلاة الضحى (ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم شهرًا كاملا إلا رمضان (ومنها): استحباب الإكثار من صيام كلّ شهر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر من ذلك، حتى إنه لا ينسلخ شهر من المشهور إلا ويصوم بعضه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2185 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، عَنْ يَزِيدَ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَى؟ ، قَالَتْ: "لَا إِلاَّ أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ

(1)

، قُلْتُ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَهُ صَوْمٌ مَعْلُومٌ، سِوَى رَمَضَانَ؟ ، قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنْ صَامَ شَهْرًا مَعْلُومًا، سِوَى رَمَضَانَ، حَتَّى مَضَى لِوَجْهِهِ، وَلَا أَفْطَرَ حَتَّى يَصُومَ مِنْهُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا، و"أبو الأشعث": هو أحمد بن المقدام العجليّ البصريّ، صدوق [10] 138/

= ولفظ حديث أبي ذَرّ، مرفوعًا:"يُصبح على كل سُلامَى من أحدكم صدقة، فكلّ تسبيحة صدقة، وكلّ تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويُجزىء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى". أخرجه مسلم.

(1)

- وفي الهندية: "من مغيبة".

ص: 27

319.

و "الجُرَيريّ" سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ ثقة [5] 32/ 672. وكلهم بصريون، غير عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -.

وقولها: "إن صام""إن" -بكسر الهمزة- نافية، أي ما صام. وقوله:"حتى مضى لوجهه": أي حتى مات صلى الله عليه وسلم.

والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌36 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن بَقِيَّة بن الوليد رواه عن بَحِير بن سَعْدٍ، عن خالد بن معْدان، عن جُبَير بن نُفَير، عن عائشة رضي الله عنها، وخالفه عبد اللَّه بن داود، فرواه عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن رَبِيعَة الجُرَشيّ، عنها.

وسيأتي فيه اختلاف آخر برقم 70/ 2362 حيث رواه سفيان الثوريّ، عن ثور، عن خالد بن معدان، عن عائشة، فأسقط الواسطة بين خالد، وبين عائشة، وهو منقطع؛ لأن خالدا لم يسمع من عائشة رضي الله عنها، كما قاله الحافظ المزي -رحمه اللَّه تعالى-، انظر "تحفة الأشراف" ج1 ص393.

والظاهر أن رواية عبد اللَّه بن داود أرجح؛ لأنه أوثق من بقيّة، فالحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2186 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ بَقِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَحِيرٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ عَائِشَةَ، عَنِ الصِّيَامِ؟ ، فَقَالَتْ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، وَيَتَحَرَّى صِيَامَ

(2)

الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ").

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

- وفي نسخة: "صوم".

ص: 28

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن عثمان": هو القرشيّ مولاهم، أبو حفص الحمصيّ، صدوق [10] 21/ 535.

و"بَقيّةُ": هو ابن الوليد بن صائد بن كعب الكَلَاعيّ الحمصىّ، أبو يُحمِد، صدوق كثير التدليس عن الضعفاء [8] 45/ 557.

و"بَحِير": -بفتح الموحّدة، وكسر الحاء المهملة-: هو ابن سَعْد -بفتح، فسكون- السَّحُوليّ، أبو خالد الحمصيّ، ثقة ثبت [6] 1/ 688.

و"خالدٌ": هو ابن معْدان الكَلَاعيّ، أبو عبد اللَّه الحمصيّ، ثقة عابد يرسل كثيرًا [3] 1/ 688.

و"جُبَيرُ بنُ نُفَير": الحضرميّ الحمصيّ، ثقة جليل مخضرم، ولأبيه صحبة 50/ 250.

والسند مسلسل بالحمصيين، إلى عائشة رضي الله عنها.

وقوله: "أن رجلاً سأل الخ" الظاهر أنه ربيعة الجُرَشي، كما بينته رواية ابن ماجه، رقم-42/ 1739 - من طريق يحيى بن حمزة، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن ربيعة بن الغاز، أنه سأل عائشة، عن صيام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت:"كان يتحرّى صيام الاثنين والخميس".

وقولها: "ويتحرّى صوم الاثنين والخميس": يقال: تحرّيت الشيءَ: قصدته، وتحرّيت في الأمر: طلبت أحرى الأمرين، وهو أولاهما. قاله في "المصباح". والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم -كان يقصد صوم هذين اليومين، ويراه أولى من غيره، فيكثر منه. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث في إسناده بقية، وهو معروف بالتدليس عن "الضعفاء" وقد صرّح بالتحديث في شيخه هنا، ولكنه معروف بتدليس التسوية أيضًا، فلا بدّ من التصريح بالتحديث في جميع من فوقه، وهنا لم يصرّح.

وهو من أفراد المصنّف، أخرجه هنا-36/ 2186 و 2187 و 70/ 2360 و 2361 و 2362 - وفي "الكبرى" 36/ 2496 و 2497 و 69/ 2669 و 2670 و 2671. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2187 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَوْرٌ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ شَعْبَانَ، وَرَمَضَانَ، وَيَتَحَرَّى الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير:

1 -

(ربيعة) بن عمرو، ويقال: ابن الحارث الدمشقيّ، ويقال: ابن الغاز -

ص: 29

بمعجمة، وزاي-، أبو الغاز الجُرَشيّ -بضم الجيم، وفتح الراء، بعدها معجمة- مختلف في صحبته، وكان فقيهًا.

ذكره ابن سعد في "الطبقات الكبرى" في الصحابة، وفي "الصغرى" في الطبقة الأولى بعد الصحابة. وقال أبو حاتم: ليست له صحبة. وذكره أبو زرعة الدمشقيّ في التابعين. وقال الدارقطنيّ: ربيعة الْجُرَشيّ في صحبته نظر، وربيعة بن عمرو الْجُرَشيّ قُتل براهط. قال ابن عساكر: هما واحد. وقال أبو المتوكّل الناجيّ: سألت ربيعة الجُرَشيّ، وكان فقيه الناس في زمن معاوية. وقال الدارقطنيّ في "الجرح والتعديل": ربيعة الجرشيّ يروي عنه ابن معدان ثقة. وذكر ابن عبد البرّ في "الاستيعاب" عن الواقديّ، قال: ربيعة الجرشيّ قُتل يوم مَرج راهط، وقد سمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم أحاديث. وقال البخاريّ في "تاريخه": حدثني بشر بن حاتم، عن عبيد اللَّه بن عمرو، عن زيد بن أبي أُنيسة، عن عبد الملك أبي زيد، عن مولى لعثمان، عن ربيعة الجرشيّ -وله صحبة-. وقال ابن حبان في "الصحابة": ربيعة بن عمرو الجرشيّ سكن الشام حديثه عند أهلها. وذكره في الصحابة ابن منده، وأبو نعيم، والباورديّ، والبغويّ، وغيرهم. وقال ابن سعد: قتل يوم مرج راهط سنة (64). أخرج له الأربعة، وله عند المصنف هذا الحديث فقط، وأعاده برقم 2361.

و"عمرو بن عديّ ": هو الفلاّس. و"عبد اللَّه بن داود": هو أبو عبد الرحمن الْخُرَيبيّ، كوفيّ الأصل، ثقة عابد [9] 71/ 1322.

و"ثور": هو ابن يزيد، أبو خالد الحمصيّ، ثقة ثبت، كان يرى القدر [7] 7/ 504.

والحديث صحيح، وقد تقدم بيان مواضع ذكر المصنّف له، في الحديث الماضي.

وأخرجه (ت) في "الصوم"-745 - وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه. (ق) في "الصيام" 1739 - (أحمد) ج 6/ 89 (ابن حبان في صحيحه)3643. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 30

‌37 - (صِيَامُ يَوْمِ الشَّكِّ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: اختُلِفَ في المراد بيوم الشكّ والأرجح أنه يوم الثلاثين من شعبان، إذا كانت السماء مُغِيمَةً

(1)

في ليلته ولم يُرَ الهلالُ، أو تحدّث الناس برؤيته، بلا ثَبَتٍ، أو شهد بها من لم تُقبَل شهادته، فيمكن أن يكون من رمضان؛ لنقص شعبان، ويمكن أن يكون من شعبان؛ لكماله، وستعرف بقية الأقوال في المراد بيوم الشكّ عند ذكر اختلاف المذاهب في حكم صومه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2288 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الأَشَجُّ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صِلَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَمَّارٍ، فَأُتِيَ بِشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ، فَقَالَ: كُلُوا، فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ، قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ: عَمَّارٌ: "مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم")

(2)

.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبد اللَّه بن سعيد الأشجّ) الكنديّ، أبو سعيد الكوفيّ ثقة، من صغار [10] 22/ 907.

2 -

(أبو خالد) الأحمر سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوق يخطئ [8] 30/ 921.

3 -

(عمرو بن قيس) المُلائيّ الكوفيّ، ثقة متقن عابد [6] 92/ 1349.

4 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد اختلط بآخره [3] 38/ 42.

5 -

(صِلَة) بن زُفَر العبسيّ، أبو العلاء الكوفي، تابعيّ كبير، ثقة جليل [2] 77/ 1008.

6 -

(عمار) بن ياسر بن عامر بن مالك العنسيّ، أبو اليقْظان، مولى بني مخزوم الصحابي ابن الصحابي، من السابقين الأولين، بدريّ، قُتل بصفّين مع عليّ رضي الله عنهم سنة (37)، وتقدّم في 195/ 312. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- اسم فاعل من أغامت السماءُ، ويقال: غامت، ثلاثيا: إذا أطبق بها السحاب. أفاده في "المصباح".

(2)

- سقط لفظ الصلاة من بعض النسخ.

ص: 31

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الجماعة الذين يرون عنهم دون واسطة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، وعمار رضي الله عنه كان أميرًا على الكوفة لعمر رضي الله عنهما، (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ صِلَةَ) -بكسر المهملة، وفتح اللام المخففة- ابن زُفَر -بزاي، وفاء- وزان عمر، كوفي عَبْسيّ -بموحدة، ومهملة- من كبار التابعين، وفضلائهم، ووَهِمَ ابن حزم، فزعم أنه صِلَة ابن أشيم، والمعروف أنه ابن زُفَر

(1)

. وقد وقع مصرّحًا به عند الترمذيّ، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَمّارٍ) بن ياسر رضي الله عنهما (فأُتِيَ) بالبناء للمفعول (بشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ) -بفتح، فسكون- اسم مفعول، من صَلَيتُ اللحمَ بالنار: إذا شويتَهُ. قالَه في "المصباح". أي بشاة مشويّة (فَقَالَ) عمار رضي الله عنه -للقوم الحاضرين عنده (كُلُوا، فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ) أي قام، وابتعد من مجلس الأكل (قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي حال كونه قائلاً للاعتذار: إني صائم (فَقَالَ عَمَّارٌ) رضي الله عنه (مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذي يُشَكُّ فِيهِ) ببناء الفعل للمفعول، مسندا إلى قوله (فيه) قال في "الفتح": استُدلّ به على تحريم صوم يوم الشكّ؛ لأن الصحابيّ لا يقول ذلك من قبل رأيه، فيكون من قبيل المرفوع.

قال ابن عبد البرّ: -رحمه اللَّه تعالى-: هو مسند عندهم، لا يختلفون في ذلك، وخالفهم الجوهريّ المالكيّ، فقال: هو موقوف.

والجواب أنه موقوف لفظًا، مرفوع حكمًا.

وقال الطيبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إنما أَتَي بالموصول، ولم يقل: يوم الشكّ مبالغةً في أن صوم يوم فيه أدنى شكّ سبب لعصيان صاحب الشرع، فكيف بمن صام يومًا الشكّ فيه قائم ثابت، ونحوه قوله تعالى:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113] أي الذين أُونِس منهم ظلم، فكيف بالظالم المستمرّ عليه انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: يعكُرُ على ما قاله الطيبيّ كونه وقع في بعض طرق الحديث بلفظ: "من صام يوم الشكّ". فليُتَأَمَّل. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 615.

ص: 32

("فَقَد عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ، صلى الله عليه وسلم") هو كنية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قيل: فائدة تخصيص هذه الكنية الإشارةُ إلى أنه هو الذي يَقسِم بين عباد اللَّه أحكامه زمانًا ومكانًا، وغير ذلك.

وأخرج ابن أبي شيبة 3/ 72 عن عبد العزيز بن عبد الصمد العمّيّ، عن منصور، عن رِبْعِيّ:"أن عمارًا، وناسًا معه أتوهم بمسلوخة مشوية في اليوم الذي يُشكّ فيه أنه من رمضان، أو ليس من رمضان، فاجتمعوا، واعتزلهم رجل، فقال له عمار: تعالَ، فكل، فقال: إني صائم، فقال له عمار: إن كنت تؤمن باللَّه واليوم الآخر، فتعالَ، وكل".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد صحيح، وحسّنه الحافظ في "الفتح".

ورواه عبد الرزّاق (7318) عن الثوريّ، عن منصور، عن ربعيّ بن حراش، عن رجل، قال: كنا عند عمار بن ياسر

فذكره، فزاد بين ربعيّ، وبين عمّار رجلاً.

وله شاهد من وجه آخر أخرجه إسحاق بن راهويه من رواية سماك، عن عكرمة، ومنهم من وصله بذكر ابن عباس رضي الله عنهما فيه

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عمار رضي الله عنه هذا صحيح، صححه الترمذيّ، ونقل المنذريّ تصحيحه، وأقره عليه، وصححه ابن خُزيمة، وابن حبّان، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ، وقال الدارقطنيّ: حديث صحيح، ورواته كلهم ثقات.

[تنبيه]: قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": جمع الصاغانيّ في تصنيف له الأحاديث الموضوعة، فذكر فيه حديث عمار المذكور، وما أدري ما وجه الحكم عليه بالوضع؟، وليس في إسناده من يُتّهم بالكذب، وكلهم ثقات، قال: وقد كتبت على الكتاب المذكور كرّاسة في الردّ عليه في أحاديث، منها هذا الحديث، قال: نعم في اتصاله نظر، ذكر المزّيّ في "الأطراف" أنه روي عن أبي إسحاق السبيعيّ أنه قال: حُدِّثتُ عن صِلَة بن زُفر، لكن جزم البخاريّ بصحته إلى صلة، فقال في "صحيحه": وقال صلة الخ، وهذا يقتضي صحته عنده. وقال البيهقيّ في "المعرفة": إن إسناده صحيح انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن الحديث صحيح، كما مرّ بيانه آنفًا. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

-"الفتح" ج 4 ص 615.

ص: 33

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-37/ 2188 - وفي "الكبرى" 37/ 2498. وأخرجه (د) في "الصوم" 2334 (ت) في "الصوم" 686 (ق) في "الصيام" 1645 (الدارميّ) 1620 (ابن خزيمة) 1914 (ابن حبان) 3585 (الحاكم) 1/ 423 - 424 (البيهقيّ) 4/ 208. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان حكم صوم يوم الشكّ، وهو التحريم (ومنها): أن من ارتكب ما نهى عنه الشارع يعدّ عاصيًا له (ومنها): أن قول الصحابيّ: من فعل كذا فقد عصى النبيّ صلى الله عليه وسلم له حكم الرفع عند جمهور أهل العلم، وقد ذكره الحافظ السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى- في جملة الألفاظ التي لها حكم الرفع، حيث قال في "ألفية الحديث":

وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ

نَحْوُ مِنَ السُّنَّةِ مِنْ صَحَابِي

كَذَا أُمِرْنَا وَكَذَا كُنَّا نَرَى

فِي عَهْدِهِ أَوْ عَنْ إِضَافَةٍ عَرَى

ثَالِثُهَا إِنْ كَانَ لَا يَخْفَى وَفِي

تَصْرِيحِهِ بِعِلْمِهِ الْخُلْفُ نُفِي

وَمَا أَتَى وَمِثْلُهُ بِالرَّأْيِ لَا

يَقَالُ إِذْ عَنْ سَالِفٍ مَا حُمِلَا

وَهَكَذَا تَفْسِيرُ مَنْ قَدْ صَحِبَا

فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَوْ رَأْيًا أَبِي

وَعمَّمَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ

وَخَصَّ فِي خِلَافِهِ كَمَا حُكِي

وَقَالَ لَا مِنْ قَائِلِ مَذْكُورِ

وَقَد عَصَى الْهَادِيَ فِي الْمَشْهُورِ

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم صوم الشكّ:

قال الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى-بعد أن أخرج الحديث-: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم من التابعين، وبه يقول سفيان الثوريّ، ومالك بن أنس، وعبد اللَّه بن المبارك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، كرهوا أن يصوم الرجل اليوم الذي يُشكّ فيه، ورأى أكثرهم إن صامه، وكان من شهر رمضان أن يقضي يومًا مكانه انتهى كلام الترمذيّ

(1)

.

وقال الخطابي -رحمه اللَّه تعالى- في "المعالم" جـ 2 ص 99: اختلف الناس في معنى

(1)

- راجع "الجامع" ج 3 ص 366 - 367. بنسخة "تحفة الأحوذيّ".

ص: 34

النهي عن صوم يوم الشكّ:

فقال قوم: إنما نهي عن صيامه إذا نوى به أن يكون عن رمضان، فأما من نوى به صوم يوم من شعبان، فهو جائز، هذا قول مالك بن أنس، والأوزاعيّ، وأصحاب الرأي، ورخّص فيه على هذا الوجه أحمد، وإسحاق.

وقالت طائفة: لا يُصام ذلك اليوم عن فرض، ولا تطوّع؛ للنهي فيه، وليقع الفصل بذلك بين شعبان ورمضان، هكذا قال عكرمة. وروينا معناه عن أبي هريرة، وابن عباس رضي الله عنهم، وكانت عائشة، وأسماء رضي الله عنهما تصومان ذلك اليوم، وكانت عائشة تقول: لأن أصوم يوما من شعبان أحبّ إليّ من أفطر يوما من رمضان. وكان مذهب عبد اللَّه بن عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما صوم يوم الشكّ، إذا كان من ليله في السماء سحاب، أو قَتَر، فإن كان صحوًا، ولم ير الناس الهلال أفطر مع الناس، وإليه ذهب أحمد بن حنبل. وقال الشافعيّ: إن وافق يوم الشكّ يومًا كان يصومه صامه، وإلا لم يصمه انتهى.

وقال ابن الجوزيّ في "التحقيق": لأحمد في هذه المسألة -وهي ما إذا حال دون مطلع الهلال غير أو قتر ليلة الثلاثين، من شعبان ثلاثة أقوال:

(أحدها): يجب صومه على أنه من رمضان (ثانيها): لا يجوز فرضًا، ولا نفلاً، مطلقاً، بل قضاء، وكفارةٌ، ونذراً، ونفلاً يوافق عادة، وبه قال الشافعيّ. وقال مالك، وأبو حنيفة: لا يجوز عن فرض رمضان، ويجوز عما سوى ذلك (ثالثها): المرجع إلى رأي الإمام في الصوم والفطر، كذا ذكر الحافظ في "الفتح".

وقال صاحب "المرعاة" ج 6 ص 444 - 447:

اختلف الأئمة في تعريف يوم الشكّ، وحكم صومه، وفيما إذا صامه بنية رمضان، أو واجب آخر، أو نيّة التطوّع، وتوضيح المقام:

أن السماء إذا كانت مُصحيةً ليلة الثلاثين من شعبان، ولم يُر الهلال، فصبيحة هذه الليلة هي مصداق يوم الشكّ في المشهور عن الإمام أحمد، ولا يجوز صومه.

قال ابن قُدَامة في "المغني" ج 3 ص 86 - : إن لم يروا الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، وكانت السماء مصحية لم يكن لهم صيام ذلك اليوم، إلا أن يوافق صومًا كانوا يصومونه؛ لما رُويَ عن أبي هريرة من النهي عن تقدّم صوم رمضان بيوم، أو يومين. وقال عمار:"من صام اليوم الذي يُشكّ فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ". قال ابن قدامة: والنهي عن صوم يوم الشكّ محمول على حال الصحو انتهى.

وقال الحافظ في "الفتح": المشهور عن أحمد أنه خصّ يوم الشكّ بما إذا تقاعد الناس عن رؤية الهلال، أو شهد برؤيته من لا يَقبَل الحاكم شهادته، فأما إذا حال دون

ص: 35

منظره شيء، فلا يسمى شكّا انتهى.

وإن كانت السماء في ليلة الثلاثين مُغِيمَة، فعن أحمد ثلاث روايات، قال الْخِرَقيّ: إن حال دون منظره غيم، أو قَتَرٌ، وجب صيامه، وقد أجزأ إذا كان من شهر رمضان.

قال ابن قدامة: اختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة، فرُوي عنه مثل ما نقل الخرقيّ، اختارها أكثر شيوخ أصحابنا، وروي عنه أن الناس تبع للإمام، فإن صام صاموا، وإن أفطر أفطروا، وعن أحمد رواية ثالثة: لا يجب صومه، ولا يجزئه عن رمضان إن صامه. وهو قول أكثر أهل العلم انتهى. مختصرًا.

وفي "شرح الإقناع" للشافعية: ويكره صوم يوم الشكّ كراهة تنزيه. قال الإسنويّ: وهو المعروف المنصوص الذي عليه الأكثرون، والمعتمد في المذهب تحريمه، كما في "الروضة"، و"المنهاج"، و"المجموع"، إلا أن يوافق عادة له في تطوّعه، وله صومه عن قضاء، أو نذر، فلو صامه بلا سبب لم يصحّ، كيوم العيد، بجامع التحريم.

فإن قيل: هلا استُحِبّ صوم يوم الشكّ إذا أطبق الغيم؛ خروجًا من خلاف الإمام أحمد، حيث قال بوجوب صومه حينئذ.

أجيب بأنا لا نُراعي الخلاف إذا خالف سنة صريحة، وهي هنا خبر:"إذا غُمّ عليكم، فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين "، ويوم الشكّ هو يوم الثلاثين من شعبان إذا تحدّث الناس برؤيته -أي بلا ثبت- أو شهد بها عدد تُرَدّ شهادتهم، كصبيان، أو نساء، أو عبيد، أو فَسَقَة، وظُنَّ صدقهم، وإنما لم يصحّ صومه عن رمضان لأنه لم يثبت كونه منه انتهى.

وقال الدردير من المالكية: وإن غِيمَتِ السماءُ ليلة الثلاثين، ولم يُر الهلال، فصبيحته يوم الشكّ الذي نهُي عن صومه على أنه من رمضان، وأما لو كانت السماء فُصبيحتة لم يكن يوم شك؛ لأنه إن لم يُرَ كان من شعبان جزمًا، وصِيمَ يومُ الشكّ عادةً، وتطوّعًا، أي ابتداء بلا عادة، وقضاءً، ولنذر صادف، لا احتياطًا على أنه إن كان من رمضان احتسب به، وإلا كان تطوّعًا فلا يجوز. قال الدسوقيّ: وإذا صامه، وصادف أنه من رمضان فلا يجزئه؛ لتزلزل النيّة انتهى.

وعند الحنفية على المشهور في مذهبهم: يومُ الشكّ هو يوم الثلاثين من شعبان، وإن لم يكن في السماء علة من الغيم ونحوه؛ لعدم اعتبار اختلاف المطالع على ظاهر المذهب، وجوازِ تحقّق الرؤية في بلدة أخرى، هكذا في "الدرّ المختار" و"شرحه".

وقال السندي في "شرحه": حَمَلَ حديثَ عمار هذا علماؤُنا الحنفيّةُ على أن يصوم بنية رمضان شكًا، أو جزمًا، وأما إذا جزم بأنه نفل، فلا كراهة، وبعضهم قال بالكراهة

ص: 36

مطلقًا، والحكم بأنه عصى تغليظ على تقدير القول بالكراهة انتهى.

وقال الشوكانيّ في "السيل الجرّار": الواردُ في هذه الشريعة المطهرة الصوم للرؤية، أو لكمال العدّة، ثم زاد الشارع هذا إيضاحًا وبيانًا، فقال:"فإن غمّ عليكم، فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين يومًا، فهذا بمجرّده يدلّ على المنع من صوم يوم الشكّ، فكيف، وقد انضمّ إلى ذلك ما هو ثابت في "الصحيحين" وغيرهما من نهيه صلى الله عليه وسلم لأمته عن أن يتقدّموا رمضان بيوم أو يومين، فإذا لم يكن هذا نهيًا عن صوم يوم الشكّ، فلسنا ممن يَفهَم كلامَ العرب، ولا ممن يَدري بواضحه، فضلاً عن غامضه، ثم انضمّ إلى ذلك حديث عمار -يعني حديث الباب- فذكره، وذكر تصحيحه عن الترمذيّ، وابن خزيمة، وابن حبّان. انتهى.

وقد ألف ابن الجوزيّ مصنّفا مستقلا سماه "درء اللَّوْمِ والضَّيْم في صوم يوم الغيم"، حكى فيه القولَ بصومه عن عليّ، وعائشة، وعمر، وابن عمر، وأنس، وأسماء بنت أبي بكر، وأبي هريرة، ومعاوية، وعمرو بن العاص، والحكم بن عمرو الغفاريّ رضي الله عنهم.

وردّ عليه الحافظ العراقيّ، فقال: لم يقل به أحد من العشرة الذين ذكرهم، إلا ابن عمر، وأسماء، وعائشة، واختلف عن أبي هريرة رضي الله عنهم.

قال البيهقيّ: ومتابعة السنة الثابتة، وما عليه أكثر الصحابة، وعوامّ أهل العلم أولى

بنا انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن المذهب الراجح أنه لا يجوز صوم يوم الشكّ مطلقًا، لا نفلاً، ولا غيره، إلا من كان له عادة بصومه، كما استثناه النصّ الصريح، وما عدا هذا مما سمعت من الأقوال المنتشرة المتخالفة غير صحيح؛ لمخالفته لما صحّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّر بتقليد ذوي الاعتساف. واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2289 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنْ سِمَاكٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عِكْرِمَةَ، فِي يَوْمٍ قَدْ أُشْكِلَ

(1)

، مِنْ رَمَضَانَ هُوَ، أَمْ مِنْ شَعْبَانَ؟ ، وَهُوَ يَأْكُلُ خُبْزًا، وَبَقْلاً، وَلَبَنًا، فَقَالَ لِي: هَلُمَّ. فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ،

قَالَ -وَحَلَفَ بِاللَّهِ-: لَتُفْطِرَنَّ، قُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ، مَرَّتَيْنِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ يَحْلِفُ، لَا يَسْتَثْنِي، تَقَدَّمْتُ، قُلْتُ: هَاتِ الآنَ مَا عِنْدَكَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صُومُوا

(1)

- وفي بعض النسخ: "يعني قد أشكل".

ص: 37

لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابَةٌ، أَوْ ظُلْمَةٌ، فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ عِدَّةَ شَعْبَانَ، وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ، اسْتِقْبَالاً، وَلَا تَصِلُوا رَمَضَانَ بِيَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(ابن أبي عديّ) هو محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقة [9] 122/ 175.

3 -

(أبو يونس) حاتم بن أبي صغيرة مسلم البصريّ، ثقة [6] 66/ 1800.

4 -

(سماك) بن حرب بن أوس بن خالد الذهليّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوق، وروايته عن عكرمة خاصّة مضطربة، وقد تغيّر بآخره، فربما تلقّن [4] 2/ 325.

5 -

(عكرمة) مولى ابن عباس المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 2/ 325.

6 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، إلا سماكًا، كما مرّ آنفًا. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سِمَاكٍ) بن حرب، أنه (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عِكْرِمَةَ) مولى ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - (فِي يَوْمٍ) متعلق بـ"دخلت"(قَدْ أَشْكَلَ) بالبناء للفاعل، فما وقع في بعض نسخ "المجتبى" مبنيًا للمفعول بضبط القلم غلط، فتنبّه (مِنْ رَمَضَانَ هُوَ، أَمْ مِنْ شَعْبَانَ؟) أي أشكل على الناس كونه من رمضان، أو من شعبان، وهو اليوم الذي يُسمّى يوم الشكّ.

(وَهُوَ يَأْكُلُ) جملة في محل نصب على الحال، أي والحال أن عكرمة يأكل (خُبْزًا، وَبَقْلاً) بفتح، فسكون، أصله كل نبات اخْضَرّتْ به الأرض، قاله ابن فارس

(1)

. والمراد هنا البقول التي اعتاد الناس أكلها (وَلَبَنًا، فَقَالَ لي: هَلُمَّ) أي أقبل إلى الطعام (فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ) عكرمة (وَحَلَفَ باللَّهِ) جملة معترضة بين القول ومقوله (لَتُفْطِرَنَّ) بضم حرف المضارعة، من الإفطار، والجملة في نصب مقول القول (قُلْتُ:

(1)

- "المصباح" في مادة "بقل".

ص: 38

سُبْحَانَ اللَّهِ، مرَتَيْنِ) ظرف لـ "قلت"(فَلَمَّا رَأَيْتُهُ يَحْلِفُ، لَا يَسْتَثْنِي) أي لا يستثني شيئًا من أنواع الصوم في ذلك، يعني أنه أمره بالإفطار من صومه على الإطلاق (تَقَدّمْتُ) أي إلى الأكل (قُلْتُ) حال من الفاعل، أي قائلاً (هَاتِ الْاَنَ مَا عِنْدَكَ) أي أَحضِر، واذكر لي ما ثبت لديك من الحجة على أمرك بالإفطار، مؤكِّدّا ذلك بالحلف (قَالَ) عكرمة مبيّنًا حجته التي تمسك بها في ذلك (سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ") أي لرؤية هلال رمضان (وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ) أي لرؤية هلال شوّال (فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابَةٌ، أَوْ ظُلْمَةٌ) أي بسبب غبار أو نحوه (فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ عِدَّةَ شَعْبَانَ) بنصب "عدّةَ" على أنه بدل من "العدّة"(وَلَا تَسْتَقْبلُوا الشَّهْرَ، اسْتِقْبَالاً) أي لا تتقدّموا شهر رمضان بالصوم (وَلَا تَصِلُوا رَمَضَانَ بِيوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ) أي لا تصلوا صوم رمضان بصوم يوم من شعبان.

والظاهر أن قوله: "ولا تصلوا الخ" بمعنى قوله: "لا تستقبلوا الخ"، ويحتمل أن يكون المراد بالاستقبال صوم يوم الشكّ على أن يُحسب من رمضان احتياطا، وقوله:"ولا تصلوا رمضان الخ" صومه تطوّعًا.

وعلى كلّ فالحديث يدلّ على تحريم صوم الشكّ، إلا ما ثبت استثناء الشارع له، وهو الصوم لمن اعتاد صومه، فإنه يجوز أن يصومه، كما تقدّم، ويأتي أيضًا في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى.

واستدلال عكرمة -رحمه اللَّه تعالى- على أمره سماكًا بالإفطار، وحلفه على ذلك من غير استثناء نوع من الصيام يُحمَل على أنه لم يسمع استثناء الشارع لما ذكر. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث تقدم تخريجه في 13/ 2129، وهو صحيح، ولا يضرّه الكلام في سماك عن عكرمة؛ لما سبق له من الشواهد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب ".

ص: 39

‌38 - (التَّسْهِيلِ فِي صِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذه الترجمة بيان أن ما دلّ عليه حديثًا الباب المتقدّم من تحريم صوم يوم الشكّ ليس على إطلاقه، بل يُستثنى من ذلك من اعتاد صوم يوم معيّن، فوافق ذلك اليومُ يومَ الشكّ، فله أن يصومه؛ لحديث هذا الباب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2290 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «أَلَا لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِيَوْمٍ، أَوِ اثْنَيْنِ، إِلاَّ رَجُلٌ، كَانَ يَصُومُ صِيَامًا، فَلْيَصُمْهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الحديث كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

وقوله: "وابن أبي عروبة" بالجرّ عطفًا على "الأوزاعيّ"، فشعيب بن إسحاق يروي عن الأوزاعيّ، وسعيد بن أبي عروبة، كلاهما عن يحيي بن أبي كثير، فما وقع في بعض نسخ "المجتبى" من رفع "ابن أبي عروبة" بضبط القلم غلط، فتنبّه.

وقوله: "ألا" أداة استفتاح وتنبيه. وقوله: "لا تقدّموا" بحذف إحدى التاءين، والمراد بالشهر شهر رمضان.

والحديث صحيح، وقد تقديم تخريجه في 31/ 2172. ودلالته على ما ترجم له المصنّف واضحة، حيث إنه يدلّ على جواز صوم يوم الشكّ لمن له عادة بصوم ذلك اليوم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 40

‌39 - (ثَوَابُ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ، وَصَامَهُ، إِيمَامَانًا وَاحتِسَابًا، والاخْتِلَافِ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي الْخَبَرِ في ذَلِكَ).

قال الزين ابن المنيّر -رحمه اللَّه تعالى- عند قوله: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا": الأولى أن يكون منصوبًا على الحال، بأن يكون المصدر في معنى اسم الفاعل، أي مؤمنا محتسبًا، والمراد بالإيمان الاعتقاد لحقّ فرضية صومه، والاحتساب طلب الثواب من اللَّه. وقال الخطّابيّ:"احتسابًا": أي عزيمة، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه، طيبة نفسه بذلك، غير مستثقل لصيامه، ولا مستطيل لأيامه انتهى

(1)

. وسيأتي مزيد بسط لهذا البحث قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن سعيد بن أبي هلال رواه عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وخالفه جمهور الرواة، فرووه متصلا، إما بذكر عائشة رضي الله عنها، أو بذكر أبي هريرة رضي الله عنه، فرواه إسحاق بن راشد، ويونس بن يزيد، وشعيب بن أبي حمزة في رواية عن الأخيرين، ثلاثتهم عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها. ورواه يونس بن يزيد، وشعيب بن أبي حمزة في رواية عنهما، وصالح بن كيسان، ومعمر، وابن عيينة، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، ستتهم عن الزهريّ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه مالك، في رواية ابن القاسم عنه، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه وفي رواية جويرية، عنه عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، وحميد بن عبد الرحمن، كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قلت: وهذا الاختلاف لا يضرّ بصحة الحديث؛ إلا الروإية الأولى فإنها مرسلة، وأما البواقي، فتحمل على أن الزهريّ له في هذا الحديث ثلاثة من الشيوخ: عروة، وأبو سلمة، وحميد بن عبد الرحمن، كما سيتّضح ذلك فيما أخرجه المصنّف رحمه الله تعالى بالطرق المختلفة هنا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2291 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، قَالَ:

(1)

- راجع: زهر الربى" ج4 ص 157 - 159.

ص: 41

أَنْبَأَنَا خَالِدٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ قَامَ

(1)

رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، إلا شيخه، فمن أفراده، وهو ثقة فقيه مصريّ [11] 120/ 166.

و"خالد": هو ابن يزيد الْجُمَحِيّ، ويقال: السكسكيّ المصريّ، ثقة فقيه [6] 41/ 686.

و"ابن أبي هلال ": هو سعيد بن أبي هلال، أبو العلاء المصريّ، صدوق [6] 41/ 686.

ومن لطائف الإسناد أنه مسلسل بالمصريين إلى الزهريّ، وهو وسعيد مدنيّان.

والحديث من أفراد المصّنف، وتقدّم أنه مرسل، وقال الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ في "تحفة الأشراف" جـ 13 ص 214 - بعد أن عزى الحديث إلى المصنّف: ما نصّه: وقال -يعني النسائيّ-: لا أعلم أحدًا تابع ابن أبي هلال انتهى.

فيدلّ هذا على أن بقية الرواة عن الزهريّ رووه موصولاً، إما عن عروة، عن أبي هريرة، وإما عن أبي سلمة وحده، عن أبي هريرة، وإما عن أبي سلمة، وحميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، وإما عن حميد بن الرحمن وحده، عن أبي هريرة.

والحاصل أن الحديث صحيح موصولاً. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2292 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَبَلَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعَافَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُرَغِّبُ النَّاسَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ، بِعَزِيمَةِ أَمْرٍ فِيهِ، فَيَقُولُ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن جَبَلَة) ويقال: ابن خالد بن جَبَلَة الرّافقيّ، خُرَاسانيّ الأصل، صدوق [11] 190/ 1167.

2 -

(المعافى) بن سليمان الْجَرَزيّ، أبو محمد الرَّسْعَنيّ -بفتح الراء، والعين، بينهما سين ساكنة، مهملات، ثم نون- صدوق [10] 10/ 1199. وهو من أفراد المصنّف.

(1)

- وفي نسخة: "من صام".

ص: 42

3 -

(موسى) بن أعين القرشيّ مولاهم، أبو سعيد الجزريّ، ثقة عابد [8] 11/ 415.

4 -

(إسحاق بن راشد) الْجَزَريّ، أبو سليمان الحَرَّاني، وقيل: الرَّقيّ، مولى بني أمية، وقيل: مولى عمر بن الخطاب، ثقة، في حديثه عن الزهريّ بعض الوهم [7].

قال البخاريّ: إسحاق بن راشد أخو النعمان بن راشد، نسبه محمد بن راشد. قال أحمد: لا أعلم بينهما قرابة، ولا أراه حفظه. وقال عبد اللَّه بن أحمد: سئل أبي عن إسحاق بن راشد، والنعمان بن راشد؟ فقال: ليسا بأخوين، إسحاق رقّيّ، والنعمان جزريّ، ولا أعلم بينهما قرابة، وإسحاق أحبّ إليّ، وأصحّ حديثًا من النعمان، هو فوقه. وقال ابن معين: إسحاق جزري، ومعمر بصريّ، ليس بينهما رحم. وكذا قال الفَسَويّ، وزاد: وإسحاق بن راشد صالح الحديث. وقال الدُّوريّ، عن ابن معين نحو ذلك، وزاد: قال: إسحاق بن راشد ثقة. وقال إبراهيم بن عبد اللَّه بن الجنيد، عن ابن معين: النعمان بن راشد، وإسحاق بن راشد ليسا بأخوين، ولا بينهما قرابة، وقال: ليس هما في الزهريّ بذلك. قلت: ففي غير الزهريّ؟ قال: ليس بإسحاق بأس. وقال المفضّل بن غسّان الْغَلَابيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال النسائيّ: ليس به بأس.

وقال ابن خزيمة: لا يحتجّ بحديثه. وقال أبو عروبة: مات بسجستان، أحسبه قال: في خلافة أبي جعفر. وقال أبو الوليد الطيالسيّ: حدثني صاحب لي من أهل الريّ يقال له: أشرس، قال: قدم علينا محمد بن إسحاق، فكان يحدثنا عن إسحاق بن راشد، فقدم علينا إسحاق بن راشد، فجعل يقول: حدثنا الزهريّ، حدثنا الزهريّ، قال: فقلت له: أين لقيت ابن شهاب؟ قال: لم ألقه، مررت ببيت المقدس، فوجدت كتابًا له ثَمَّ. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: حدّثنا عبد اللَّه بن جعفر، سمعت عُبيد اللَّه بن عمرو، وأبا المليح يقولان: قال إسحاق بن راشد: بَعَثَ محمدُ بن عليّ زيدَ بنَ عليّ إلى الزهريّ، قال: يقول لك أبو جعفر: استوص بإسحاق خيرًا، فإنه منا أهل البيت. قال عُبيد اللَّه بن عمرو: وكان إسحاق -يعني بن راشد- صاحب مال، فأنفق عليهم أكثر من ثلاثين ألف درهم، ورثها من أبيه.

قال الحافظ: وهذا يدلّ على أنه لقي الزهريّ، وممن جزم أن إسحاق، والنعمان أخوان الذّهليّ، وابن حبّان، وأبو زرعة، وأبو داود في "الإخوة"، وغيرهم، فقال الذهليّ: صالح بن الأخضر، وزمعة بن صالح، ومحمد بن أبي حفصة، في بعض حديثهم اضطراب، والنعمان، وإسحاق ابنا راشد الجزريّان أشدّ اضطربًا. وقال الآجريّ: سألت أبا داود عن إسحاق بن راشد، فقال: هذا أخو النعمان بن راشد. وقال الفسويّ: جزريّ حسنٌ الحديث. وقال النسائيّ: ليس بذاك القويّ. كذا قاله في "السنن

ص: 43

الكبرى". وقال العجليّ: ثقة. وذكره ابن حبّان، وابن شاهين في "الثقات".

أخرج له الجماعة، سوى مسلم، وله عند المصنف ثلاثة أحاديث فقط: برقم 2192 و 3423 و 4903. والباقون تقدّموا قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ الزُّهْريّ) محمد بن مسلم، أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَخْبَرَتهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُرَغِّبُ النَّاسَ) من "الترغيب" أو الإرغاب، أي يحُثُّهم (فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ، بِعَزِيمَةِ أَمْرِ فِيهِ) بإضافة "عزيمة" إلى "أمر"، قال الفيّوميّ: عزيمة اللَّه: فريضته التي افترضها، والجمع عزائم انتهى. فالإضافة هنا من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي بأمر معزوم، أي مفروض، يعني أنّ أمره صلى الله عليه وسلم لهم بقيام رمضان ليس أمر إيجاب، وإنما هو أمر ندب، واستحباب.

ولفظ مسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة"، فقال النووي في "شرحه ": معناه: لا يأمرهم أمر إيجاب وتحتيم، بل أمر ندب وترغيب، ثم فسّره بقوله: فيقول: "من قام رمضان

الخ"، وهذه الصيغة تقتضي الترغيب والندب، دون الإيجاب، وأجمعت الأمة على أن قيام رمضان ليس بواجب، بل هو مندوب انتهى كلام النوويّ

(1)

.

(فَيَقُولُ: "منْ قَامَ رَمَضَان") أي قام لياليه مصلّيًا أو تاليًا، أو ذاكرًا، أو داعيًا، أو نحوه، والمراد من قيام ليله ما يحصل به مطلق القيام، وذكر النوويّ أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح، يعني أنه يحصل بها المطلوب من القيام، لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها. وأغرب الكرمانيّ، فقال: اتفقوا على أن المراد بقيام رمضان صلاة التروايح. قاله في "الفتح".

وقال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: ليس المراد بقيام رمضان قيام جميع ليله، بل يحصل ذلك بقيام يسير من الليل؛ كما في مطلق التهجّد، وبصلاة التراويح وراء الإمام كالمعتاد في ذلك، وبصلاة العشاء والصبح في جماعة؛ لحديث عثمان بن عفّان رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من صلى العشاء في جماعة؛ فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما صلى الليل كله". رواه مسلم في "صحيحه" بهذا اللفظ، وأبو داود بلفظ: "من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن

(1)

- "شرح مسلم" ج 8 ص 283.

ص: 44

صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة"، وكذا لفظ الترمذيّ: "ومن صلّى العشاء والفجر في جماعة". ورواية مسلم في ذلك محمولة على روايتهما، فمعنى قوله: "ومن صلى الصبح في جماعة"، أي مع كونه كان صلى العشاء في جماعة، وكذلك جميع ما ذكرناه يأتي في تحصيل قيام ليلة القدر.

وقد روى الطبرانيّ في "معجمه الكبير" عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من صلى العشاء في جماعة، فقد أخذ بحظّه من ليلة القدر". لكن في إسناده مسلمة بن عليّ، وهو ضعيف. وذكره مالك في "الموطإ" بلاغًا عن سعيد بن المسيّب أنه كان يقول: من شهد العشاء من ليلة القدر، فقد أخذ بحظّه منها. وقال ابن عبد البرّ: مثل هذا لا يكون رأيًا، ولا يؤخذ إلا توقيفًا، ومراسيل سعيد أصحّ المراسيل انتهى.

وقال الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه القديم: من شهد العشاء والصبح ليلة القدر، فقد أخذ بحظّه منها، ولا يعرف له في الجديد ما يُخالفه. وقد ذكر النوويّ في "شرح المهذّب" أن ما نصّ عليه في القديم، ولم يتعرّض له في الجديد بموافقة، ولا بمخالفة، فهو مذهبه بلا خلاف، وإنما رجع من القديم عن قديم نصّ في الجديد على خلافه.

وروى الطبرانيّ في "معجمة الأوسط" بإسناد فيه ضعف، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من صلّى العشاء في جماعة، وصلّى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد كان كعدل ليلة القدر". وهذا أبلغ من الحديث الذي قبله؛ لأن مقتضاه تحصيل فضيلة ليلة القدر، وإن لم يكن ذلك في ليلة القدر، فما الظنّ بما إذا كان ذلك فيها. انتهى كلام وليّ الدين.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن حديث ابن عمر المذكور ضعيف لا يستفاد منه حكم شرعيّ، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(إِيمَانًا) أي تصديقًا بأنه حقّ وطاعة، وَعَدَ اللَّهُ تعالى الثواب العظيم عليها (وَاحْتِسَابًا) أي طلبًا لمرضاة اللَّه تعالى، وثوابه، لا بقصد رؤية الناس، ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص.

قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: والاحتساب من الْحَسْبِ، وهو العَدّ، كالاعتداد من العدّ، وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه اللَّه تعالى: احتسبه لأن له حينئذ أن يعتدّ عمله، فجُعِلَ في حال مباشرة الفعل كأنه معتدّ به انتهى.

(غُفِرَ لَهُ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله (مَا تَقَدَّمَ) وقوله (من ذَنْبِهِ) بيان لـ"ما"، وهو اسم جنس مضاف، فيتناول جميع الذنوب، إلا أنه مخصوص عند الجمهور بالصغائر، كما سيأتي بيان ختلاف العلماء فيه في المسألة الثالثة، ويأتي أيضًا بيان زيادة

ص: 45

من زاد: "وما تأخّر" في المسأدة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-339/ 2192 و 2193 و 2195 - وفي "الكبرى" 39/ 2503 و 2505. واللَّه تعالى أعلم.

وقد نقل الحافظ أبو الحجاج المزّيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف" ج 12 ص 28 عن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-بعد أن عَزَى الحديث إليه-: ما نصه: ذكره - يعني النسائيّ- في جملة أحاديث، ثم قال: وكلها عندي خطأ، وينبغي أن يكون "وكان يرغّبهم" من كلام الزهريّ، ليس عن عروة، عن عائشة، وإسحاق بن راشد ليس في الزهريّ بذاك القويّ، وموسى بن أعين ثقة انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لم أر كلام المصنّف هذا، لا في "المجتبى"، ولا في "الكبرى"، ولعله لاختلاف النسخ.

وحاصل ما أشار إليه -رحمه اللَّه تعالى- في كلامه المذكور أن الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها هو ما ساقه أصحاب الزهريّ الأثبات: مالك، وابن جريج، ومعمر، وعُقيل، ويونس، وشعيب بن أبي حمزة، وسفيان بن حسين، كلهم عن الزهريّ، عن عروة، عنها بلفظ: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، خرج ذات ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس، فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلوا معه، فأصبح الناس، فتحدثوا، فأكثر أهل المسجد، من الليلة الثالثة، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة، عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر، أقبل على الناس، فتشهد، ثم قال:"أما بعد، فإنه لم يخف عليّ مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها".

وله ألفاظ أخرى مطوّلة، ومختصرة

(1)

.

وقد أخرجه مالك في "الموطإ" ص 91، وأحمد 6/ 169 و 177 و 182 و 232، وعبد بن حميد رقم 1469، والبخاريّ 2/ 13 و 3/ 58 و 2/ 62 و 3/ 58 ومسلم 2/ 177 وأبو داود رقم 1373، وابن خزيمة رقم 1128 و 2207. وسيأتي في الذي بعده، وقد تقدم 4/ 1604.

(1)

- واللفظ المذكور للبخاريّ.

ص: 46

وأما قوله: "كان يرغب الناس في قيام رمضان الخ" فليس إلا في رواية إسحاق بن راشد، عن الزهريّ، وقد ضُعِّفَ في الزهريّ، وإلا في روايةٍ عن شعيب بن أبي حمزة، وفي رواية عنه مثل الجماعة.

فتحصّل من هذا أنه ليس من حديث عائشة رضي الله عنها، بل هو من كلام الزهريّ، ولعله كان يُدرجه عند ما يحدّث بحديثها، وهو بهذا اللفظ ثابت من رواية الزهريّ، عن أبي سلمة، وحميد بن عبد الرحمن، كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه -كما سيأتي قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

والحاصل أن قصّة الترغيب صحيحة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كما سيأتي، لا من حديث عائشة رضي الله عنها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح مسلم": المراد بقيام رمضان صلاة التراويح

(1)

، واتفق العلماء على استحبابها، واختلفوا في أن الأفضل صلاتها منفردًا في بيته، أو في جماعة في المسجد؟، فقال الشافعيّ، وجمهور أصحابه، وأبو حنيفة، وأحمد، وبعض المالكية، وغيرهم الأفضل صلاتها جماعة كما فعله عمر بن الخطاب، والصحابة، رضي الله عنهم، واستمرّ عمل المسلمين عليه؛ لأنه من الشعائر الظاهرة، فأشبه صلاة العيد، وقال مالك، وأبو يوسف، وبعض الشافعيّة، وغيرهم الأفضل فرادى في البيت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أفضل الصلاة صلاةُ المرء في بيته إلا المكتوبة" انتهى كلام النوويّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح ما قاله أهل القول الثاني؛ لصراحة النصّ المذكور فيه، وما ذكروه من فعل عمر، والصحابة رضي الله عنهم يردّه عدمُ صلاة عمر رضي الله عنه نفسِهِ مع أهل المسجد، كما ثبت ذلك في الصحيح

(2)

فعن عبد الرحمن بن عبد القاريّ أنه خرج مع عمر رضي الله عنه ليلة بعد أن جمع الناس على أبيّ بن كعب، والناس يصلون بصلاته، فقال:"نعمت البدعة هذه".

ثم قال: "والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون" -يريد آخر الليل، لأن الناس كانوا يقومون أوله. فقد صرّح رضي الله عنه بأن صلاتها آخر الليل أفضل من صلاتها جماعة في المسجد أول الليل.

ثم إن تشبيههم صلاة التراويح بصلاة العيد غير صحيح؛ لأن صلاة العيد كان من

(1)

- قد تقدّم أن الأرجح أن قيام رمضان لا يختصّ بصلاة التراويح -كما صرّح بذلك وليّ الدين العراقيّ، والحافظ- بل يعمّ كلّ عبادة للَّه تعالى، فتفطّن.

(2)

- راجع "صحيح البخاري" ج 4 ص 779 بنسخة "الفتح".

ص: 47

هدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه يصليها جماعة، بخلاف صلاة قيام رمضان، فإنه صلى الله عليه وسلم صرّح بأنها في البيت أفضل، والقياس في مقابلة النصّ فاسد الاعتبار.

هذا كلّه في الأفضلية، وأما أصل أجر قيام الليل، فإنه يحصل بالصلاة جماعة في المسجد، ولا سيّما إذا لم يكن حافظا للقرآن، وأراد أن يستمع لقراءة الإمام الحافظ، أو لا يتمكن من أدائها في البيت على الوجه المطلوب، فتنبّه.

والحاصل أن صلاة التراويح في البيت أفضل من صلاتها في المسجد جماعة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): ظاهر قوله: ": غفر له ما تقدّم من ذنبه" يتناول الصغائر والكبائر، وإلى ذلك جنح ابن المنذر، فقال: هو عامّ يُرجى لمن قامها إيمانًا واحتسابًا أن يُغفر له جميع ذنوبه، صغيرها وكبيرها. وقال النوويّ في "شرح مسلم": المعروف عند الفقهاء أن هذا مختصّ بغفران الصغائر، دون الكبائر، قال بعضهم: ويجوز أن يخفّف من الكبائر، إذا لم يصادف صغيرة

(1)

.

وقال في "شرح المهذّب": قال إمام الحرمين: كلّ ما يرد في الأخبار من تكفير الذنوب، فهو عندي محمول على الصغائر، دون الموبقات. قال النووي: وقد ثبت في "الصحيح" ما يؤيده، فمن ذلك حديث عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرئ مسلم، تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت له كفّارة لما قبلها، ما لم تُؤتَ كبيرةٌ، وذلك الدهرَ كلّه". رواه مسلم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفّارة لما بينها من الذنوب، إذا اجتنبت الكبائر".

قال النوويّ: وفي معنى هذه الأحاديث تأويلان:

(أحدهما): تكفّر الصغائر بشرط أن لا يكون هناك كبائر، فإن كانت كبائر لم يُكفّر شيءٌ، لا الكبائر، ولا الصغائر.

(والثاني): -وهو الأصحّ المختار- أنه يكفّر كل الذنوب الصغائر، وتقديره: تغفر ذنوبه كلها إلا الكبار. قال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: هذا المذكور في الأحاديث من غفران الصغائر، دون الكبائر هو مذهب أهل السنّة، وأن الكبائر إنما تكفّرها التوبة، أو رحمة اللَّه تعالى انتهى

(2)

.

(1)

- راجع "شرح مسلم" 6 ص 282.

(2)

- راجع "طرح التثريب" ج 4 ص 162 - 163.

ص: 48

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأقرب عندي ما ذهب إليه الجمهور، من أنه مخصوص بالصغائر، لتقييده في بعض الروايات المذكورة بقوله:"إذا اجتُنِبَت الكبائر"، ولا يبعد أن تخفف عنه الكبائر، إذا لم يكن له صغائر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): زاد قتيبة، عن سفيان -عند المصنّف في "الكبرى" رقم - 2512 - :"وما تأخّر".

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وكذا زادها حامد بن يحيى عند قاسم بن أصبغ

(1)

، والحسين بن الحسن المروزيّ في "كتاب الصيام" له، وهشام بن عمّار في الجزء الثاني عشر من "فوائده "، ويوسف بن يعقوب النجاحيّ، أخرجه أبو بكر المقرئ في "فوائده"، كلهم عن ابن عيينة، والمشهور عن الزهريّ بدونها.

ووردت هذه الزيادة من طريق أبي سلمة، من وجه أخر، أخرجها أحمد من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وعن ثابت، عن الحسن، كلاهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال: ووقعت هذه الزيادة من رواية مالك نفسه، أخرجها أبو عبد اللَّه الجرجانيّ في "أماليه" من طريق بحر بن نصر، عن ابن وهب، عن مالك، ويونس، عن الزهري، ولم يُتابع بحرَ بنَ نصر على ذلك أحد من أصحاب ابن وهب، ولا من أصحاب مالك، ولا يونس، سوى ما قدمناه.

وقد وقعت هذه الزيادة أيضًا في حديث عبادة بن الصامت عند الإمام أحمد من وجهين آخرين، وإسناده حسن.

قال: وقد استوعبت الكلام على طُرُقه في كتاب "الخصال المكفّرة للذنوب المقدّمة والمؤخّرة"، وهذا مُحَصَّلة انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن الزيادة المذكورة زيادة حسنة؛ لأن مجموع هذه الطرق لا تنقص عن درجة الحسن. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيهان]:

(الأول): أنه قد وردت في غفران ما تقدّم، وما تأخّر من الذنوب عدّة أحاديث،

(1)

- وعبارة "الفتح" في موضع آخر جـ 4 ص 609: وتابعه حامد بن يحيى، عن سفيان، أخرجه ابن عبد البرّ في "التمهيد"، واستنكره، وليس بمنكر، فقد تابعه قتيبة، كما ترى، وهشام بن عمار إلى آخر ما ذكره هنا.

ص: 49

جمعها الحافظ في مصنّفه المذكور

(1)

.

(الثاني): أنه قد استُشكِلَت هذه الزيادة من حيثُ إن المغفرة تستدعي سبق شيء يُغفَر، والمتأخّر من الذنوب لم يأت، فكيف يُغفر.

والجواب عن ذلك هو الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم حكايةً عن اللَّه عز وجل أنه قال في أهل بدر: "اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم".

ومحصّل الجواب أنه قيل: إنه كناية عن حفظهم من الكبائر، فلا تقع منهم كبيرة بعد ذلك. وقيل: إن معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة، وبهذا أجاب جماعة منهم الماورديّ في الكلام على حديث صيام عرفة، وأنه يُكفّر سنتين، سنة ماضية، وسنة آتية أفاده في "الفتح"

(2)

.

وقال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: وقد يُستَشكَلُ معنى مغفرة ما تأخّر من الذنوب، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم حديث أبي قتادة:"صيام عرفة أحتسب على اللَّه أن يكفّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده"، فتكفير السنة التي بعده كمغفرة المتأخر من الذنوب، وقد قال السرخسيّ من الشافعيّة: اختلف العلماء في معنى تكفير السنة المستقبلة، فقال بعضهم: إذا ارتكب فيها معصية جعل اللَّه تعالى صوم عرفة الماضي كفّارة لها؛ كما جعله مكفّرًا لما قبله في السنة الماضية. وقال بعضهم: معناه أن اللَّه تعالى يعصمه في السنة المستقبلة عن ارتكاب ما يُحوجه إلى كفّارة، وأطلق الماورديّ في "الحاوي" في السنتين معًا تأويلين:

(أحدهما): أن اللَّه تعالى يغفر له ذنوب سنتين.

(والثاني): أنه يعصمه في هاتين السنتين، فلا يعصي فيهما. وقال صاحب "العدّة" في تكفير السنة الأُخْرَى يحتمل معنيين:(أحدهما): أن المراد السنة التي قبل هذه، فيكون معناه أنه يكفّر سنتين ماضيين (الثاني): أنه أراد سنة ماضية، وسنة مستقبلة، قال: وهذا لا يوجد مثله في شيء من العبادات أنه يكفّر الزمان المستقبل، وإنما ذلك خاصّ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غفر اللَّه له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخر بنصّ القرآن العزيز، ذكر ذلك كلّه النوويّ في "شرح المهذب".

وهذا يأتي مثله هنا، فيكون مغفرة ما تأخّر من الذنوب، إما أن يراد بها العصمة من الذنوب حتى لا يقع فيها، وإما أن يراد به تكفيرها، ولو وقع فيها، ويكون المكفّر

(1)

- الرسالة مطبوعة ضمن الرسائل المنيريّة في الجزء منه ص 253 - 266.

(2)

- الفتح ج 4 ص 780.

ص: 50

متقدّمًا على الْمُكَفَّرِ. واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام وليّ الدين

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حاصل ما ذكروه أن اللَّه تعالى إذا وفّق عبده لقيام رمضان إيمانًا واحتسابًا، فإنه يكفّر عنه به الذنوب الماضية، ويكون محفوظا من ارتكاب الذنوب في مستقبله، وإن وقعت منه، فإنها تُكَفَّر بما سبق له من القيام المذكور، وأما أن يكون معصومًا لا يتصوّر منه وقوع معصية، فبعيد.

وهكذا يقال في صيام رمضان إيمانًا واحتسابًا، وفي قيام ليلة ليلة القدر من غير فرق، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): إن قوله: "مَن قام رمضان الخ"، مع قوله الآتي:"مَن قام ليلة القدر الخ"، قد يقال: إن أحدهما يُغني عن الآخر.

وجوابه أن يقال: قيام رمضان من غير موافقة ليلة القدر، ومعرفتها سبب لغفران الذنوب، وقيام ليلة القدر لمن وافقها، وعرفها سبب للغفران، وإن لم يقم غيرها. قاله النوويّ في "شرح مسلم"

(2)

.

وقال الحافظ وليّ الدين: الأحسن عندي الجواب بأنه صلى الله عليه وسلم ذكر للغفران طريقين: (أحدهما): يمكن تحصيلها يقينًا إلا أنها طويلة شاقّة، وهي قيام شهر رمضان بكماله. (الثاني): لا سبيل إلى اليقين فيها إنما هو الظنّ والتخمين؛ إلا أنها مختصر قصيرة، وهي قيام ليلة القدر خاصّةٌ، ولا يتوقّف حصول المغفرة بقيام ليلة القدر على معرفتها، بل لو قامها غيرَ عارف بها غُفر له ما تقدّم من ذنبه؛ لكن بشرط أن يكون إنما قام بقصد ابتغائها، وقد ورد اعتبار ذلك في حديث عُبادة بن الصامت رضي الله عنه عند أحمد، والطبرانيّ، مرفوعًا:"فمن قامها ابتغاءها؛ إيمانًا واحتسابًا، ثم وُفّقت له، غُفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر". قال وليّ الدين:

[فإن قلت]: قد اعتبر شرطًا آخر، وهو أن توفّق له، وكذا في "صحيح مسلم" في رواية:"من يقم ليلة القدر، فوافقها".

قال النوويّ في "شرح مسلم": معنى يوافقها: يعلم أنها ليلة القدر.

[قلت]: إنما معنى توفيقها له، أو موافقته لها أن يكون الواقع أن تلك الليلة التي قامها بقصد ليلة القدر هي ليلة القدر في نفس الأمر، وإن لم يعلم هو ذلك. وما ذكره النوويّ من أن معنى الموافقة العلم بأنها ليلة القدر مردود، وليس في اللفظ ما يقتضي

(1)

- "طرح التثريب" ج 4 ص 163 - 164.

(2)

- ج 6 ص 283.

ص: 51

هذا، ولا المعنى يساعده. انتهى كلام وليّ الدين

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى- في معنى موافقة ليلة القدر حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2293 -

(أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ يُونُسَ الأَيْلِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي

(2)

عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَرَجَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ

"، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: قَالَ

(3)

: فَكَانَ يُرَغِّبُهُمْ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِعَزِيمَةٍ، وَيَقُولُ:«مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ، قَالَ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه زكريّا ابن يحيى بن إياس السّجْزيّ، أبي عبد الرحمن، نزيل دمشق المعروف بخيّاط السنّة، فإنه من أفراده، وهو ثقة حافظ [11] 189/ 1161.

و"عبد اللَّه بن الحارث": هو ابن عبد الملك المخزومّي، أبو محمد المكيّ، ثقة [8] 7/ 504، روى له المصنف خمسة أحاديث برقم 504 و 983 و 2193 و 4488 و 5299. و"إسحاق" شيخ زكريّا: هو ابن راهويه.

قوله: "وساق الحديث"، الضمير ليونس بن يزيد الأيليّ، أي ساق يونس الحديث بتمامه، وقد ساقه مسلم في "صحيحه":

عن حرملة بن يحيى، أخبرنا عبد اللَّه بن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة أخبرته: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، خرج من جوف الليل، فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، في الليلة الثانية، فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد، من الليلة الثالثة، فخرج، فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة، عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فطفق رجال منهم، يقولون: الصلاة، فلم يخرج إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى خرج لصلاة الفجر، فلما قضى الفجر، أقبل على الناس، ثم تشهد، فقال: "أما بعد، فإنه لم يخف عليّ شأنكم

(1)

- "طرح التثريب" ج 4 ص 164.

(2)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(3)

- وفي نسخة: "قالت"، والظاهر أنه غلط.

ص: 52

الليلةَ، ولكني خشيت، أن تُفرَض عليكم صلاة الليل، فتعجزوا عنها".

وقوله: "وفيه: قال الخ" يعني أن في تمام الحديث الذي ساقه يونس زيادة: "قال: فكان يرغبهم الخ"، وقد تقدّم أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، يرجح أن هذا ليس من كلام عائشة رضي الله عنها، وإنما هو من كلام الزهريّ.

والظاهر أن الإمام مسلمًا -رحمه اللَّه تعالى- لم يخرج هذه الزيادة في الرواية المذكورة للعلة التي أشار إليها المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-.

[تنبيه]: قوله: "وفيه: قال" هكذا وقع في بعض النسخ بلفظ "قال" وهو الذي في "الكبرى" جـ 2 ص 86 ووقع في بعض النسخ بلفظ "قالت"، والظاهر أن الأول هو الصواب؛ لأن الصحيح أن هذا ليس من كلام عائشة رضي الله عنها، وإنما هو من كلام الزهري، كما نبه عليه المصنّف رحمه القه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2294 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ فِي رَمَضَانَ: «مَنْ قَامَهُ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو إما الْجِيزِيّ، وهو ممن تفرّد به أبو داود، والمصنّف، وإما المراديّ، وهو من رجال الأربعة، وكلاهما ثقتان.

وقوله: "في رمضان": أي في شأن فضل رمضان، وتمام شرح الحديث سبق قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان صواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-39/ 2194 و 2196 و 2197 و 2198 و 2199 و 2200 و 2201 و 2202 و 2203 و 2204 و2205 و 40/ 2206 و 2207 و 3/ 1602 و 1603 و 21/ 5024 و 5025 و 5026 و 26/ 5027 - وفي "الكبرى" هنا- 39/ 2506 و 2507 و 2508 و 2509 و 2510 و2511 و2512 و2513 و2514 و 2515 و 40/ 2516 و2517 وفي "قيام الليل- باب ثواب من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا" -4/ 1295 و 1296 و "كتاب الاعتكاف" -25/ 3412 و 3413 و 3414 و 3415 و3416 و 3417 و 3418 و 3419 و 3420 و3421 و 3422 و 3423 و 3424 و3425.

ص: 53

وأخرجه (خ) في "الإيمان" 37 و"صلاة التروايح" 2009 و1901 وفي "التهجد" 1129 و"الصوم"1901. (م) في "الصلاة" 1776 و1777 و1778 و 1779. (د) في "الصلاة" 1371 (ت) في "الصوم"808.

وساقوه بألفاظ مختلفة، فتارة بفضل صوم رمضان، وتارة بقيامه، وتارة بقيام ليلة القدر، وتار بذكر الثلاثة، وتارة بالاقتصار على اثنين منها، كما ستراه في روايات المصنّف الآتية، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2295 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنِ الزُّهْرِيِّ،، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَرَجَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ

وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُرَغِّبُهُمْ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِعَزِيمَةِ أَمْرٍ فِيهِ، فَيَقُولُ:«مَنْ قَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ، مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، محمد بن خالد بن خَلِيِّ الكلاعيّ، أبي الحسين الحمصيّ، فإنه ممن تفرّد هو به، وهو صدوق [11] 7/ 1466.

قوله: "وساق الحديث" الفاعل ضمير يعود إلى شعيب، وهو ابن أبي حمزة.

وقد تقدّم في رواية إسحاق بن راشد -2192 - أن المصنّف تكلّم في هذا الحديث، فراجعه، تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2296 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ لِرَمَضَانَ: "مَنْ قَامَهُ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الرواية ساقها المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-؛ لبيان اختلاف شعيب بن أبي حمزة على الزهريّ، فمرة رواه عنه، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، كما في الرواية الماضية، ومرّة رواه، عنه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأن شيخه محمد بن خالد بن خَلِيّ روى الحديث بالطريقين جميعاً، وقد تقدّم أن الأرجح عند المصنّف كونه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وقوله: "لرمضان": أي لفضل رمضان، أو لأجل رمضان، أو اللام بمعنى "في"، كما صُرّح به في الرواية المذكورة قبل حديث، فهو كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ

ص: 54

لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} الآية [الأنبياء: 47]: أي في يوم القيامة، أو بمعنى "عند"، أي يقول عند مجيء رمضان، كما في قولهم: كتبته لخمس خلون، أي عند خمس خلون

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2297 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ

(2)

، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،،، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخ المصنّف، وهو سليمان بن سيف، أبو داود الحرّاني، فإنه ممن تفرّد هو به، وهو ثقة حافظ [11] 103/ 136.

و"والد يعقوب": هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثم البغداديّ الثقة. و"صالح": هو ابن كيسان المدنيّ المثبت. والحديث متفق عليه، كما تقدّم بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2298 -

(أَخْبَرَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ،، عَنِ الزُّهْرِيِّ،، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِعَزِيمَةٍ، قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، نوح ابن حبيب القُومسيّ الْبَذَشِيِّ، فقد انفرد به هو، وأبو داود، وهو ثقة [10] 79/ 1010 والحديث متفق عليه، كما تقدّم الكلام عليه، وباللَّه تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2299 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»).

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرة. و"حميد بن عبد الرحمن" هو: ابن عوف الزهريّ المدنيّ. والحديث متفق عليه، كما تقدّم بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- راجع "عمدة القاري" ج 9 ص 199.

(2)

- سقط من بعض النسخ لفظ "بن إبراهيم".

ص: 55

2200 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،،،، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة.

و"محمد بن سلمة": هو المراديّ الجَمَليّ المصريّ الثبت. و"ابن القاسم": هو عبد الرحمن الْعُتَقيّ المصريّ الفقيه الثقة، صاحب الإمام مالك -رحمهم اللَّه تعالى-، والحديث متفق عليه، كما تقدّم بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2201 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،،، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه محمد ابن إسماعيل، أبي بكر الطبراني، فإنه من أفراد، وهو ثقة [12] 3/ 1603.

و"عبدُ اللَّه بن محمد بن أسماء": هو الضبعيّ البصريّ، ثقة جليل [10] 197/ 315.

و" جُويرية": هو ابن أسماء بن عُبيد الضبعيّ البصريّ، صدوق [7] وهو عم عبد اللَّه الراوي عنه. والحديث متفق عليه، كما تقدّم بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2202 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَا:: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ» ، وَفِي حَدِيثِ قُتَيْبَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ قَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، "محمد ابن عبد اللَّه بن يزيد المقرئ"، أبي يحيى المكيّ، فقد تفرّد به هو، وأبو داود، وهو ثقة [10] 11/ 11، و"سفيان": هو ابن عيينة. والحديث متفق عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2203 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»).

ص: 56

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفق عليه، ورجال إسناده هم الذين ذُكروا قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2204 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدموا غير مرّة. و"إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. والحديث متفق عليه، كما تقدّم بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2205 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه

(1)

، قَالَ: قَالَ

(2)

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو، والترمذيّ، وابن ماجه، وكلهم تقدّموا، غير:

1 -

(عليّ بن المنذر) بن زيد الأَوْديّ، ويقال: الأسديّ، الطَّرِيقيّ -بفتح المهملة، وكسر الراء، بعدها تحتانيّة ساكنة، ثم قاف- أبو الحسن الكوفيّ، صدوق يتشيّع [10].

قال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي، وهو صدوق ثقة، سئل عنه أبي؟ فقال: شيعيّ محض صدوق. وقال ابن نمير: ثقة صدوق. وقال الإسماعيليّ: في القلب منه شيء، لست أخبُرُهُ. وقال ابن ماجه: سمعته يقول: حججت ثمانياً وخمسين حجة، أكثرها راجلاً. وقال الدارقطنيّ: لا بأس به. وكذا قال مسلمة بن قاسم، وزاد: كان يتشيّع. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكر ابن السمعانيّ أنه قيل له: الطَّرِيقيّ؛ لأنه وُلِدَ بالطريق. وقال مطيَّن: مات في ربيع الآخر سنة (255). روى عنه الترمذيّ، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنف في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا 2205 وفي "كتاب الاستعاذة" حديث 5451.

و"ابن فضيل" هو: محمد بن فُضيل بن غَزْوَان الضبّيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوق عارف رمي بالتشيع [9] 18/ 799.

و"يحيى بن سعيد": هو الأنصاريّ المدنيّ الثبت. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- سقط من بعض النسخ الترضي.

(2)

- سقطت إحدى لفظتي "قال" من بعض النسخ.

ص: 57

[تنبيه]: نقل الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف" جـ 11 ص64 عن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-: ما نصّه: وقال النسائيّ: هذا حديث منكر من حديث يحيى، لا أعلم أحدًا رواه غير ابن فضيل انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لم أر هذا الكلام للمصنّف، لا في "المجتبى"، ولا في "الكبرى"، ولعله لاختلاف النسخ.

ثم إن الظاهر أن تفرّد ابن فُضيل لا يضرّ بصحة الحديث، ولذا أخرجه البخاريّ في "صحيحه" في كتاب "الإيمان" رقم 38 عن محمد بن سلام، عن محمد بن فُضيل بسند المصنّف، ومتنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌40 - (ذِكْرُ اخْتِلَافِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَالنَّضْرِ بْنِ شَيْبَانَ فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "فيه" الضمير لحديث فضل رمضان.

ووجه الاختلاف المذكور أن يحيى بن أبي كثير روى الحديث عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد تابعه على ذلك الزهريّ، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، كما تقدمت رواياتهم في الباب الماضي، وخالفه النضر بن شيبان، فرواه عن أبي سلمة، عن أبيه، وقد بيّن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أنه خطأ، والصواب أبو سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2206 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو الأَشْعَثِ -وَاللَّفْظُ لَهُ- قَالُوا: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ

(1)

، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه:

1 -

(محمد بن هشام) بن شَبِيب بن أبي خِيرَة -بكسر المعجمة، وفتح التحتانيّة- أبي

(1)

- وفي نسخة: "عن هشام".

ص: 58

عبد اللَّه البصريّ، نزيل مصر، ثقة مصنّف [10].

قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائيّ: صالح. وقال في موضع آخر: لا بأس به.

وقال ابن يونس: كان ثقة ثبتًا حسن الحديث، توفي بمصر في جمادى الأولى سنة (251). تفرّد بالرواية عنه أبو داود، والمصنف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا 2206 وحديث 4884 في قطع يد السارق.

و"أبو الأشعث": هو أحمد بن المقدام البصريّ، صدوق [10] 138/ 319.

و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ الثبت.

"وهشام ": هو ابن أبي عبد اللَّه الدستوائيّ البصريّ الحجة. والسند مسلسل بالبصريين إلى أبي سلمة.

والحديث متفق عليه، وتقدّم تخريجه في 39/ 2194. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2207 -

(أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ مَرْوَانَ، أَنْبَأَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاَّمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه محمود بن خالد السلميّ، أبي عليّ الدمشقيّ، فقد تفرد به هو، وأبو داود، وابن ماجه، وهو ثقة، من صغار [10] 45/ 595.

و"مروان": هو ابن محمد بن حسّان الأسديّ الدمشقيّ الطّاطَريّ، ثقة [9] 128/ 1091، أخرج له الجماعة إلا البخاريّ.

و"معاوية بن سلاّم": هو أبو سلاّم الدمشقيّ الحمصيّ، ثقة [7] 13/ 1479 أخرج له الجماعة. والسند مسلسل بالدمشقيين إلى يحيى أيضًا.

والحديث متفق عليه، كما تقدّم تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2208 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(2)

نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنِي النَّضْرُ بْنُ شَيْبَانَ، أَنَّهُ لَقِيَ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ لَهُ: حَدِّثْنِي بِأَفْضَلِ شَيْءٍ سَمِعْتَهُ، يُذْكَرُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ

(1)

- وفي نسخة: "أنا".

(2)

- وفي نسخة: "أنا".

ص: 59

بْنُ عَوْفٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ ذَكَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَفَضَّلَهُ

(1)

عَلَى الشُّهُورِ، وَقَالَ «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ، كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» . قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد تقدّموا، غير اثنين:

1 -

(نصر بن عليّ) بن صُهبان -بضمّ المهملة، وسكون الهاء- الأزديّ الجهضميّ- بفتح الجيم، وسكون الهاء، وفتح المعجمة- الكبير البصريّ، ثقة [7].

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا نصر بن عليّ، وكان صدوقًا. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات في إمرة أبي جعفر. أخرج له الأربعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

2 -

(النضر بن شيبان) الْحُدَّانيّ -بضم المهملة، وتشديد الدال- البصريّ لين الحديث [6].

قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال البخاريّ في حديثه المذكور هنا: لم يصحّ، وحديث الزهريّ وغيره، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أصحّ.

وقال المصنّف: هذا خطأ، والصواب حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان يُخطىء.

قال الحافظ: فإذا كان يخطئ في حديثه، وليس له حديث غيره، فلا معنى لذكره في "الثقات"، إلا أن يقال: هو في نفسه صادق، وإنما غلط في اسم الصحابيّ، فيتّجه، لكن يَرِد على هذا أن في بعض طرقه عنه: لقيت أبا سلمة، فقلت له: حدّثني بحديث سمعته من أبيك، وسمعه أبوك، من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سلمة: حدثني أبي، فذكره

(2)

. وقد جزم جماعة من الأئمة بأن أبا سلمة لم يصحّ سماعه من أبيه، فتضعيف النضر على هذا متعينٌ. وقد قال ابن خراش: إنه لا يُعرَف بغير هذا الحديث. وأعلّه الدارقطنيّ أيضًا بحديث أبي سلمة، عن أبي هريرة انتهى كلام الحافظ. أخرج له المصنّف، وابن ماجه حديث الباب فقط، وأعاده المصنف في 2210.

و"الفضل بن دُكين": هو أبو نعيم الكوفيّ الثقة الثبت [9].

وقوله: "يُذكَرُ في شهر رمضان" ببناء الفعل للمفعول، والجملة في محلّ نصب على الحال، أو في محلّ جرّ صفة لـ "شيء" بعد صفة.

(1)

- وفي نسخة: "وفضّله".

(2)

- سيأتي للمصنف بهذا السياق برقم 2210.

ص: 60

وقوله: "كيوم ولدته أمه" يجوز إعراب "يوم" بالجرّ، وبناؤه على الفتح؛ لإضافته إلى الجملة الماضويّة، وهو المختار، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَابْنِ أَوَ اعْرِبْ مَا كَـ "إِذْ" قَدْ أُجْرِيَا

وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوٍّ فِعْلٍ بُنِيَا

قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح ابن ماجه": المراد باليوم الوقت، إذ ولادته قد تكون ليلًا. والظاهر أن المعنى كخروجه من الذنوب يوم ولدته أمه، وهو غير صحيح، لأنه ما سبقه ذنب حتى يخرجَ منه ذلك اليوم، فالمعنى خرج من ذنوبه، ويصير طاهرًا منها؛ كطهارته منها يوم ولدته أمه. وظاهر هذا الحديث العموم للصغائر والكبائر، والتخصيص يُبعده التشيبه، واللَّه أعلم انتهى كلام السنديّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن الحديث في إسناده ضعف. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "قال أبو عبد الرحمن: هذا خطأ الخ. ولفظ "الكبرى": "هذا غلط، والصواب ما تقدّم ذِكْرُنَا له". انتهى. يعني كونه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

والحديث أخرجه هنا- 40/ 2208 و 2209 و 2210 وفي "الكبرى" - 40/ 2518 و 2519 و 2520. وأخرجه (ق) "الصلاة" 1328. وهو ضعيف، كما بينه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في كلامه المذكور آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2209 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ

فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَقَالَ:«مَنْ صَامَهُ، وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير النضر ابن شيبان، وقد تقدّموا في السند السابق، غير:

1 -

(القاسم بن الفضل) بن مَعْدَان بن قُرَيظ الْحُدَّانيّ -بضم المهملة، وتشديد الدال- الأزديّ، أبي المغيرة البصريّ، كان نازلاً في بني حُدَّان، وليس منهم، ثقة رمي بالإرجاء [7].

قال صالح بن أحمد، عن عليّ بن المدينيّ: قلت ليحيى بن سعيد: إن عبد الرحمن ابن مهديّ يُثَبِّتُ القاسم بن الفضل، قال: ذاك مُنكَرٌ

(2)

، وجعل يُثني عليه. وقال عمرو ابن عليّ: سمعت يحيي بن سعيد يُحسن الثناء على القاسم، قال: وكان ثقة. وقال

(1)

- شرح ابن ماجه للسنديّ ج 2 ص 123.

(2)

- وفي "الجرح والتعديل": "ذاك منكم"، وما هنا له وجه، لأن المراد بالمنكر الداهية الفطن، قال في "القاموس": النَّكْرُ، والنَّكَارة، والنَّكْرَاءُ، والنُّكْرُ -بالضمّ-: الدَّهَاء، والفِطْنَةُ انتهى.

ص: 61

أحمد بن سنان القطّان: سمعت ابن مهديّ، قال: كان من قُدماء أشياخنا، ومع ذلك من أثبتهم. وقال أحمد، عن ابن مهديّ نحو ذلك. وقال ابن معين: ثقة. وقال مرّة: صالح. وقال مرّة: ليس به بأس. وقال أحمد، وابن سعد، والنسائيّ، والترمذيّ: ثقة. وقال أبو زرعة: أحفظ من أبي هلال الراسبيّ. وقال الآجريّ، عن أبي داود: كان صاحب حديث، قال يحيى القطّان: كان مُنكَرًا يعني من فطنته. وقال أبو داود مرّة: هو من مرجئة البصرة. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن عمار: القاسمُ بن الفضل من ثقات الناس. وقال العقيليّ: سأله شعبة عن حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد في قصّة كلام الذئب، وفيه: "لا تقوم الساعة حتى يُكلّم الرجل عَذَبَةُ سوطه

(1)

، وشِرَاك نعله، ويُخبره فخذه بما أحدث أهله "

(2)

، فحدثه به، فقال شعبة: لعلك سمعته من شهر بن حوشب؟، قال:، حدثناه أبو نضرة، عن أبي سعيد، فما سكت، حتى سكت، شعبة.

وذكره ابن حبّان في "الثقات". قال ابن معين: مات سنة (167). أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث: هذا (2209) و (221) و (5640).

والحديث ضعيفٌ كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2210 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شَيْبَانَ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: حَدِّثْنِي بِشَىْءٍ، سَمِعْتَهُ مِنْ أَبِيكَ، سَمِعَهُ أَبُوكَ، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَيْسَ بَيْنَ أَبِيكَ، وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، قَالَ: نَعَمْ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: قَالَ

(1)

- الْعَذَبَةُ -بفتحتين-: الطرَف، وجمعه عَذَبَات، مثلُ قَصَبة وقَصَبَات.

(2)

- أخرجه أحمد في مسنده" والترمذيّ في "جامعه"، ولفظ أحمد:

11365 -

حدثنا يزيد، أخبرنا القاسم بن الفضل الحُدَّاني، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: عدا الذئب على شاة، فأخذها فطلبه الراعي، فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه، قال: ألا تتقي اللَّه، تنزع مني رزقا، ساقه اللَّه إليّ، فقال: يا عجبي ذئب مُقع على ذنبه، يكلمني كلام الإنس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك، محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب، يخبر الناس، بأنباء ما قد سبق، قال: فأقبل الراعي، يسوق غنمه، حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية، من زواياها، ثم أتى رسول اللَّه صلى اتله عليه وسلم، فأخبره، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنودي:"الصلاة جامعة"، ثم خرج، فقال للراعي:"أخبرهم"، فأخبرهم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"صدق، والذي نفسي بيده، لا تقوم الساعة، حتى يكلم السباع الإنس، ويكلم الرجل عذبة سوطه، وشراك نعله، ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده". وهذا الإسناد إسناد صحيح.

ص: 62

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى، فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانَ عَلَيْكُمْ، وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد هم المذُكرون في الماضي، إلا اثنين:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه بن المبارك) الْمُخَرِّميّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقة حافظ [11] 43/ 50.

2 -

(أبو هشام) المغيرة بن سلمة المخزوميّ البصريّ، ثقة ثبت، من صغار [9] 28/ 815.

وقوله:"في شهر رمضان" متعلّق بحال مقدّر، أي حال كون ذلك الحديث متعلقًا

بفضائل شهر رمضان.

وقوله: "وسننت لكم قيامه" التاء ضمير المتكلّم، أي ندبت لكم، وإنما قال:"لكم"، لأنه نفع محضٌ، لا ضرر فيه أصلاً، فمن فعل فقد نال أجرًا عظيمًا، ومن ترك فلا إثم عليه. أفاده السنديّ في "شرحه"

(1)

. وقال في "شرح على ابن ماجه": قوله: "كتب اللَّه عليكم صيامه، وسننت لكم قيامه": الضمير في الموضعين لرمضان، وكلمة "على" في الأول، واللام في الثاني للفرق بينهما، بتخفيف التكليف الإيجابيّ في أحدهما، دون الآخر، وفيه أن الفرض ينسب إلى اللَّه، والسنّة إليه صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "وفيه أن الفرض ينسب إلى اللَّه الخ" فيه نظرٌ، فقد جاء في "الصحيحين"، وغيرهما حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر

" الحديث، فقد نُسب الفرض إليه صلى الله عليه وسلم. فتنبّه.

والحديث ضعيف، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- "شرح السنديّ" ج 4 ص 158.

(2)

- "شرح السندي" على ابن ماجه ج 2 ص 123.

ص: 63

‌41 - (فَضْلُ الصِّيَامِ، وَالاخْتِلَافُ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِ علَيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (فِي ذَلِكَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن زيد بن أبي أُنيسة رواه عن أبي إسحاق، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن عليّ رضي الله عنه، وخالفه شعبة، فرواه عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، موقوفًا، وقد نقل أبو الحجّاج المزّيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف" جـ 7 ص 398 - عن المصنّف أنه قال -بعد أن أورد الحديث الثاني، موقوفًا-: هذا هو الصواب عندنا، وحديث العلاء خطأ، وقد رأيت للعلاء أحاديث مناكير انتهى.

وحاصله أنه رجّح كون الحديث عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، موقوفًا عليه، لا عن عليّ رضي الله عنه، مرفوعًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2211 -

(أَخْبَرَنِي هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى، يَقُولُ: الصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: حِينَ يُفْطِرُ، وَحِينَ يَلْقَى رَبَّهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ، مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هلال بن العلاء) بن هلال بن عمرو الباهليّ، مولاهم، أبو عمرو الرّقّيّ، صدوق [11] 10/ 1199. من أفراد المصنّف.

2 -

(أبوه) العلاء بن هلال بن عمرو بن هلال الباهليّ، أبو محمد الرّقّيّ، فيه لين [9] 190/ 1167 من أفراد المصنّف أيضًا.

3 -

(عبيد اللَّه) بن عمرو بن أبي الوليد الأسديّ، أبو وهب الرقيّ، ثقة فقيه ربما وَهِمَ [8] 190/ 1167.

4 -

(زيد) بن أبي أُنَيسة الْجَزَريّ، أبو أسامة كوفيّ الأصل، ثم سكن الرُّهَا، ثقة له أفراد [6] 191/ 306.

ص: 64

5 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد اختلط بآخره [3] 38/ 42.

6 -

(عبد اللَّه بن الحارث) بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ، أبي محمد المدنيّ، أمير البصرة، لقبه بَبَّه، وأمه هند بنت أبي سفيان، وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحنكه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتحول إلى البصرة، واصطلح عليه أهل البصرة حين مات يزيد ابن معاوية.

قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ. ثقة. وقال ابن المدينيّ: ثقة، ولم يسمع من ابن مسعود. وقال الآجرّيّ: قلت لأبي داود: الزهريّ سمع من عبد اللَّه بن الحارث؟ قال: لا، سمع من بنيه. وقال العجليّ. مدنيّ تابعيّ ثقة. وقال يعقوب بن شيبة؛ ثقة ثقة، ظاهر الصلاح، وله رضي في العامّة. وقال ابن حبّان. هو من فقهاء أهل المدينة. وحكى ابن سعد في "الطبقات" أنه لما وُلد أتت به أمه هند إلى أختها أم حبيبة، فدخل عليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: من هذا يا أم حبيبة؟ قالت هذا ابن عمك، وابن أختي، فتفل في فيه، ودعا له. قال. وكان بَبّه على مكة زمن عثمان. قال محمد بن عمر: كان ثقة كثير الحديث. وقال ابن عبد البرّ في "الاستيعاب": أجمعوا على أنه ثقة. قال ابن حبّان في "الثقات". توفّي سنة (79)، قلته السَّمُوم، ودُفْن بالأبواء. وقال ابن سعد. توفي بعمان سنة (84) عند انقضاء فتنة ابن الأشعث، وكان خرج إليها هاربًا من الحجّاج.

قال الحافظ. الثاني هو المعتمد، والذي مات بالسَّمُوم هو ولده عبد اللَّه بن عبد اللَّه ابن الحارث انتهى. روى له الجماعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم 2211 و2609 و 2308 و 4459 و 4466.

7 -

(عليّ بن أبي طالب) الهاشمي الخليفة الراشد، أبو الحسن - رضي اللَّه تعالى عنهما - 74/ 99. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشّرين بالجنّة، وابن عم النبيّ- صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته، والمشهور بلقلب أبي تُراب - رضي اللَّه تعالى عنهم - أجمعين. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِنَّ اللَّه تبارك وتعالى،

ص: 65

يَقُولُ: الصَّوْمُ لي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) سيأتي بيان اختلاف العلماء في سبب اختصاص الصوم بكونه للَّه تعالى، مع أن كل العبادات له في المسألة الثالثة إن شاء اللَّه تعالى.

(وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ) جملة اسمية من المبتدإ المؤخّر والخبر المقدّم، أي للذي قام بحقوق الصوم، فأداه بواجباته، ومستحباته مرّتان من الفَرَح عظيمتان: إحداهما في الدنيا، والأخرى في الأخرى (حِينَ يُفْطِرُ) الظرف متعلّق بمحذوف خبر لمبتدإ مقدّر، أي الفرحة الأولى: كائنة وقتَ إفطاره، يعني أنه يفرح وقتَ إفطاره بالخروج عن عُهدة المأمور، أو بوجدان التوفيق لإتمام الصوم، أو بخلوص الصوم، وسلامته من المفسدات، من الرفث واللغو، أو بما يرجوه من حصول الثواب، أو بالأكل، والشرب بعد الجوع والعطش.

قال القرطبيّ: معناه يفرح بزوال جوعه وعطشه حيث أُبيح له الفطر، وهذا الفرح طبيعيّ، وهو السابق للفهم. وقيل: إن فَرَحَه بفطره إنما هو من حيث إنه تمام صومه، وخاتمة عبادته، وتخفيف من ربّه، ومعونة على مستقبل صومه.

قال الحافظ: ولا مانع من الحمل على ما هو أعمّ مما ذُكر، ففرح كلّ أحد بحسبه؛ لاختلاف مقامات الناس في ذلك، فمنهم من يكون فرحه مباحًا، وهو الطبيعيّ، ومنهم من يكون مستحبًا، وهو من يكون سببه شيئًا مما ذُكر. انتهى.

(وَحِينَ يَلْقَى رَبَّهُ) إعرابه كسابقه، أي الفرحة الثانية كائنة وقت لقاء ربه، بنيل الجزاء، أو الفوز باللقاء. وقيل: هو السرور بقبول صومه، وترتّب الجزاء الوافر عليه، ولا تنافي بين المعاني.

(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ) بفتح لام جواب القسم، والخُلُوف -بضم الخاء، واللام، بعدها واو، وآخره فاء-: تغيّر رائحة الفم، يقال: خَلَفَ فم الصائم خُلُوفًا، من باب قَعَدَ: تغيّرت ريحه، وأخلف بالألف لغة، وزاد في "الجمهرة": من صوم، أو مرض. قاله في "المصباح".

وقال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: كونه بضم الخاء واللام هو الرواية الصحيحة، وبعض الشيوخ يقوله بفتح الخاء. قال الخطّابيّ: وهو خطأ. وحكى القابسيّ الوجهين، وصوّب الضمّ، وبالغ النوويّ في "شرح المهذب"، فقال: لا يجوز فتح الخاء، واحتجّ غيره لذلك بأنّ المصادر التي جاءت على فَعُول بفتح أوله قليلة، ذكرها سيبويه وغيره، وليس هذا منها. واتفقوا على أن المراد به تغيّر رائحة فم الصائم بسبب الصيام. كذا في "الفتح". وقال الباجيّ: الخلوف تغيّر رائحة فم الصائم، وإنما يَحدُث من خُلُو المعدة بترك الأكل، ولا يذهب بالسواك؛ لأنها رائحة النفَس الخارج من

ص: 66

المعدة، وإنما يذهب بالسواك ما كان في الأسنان من التغيرّ. وقال البَرْقيّ: هو تغيّر طعم الفم، وريحه لتأخّر الطعام. وقال عياض: هو ما يخلف بعد الطعام في الفم من رائحة كريهه؛ لخلوّ المعدة من الطعام

(1)

.

[تنبيه]: "الخلوف" بالضبط المذكور هو المشهور في الرواية، وومع عند البخاريّ في رواية الكشميهنيّ:"لَخُلُف" بحذف الواو، قال العينيّ: والظاهر أنه جمع خلفَة- بالكسر. وقال ابن الأثير: الخِلْفة -بالكسر- تغيّر ريح الفم، وأصلها في النبات أن ينبت الشىء بعد الشيء؛ لأنها رائحه بعد الرائحة الأولى، وروي في غير البخاريّ بهذه اللفظة، أعني "خِلْفَة" انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -. هذه الرواية ستأتي للمصنف في الباب التالي رقم - 2219 - ولفظه: "والذي نفس محمد بيده لَخِلْفَة فم الصائم أطيب عند اللَّه من ريح المسك". واللَّه تعالى أعلم.

[فائدة]. قوله: "فم الصائم" فيه ردّ على أبي عليّ الفارسي في قوله: إن ثبوت الميم في "الفم" خاصّ بضرورة الشعر

(3)

، فقد ثبت في هذا الحديث في الاختيار، وأما في الشعر فقد ثبت في قوله [من الرجز]:

كَالْحُوتِ لَا يُلْهيهِ شَيْءٌ يَلْقَمُهُ

يُصْبِحُ ظَمْآنَ وَفِي الْبَحْرِ فَمُة

(أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ، مِنْ رِيحِ الْمِسْكٍ") وفي لفظ مسلم، والنسائيّ

(4)

. "أطيب عند اللَّه يوم القيامة".

وقد وقع اختلاف بين الإمامين: أبي عمرو بن الصلاح، ومحمد بن عبد السلام -رحمهما اللَّه تعالى-، فذهب الأول إلى أن هذا الطيب في الدنيا والآخرة، وذهب الثاني إلى أنه في الآخرة خاصّة، مستدلًا بهذه الرواية.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه ابن الصلاح هو الأرجح، وقد ذكرت تحقيق ذلك في أوائل هذا الشرح، في شرح حديث:"لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" برقم -7/ 7 - فراجعه تستفد، واللَّه تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- راجع" المرعاة" ج 6 ص 408 - 409.

(2)

- راجع "عمدة القاري" ج 9 ص 29.

(3)

- راجع "طرح التثريب" ج 4 ص 95.

(4)

- ستأتي للمصنف في الباب التالي برقم 2216.

ص: 67

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه هذا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه عنعنة أبي إسحاق، وهو مدلس، وقد عنعنه؟.

[قلت]: إنما صحّ بما يأتي بعده، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه الآتي بعده، وهو وإن كان موقوفًا إلا أن له حكم الرفع، ومن حديث أبي سعيد الخدريّ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، الآتيان في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى.

وهو بهذا السند من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-41/ 2211 - وفي "الكبرى" 41/ 2521. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل الصوم (ومنها): إثبات صفة الكلام للَّه تعالى، وأنه يتكلم حيث يشاء، ويكلّم من يشاء بما يشاء، وأن كلامه ليس خاصًا بالقرآن الكريم، وهذا هو الذي يُسمّي بالحديث القدسيّ، وهو كلام اللَّه تعالى على الحقيقة، والفرق بينه وبين القرآن أن القرآن متعبّد بتلاوته، بخلاف هذا (ومنها): أن العبادات تتفاوت من حيث الثواب (ومنها): أن ثواب الصوم لا يعلم مقداره إلا اللَّه تعالى (ومنها): أن الصائم له الفرح في الدنيا والآخرة (ومنها): أن اللَّه سبحانه وتعالى تفضل على عباده بأن جعل الروائح الكريهة بسبب الصوم أطيب من ريح المسك (ومنها): أن خلوف فم الصائم أعظم من دم الشهيد؛ لأن دم الشهيد شُبِّهَ ريحه بريح المسك، وخلوف فم الصائم وُصف بأنه أطيب، ولا يلزم من ذلك أن يكون الصيام أفضل من الشهادة لما لا يخفى

(1)

. واللَّه ذو الفضل العظيم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): اختلف العلماء في المراد بقول اللَّه تعالى: "الصوم لي، وأنا أجزي به"، مع أن الأعمال كلها للَّه تعالى، وهو الذي يَجزي بها، على أقوال، أوصلها الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الفتح" إلى عشرة:

[أحدها]: أن الصوم لا يقع فيه الرياء؛ كما يقع في غيره. حكاه المازريّ، ونقله عياض عن أبي عُبيد. ولفظ أبي عُبيد في "غريبه": قد علمنا أن أعمال البرّ كلها للَّه، وهو الذي يَجزي بها، فنرى -واللَّه أعلم- أنه إنما خصّ الصيام؛ لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله، وإنما هو شيء في القلب، ويؤيّد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس في الصيام رياء"،

(1)

- أفاده في "الفتح" ج 4 ص 598.

ص: 68

حدثنيه

(1)

شبابة، عن عُقيل، عن الزهرّي، فذكره -يعني مرسلاً-. قال: وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم، فإنما هو بالنيّة التي تخفى عن الناس، هذا هو وجه الحديث عندي انتهى.

وقد روى الحديثَ المذكورَ البيهقيُّ في "الشعب" من طريق عُقيل، وأورده من وجه آخر عن الزهريّ موصولاً، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وإسناده ضعيف، ولفظه:"الصيام لا رياء فيه، قال اللَّه عز وجل: هو لي، وأنا أجزي به ". وهذا لو صحّ لكان قاطعًا للنزاع.

وقال القرطبيّ: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطَّلِعُ عليه بمجرّد فعله إلا اللَّه، فأضافه اللَّه إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث:"يدَع شهوته من أجلي". وقال ابن الجوزيّ. جميع العبادات تظهر بفعلها، وقلّ أن يَسلَم ما يظهر من شَوْب، بخلاف الصوم. وارتضى هذا الجواب المازريّ، وقرره القرطبيّ بأن أعمال بني آدم لما كانت يمكن دخول الرياء فيها أضيفت إليهم، بخلاف الصوم، فإذ حال الممسك شبعًا مثلُ حال الممسك تقرّبًا. يعني في الصورة الظاهرة.

قال الحافظ: معني قوله: "لا رياء في الصوم" أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء بالقول، كمن يصوم، ثم يخبر بأنه صائم، فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار، بخلاف بقية الأعمال، فإن الرياء قد يدخلها بمجرّد فعلها، وقد حاول بعض الأئمة إلحاق شيء من العبادات البدنيّة بالصوم، فقال: إن الذكر بـ "لا إله إلا اللَّه" يمكن أن لا يدخله الرياء، لأنه بحركة اللسان خاصة، دون غيره من أعضاء الفم، فيمكن الذاكر أن يقولها بحضر الناس، ولا يشعرون منه بذلك.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: إن أراد قائل هذا القول إلحاق الذكر المذكور بالصوم من حيث عدم دخول الرياء، فمسلم، وإن أراد إلحاقه به من حيث الثواب والجزاء، فليس بصحيح، فإن هذا مما لا مدخل للقياس فيه، فلا يلحق بالصوم في الثواب شيء من العبادات، بل يقتصر الوارد عليه، كما هو ظاهر النصّ. واللَّه تعالى أعلم.

[ثانيها]: أن المراد بقوله: "وأنا أجزي به" أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه، وتضعيف حسناته، وأما غيره من العبادات، فقد اطلع عليها بعض الناس. قال القرطبيّ: معناه أن الأعمال قد كُشفت مقادير ثوابها للناس، وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء اللَّه، إلا الصيام، فإن اللَّه يُثيب عليه بغير تقدير، ويشهد لهذا السياق رواية الأعمش، عن أبي صالح، حيث قال: "كلّ عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها، إلى

(1)

القائل: "حدثنيه" هو أبو عبيد.

ص: 69

سبعمائة ضعف، إلى ما شاء اللَّه، قال اللَّه: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به". أي أجازي عليه جزاء كثيرًا من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}: انتهى. و"الصابرون" الصائمون في أكثر الأقوال.

وسبق إلى هذا أبو عُبيد في غريبه، فقال: بلغني عن ابن عُيينة أنه قال ذلك، استدلّ له بأن الصوم هو الصبر؛ لأن الصائم يصبر نفسَهُ عن الشهوات، وقد قال اللَّه تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} انتهى.

ويشهد له رواية المسيّب بن رافع، عن أبي صالح، عند سمويه:"إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم، فإنه لا يدري أحد ما فيه". ويشهد له أيضًا ما رواه ابن وهب في "جامعه" عن عمر بن محمد بن زيد بن عبد اللَّه بن عمر، عن جدّه زيد مرسلاً. ووصله الطبرانيّ، والبيهقيّ، في "الشعب" من طريق أخرى، عن عمر بن محمد، عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر، مرفوعًا:"الأعمال عند اللَّه سبع" الحديث. وفيه: وعمل لا يعلم ثواب عامله إلا اللَّه"، ثم قال: "وأما العمل الذي لا يعلم ثواب عامله إلا اللَّه، فالصيام"، ثم قال القرطبيّ: هذا القول ظاهر الْحُسْن، قال: غير أنه تقدّم، ويأتي في غير ما حديث أن صوم اليوم بعشرة أيام، وهي نصّ في إظهار التضعيف، فبَعُدَ هذا الجوابُ، بل بطل.

قال الحافظ: لا يلزم من الذي ذُكِرَ بطلانه، بل المراد بما أورده أن صيام اليوم الواحد يكتب بعشرة أيام، وأما مقدار ثواب ذلك، فلا يعلمه إلا اللَّه تعالى.

ويؤيده أيضًا العرف المستفاد من قوله: "أنا أجزي به"؛ لأن الكريم إذا قال: أنا أتولى الإعطاء بنفسي كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه.

(ثالثها): معنى قوله: "الصوم لي"، أي إنه أحبّ العبادات إليّ، والمقدم عندي، وقد تقدّم قول ابن عبد البرّ: كفى بقوله: "الصوم لي"، فضلاً للصيام على سائر العبادات. وروى النسائيّ وغيره من حديث أبي أمامة، مرفوعًا:"عليك بالصوم، فإنه لا مثل له"

(1)

، لكن يعكر على هذا الحديثُ الصحيحُ:"واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة".

(رابعها): الإضافة إضافة تشريف، وتعظيم، كما يقال: بيت اللَّه، وإن كانت البيوت كلها للَّه، قال الزين ابن المنيّر: التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التعظيم والتشريف.

(1)

- هو الحديث الآتي للمصنّف بعد باب برقم -43/ 2220.

ص: 70

(خامسها): أن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الربّ جل جلاله، فلما تقرّب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه. وقال القرطبيّ: معناه أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم، إلا الصيام، فإنه مناسب لصفة من صفات الحقّ، كأنه يقول: إن الصائم يتقرّب إليّ بأمر هو متعلّق بصفة من صفاتي.

(سادسها): أن المعنى كذلك، لكن بالنسبة إلى الملائكة؛ لأن ذلك من صفاتهم.

(سابعها): أنه خالص للَّه، وليس للعبد فيه حظّ. قاله الخطابيّ. هكذا نقله عياض وغيره، فإن أراد بالحظّ ما يحصل من الثناء عليه لأجل العبادة رجع إلى المعنى الأول، وقد أفصح بذلك ابن الجوزيّ، فقال. المعنى ليس لنفس الصائم فيه حظّ، بخلاف غيره، فإن له فيه حظًّا لثناء الناس عليه لعبادته.

(ثامنها): سبب الإضافة إلى اللَّه أن الصيام لم يُعبَد به غيرُ اللَّه، بخلاف الصلاة، والصدقة، والطواف، ونحو ذلك. واعترض على هذا بما يقع من عبّاد النجوم، وأصحاب الهياكل، والاستخدامات، فإنهم يتعبّدون لها بالصيام. وأجيب بأنهم لا يعتقدون إلهيّة الكواكب، وإنما يعتقدون أنها فعّالة بأنفسها. قال الحافظ: وهذا الجواب عندي ليس بطائل؛ لأنهم طائفتان: إحداهما كانت تعتقد إلهيّة الكواكب، وهم من كان قبل ظهور الإسلام، واستمرّ منهم من استمرّ على كفره. والأخرى من دخل منهم في الإسلام، واستمرّ على تعظيم الكواكب، وهم الذين أشير إليهم.

(تاسعها): أن جميع العبادات توَفَّى منها مظالم العباد إلا الصيام، روى البيهقيّ من طريق إسحاق بن أيوب بن حسان الواسطيّ، عن أبيه، عن ابن عيينة، قال: إذا كان يوم القيامة يُحاسب اللَّه عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من عمله حتى لا يبقى له إلا الصوم، فيتحمل اللَّه ما بقي عليه من المظالم، ويدخله بالصوم الجنّة. قال القرطبيّ: قد كنت استحسنت هذا الجواب إلى أن فكّرت في حديث المقاصّة، فوجدت فيه ذكر الصوم في جملة الأعمال حيث قال: "المفلس الذي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصدقة، وصيام، ويأتي وقد شَتَم هذا، وضَرَب هذا، وأَكَل مال هذا

" الحديث، وفيه: "فيؤخذ لهذا من حسناته، ولهذا من حسْناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أُخذ من سيّآتهم، فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار". فظاهره أن الصيام مشترك مع بقيّة الأعمال في ذلك.

قال الحافظ: إن ثبت قول ابن عيينة أمكن تخصيص الصيام من ذلك، فقد يستدلّ له بما رواه أحمد من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:"كلّ العمل كفارة إلا الصوم، الصوم لي، وأنا أجزي به". وكذا رواه أبو داود

ص: 71

الطيالسي في "مسنده"، عن شعبة، عن محمد بن زياد، ولفظه:"قال ربّكم تبارك وتعالى: كلّ العمل كفّارة إلا الصوم". ورواه قاسم بن أصبغ من طريق أخرى، عن شعبة بلفظ: كلّ ما يعمله ابن آدم كفّارة له إلا الصوم". وقد أخرجه البخاريّ في "التوحيد" عن آدم، عن شعبة بلفظ: "يرويه عن ربكم، قال: لكلّ عمل كفّارة، والصوم لي، وأنا أجزي به"، فحذف الاستثناء. وكذا رواه أحمد عن غندر، عن شعبة، لكن قال: "كلّ العمل كفّارة"، وهذا يخالف رواية آدم؛ لأن معناه أن لكلّ عمل من المعاصي كفّارة من الطاعات، ومعنى رواية غندر: كلّ عمل من الطاعات كفّارة للمعاصي. وقد بين الإسماعيليّ الاختلاف فيه في ذلك على شعبة. وأخرجه من طريق غندر بذكر الاستثناء، فاختلف فيه أيضًا على غندر، والاستثناء المذكور يشهد لما ذهب إليه ابن عيينة، لكنه وإن كان صحيح السند، فإنه يعارضه حديث حذيفة: "فتنة الرجل في أهله، وماله، وولده يكفّرها الصلاة، والصيام، والصدقة".

(عاشرها): أن الصوم لا يظهر، فتكتبه الحفظة كما تكتب سائر الأعمال، واستند قائله إلى حديث واهٍ جدًا أورده ابن العربيّ في "المسلسلات"، ولفظه:"قال اللَّه: الإخلاص سرّ من سرّي، استودعته قلب من أُحبْ، لا يطّلع عليه ملك، فيكتبَهُ، ولا شيطان، فيفسدَهُ". ويكفي في ردّ هذا القول الحديثُ الصحيح في كتابة الحسنة لمن همّ بها، وإن لم يعملها.

قال الحافظ: فهذا ما وقفت عليه من الأجوبة، وقد بلغني أن بعض العلماء بلّغها إلى أكثر من هذا، وهو الطالقانيّ في "حظائر القدس" له، ولم أقف عليه

(1)

.

قال الحافظ: وأقرب الأجوبة التي ذكرتها إلى الصواب الأول، والثاني، ويقرب منها الثامن والتاسع.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الأقرب هو الجواب الثاني، وهو أنه تعالى منفرد بعلم مقدار ثوابه، وأنه يثيب الصائم بغير حساب، فهذا هو الذي يؤيّده السياق، بل هو كالصريح فيه، حيث قال: "كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى

(1)

- قال الحافظ السيوطي في "زهر الربى" ج4 ص 161: بعد أن ذكر كلام الحافظ هذا: ما نصّه: قدت: قد وقفت عليه، فرأيته بلّغها إلى خمسة وخمسين قولاً، وسأسوقها إن شاء اللَّه تعالى في التعليق الذي على ابن ماجه انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: راجعت تعليقه على ابن ماجه، من النسخة الهندية التي كتبت التعليق المذكور، فلم أجد الأقوال، ولعله لاختلاف النسخ، أو لم يوفّق لذكر الأقوال، كما وعد. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 72

سبعمائة ضعف، إلى ما شاء اللَّه، قال اللَّه: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا صيام من سَلِمَ صيامه من المعاصي قولاً وفعلاً.

ونقل ابن العربيّ عن بعض الزهّاد أنه مخصوص بصيام خواصّ الخواصّ، فقال: إن الصوم على أربعة أنواع: صيام العوامّ، وهو الصوم عن الأكل والشرب والجماع. وصيام خواصّ العوامّ، وهو هذا، مع اجتناب المحرّمات، من قول أو فعل. وصيام الخواصّ، وهو الصوم عن غير ذكر اللَّه وعبادته. وصيام خواصّ الخواصّ، وهو الصوم عن غير اللَّه، فلا فطر لهم إلى يوم القيامة. وهذا مقام عال، لكن في حصر المراد من الحديث في هذا النوع نظر لا يَخفى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بل في كون هذا النوع داخلاً في الحديث المذكور نظر لا يخفى، إذ الصوم الشرعيّ هو الذي نزل القرآن ببيان وقته المحدّد بما بين تبيّن طلوع الفجر الصادق، إلى غروب الشمس، حيث نصّ عليه في قوله عز وجل. {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} الآية.

فحيثما ورد فضل الصوم في النصّ فإنما يُراد به هذا النوع، وأما إعراض المرء عن غير اللَّه تعالى، فليس له وقت محدّد، وأيضًا إن أراد بغير اللَّه ما يصدّ عن ذكر اللَّه تعالى، ويَشغل عن طاعته، فإن هذا الإعراض مطلوب محمود شرعًا، ولكن إطلاق الصوم عليه في عرف الشرع محلّ نظر، وإن أراد عدم الالتفات إلى غير اللَّه تعالى أصلاً، سواء كان ذلك أمرًا دينياً أو دنيويا، بحيث إنه لا يلتفت إلى التكاليف الشرعيّة، فلا يصلّي، ولا يصوم، ولا، ولا، لكونه وصل إلى مراده، فهذا ضلال، وزندقة، وإلحاد، فضلاً عن أن يكون مطلوبا للشارع الحكيم جلّ وعلا، فتنبّه، فقد زلّ فيه كثير من جهال العبّاد، فاعتبروا هذا مقامًا شريفًا، وحالا منيفًا، بينما هو الضلال والهلاك. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} . واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-:

اختُلف في معنى كون هذا الخلوف أطيب من ريح المسك بعد الاتفاق على أنه سبحانه وتعالى منزّه عن استطابة الروائح الطيّبة، واستقذار الروائح الخبيثة؛ فإن ذلك من

ص: 73

صفات الحيوان الذي له طبائع تميل إلى شيء، فتستطيبه، وتنفر من شيء، فتتقذّره

(1)

، على أقوال:

(أحدها): قال المازريّ: هو مجاز، واستعارة؛ لأنه جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيّبة منّا، فاستعير ذلك في الصوم؛ لتقريبه من اللَّه تعالى انتهى. فيكون المعنى: إن خلوف فم الصائم أطيب عند اللَّه من ريح المسك عندكم، أي إنه يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم، وذكر ابن عبد البرّ نحوه.

(الثاني): أن معناه أن اللَّه تعالى يجزيه في الآخرة حتى تكون نكهته أطيب من ريح المسك؛ كما يقال في المكلوم في سبيل اللَّه: "الريح ريح المسك". حكاه القاضي عياض.

(الثالث): أن المعنى أن صاحب الخُلُوف ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك عندنا، لا سيّما بالإضافة إلى الخلوف، وهما ضدّان. حكاه القاضى عياض أيضًا.

(الرابع): أن المعنى أنه يُعتدّ برائحة الخلوف، وتدّخر على ما هي عليه أكثر مما يعتدّ بريح المسك، وإن كانت عندنا بخلافه. حكاه القاضي عياض أيضًا.

(الخامس): أن المعنى أن الخلوف أكثر ثوابًا من المسك، حيث ندب إليه في الجُمَع والأعياد، ومجالس الحديث والذكر، وسائر مجامع الخير. قاله الداوديّ، وابن العربيّ، وصاحب "المفهم"، وبعض الشافعيّة، قال النوويّ: إنه الأصحّ.

(السادس): قال صاحب "المفهم": يحتمل أن يكون ذلك في حقّ الملائكة، يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك. انتهى كلام وليّ الدين

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الأقوال كلها ساقطة، لا أثارة عليها من علم، بل هي مبنيّة على هواء الهوى الفاسد، والتشبيه المتخيّل الكاسد، وليس فيها عن السلف

(1)

- قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما أوقعهم في هذه الأقوال المنتشرة التي لا تنبني على حجة، إلا مجرّد التخيّل، وقياس الغائب بالشاهد، تقليدا للمتكلّمين الذين هم أذناب الفلاسفة الملحدين، وإلا فلو فكروا في أن اللَّه تعالى له الصفات العلى، لا تشبه صفات المخلوقين، كما أن ذاته المقدسة لا تشبه ذواتهم، لما تطرّق إلى أذهانهم الإشكال المزعوم أصلا، كما هو هدي السلف الصالحين الذين كانوا إذا سمعوا مثل هذا الحديث لم يتلجلج في قلوبهم شيء من الخيالات الفاسدة، والأوهام الكاسدة، بل سلّموا، وأثبتوا ما أثبته النصّ، على مراد اللَّه تعالى، والخير كل الخير هو الذي كانوا عليه:

وَكُلُّ خَيْرٍ فِي اتَّبَاعِ مَنْ سَلَفْ

وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفْ

(2)

"طرح التثريب" ج4 ص 95 - 96.

ص: 74

شيء، بل كلها جاءت عن متأخري الأشاعرة، ومن سار على دَرْبهم.

فإن اللَّه سبحانه حينما أنزل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لخلوف فم الصائم أطيب عند اللَّه من ريح المسك" لم يأمره ببيان كونه من المتشابه، وأن ظاهره غير مراد، بل تأويله كذا وكذا، مع أنه تعالى هو الذي قال له:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: 44]، ولم يتعرّض النبيّ صلى الله عليه وسلم حينما أخبر بهذا الخبر لبيان الإشكال المزعوم، ولا للجواب عنه، ولا الصحابة الكرام رضي الله عنهم الذين كانوا أعلم الناس بلغة العرب، وبمقاصد الشريعة بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم حينما سمعوا الحديث ما استشكلوه، ولا سألوا عن تأويله، وهكذا التابعون لهم بإحسان -رحمهم اللَّه تعالى-، سلكوا مسلكم، أفلا يسعنا ما وسعهم؟.

فيا أيها العقلاء، ويا أيها المنصفون الذين لم تنصبغ عقولهم بخيالات الفلاسفة، وأوهام المتكلمين: إن واجب كل مسلم إذا سمع شيئًا من النصوص، أن يتلقاه بالقبول، ولا يذهب به كلَّ مذهب تتخيّله نفسه، فإن هذه النصوص لم تأت إلا من العليم الحكيم الذي هو أعلم بما يجوز أن يُنسب إليه، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحقّ، كما قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]

وخلاصة القول أن ما ثبت نسبته إلى اللَّه تعالى في كتابه العزيز، أو في حديث رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيح وجب قبوله، وإجراؤه على ظاهره على المعنى الذي أراده اللَّه تعالى، دون تشبيه ولا تمثيل، ولا تأويل، ولا تعطيل.

اللَّهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): [إن قيل]: ما الحكمة في تحريم إزالة دم الشهيد مع أن رائحته مساوية لرائحة المسك، وعدمِ تحريم إزالة الخُلُوف مع كونه أطيب من ريح المسك؟.

قلت: ذكر الإمام جمال الدين الإسنويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المهمّات" خمسة أوجه من الأجوبة:

(أحدها): أن دم الشهيد حجة له على خصمه، وليس للصائم خصم، يَحتجّ عليه بالخلوف، إنما هو شاهد له بالصيام، وذلك محفوظ عند اللَّه، وملائكته.

(ثانيها): أن دم الشهيد حقّ له، فلا يُزال إلا بإذنه، وقد انقطع ذلك بموته، وقد كان له غسله في حياته، والخلوف حقّ للصائم، فلا حرج عليه في ترك حقّه، وإزالة ما يشهد له بالفضل.

ص: 75

(ثالثها): أن كون رائحة دم الشهيد كرائحة المسك أمر حقيقيّ، وكون رائحة الخلوف أطيب من رائحة المسك أمر حكميّ، له تأويل يصرفه عن ظاهره في أكثر الأقوال المتقدِّم بيانها.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: التأويلات التي تقدّم بيانها غير صحيحة، كما تقدّم تحقيق ذلك، فلا تغفل.

(رابعها): أنه ورد النهي عن إزالة دم الشهيد مع وجوب إزالة الدم

(1)

، ومع وجوب غسل الميت، فما اغتفر ترك هذين الواجبين إلا لتحريم إزالته، فلذلك قلنا بتحريمه، ولم يَرِد ذلك في السواك، وإنما قيل بالاستنباط.

(خامسها): أنه عارض ذلك في خلوف الصائم بقاء الحياة، وهي محلّ التكليف، والعبادات، وملاقات البشر، فأمكن أن يُزال الخلوف لما عارضه، بخلاف دم الشهيد، فإنه بخلاف ذلك انتهى منقولاً من "طرح التثريب" بتصرّف

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الجواب الأول عندي هو الأقرب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2212 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «قَالَ اللَّهُ: عز وجل "الصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ إِفْطَارِهِ

(3)

، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ، مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة، و"أبو الأحوص": هو عوف بن مالك بن نَضْلَة الْجُشَميّ الكوفيّ، ثقة مشهور بكنيته [3] 50/ 849.

و"عبد اللَّه": هو ابن مسعود رضي الله عنه.

والحديث موقوف صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وتقدم تمام الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- في وجوب إزالة الدم غير دم الحيض نظر لا يخفى، إذ لا دليل على وجوبه، وقد تقدّم تحقيق ذلك في "أبواب الطهار"، فتفطّن.

(2)

- راجع "طرح التثريب"، ج 4 ص101. فإنه منقول عنه بتصرّف.

(3)

- وفي الهندية: "عند فطره".

ص: 76

‌42 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى أَبِي صَالِح فِي هَذَا الْحَدِيثِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن أبا سِنَان رواه عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وخالفه جماعة، فرووه عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهم: المنذر بن عُبيد، والأعمش، وعطاء بن أبي رباح --رحمهم اللَّه تعالى--.

لكن مثل هذا الاختلاف لا يضرّ بصحة الحديث، لإمكان الجمع بأن أبا صالح سمعه من أبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة، رضي الله عنهما، ولذا أخرجه الإمام مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" من طريق أبي سنان، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله عنهما جميعًا، قالا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "إن اللَّه عز وجل يقول: إن الصوم لي

" الحديث.

وقد روى الحديث أيضًا سعيد بنُ المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، كما سيأتي للمصنف -رحمه اللَّه تعالى- برقم -2218 و 2219 - واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2213 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سِنَانٍ، ضِرَارُ بْنُ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى، يَقُولُ: الصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ، إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ اللَّهَ، فَجَزَاهُ فَرِحَ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ، مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»).

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا، إلا شيخه، فإنه من أفراده، وهو:

1 -

(عليّ بن حرب) بن محمد بن عليّ بن حَيّان بن مازن الطائيّ، أبو الحسن الموصليّ صدوق فاضل، من صغار [10].

قال النسائيّ: صالح. وقال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي، وسُئل أبي عنه؟ فقال: صدوق. وقال الدارقطنيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال مسلمة بن قاسم: كان ثقة، حدّثنا عنه غير واحد. وقال الخطيب: كان ثقة ثبتًا. وقال ابن السمعانيّ: كان صدوقًا. وقال أبو زكريا الأزديّ في "تاريخ الموصل": رحل مع أبيه، فسمع، وصنّف حديثه، وكان عالمًا بأخبار العرب أديبًا شاعرًا، وفد على المعتزّ سنة (254) بسُرَّ مَنْ رأى، فكتب عنه الحديث بخطّه، وأحضره الطعام، وكتب له بضياع،

ص: 77

ولم يزل ذلك جاريًا إلى أيام المعتضد، وكان مولده على ما أخبر به بعض ولده سنة (170)، وتوفّي في شوّال سنة (265) وفيها أرّخه غير واحد. وقال بعضهم: وله (92) سنة. وقال ابن قانع: مات سنة (66) وقال الخطيب: والأول أصحّ. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط. والباقون تقدّموا غير مرّة.

و"أبو سِنَان، ضِرَار بن مُرّة": هو أبو سنان الشيباني الأكبر

(1)

، ثقة ثبت [6] 100/ 2032.

و"أبو صالح": ذكوان السمّان الزيات المدنيّ.

و"أبو سعيد": هو سعد بن مالك بن سنان الخدريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما. والحديث أخرجه (م) في "الصيام"12702. وأخرجه المصنّف هنا - 42/ 2213 - وفي "الكبرى" 42/ 2523 - و (أحمد) 10586 و 10932. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2214 -

(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّ الْمُنْذِرَ بْنَ عُبَيْدٍ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الصِّيَامُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصَّائِمُ يَفْرَحُ مَرَّتَيْنِ: عِنْدَ فِطْرِهِ، وَيَوْمَ يَلْقَى اللَّهَ

(2)

، وَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ، مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»).

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غيرَ شيخه سليمان بن داود الْمَهْرِيِّ، ابن أخي رِشْدِين بن سعد، فإنه من أفراده، وأفراد أبي داود، وهو ثقة، وغيرَ:

1 -

(المنذر بن عُبيد) المدنيّ، ذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن القطّان: مجهول الحال

(3)

. وقال في "ت": مقبول، من السادسة. فإنه من أفراد المصنّف، له عنده حديثان فقط: هذا، وحديث 4606 في البيوع.

و"عمرو": هو ابن الحارث المصري الثقة الثبت.

(1)

- وأما أبو سنان الأصغر فهو سعيد بن سنان الْبُرْجُميّ الكوفيّ، نزيل الريّ، صدوق له أوهام [6] تقدّم في 11/ 1623.

(2)

- وفي نسخة: "ويوم يلقى ربّه".

(3)

- قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في هذه العبارة نظر لا يخفى، فإن مجهول الحال هو الذي لم يرو عنه غير راو واحد، والمنذر ليس كذلك، فقد روى عنه عمرو بن الحارث، وأسامة بن زيد الليثيّ، وعبد الملك بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيرهم، انظر ترجمته في "تت" ج4 ص 154.

والمشهور أن مثل هذا يقال له: مجهول العدالة، إذا لم يثبت توثيقه من المعتبرين، فليتأمل.

ص: 78

والحديث متفق عليه، وأخرجه المصنّف هنا -42/ 2214 و2215و 2216 و 2217 و 2218 و 2219 - وفي "الكبرى" 42/ 2524 و 2525 و 2526 و 2527 و 2528 و 2529. وأخرجه (خ) في "الصوم" 1761 و 1771 و 1941 (م) في "الصيام" 2700 و 2701 و 2702 (د) في "الصوم" 2016 (ق) في "الصيام" 1628 (الموطأ) في "الصيام" 602 و 603 (أحمد) 7179 و 7289 و 7368. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2215 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَا مِنْ حَسَنَةٍ، عَمِلَهَا

(1)

ابْنُ آدَمَ، إِلاَّ كُتِبَ لَهُ، عَشْرُ حَسَنَاتٍ، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: إِلاَّ الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ، مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ جُنَّةٌ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ، فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ، مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة، وشيخه هو ابن راهويه، و"جرير": هو ابن عبد الحميد.

وقوله: "يدع شهوته الخ" تعليل لاختصاصه بعظيم الجزاء. وعطف: "طعامه" من عطف الخاصّ على العامّ، فإن الشهوة تشمل الطعام وغيره. وفي رواية ابن خزيمة رقم -1897 - من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه:"يدع الطعام، ويدع الشراب من أجلي، ويدع لذّته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي". وعند الحافظ سمويه في "فوائده" من طريق المسيّب بن رافع، عن أبي صالح:"يترك شهوته، من الطعام، والشراب، والجماع من أجلي".

ووقع بأداة الحصر في رواية أحمد، ولفظه:"يقول اللَّه عز وجل: إنما يذر شهوته الخ"، وكذا عند سعيد بن منصور، ولفظه:"يقول اللَّه عز وجل: كلّ عمل ابن آدم هو له، إلا الصيام، فهو لي، وأنا أجزي به، وإنما يذر ابن آدم شهوته، وطعامه من أجلي" الحديث.

قال في "الفتح": وقد يفهم من الإتيان بصيغة الحصر في قوله: "إنما يذر الخ" التنبيه على الجهة التي يستحقّ الصائم ذلك، وهو الإخلاص الخاصّ به، حتى لو كان ترك المذكورات لغرض آخر كالتُّخَمَة لا يحصل للصائم الفضل المذكور، لكن المدار في هذه الأشياء على الداعي القويّ الذي يدور معه الفعل وجودًا وعدمًا، ولا شكّ أن من لم يَعْرِض في خاطره شهوة شيء من الأشياء طول نهاره إلى أن أفطر ليس هو في الفضل

(1)

- وفي نسخة: "يعملها".

ص: 79

كمن عرض له ذلك، فجاهد نفسه في تركه.

وتمام شرح الحديث يأتي في الذي بعده، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2216 -

(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ حَجَّاجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلاَّ الصِّيَامَ، هُوَ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، إِذَا كَانَ يَوْمُ صِيَامِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا، إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ عز وجل، فَرِحَ بِصَوْمِهِ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إبراهيم بن الحسن) بن الْهَيْثَم الْخَثْعَميّ، أبو إسحاق المصّيصيّ الْمِقْسَميّ، ثقة [11] 51/ 64.

12 -

(حجّاج) بن محمد الأعور، أبو محمد الْمِصّيصيّ، ترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثم المصّيصّة، ثقة ثبت، لكنه اختلط بآخره بعد دخوله بغداد [9] 28/ 32.

3 -

(ابن جريج) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يُدلّس [6] 28/ 32.

4 -

(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة فقيه فاضل كثير الإرسال [3] 112/ 154.

5 -

(أبو صالح الزيّات) هو ذكوان السمّان المدنيّ، ثقة ثبت [3] 36/ 40.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد انفرد به هو، وأبو داود. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وهو من رواية الأقران، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ) -رحمه اللَّه تعالى- (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلاَّ الصَّيَامَ، هُوَ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) تقدّم شرحه

ص: 80

في الباب الماضي (وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ) الجُنّة -بضمّ الجيم-: السُّتْرَة، ومنه الْمِجَنّ، وهو الترس. زاد سعيد بن منصور، عن مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"جنة من النار"، وسيأتي للمصنّف مثله برقم -43/ 2231 - من حديث عائشة رضي الله عنها، ومن حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه برقم -43/ 2231 - بلفظ:"الصوم جنّة من النار، كجنة أحدكم من القتال". ولأحمد من طريق أبي يونس، عن أبي هريرة:"جنة، وحصن حصين من النار". وللمصنّف من حديث أبي عُبيدة بن الجراح رضي الله عنه رقم-43/ 2233 - الصوم جنّة، ما لم يَخْرِقها". زاد الدارميّ:"بالغيبة"

(1)

. وبذلك ترجم له هو، وأبو داود.

و"الجنُة":-بضمّ الجيم-: الوقاية والستر. وقد تبيّن بهذه الروايات متعلّق هذا الستر، وأنه "من النار". وبهذا جزم ابن عبد البرّ.

وأما صاحب "النهاية"، فقال: معنى كونه جُنّةً: أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات.

وقال القرطبيّ: جنة: أي سترة، يعني بحسب مشروعيّته، فينبغي للصائم أن يصونه مما يُفسده، وينقص ثوابه، وإليه الإشارة بقوله:"فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث الخ"، ويصحّ أن يراد أنه سترة بحسب فائدته، وهو إضعاف شهوات النفس، وإليه الإشارة بقوله:"يَدَعُ شهوته الخ"، ويصحّ أن يراد أنه سترة بحسب ما يحصل من الثواب، وتضعيف الحسنات.

وقال عياض في "الإكمال": معناه سترة من الآثام، أو من النار، أو من جميع ذلك، وبالأخير جزم النوويّ. وقال ابن العربيّ: إنما كان الصوم جنة من النار؛ لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات.

فالحاصل أنه إذا كف نفسه عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساترًا له من النار في الآخرة.

وفي زيادة أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه إشارة إلى أن الغيبة تضرّ بالصيام، وقد حُكي عن عائشة، وبه قال الأوزاعيّ أن الغيبة تفطّر الصائم، وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم. قال الحافظ: وأفرط ابن حزم، فقال: يبطله كلّ معصية من متعمّد لها ذاكر لصومه، سواء كانت فعلاً، أو قولاً؛ لعموم قوله:"فلا يرفث، ولا يجهل"، ولقوله: في الحديث الآخر: "من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس للَّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".

(1)

- في كون هذه الزيادة من جملة المرفوع نظر لا يخفى، فإن الظاهر أنها من كلام الدارميّ، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 81

والجمهور، وإن حملوا النهي على التحريم إلا أنهم خصّوا الفطر بالأكل والشرب والجماع.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: دعوى الحافظ على ما قاله ابن حزم بالإفراط غير صحيحة، كيف يقال لمن قال بما اقتضاه ظواهر النصوص: إنه أفرط؟، بل هذا هو الإفراط نفسه، فما قاله ابن حزم هو الظاهر، وقد تقدّم قريبًا النقل عن عائشة، والأوزاعيّ أن الغيبة تفطر الصائم، فلم لم يعترض عليهما؟، مع أن الجمهور لا يرون ذلك أيضًا.

والحاصل أن مذهب الجمهور هو الذي يحتاج إلى دليل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

وأشار ابن عبد البرّ إلى ترجيح الصيام على غيره من العبادات، فقال: حسبك يكون الصوم جُنّة من النار فضلاً. وسيأتي للمصنف رقم 43/ 2220 - بسند صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول اللَّه مُرْني بأمر آخذه عنك، قال:"عليك بالصوم، فإنه لا مثل له". وفي لفظ: "لا عدل له". والمشهور عند الجمهور ترجيح الصلاة

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور يؤيّده ما أخرجه أحمد، وابن ماجه، والدارميّ بأسانيد صحيحة، عن ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "استقيموا، ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن". واللَّه تعالى أعلم.

(إِذَا كَانَ يَوْمُ صِيَامِ أَحَدِكُمْ)"كان" هنا تامّة، و"يومُ" مرفوع على الفاعليّة، ويحتمل أن تكون ناقصة، واسمها "الوقت" مقدّرًا، و"يوم" بالنصب خبرها.

(فَلَا يَرْفُثْ) بضم الفاء، وكسرها، ويجوز في ماضيه التثليث، والمراد بالرفث هنا - وهو بفتح الراء والفاء، ثمّ المثلثة-: الكلام الفاحش، وهو يطلق على هذا، وعلى الجماع، وعلى مقدّماته، وعلى ذكره مع النساء، أو مطلقًا، ويحتمل أن يكون لما هو أعمّ منها. قاله في "الفتح"(وَلَا يَصْخَبْ) أي لا يَرفع صوته، ولا يَغضب على أحد.

وقال في "الفتح": قوله: "ولا يصخب" كذا للأكثر بالمهملة الساكنة، بعدها خاء معجمة، ولبعضهم: بالسين بدل الصاد، وهو بمعناه، والصخب الخصام والصياح، والمراد بالنهي عن ذلك تأكيده حالة الصوم، وإلا فغير الصائم منهيّ عن ذلك أيضًا انتهى.

(1)

- انظر "الفتح" ج 4 ص 594 - 595.

ص: 82

وفي رواية للبخاريّ: "فلا يرفث، ولا يجهل" وهو أعمّ من الأول: أي لا يفعل شيئًا من أفعال أهل الجهل، كالصياح، والسَّفَه، ونحو ذلك. ولسعيد بن منصور من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه:"فلا يرفث، ولا يُجادل". قال القرطبيّ: لا يفهم من هذا أن غير يوم الصوم يباح فيه ما ذُكر، وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكّد بالصوم. انتهى.

(فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ) وفي رواية للبخاريّ: "فإن سابّه أحد، أو قاتله"، وفي رواية له من طريق الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه: "وإن امرؤ قاتله، أو شاتمه

"، ولأبي قُرّة من طريق سهيل، عن أبيه:"وإن شتمه إنسان، فلا يكلّمه"، ونحوه في رواية هشام، عن أبي هريرة، عند أحمد، ولسعيد بن منصور من طريق سهيل: "فإن سابّه أحد، أو ما راه"، أي جادله، ولابن خزيمة من طريق عجلان مولى الْمُشْمَعِلِّ، عن أبي هريرة: "لا تُسابّ، وأنت صائم، فإن سبّك أحد، فقل: إني صائم، وإن كنت قائمًا فاجلس"

(1)

، وللمصنّف من حديث عائشة رضي الله عنها الآتي -43/ 2234 - "وإن امرؤ جهل عليه، فلا يشتمه، ولا يسبّه"(فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ) أي فليعتذر عنده من عدم المقابلة بأن حاله لا يساعد المقابلة بمثله، أو فليذكر في نفسه أنه صائم؛ ليمنعه ذلك عن المقابلة بمثله. قاله السنديّ

(2)

.

وقال في "الفتح": واتفقت الروايات على أنه يقول: "إني صائم"، فمنهم من ذكرها مرتين، ومنهم من اقتصر على واحدة.

وقد استُشكل ظاهره بأن المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين، والصائم لا تصدر منه الأفعال التي رتّب عليها الجواب، خصوصًا المقاتلة.

والجواب عن ذلك أن المراد بالمفاعلة التهيّؤ لها، أي إن تهيّأ لمقاتلته، أو مشاتمته، فليقل: إني صائم، فإنه إذا قال ذلك أمكن أن يكفّ عنه، فإن أصرّ دَفَعه بالأخفّ، فالأخفّ، كالصائل. هذا فيمن يروم مقاتلته حقيقة، فإن كان المراد بقوله:"قاتله" شاتمه؛ لأن القتل يطلق على اللعن، واللعنُ من جملة السبّ -ويؤيّده ما تقدّم من الألفاظ المختلفة، فإن حاصلها يرجع إلى الشتم- فالمراد من الحديث أنه لا يعامله بمثل عمله، بل يقتصر على قوله:"إني صائم".

واختُلف في المراد بقوله: "فليقل: إني صائم"، هل يخاطب بها الذي يكلّمه بذلك،

(1)

- إسناده صحيح. وعجلان المدنيّ مولى المشمعلّ -بضمّ الميم، وسكون المعجمة، وفتح الميم، وكسر المهملة، وتشديد اللام- لا بأس به، من الرابعة. أفاده في "ت".

(2)

- "شرح السنديّ" ج 4 ص 164.

ص: 83

أو يقولها في نفسه؟. وبالثاني جزم المتوليّ، ونقله الرافعي عن الأئمة، ورجح النوويّ الأول في "الأذكار"، وقال في "شرح المهذّب": كل منهما حسن، والقول باللسان أقوى، ولو جمعهما لكان حسنًا، ولهذا التردّد أَتَى البخاريُّ، في ترجمته، فقال:"باب هل يقول: إني صائم إذا شُتِم". وقال الرويانيّ: إن كان رمضان فليقل بلسانه، وإن كان غيره في نفسه. وادعى ابن العربيّ أن موضع الخلاف في التطوّع، وأما في الفرض فيقوله بلسانه قطعًا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أنه يقوله بلسانه مطلقًا؛ لإطلاق النصّ، فإنه لم يفرّق بين فرض وتطوّع. واللَّه تعالى أعلم.

قال: وأما تكرير قوله: "إني صائم"، فليتأكّد الانزجار منه، أو ممن يخاطبه بذلك. ونقل الزركشيّ أن المراد بقوله:"فليقل: إني صائم مرتين" يقوله مرّة بقلبه، ومرّة بلسانه، فيستفيد بقوله بقلبه كفّ لسانه عن خصمه، وبقوله بلسانه كفّ خصمه عنه.

وتُعقّب بأن القول حقيقة باللسان. وأجيب بأنه لا يمنع المجاز.

(وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ) أقسم على ذلك تأكيدًا (لَخُلْوفُ فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّه، يَوْمَ الْقِيامَةِ، مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا، إِذَاَ أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ) أي لتمام صومه، وزوال جوعه وعطشه (وَإِذَا لَقَيَ رَبَّهُ عز وجل، فَرِحَ بِصَوْمِهِ") أي لما يراه من عظيم ثوابه. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم تخريجه قبل حديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2217 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ الزَّيَّاتُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللَّهُ عز وجل: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلاَّ الصِّيَامَ، هُوَ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ، مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ». وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال، هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو مروزيّ ثقة [12] 66/ 1800. وغير "سُوَيد" بن نصر المروزيّ، فقد انفرد به هو، والترمذيّ، وهو أيضًا ثقة [10] 45/ 55.

و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك الإمام المشهور.

ص: 84

وقوله: "عن عطاء الزيّات" هكذا في رواية ابن المبارك في "المجتبى"، و"الكبرى":"عطاء الزيّات"، والصواب "أبو صالح الزيّات"، وهو المذكور في السند الماضي.

فقد نقل الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف" ج 9 ص440 عن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بعد قوله: عن عطاء الزيات الخ: ما نصّه: وقال: ابن المبارك أجلّ وأعلى، وحديث حجاج -يعني ما تقدّم في السند الماضي- أولى بالصواب انتهى.

ومعنى كلامه أن ابن المبارك، وإن كان أجلّ وأعلى حفظًا، وإتقانًا لكنه هنا أخطأ، فالصواب أنه أبو صالح الزيّات، لا عطاء الزيّات

(1)

.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "تهذيب التهذيب" جـ3 ص 112 - : (س) عطاء الزيات عن أبي هريرة، وعنه ابن جريج، قاله ابن المبارك، عن ابن جريج، وقال حجاج ابن محمد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي صالح الزيّات، عن أبي هريرة، وهو الصواب. قاله النسائيّ في "السنن"، قال: وابن المبارك أجلّ وأعلى، وحديث حجاج أولى بالصواب، ولكن لا بدّ من الغلط. قال ابن مهديّ: الذي يُبّرِّىء نفسه من الغلط مجنون.

فرجح النسائيّ أنه عطاء بن أبي رباح، يرويه عن أبي صالح السمّان، وهو الزيات المذكور انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الكلام الذي نقله في "تحفة الأشراف"، و"تهذيب الكمال" عن المصنّف لم أره في "السنن"، لا في "المجتبى"، ولا في "الكبرى"، ولعله لاختلاف النسخ، أو ذكره في محلّ آخر.

والحديث متّفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ) هكذا وقع في النسخة الهندية من "المجتبى"، وهو الصواب، فقوله:"رَوَى" بالبناء للفاعل، وقوله:"هذا الحديثَ" بالنصب، مفعول مقدّم، وقوله:"عن أبي هريرة" متعلّق بـ"روى"، وقوله:"سعيدُ بنُ المسيب" بالرفع فاعل مؤخّر.

وأما ما وقع في النسخ المطبوعة من "المجتبى" بلفظ:"وقد رُوي هذا الحديثُ عن

(1)

- وكتب في هامش "الكبرى" نقلاً عن بعض النسخ: ما نصّه: جاء بهامش (ت) ما نصّه: كذا يقول ابن المبارك، والأوّل عطاء بن أبي رباح، والثاني هو أبو صالح، واسمه ذكوان، لا عطاء، واللفظ من ابن المبارك. ابن الفصيح.

ص: 85

أبي هريرة، وسعيدِ بن المسيّب" مضبوطًا ضبط قلم ببناء الفعل للمفعول، ورفع قوله: "هذا الحديثُ" على أنه نائب فاعله، وإدخال العاطف على"سعيد بن المسيّب"، وجرّه بالعطف على أبي هريرة فتصحيف فاحش، فتنبّه.

ووقع أيضًا تصحيف آخر في "الكبرى" ولفظه: قال أبو عبد الرحمن: "وقد روي هذا الحديث عن أبي سعيد بن المسيّب" انتهى. فحذف المضاف إليه من "أبي هريرة"، والصواب:"وقد رَوَى هذا الحديث عن أبي هريرة، سعيدُ بن المسيّب"، فتفطّن.

وحاصل معنى كلام المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أن هذا الحديث كما رواه أبو صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، في الأسانيد السابقة، فقد رواه سعيد بن المسيّب عنه أيضًا، كما سيأتي في الأسانيد التالية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

ثم بين رواية سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقال:

2218 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ:

(1)

: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «قَالَ: اللَّهُ عز وجل: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلاَّ الصِّيَامَ، هُوَ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخِلْفَةُ

(2)

فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ").

رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فلم يخرّج له الشيخان، ولا أحدهما، وهو مصريّ ثقة.

وقوله: "لَخِلْفَة فم الصائم" -بكسر الخاء المعجمة، وسكون اللام-كما تفيده عبارة "اللسان"، بمعنى الْخُلُوف: وهو تغيّر رائحته.

والحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" من رواية حرملة بن يحيى التُّجِيبيّ، عن ابن وهب بسند المصنّف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2219 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «كُلُّ حَسَنَةٍ، يَعْمَلُهَا ابْنُ آدَمَ، فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إِلاَّ الصِّيَامَ، لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»).

رجال هذا الإسناد:

رجال الصحيح و"عمرو": هو ابن الحارث المصريّ الثقة الثبت [7] 63/ 79.

(1)

- وفي "الهنديّة": أنه سمع أبا هريرة يقول

الخ".

(2)

- وفي نسخة: "لَخلُوف".

ص: 86

و"بكير": هو ابن عبد اللَّه بن الأشجّ المدنيّ الثقة [5] 135/ 211.

والحديث بهذا السند من أفراد الصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌43 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى مُحمّد ابْنِ أَبِي يَعْقُوبَ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه صُدَيّ بن عحلان الباهليّ الصحابيّ الجليل رضي الله عنه (فِي فَضْلِ الصَّوْمِ)

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن مهديّ بن ميمون رواه عن محمد بن عبد اللَّه بن أبي يعقوب، عن رجاء بن حيوة، عن أبي أمامة رضي الله عنه، وتابعه عليه جرير بن حازم، وخالفهما شعبة، فرواه عن محمد بن عبد اللَّه، عن أبي نصر الهلاليّ، عن رجاء، عن أبي أمامة رضي الله عنه.

والظاهر أن مثل هذا الاختلاف لا يضرّ بصحة الحديث، لإمكان الجمع بأن محمد ابن عبد اللَّه سمعه من أبي نصر، ثم سمعه من شيخه رجاء، أو سمعه من رجاء، فثبّته أبو نصر الهلاليّ، أو سمعه بطوله عن رجاء، وسمع بعضه عن حميد، كما هو رأي ابن حبّان -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه"، فقد ذكر -بعد أن أخرج الحديث مطوّلاً من طريق مهديّ بن ميمون، عن محمد بن أبي يعقوب، عن رجاء بن حيوة، ثم ساقه مختصرًا من طريق عبد الصمد، عن شعبة، عن محمد بن أبي يعقوب-: ما نصّه:

ولست أنكر أن يكون محمد بن أبي يعقوب سمع هذا الخبر بطوله عن رجاء بن حيوة، وسمع بعضه عن حميد بن هلال، فالطريقان جميعًا محفوظان انتهى

(2)

.

(1)

- وفي نسخة: "الصيام".

(2)

- راجع "صحيح ابن حبان" ج 8 ص 211 - 214.

ص: 87

ومما يؤيّد هذا الجمع أنه صرّح في رواية مهديّ بن ميمون بالإخبار عن رجاء، كما في رواية المصنّف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2220 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ، بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي

(1)

رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ مُرْنِي بِأَمْرٍ، آخُذُهُ عَنْكَ، قَالَ:«عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفيّ البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 42/ 49.

3 -

(مهديّ بن ميمون) الأزديّ الْمِعْوليّ -بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الواو- مولاهم، أبو يحيى البصريّ، ثقة، من صغار [6].

قال أبو سعيد الأشج، عن عبد اللَّه بن إدريس: قلت لشعبة: أيّ شيء تقول في مهدي بن ميمون؟ فقال: ثقة. وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ثقة، وهو أحبّ إليّ من سلاّم بن مسكين، وأبي الأشهب، وحوشب بن عَقيل. وقال ابن معين، والنسائيّ، وابن خراش: ثقة. وقال ابن سعد، عن ابن عائشة: كان كُرْديّا، وكان ثقة. وقال العجليّ: بصريّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (1) أو (272) وقال محمد بن محبوب، وغيره: مات سنة (171). روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

4 -

(محمد بن عبد اللَّه بن أبي يعقوب) التيميّ البصريّ، وقد يُنسب إلى جدّه، ثقة [6] 172/ 1141.

5 -

(رَجاء بن حيوة) -بفتح المهملة، وسكون التحتانية، وفتح الراء- ابن جَرْوَل

(2)

، ويقال: جندل بن الأحنف بن السِّمْط بن امرئ القيس بن عمرو الكنديّ، أبو المقدام، ويقال: أبو نصر الفِلَسْطينيّ، يقال: إن لجدّه صحبة، ثقة فقيه [2].

قال أبو مسهر: كان من مدينة يقال لها: بَيْسَان، ثم انتقل إلى فِلَسْطِين. وقال ابن سعد: كان ثقة فاضلاً كثير العلم. وقال العجليّ، والنسائيّ: شاميّ ثقة. وقال يحيى بن حمزة، عن موسى بن يسار: كان رجاء بن حيوة، وعديّ بن عديّ، ومكحول في

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

- قال الحافظ في "تت": ج 1ص602 - : رأيت اسم جدّه مضبوطًا بخطّ الرضي الشاطبيّ "خَنْزَل" -بخاء معجمة، بعدها نون، ثم زاي، ثم لام-.

ص: 88

المسجد، فسأل رجل مكحولاً مسألة، فقال مكحول: سلوا شيخنا، وسيّدنا رجاء بن حيوة. وقال ضمرة، عن ابن شوذب، عن مطر الورّاق: ما لقيت شاميّا أفضل -وفي رواية: أفقه- من رجاء بن حيوة، إلا أنه إذا حرّكته وجدته شاميّا. وقال الأصمعيّ، عن ابن عون: رأيت ثلاثة ما رأيت مثلهم: ابن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بالشام. وقال ابن حبّان في "الثقات": كان من عبّاد أهل الشام، وفقهائهم، وزهّادهم. قال خليفة بن خيّاط، وسليمان بن عبد الرحمن، وغير واحد: مات سنة (112). علق عنه البخاريّ، وروى له الباقون، وله عند المصنّف هذا الحديث فقط، كرره أربع مرّات برقم 2220 و 2221 و2222 و2223.

6 -

(أبو أمامة) صُديّ بن عَجْلان الباهليّ الصحابيّ المشهور، سكن الشام، ومات بها سنة (86) وتقدّم في 108/ 147. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى محمد بن عبد اللَّه، والباقيان شاميّان. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) الباهليّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: أَتَيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قد روى الإمام ابن حبّان -رحمه اللَّه تعالى- هذا الحديث مطوّلاً، فقال في "صحيحه" رقم 3425:

أخبرنا عمران بن موسى، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا مهدي بن ميمون، عن محمد بن أبي يعقوب، عن رجاء بن حيوة، عن أبي أمامة، قال: أنشأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -جيشًا، فأتيته، فقلت: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه لي بالشهادة، قال:"اللَّهمّ سلّمهم، وغنّمهم"، فغزونا، فسَلِمنا، وغَنِمنا، حتى ذكر ذلك ثلاث مرّات، قال: ثم أتيته، فقلت: يا رسول اللَّه، إني أتيتك تترى ثلاث مرّات، أسألك أن تدعو لي بالشهادة، فقلتَ:"اللَّهم سلّمهم، وغنّمهم"، فسلمنا، وغنمنا، يا رسول اللَّه، فمرني بعمل أدخل به الجنّة، فقال:"عليك بالصوم، فإنه لا مثل له"، قال: فكان أبو أمامة لا يُرى في بيته الدخان نهارًا، إلا إذا نزل بهم ضيف، فإذا رأوا الدخان نهارًا عرفوا أنه قد اعتراهم ضيف. انتهى

(1)

.

(1)

- راجع "صحيح ابن حبّان" ج 8 ص 211 - 213.

ص: 89

(فَقُلْتُ: مُرْنِي) -بضم الميم، وسكون الراء- فعل أمر من الأمر بحذف فاء الفعل، تخفيفاً؛ لكثرة الاستعمال، ومثله "كُلْ"، أمر من الأكل، و"خُذْ" أمر من الأخذ، قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى- في مادّة "أمر": وإذا أمرت من هذا الفعل، ولم يتقدّمه حرف عطف حذفت الهمزة على غير قياس، وقلت: مُرْه بكذا، ونظيره "كُلْ"، و"خُذْ"، وإن تقدّمه حرف عطف، فالمشهور ردّ الهمزة على القياس، فيقال: وأمر بكذا، ولا يُعرف في "كل"، و"خذ" إلا التخفيف مطلقًا انتهى. وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك -رحمه اللَّه تعالى- في "لاميّة الأفعال" حيث قال [من البسيط]:

وَشَذّ بِالْحَذْفِ مُرْ وَخُذْ وَكُلْ وَفَشَا

وَأْمُرْ وَمُسْتَنْدَرٌ

(1)

تَتْمِيمُ خُذْ وَكُلَا

(بِأَمْرٍ) أي بشيء من العبادات (آخُذُهُ عَنْكَ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ) أي الزم الصوم، وأكثر منه، والمراد به الصوم الشرعيّ، إذ هو المتبادر عند إطلاق الشارع. قال السنديّ: ويحتمل أن يكون المراد بالصوم كفّ النفس عما لا يليق، وهو التقوى كلها، وقد قال اللَّه تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاحتمال بعيد. واللَّه تعالى أعلم.

(فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ) الفاء للتعليل، أي لأنه لا نظير له في كثرة الثواب، أو في كسر الشهوة، ودفع النفس الأمّارة، والشيطان، والأول أقرب، لقوله في الرواية الآتية:"أيّ العمل أفضل"

"، وقد تقدّم أن الحافظ ابن عبد البرّ أشار إلى ترجيح الصوم على غيره من العبادات، فقال: حسبك يكون الصيام جُنَّةً من النار فضلاً، ويدلّ له أيضًا هذا الحديث، والمشهور عند الجمهور ترجيح الصلاة.

وعند الحافظ سمويه في "فوائده" من طريق المسيّب بن رافع، عن أبي صالح:"يترك شهوته، من الطعام، والشراب، والجماع من أجلي".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما قاله الجمهور أرجح، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أي العمل أحبّ إلى اللَّه؟ قال: "الصلاة على وقتها، قلت: ثم أيّ؟ قال: "ثم برّ الوالدين"، قلت: ثم أيّ؟ قال: "الجهاد في سبيل اللَّه

" الحديث. متفق عليه. ولحديث أحمد، وابن ماجه، والدارميّ بإسناد صحيح: وفيه: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة".

فتُحمَل خيرية الصوم المذكورة في حديث الباب على غير الأمور المذكورة في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ونحوها. واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

قوله: "ومُسْتَنْدَرٌ إلخ" إشارة إلى أنه سمع إتمام "خذ" و"كل" على قلة، وهذا خلاف ما قاله في "المصباح": إنه لا يعرف في "كل" و"خذ" إلا التخفيف. ولكنَّ ابنَ مالك إمام، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. فتنبّه.

ص: 90

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، تفرّد به المصنّف، أخرجه هنا-43/ 2220 و 2221 و 2223 - وفي " الكبرى" 43/ 2530 و 2531 و 2532 و 2533. وأخرجه (أحمد) 21122 و (ابن خزيمة في صحيحه) 1893 و (ابن حبّان في صحيحه) 3425 و 3426 و (الحاكم في مستدركه) جـ 1 ص421. و (عبد الرزاق في مصنفه) 7899 و (الطبراني)7464. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2221 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ الضَّبِّيَّ، حَدَّثَهُ عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْنِي بِأَمْرٍ، يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، قَالَ: «عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ

(1)

، فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر لحديث أبي أمامة المتقدّم ساقه لبيان أن جرير بن حازم تابع مهديّ بن ميمون في إسقاط الواسطة بين محمد بن بن عبد اللَّه بن أبي يعقوب، وبين رجاء بن حيوة.

و" جرير بن حازم" الأول بالجيم، والراء، والثاني بالحاء المهملة، والزاي المعجمة، هكذا في النسخة الهندية، و"الكبرى"، وهو الصواب، ووقع في "النسخ المطبوعة من "المجتبى" "ابن خازم" بالخاء المعجمة، وهو تصحيف، فتنبّه.

وهو جرير بن حازم بن زيد بن عبد اللَّه الأزديّ، أبو النضر البصريّ، والد وهب، ثقة، إلا في قتادة، ففيه ضعف، وله أوهام إذا حدّث من حفظه [6] 172/ 1141.

والحديث صحيح، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2222 -

(أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، الضَّعِيفُ -شَيْخٌ صَالِحٌ، وَالضَّعِيفُ لَقَبٌ، لِكَثْرَةِ عِبَادَتِهِ- قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ ، قَالَ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد تقدّموا، غير اثنين، هما:

1 -

(عبد اللَّه بن محمد) بن يحيى الطَّرَسُوسيّ، أبو محمد المعروف بـ"الضعيف"، ثقة [10].

وثقه المصنّف كما بينه في هذا السند، وابن حبّان، ومَسْلَمة، والخليليّ. وقال أبو حاتم: صدوق.

(1)

- وفي نسخة "بالصوم".

ص: 91

وإنما قيل له: "الضعيف"؛ لكثرة عبادته، كما بيّنه المصنف هنا، وقال ابن حبّان في "الثقات": إنما قيل له: الضعيف؛ لإتقانه في ضبطه. وقال عبد الغنيّ بن سعيد: إنما كان ضعيفًا في جسمه، لا في حديثه. -يعني أنه كان نحيفًا-.

تفرّد بالرواية عنه أبو داود، والمصنّف، وروى عنه في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث برقم 2222 و 2778 و 3445.

2 -

(يعقوب) بن إسحاق بن زيد بن عبد اللَّه الحضرميّ مولاهم، أبو محمد المقرئ النحويّ البصريّ، صدوق، من صغار [9].

قال أحمد، وأبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: ليس هو عندهم بذاك الثبت، يذكرون أنه حدّث عن رجال لقيهم، وهو صغير. وقال البخاريّ، عن أحمد بن سعيد الرِّبَاطيّ: مات سنة (205) وفيها أرّخه غير واحد، وزاد بعضهم: في ذي الحجة. أخرج له مسلم، والمصنف، وأبو داود، والترمذيّ في "الشمائل"، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: "أبو نصر": هو حميد بن هلال العدويّ البصريّ، ثقة [3] 4/ 4.

هذا هو الصواب، فما وقع في "التقريب"، من أنه مجهول من السادسة، وكذا قول الحافظ الذهبيّ في "ميزان الاعتدال" جـ 4 ص 579 - : لا يُدرى من هو؟. غير صحيح؛ لأن ابن حبّان، في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" صرحا بأنه حميد بن هلال، وعبارة الأول جـ 8 ص 214 - بعد أن أخرج الحديث من طريق عبد الصمد، عن شعبة بإسناد المصنّف: قال أبو حاتم: أبو نصر هذا هو حميد بن هلال، ولست أنكر أن يكون محمد بن أبي يعقوب سمع هذا الخبر بطوله عن رجاء

إلى آخر ما تقدم من كلامه في أول الباب عند الكلام على وجه الاختلاف.

وعبارة الثاني: جـ 1ص421 - بعد أن أخرج الحديث من طريق عبد الصمد، عن شعبة-: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ومحمد بن أبي يعقوب هذا الذي كان شعبة إذا حدّث عنه يقول: حدثني سيّد بني تميم. وأبو نصر الهلاليّ، هو حميد بن هلال العدويّ، ولا أعلم له راويا عن شعبة غير عبد الصمد، وهو ثقة مأمون انتهى.

ووافقه عليه الحافظ الذهبيّ في "مختصره"، مع أنه قال في "ميزان الاعتدال": لا يُدرى من هو؟. وقد نسبه شعبة إلى "بني هلال" فيما نقله عنه البخاريّ في "تاريخه" 2/ 346، ونسبه أيضًا ابن حبّان في "الثقات" ج 4 ص 147، وذكره السمعانيّ في "الأنساب" 8/ 410، فقال: أبو نصر حميد بن هلال بن هُبيرة العدويّ الهلاليّ.

والحاصل أن أبا نصر هذا ليس مجهولاً، بل هو من المشهورين الذين أخرج لهم

ص: 92

الجماعة. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "لا عدل له" -بفتح العين المهملة، وكسرها: أي لا مثل له. قال في "القاموس": العَدْلُ -أي بالفتح: المثل والنظير، كالعِدْل -أي بالكسر- والعَدِيلِ: جمعه أَعدال، وعُدَلَاءُ انتهى.

وفي "المصباح": وعِدْلُ الشيء -بالكسر-: مثله من جنسه، أو مقداره. قال ابن فارس: والعِدْلُ: الذي يعادل في الوزن والقدرِ، وعَدْله -بالفتح- ما يقوم مقامه من غير جنسه، ومنه قوله تعالى:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} وهو مصدرٌ في الأصل، يقال: عَدَلْتُ هذا بهذا عَدلاً، من باب ضرب: إذا جعلته مثله، قائمًا مقامه، قال تعالى:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ، وهو أيضًا الفدية، قال تعالى:{وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا يقبل منه صرف، ولا عدل". انتهى.

وقال في "اللسان": قال ابن الأثير: "العَدْل -بالفتح-: ما عادله من جنسه، - وبالكسر-: ما ليس من جنسه، وقيل: بالعكس. وقال الزّجّاج: العَدْلُ، والعِدْل واحد في معنى المثل، قال: والمعنى واحد، كان المثل من الجنس، أو من غير الجنس.

وقرأ ابن عامر: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} بكسر العين، وقرأها الكسائيّ، وأهل المدينة بالفتح انتهى ما في "اللسان" مُلَخّصًا.

ومعنى الحديث أن الصوم ليس شيء يماثله في كثرة الأجر والثواب، وقد تقدّم أن هذا مؤوّل بما عدا الصلاة، وبرّ الوالدين، والجهاد في سبيل اللَّه، مما ثبت أفضليّته بنصوص أصحّ مما هنا. والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف، كما سبق قريبًا.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2223 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ -هُوَ ابْنُ السَّكَنِ- أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ الضَّبِّيِّ، عَنْ أَبِي نَصْرٍ الْهِلَالِيِّ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْنِي بِعَمَلٍ، قَالَ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْنِي بِعَمَلٍ، قَالَ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ»).

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"يحيى بن محمد بن السكن، أبو عبيد اللَّه": البصريّ، نزيل بغداد، صدوق [11] 60/ 1770.

و"يحيى بن كثير": بن درهم العنبريّ مولاهم، أبو غسّان البصريّ، خُراسانيّ الأصل، ثقة [9].

ص: 93

قال عباس العنبريّ: كان ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات". قال البخاريّ: مات بعد المائتين. وقال ابن أبي عاصم: مات سنة (206). روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث: برقم 2223 و 2871 و 5155.

[تنبيه]: اختلف نسخ "المجتبى" في هذا السند، ففي النسخة "الهندية":"قال: شعبة حدثنا عن محمد بن أبي يعقوب الخ". وفي النسختين المطبوعتين: "حدثنا شعبة"، والظاهر أنه لا اختلاف بينهما في المعنى، لأن النسخة الأولى تكون بمعنى الثانية، ففاعل "قال" ضمير يحيى بن كثير، و"شعبةُ" مبتدأ، خبره جملة "حدَّثنا"، والفعل مبنيّ للفاعل، وفاعله ضمير "شعبة"، والجملة مقول "قال"، فيكون معنى النسختين متّحدًا، وأما ما وقع في النسختين من ضبط الفعل مبنيا للمفعول، ضبطَ قلم، فتحريف؛ لأنه يكون الإسناد عليه منقطعًا، فتأمّل. واللَّه تعالى أعلم. والحديث صحيح، كما سبق بيانه.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2224 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ فِطْرٍ، أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ

(1)

، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فلم يخرج له الشيخان، وهو: أبو جعفر الكوفيّ السرّاج، ثقة [10] 92/ 1349.

و"المحاربيّ": هو عبد الرحمن بن محمد بن زياد، أبو محمد الكوفيّ، لا بأس به [9].

قال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال النسائيّ أيضًا: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صدوق إذا حدّث عن الثقات، ويروي عن المجهولين أحاديث منكرة، فيفسد حديثه.

وقال محمود بن غيلان: قيل لوكيع: مات عبد الرحمن المحاربيّ، فقال: رحمه الله، ما كان أحفظه لهذه الأحاديث الطوال. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: هو صدوق، ولكنّه هو كذا، ضعّفه. وقال البزّار، والدارقطنيّ: ثقة. وقال عثمان الدارميّ: سألت ابن معين عنه؟ فقال: ليس به بأس، قال عثمان: وعبد الرحمن ليس بذاك. وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: بلغنا أنه كان يدلّس، ولا نعلمه سمع من معمر، وقال عبد اللَّه بن محمد، عن عاصم: حدّثنا، فقال:

(1)

- وفي نسخة: "قال معاذ بن جبل: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ".

ص: 94

لعلّه سمعه من سيف بن محمد، عن عاصم -يعني فدلّسه. وقال العُقيليّ: كان يدلّس، أنكر أحمد حديثه عن معمر. وقال العجليّ: لا بأس به. وقال الساجيّ: صدوق يِهَم.

وقال البخاريّ، عن محمود بن غيلان: مات سنة (195) وكذا أرّخه ابن سعد، وقال:

كان ثقة كثير الغلط. روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث: برقم 2224 و 2241 و 3208.

و"فِطْر": هو ابن خَلِيفة المخزوميّ مولاهم، أبو بكر الحنّاط الكوفيّ، صدوق رمي بالتشيع [5] 5/ 882.

و"حبيب بن أبي ثابت": هو أبو يحيى الكوفيّ، ثقة فقيه كثير الإرسال والتدليس [3] 121/ 170.

و"الحكم بن عُتَيبة": هو أبو محمد الكنديّ الكوفيّ ثقة ثبت فقيه، ربما دلّس [5] 86/ 104.

و"ميمون بن أبي شبيب": هو الرّبَعِيُّ، أبو نصر الكوفيّ، ويقال: الرقّيّ، صدوق كثير الإرسال [3].

قال عليّ بن المديني: خَفِي علينا أمره. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال عمرو بن عليّ: كان رجلاً تاجرًا، كان من أهل الخير، وليس يقول في شيء من حديثه: سمعت، ولم أخبر أنّ أحدًا يزعم أنه سمع من الصحابة.

وقال أبو داود: لم يدرك عائشة. وقال الحسن بن الْحُرّ، عن ميمون بن أبي شبيب: أردت الجمعة في زمان الحجّاج، فذكر خبرًا. وقال ابن معين: ضعيف. وقال ابن خراش: لم يسمع من عليّ. وصحح له الترمذيّ روايته عن أبي ذرّ، لكن في بعض النسخ، وفي أكثرها، قال: حسنٌ فقط.

قال أبو بكر بن أبي عاصم: مات سنة (83) وفيها أرّخه ابن حبّان، وزاد: قُتِل في الجماجم.

روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم في "المقدّمة"، والأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، كرره أربع مرّات برقم 2224 و 2225 و2226 و 2228.

والإسناد مسلسل بالكوفيين، وفيه أربعة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: فطر، عن حبيب، عن الحكم، عن ميمون.

وقوله: " جُنّة": أي وِقاية، وحِماية، وسِتْر. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث معاذ بن جبل - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا

ص: 95

صحيح، وهو مما انفرد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-43/ 2224 و 2225 و 2226 - وفي "الكبرى"- 43/ 2534 و 2535 و 2536. وأخرجه (أحمد) في "مسند الأنصار" 21563 و 21628.

[فإن قلت]: كيف يصحّ هذا الحديث، وفيه انقطاعٌ؛ لأن ميمون بن أبي شبيب لم يدرك معاذًا - رضي اللَّه تعالى عنه -، وفيه أيضًا عنعنة حبيب بن أبي ثابت، وهو مدلّس؟.

[قلت]: إنما صحّ بشواهده، فقد يشهد له حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم الذي بعده، وكذا أحاديث الصحابة الآخرين الذين تقدّموا في شرح حديث رقم 2214 و2216 رضي الله عنهم واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2225 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَالْحَكَمِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثان لحديث معاذ بن جبل صلى الله عليه وسلم، ساقه لبيان الاختلاف في إسناده، ففي رواية فطر يرويه حبيب بن أبي ثابت، عن الحكم، عن ميمون، وفي رواية سليمان الأعمش، يرويه حبيب، والحكم، كلاهما عن ميمون.

و"يحيى بن حمّاد" بن أبي زياد الشيبانيّ مولاهم، أبو بكر، ويقال: أبو محمد البصريّ، خَتَن أبى عوانة، ثقة عابد، من صغار [9].

قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال أبو حاتم: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال محمد بن النعمان بن عبد السلام: لم أر أعبد منه. وقال العجليّ: بصريّ ثقة، وكان من أروى الناس عن أبي عوانة. وقال البخاريّ، عن الحسن بن مُدرك: مات سنة (215).

روى له الجماعة، سوى أبي داود، فأخرج له في "الناسخ والمنسوخ"، وله عند المصنّف سبعة أحاديث: برقم 2225 و 2389 و 2541 و 4076 و 4731 و 4982 و 5110.

و"سليمان": هو الأعمش.

والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2226 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ النَّزَّالِ، يُحَدِّثُ عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ»).

ص: 96

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثالث لحديث معاذ رضي الله عنه أيضًا، ساقه لبيان الاخلاف على الحكم، فقد رواه في رواية حبيب، وسليمان السابقتين عن ميمون، عن معاذ، ورواه في رواية شعبة هنا عن عروة، عن معاذ رضي الله عنه.

و"محمد": هو ابن جعفر المعروف بغندر".

و"عروة بن النّزّال": -بنون، وزاي ثقيلة- ويقال فيه: النزّال بن عروة، ويقال: اسم جدّه سَبْرَة، كوفيّ مقبول [2].

روى عن معاذ بن جبل حديث الباب. وعنه الحكم بن عتيبة. ذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له المصنّف حديث الباب فقط.

[تنبيه]: ذكر الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف" جـ8 ص410 بعد عزو الحديث للمصنّف: ما نصّه: رواه رَوْحُ بن عُبَادة، وعمرو بن مرزوق، كلاهما عن شعبة، عن الحكم، عن عروة بن النّزّال، أو النزّال بن سَبْرَة، عن معاذ. قال روح، عن شعبة: فقلت له: سمعه من معاذ؟ قال: لم يسمعه منه، وقد أدركه انتهى ما ذكره المزّيّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: معنى هذا الكلام أن شعبة سأل الحكم هل سمع عروة بن النزّال هذا الحديث من معاذ؟، فقال: لم يسمعه منه، وإن كان أدركه.

وهذا يدلّ على أنه منقطع، وقد سبق أن رواية ميمون أيضًا منقطعة، لكن الحديث صحيح بشواهده، كما سبق بيانه، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2227 -

(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ لِي الْحَكَمُ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ قَالَ الْحَكَمُ: وَحَدَّثَنِي بِهِ مَيْمُونُ بْنُ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -:"حجاج": هو ابن محمد الأعور. وقوله: "عن شعبة، قال لي الحكم الخ" يقدر بعد قوله: "عن شعبة" لفظ "أنه قال"، فيقال: عن شعبة، أنه قال: قال لي الحكم الخ. وفي نسخة: "قال شعبة: قال لي الحكم الخ"، وهي ظاهرة.

والمعنى أن الحكم قال لشعبة: سمعتُ الحديثَ المذكور من عروة بن النزّال من أربعين سنة، فضمير "منه" لـ"عروة" المتقدّم في السند الماضي. و"منذ" هنا بمعنى "من" الابتدائية، لأنها إذا كانت للماضي تكون بمعنى "من"، وإذا كانت للحال تكون بمعنى "في"، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَمُذْ وَمُنْذُ اسْمَانِ حَيْثُ رَفَعَا

أَوْ أُولِيَا الفِعْلَ كَجِئْتُ مُذْ دَعَا

ص: 97

وَإنْ يَجُرّا فِي مُضيِّ فَكـ"مِنْ"

هُمَا وَفِي الْحُضُورِ مَعْنَى "فِي" اسْتَبِنْ

وقوله: "ثم قال الحكم الخ" يعني أن الحكم بعد أن حَدَّث شعبة بالحديث عن عروة ابن النزال، قال له: حدثني به أيضًا ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ، فيكون الحكم سمعه من عروة، ومن ميمون كليهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2228 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ حَجَّاجٍ، قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدّم مطوّلاً برقم 42/ 2216 وتقدّم البحث فيه مستوفًى هناك، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2229 -

وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، أَنْبَأَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قِرَاءَةً، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَطَاءٌ الزَّيَّاتُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث تقدّم أيضًا سندًا ومتنًا برقم 42/ 2217، وتقدّم الكلام عليه هناك، وأن قوله:"عطاء الزيّات" مما أخطأ فيه عبد اللَّه بن المبارك -رحمه اللَّه تعالى- مع جلالته وإتقانه، وأن صوابه:"أبو صالح الزيّات"، كما في رواية حجاج بن محمد الأعور التي قبل هذا.

[تنبيه]: قوله: "عطاء الزيات" هكذا في النسخ المطبوعة، وهو الذي في "الكبرى" جـ 2 ص 93 ووقع في "النسخة الهندية" بدله "أبو صالح الزيات" وهو غلط؛ لأنه سبق أن هذا مما أخطأ فيه ابن المبارك مع جلالته، كما صرح به المصنّف، فلو كانت رواية ابن المبارك "أنبأنا أبو صالح الزيات" لما نسب إلى الخطإ. والحاصل أن رواية ابن المبارك "عطاء الزيات" ورواية حجاج الأعور "أبو صالح الزيات" وهي الصواب فتبصر.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2230 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، أَنَّ مُطَرِّفًا -رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ- حَدَّثَهُ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، دَعَا لَهُ بِلَبَنٍ؛ لِيَسْقِيَهُ، فَقَالَ مُطَرِّفٌ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ عُثْمَانُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

ص: 98

والسند مسلسل بالمصريين إلى سعيد بن أبي هند، وقتيبةُ، وإن كان خراسانيا، إلا أنه ممن دخل مصر، وأخذ عن علمائها، وسعيد بن أبي هند مدنيّ، ومطرّف بن عبد اللَّه ابن الشِّخِّير بصريّ، والصحابي طائفيّ بصريّ.

[تنبيه]: قوله: "رجلًا" بالنصب على البدلية من "مطرفّ"، وفي النسخة "الهندية":"رجلٌ" بالرفع على أنه خبر لمحذوف، أي هو رجلٌ الخ". واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح، أخرجه المصنّف هنا -43/ 2230 و 2231 و 2232 - وفي " الكبرى" 43/ 2539 و 2540 و2541. وأخرجه (ق) 1639 (أحمد) في "مسند المدنيين" 15839 و1544 و 17445. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2231 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، فَدَعَا بِلَبَنٍ، فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ، كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، عليّ ابن الحسين بن مطر الدِّرهميّ البصريّ، صدوق، من كبار [11] 17/ 1547. فإنه ممن تفرّد به هو وأبو داود.

و"ابن أبي عديّ": هو محمد بن إبراهيم البصريّ. و"ابن إسحاق": هو محمد بن إسحاق المطلبيّ، صاحب المغازي.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2232 -

(أَخْبَرَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، قَالَ: دَخَلَ مُطَرِّفٌ، عَلَى عُثْمَانَ، نَحْوَهُ مُرْسَلٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر، ساقه المصنّف لبيان الاختلاف على محمد بن إسحاق، فقد رواه ابن أبي عديّ عنه، عن سعيد بن أبي هند، عن مُطَرِّف، قال: دخلت على عثمان الخ، فجعله موصولاً، وخالفه عبد اللَّه بن أبي هند، فرواه عنه، عن سعيد، قال: دخل مطرّف الخ، فجعله منقطعًا، والموصول أرجح؛ لأن ابن أبي عديّ أحفظ من عبد اللَّه بن سعيد أبي هند، فإنه وان كان ثقة، لكنه يخطئ

(1)

ويشهد له الإسناد السابق أيضًا.

(1)

- انظر ترجمته في "تت" ج 2 ص 346 - 347.

ص: 99

ورجال الإسناد تقدّموا، غير اثنين، وهما:

1 -

(أبو مصعب) أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث بن زُرارة بن مُصْعَب بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ الفقيه، صدوق [10].

قال الزبير بن بكار: مات وهو أفقه أهل المدينة، غير مُدَافَع. وقال الحاكم: كان فقيهًا متقشّفًا، عالمًا بمذاهب أهل المدينة. وكذا ذكره ابن حبّان في "الثقات". وقدّمه الدارقطنيّ في "الموطّإ" على يحيى بن بُكَير. وقال ابن حزم: في موطئه" زيادةُ مائة حديث. وقال صاحب "الميزان": ما أدري ما معنى قول أبى خيثمة لابنه: لا تكتب عن أبي مصعب، واكتب عمن شئت انتهى.

قال الحافظ: ويحتمل أن يكون مراد أبي خيثمة دخوله في القضاء، أو إكثاره من الفتوى بالرأي انتهى.

قال البخاريّ، وابن أبي عاصم، والسّرّاج: مات في رمضان سنة (242) وله (92) سنة.

روى عنه الجماعة، لكن المصنّف روى عنه بواسطة خيّاط السنّة، هذا الحديث فقط، وأعاده برقم 2412.

2 -

(المغيرة بن عبد الرحمن) بن الحارث بن عبد اللَّه بن عيّاش -بتحتانية، ومعجمة- ابن أبي ربيعة المخزوميّ، أبو هاشم، ويقال: أبو هشام المدنيّ، صدوق فقيه، كان يهم [8].

قال عباس الدوريّ، عن ابن معين: ثقة. وقال الآجريّ، عن أبي داود: ضعيف، فقلت له: إن عباسًا حكى عن ابن معين أنه ضعّف الحزاميّ، ووثق المخزوميّ، فقال: غَلِطَ عباس. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة أحد فقهاء المدينة، وكان يفتي فيهم. وقال الزبير بن بكار: كان فقيهًا، كان فقيه أهل المدينة بعد مالك، وعرض عليه الرشيد القضاء، فامتنع. وقال ابن عبد البرّ: كان مدار الفتوى في آخر زمان مالك، وبعده على المغيرة بن عبد الرحمن، ومحمد بن إبراهيم بن دينار. حكى ذلك عبد الملك بن الماجشون. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، قال: وكان راويًا لابن عجلان، ربما أخطأ. قال ابنه عياش: وُلد أبي سنة (4) أو (125) ومات لسبع خلون من صفر سنة (186). وقال ابن سعد: مات سنة (88) وقال ابن حبّان: مات سنة (5) أو (186). روى له البخاريّ والمصنف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط 2232 وأعاده برقم 2412.

و"زكريا بن يحيى": هو السّجْزيّ، نزيل دمشق، المعروف بخيّاط السنّة، ثقة حافظ [12] 189/ 1161. من أفراد المصنّف.

ص: 100

وقوله: "مرسل": هكذا نسخ "المجتبى" بالرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، أي هذا الحديث مرسل، ووقع في "الكبرى""مرسلاً" بالنصب على الحال. وأراد بالإرسال الانقطاع، وقد تقدّم غير مرّة أن الإرسال يطلق على الإنقطاع.

يعني أن هذا السند فيه انقطاع؛ لأن سعيد بن أبي هند لم يدرك قصّة دخول مطرف على عثمان، والقاعدة أن من حدّث بقصّة لم يدركها يكون حديثه منقطعًا، كما هو مقرّر في علم المصطلح، وإليه أشار الحافظ السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "ألفية الحديث"، حيث قال:

وَكُلُّ مَنْ أَدرَكَ مَا لَهُ رَوَى

مُتَّصِلٌ وَغَيْرُهُ قَطْعًا حَوَى

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2233 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَاصِلٌ، عَنْ بَشَّارِ بْنِ أَبِي سَيْفٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ غُطَيْفٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ، مَا لَمْ يَخْرِقْهَا»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يحيى بن حبيب بن عربّي) البصريّ، ثقة [10] 60/ 75.

2 -

(حماد) بن زيد بن درهم الجَهْضَميّ البصريّ الإمام الحجة [8] 3/ 3.

3 -

(واصل) مولى أبي عُيينة -بتحتانية، مصغرًا- ابن المهلّب بن أبي صُفرة الأزديّ البصريّ، صدوق عابد [6].

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ثقة. وكذا قال إسحاق، عن ابن معين. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال البزّار: ليس بالقويّ، وقد احتُمل حديثه. وقال العجلي: بصريّ ثقة. وروى محمد بن نصر في "قيام الليل" من طريق ابن مهديّ: كان واصل لا ينام من الليل إلا يسيرًا، فغاب غيبة إلى مكة، فكنت أسمع القراءة من غرفته على نحو صوته، فلما جاء ذكرت له، فقال: هؤلاء سُكّان الدار. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، إلا الترمذيّ، وله عند المصنف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط ..

4 -

(بشّار بن أي سيف) الْجَرْميّ، وقيل: المخزوميّ -ولا يصحّ- الشاميّ، نزيل البصرة، مقبول [6].

روى عن الوليد بن عبد الرحمن الْجُرَشيّ. وعنه جرير بن حازم، وواصل مولى أبي عُيينة. ذكره ابن حبّان في "الثقات". انفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

5 -

(الوليد بن عبد الرحمن) الْجُرَشيّ الحمصيّ الزّجّاج ثقة [4] 103/ 1364.

ص: 101

6 -

(عياض بن غُطيف) -بالغين المعجمة، والطاء المهملة- مخضرم مقبول [2].

ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: وهو الذي يقول فيه سُليم بن عامر: غُضيف بن الحارث، لم يضبط اسمه. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط

(1)

.

7 -

(أبو عبيدة) عامر بن عبد اللَّه بن الجراح بن هلال بن أُهيب، ويقال: وُهيب بن ضبّة بن الحارث بن فهو القرشيّ، الفهريّ، أمين الأمّة، واحد العشرة، أدركت أمُّهُ

أُميمةُ بنتُ غَنْم بن جابر الإسلامَ، وأسلمت، وأسلم هو قديماً، وشهد بدرًا، والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقَتَل أباه يوم بدر كافرًا. وأنكر الواقديّ أن يكون قتل أباه، وقال: مات أبوه قبل الإسلام. رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه جابر بن عبد اللَّه، وسمرة بن جندب، وأبو أمامة، وعبد الرحمن بن غَنْم الأشعريّ، والعرباض بن سارية، وأبو ثعلبة الْخُشَنيّ، وعياض بن غُطيف، وأسلمُ مولى عمر، وغيرهم. قال ابن إسحاق: آخى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -بينه وبين سعد بن معاذ، ودعا أبو بكر يوم توفّي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سَقِيفة بني ساعدة إلى البيعة لعمر، أو لأبي عبيدة، وولاّه عمر الشام، وفتح اللَّه عليه اليرموك، والجابية، وكان طويلاً نحيفًا. وقال الجريريّ، عن عبد اللَّه بن شقيق: قلت لعائشة: أيّ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -كان أحبّ إليه؟ قالت: أبو بكر، قلت: فمن بعده؟ قالت: عمر، قلت: فمن بعده؛ قالت: أبو عبيدة بن الجرّاح، ومناقبه رضي الله عنه كثيرة. ذكر ابن سعد وغيره أنه مات في طاعون عمواس سنة (18) وهو ابن (58) سنة. وأرّخ ابن مندهْ، وإسحاق القرّاب وفاته سنة (17). روى له الجماعة، وله (15) حديثًا اتفق الشيخان على حديث، وله عند المصنف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعد حديث. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، غير بشار، وعياض، كما سبق آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى بشّار،

(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. ومنها: أن صحابية أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأنه أمين هذه الأمة - رضي اللَّه تعالى عنه -. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عِيَاضِ بنِ غُطَيْفِ) أنه قال (قَالَ أَبو عُبَيدَةَ) بن الجرّاح رضي الله عنه (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "الصَّوْمُ جُنَّةٌ) أي وقاية، وسُتْرة من النار (مَا لَمْ يَخْرُقُهَا) زاد الدارميّ: ما نصّه: قال أبو محمد: يعني بالغِيبَة. انتهى. والظاهر أن هذا من كلام الدارميّ، وليس

(1)

- انظر ترجمته في "تت" ج 3 ص 376 - 377.

ص: 102

مرفوعًا، كما يوهمه كلام الحافظ فيما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم.

و"يخرقها" -بفتح حرف المضارعة، وبضم الراء، وكسرها- يقال: خرقه يخرُقه- بالضم- ويخرِقه -بالكسر- من بابي قتل، وضرب: إذا شقّه، ومزّقه. أفاده في "القاموس".

و"ما" مصدريّة ظرفية، والضمير المنصوب للجُنّة، أي تقيه تلك الجنّة من النار مُدَّة عدم خرقها بفعل المعاصي، كالغيبة، ونحوها.

وهذا الحديث فيه قصّة، ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، وهذا لفظه:

1692 حدثنا زياد بن الربيع، أبو خداش، حدثنا واصل، مولى أبي عيينة، عن بشار ابن أبي سيف الجرمي

(1)

، عن عياض بنِ غطيف، قال: دخلنا على أبي عبيدة بن الجراح، نعوده من شكوى أصابه، وامرأته تُحيفَةُ قاعدة عند رأسه، قلت: كيف بات أبو عبيدة؟ قالت: واللَّه لقد بات بأجر، فقال أبو عبيدة: ما بت بأجر، وكان مقبلا بوجهه على الحائط، فأقبل على القوم بوجهه، فقال: ألا تسألونني عما قلت، قالوا: ما أَعْجَبَنا ما قلتَ، فنسألَكَ عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"من أنفق نفقة فاضلة، في سبيل اللَّه، فبسبعمائة، ومن أنفق على نفسه، وأهله، أو عاد مريضًا، أو ماطَ أَذًى، فالحسنة بعشر أمثالها، والصوم جنة، ما لم يخرقها، ومن ابتلاه اللَّه ببلاء، في جسده، فهو له حِطَّة". انتهى. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أبي عُبيدة رضي الله عنه -هذا حديث حسن، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

، أخرجه هنا-43/ 2233 و 2235 - وفي "الكبرى" 43/ 2542 و 2543. وأخرجه (أحمد) في "مسند العشرة" 1692 و 1702 (الدارميّ) في "الصوم" 1732. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2234 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الآدَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، مِنَ النَّارِ فَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا، فَلَا يَجْهَلْ يَوْمَئِذٍ، وَإِنِ امْرُؤٌ جَهِلَ عَلَيْهِ، فَلَا يَشْتِمْهُ، وَلَا يَسُبَّهُ، وَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ، مِنْ

(1)

- هكذا نسخ "المسند" برقم (1690) بإسقاط "الوليد بن عبد الرحمن الجرشي" بين بشار، وعياض، لكنه أثبته برقم (1700) وهو الصواب، كما سبق في سند النسائيّ، وقد نبّه على هذا محقق "المسند" 3/ 220 طبع مؤسسة الرسالة.

(2)

- أي من بين أصحاب الأصول الستة.

ص: 103

رِيحِ الْمِسْكِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير اثنين:

1 -

(محمد بن يزيد الأَدَميّ

(1)

) أبو جعفر الخزّاز -بمعجمة، ثم مهملة، وآخره زاي- البغداديّ المقابريّ، ويعرف بالأحمر، ويقال: إنهما اثنان، ثقة عابد، من صغار [10].

قال النسائيّ في "مشيخته": ثقة. ووثقه مسلمة، وقال الخطيب: كان عابدًا. وقال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبي ببغداد. وقال الدارقطنيّ: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال ابن صاعد: توفي بمكة سنة (245) وقال السرّاج: توفي ببغداد في شوّال، وكان زاهدًا من خيار المسلمين. فإنه ممن انفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

[تنبيه]: قوله: "الأدميّ" -بفتحتين- نسبة إلى بيع الأَدَم، وهو الجلد. كما تفيده عبارة "لبّ اللباب" ج 1 ص 43. فما وقع في نسخ "المجتبى" بمدّ الهمزة، كلفظ الآدمي المنسوب إلى آدم غير صحيح. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

2 -

"خارجة بن سليمان": هو خارجة بن عبد اللَّه بن سليمان بن زيد بن ثابت الأنصاريّ المدنيّ، نُسب لجده، صدوقٌ، له أوهام [7] 15/ 524. فإنه من أفراد المصنّف، والترمذيّ، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان: هذا، وحديث رقم 524 في "كتاب الصلاة".

و"معن": هو ابن عيسى القَزّاز، أبو يحيى المدنيّ، ثقة ثبت، من كبار [10] 50/ 62.

و"يزيد بن رومان" هو مولى آل الزبير المدنيّ، ثقة [5] 17/ 1537. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "فلا يشتمه" -بكسر التاء المثناة، وضمها- من بابي ضرب، ونصر -كما في "القاموس"-: أي لا يسبّه.

وقال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: وقولهم: "فإن شُتم، فليقل: إني صائم" يجوز أن يُحمل على الكلام اللسانيّ، وهو الأولى، فيقول ذلك بلسانه، ويجوز حمله على الكلام النفسانيّ، والمعنى لا يجيبه بلسانه، بل بقلبه، ويجعل حاله حال من يقول كذلك، ومثله قوله تعالى:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} الآية. وهم لم يقولوا ذلك بلسانهم، بل كان حالهم حال من يقوله. وبعضهم يقول:"فإن شُوتم" يجعله من المفاعلة، وبابها الغالبُ أن تكون من اثنين، يَفعَل كلّ واحد منهما بصاحبه ما يفعله

(1)

-بفتحتين نسبة إلى بيع الأَدَم. -يعني بيع الجلد- أفاده في "لب اللباب" ج1 ص 42.

ص: 104

صاحبه به، مثل ضاربته، وحاربته، ولا يجوز حمل الصائم على هذا الباب، فإنه منهيّ عن السباب. وقد تكون المفاعلة من واحد، لكن بينه وبين غيره، نحو عاقبت اللصّ، فهي محمولة على الفعل الثلاثيّ. وقد عُلم بذلك أن المفاعلة إن كانت من اثنين كانت من كلّ واحد، وإن كانت بينهما كانت من أحدهما، ولا تكاد تُستَعمل المفاعلة من واحد، ولها فعل ئلائيّ من لفظها، إلا نادرًا، نحو صادمه الحمار، بمعنى صَدَمه، وزاحمه، وشاتمه، بعنى شتمه، ويدلّ على هذا الحديثُ الصحيحُ: "وإن امرؤ قاتله، أو شاتمه

"، فيجوز "شُتِمَ"، و"شُوتِم" انتهى كلام الفيّوميّ

(1)

.

وقوله: "ولا يسبّه" من باب ردّ يرُدّ، وعطفه على ما قبله من عطف المرادف. وتمام شرح الحديث تقدّم في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الباب الماضي.

والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف أخرجه هنا-43/ 2234 - واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: حديث عائشة رضي الله عنها هذا كذا وقع في نسخ "المجتبى" هنا بين حديثي أبي عُبيدة رضي الله عنه، ولعله من تصرّف النسّاخ، وإلا فكان الأولى الجمع بين حديثي أبي عُبيدة، كما لا يخفى.

ثم إنه ليس لحديث عائشة رضي الله عنها هذا ذكر في "الكبرى" أصلاً. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2235 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ، مَا لَمْ يَخْرِقْهَا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر لحديث أبي عبيدة رضي الله عنه ساقه المصنّف لبيان الاختلاف على الوليد بن عبد الرحمن، فرواه بشّار بن أبي سيف عنه، عن عياض بن غطيف، عن أبي عبيدة، مرفوعًا، وخالفه مسعر، فرواه عنه، فقال: حدثنا أصحابنا، عن أبي عُبيدة، فأيهم شيوخ الوليد، وجعله موقوفًا عليه، ومسعر أثبت من بشّار، لكن الموقوف في مئل هذا له حكم الرفع؛ إذ لا يقال من قبل الرأي، وأيضًا يشهد لأصل الحديث ما أخرجه الشيخان، وغيرهما، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يجهل". وتقدّم للمصنّف رقم 2216 و 2217، وحديث عائشة رضي الله عنها المذكور قبل هذا، وما أخرجه البخاريّ من

(1)

- راجع "المصباح المنير" في مادّة شتم.

ص: 105

حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا أيضًا:"من لم يدع قول الزور، والعمل به، والجهل فليس للَّه حاجة في أن يدع طعامه، وشرابه"، ولهذا قلت: إنه حديث حسنٌ.

و"محمد بن ميمون": تقدّم قبل ثلاثة أحاديث. و"حِبّان": -بكسر المهملة- ابن موسى السلميّ، أبو محمد المروزيّ، ثقة [10] 1/ 397.

[تنبيه]: ضبط "حِبان" هذا بالكسر هو الصواب، فما وقع في نسخ "المجتبى" من ضبطه بالفتح ضبط قلم، فغلطٌ، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك. و"مسعر": هو ابن كِدَام. و "الوليد بن أبي مالك": هو ابن عبد الرحمن المذكور في السند السابق، نسبه إلى جدّه.

وقوله: "أصحابنا" مبهمون، ويحتمل أن يكون منهم عياضُ بن غُطيف المذكور في السابق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2236 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لِلصَّائِمِينَ بَابٌ، فِي الْجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، لَا يَدْخُلُ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ، مَنْ دَخَلَ فِيهِ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ، لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا»).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عليّ بن حُجْر) السعديّ المروزيّ، ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 13.

2 -

(سعيد بن عبد الرحمن) بن جَمِيل بن عامر بن حِذْيَم بن سلامان بن ربيعة بن سعد ابن جُمح الْجُمَحيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، قاضي بغداد، صدوق، له أوهام، وأفرط ابن حبّان في تضعيفه [8].

قال صالح بن أحمد، عن أبيه: ليس به بأس، وحديثه مقارب. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال النسائيّ: لا بأس به. وقال الساجيّ: يروي عن هشامٍ، وسهيلٍ أحاديث، لا يتابع عليها. ووثقه ابن نُمير، وموسى ابن هارون، والعجليّ، والحاكم أبو عبد اللَّه. وقال ابن عديّ: له غرائب حسان، وأرجو أنها مستقيمة، وإنما يَهِم في الشيء بعد الشيء، فيرفع موقوفًا، ويصل مرسلاً، لا عن تعمّد. وقال ابن حبان: يروي عن عبيد اللَّه بن عمر وغيره من الثقات أشياء موضوعة، يتخايل إلى من سمعها أنه كان المتعمّد لها. ونقل ابن الجوزيّ عن أبي حاتم: لا يحتجّ به. قال أبو حسّان الزياديّ وغيره: مات سنة (176) وهو ابن (72) سنة. روى له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والباقون، سوى الترمذيّ، وله في هذا

ص: 106

الكتاب أربعة أحاديث برقم 2236 و 2246 و 3593 و 4040.

3 -

(أبو حازم) سلمة بن دينار التمار الأعرج الزاهد المدنيّ، ثقة [5] 40/ 44.

4 -

(سهل بن سعد) بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ الساعديّ، أبو العباس الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (88) وقيل: بعدها، وقد جاوز المائة، وتقدّم في 40/ 734. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (123) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمروزيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) الساعديّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لِلصَّائِمِينَ بَابٌ، فِي الْجَنَّةِ) قال الزين ابن المنيّر -رحمه اللَّه تعالى-: إنما قال: "في الجنّة"، ولم يقل:"للجنة" ليشعر بأن في الباب المذكور من النعيم، والراحة ما في الجنة، فيكون أبلغ في التشوّق إليه انتهى.

قال الحافظ: قلت: وقد جاء الحديث من وجه آخر بلفظ: "إن للجنّة ثمانية أبواب، منها باب يسمّى الريّان، لا يدخله إلا الصائمون". أخرجه هكذا الجوزقيّ من طريق أبي غسان، عن أبي حازم -أي عن أبي هريرة رضي الله عنه -وهو للبخاريّ من هذا الوجه في "بدء الخلق "، لكن قال:"في الجنة ثمانية أبواب " انتهى

(1)

(يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ) -بفتح الراء، وتشديد التحتانيّة، وزان فَعْلَان- من الرَّيّ، اسم عَلمٌ على باب من أبواب الجنّة، يختصّ بالدخول منه الصائمون، وهو مما وقعت المناسبة فيه بين لفظه ومعناه؛ لأنه مشتقّ من الرّيّ، وهو مناسب لحال الصائمين، واكتفى بذكر الريّ عن الشبع؛ لأنه يدلّ عليه من حيث أنه يستلزمه، أو لكونه أشقّ على الصائم من الجوع. أفاده في "الفتح"

(2)

(لَا يَدْخُلُ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ) بالبناء للمفعول، هكذا في بعض نسخ مسلم، وفي كثير من نسخه:"فإذا دخل أولهم أُغلق". قال القاضي عياض وغيره: هو وَهَم، والصواب آخرهم.

(1)

- المصدر المذكور.

(2)

- فتح ج 4 ص 604.

ص: 107

(مَن دَخَلَ فِيهِ شَرِبَ) قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: أي عند الباب، ومتصلاً بالدخول، ولعلّ من يدخل من الأبواب الأُخَر لمِ يشرب عند الدخول متصلاً به، واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

(وَمنْ شَرِبَ، لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا) مضارع "ظَمِأَ" -بفتح، فكسر- كعَطِشَ، وزنا ومعنى، وقيل: الظمأ أشدّ العطش. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-43/ 2236 و 2237 - وفي "الكبرى" 43/ 2544 و 2545. وأخرجه (خ) في "الصوم" 1896 و"بدء الخلق" 3257 (م) في "الصيام" 1152 (ت) في "الصوم" 765 (ق) في "الصيام" 1640 (أحمد في باقي مسند الأنصار) 22311 و 22335. (ابن خزيمة) 1902 (ابن حبّان) 3420 و 3421. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): بيان عظمة فضل الصيام (ومنها): بيان كرامة الصائمين، حيث خصهم اللَّه تعالى على سائر الناس بدخولهم بباب الريان (ومنها): إثبات أبواب للجنة، ومن تلك الأبواب باب الريان مخصوص بالصائمين، فإذا دخلوا منه أُغلق، فلم يدخل منه أحد غيرهم (ومنها): فضل باب الريّان على غيره من الأبواب، حيث إن من دخله شرب عند الدخول، ثم لم يظما بعدُ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2237 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ

(2)

، قَالَ: حَدَّثَنِي سَهْلٌ، أَنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا، يُقَالُ لَهُ:"الرَّيَّانُ، يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ ، هَلْ لَكُمْ إِلَى الرَّيَّانِ؟ ، مَنْ دَخَلَهُ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر لحديث سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنهما ساقه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- لبيان أنه وقع فيه اختلاف على أبي حازم، بالرفع والوقف، فقد رواه عنه سعيد بن عبد الرحمن، مرفوعًا، وتابعه عليه سليمان بن بلال،

(1)

- "شرح السنديّ" ج 4 ص 168.

(2)

- وفي نسخة: "حدثنا أبو حازم".

ص: 108

عند الشيخين، وخالفه يعقوب بن عبد الرحمن، فرواه عنه موقوفًا، لكن الموقوف في مثل هذا له حكم الرفع، إذ لا مجال للرأي فيه، فلا اختلاف بينهما. واللَّه تعالى أعلم.

و"يعقوب بن عبد الرحمن" بن محمد بن عبد اللَّه بن عبدِ القاريّ المدنيُ، نزيل الإسكندرية، حليف بني زهرة، ثقة [8] 45/ 739.

والحديث موقوف صحيح، وله حكم الرفع، وهو متفق عليه مرفوعًا، دون جملة الظمأ

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2238 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكٌ، وَيُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ، يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، يُدْعَى مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، يُدْعَى مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، يُدْعَى مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ» ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى أَحَدٍ، يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ، مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ، مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ»).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أحمد بن عمرو بن السّرْح) أبو الطاهر المصريّ، ثقة [10] 35/ 39.

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمد، أبو عمرو المصريّ القاضي، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

3 -

(ابن وهب) هو عبد اللَّه المصريّ الحافظ، ثقة عابد [9] 9/ 9.

4 -

(مالك) بن أنس الإمام الحجة الفقيه المدنيّ [7] 7/ 7.

5 -

(يونس) بن يزيد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقة [7] 9/ 9.

6 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الإمام الحجة الحافظ المدنيّ [4] 1/ 1.

7 -

(حميد بن عبد الرحمن) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة [2] 32/ 725.

8 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا إلاسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى شيخه الحارث، فقد تفرّد به هو، وأبو داود. (ومنها): أنه

(1)

- انظر "صحيح النسائي" للشيخ الألباني 2/ 478.

ص: 109

مسلسل بالمدنيين من مالك، والباقون مصريون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - أحفظ من روى الحديث في دهره. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن حميد بن عبد الرحمن) بن عوف الزهريّ المدنيّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، قال ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: اتفق الرواة عن مالك على وصله، إلا يحيى بن بُكير، وعبد اللَّه بن يوسف، فإنهما أرسلاه، ولم يقع عند القعنبيّ أصلاً انتهى.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: أخرجه الدارقطنيّ في "الموطآت" من طريق يحيى بن بُكير، موصولاً، فلعله اختُلِف عليه فيه، وأخرجه أيضًا من طريق القعنبيّ، فلعله حدّث به خارج "المؤطإ" انتهى.

(عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَنْ أنفَقَ زَوْجَيْنِ") زاد إسماعيل القاضي عن أبي مصعب، عن مالك:"من ماله". والمراد بالزوجين إنفاق شيئين، من أيّ صنف من أصناف المال، من نوع واحد. والزوج يطلق على الواحد، وعلى الاثنين، وهو هنا على الواحد جزمًا.

وسيأتي توضيح معنى إنفاق الزوج في "الجهاد" 45/ 3185 من حديث أبي ذرّ

رضي الله عنه، رواه عنه صَعْصَعَةُ بنُ معاوية، قال: لقيت أبا ذرّ، قال: قلت: حَدِّثني، قال: نعم، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما من عبد مسلم، ينفق من كلّ مالٍ له زوجين، في سبيل اللَّه، إلا استقبلته حَجَبَة الجنّة كلّهم يدعوه إلى ما عنده"، قلت: وكيف ذلك؟ قال: إن كانت إبلاً، فبعيرين، وإن كانت بقرًا، فبقرين ".

(فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل) أي تصدّق في سبيل الخير مطلقًا، أو في الجهاد؛ كما هو المتبادر. قاله السنديّ

(1)

.

وقال في "الفتح" في "كتاب الصوم ": اختُلف في المراد به، فقيل: أراد الجهاد. وقيل: ما هو أعمّ انتهى

(2)

وقال في مناقب الصديق رضي الله عنه: قوله: "في سبيل اللَّه" أي في طلب ثواب اللَّه، وهو أعمّ من الجهاد وغيره من العبادات انتهى

(3)

(نُودِيَ في الْجَنَّةِ)"في" بمعنى "من"، كما في قول الشاعر [من الطويل]:

(1)

- "شرح السنديّ" ج 4 ص 169.

(2)

-"فتح" ج 4 ص 605.

(3)

-"فتح" ج 7 ص 379.

ص: 110

أَلَا عِمْ صَبَاحَا أَيُّهَا الطلَلُ الْبَالِي

وَهلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ فِي الْعُصُرِ الْخَالِي

وَهَلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ أَحْدَثُ عَهْدِهِ

ثَلَاِثينَ شَهْرًا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالِ

أي من ثلاثة أحوال، أي سنين

(1)

. والمعنى هنا أنه يُنادَى من أبواب الجنّة، يوضح هذا المعنى ما يأتي في "الزكاة"- 1/ 2439 - من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، بلفظ:"دعي من أبواب الجنّة".

قال في "الفتح": ومعنى الحديث أن كلّ عامل يُدعَى من باب ذلك العمل، وقد جاء ذلك صريحًا من وجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"لكلّ عامل باب من أبواب الجنّة، يُدعَى منه بذلك العمل". أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة بإسناد صحيح انتهى

(2)

.

وقد ثبت بيان الداعي فيما يأتي للمصنّف في "الجهاد" -45/ 3184 - ولفظه: "دَعَتْهُ خَزَنةُ الجنّة، من أبواب الجنّة، يا فلان هلمّ، فأدخل". وفي رواية للبخاريّ: "دعاه خَزَنة الجنّة، كلُّ خزنة بابٍ، أي فُلُ هَلُمَّ".

ولفظة "فلُ" لغة في فلان، وهي بالضمّ، مما يختصّ بالنداء، كما قال ابن مالك في

"الخلاصة":

وَفُلُ بَعْضُ مَا يَخْتَصّ بِالنِّدَا

لُؤْمَانُ نَوْمَانُ كَذَا وَاطَّرَدَا

فِي سَبّ الانْثَى وَزْنُ يَا خَبَاثِ

وَالأَمْرُ هَكَذَا مِنَ الثُّلَاثِ

وقيل: إنها ترخيم فلان، وعلى هذا يجوز فتح اللام، وضمها.

(يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَدَا خَيْرٌ) أي هذا العمل الذي عملته خيرٌ من الخيرات، والتنوين فيه للتعظيم، أي خيرٌ عظيمٌ، أو المراد: هذا الباب الذي تُدعَى إليه لتدخل منه خيرٌ، أي فيه خيرٌ كثيرٌ، وإنما قيل له هذا تعظيمًا له، وتشريفًا.

وقال في "الفتح": لفظ: "خير" بمعنى فاضل، لا بمعنى أفضل، وإن كان اللفظ قد يوهمِ ذلك، ففائدته زيادة ترغيب السامع في طلب الدخول من ذلك الباب انتهى

(3)

.

(فمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ) المراد تطوعاتها، أي من كان الغالب من أعماله الصلاة النافلة، وهكذا في الجهاد، وما بعده (يُدْعَى) وفي نسخة:"دُعي" في المواضع كلها (مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كانَ مِنْ أَهلِ الْجِهَادِ، يُدْعَى مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدقَةِ، يُدّعَى مِنْ بَابِ الصَّدقَةِ، وَمنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ") وقع

(1)

- راجع "مغني اللبيب" ج 1ص 169.

(2)

- "فتح" ج 7 ص 379.

(3)

- فتح ج7 ص 379.

ص: 111

في هذا الحديث ذكر أربعة أبواب من أبواب الجنّة، وقد ثبت في "الصحيحين"، وغيرهما أن أبواب الجنّة ثمانية، قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وبقي من الأركان الحجّ، فله باب بلا شك، وأما الثلاثة الأخرى:

(فمنها): "باب الكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس". رواه أحمد بن حنبل، عن روح بن عُبادة، عن أشعث، عن الحسن، مرسلاً:"إن للَّه بابًا في الجنّة لا يدخله إلا من عفا عن مظلمة".

(ومنها): الباب الأيمن، وهو باب المتوكّلين، الذي يدخل منه من لا حساب عليه، ولا عذاب.

وأما الثالث، فلعلّه باب الذكر، فإن عند الترمذيّ ما يومئ إليه، ويحتمل أن يكون باب العلم. واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون بالأبواب التي يُدعى منها أبوابٌ من داخل أبواب الجنّة الأصليّة؛ لأن الأعمال الصالحة أكثر عددًا من ثمانية. واللَّه أعلم انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاحتمال الأخير هو الأقرب عندي. واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ: أَبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ) رضي الله عنه (يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى أَحَدٍ" "ما" نافية، والجارّ والمجرور خبر مقدّم (يُدّعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ) الجملة صفة "أحد"(مِنْ ضَرُورَةِ)"من" زائدة، و"ضرورة" مبتدأ مؤخر. يعني أنه ليس على الشخص الذي يُدعَى من أيّ باب من تلك الأبواب ضررٌ يلحقه أبدًا، لأن مآله الفوز بنعيم الجنّة.

وفي الرواية الآتية في "الجهاد" من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"فقال أبو بكر: يا رسول اللَّه، ذاك الذي لا تَوَى عليه". والتّوَى الضَّيّاع، والخسارة.

ويحتمل أن يكون المعنى أن من دُعي من باب من تلك الأبواب ليست له حاجةٌ إلى أن يُدعَى من جميِع الأبواب، إذ الباب الواحد يكفي لدخوله الجنّة. واللَّه تعالى أعلم.

(فَهَلْ يُدْعَى أحَدٌ، من تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا) لقيامه بالأعمال الموجبة لها (قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ") أي نعم يُدعى من جميع تلك الأبواب، وفي الحديث إشعار بقلّة من يُدعَى من تلك الأبواب كلها، وفيه أيضًا إشارة إلى أن المراد ما يتطوّع به من الأعمال المذكورة، لا واجباتها؛ لكثرة من يجتمع له العمل بالواجبات كلها، بخلاف التطوّعات، فقلّ من يجتمع له العمل بجميع أنواع التطوّعات.

ثم من يجتمع له ذلك إنما يدعى من جميع الأبواب على سبيل التكريم له، وإلا فدخوله إنما يكون من باب واحد، قال الحافظ: ولعله باب العمل الذي يكون أغلب عليه. واللَّه أعلم.

ص: 112

وأما ما أخرجه مسلم عن عمر رضي الله عنه:"من توضّأ، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه

" الحديث، وفيه: "فُتحت له أبواب الجنّة، يدخل من أيها شاء". فلا ينافي ما تقدّم، وإن كان ظاهره أنه يعارضه؛ لأنه يُحمل على أنها تفتح له على سبيل التكريم، ثم عند دخوله لا يدخل إلا من باب العمل الذي يكون أغلب عليه، كما تقدّم. واللَّه أعلم

(1)

.

(وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ) قال الإمام ابن حبّان -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بعد أن أخرج الحديث: ما نصّه: قال أبو حاتم: "عَسَى" من اللَّه واجب، و"أرجو" من النبيّ صلى الله عليه وسلم حقّ انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قال العلماء: الرجاء من اللَّه تعالى، ومن نبيّه صلى الله عليه وسلم واقع. وبهذا التقرير يدخل الحديث في فضائل أبي بكر. ووقع في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن حبّان في نحو هذا الحديث التصريح بالوقوع لأبي بكر، ولفظه:"قال: أجل، وأنت هو يا أبا بكر". انتهى

(3)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-43/ 2238 و 2439 وفي "الجهاد"20/ 3135 و 45/ 3183 و 3184 - وفي "الكبرى" 43/ 2546 وفي "الجهاد" 41/ 4392 و 4393. وأخرجه (خ) في "الصوم" 1897 وفي "الجهاد" 2841 وفي "بدء الخلق" 3216 وفي "المناقب" 3666. (م) في "الزكاة" 1027 و"المناقب" 3674 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7577 و 8572 (الموطأ) في "الجهاد"1021. (ابن حبّان) في "الصوم" 3419 و3420. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): بيان فضل الصوم (ومنها): أن من أكثر من شيء عُرف به (ومنها): أن أعمال البرّ قلّ أن تجتمع جميعها لشخص واحد على السواء (ومنها): أن الملائكة يحبّون صالحي بني آدم، ويفرحون بهم (ومنها): أن الإنفاق كلما كان أكثر كان أفضل (ومنها):

(1)

- راجع "الفتح" ج 7 ص 379 - 380.

(2)

- "صحيح ابن حبّان" ج 8 ص 208 رقم الحديث 3419.

(3)

-"فتح" ج 7 ص380.

ص: 113

أن تمنّي الخير في الدنيا والآخرة مطلوب (ومنها): بيان منقبة عظيمة لأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، حيث حتمعت له أنواع الخيرات، حتى استحقّ أن يُدعَى من أبواب الجنّة كلها (ومنها): أنه وقع في "الجهاد" 45/ 3184 من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ "من أنفق زوجين في سبيل اللَّه دعته خزنة الجنّة من أبواب الجنّة يا فلانُ هَلُمّ فأدخل"، وفي رواية البخاريّ: "دعاه خزنة الجنّة كل خزنة باب أي فُلُ هلم

" الحديث.

فقال المهلّب -رحمه اللَّه تعالى-: في هذا الحديث أن الجهاد أفضل الأعمال؛ لأن المجاهد يُعطَى أجر المصلي، والصائم، والمتصدّق، وإن لم يفعل ذلك؛ لأن باب الريّان للصائمين، وقد ذكر في هذا الحديث أن المجاهد يدعى من تلك الأبواب كلها بإنفاق قليل المال في سبيل اللَّه انتهى.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وما جرى فيه على ظاهر الحديث يردّه ما في رواية أحمد من الزيادة في الحديث، قال فيه:"لكلّ عمل باب يُدعَون بذلك العمل". وهذا يدلّ على أن المراد بسبيل اللَّه ما هو أعمّ من الجهاد وغيره من الأعمال الصالحات انتهى

(1)

وهو تَعَقُّب جيد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2239 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ شَبَابٌ، لَا نَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، عَلَيْكُمْ بِالْبَاءَةِ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمود بن غيلان) العدويّ مولاهم، أبو أحمد المروزيّ، ثم البغداديّ، ثقة [10] 33/ 37.

2 -

(أبو أحمد) محمد بن عبد اللَّه بن الزبير بن عمرو بن درهم الأسديّ الزبيريّ الكوفيّ، ثقة ثبت، إلا أنه قد يخطئ في حديث الثوري [9] 43/ 2239.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ الإمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.

4 -

(الأعمش) سليمان بن مِهران الكاهليّ مولاهم الكوفيّ ثقة ثبت، يدلس [5] 17/ 18.

5 -

(عُمارة بن عُمير) التيميّ الكوفيّ، ثقة ثبت [4] 49/ 608.

6 -

(عبد الرحمن بن يزيد) بن قيس النخعيّ، أبو بكر الكوفيّ، أخو الأسود، ثقة،

(1)

- فتح ج 6 ص 135. رقم 2841.

ص: 114

من كبار [3] 37/ 41.

7 -

(عبد اللَّه) بن مسعود الصحابيّ الجليل - رضي اللَّه تعالى عنه - 35/ 39. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه كما مرّ آنفًا. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه، أنه (قالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ شَبَابٌ) -بفتح الشين، وتخفيف الموحّدة: جمع شابّ، ويجمع على شَبَبَة -بالتحريك- وشُبّان-بضم أوله، والتثقيل: اسم لمن بلغ إلى أن يكمل ثلاثين، ثم هو كهل، إلى أن يجاوز الأربعين. وقيل: غير ذلك.

(لَا نَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) أي مما يتزوّج به من المال (قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ) إنما خصّ الشباب بالخطاب لأن الغالب وجود قوة الدواعي فيهم إلى النكاح بخلاف الشيوخ، وإن كان المعنى معتبرًا إذا وُجد السبب في الكهول والشيوخ أيضًا.

(عَلَيْكُمْ بالْبَاءَةِ) بالمدّ، والهاء على الأفصح، يطلق على الجماع، والعقد، والظاهر أن المراد هَهنا العقد، وضمير (فإنه) يرجع إليه على أن المراد به الجماع بطريق الاستخدام، وتذكيره لملاحظة المعنى. ويحتمل أن المراد الجماع، والمراد عليكم أن تجامعوا النساء بالوجه المعلوم شرعًا. قاله السنديّ

(1)

.

وقال في "النهاية": يعني النكاح والتزوُّج، يقال فيها: الباء، والباءة، وقد يُقصَر، وهو من الْمَبَاءة؛ لأن من تزوّج امرأة بوّأها منزلاً. وقيل: لأن الرجل يتبوّأ من أهله، أي يستمكن كما يتبوّأ من منزله انتهى

(2)

.

(فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ) أي أشدّ غضًا، أي خفضًا للعين، فلا تنظرُ إلى ما لا يحلّ النظر إليه. يقال: غَضَّ الرجلُ صوتَهُ، وطَرْفَه، ومن صوته غَضّا، من باب قتل: خَفَض. قاله في "المصباح"(وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ،) أي أشدّ إحصانًا له، ومنعًا من الوقوع في الفاحشة (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ) قال الأندلسيّ في "شرح المفصّل ": الإغراء لا يكون إلا للمخاطب،

(1)

- "شرح السنديّ" ج 4 ص 169 - 170.

(2)

- "النهاية" ج 1ص161.

ص: 115

فلا يجوز "فعليه بزيد"، وأما "فعليه بالصوم"، فإنما حسن لتقدّم الخطاب في أول الحديث "عليكم بالباءة"، كأنه قال: ومن لم يستطع منكم، فالغائب في الخبر في معنى المخاطب انتهى. وسيأتي تمام البحث في هذا في "كتاب النكاح"، إن شاء اللَّه تعالى.

وفيه فضيلة للصوم، حيث كان مانعًا عن الوقوع في المعاصي، وهذا هو أصل الحكمة في مشروعيته، كما قال اللَّه تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. وفيه أيضًا أن تشريك النيّة في مثل ذلك لا يضرّ بإخلاص العبادة، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر الشباب بالصوم لكسر شهواتهم، فيدلّ على أنه إذا صام الإنسان احتسابًا، وكسرًا لشهوته جاز صومه، ونال الأجر، ومثل ذلك من يصوم احتسابًا، وتخفيفًا للسمن، ونحو ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

(فَإِنَّهُ) أي الصوم (لَهُ) أي للفرج ("وِجَاءٌ") بكسر الواو، والمدّ، قال في "النهاية": الوِجَاء أن تُرَضّ أُنثَيَا الفحل رَضّا شديدًا، يُذهِب شهوة الجماع، ويتنزّلُ في قطعه منزلةَ الخَصْي، وقد وُجِىء وِجَاءً، فهو مَوْجُوءٌ. وقيل: هو أن تُوجَأ العروق، والْخُصيتان

(1)

بحالهمَا، أراد أن الصوم يقطع النكاح كما يقطع الوجاءُ. وروي "وَجًى" بوزن عَصَا، يريد التعب والْحَفَى، وذلك بَعِيدٌ، إلا أن يراد فيه معنى الفتور؛ لأن من وُجِىء فَتَرَ عن المشي، فشَبَّهَ الصوم في باب النكاح بالتعب في باب المشي انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عبد اللَّه بن مسعود هذا متفق عليه، وسيأتي تمام شرحه، والكلام على مسائله في "النكاح""باب الحثّ على النكاح" -3/ 3206 - إلى 3211 - إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2240 -

(أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ، لَقِيَ عُثْمَانَ بِعَرَفَاتٍ، فَخَلَا بِهِ، فَحَدَّثَهُ، وَأَنَّ عُثْمَانَ، قَالَ لاِبْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ لَكَ فِي فَتَاةٍ، أُزَوِّجُكَهَا، فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ، عَلْقَمَةَ، فَحَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ، فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثان لرواية الأعمش، فـ"سليمان": هو الأعمش المذكور في السند الماضي. و "إبراهيم": هو النخعيّ. وهذا الإسناد مما ذُكِر أنه

(1)

- قال في "القاموس": الْخُصْيُ، والْخُصْيَة -بضمّهما، وكسرهما: من أعضاء التناسل. انتهى.

(2)

-"النهاية" ج 5 ص 152.

ص: 116

أصحّ الأسانيد، وهي ترجمة الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه. والحديث متفق عليه.

وقوله: "لقي عثمان بعرفات" وفي الرواية الآتية في "النكاح" بمنى، وهي التي في "صحيح البخاريّ". ولعله كلّمه في الموضعين. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "فخلا به" يعني اعتزل عثمان بعبد اللَّه بن مسعود عن الناس؛ لئلا يستمعوا إلى ما يشير عليه، من أمر النكاح. وقوله:"فحدثه" الضمير المرفوع لعلقمة، والمنصوب لإبراهيم: أي حدث علقمةُ إبراهيم النخعي.

وقوله: "وأن عثمان قال إلخ" هكذا نسخ "المجتبى""وأن" بواو العطف، ووقع في "الكبرى" بدون واو، والظاهر أن ما في "الكبرى" هو الصواب، فيكون قوله:"أن عثمان قال إلخ" مفعولاً ثانيًا لـ "حدث" وضمير "حدث" لعلقمة: أي حدَّث علقمةُ إبراهيم النخعي قولَ عثمان لابن مسعود: هل لك إلخ. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "فدعا عبدُ اللَّه علقمةَ" أي لأنه كان أولاً أمره بالابتعاد عنه ظانًا أن عند عثمان سِرًّا، لا يُفشَى، فلما علم أنه أمر النكاح، وأنه لا رغبة له فيه دعا علقمة ليشارك في سماع حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي أراد ذكره لعثمان رضي الله عنهما.

وقوله: "فحدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم" هكذا نسخ "المجتبى" بضمير النصب: أي حدث ابنُ مسعود عثمان رضي الله عنهما، ووقع في "الكبرى" بلفظ "فحدث" واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "من استطاع منكم الباءة الخ": قال المازريّ -رحمه اللَّه تعالى-: ليس المراد بالباءة في هذا الحديث الجماع على ظاهره؛ لأنه قال: "ومن لم يستطع، فليصم"،ولو كان غير مستطيع للجماع لم تكن له حاجة للصوم. وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: لا يبعد أن يكون الاستطاعتان مختلفتين، فيكون المراد أوّلاً بقوله:"من استطاع منكم الباءة" الجماعَ، أي من بلغه، وقدر عليه، فليتزوّج، ويكون قوله بعد:"ومن لم يستطع" يعني على الزواج المذكور، ممن هو بالصفة المتقدّمة، فليصم.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين، يرجعان إلى معنى واحد:

أصحهما: أن المراد معناها اللغويّ، وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع؛ لقدرته على مؤنه، وهي مؤن النكاح، فليتزوّج، ومن لم يستطع الجماع؛ لعجزه عن مؤنه، فليه بالصوم.

والثاني: أن المراد هنا بالباءة مُؤَنُ النكاح، سمَيت باسم ما يلازمها، وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح، فليتزوّج، ومن لم يستطع، فليصم، والذي حمل القائلين لهذا على هذا أنهم قالوا: العاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم؛ لدفع الشهوة، فوجب تأويل

ص: 117

الباءة على المؤن. وأجاب الأولون بما قدمناه: أن تقديره: ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه، وهو يحتاج إلى الجماع، فليصم انتهى

(1)

.

وسيأتي تمام البحث فيه في "كتاب النكاح" إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2241 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ، فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هَذا طريق ثالث لحديث الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة بن قيس، والأسود بن يزيد كلاهما عن ابن مسعود رضي الله عنه. والحديث متفق عليه.

و"هارون بن إسحاق": أبو القاسم الكوفيّ، صدوق، من صغار [10].

و"المحاربيّ": هو عبد الرحمن بن محمد بن زياد الكوفيّ، لا بأس به [9] 43/ 2224.

[تنبيه]: سيأتي للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "النكاح" بعد سوقه الحديث من هذا الوجه: ما نصّه: قال عبد الرحمن: الأسود في هذا الحديث ليس بمحفوظ انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: معنى كلامه أن زيادة الأسود مع علقمة في هذا الإسناد غير محفوظة، وإنما المحفوظ أن إبراهيم يرويه عن علقمة فقط، كما رواه الحفاظ عن الأعمش، فقد رواه عنه شعبة، وأبو معاوية، وعليّ بن هاشم عند المصنّف، وأبو حمزة السكّري، وحفص بن غياث، عند البخاريّ، وجرير بن عبد الحميد، عند مسلم وعلي ابن مُسهر، عند ابن ماجه سبعتهم عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه، فخالف المحاربيّ هؤلاء، فزاد الأسود مع علقمة، وهو وإن كان ثقة، إلا أنه كثير الغلط، كما في ترجمته في "تهذيب التهذيب" جـ2 ص 550 - فتكون زيادته شاذّة مردودة، كما أشار إليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2242 -

(أَخْبَرَنِي هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، وَمَعَنَا عَلْقَمَةُ وَالأَسْوَدُ، وَجَمَاعَةٌ، فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثٍ، مَا رَأَيْتُهُ، حَدَّثَ بِهِ الْقَوْمَ، إِلاَّ مِنْ أَجْلِي، لأَنِّي كُنْتُ أَحْدَثَهُمْ سِنًّا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ، فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» .

قَالَ عَلِيٌّ: وَسُئِلَ الأَعْمَشُ، عَنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ، قَالَ: نَعَمْ).

(1)

- انظر "زهر الربى" ج 4 ص 170 - 171.

ص: 118

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وشيخ شيخه، فإنهما من أفراده، وهما ثقتان، وكلهم تقدّموا، غير:

1 -

(عليّ بن هاشم) بن الْبَرِيد -بفتح الموحّدة، وبعد الراء تحتانيّة ساكنة- الْبَرِيديّ العائذّي مولاهم، أبي الحسن الكوفيّ الْخَزّاز، صدوق يتشيّع، من صغار [8].

قال حنبل، عن أحمد: ليس به بأس. وقال عبد اللَّه، عن أبيه: ما أرى به بأسًا. وقال ابن أبي خيثمة وغير واحد، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو الحسن بن البرّاء، عن ابن المدينيّ: كان صدوقًا. زاد الباغنديّ، عن ابن المدينيّ: وكان يتشيّع. وقال غيره، عن عليّ: ثقة. وكذا قال يعقوب بن شيبة. وقال الجوزجانيّ: كان هو وأبوه غاليين في مذهبهما. وقال أبو زرعة: صدوق. وقال أبو حاتم: كان يتشيّع، وُيكتَب حديثُه. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: سئل عنه عيسى بن يونس؟ فقال: أهل بيت تشيُّع، وليس ثَمَّ كَذِبٌ. وقال ابن سعد: كان صالح الحديث صدوقًا. وقال النسائيّ: ليس به بأس.

وقال ابن عديّ: حدّث عنه جماعة من الأئمة، وَيروِي في فضائل عليّ رضي الله عنه -أشياء لا يرويها غيره، وهو إن شاء اللَّه صدوق، لا بأس به. ووثقه العجليّ. وضعَّفه الدارقطنيّ. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، ثم ذكره في "الضعفاء"، وقال: كان غاليًا في التشيّع، وروى مناكير عن المشاهير. وقال اللالكائيّ: له في مسلم حديثان.

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: سمعت منه سنة (179) -أول سنة طلبت الحديث- مجلسًا، ثم عُدت إليه المجلسَ الآخر، وقد مات. وقال ابن المثنى: مات سنة (80) وقال محمد بن عبد اللَّه الحضرميّ، ويعقوب بن شيبة: سنة (81).

روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله عند المصنف أربعة أحاديث: برقم 2242 و 3246 و 3303 و 4446.

و"هلال بن عليّ"، وأبوه تقدما قبل باب. و"عمارة": هو ابن عمير المذكور قبل حديثين.

وقوله: "ما رأيته حدث به القوم الخ" هو قول عبد الرحمن بن يزيد، أي ما ظنننت ابن مسعود رضي الله عنه حدّثَ القوم بهذا الحديث إلا من أجلي؛ فالرؤية تأتي بمعنى الظن، كما تأتي بمعنى اليقين، وقد اجتمعا في قوله تعالى:{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} ، أي يظنونه بعيداً، ونعلمه يقينًا قريبًا.

أراد عبد الرحمن أن سبب تحديث عبد اللَّه بهذا الحديث من أجله؛ لكونه أشدّ حاجةً إلى النكاح، حيث كان أحدث عُمْرًا منهم، فتشتدّ شهوته. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "قال عليّ الخ" هو عليّ بن هاشم الراوي عن الأعمش. أراد به أن الأعمش حينما حدّث بهذا الحديث عن عُمارة بن عمير، عن الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه

ص: 119

- رضي الله عنه، سألوه عن حديث إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه، هل هو مثل حديث عُمارة، عن عبد الرحمن؟ فقال: نعم.

فقوله: "فقال" فاعل "قال" ضمير السائل المفهوم من "سُئل"، وقوله:"عن إبراهيم الخ" مقول القول، بتقدير الاستفهام، أي هل يُروَى عن إبراهيم الخ، وفاعل "قال: نعم" ضمير الأعمش. ووقع في "الكبرى" "وسأله الأعمش عن حديث إبراهيم الخ، والظاهر أنه تصحيف. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث من هذا الوجه أخرجه البخاريّ في "النكاح" -5066 - ومسلم فيه- 1450. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2243 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ عِنْدَ عُثْمَانَ، فَقَالَ: عُثْمَانُ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فِتْيَةٍ، فَقَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ ذَا طَوْلٍ، فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَا، فَالصَّوْمُ لَهُ وِجَاءٌ»).

قال الجامع عفا اللَّه تعالىَ عنه: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدموا غير مرّة. و"إسماعيل": هو ابن عليّة.

[تنبيه]: وقع في هذا الحديث في "الكبرى" نقص، وتصحيف عجيب، ودونك نصّه:

2551/ 22 - أنبأ عمرو بن زرارة، قال: أنبا إسماعيل، وهو عند عثمان، فقال عثمان:"خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليّ -يعني قتيبة- فقال: "من كان منكم ذا طول، فليتزوّج، فإنه أغضّ للطرف، وأحصن للفرج، ومن لا فالصوم له وجاء" انتهى.

فسقط من قوله: قال: حدثنا يونس إلى قوله: مع ابن مسعود، وصحّف "على" الجارّة إلى "عليّ" الجار والمجرور، وصحف "فتية" جمع فَتىَ، إلى "قتيبة"، إن هذا لشيء عجيب!!!.

والحديث من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وفيه مخالفة لروايات الأعمش السابقة، حيث إن فيها أن الحديث لابن مسعود، لا لعثمان رضي الله عنهما، فخالفه أبو معشر، فجعل الحديث لعثمان رضي الله عنه، وهو وإن كان ثقة، فالأعمش يُرجّح عليه، فتقدّم روايته، ولذا أخرجها الشيخان في "صحيحيهما". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ثم تكلّم المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- على مسألة مهمة، وهي الفرق بين أبي معشر زياد

ص: 120

ابن كُليب الحنظليّ الكوفيّ، وأبي معشر نجيح السنديّ المدنيّ، فقال:

قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: أَبُو مَعْشَرٍ هَذَا، اسْمُهُ زِيَادُ بْنُ كُلَيْبٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَهُوَ صَاحِبُ إِبْرَاهِيمَ، رَوَى عَنْهُ مَنصُورٌ، وَمُغِيرَةُ، وَشُعْبَةُ.

وَأَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنيُّ

(1)

، اسْمُهُ نَجِيحٌ

(2)

، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَمَعَ ضَعْفِهِ أَيْضًا، كَانَ قَدِ اخْتَلَطَ، عِنْدَهُ أَحَادِيثُ مَنَاكِيرُ، منها:

مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالمَغرِبِ قِبْلَةٌ".

وَمِنْهَا هِشَامُ بْنُ عُروَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ، وَلَكِنِ انْهَسُوا نَهْسًا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا بيان الفرق بين أبي معشر، زياد بن كُليب الحنظليّ الكوفيّ، وأبي معشر نَجيح بن عبد الرحمن السِّنْدِيّ المدنيّ، فقد يلتبس أحدهما بالآخر، حيث إنهما من طبقة واحدة.

فأما الأول: فاسمه زياد بن كُلَيب الحنظليّ، أبو مشعر الكوفيّ، روى عنه الأئمة: منصور بن المعتمر، ومغيرة بن مقسم الضبّيّ، وشعبة، وغيرهم، وهو ثقة، من الطبقة السادسة، مات سنة (119) أو (120) وهو من رجال الجماعة، إلا البخاريّ، وابن ماجه. وتقدّم في 188/ 300.

وأما الثاني: فاسمه نَجِيح بن عبد الرحمن السنديّ المدنيّ، مولى بني هاشم، ضعيف، من الطبقة السادسة أيضًا، أَسَنَّ، واختلط، مات سنة (170) وهو من رجال أبي داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وقد ذكره المصنّف في هذا الباب، وليس له رواية عنده.

وهذا الذي قاله المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- من توثيق الأول، وتضعيف الثاني، قاله غيره من الأئمة أيضًا:

فأما الأول، فقد وثّقه ابن المدينيّ، وأبو جعفر السمتيّ، والعجليّ، وقال ابن حبّان: كان من الحفّاظ المتقنين

(3)

.

وأما الثاني، فقد ضعفه يحيى القطّان، وابن معين، وأبو داود، وقال البخاريّ: منكر

(1)

- وفي نسخة: "المدينيّ".

(2)

-بفتح النون، وكسر الجيم، فما وقع في النسخة المصريّة من "المجتبى" من ضبطه بالقلم بضم النون، مصغرًا فتصحيف. فتنبّه.

(3)

- انظر ترجمته في "ت" ص 111 و"تت" ج1 ص 652.

ص: 121

الحديث. وقال أحمد: مضطرب لا يقيم الإسناد، أَكتُبُ حديثه أعتبر به. وقال أيضًا: يُكتب من حديث أبي معشر أحاديثه عن محمد بن كعب في التفسير. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت محمد بن بكّار بن الريّان يقول: كان أبو معشر تغيّر قبل أن يموت تغيّرًا شديدًا، حتى كان يخرج منه الريح، ولا يشعر بها

(1)

.

ثم ذكر المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- من مناكير أبي معشر حديثين:

(أحدهما): ما رواه عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ما بين المشرق والمغرب قبلة".

والحديث أخرجه الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "الجامع"، فقال:

342 حدثنا محمد بن أبي معشر، حدثنا أبي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما بين المشرق والمغرب قبلة".

حدثنا يحيى بن موسى، حدثنا محمد بن أبي معشر مثله.

قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة، قد روي عنه من غير هذا الوجه، وقد تكلم بعض أهل العلم في أبي معشر، من قبل حفظه، واسمه نَجِيح، مولى بني هاشم، قال محمد

(2)

: لا أروي عنه شيئا، وقد رَوَى عنه الناس، قال محمد: وحديث عبد اللَّه بن جعفر الْمَخْرَمي، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، أقوى من حديث أبي معشر، وأصح. انتهى.

والثاني: ما أخرجه أبو داود -رحمه اللَّه تعالى- في "سننه"، فقال:

3778 حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا أبو معشر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقطعوا اللحم بالسكين، فإنه من صنيع الأعاجم، وانهسوه، فإنه أهنأ، وأمرأ". قال أبو داود: وليس هو بالقوي. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- انظر ترجمته في "ت" ص 356 و"تت" ج 4 ص 214 - 215.

(2)

-يعني البخاريّ.

ص: 122

‌44 - (بَابُ ثَوَابِ مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، وَذِكْرِ الاخْتِلَافِ عَلَى سُهَيلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ فِي الْخَبَرِ فِي ذَلِكَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن أنس بن عياض رواه عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وتابعه عليه سعيد بن عبد الرحمن، وخالفهما أبو معاوية، وشعبة، ويزيد بن الهاد، وحميد بن الأسود، وابن جريج:

فرواه أبو معاوية، عن سهيل، عن المقبريّ، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. ورواه شعبة، عن صفوان بن أبي يزيد، عن أبي سعيد. ورواه ابن الهاد، وحميد بن الأسود، وابن جريج، ثلاثتهم عن سهيل، عن النعمان بن أبي عياش، عن أبي سعيد.

والحديث صحيح، مروي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومن حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنهما، فيكون سهيل رواه عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعن النعمان بن أبي عياش، وصفوان بن أبي يزيد، والمقبريّ، ثلاثتهم عن أبي سعيد رضي الله عنه.

وقد أخرجه الشيخان من رواية سهيل بن أبي صالح، عن النعمان بن أبي عياش، عن أبي سعيد، ومن رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وسهيل، كلاهما عن النعمان، عنه. كما هي الرواية الآتية للمصنّف آخر الباب.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وقد اختُلف في إسناده على سهيل، فرواه الأكثر عنه هكذا -يعني عن النعمان بن أبي عياش، عن أبي سعيد- وخالفهم شعبة عنه، فرواه عن صفوان بن أبي يزيد، عن أبي سعيد، أخرجه النسائيّ، ولعلّ لسهيل فيه شيخين. وأخرجه النسائيّ أيضًا من طريق أبي معاوية، عن سهيل، عن المقبريّ، عن أبي سعيد، ووَهِمَ فيه أبو معاوية، وإنما يرويه المقبريّ، عن أبي هريرة، لا عن أبي سعيد، وإنما رواه سهيل من حديث أبي هريرة، عن أبيه، عنه، لا عن المقبريّ، كذلك أخرجه النسائيّ، من طريق سعيد بن عبد الرحمن، عن سهيل، عن أبيه. وكذا أخرجه أحمد، عن أنس بن عياض، عن سهيل انتهى كلام الحافظ

(1)

.

(1)

- "فتح" ج 6 ص 134.

ص: 123

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كان الأولى للحافظ أن يعزو رواية أنس بن عياض إلى المصنّف أيضًا فقد أخرجها من روايته أيضًا في أول هذا الباب، فتنبّه.

والحاصل أن الحديث صحيح من رواية سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعن سهيل، عن صفوان بن أبي يزيد، والنعمان بن أبي عياش، كلاهما عن أبي سعيد رضي الله عنه.

وأما رواية أبي معاوية، عن سهيل، عن المقبريّ، عن أبي سعيد، فقد قال المصنّف في "الكبرى":

قال أبو عبد الرحمن: هذا خطأ، لا نعلم أحدًا تابع أبا معاوية على هذا الإسناد انتهى. ووَهَّمَه أيضًا الحافظ في كلامه السابق.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لا يقال: لا مانع من تصحيح رواية أبي معاوية أيضًا، لأن أبا معاوية ثقة، فتقبل روايته، كما قبلت رواية شعبة، مع مخالفته للجماعة، ولم يتابعه أحد، فيكون لسهيل في حديث أبي سعيد ثلاثة من الشيوخ: النعمان بن أبي عياش، كما في رواية الجماعة عنه، وصفوان بن أبي يزيد، كما في رواية شعبة عنه، والمقبريّ كما في رواية أبي معاوية عنه.

لأنا نقول: أبو معاوية، وإن كان من أوثق الناس في الأعمش، إلا أنه في غيره لا يحمدونه، فقد قال الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى-: أبو معاوية الضرير في غير حديث الأعمش مضطرب، لا يحفظها حفظًا جيّدًا، وكذا نُقِلَ نحوُ هذا عن غير أحمد، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 3/ 551 - 552. فيعلم من هذا أنه مما أخطأ فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2244 -

(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسٌ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا، فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، زَحْزَحَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، بِذَلِكَ الْيَوْمِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يونس بن عبد الأعلى) الصدفيّ المصريّ، ثقة، من صغار [10] 25/ 2163.

2 -

(أنس) بن عياض، أبو ضمرة الليثيّ المدنيّ، ثقة [8] 22/ 1229.

3 -

(سهيل بن أبي صالح) ذكون السمّان المدنيّ، صدوق، تغيّر بآخره [6] 32/ 820.

4 -

(أبوه) ذكوان السمان الزيّات المدنيّ، ثقة ثبت [3] 36/ 40.

5 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 124

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمصريّ. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَنْ صَامَ يَوْمًا، فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل) أي في الجهاد، أو في أعمّ منه. قال في "النهاية": السبيل في الأَصل الطريق، ويذكّر ويؤنّث، والتأنيث فيها أغلب، وسبيلُ اللَّه عامّ يقع على كلّ عمل خالص للَّه، سُلِك به طريق التقرّب إلى اللَّه تعالى بأداء الفرائض والنوافل، وأنواع الطاعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال، كأنه مقصور عليه انتهى

(1)

.

وقال ابن الجوزيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إذا أُطلِقَ ذكرُ سبيل اللَّه، فالمراد به الجهاد. وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: سبيل اللَّه طاعة اللَّه، فالمراد من صام قاصدًا وجه اللَّه.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ويحتمل أن يكون ما هو أعمّ من ذلك، ثم وجدته في "فوائد أبي الطاهر الذهليّ" من طريق عبد اللَّه بن عبد العزيز الليثيّ، عن المقبريّ، عن أبي هريرة، بلفظ: "ما من مرابط يُرابط في سبيل اللَّه، فيصوم يومًا في سبيل اللَّه

" الحديث.

وقال ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى-: العرف الأكثر استعماله في الجهاد، فإن حمل عليه كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين، قال: ويحتمل أن يراد بسبيل اللَّه طاعته كيف كانت، والأول أقرب.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن دقيق العيد من ترجيح كون المراد بسبيل اللَّه هو الجهاد هو الظاهر عندي. واللَّه تعالى أعلم.

قال: ولا يعارض ذلك أن الفطر في الجهاد أولى؛ لأن الصائم يضعف عن اللقاء؛ لأن الفضل المذكور محمول على من لم يخش ضعفًا، ولا سيّما من اعتاد به، فصار ذلك من الأمور النسبيّة، فمن لم يضعفه الصوم عن الجهاد، فالصوم في حقّه أفضل؛

(1)

- "النهاية" ج 2 ص 338 - 339.

ص: 125

ليجمع بين الفضيلتين. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: سيأتي حكم الصيام في السفر، واختلاف أهل العلم فيه بعد باب إن شاء اللَّه تعالى.

(زَحْزَحَ اللَّه وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ) ببناء الفعل للفاعل: أي أبعده من النار، وأراد بالوجه ذاته، وإنما عبّر به؛ لأن الإنسان أول ما يواجه الشيء يكون بوجهه، فإذا أبعد اللَّه وجهه عن مواجهة النار، فبالأحرى إبعاد سائر أجزائه عنها. واللَّه تعالى أعلم (بِذَلِكَ الْيَوْم) الباء سببيّة، أي بسبب صوم ذلك اليوم (سَبْعِينَ خَرِيفًا) قال في "النهاية": أن نحّاه، وباعده عن النار مسافة تُقطع في سبعين سنة؛ لأنه كلما مرّ خريف، فقد انقضت سنة.

وقال التوربشتيّ: كانت العرب تؤرّخ أعوامها بالخريف؛ لأنه كان أوان جِدَادهم، وقِطَافهم، وإدراك غلّاتهم، وكان الأمر على ذلك حتى أرّخ عمر رضي الله عنه بسنة الهجرة انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": الخريف زمان معلوم من السنة، والمراد هنا العامُ، وتخصيص الخريف بالذكر، دون بقية الفصول -الصيف، والشتاء، والربيع- لأن الخريف أزكى الفصول؛ لكونه تُجنَى فيه الثمار. ونقل الفاكهيّ أن الخريف تجتمع فيه الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، دون غيره، ورُدّ بأن الربيع كذلك. قال القرطبيّ: وَرَدَ ذكرُ السبعين لإرادة التكثير كثيرًا انتهى.

ويؤيّده-كما قال الحافظ- ما يأتي للمصنّف في الباب التالي من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وما رواه الطبرانيّ عن عمرو بن عَبَسَة، وأبو يعلى عن معاذ بن أنس، فقالوا جميعا في رواياتهم:"مائة عام"

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 44/ 2244 و 2246 - وفي "الكبرى" 44/ 2552 و 2553. وأخرجه (ت) في "الجهاد" 1633 (ق) في "الصيام" 1718 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين"

(1)

- "الفتح" ج 6 ص 133 - 134.

(2)

- انظر "زهر الربى" ج4 ص172.

(3)

- المصدر السابق.

ص: 126

7930.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2245 -

(أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَاعَدَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ، بِذَلِكَ الْيَوْمِ، سَبْعِينَ خَرِيفًا»).

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه:

1 -

(داود بن سليمان بن حفص) العَسْكَريّ، أبي سَهْل الدقّاق السّامَرِّيّ، مولى بني هاشم، لقبه بُنَان، صدوق [10].

قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي، وهو صدوق. وقال النسائيّ في "أسماء شيوخه": شُويخٌ كتبنا عنه بالثَّغْر، صدوق. وقال الخطيب: ثقة. فإنه ممن انفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط، وابن ماجه، وله عنده حديثان.

و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير الكوفيّ. و"المقبريّ": هو سعيد بن أبي سعيد كيسان المدنيّ.

والحديث من أفراد المصنّف، أخرجه هنا- 44/ 2244 - وفي "الكبرى" 44/ 2554. وتقدم أن المصنّف ضعفه، وكذا وهّم الحافظ أبامعاوية في "الفتح". فراجع ما سبق تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2246 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي

(1)

سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ يَوْمًا، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَاعَدَ اللَّهُ عز وجل، وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، سَبْعِينَ خَرِيفًا» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الحديث رجال الصحيح، غير شيخه، إبراهيم بن يعقوب الْجُوزَجَانيّ الحافظ الثبت [11] 122/ 174، فقد انفرد به هو، وأبو داود، والترمذيّ.

و"ابن أبي مريم": هو سعيد بن الحكم بن محمد الْجُمَحيّ المصريّ الثقة الثبت الفقيه، من كبار [10] 3/ 2098. من رجال الجماعة.

و"سعيد بن عبد الرحمن": هو الجمحيّ المدنيّ، المتقدّم في الباب الماضي.

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 127

والحديث صحيح، وقد سبق الكلام فيه قبل حديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2247 -

(أَخْبَرَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ صَفْوَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، بَاعَدَ اللَّهُ وَجْهَهُ مِنْ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ عَامًا» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير:

1 -

(صفوان) بن أبي يزيد، ويقال: ابن سُليم الحجازيّ المدنيّ، مقبول [4].

روى عن أبي سعيد الخدريّ، وعن حصين، وقيل: غيره. وعنه ابنه الحجاج، وسهيل بن أبي صالح، وعبيد اللَّه بن أبي جعفر، ومحمد بن عمرو بن علقمة. ذكره ابن حبَّان في "الثقات". تفرّد به البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا 2247 وفي "كتاب الجهاد" حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا "لا يجتمع غبار في سبيل اللَّه، ودخان جهنم في جوف عبد أبدًا

" الحديث، كرره ست مرات: برقم 3110 و 3111 و 3112 و 3113 و 3114 و 3115.

و"محمد": هو ابن جعفر المعروف بـ"غندر".

والحديث صحيح، وهو بهذا الإسناد من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وسيأتي أنه متّفقٌ عليه، لكن من رواية سهيل، عن النعمان بن أبي عيّاش، وهي الرواية التالية.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2248 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا، فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، إِلاَّ بَعَّدَ اللَّهُ عز وجل، بِذَلِكَ الْيَوْمِ، وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ

(2)

، سَبْعِينَ خَرِيفًا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده، وهو ثقة فقيه.

و"شعيب": هو ابن الليث بن سعد. و"ابن الهاد": هو يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد المدنيّ. وكلهم تقدموا غير:

1 -

(النعمان بن أبي عيّاش): الأنصاريّ الزُّرَقِيّ، أبي سلمة المدنيّ، ثقة [4].

قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات".

(1)

- وفي نسخة: "حدثنا".

(2)

- وفي نسخة: "من النار".

ص: 128

وقال أبو بكر بن منجويه: كان شيخًا كبيرًا، من أفاضل أبناء أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. روى له الجماعة، سوى أبي داود، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، كرره ستّ مرّات: برقم 2248 و 2249 و 2250 و 2251 و 2252 و 2253.

والحديث متفق عليه، أخرجه المصنّف هنا -44/ 2246 و 2247 و 2248 و 2249 و 2250 و 45/ 2251 و 2252 و 2252 و 2253 - وفي "الكبرى" 44/ 2555 و 2556 و 2557 و 2558 و 45/ 2559 و 2560 و 25561. وأخرجه (خ) في "الجهاد" 2840 (م) في "الصيام" 2704 و 2705 و 2706. (ت) في "كتاب فضائل الجهاد"1623. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2249 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ يَوْمًا، فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، بَاعَدَهُ اللَّهُ عَنِ النَّارِ، سَبْعِينَ خَرِيفًا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح غير شيخه، فقد انفرد به هو، والترمذيّ، وابن ماجه، وهو بصريّ صدوق [10] 47/ 1731. وكلهم تقدّموا غير:

1 -

(حميد بن الأسود) بن الأشقر البصريّ، أبي الأسود الكرابيسيّ، صدوق يَهِم قليلاً [8].

قال أبو حاتم: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الأثرم عن أحمد: سبحان اللَّه ما أنكر ما يجيء به. وقال العقيليّ في "الضعفاء": كان عفّان يَحمِل عليه؛ لأنه روى حديثًا منكرًا. وقال الساجيّ، والأزديّ: عنده مناكير. وقال الحاكم، عن الدارقطنيّ: ليس به بأس. روى له الجماعة سوى مسلم، أخرج له البخاريّ مقرونًا بغيره في موضعين، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

والحديث متفق عليه، كما سبق بيانه في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2250 -

(أَخْبَرَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إِهَابٍ

(1)

، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، سَمِعَا النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا، فِي سَبِيلِ اللَّهِ تبارك وتعالى، بَاعَدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، سَبْعِينَ خَرِيفًا» ).

(1)

- وفي نسخة: "يهاب"، والظاهر أنه تصحيف.

ص: 129

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه مؤمّل ابن إهاب الكوفيّ، نزيل الرملة، صدوق له أوهام [11] فانفرد به هو، وأبو داود. و"يحيى بن سعيد": هو الأنصاريّ المدنيّ.

والحديث أخرجه الشيخان من هذا الوجه، رواه البخاريّ، عن إسحاق بن نصر- ومسلم عن إسحاق بن منصور- وعبدِ الرحمن بنِ بشر العبديّ- ثلاثتهم عن عبد الرزّاق، عن يحيى بن سعيد، وسهيل بن أبي صالح به.

قال في "الفتح": وسهيل بن أبي صالح لم يُخرج له البخاريّ موصولاً إلا هذا، ولم يحتجّ به؛ لأنه قرنه بيحيى بن سعيد انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌45 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِيهِ)

(2)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن يزيد العَدَنيّ رواه عن سفيان، عن سهيل بن أبي صالح، عن النعمان بن أبي عياش، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وتابعه عليه قاسم بن يزيد، وخالفهما ابن نمير، فرواه عن سفيان، عن سُميّ، عن النعمان، عن أبي سعيد رضي الله عنه.

لكن مثل هذا الاختلاف لا يضرّ بصحّةَ الحديث، فإن عبد اللَّه بن نمير ثقة حافظ، فيحمل على أن سفيان رواه عن شيخين: سهيل، وسميّ، كلاهما عن النعمان، عن أبي سعيد رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2251 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ، نَيْسَابُورِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ الْعَدَنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَصُومُ عَبْدٌ يَوْمًا، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلاَّ بَاعَدَ اللَّهُ

(1)

- "فتح" ج6 ص 134.

(2)

- سقطت لفظ "فيه" من بعض النسخ.

ص: 130

تَعَالَى، بِذَلِكَ الْيَوْمِ النَّارَ عَنْ وَجْهِهِ، سَبْعِينَ خَرِيفًا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الحديث عندهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا، غير اثنين:

1 -

(عبد اللَّه بن مُنِير) -بضمّ الميم، وكسر النون- أبي عبد الرحمن المروزيّ الزاهد الحافظ، ثقة عابد [11].

قال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الفربري: قال البخاريّ: حدثنا عبد اللَّه بن مُنِير، ولم أر مثله. قال الفربريّ: وابن منير مروزيّ، سكن فربر، وتوفي بها سنة (243) وقال أبو القاسم اللالكائيّ: مات بفربر في ربيع الآخر سنة (243).

روى عنه البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

2 -

(يزيد) بن أبي حكيم الكنانيّ، أبو عبد اللَّه العَدَنيّ، صدوق [9].

قال الآجرّيّ، عن أبي داود: لا بأس به، وقد سألته عنه، والفريابيّ؟ فقال: الفريابيّ أعلى. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: صالح الحديث، وكنت عزمت على الخروج إليه، فخالفني رفيقي، وركب السفينة، ولم ينتظرني، فتركت الخروج إلى صنعاء، وخرجت إلى مصر. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث، ومات بعد (220) أو فيها.

أخرج له البخاريّ، والمصنف، والترمذيّ، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: قوله: "الْعَدَنيّ" وقع في بعض النسخ بدله: ("العدانيّ") بألف بعد الدال، وهو تصحيف، فتنبّه.

والحديث متفق عليه، وتقدم البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2252 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ، حَرَّ جَهَنَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، سَبْعِينَ خَرِيفًا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن حرب": هو الطائيّ الموصليّ، صدوق [10] 102/ 135 من أفراد المصنّف.

و"قاسم": هو ابن يزيد الْجَرميّ، أبو يزيد الموصليّ، ثقة عابد [9] 102/ 135.

ص: 131

من أفراد المصنّف أيضًا، والباقون تقدّموا في الذي قبله.

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2253 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي، حَدَّثَكُمُ ابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ يَوْمًا، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ، النَّارَ عَنْ وَجْهِهِ، سَبْعِينَ خَرِيفًا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح غير شيخه:

1 -

(عبد اللَّه بن أحمد بن محمد بن حنبل) الشيبانيّ، أبي عبد الرحمن، وَلَد الإمام المشهور، ثقة [12].

قال عباس الدُّوريّ: سمعت أحمد يقول: قد وَعَى عبد اللَّه علمًا كثيرًا. وقال الخُطَبيّ: بلغني عن أبي زرعة، قال: قال أحمد: ابني عبد اللَّه محظوظ من علم الحديث، أو من حفظ الحديث -إسماعيل بن عليّ يشكّ- لا يكاد يذاكر إلا بما لا أحفظ. وقال أبو عليّ الصوّاف: قال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل: كلّ شيء أقول: قال أبي، فقد سمعته مرتين أو ثلاثًا. وقال ابن أبي حاتم: كتب إليّ بمسائل أبيه، وبعلل الحديث. وقال أبو الحسين بن المنادي: لم يكن في الدنيا أحد أروى عن أبيه منه؛ لأنه سمع منه "المسند"، وهو ثلاثون ألفًا، و"التفسير"، وهو مائة وعشرون ألفًا، سمع منه ثمانين ألفًا، والباقي وجادة، و"الناسخ والمنسوخ"، و"التاريخ"، و"حديث شعبة"، و"جوابات القرآن"، و"المناسك"، وغير ذلك من التصانيف، وحديث الشيوخ، قال: وما زلنا نرى أكابر شيوخنا يشهدون له بمعرفة الرجال، وعلل الحديث، والأسماء، والكنى، والمواظبة على الطلب حتى إن بعضهم أسرف في تقريظه إياه بالمعرفة، وزيادة السماع على أبيه. وقال ابن عديّ: نَبُلَ بأبيه، وله في نفسه محلّ في العلم، ولم يَكتُب عن أحد إلا من أمره أبوه أن يكتب عنه. وقال بدر بن أبي بدر البغداديّ: عبد اللَّه بن أحمد جِهْبذٌ ابن جِهْبِذ. وقال الخطيب: كان ثقة ثبتًا فَهِمًا. وقال النسائيّ: ثقة. وقال السلميّ: سألت الدارقطنيّ عن عبد اللَّه بن أحمد، وحنبل بن إسحاق؛، فقال: ثقتان نبيلان. وقال أبو بكر الخلّال: كان عبد اللَّه رجلاً صالحًا، صادق اللَّهْجة، كثير الحياء. وقال أبو عليّ بن الصوّاف: وُلد سنة (213) ومات سنة (290) وكذا أرّخه إسماعيل الْخُطَبيّ، وزاد: في جمادى. تفرّد به المصنّف، روى عنه حديثين فقط: أحدهما هذا، والثاني في "كتاب قطع السارق" رقم -4879 - حديث قطع سارق بردة صفوان بن أميّة رضي الله عنه.

ص: 132

و"ابن نُمير": هو عبد اللَّه بن نمير الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة ثبت، من كبار [9] 25/ 1664.

و"سُميّ": هو مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ثقة [6] 22/ 540.

وقال المصنّف في "الكبرى" في هذا الحديث:

قال أبو عبد الرحمن: وهو مولى لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المدنيّ، روى عنه مالك، وقال يحيى بن سعيد القطّان: القعقاع بن حكيم أحبّ إليّ من سُميّ. قال أبو عبد الرحمن: وكلاهما عندي ثقة، وسُميّ أحبّ إلينا من سُهيل بن أبي صالح. انتهى

(1)

.

والحديث متفق عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2254 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ، عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، بَاعَدَ اللَّهُ مِنْهُ جَهَنَّمَ، مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمود بن خالد": هو السلميّ، أبو عليّ الدمشقيّ، ثقة، من صغار [10] 45/ 595.

و"محمد بن شعيب": هو الدمشقيّ، نزيل بيروت، صدوق صحيح الكتاب، من كبار [9] 6/ 1190.

و"يحيى بن الحارث": هو الذماريّ، أبو عمرو الشاميّ القارئ، ثقة [5] 10/ 1381.

و"القاسم أبو عبد الرحمن": هو ابن عبد الرحمن الدمشقيّ، صاحب أبي أمامة، صدوق يرسل كثيرًا [3] 67/ 1813.

و"عقبة بن عامر": هو الجهنيّ الصحابيّ المشهور رضي الله عنه 108/ 144.

والسند مسلسل بالشاميين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "مسيرة مائة عام".

[إن قلت]: بينه وبين الروايات السابقة بلفظ: "باعد اللَّه بذلك اليوم النار عن وجهه سبعين خريفًا" تعارض ظاهرًا، فكيف يُجمع بينهما.

[قلت]: يجاب عن ذلك بجوابين:

(1)

- راجع "السنن الكبرى" ج2 ص98 رقم 2561.

ص: 133

(أحدهما): أن يحمل على أنّ المراد التكثير، لا التحديد.

(الثاني): أن اللَّه تعالى وعد الصائم بإبعاد جهنّم عنه مسيرة سبعين خريفًا، ثم تفضّل عليه فزاده حتى كان مسيرة مائة عام. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف، أخرجه هنا-45/ 2254 - وفي "الكبرى" 45/ 2562. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌46 - (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ)

2255 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(سفيان) بن عُيينة الهلاليّ، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت [8] 1/ 1.

3 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم، أبو بكر المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [4] 1/ 1.

4 -

(صفوان بن عبد اللَّه) بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحيّ القرشيّ المكيّ، كان زوج الدرداء بنت أبي الدرداء، ثقة [3].

قال ابن سعد: كان قليل الحديث. وقال النسائيّ: ثقة. وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم، وابن ماجه، وله عندهم في الدعاء بظهر الغيب. وأخرج له المصنّف حديث الباب فقط.

5 -

(أم الدرداء) الصغرى، زوج أبي الدرداء، اسمها هُجَيمة، وقيل: جُهَيمة بنت حُييّ الأوصابية الدمشقية، ذكرها ابن سُمَيع في الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام. وقال أبو زرعة الدمشقيّ: سمعت أبا مسهر يقول: أم الدرداء الصغرى هُجَيمة بنت حُيَيّ

ص: 134

الوصّابيّة، وأم الدرداء الكبرى خَيْرَة بنت أبي حَدْرَد. وقال أبو أحمد العَسَّال: أم الدرداء الصغرى هي التي يُروى عنها الحديث الكثير، وكانت أم الدرداء الكبرى صحابيّة. وقال الوليد بن مسلم، عن عثمان بن أبي العاتكة، وابن جابر: كانت أم الدرداء يتيمة في حجر أبي الدرداء تختلف مع أبي الدرداء في برنس تُصلي في صفوف الرجال، وتَجلس في حلق القرّاء حتى قال لها أبو الدرداء: الحقي بصفوف النساء. وقال أبو الزاهريّة، عن جُبير بن نُفير، عن أم الدرداء، أنها قالت لأبي الدرداء: إنك خطبتني إلى أبويّ في الدنيا، فأنكحوني، وإني أخطبك إلى نفسك في الآخرة، قال: فلا تَنكحي بعدي، فخطبها معاوية، فأخبرته بالذي كان، فقال: عليك بالصيام. وقال رُديح بن عطيّة المقدسيّ، عن إبراهيم بن أبي عَبْلة، عن أم الدرداء أن رجلاً أتاها، فقال: إن رجلاً نال منك عند عبد الملك، فقالت: إن نُؤَبَّن

(1)

بما ليس فينا، فطالما زُكّينا بما ليس فينا. وقال عبد ربّه بن سليمان بن زيتون: حجت أم الدرداء سنة إحدى وثمانين. وقال ابن حبّان في "الثقات": كانت تُقيم ستة أشهر ببيت المقدس، وستة أشهر بدمشق، وماتت بعد سنة (81)، وكانت من العابدات. ووقع عند البيهقيّ اسمها حمامة، فينظر. روى لها الجماعة، ولها عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(كعب بن عاصم) الأشعريّ، قال البغويّ: سكن مصر. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ليس من البرّ الصيام في السفر"، وعنه أم الدرداء، رُوي عن جابر بن عبد اللَّه عنه حديث آخر. والصحيح أنه غير أبي مالك الأشعريّ الذي يروي عنه عبد الرحمن بن غَنْم، فإن ذلك معروف بكنيته، مختلف في اسمه، وهذا معروف باسمه، ولا تعرف له كنية، وإن كان قد قيل في ذلك: إن اسمه كعب بن عاصم، فإنه أحد ما قيل في اسمه. تفرّد به المصنّف، وابن ماجه، وله عندهما هذا الحديث فقط. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح إلا الصحابيّ كما مر آنفًا. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن صحابيه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا هذا الحديث عند المصنّف، وابن ماجه فقط، كما مرّ آنفًا. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

-أي نُعَب، يقال: أَبَنَه، وأبْنه تأبينًا: عابه في وجهه. قاله في "ق".

ص: 135

شرح الحديث

(عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:"لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ"، "البرّ" -بكسر الباء- أي الطاعة والعبادة. يعني أن الصوم في حال السفر ليس طاعة مشروعة.

قال الزركشيّ: "من" زائدة لتأكيد النفي. وقيل: للتبعيض، وليس بشيء. وتعقّبه البدر الدمامينيّ: فقال: هذا عجيب لأنه أجاز ما المانع منه قائم، ومنع ما لا مانع منه، وذلك أن من شروط زيادة "من" أن يكون مجرورها نكرة، وهو في الحديث معرفة، وهذا هو المذهب المعوّل عليه، وهو مذهب البصريين؛ خلافًا اللأخفش، والكوفيين، وأما كونها للتبعيض فلا وجه لمنعه، إذ المعنى: إن الصوم في السفر ليس معدودًا من أنواع البرّ. كذا ذكره القسطّلانيّ.

وهذا عند الجمهور محمول على ما يتضرّر به صاحبه، كما سيأتي تحقيق ذلك قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

[تنبيه]: هذا الحديث باللفظ المذكور -أعني "ليس من البرّ الصيام في السفر" هو المشهور، كما رواه المصنّف، وابن ماجه، والدارميّ، والطحاويّ، والبيهقيّ، وقد جاء بـ"أم" بدل "ال"، رواه الإمام أحمد في "مسنده" جـ5 ص 434، فقال:

23167 -

حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن صفوان بن عبد اللَّه، عن أم الدرداء، عن كعب بن عاصم الأشعري، وكان من أصحاب السَّقِيفَة، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس من البر الصيام في السفر" انتهى.

وهذا الإسناد وإن كان صحيحًا، إلا أن الظاهر أنه بهذا اللفظ شاذّ، والمحفوظ هو اللفظ الأول. راجع "إرواء الغليل" 4/ 58 - 59 للشيخ الألباني -رحمه اللَّه تعالى-. ورواه بإسنادين آخرين باللفظ الأول.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذه لغة لبعض أهل اليمن، يجعلون لام التعريف ميما، ويحتمل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم خاطب بها هذا الأشعريّ؛ لأنها لغته، ويحتمل أن يكون الأشعريّ هذا نطق بها على ما أَلِفَ من لغته، فحملها الراوي عنه، وأداها باللفظ الذي سمعها منه، وهذا الثاني أوجه عندي. واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

وقال الزمخشريّ: هي لغة طيّئ، فإنهم يبدلون اللام ميما. وقال الجزريّ في "جامع

(1)

- "التلخيص الحبير" ج2 ص393. طبعة مؤسسة قرطبة.

ص: 136

الأصول" جـ7 ص 546: الميم بدل من لام التعريف في لغة قوم من اليمن، فلا ينطقون بلام التعريف، ويجعلون مكانها الميم انتهى.

وقال ابن هشام الأنصاريّ في "مغني اللبيب" عند الكلام على أقسام "أم": ما نصّه: (الرابع): أن تكون للتعريف، نُقِلَت عن طيء، وعن حمير، وأنشدوا [من الخفيف]:

ذَاكَ خَلِيلي وَذُو يُوَاصِلُنِي

يَرْمِي وَرَائِي بِامْسَهْمِ وَامْسَلِمَهْ

وفي الحديث: "ليس من امبرم امصيام في امسفر". كذا رواه النمر بن تَوْلَب رضي الله عنه

(1)

وقيل: إن هذه اللغة مختصّة بالأسماء التي لا تدغم لام التعريف في أولها، نحو غلام، وكتاب، بخلاف رجل، وناس، ولباس. وحكى لنا بعض طلبة اليمن أنه سمع في بلادهم من يقول: خذ الرمح، واركب امفرس، ولعلّ ذلك لغة لبعضهم، لا لجميعهم، ألا ترى إلى البيت السابق، وأنها في الحديث دخلت على النوعين انتهى كلام ابن هشام

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث كعب بن عاصم - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، وهو متفق عليه من حديث جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما -، كما سيأتي للمصنّف في الأبواب التالية، إن شاء اللَّه تعالى.

(الممسالة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-46/ 2255 - وفي "الكبرى" 46/ 2563. وأخرجه (ق) في "الصيام" (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23167 (الدارمّي) في "الصوم" 1710. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): اختلف القائلون بجواز الصوم في السفر -وهم الجمهور، كما سيأتي في المسألة التالية- في تأويل حديث:"ليس من البرّ الصيام في السفر" المذكور في الباب على أقوال:

فذهب بعضهم إلى أنه قد خرج على سبب، فيقتصر عليه، وعلى من كان في مثل

(1)

- الحديث مشهور بكعب بن عاصم، ولا أدري من أين أخذه ابن هشام؟.

(2)

- راجع "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" ج1 ص48 - 49.

ص: 137

حاله، وإلى هذا جنح المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- حيث قال في الباب التالي:"العلة التي من أجلها قيل ذلك"، ثم أورد حديث جابر رضي الله عنه الآتي، وكذا جنح إليه البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-، حيث ترجم بقوله:[باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لمن ظُلّل عليه، واشتدّ الحرّ: "ليس من البرّ الصوم في السفر"]، ولذا قال الطبريّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن ساق نحو حديث الباب من رواية كعب بن عاصم الأشعريّ، ولفظه:"سافرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ونحن في حرّ شديد، فإذا رجل من القوم قد دخل تحت ظلّ شجرة، وهو مضطجع كضجعة الوجع، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما لصاحبكم، أيّ وجع به؟ "، فقالوا: ليس به وَجَعٌ، ولكنه صائم، وقد اشتدّ عليه الحرّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم حينئذ: "ليس البرّ أن تصوموا في السفر، عليكم برخصة اللَّه التي رخّص لكم". فكان قوله صلى الله عليه وسلم ذلك لمن كان في مثل ذلك الحال.

وقال ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى-: أُخِذَ من هذه القصّة أن كراهة الصوم في السفر مختصّة بمن هو في مثل هذه الحالة ممن يُجهِده الصوم، ويشقّ عليه، أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينزّل قوله:"ليس من البرّ الصوم في السفر" على مثل هذه الحالة.

قال: والمانعون في السفر يقولون: إن اللفظ عامّ، والعبرة بعمومه، لا بخصوص السبب.

قال: وينبغي أن يُتنبّه للفرق بين دلالة السياق، والقرائن الدالة على تخصيص العامّ، وعلى مراد المتكلّم، وبين مجرّد ورود العامّ على سبب، فإن بين العامّين فرقًا واضحًا، ومن أجراهما مجرى واحدًا لم يصب، فإن مجرد ورود العامّ على سبب لا يقتضي التخصيص به، كنزول آية السرقة في قصّة سرقة رداء صفوان. وأما السياق، والقرائن الدّالّة على مراد المتكلّم، فهي المرشدة لبيان المجملات، وتعيين المحتملات، كما في حديث الباب.

وقال ابن المنيّر في "الحاشية": هذه القصّة تُشعر بأن من اتفق له مثل ما لذلك الرجل أنه يساويه في الحكم؛ وأما من سلم من ذلك ونحوه، فهو في جواز الصوم على أصله. واللَّه أعلم.

وحمل الشافعيّ نفي البرّ المذكور في الحديث على من أبى قبول الرخصة، فقال: معنى قوله: "ليس من البرّ" أن يبلغ رجل هذا بنفسه في فريضة صوم، لا نافلة، وقد أرخص اللَّه تعالى له أن يفطر، وهو صحيح. قال: ويحتمل أن يكون معناه ليس من البرّ المفروض الذي من خالفه أَثِمَ. وجزم ابن خزيمة وغيره بالمعنى الأول.

ص: 138

وقال الطحاويّ: المراد بالبرّ هنا البرّ الكامل الذي هو أعلى مراتب البرّ، وليس المراد به إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برًّا؛ لأن الإفطار قد يكون أبرّ من الصوم، إذا كان للتقوي على لقاء العدوّ مثلاً، قال: وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين بالطوّاف

" الحديث، فإنه لم يرد إخراجه من أسباب المسكنة كلها، وإنما أراد أن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يجد غنى يُغنيه، ويستحى أن يسأل، ولا يفطن له انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن القول الأول الذي جنح إليه البخاريّ، والمصنف، وابن خزيمة وغيرهم هو الأرجح، جمعًا بين الأدلّة.

وحاصله أن حديث الباب محمول على من تضرّر بالصوم، وأما من لم يتضرّر فلا يتناوله الحديث واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الصوم في السفر:

اختلف السلف في هذه المسألة، فقالت طائفة: لا يجزئ الصوم في السفر عن الفرض، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر؛ لظاهر قوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس من البرّ الصوم في السفر"، ومقابل البرّ الإثم، وإذا كان آثمًا بصومه لم يجزئه، وهذا قول بعض أهل الظاهر، ومنهم ابن حزم، وحكى عن عمر، وابن عمر، وأبي هريرة، والزهريّ، وإبراهيم النخعي، وغيرهم.

واحتجّوا بقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} الآية. قالوا: ظاهره، فعليه عدة، أو فالواجب عدّة. وتأوله الجمهور بأن التقدير، فأفطر، فعدّة.

ومقابل هذا القول قول من قال: إن الفطر في السفر لا يجوز إلا لمن خاف على نفسه الهلاك، أو المشقّة الشديدة. حكاه الطبريّ عن قوم.

وذهب أكثر العلماء، ومنهم مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه، ولم يشقّ عليه.

وقال كثير منهم: الفطر أفضل؛ عملاً بالرخصة، وهو قول الأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق.

وقال آخرون: هو مخير مطلقًا. وقال آخرون: أفضلهما أيسرهما؛ لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} الآية. فإن كان الفطر أيسر عليه، فهو أفضل في حقّه، وإن كان الصيام أيسر، كمن يسهل عليه حينئذ، ويشقّ عليه قضاؤه بعد ذلك، فالصوم في حقّه أفضل، وهو قول عمر بن عبد العزيز، واختاره ابن المنذر.

ص: 139

قال الحافظ: والذي يترجّح قول الجمهور، ولكن قد يكون الفطر أفضل لمن اشتدّ عليه الصوم، وتضرر به، وكذلك من ظُنّ به الإعراض عن قبول الرخصة، كما تقدّم نظيره في المسح على الخفّين.

وقد رَوَى أحمد من طريق أبي طعمة، قال: قال رجل لابن عمر: إني أقوى على الصوم في السفر، فقال له ابن عمر: من لم يقبل رخصة اللَّه كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة، وهذا محمول على من رغب عن الرخصة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من رغب عن سنتي فليس مني"، وكذلك من خاف على نفسه العجب، أو الرياء إذا صام في السفر، فقد يكون الفطر أفضل له.

وقد أشار إلى ذلك ابن عمر رضي الله عنهما، فروى الطبريّ من طريق مجاهد، قال: إذا سافرت، فلا تصم، فإنك إن تصم قال أصحابك: اكفوا الصائم، ارفعوا للصائم، وقاموا بأمرك، وقالوا: فلان صائم، فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك.

ومن طريق مجاهد أيضًا عن جنادة بن أميّة، عن أبي ذرّ رضي الله عنه نحو ذلك. وسيأتي للمصنّف -52/ 2283 - من طريق مُوَرّق العجليّ، عن أنس رضي الله عنه نحو هذا، مرفوعًا، حيث قال صلى الله عليه وسلم للمفطرين حيث خَدَموا الصوّام:"ذهب المفطرون اليوم بالأجر". متفق عليه.

واحتجّ من منع الصوم أيضًا بما وقع من الزيادة في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ الْكَدِيد أفطر، فأفطر الناس". متفق عليه، فقد زاد مسلم من طريق الليث، عن الزهريّ:"قال: وكان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث، فالأحدث من أمره". قالوا: إن صومه صلى الله عليه وسلم في السفر منسوخ.

وتُعُقّب أوّلاً بأن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهري، وبأنه استند إلى ظاهر الخبر من أنه صلى الله عليه وسلم أفطر بعد أن صام، ونَسَبَ من صام إلى العصيان.

ولا حجة في شيء من ذلك؛ لأن مسلمًا أخرج من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم صام بعد هذه القصّة في السفر، ولفظه:"سافرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ونحن صيام، فنزلنا منزلاً، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنكم قد دنوتم من عدوّكم، والفطر أقوى لكم، فأَفْطِرُوا"، فكانت رخصة، فمنا من صام، ومنا من أفطر، فنزلنا منزلاً، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنكم مصبّحوا عدوّكم، فالفطر أقوى لكم، فأَفْطِروا، فكانت عزيمة، فأَفْطَرنَا، ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر".

قال الحافظ: وهذا الحديث نصٌّ في المسألة، ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم -

ص: 140

الصائمين إلى العصيان؛ لأنه عزم عليهم، فخالفوا، وهو شاهد لما قلناه من أن الفطر لمن شق عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتقوي به على لقاء العدوّ.

وروى الطبريّ في "تهذيبه" من طريق خيثمة سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر، فقال: لقد أمرتُ غلامي أن يصوم، قال: فقلت له: فأين هذه الآية: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، فقال: إنها نزلت، ونحن نرتحل جياعًا، وننزل على غير شبع، وأما اليوم، فنرتحل شباعًا، وننزل على شبع، فأشار أنس إلى الصفة التي يكون فيها الفطر أفضل من الصوم.

وأما الحديث المشهور: "الصائم في السفر، كالمفطر في الحضر"، فقد أخرجه ابن ماجه، مرفوعًا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بسند ضعيف، وأخرجه الطبريّ من طريق أبي سلمة، عن عائشة، مرفوعًا أيضًا، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف. ورواه الأثرم من طريق أبي سلمة، عن أبيه، مرفوعًا، والمحفوظ: عن أبي سلمة، عن أبيه موقوفًا، كذلك أخرجه النسائيّ

(1)

، وابن المنذر، ومع وقفه فهو منقطعٍ؛ لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه، وعلى تقدير صحته، فهو محمول على ما تقدّم أولاً، حيث يكون الفطر أولى من الصوم، واللَّه أعلم انتهى كلام الحافظ

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الأرجح في هذه المسألة قول من قال: إن ما كان أيسر على المسافر من الصوم أو الفطر هو الأفضل، كما تقدّم عن عمر بن عبد العزيز، وابن المنذر --رحمهما اللَّه تعالى--؛ لأن اللَّه تعالى شرع الفطر للمرض، والسفر، بقوله:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، ثم أتبعه بقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، بيانا لحكمة تشريع الفطر للأمرين المذكورين، فكلّ ما كان أيسر على المكلّف كان هو محلّ إرادة الشارع.

والحاصل أن من يكون الصوم أيسر عليه من الفطر في حال السفر، ويشقّ عليه قضاؤه بعده يكون الصوم في حقّه أفضل، ومن كان الصوم عليه أشقّ فالفطر في حقّه أفضل، وكذا من ثقل على قلبه قبول الرخصة، فإن الفطر في حقّه أفضل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2256 -

(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» .

(1)

- يأتي للمصنف 53/ 2284 و 2285 و 2286.

(2)

- راجع "الفتح" ج4 ص693 - 695.

ص: 141

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ الَّذِي قَبْلَهُ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ ابْنَ كَثِيرٍ عَلَيْهِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، "إبراهيم بن يعقوب" الْجُوزجانيّ الحافظ الثبت، و"محمد بن كثير"، فقد تفرد بهما هو، وأبو داود، والترمذيّ، وكلهم تقدموا، سوى:

1 -

(محمد بن كثير) بن أبي عطاء الثقفيّ مولاهم، أبي يوسف الصنعانيّ -يقال: هو من صنعاء دمشق- نزيل الْمِصِّيصَة، صدوق كثير الغلط، من صغار [9].

قال البخاريّ: ضعفه أحمد، وقال: بَعَثَ إلى اليمن، فأُتي بكتاب، فرواه. وقال عبد اللَّه بن أحمد: ذَكَر أبي محمد بن كثير، فضعّفه جدًّا، وضعف حديثه عن معمر جدًّا، وقال: هو منكر الحديث، وقال: يروي أشياء منكرة. وقال صالح بن أحمد، عن أبيه: لم يكن عندي ثقة، بلغني أنه قيل له: كيف سمعت من معمر؟ قال: سمعت منه باليمن، بعث بها إلى إنسان من اليمن. وقال أبو داود: لم يكن يفهم الحديث. وقال أبو حاتم: كان رجلاً صالحًا سكن المصيصة، وأصله من صنعاء اليمن، وفي حديثه بعض الإنكار. وقال صالح بن محمد: صدوق كثير الخطإ. وقال البخاريّ: لين الحديث.

وعن ابن معين: صدوق، وروي عنه أنه قال: ثقة. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ كثير الخطإ. وقال الساجيّ: صدوق كثير الغلط. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقويّ عندهم. وقال ابن عديّ: له روايات عن معمر، والأوزاعيّ خاصّة عداد، لا يتابعه عليها أحد. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ ويُغْرِب. وقال ابن سعد: كان من صنعاء، ونشأ بالشام، ونزل المصيصة، وكان ثقة، ويذكرون أنه اختلط في آخر عمره، ومات سنة (216) وفيها أرخه البخاريّ، وزاد: يوم السبت لتسع عشرة مضت من ذي الحجة. وقال ابن أبي عاصم: مات سنة (17) وقال أبو داود: سنة (18) أو (19).

روى له أبو داود، والترمذيّ، وله عند المصنف في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا 2256 و 3336 حديث أنس رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا جلب، ولا جنب، ولا شغار في الإسلام".

وقول المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-: "هذا خطأ الخ" يعني أن كون الحديث من مرسل سعيد بن المسيّب خطأ، والصواب كونه من مسند كعب بن عاصم رضي الله عنه، كما رواه سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، في السند الذي قبل هذا، ثم أشار إلى أن الخطأ من محمد بن كثير، حيث تفرّد به، وهو كثير الخطأ، فيكون من جملة مناكيره التي رواها عن الأوزاعيّ، كما أشار إليها ابن عديّ في كلامه المتقدِّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب،

ص: 142

وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌47 - (الْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا قِيلَ ذَلِكَ، وَذِكْرِ الاخْتِلَافِ عَلَى مُحَمَدِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (فِي ذَلِكَ)

أي هذا باب ذكر الأحاديث التي بُيّن بها السببُ الذي من أجله قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ليس من البرّ الصيام في السفر".

وغرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- من هذه الترجمة أن قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البرّ الصيام في السفر" محمول على السبب الذي قيل من أجله، فيكون مقصورًا على السبب جمعًا بينه، وبين الأدلة الأخرى التي دلت على جواز الصوم في السفر.

ثم وَجْهُ الاختلاف الذي أشار إليه هنا أن عمارة بن غَزيّة رواه عن محمد بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، معنعنًا. ورواه شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعيّ، عن يحيي بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، قال: أخبرني جابر بن عبد اللَّه، فصرّح بالإخبار. ورواه الفريابيّ عن الأوزاعيّ، عن يحيي، عن محمد بن عبد الرحمن، قال: حدثني من سمع جابرًا رضي الله عنه، فجعله منقطعًا.

هذا حاصل ما أشار إليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وفيه إشارة إلى أنَّ محمد بن عبد الرحمن في الأسانيد الثلاثة واحد، وسيأتي أن الصواب أنهما رجلان: محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، وهو الواقع في سند عمارة بن غزيّة، والفريابيِّ، ومحمد ابن عبد الرحمن بن ثوبان، وهو الواقع في سند شعيب بن إسحاق، فلا تعارض بين الروايات، وسيأتي تمام البحث في ذلك عند الكلام على رواية الفريابيّ، إن شاء اللَّه تعالى.

[تنبيه]: أخرج الحديث المذكور البخاريّ في "صحيحه" عن آدم، عن شعبة، عن

ص: 143

محمد بن عبد الرحمن الأنصاريّ، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن عليّ، عن جابر ابن عبد اللَّه رضي الله عنهما

فقال في "الفتح": ما نصّه: أدخل محمد بن عبد الرحمن بن سعد بينه وبين جابر محمدَ بنَ عمرو بن الحسن في رواية شعبة عنه، واختلف في حديثه على يحيى بن أبي كثير، فأخرجه النسائيّ من طريق شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعيّ، عن يحيي، عن محمد بن عبد الرحمن، حدثني جابر بن عبد اللَّه

فذكره. قال النسائيّ

(1)

: هذا خطأ، ثم ساقه من طريق الفريابيّ، عن الأوزاعيّ، عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن، حدثني من سمع جابرًا، ومن طريق علي بن المبارك، عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن، عن رجل، عن جابر، ثم قال:

[ذِكرُ تسمية هذا الرجل المبهم]، فساق طريق شعبة، ثم قال: هذا هو الصحيح - يعني إدخال رجل بين محمد بن عبد الرحمن، وبين جابر.

وتعقّبه المزّيّ، فقال: ظنّ النسائيّ أن محمد بن عبد الرحمن شيخ شعبة في هذا الحديث هو محمد بن عبد الرحمن شيخ يحيي بن أبي كثير فيه. وليس كذلك؛ لأن شيخ يحيى هو محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وشيخ شعبة هو ابن عبد الرحمن بن سعد بن زُرَارة انتهى.

قال الحافظ: والذي يترجّح في نظري أن الصواب مع النسائيّ؛ لأن مسلمًا لما روى الحديث من طريق أبي داود، عن شعبة، قال في آخره: قال شعبة: كان بلغني هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير أنه كان يزيد في هذا الإسناد في هذا الحديث: "عليكم برخصة اللَّه الذي رَخَّصَ لكم"، فلما سألته لم يحفظه انتهى.

والضمير في "سألت" يرجع إلى محمد بن عبد الرحمن شيخ يحيى؛ لأن شعبة لم يلق يحيي، فدلّ على أن شعبة أَخبَرَ أنه كان يبلغه عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن، عن محمد بن عمرو، عن جابر في هذا الحديث زيادة، ولأنه

(2)

لما لقي محمد بن عبد الرحمن شيخ يحيى سأله عنها، فلم يحفظها.

وأما ما وقع في رواية الأوزاعيّ، عن يحيى أنه نسب محمد بن عبد الرحمن، فقال فيه "ابن ثوبان"، فهو الذي اعتمده المزيّ، لكن جزم أبو حاتم -كما نقله عنه ابنه في "العلل"- بأن من قال فيه:"عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان"، فقد وَهِمَ، وإنما هو ابن عبد الرحمن بن سعد انتهى.

(1)

- أي في "الكبرى".

(2)

- هكذا نسخة "الفتح"، ولعل الصواب:"وأنه لما لقي الخ" بإسقاط اللام. فليحرّر.

ص: 144

وقد اختلف فيه مع ذلك على الأوزاعيّ، وجلّ الرواة عن يحيي بن أبي كثير لم يزيدوا على "محمد بن عبد الرحمن"، لا يذكرون جدّه، ولا جدّ جدّه. واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ردّ به الحافظ كلام الحافظ المزّيّ فيه نظر، بل الصواب -واللَّه تعالى أعلم- ما قاله المزّيّ -رحمه اللَّه تعالى-، كما سيأتي بيانه في كلام الحافظ أبي الحسن ابن القطّان -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2257 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَأَى نَاسًا، مُجْتَمِعِينَ عَلَى رَجُلٍ، فَسَأَلَ، فَقَالُوا: رَجُلٌ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(بكر) بن مضر بن محمد بن حكيم، أبو محمد، أو أبو عبد الملك المصريّ، ثقة ثبت [8] 122/ 173.

3 -

(عمارة بن غَزِيّة) الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، لا بأس به [6] 168/ 1137.

4 -

(محمد بن عبد الرحمن) بنْ سعد بن زُرارة الأنصاريّ، وهو محمد بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة، ويقال: ابن محمد بدل عبد اللَّه، ومنهم من ينسبه إلى جدّه لأمه، فيقول: محمد بن عبد الرحمن بن أسعد

(2)

بن زرارة، ثقة [6] 40/ 946.

[تنبيه]: ظاهر تصرّف المصنّف أن محمد بن عبد الرحمن في رواية عمارة بن غزية هنا هو ابن ثوبان، لكن الصحيح أنه ابن سعد، فقد صرّح به ابن حبّان في "صحيحه"

(3)

-3556 - من طريق بشر بن المفضّل، قال: حدثنا عمارة بن غزية، عن محمد بن عبد الرحمن بن زُرارة

(4)

، و-3557 - من طريق بكر بن مضر عن عمارة، عن محمد بن عبدابرحمن بن سعد، وقد ذكر الحافظ أبو الحسن ابن القطان في كتابه "بيان الوهم والإيهام" أنه جاء مصرحًا به بأنه ابن سعد بن زُرارة في كتاب بَقِيّ بن مخلد.

(1)

- "فتح" ج 4 ص 696.

(2)

- وأسعد، وسعد ابنا زرارة أخوان صحابيان، معروفان أنصاريان من بني النجار.

(3)

- انظر "صحيح ابن حبان" بترتيب ابن بلبان ج 8 ص 321 - 322.

(4)

- نسبه إلى جدّه.

ص: 145

وسيأتي نصّ كلامه إن شاء اللَّه تعالى.

فتبيّن بهذا أن ما أشار إليه المصنّف من أن محمد بن عبد الرحمن في رواية عمارة بن غزية هو ابن ثوبان غير صحيح. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(جابر بن عبد اللَّه) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وبكر، فمصريان. (ومنها): أن فيه جابرًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبدِ اللَّهِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَأَى نَاسًا، مُجْتَمِعِينَ عَلَى رَجُلٍ) وفي الرواية التالية: "مرّ برجل في ظلّ شجرة، يُرشّ عليه الماء

"، وفي الرواية الآتية بعد باب من طريق محمد بن عمرو بن حسن، عن جابر رضي الله عنه: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، رأى رجلاً قد ظُلّل عليه في السفر

"، وفي رواية ابن خزيمة من طريق حماد بن سلمة: "فشقّ على رجل الصومُ، فجعلت راحلته تهيم به تحت الشجرة، فأُخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فأمره أن يفطر".

وقد بُيّن بالرواية الآتية من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن ذلك السفر كان إلى مكة عام الفتح في رمضان (فَسَأَلَ) وفي الرواية التالية:"قال: "ما بال صاحبكم هذا؟ " (فَقَالُوا: رَجُلٌ) قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: لم أقف على اسم هذا الرجل، ولولا ما قدّمته من أن عبد اللَّه بن رواحة استُشهِد قبل غزوة الفتح لأمكن أن يفسّر به؛ لقول أبي الدرداء: إنه لم يكن من الصحابة في تلك السفرة صائمًا غيرُهُ. وزعم مغلطاي أنه أبو إسرائيل، وعزا ذلك لـ"مبهمات الخطيب"، ولم يقل الخطيب ذلك في هذه القصّة، وإنما أورد حديث مالك، عن حميد بن قيس وغيره: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائمًا في الشمس، فقالوا: نذر أن لا يستظلّ، ولا يتكلّم، ولا يجلس، ويصوم

" الحديث، ثم قال: هذا الرجل هو أبو إسرائيل القرشيّ العامريّ، ثم ساق بإسناده إلى أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فنظر إلى رجل من قريش، يقال له: أبو إسرائيل، فقالوا: نذر أن يصوم، ويقوم في الشمس

"

ص: 146

الحديث، فلم يزد الخطيب على هذا، وبين القصّتين مغايرات ظاهرة، أظهرها أنه كان في الحضر في المسجد، وصاحب القصّة في حديث جابر كان في السفر، تحت ظلال الشجرة. واللَّه أعلم. انتهى. (أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ) أي بلغ منه الغايةَ من المشقّة، يقال: جهده الأمرُ، والمرض جَهْدًا، من باب نفع: إذا بلغ منه المشقّة، ومنه جَهْدُ البلاء، ويقال: جَهَدتُ فلانًا جهدًا: إذا بلغت مشقّته، وجهدت الدّابّةَ، وأجهدتها: إذا حملت عليها في السير فوق طاقتها. أفاده في "المصباح".

(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ") أي ليس مثلُ صوم هذا الرجل طاعةً محمودةً، بل هي مذمومة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(1)

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-2257 و 2258 و 2259 و 48/ 2260 و 2261 و 49/ 2262 - وفي "الكبرى" 47/ 2565 و 2566 و 2567 و 48/ 2570. وأخرجه (خ) في "الصوم" 1946 (م) في "الصيام" 1115 (د) في "الصوم" 2407 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 14001 (الدارمي) في "الصوم" 1709. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2258 -

(أَخْبَرَنِي شُعَيْبُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَرَّ بِرَجُلٍ، فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ، يُرَشُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ، قَالَ: «مَا بَالُ صَاحِبِكُمْ هَذَا؟» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَائِمٌ، قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ، أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ، وَعَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ، فَاقْبَلُوهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد ثقات، وهو مسلسل بالدمشقيين إلى يحيى بن أبي كثير، وهو يماميّ، وسكن المدينة عشر سنين، وكلهم تقدّموا، غير:

1 -

(محمد بن عبد الرحمن) بن ثوبان العامريّ مولاهم، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة [3].

(1)

هذا بالنسبة لمتن الحديث، وإلا فسند المصنف فيه انقطاع؛ لأن محمد بن عبد الرحمن لم يسمعه من جابر رضي الله عنه، كما سيأتي بيانه.

ص: 147

قال أبو حاتم: هو من التابعين لا يسأل عن مثله. وقال ابن سعد، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن سعيد: كان كثير الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر أنه مولى الأخنس بن شَرِيق. أخرج له الجماعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط برقم 2257 و 2258 و 2260 و 2261 و 3244 و 3497 و 4254.

وقوله: "إنه ليس من البرّ أن تصوموا في السفر": قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: معناه إذا شقّ عليكم، وخفتم الضرر، وسياق الحديث يقتضي هذا التأويل، وهذه الرواية مُبَيِّنَة للروايات المطلقة:"ليس من البرّ الصيام في السفر"، ومعنى الجميع فيمن تضرّر. انتهى

(1)

.

وقوله: "عليكم برخصة اللَّه". "عليكم" اسم فعل، منقول من الجارّ والمجرور، بمعنى "الْزَمُوا"، و"برخصة اللَّه" الباء زائدة، و"رخصة اللَّه" مفعول به لـ"عليكم"، وقيل: إن الباء للتعدية، فيكون المعنى استمسكوا برخصة اللَّه. و"الرخصة" وزان غُرْفة، وتضم الخاء للإتباع، والجمع رُخَص، ورُخُصَات مثل غُرَف، وغُرُفات: التسهيل في الأمر والتيسيبر فيه، والمعنى هنا: استمسكوا بتسهيل اللَّه تعالى لكم فيما شرع لكم من الفطر في السفر، كما قال اللَّه تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} الآية.

[تنبيه]: قال في "الفتح": أوهم صاحب "العمدة"

(2)

أن قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم برخصة اللَّه التي رخّص لكم" مما أخرجه مسلم بشرطه، وليس كذلك، وإنما هو بقية في الحديث لم يوصل إسنادها كما تقدّم بيانه، نعم وقعت عند النسائيّ موصولة في حديث يحيى بن أبي كثير بسنده، وعند الطبرانيّ من حديث كعب بن عاصم الأشعريّ، كما تقدّم انتهى

(3)

.

[تنبيه آخر]: زاد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بعد إخراج هذا الحديث في "الكبرى": ما نصّه: قال أبو عبد الرحمن: هذا خطأ، ومحمد بن عبد الرحمن لم يسمع هذا الحديث من جابر انتهى.

يعني أن تصريح محمد بن عبد الرحمن بالإخبار من جابر رضي الله عنه في هذا الإسناد، خطأ، فإنه لم يسمع منه هذا الحديث.

هذا حاصل ما أشار إليه، لكن سيأتي قريبًا أن دعوى الخطإ غير صحيحة، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- "شرح مسلم" ج 8 ص 233 - 234.

(2)

- يعني صاحب "عمدة الأحكام"، وهو المقدسيّ.

(3)

-"فتح" ج 4 ص 697.

ص: 148

2259 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفِرْيَابِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرًا نَحْوَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الفريابيّ" -بكسر الفاء، وسكون الراء، بعدها تحتانيّة، وبعد الألف موحّدة-: هو محمد بن يوسف الضبّيّ مولاهم، ثقة فاضل [9] 14/ 418.

وغرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا الإشارةُ إلى بيان وجه الخطإ الذي ادعاه في السند السابق، وذلك أن الفريابيّ روى الحديث عن الأوزاعيّ، عن يحيي، عن محمد ابن عبد الرحمن، قال: حدثني من سمع جابرًا، فأدخل بين محمد بن عبد الرحمن، وبين جابر رضي الله عنه واسطة مبهمة.

فتبيّن بهذا أن الصواب أن محمد بن عبد الرحمن لم يسمعه من جابر، وإنما سمعه ممن سمعه منه، وأن تصريحه بإخبار جابر له في السند السابق مما أخطأ فيه شعيب، هذا حاصل ما أشار إليه -رحمه اللَّه تعالى-.

لكن الذي يظهر لي صحة رواية شعيب؛ لأنه لم ينفرد بها، فقد تابعه "الوليد بن مسلم عند الطحاويّ في "شرح معاني الآثار"، فقال -رحمه اللَّه تعالى-:

حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن ميمون البغداديّ، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا الأوزاعيّ، عن يحيي بن أبي كثير، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، قال: حدثني جابر بن عبد اللَّه، قال: مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم برجل في سفر، في ظلّ شجرة، يُرشّ عليه الماء، فقال:"ما بال هذا؟ "، قالوا: صائم يا رسول اللَّه، قال:"ليس من البرّ الصيام في السفر، فعليكم برخصة اللَّه التي رخّص لكم، فاقبلوها". انتهى

(1)

.

ورواه الفريابيّ في "الصيام" عن الوليد، نا الأوزاعيّ، حدثني يحيي، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر

(2)

.

والحاصل أن الحديث صحيح متصل لتصريح محمد بن عبد الرحمن بالإخبار من جابر رضي الله عنه في هذه الرواية.

وقد وجدت للحافظ أبي الحسن ابن القطّان الفاسيّ -رحمه اللَّه تعالى- تحقيقًا نفيسًا في كتابه "بيان الوهم والإيهام"، أحببت إيراده هنا لحسنه، قال -رحمه اللَّه تعالى- في باب ذكر الأحاديث التي ردّها عبد الحقّ في "أحكامه" بالانقطاع، وهي متصلة: ما ملخّصه:

وذكر -يعني عبد الحقّ- أيضًا من طريق النسائيّ في حديث: "ليس من البرّ الصيام في

(1)

- راجع "معاني الآثار للطحاويّ" ج 2 ص 62.

(2)

- انظر "إرواء الغليل" ج 4 ص 54.

ص: 149

السفر" زيادة، وهي: "عليكم برخصة اللَّه التي رخصها لكم، فاقبلوها". ثم قال: رواه من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر، قال: ولم يسمع من جابر انتهى

ما قال

(1)

.

وهو خطأ، وإنما هو قول النسائيّ، تلقاه عنه، ولم ينظر فيه، ولا تفقّد صحته، ولا نقله عنه كما قاله، فإن النسائيّ إنما قال: لم يسمع هذا الحديث محمد بن عبد الرحمن من جابر، فقال هو: لم يسمع من جابر، هكذا بإطلاق، وزاد من عنده أنه ابن ثوبان، وأصاب في ذلك، ولكنه لم يصب من حيث القضاء عليه بأنه لم يسمع من جابر.

والنسائيّ إنما قال فيه: إنه لم يسمع من جابر هذا الحديث، وذلك أنه اعتقد فيه أنه رجل آخر.

ثم قال الفاسيّ: فأما بيان اتصال الحديث المذكور، وأنه ليس بمنقطع، كما ذَكَر، فهو بأن تعلم أنه حديث يرويه رجلان، كل واحد منهما يقال له: محمد بن عبد الرحمن: أحدهما ابن ثوبان، والآخر ابن سعد بن زُرارة، وهذا هو الذي لم يسمعه من جابر، فأما ابن ثوبان، فإنه يقول فيه: حدثني جابر.

فلنذكر أحاديثهم بنصّها حتى يتبيّن الاتصال في أحدهما، والانقطاع في الآخر.

قال النسائيّ: حدثنا شعيب بن شعيب بن إسحاق، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا الأوزاعيّ، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، الخ.

قال: هذا إسناد صحيح متصل، يذكر كل واحد منهم "حدثني" حتى انتهى ذلك إلى محمد بن عبد الرحمن، فقال: حدثني جابر

(2)

.

وهذا هو الذي أورد أبو محمد، وفسّر محمد بن عبد الرحمن بأنه ابن ثوبان، وأصاب في ذلك، وأخطأ في قوله: لم يسمع من جابر، وهو يروي من قوله، ويسمع: حدثني جابر.

والذي بعده من قول النسائيّ: "هذا خطأ، ومحمد بن عبد الرحمن لم يسمع هذا

الحديث من جابر".

نبيّن الآن -إن شاء اللَّه- أنه إنما قال ذلك معتقدًا أنه محمد بن عبد الرحمن بن سعد، لا محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وذلك أن كل ما أورد بعده منقطعًا إنما هو لمحمد ابن عبد الرحمن بن سعد، لا لابن ثوبان.

(1)

- "الأحكام الوسطى" 4/ 71 - 72.

(2)

- التحديث في "الكبرى"، وأما في "المجتبى" فيحيى، ومحمد بن عبد الرحمن يقولان:"أخبرني".

ص: 150

فمما أورده بعده: نبأني محمود بن خالد، حدثنا الفريابيّ، حدثنا الأوزاعيّ، حدثنا يحيي، حدثنا محمد بن عبد الرحمن، أخبرني من سمع جابرًا نحوه.

فهذا محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، لا ابن ثوبان.

وأورد من رواية وكيع، عن عليّ بن المبارك، عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن ابن ثوبان، عن جابر. هكذا معنعنًا، لم يقل: أخبرني جابر، كما قال شعيب، عن الأوزاعيّ، وصرِّح فيه بأنه ابن ثوبان.

وقال عثمان بن عمر: عن عليّ بن المبارك، عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن، عن رجل، عن جابر.

وهذا أيضًا هو ابن سعد، لا ابن ثوبان، فعرف النسائيّ أن محمد بن عبد الرحمن هذا الذي يقول في رواية الفريابيّ -عن الأوزاعي، عن يحيى، عنه: حدثني من سمع جابرًا- وفي رواية عثمان بن عمر، عن عليّ بن المبارك، عن يحيى، عنه: عن رجل، عن جابر- أنه محمد بن عبد الرحمن بن سعد، فقضى لذلك بانقطاع روايته للحديث عن جابر، وزاد إلى ذلك أَنْ ظَنّ أنه الذي في رواية شعيب، عن الأوزاعيّ فخطّأ من قال عنه: حدثني جابر، وجزم بأن بينهما رجلاً، ثم أخذ في بيان من هو هذا الرجل الذي بينهما، فقال:

("ذكر اسم الرجل")

حدثنا عمرو بن عليّ، قال: حدثنا يحيى، وخالد بن الحارث، عن شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن محمد بن عمرو بن حسن، عن جابر، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد ظُلّل عليه في السفر، فقال:"ليس البرُّ الصيامَ في السفر". ثم قال: حديث شعبة هذا هو الصحيح. انتهى ما أورده النسائيّ في بيان انقطاع رواية محمد بن عبد الرحمن بن سعد فيما بينه، وبين جابر في هذا الحديث.

والخطأ فيه هو في أن اعتقد في محمد بن عبد الرحمن القائل: حدثني جابر أنه ابن سعد، وليس الأمر كذلك، وإنما هو ابن ثوبان، وهو قد سمعه من جابر، كما أخبر عن نفسه في قوله:"حدثني جابر"، وقد صرّح بكونه ابن ثوبان في رواية وكيع، عن عليّ بن المبارك.

فإن هذا الذي يرويه شعبة عنه، عن محمد بن عمرو بن حسن، عن جابر ليس هو محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وإنما هو محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة.

وبيان ذلك في كتاب مسلم، وأبي داود في نفس هذا الإسناد، وهو أنصاريّ، وليس في روايته ذكرّ للزيادة المذكورة، وإنما هي في رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان،

ص: 151

ويحيى بن أبي كثير معروف الرواية عن الرجلين، أما عن ابن ثوبان فهو مصرّح به في الإسناد المذكور، من رواية وكيع، عن عليّ بن المبارك، وروايته عن ابن سعد بن زُرارة مصرّح به أيضًا في كتاب مسلم في الحديث المذكور دون الزيادة المذكورة

(1)

.

وفي كتاب البخاريّ في "فضائل القرآن" من رواية شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة، عن عبد اللَّه بن عمرو، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"في كم تقرأ القرآن؟ " الحديث، وهذا هو ابن سعد بلا خلاف.

فإذا كان الأمر هكذا، فلا ينبغي أن يبت على الذي يقول:"حدثني جابر" بأنه محمد ابن عبد الرحمن بن سعد، كما فعل النسائيّ، ثم يقضي على قوله:"أخبرني جابر" بالخطإ، من أجل إدخال الآخر بينه وبين جابر رجلاً، بل يجب أن يقال: إنه ابن ثوبان الصحيح السماع من جابر، ولو لم يثبت أنهما رجلان لما جاز أن يقول في روايته: إنها منقطعة، وهو قد قال:"حدثني جابر"، ولو رواه بواسطة عنه، فإنه لا مانع من أن يكون سمعه منه، وحدثه به غيره عنه، فأدّاه على الوجهين.

وقد تقرّر أنهما رجلان، فالقائل منهما:"حدثني جابر" هو ابن ثوبان، والقائل:"عن رجل، عن جابر" هو ابن سعد بن زُرارة.

[فإن قيل]: فهل عُلم سماعُ محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، من جابر غير هذا الحديث؟.

[قلنا]: نعم، روى شيبان النحويّ، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، أن جابر بن عبد اللَّه أخبره، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"كان يصلي التطوّع، وهو راكب في غير القبلة".

وقال هشام الدستوائيّ: عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، حدثني جابر بن عبد اللَّه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته نحو المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل، فاستقبل القبلة".

فهذا نصّ سماعه منه في هذين الحديثين، وهما صحيحان، ذكرهما جميعًا البخاريّ في "جامعه".

ومنهما يتبيّن الخطأ في إطلاق القول بأنه لم يسمع من جابر، ولو قال كما قال

(1)

- هذا وهم من الحافظ الفاسيّ -رحمه اللَّه تعالى-، فإنه لا وجود لرواية يحيى بن أبي كثير عن محمد ابن عبد الرحمن بن سعد في كتاب مسلم، بل مخارجه كلها تدور على شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن، وإنما نسبه غندر عن شعبة "ابن سعد"، ولم ينسبه غيره. أفاده محقق كتاب الوهم والإيهام. ج2 ص 581.

ص: 152

النسائيّ كان أعذر، على أنه قد تبيّن أنه سمع ذلك الحديث كما قدّمناه.

وقد ذكر مسلم إثر رواية شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن محمد بن عمرو بن حسن، عن جابر أن شعبة قال: كان يبلغني عن يحيى بن أبي كثير أنه كان يزيد في هذا الحديث، وفي هذا الإسناد:"عليكم برخصة اللَّه التي رخّص لكم". قال: فلما سألته لم يحفظه.

فجاء من هذا أن رواية شعبة التي جعلها النسائيّ حجة على انقطاع رواية شعيب، عن الأوزاعيّ، ليس فيها ذكر الزيادة المذكورة. فإذن الزيادة المذكورة في حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر كما بيّنّاه.

وهنالك أيضًا غلط آخر للنسائيّ في هذا الحديث، وذلك أنه ظنّ في رواية عُمارة بن غَزِية، عن محمد بن عبد الرحمن، عن جابر لهذا الحديث أنه أيضًا ابن ثوبان، وهو خطأ منه، وإنما يرويه عمارة بن غزية، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن جابر منقطعًا، ساقطًا من بينهما محمد بن عمرو بن حسن.

وقع البيان فيه أنه ابن سعد بن زرارة في كتاب بَقِيّ بن مَخلَد، فاعلم ذلك، واللَّه الموفّق انتهى كلام الحافظ أبي الحسن بن القطّان الفاسي -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي حقّقه الحافظ أبو الحسن بن القطّان -رحمه اللَّه تعالى- تحقيق حسنٌ جدّا.

وحاصله أن الحديث صحيح متصل بسماع محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر رضي الله عنه، وأن زيادة:"عليكم برخصة اللَّه التي رخّص لكم، فاقبلوها" زيادة صحيحة، وأن ما ادعاه المصنّف من الانقطاع إنما هو لظنه أن محمد بن عبد الرحمن رجل واحد، والصواب أنهما رجلان:

أحدهما: ابن ثوبان، وهو صرح بالسماع من جابر، وهو الذي وقع في سند شعيب ابن إسحاق. والثاني: ابن سعد بن زرارة، وهو الذي أدخل بينه وبين جابر واسطة، وهو الذي وقع في سند الفريابيّ.

وخلاصة القول أن رواية شعيب بالزيادة المذكورة صحيحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- "بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام" ج 2 ص 576 - 584.

ص: 153

‌48 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى عَليِّ بْنِ الْمُبَارَكِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن وكيعًا رواه عن عليّ بن المبارك، عن يحيي بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر رضي الله عنه وخالفه عثمان بن عمر، فرواه عن عليّ، عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن، عن رجل، عن جابر رضي الله عنه، فأدخل واسطة بين محمد بن عبد الرحمن، وبين جابر رجلاً.

ثم إن دعوى الاختلاف المذكور مبنيّ على جعل محمد بن عبد الرحمن رجلا واحدًا، كما هو رأي المصنّف، وقد تقدّم قريبًا أن الصواب أنهما رجلان، فمحمد بن عبد الرحمن الذي في رواية وكيع غير محمد بن عبد الرحمن الذي في سند عثمان بن عمر، فالأول هو ابن ثوبان، كما صرّح به، والثاني هو ابن سعد بن زرارة، ويحيى بن أبي كثير معروف بالرواية عنهما، قد روى عنهما حديث جابر رضي الله عنه هذا.

والحاصل أن الحديث صحيح من كلا الطريقين، فأما طريق ابن ثوبان، فقد تقدّم أنه صرح بسماعه من جابر، وأما طريق ابن سعد، فإن الواسطة المبهم هو محمد بن عمرو ابن حسن الآتي في رواية شعبة في الباب التالي، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2260 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ، عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ عز وجل، فَاقْبَلُوهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عليّ بن المبارك": هو الْهُنَائيّ البصريّ، ثقة، كان له عن يحيي بن أبي كثير كتابان، أحدهما سماع، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، من كبار [7] 28/ 1411. والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2261 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ، الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عثمان بن عمر" بن فارس العبديّ، البصريّ، بخاريّ الأصل، ثقة [9] 151/ 1118. و"محمد بن عبد الرحمن" هو ابن سعد بن

ص: 154

زُرارة، كما قد مرّ آنفًا، فتنبّه. والحديث أيضًا صحيح؛ لأن الرجل المبهم سيأتي أنه محمد ابن عمرو بن حسن، وهو ثقة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌49 - (ذِكْرُ اسْمِ الرَّجُلِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد بالرجلِ الرجلَ الذي أُبهِمَ في السند الماضي، لا الرجل الذي أجهده الصوم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم من أجله:"ليس من البرّ الصيام في السفر". فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2262 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ

(1)

، وَخَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَسَنٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَأَى رَجُلاً، قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ:«لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ، الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة.

و"عمرو بن عليّ": هو الفلاّس. ويحيى بن سعيد": هو القطان. و"خالد بن الحارث": هو الهجيميّ. و"محمد بن عبد الرحمن": هو ابن سعد، كما تقدّم بيانه في الباب الماضي. و"محمد بن عمرو بن حسن" بن عليّ بن أبي طالب، ثقة [4] تقدّم في 17/ 527.

والسند مسلسل بالبصريين إلى شعبة، ومَن بعده مدنيون. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "قد ظُلّل عليه" بتشديد اللام الأولى، والبناء للمجهول، أي جُعل عليه شيء يُظله من الشمس لغلبة العطش عليه، وحرّ الشمس.

[تنبيه]: زاد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "الكبرى" بعد إخراجه الحديث المذكور: ما نصّه:

(1)

- كتب في هامش النسخة الهندية ما يشير إلى أن في بعض النسخ "ابن آدم" بدل "ابن سعيد". والظاهر أنه ما هنا هو الصحيح.

ص: 155

قال أبو عبد الرحمن: حديث شعبة هذا هو الصحيح انتهى.

أراد بهذا أن ما تقدّم من رواية يحيى بن أبي كثير من تصريح محمد بن عبد الرحمن بإخبار جابر رضي الله عنه له ليس بصحيح، بل إنما سمعه من محمد بن عمرو بن حسن، عن جابر رضي الله عنه.

لكن تقدّم أن الصواب أن الحديث صحيح من الطريقين؛ لأن محمد بن عبد الرحمن الذي صرَّح بالسماع من جابر هو ابن ثوبان، والذي روى عن محمد بن عمرو بن حسن هو ابن سعد بن زرارة.

والحاصل أن الحديث صحيح بالطريقين. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2263 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَى مَكَّةَ، عَامَ الْفَتْحِ، فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ، حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ، فَبَلَغَهُ أَنَّ النَّاسَ، قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنَ الْمَاءِ، بَعْدَ الْعَصْرِ، فَشَرِبَ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، فَأَفْطَرَ بَعْضُ النَّاسِ، وَصَامَ بَعْضٌ

(1)

، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا

(2)

صَامُوا، فَقَالَ:«أُولَئِكَ الْعُصَاةُ» ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بْنُ عَبدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ) بن أعين المصريّ ثقة فقيه [11] 120/ 166.

2 -

(شعيب) بن الليث بن سعد، أبَو عبد الملك المصريّ، ثقة فقيه نبيل، من كبار [10] 120/ 166.

3 -

(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت حجة [7] 31/ 35. وهو والد شعيب الراوي عنه في هذا السند.

4 -

(ابن الهاد) هو يزيد بن عبد اللَّه بن أسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة مكثر [5] 73/ 90.

5 -

(جعفر بن محمد) بن عليّ المعرف بـ"الصادق"، أبو عبد اللَّه المدنيّ، صدوق إمام [6] 123/ 182.

6 -

(أبوه) محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ المعروف بـ "الباقر"، أبو جعفر المدنيّ، ثقة فاضل [4] 123/ 182. والصحابيّ تقدم في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال

(1)

- وفي نسخة: "بعضهم".

(2)

- وفي نسخة: "أناسًا"، وفي أخرى:"بعضهم".

ص: 156

الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من ابن الهاد، والباقون مصريون. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرٍ) بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَى مَكَّةَ، عَامَ الْفَتْحِ) هو العام الثامن من الهجرة.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاريّ في "المغازي": أنه خرج لعشر مضين من رمضان. ووقع في مسلم من حديث أبي سعيد اختلاف من الرواة في ضبط ذلك. والذي اتفق عليه أهل السير أنه خرج في عاشر رمضان، ودخل مكة لتسع عشرة ليلة خلت منه

(1)

.

(فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ) فيه دليل على جواز الصوم في السفر، وهو مذهب الجمهور، وهو الحقّ، وقد تقدّم تمام البحث فيه في-46/ 2255 - (حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ) -بضمّ الكاف، وتخفيف الراء-، و"الغميم -بالغين المعجمة-: اسم واد أَمَامَ عُسفان. وقال الفيّوميّ: وكُرَاع الغَمِيم، وزان كَريم: واد بينه وبين المدينة نحو مائة وسبعين ميلاً، وبينه وبين مكة نحو ثلاثين ميلاً، ومن عُسفان إليه ثلاثة أميال، وكُرَاعُ كلّ شيء طَرَفُه انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: و"الغميم" -بفتح الغين-: واد أمام عُسفان بثمانية أميال. و"كُرَاع" جبل أسود هناد يُضاف إلى "الغميم"، والكُراع لغة: هو كلّ أنفٍ مال، من جبل أو غيره. انتهى.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي -54/ 2287 - "حتى أتى قُدَيدًا"، وفي 45/ 3390 - "حتى أتى عُسفان"، وفي 60/ 2313:"حتى إذا كان بالْكَدِيدَ أفطر".

قال القرطبيّ بعد أن ساق روايات مسلم: ما نصّه: وهذه الأحاديث المشتملة على ذكر هذه المواضع الثلاثة

(3)

كلها ترجع إلى معنى واحد، وهي حكاية حاله صلى الله عليه وسلم عند سفره في قدومه إلى مكة، وكان في رمضان في ستة عشرة منه، كما جاء في حديث أبي سعيد، وهذه المواضع متقاربة، ولذا عبّر كلّ واحد من الرواة بما حضر له من تلك المواضع لتقاربها انتهى

(4)

.

(1)

-"فتح" ج 4 ص 191.

(2)

- "المصباح المنير" في مادة غمّ.

(3)

- هذا بالنسبة لما ذكره، وأما هنا فهي أربعة، فتنبّه.

(4)

- "المفهم" ج 3 ص 175.

ص: 157

وقال في "الفتح" عند قوله: "فلما بلغ الكَدِيد": بفتح الكاف، وكسر الدال المهملة: مكان معروف، وقع تفسيره في نفس الحديث بأنه بين عُسفان وقُديد -يعني بضم القاف، على التصغير- وفي رواية ابن عباس من وجه آخر:"حتى بلغ عُسفان" بدل "الكَدِيد"، وفيه مجاز القرب؛ لأن الكَديد أقرب إلى المدينة من عُسفان، وبين الكديد ومكة مرحلتان. قال البكريّ: هو بين أَمَج -بفتحتين، وجيم- وعُسفان، وهو ماء عليه نخل كثير.

قال عياض: اختلفت الروايات في الموضع الذي أفطر صلى الله عليه وسلم فيه، والكلّ في قصة واحدة، وكلها متقاربة، والجميع من عمل عُسفان انتهى.

وأخرج البخاريّ في "المغازي" من طريق معمر، عن الزهريّ، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم في رمضان من المدينة، ومعه عشرة آلاف من المسلمين، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار، ومن معه، من المسلمين يصوم، ويصومون حتى بلغ الكديد، فأفطر، وأفطروا". قال الزهريّ: وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمره صلى الله عليه وسلم. وهذه الزيادة التي في آخره من قول الزهريّ وقعت مدرجة عند مسلم، من طريق الليث، عن الزهريّ، ولفظه:"حتى بلغ الكديد أفطر، قال: وكان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث، فالأحدث من أمره". وأخرجه من طريق سفيان، عن الزهريّ، قال: مثله. قال سفيان: لا أدري من قول من هو؟. ثم أخرجه من طريق معمر، ومن طريق يونس كلاهما، عن الزهريّ، وبيّنا أنه من قول الزهريّ، وبذلك جزم البخاريّ في "الجهاد".

وظاهره أن الزهريّ ذهب إلى أن الصوم في السفر منسوخ، ولم يُوافَق على ذلك. وأخرج البخاريّ في "المغازي" أيضًا من طريق خالد الحذّاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:"خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، والناس صائم، ومفطر، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن، أو ماء، فوضعه على راحلته، ثم نظر الناس"، زاد في رواية أخرى من طريق طاوس، عن ابن عباس:"ثم دعا بماء، فشرب نهارًا ليراه الناس".

وأخرج الطحاويّ من طريق أبي الأسود، عن عكرمة أوضح من سياق خالد، ولفظه:"فلما بلغ الكديد بلغه أن الناس شقّ عليهم الصيام، فدعا بقدح من لبن، فأمسكه بيده حتى رآه الناس، وهو على راحلته، ثم شرب، فأفطر، فناوله رجلاً إلى جنبه، فشرب"

(1)

.

(1)

- راجع "الفتح" ج4 ص690 - 691.

ص: 158

(فَصَامَ النَّاسُ، فَبَلَغَهُ أَنَّ النَّاسَ، قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ) زاد مسلم من طريق الدراورديّ، عن جعفر:"وإنما ينظرون فيما فعلتَ"(فَدَعَا بقَدَحٍ) بفتحتين، جمعه أقداحٌ، كسَبَبٍ وأسباب: إناء يُشرَب فيه (مِنَ الْمَاءِ، بَعْدَ الْعَصْرِ، فَشَرِبَ) بفتح الشين، وكسر الراء.

فيه دليل على جواز الفطر للمسافر في أثناء رمضان، ولو استهلّ رمضان في الحضر، إذ لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم استهلّ رمضان في عام غزوة الفتح، وهو بالمدينة، ثم سافر في أثنائه.

واستدلّ به على أن للمرء أن يفطر، ولو نوى الصيام من الليل، وأصبح صائمًا، فله أن يفطر في أثناء النهار، وهو قول الجمهور، وقطع به أكثر الشافعيّة، وفي وجه ليس له أن يفطر.

وهذا كله فيما لو نوى الصوم في السفر، فأما لو نوى الصوم، وهو مقيم، ثم سافر في أثناء النهار، فهل له أن يفطر في ذلك النهار؟، منعه الجمهور، وقال أحمد، وإسحاق بالجواز، واختاره المزنيّ، محتجّا بهذا الحديث، فقيل له

(1)

قال كذلك ظنّا منه أنه صلى الله عليه وسلم أفطر في اليوم الذي خرج فيه من المدينة، وليس كذلك، فإن بين المدينة والكديد عدة أيام. وقد وقع في البويطيّ مثل ما وقع عند المزنيّ، فسلم المزنيّ. وأبلغ من ذلك ما رواه ابن أبي شيبة، والبيهقيّ، عن أنس أنه كان إذا أراد السفر يفطر في الحضر قبل أن يركب.

ثم لا فرق عند المجيزين في الفطر بكلّ مُفَطِّر، وفرق أحمد في المشهور عنه بين الفطر بالجماع وغيره، فمنعه في الجماع، قال: فلو جامع، فعليه الكفّارة، إلا أن يفطر بغير الجماع قبل الجماع.

واعْتَرَض بعضُ المانعين في أصل المسألة، فقال: ليس في الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم نوى الصيام في ليلة اليوم الذي أفطر فيه، فيحتمل أن يكون نوى أن يصبح مفطرًا، ثم أظهر الإفطار ليفطر الناس. لكن سياق الأحاديث ظاهر في أنه كان أصبح صائمًا، ثم أفطر. أفاده في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله هذا البعض عجيب منه، فلو سلمنا أنه صلى الله عليه وسلم لم ينو ليلاً، فبماذا يُجيب عن حال الصحابة، فإنهم أفطروا بعد ما نووا الصيام بلا شكّ.

(1)

- هكذا نسخة "الفتح"، ولعل الصواب: فقيل: إنه قال ذلك الخ.

(2)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 691 - 692.

ص: 159

ومما يرد به عليه أيضًا حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعد هذا، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر بمرّ الظهران:"ادنوا فكلا"، فقالا: إنا صائمان

الحديث، فإنه دليل واضح في جواز الفطر للصائم في السفر بعد مضيّ بعض النهار.

والحاصل أن الصواب ما ذهب إليه الجمهور من جواز الفطر للمسافر أثناءَ النهار، وإن نوى الصوم من الليل. واللَّه تعالى أعلم.

(وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "شرب"(فَأَفْطَرَ بَعْضُ النَّاسِ) أي اقتداء به صلى الله عليه وسلم (وَصَامَ بَعْضٌ) أي ظنًا منهم أن الفطر رخصة، ورأوا أن لهم قوّة على الصوم (فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسَاً صَامُوا، فَقَالَ:"أُولَئِكَ العُصَاةُ" وقع في، "صحيح مسلم":"أولئك العصاة، أولئك العصاة" مكررًا.

وهذا محمول على من تضرَر بالصوم، أو أنهم أُمروا بالفطر أمرًا جازمًا لمصلحة بيان الجواز، فخالفوا الواجب، وعلى التقديرين لا يكون الصائم اليوم عاصيًا، إذا لم يتضرّر به، ويؤيّد التأويل الأول قوله: في الحديث: "إن الناس قد شقّ عليهم الصيام". أفاده النوويّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-49/ 2263 - وفي "الكبرى" 49/ 2571. وأخرجه (م) في "الصيام" 1114 (ت) في "الصوم" 710. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): جواز الفطر في رمضان للمسافر (ومنها): جواز الفطر أثناء النهار لمن بات ناويًا للصوم (ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشفقة بأمته (ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من متابعته صلى الله عليه وسلم، ولو شقّ عليهم ذلك (ومنها): سماحة الشريعة، وسهولة تكاليفها، حيث أباحت الفطر للمسافر، وخففت شطر الصلاة، لما يلحقه من التعب بسبب عناء السفر (ومنها): أن من لم يقبل رخصة الشرع في مواضع الترخيص، وأبى إلا العزيمة، يكون عاصيًا بسبب إعراضه عن قبول رخصة اللَّه تعالى، فإن الرخصة في مواضعها لا تقلّ عن العزيمة في مواضعها، فإتيانها كإتيانها، والإعراض عنها كالإعراض عنها.

فقد أخرج أحمد في "مسنده"، والبيهقيّ في "سننه"، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما،

ص: 160

والطبرانيّ في "معجمه الكبير" من حديث ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم، مرفوعًا:"إن اللَّه تعالى يُحبّ أن تؤتى رُخَصُه، كما يُحبّ أن تؤتى عزائمه"

(1)

. وأخرج أحمد، وابن حبّان في "صحيحه"، والبيهقيّ في "شعب الإيمان" عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعًا أيضًا:"إن اللَّه تعالى يحبّ أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته"

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2264 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِطَعَامٍ، بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَقَالَ: لأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ: «أَدْنِيَا، فَكُلَا»

(3)

، فَقَالَا: إِنَّا صَائِمَانِ، فَقَالَ:«ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمُ، اعْمَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ» ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(هارون بن عبد اللَّه) بن مرون الحمّال البزّاز، أبو موسى البغداديّ، ثقة [10] 50/ 62.

2 -

(عبد الرحمن بن محمد بن سلاّم) بن ناصح الهاشميّ مولاهم، أبو القاسم البغداديّ، ثم الطوسيّ، وقد يُنسب لجده، لا بأس به [2] 17/ 1141.

3 -

(أبو داود) عُمَر بن سَعْد بن عبيد الكوفيّ الْحَفَريّ، ثقة عابد [9] 15/ 523.

4 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة ثبت حجة [7] 33/ 37.

5 -

(الأوزاعيّ) عبد الرحمن بن عمرو، أبو عمرو الدمشقيّ، ثقة فقيه فاضل [7] 45/ 56.

6 -

(يحيى) بن أبي كثير الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقة ثبت، يدلّ ويرسل [5] 23/ 24.

7 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة فقيه [3] 1/ 1.

8 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه عبد الرحمن، فقد تفرّد به هو وأبو داود. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه أبو هريرة

(1)

حديث صحيح. انظر "صحيح الجامع الصغير" للشيخ الألباني رحمه الله جـ1 ص 383 رقم 1885.

(2)

حديث صحيح. انظر "صحيح الجامع" جـ1 ص383 رقم 1886.

(3)

- وفي نسخة: "وكلا" بالواو.

ص: 161

- رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِطَعَامٍ) ببناء الفعل للمفعول (بِمَرِّ الظَّهْرَانِ) قال الفيّومي: ومَرٌّ، وِزَان فَلْس: موضع بقرب مكة، من جهة الشام، نحو مرحلة، وهو منصرف؛ لأنه اسم واد، ويقال له: بَطْنُ مَرّ، ومَرّ الظهران أيضًا انتهى

(1)

(فَقَالَ: لِأَبِي بَكْرِ وَعُمَرَ) رضي الله عنهما (أَدْنِيَا) من الإدناء، رباعيّا، ولفظ "الكبرى":"ادنوا" من الدنوّ ثلاثيًا. قال في "القاموس": دَنَا يَدْنُو دُنُوًا، ودَنَاوَةً: قَرُب، كأدنى، ودَنّاه تَدْنيةً، وأدناه: قَرَّبَه انتهى.

فدلّ على أن هذا الفعل يستعمل في حالتي اللزوم والتعدّي ثلاثيّا، ورباعيّا، والمناسب هنا اللزوم، ويحتمل أن يكون من المتعدّي، والمفعول محذوف، والمعنى قرّبا أنفسكما من الطعام (فَكُلَا، فَقَالَا: إِنَّا صَائِمَانِ) أي فاعتذرا لعدم امتثال الأمر بكونهما صائمين، وهذا يدلّ على أنهما فهما أن أمره ليس أمر إيجاب، يجب امتثاله، وإنما هو أمر إباحة وتخيير (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (ارْحَلُوا) -بفتح الحاء المهملة- أمر من الرَّحْل، يقال: رَحَلْتُ البعيرَ رَحْلاً، من باب نفع: شددت عليه عليه رَحْلَه. والرَّحْلُ: كلُّ شيء يُعَدّ للرحيل، من وِعَاءٍ للمتاع، ومَرْكَب للبعير، وحِلْسٍ، ورَسَنٍ، وجمعُهُ أرْحَل، ورِحالٌ، مثل أَفْلُس، وسِهَام. أفاده في "المصباح"(لِصَاحِبَيْكُمُ) بالتثنية، وفي "الكبرى": لصاحبكم" بالإفراد في الموضعين (اعْمَلُوا لِصَاحِبَيكُمْ).

يعني أنه صلى الله عليه وسلم قال لسائر الصحابة المفطرين: ارحلوا لصاحبيكم، أي شُدّوا الرحل لهما على البعير، واعملوا لهما، فالمراد الحثّ على معاونتهما فيما يحتاجان إليه، لكونهما صائمين، فيكون المقصود إقرارهما على الصوم، واستحسانه منهما.

ويحتمل أن يكون المراد الإشارة إلى أن صاحب الصوم في السفر يكون كَلاًّ على غيره، فيكون ذمّا، وإنكارًا عليهما، وأن الأفضل أن يفطرا، ولا يحوجا الناس إلى خدمتهما.

ويكون هذا بمعنى ما أخرجه الفريابيّ بإسناد رجاله ثقات عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"لا تصم في السفر، فإنهم إذا أكلوا طعامًا قالوا: ارفعوا للصائم، وإذا عملوا عملاً قالوا: اكفلوا للصائم، فيذهبوا بأجرك"

(2)

.

(1)

- انظر "المصباح المنير".

(2)

- راجع "سلسلة الأحاديث الصحيحة" للشيخ الألباني ج1 ص 125.

ص: 162

قال الإمام ابن خزيمة -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن أخرج الحديث: ما نصّه: هذا الخبر أيضًا من الجنس الذي ذكرتُ قبلُ أن للصائم في السفر الفطرَ بعد مُضِيّ بعضِ النهار، إذ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أمرهما بالأكل بعد ما أعلماه أنهما صائمان انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-49/ 2264 و 2265 و 2266 - وفي "الكبرى" 49/ 2572 و 2573 و 2574 و 2575. وأخرجه (ابن أبي شيبة في مصنّفه) ج2 ص 149 و (ابن خزيمة) في "صحيحه" 2031 و (الحاكم) في "مستدركه" ج1 ص433، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ، لكن في قوله: على شرط الشيخين نظر، إذ أبو داود الحَفَريّ ليس من رجال البخاريّ، بل من رجال مسلم، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2265 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى، أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَتَغَدَّى بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَقَالَ: «الْغَدَاءَ». مُرْسَلٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمران بن يزيد": هو ابن خالد بن يزيد القرشيّ الدمشقيّ، نسب لجدّه، صدوق [10] 18/ 422 من أفراد المصنّف.

و"محمد بن شعيب" بن شابور الدمشقيّ، تقدّم قبل بابين. و"عثمان بن عمر" تقدّم في الباب الماضي.

وقوله: "الغداء" مفعول لفعل محذوف، أي احضرا أكل الغداء، ويحتمل الرفعَ على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أي الغداء حاضر لديكما.

وقوله: "مرسل" بالرفع: خبر لمحذوف، أي هذا الحديث مرسل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2266 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، كَانُوا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ

مُرْسَلٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عليّ": هو ابن المبارك الهُنَانيّ البصريّ تقدم في الباب الماضي.

(1)

- انظر "صحيح ابن خزيمة" ج3 ص261.

ص: 163

وغرض المصنّف بهذين الإسنادين بيان الاختلاف على الأوزاعيّ، فقد رواه عنه سفيان في الماضي متصلاً بذكر أبي هريرة رضي الله عنه، وخالفه محمد بن شعيب، فرواه عنه، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

مرسلاً، وتابعه عليه عليّ ابن المبارك الهنائيّ.

لكن الذي يظهر لي أن الوصل هو الأرجح؛ لكون راويه، وهو سفيان إمامًا مُقَدَّمًا في الحفظ والإتقان، فتكون زياته زيادة ثقة مقبولة، فالحديث صحيح متصل، كما صححه ابن خزيمة، والحاكم، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌50 - (ذِكْرُ وَضْعِ الصِّيَامِ عَنِ الْمُسَافِرِ، وَالاخْتِلَافِ عَلَى الأَوْزَاعِيِّ فِي خَبَرِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد بالوضع ترك التكليف به، أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على ترك تكليف المسافر بالصيام في حال سفره.

فـ"وضع" مصدر مضاف إلى مفعوله بعد حذف فاعله، أي وَضْعِ اللَّهِ الصيامَ عن المسافر.

وقوله: "والاختلاف" بالجرّ عطفًا على "وضع". وقوله: "على الأوزاعيّ" متعلق بـ"الاختلاف"، وكذا قوله:"في خبر عمرو". وقوله: "فيه" متعلق بمحذوف صفة لـ"خبر"، والضمير عائد على "وضع الصيام".

ثم وجه الاختلاف المذكور أن محمد بن شعيب رواه عن الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أميّة رضي الله عنه. وخالفه الوليد بن مسلم، فرواه عن الأوزاعيّ، عن أبي قلابة، عن جعفر بن عمرو بن أميّة، عن أبيه. وخالفهما أبو المغيرة، فرواه عن الأوزاعيّ، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر -والصواب عن أبي المهلّب- عن أبي أميّة الضمريّ، وهو عمرو بن أمية

ص: 164

- رضي الله عنه. ووافقه عليه محمد بن حرب الحمصيّ. وخالفهم شعيب بن إسحاق، فرواه عن الأوزاعيّ، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي أمية رضي الله عنه، فأسقط الواسطة بين أبي قلابة، وأبي أميّة، وتابعه عليه معاوية بن سَلاّم.

وسيأتي أن المصنّف يضعّف رواية شعيب، ومعاوية، ويرجّح إثبات الواسطة بين أبي قلابة، وعمرو بن أمية، لكن الظاهر أن الحديث محفوظ بالطريقين، كما سيأتي التنبيه عليه، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2267 -

(أَخْبَرَنِي عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ سَفَرٍ، فَقَالَ: «انْتَظِرِ الْغَدَاءَ، يَا أَبَا أُمَيَّةَ» ، فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ. فَقَالَ: «تَعَالَ، ادْنُ مِنِّي، حَتَّى أُخْبِرَكَ، عَنِ الْمُسَافِرِ، إِنَّ اللَّهَ عز وجل، وَضَعَ عَنْهُ الصِّيَامَ، وَنِصْفَ الصَّلَاةِ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبدة بن عبد الرحيم) بن حسّان المروزيّ، نزيل دمشق، صدوق، من صغار [10] 45/ 597.

2 -

(محمد بن شعيب) بن شابور، الدمشقيّ، صدوق، من كبار [9] 6/ 1190.

3 -

(عمرو بن أمية) بن خُويلد بن عبد اللَّه، أبي أميّة الضَّمْريّ الصحابيّ المشهور، أول مشاهده بئرُ مَعُونة، مات في خلافة معاوية رضي الله عنهما، تقدمت ترجمته في-96/ 119. والباقون تُرْجموا قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه ممن روى عنه البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنف فقط، وغير محمد بن شُعيب، فإنه من رجال الأربعة فقط. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالدمشقيين، ونصفه الثاني مسلسل بالمدنيين، ويحيى، وإن كان يماميّا إلا أنه سكن المدينة عشر سنين يطلب العلم، كما في " تهذيب التهذيب" 31/ 510. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ الثقة الفقيه، أنه (قَالَ: أَخبَرَني عَمْرُو ابْنُ أُمَيَّةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (الضَّمْرِيُّ) -بفتح الضاد المعجمة،

ص: 165

وسكون الميم-: نسبة إلى ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خُزيمة بن إلياس بن مضر. قاله في "لبّ اللباب" 2/ 81.

(قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من سَفَرٍ) زاد في الرواية الآتية-2269 - من طريق أبي المغيرة، عن الأوزاعيّ:"فسلّمتُ عليه، فلما ذهبت لأخرج (فَقَالَ: "انْتَظِرِ الْغَدَاءَ) أي امكث هنا حتى يحضر الغداء، فتأكل معنا (يَا أَبَا أُمَيَّةَ") كنية عمرو بن أميّة رضي الله عنه (فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ) أي لا أنتظر الغداء، لأني صائم، فلا أتمكّن من أكله (فَقَالَ:"تَعَالَ) أي أقبل إليّ. وهو أمر من تعالى يتعالى: إذا ارتفع، وأصله أن الرجل العالي كان ينادي السافل، فيقول: تعال، ثم أكثر في كلامهم حتى استُعمِل بمعنى هَلُمَّ مطلقًا، وسواء كان موضع المدعوّ أعلى أو مساويًا، فهو في الأصل لمعنى خاصّ، ثم استعمل في معنى عامّ، ويتّصل به الضمائر باقيًا على فتحه، فيقال: تعالوا، تعاليا، تعالين، وربما ضُمّت اللام مع جمع المذكّر السالم، وكسرت مع المؤنّثة، وبه قرأ الحسن البصريّ في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} الآية؛ لمجانسة الواو. قاله في "المصباح".

(ادْنُ مِنِّي) أمر من الدنُوّ، وهو القرب، أي اقترب منّي، والفعل بدل من الفعل الذي قبله، كما قال في "الخلاصة":

وُيبْدَلُ الْفِعْلُ مِنَ الفِعْلِ كَـ"مَنْ

يَصِلْ إِلَيْنَا يَسْتَعِنْ بِنَا يُعَنْ"

(حَتَّى أُخْبِرَكَ) تعليل لأمره بالدنوّ منه (عَنِ الْمُسَافِرِ) أي عن شأن المسافر في حال سفره (إِنَّ اللَّه عز وجل، وَضَعَ) أي أسقط (عَنْهُ الصِّيَامَ) أي وجوب أدائه في السفر. وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: أنت مسافر، وقد وضع اللَّه عن المسافر صوم الفرض، بمعنى وضع عنه لزومه في تلك الأيام، وخيّره بين أن يصوم تلك الأيام، وبين عدّة من أيام أخر، فكيف صوم النفل انتهى

(1)

.

وقال القاري: "وضع" أي رفع ابتداءً عنه. وقال ابن حجر الهيتميّ: "وضع" بمعنى أسقط، وإسقاط الشيء يقتضي إسقاط وجوبه الأخصّ، لا جوازه الأعمّ، ففيه حجة لما عليه الشافعيّ أن القصر جائز، لا واجب انتهى. وقد ردّ عليه القاري بأن موضوع "وضع" ليس بالمعنى الذي ذكر، لا لغة، ولا اصطلاحًا، أما لغة فظاهر، وأما الاصطلاح الشرعيّ فقد ورد: إن اللَّه تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان". أي كلفتهما، وما يترتّب عليهما من الحرج والإثم، وكذا قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ

(1)

- "شرح السندي" ج4 ص 178.

ص: 166

إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الآية [الأعراف: 157] انتهى.

(وَنِصْفَ الصَّلَاةِ) أي الرباعية، وهي الظهر، والعصر، والعشاء. ثم إن الوضع المذكور وإن مشتركًا بين الصوم والصلاة، إلا أنه مختلف، فمعنى وضع الصوم إسقاط وجوب أدائه حالَ السفر، لا مطلقًا، ومعنى وضع نصف الصلاة إسقاط وجوب نصفها مطلقاً، فلا تجب عليه لا في السفر، ولا في الحضر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عمرو بن أمية رضي الله عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-50/ 2267 و 2268 و 2269 و 2270 و 2271 و 51 و 2272 و 2273 - وفي "الكبرى" 50/ 2576 و 2577 و 2578 و 2579 و 2580 و 51/ 2581 و 2582. وأخرجه (الدارميّ) في "الصوم" 1712. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2268 -

(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَلَا تَنْتَظِرُ الْغَدَاءَ، يَا أَبَا أُمَيَّةَ» ، قُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ: «تَعَالَ أُخْبِرْكَ عَنِ الْمُسَافِرِ، إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْهُ

(1)

الصِّيَامَ، وَنِصْفَ الصَّلَاةِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه عمرو بن عثمان القرشيّ، أبي حفص الحمصيّ، فإنه لم يخرج له الشيخان، وهو صدوق [10].

والإسناد صحيح، قد صرّح كل رواته بالتحديث، وقد صرّح الوليد بالتحديث عن الأوزاعيّ في "الكبرى".

[تنبيه]: كون شيخ المصنّف عمرَو بنَ عثمان هو الذي في "المجتبى"، وأما في "الكبرى" فقال:"عمرو بن قتيبة"، وهو الصوريّ الشاميّ، صدوق [11].

روى عن الوليد بن مسلم. وعنه النسائيّ، روى عنه حديث الباب فقط، وسعد بن محمد البيروتيّ، وأحمد بن يزيد القاضي، وأحمد بن عمير بن يوسف بن جَوْصا

(1)

- وفي نسخة: "إن اللَّه وضع عنه يعني الصيام، ونصف الصلاة".

ص: 167

مكاتبةً. قال النسائيّ في "مشيخته": كتبنا عنه، لا بأس به. وقال مسلمة في "الصلة": صوريّ، لا بأس به، روى عنه النسائيّ بحمص.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لعلّ المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- روى هذا الحديث عن الشيخين، فلا تخالف بين ما في الكتابين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

والحديث صحيح الإسناد، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2269 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَاجِرِ، عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَفَرٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا ذَهَبْتُ لأَخْرُجَ، قَالَ: «انْتَظِرِ الْغَدَاءَ، يَا أَبَا أُمَيَّةَ» ، قُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: «تَعَالَ أُخْبِرْكَ عَنِ الْمُسَافِرِ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْهُ الصِّيَامَ، وَنِصْفَ الصَّلَاةِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسحاق بن منصور": هو الكَوْسَج. و"أبو المغيرة": هو عبد القدوس بن الحجاج الْخَوْلانيّ الحمصيّ، ثقة [9] 30/ 556. و"أبو قلابة": هو عبد اللَّه بن زيد الجَرْميّ البصريّ، ثقة فاضل كثير الإرسال [3] 103/ 322.

[تنبيه]: قوله: "أبو المهاجر" هكذا في هذه الرواية، والتي بعدها "أبو المهاجر".

قال الحافظ أبو الحجّاج المزيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف" جـ8 ص 140 - : هكذا يقول الأوزاعيّ، وغيره يقول:"عن أبي المهلّب"، وهو المحفوظ.

وقال في "تهذيب الكمال" ج 34 ص 325 - 326: "أبو المهاجر" عن بُريدة الأسلميّ حديث: "بكّروا بالصلاة في الغيم"، وعن أبي أمية عمرو بن أمية الضَّمْريّ حديث:"انتظر الغداء يا أبا أمية، قال: إني صائم"، وعن عمران بن حصين حديث:"الجهنية التي أقرّت أنها حبلى من الزنا". وعنه أبو قلابة الْجَرْميّ.

قاله الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة. روى له النسائيّ، وابن ماجه. هكذا يقول الأوزاعيّ، وغيره لا يذكر أبا المهاجر في شيء من هذه الأحاديث الثلاثة. أما الحديث الأول، فرواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعيّ كذلك، ورواه هشام الدستوائيّ، عن يحيي، عن أبي قلابة، عن أبي المليح، عن بُريدة، وهو المحفوظ.

وأما الحديث الثاني، فرواه محمد بن حرب الأبرش، وأبو المغيرة الخَوْلانيّ، عن الأوزاعيّ كذلك، وفيه اختلاف كثير على الأوزاعيّ.

وأما الحديث الثالث، فرواه الوليد بن مسلم، وغير واحد، عن الأوزاعيّ كذلك.

ص: 168

ورواه هشام الدستوائيّ، وغير واحد، عن يحيي بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المهلّب، عن عمران بن حصين، وهو المحفوظ، وقد قيل عن الأوزاعيّ أيضًا كذلك أيضًا، واللَّه أعلم. انتهى.

وقال ابن حبّان: وَهِمَ فيه الأوزاعيّ، فقال: عن أبي المهاجر، وإنما هو أبو المهلّب، عن أبي قلابة انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن الصواب في هذا الإسناد، والذي بعده أنه أبو المهلّب، لا أبو المهاجر، فتنبّه.

و"أبو المهلّب": هو الجَرْميّ البصريّ، عمّ أبي قلابة، واسمه عمرو، أو عبد الرحمن ابن معاوية، وقيل: غيره، ثقة [2] 21/ 1236.

والحديث صحيح الإسناد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2270 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَرْوَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْمُهَاجِرِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَيَّةَ -يَعْنِي الضَّمْرِيَّ- أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ نَحْوَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن سليمان": هو الرُّهَاويّ، ثقة حافظ، من أفراد المصنّف [11] 38/ 42. و"موسى بن مروان" أبو عمران التمّار البغداديّ، نزيل الرَّقَّة، مقبول [10].

ذكره ابن حبّان في "الثقات"، مات بالرَّقَّة في صفر سنة (246) أخرج له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

و"محمد بن حرب": هو الأبرش الخولانيّ الحمصيّ ثقة [9] 122/ 172. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2271 -

(أَخْبَرَنِي

(2)

شُعَيْبُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ الْجَرْمِيُّ، أَنَّ أَبَا أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ، حَدَّثَهُمْ، أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَفَرٍ، فَقَالَ

(3)

: «انْتَظِرِ الْغَدَاءَ يَا أَبَا أُمَيَّةَ» ، قُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ:«ادْنُ أُخْبِرْكَ عَنِ الْمُسَافِرِ، إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْهُ الصِّيَامَ، وَنِصْفَ الصَّلَاةِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد تقدّم قبل بابين.

(1)

- نقله في "تهذيب التهذيب" جـ4 ص594.

(2)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(3)

- وفي نسخة: "وقال" بالواو.

ص: 169

و"شعيب بن شعيب": هو الدمشقيّ، ولد شعيب شيخ شيخه، كان حَمْلاً عند وفاة والده، فسمي باسمه، صدوق [11] 60/ 1766.

و"عبد الوهاب": هو ابن سعيد السلميّ الدمشقيّ، صدوق [10] 60/ 1766.

و"شعيب": هو ابن إسحاق والد شعيب شيخ المصنّف البصريّ، ثم الدمشقيّ، ثقة رمي بالإرجاء، من كبار [9] 60/ 1766.

[تنبيه]: نقل الحافظ أبو الحجاج المزّيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف" جـ8 ص 138 عقب هذا الإسناد عن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أنه قال: هذا خطأ، وكذلك قال عقب الإسناد الذي بعد هذا: هذا خطأ أيضًا. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حاصل ما أشار إليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أن إسقاط الواسطة بين أبي قلابة، وبين عمرو بن أمية في رواية شعيب بن إسحاق، ومعاوية بن سلاّم، عن الأوزاعي، خطأ، وأن الصواب إدخال الواسطة بينهما كما رواه الآخرون الذين أدخلوا الواسطة بينهما، وهم: الوليد بن مسلم-2268 وأبو المغيرة- 2269 ومحمد بن حرب 2270 وعليّ بن المبارك- 2273.

لكن الذي يظهر لي أن هذا يحمل على أن أبا قلابة سمعه من عمرو بن أمية بواسطة، ثم سمعه منه، كما هو الحال في نظائره من أحاديث الثقات، فإن شعيب بن إسحاق، ومعاوية بن سلاّم ثقتان، وقد صرّح أبو قلابة في روايتهما بأنه سمعه من عمرو بن أميّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌51 - (ذِكْرُ اخْتِلَافِ مُعَاوَيةَ بْنِ سَلَّامٍ، وَعَليِّ بْنِ الْمُبَارَكِ في هَذَا الْحَدِيثِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن معاوية رواه عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، أن أبا أمية رضي الله عنه أخبره. وخالفه علي بن المبارك، فرواه عن يحيي، عن أبي قلابة، عن رجل، أن أبا أميّة أخبره، فأدخل واسطة بين أبي قلابة، وبين

ص: 170

أبي أمية، وهو الرجل المبهم.

وهذا الاختلاف مثل الاختلاف الواقع في الباب الذي قبل هذا، وقد عرفت الجواب عنه، فلا تغفل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2272 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، أَنَّ أَبَا أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَفَرٍ، وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَلَا تَنْتَظِرِ الْغَدَاءَ؟» ، قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَعَالَ أُخْبِرْكَ عَنِ الصِّيَامِ، إِنَّ اللَّهَ عز وجل

(1)

، وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصِّيَامَ، وَنِصْفَ الصَّلَاةِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد تقدّموا غير اثنين:

1 -

(محمد بن عبيد اللَّه بن يزيد بن إبراهيم) الشيبانيّ، أبي جعفر الحرّاني المعروف بـ"القَرْدُوَانيّ"

(2)

قاضي حرّان، صدوق، فيه لين [11].

ذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. وقال أبو عروبة: كان من عدول الحُكّام، ولم يكن يَعرف الحديث، وكان عنده كُتب ذكر أنه سمعها من أبيه، ولم يدرك أحدًا في البلد كتب عن أبيه، ولا حدّث عنه، مات بحرّان سنة (268) في ذي القعدة. تفرّد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان فقط برقم 2272 و 4812.

[تنبيه]: وقع في "الكبرى" محمد بن عبد اللَّه -مكبّرًا- بدل "عبيد اللَّه" -مصغّرًا"، و"الحواني" بالواو، بدل "الحرّانيّ" بالراء، وكلاهما تصحيف فاحش، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

2 -

(عثمان بن عبد الرحمن) بن مسلم الْحَرّاني، أبي عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو هاشم المكتب المعروف بـ"الطرائفيّ

(3)

"، مولى منصور بن محمد بن مروان، وقيل: مولى بني تيم، صدوق، أكثر الرواية عن الضعفاء والمجاهيل، فضُعّف بسبب ذلك، حتى نسبه ابن نُمير إلى الكذب، وقد ثقه ابن معين [9].

قال البخاريّ: يروي عن قوم ضعاف. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن إسحاق بن

(1)

- سقط "عز وجل" من بعض النسخ.

(2)

- في "لب اللباب" ج2 ص 175: القَرْدُوَاني" -بالفتح، وضم المهملة نسبة إلى قَرْدُوان.

(3)

- "الطَّرَائِفِيُّ" بفتحتين، وفاء: نسبة إلى بيع الطرائف، وهي الأشياء الحسنة المتّخذة من الخشب. قاله في "لبّ اللباب" ج2 ص90. لكن عثمان هذا إنما نسب لتتبعه طرائف الحديث، كما يأتي في كلام أبي أحمد الحاكم. فتنبّه.

ص: 171

منصور، عن ابن معين: عثمان بن عبد الرحمن التيميّ ثقة. قال: وسألت أبي عنه؟ فقال: صدوق، وأنكر على البخاريّ إدخاله في "الضعفاء"، يشبه بَقِيَّة في روايته عن الضعفاء. وقال أبو أحمد الحاكم: إنما لُقّب بـ"الطرائفي"؛ لأنه كان يتتبّع طرائف الحديث، يروي عن قوم ضعاف، حديثه ليس بالقائم. وقال ابن عديّ: سمعت أبا عَرُوبة ينسبه إلى الصدق، وقال: لا بأس به، متعبّد، ويحدّث عن قوم مجهولين بالمناكير، وعنده عجائب، وهو في الْجَزِيرة كبقيّة في الشاميين. قال أبو أحمد: وصورة عثمان أنه لا بأس به، وتلك العجائب من جهة المجهولين، وما يقع في حديثه من الإنكار، فإنما يقع من جهة من يروي عنه. وقال ابن أبي عاصم: صدوق اللسان. ووثّقه ابن شاهين. وقال الساجيّ: عنده مناكير. وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: لا أجيزه. وقال الأزديّ: متروك. وقال ابن نمير: كذّاب. وقال ابن حبّان: يروي عن قوم ضعاف أشياء يدلّسها، لا يجوز الاحتجاج به.

وقال أبو عروبة: قال لي محمد بن يحيي: ليّن، مات سنة (203) وقال غيره: سنة (202).

روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب الحديثان المذكوران في الترجمة التي قبله.

و"معاوية": هو ابن سلاّم، أبو سلاّم الدمشقيّ الحمصيّ، ثقة [7] 13/ 1479.

والحديث صحيح الإسناد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2273 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَلِيٌّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ رَجُلٍ، أَنَّ أَبَا أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، مِنْ سَفَرٍ، نَحْوَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف بهذا بيان مخالفة عليّ بن المبارك لمعاوية بن سلاّم في إسقاط الواسطة بين أبي قلابة، وأبي أمية، كما تقدّم أوّل الباب.

و"عثمان بن عمر"، و"عليّ" بن المبارك الْهُنائيّ تقدّما قبل بابين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2274 -

(أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ التَّلِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ، نِصْفَ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمَ، وَعَنِ الْحُبْلَى، وَالْمُرْضِعِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا أدخل المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- حديث أنس بن مالك القشيريّ تحت باب بيان الاختلاف في حديث عمرو بن أمية، وكان الأولى أن

ص: 172

يترجم له بترجمة خاصّة كسائر الأبواب التي بيّن بها الاختلاف الواقع في أحاديث الصحابة المتقدمين. واللَّه تعالى أعلم.

ورجاله رجال الصحيح، غير الصحابيّ، فمن رجال الأربعة. وكلهم تقدّموا، غير ثلاثة:

1 -

(عمر بن محمد بن الحسن) بن الزبير الأسديّ -بفتح المهملة- الكوفيّ المعروف بـ"ابن التلّ" -بفتح المثنّاة، بعدها لام- صدوق ربّما وهم [11].

قال أبو حاتم: محله الصدق. وقال النسائيّ: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُعتبر بحديثه، ما حدّث من كتاب أبيه، فإن في روايته التي يرويها من حفظه بعضَ المناكير. وقال الدارقطنيّ: لا بأس به. وقال الحاكم، عن الدارقطنيّ: ثقة. وقال مسلمة في "الصلة": صدوق ثقة. وقال البخاريّ: مات في شوّال سنة (250). روى عنه البخاريّ، والمصنف، وله عنده هذا الحديث فقط.

2 -

(أبوه) محمد بن الحسن بن الزبير الأسديّ، أبو عبد اللَّه، ويقال: أبو جعفر، الكوفيّ، لقبه "التَّلّ" -بفتح المثناة، وتشديد اللام- صدوق فيه لين [9].

قال الدوريّ، عن ابن معين: شيخ. وقال مرّة: قد أدركته، وليس بشيء. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: صالح يكتب حديثه. وقال يعقوب بن سفيان: محمد بن الحسن الْهَمْدانيّ، ومحمد بن الحسن الأسديّ ضعيفان. وقال العُقيليّ: لا يُتابع على حديثه. وقال ابن عديّ: له أحاديث أفراد، وحدّث عنه الثقات، ولم أر بحديثه بأسًا. وقال العجليّ: كوفي لا بأس به. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: هو ثقة صدوق، قيل: هو حجة؟ قال: أما حجة فلا. وقال الساجيّ: ضعيف، وقد أدركت ابنه عمر، وكتبت عنه، عن أبيه أحاديث. وقال البزّار، والدارقطنيّ: ثقة. قال البخاريّ: مات سنة (200) أو نحوها. روى له البخاريّ، والمصنف، وابن ماجه، وله عند المصنف هذا الحديث فقط.

3 -

(أنس) بن مالك القُشيريّ، أبو أُميّة، وقيل: أبو أُمَيمة، ويقال: أبو مَيّةَ، صحابيّ نزل البصرة، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم -حديثًا واحدًا:"إن اللَّه وضع عن المسافر الصيام، وشطر الصلاة"، ومنهم من ذكر فيه قصّة، وعنه أبو قلابة، وعبد اللَّه بن سَوَادة، وفي إسناده اختلاف، وحسّن الترمذيّ حديثه. وهو من بني قُشير بن كعب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة. ووقع في رواية ابن ماجه رجلٌ من بني عبد الأشهل، وهو غلط. روى له الأربعة، له عندهم هذا الحديث فقط، كرره المصنف ثلاث مرات برقم 2274 و 2276 و 2315.

ص: 173

وقوله: "والصوم" بالنصب، عطفًا على "شطرَ"، ولا يجوز جرّه عطفًا على "الصيام"؛ لأن الموضوع في الصوم كله، لا شطره. فتنبّه. وسيأتي شرح الحديث، والكلام على مسائله في الذي بعده، إن شاء اللَّه تعالى.

والحديث بهذا الإسناد ضعيف، لعنعنة أبي قلابة، وقد طعنه بعضهم بالتدليس

(1)

، وقد دلّت الرواية الآتية أن بينهما رجلاً مبهمًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2275 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنِ

(2)

ابْنِ عُيَيْنَةَ

(3)

، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ قُشَيْرٍ، عَنْ عَمِّهِ، حَدَّثَنَا، ثُمَّ أَلْفَيْنَاهُ

(4)

فِي إِبِلٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو قِلَابَةَ: حَدِّثْهُ، فَقَالَ الشَّيْخُ: حَدَّثَنِي عَمِّي، أَنَّهُ ذَهَبَ فِي إِبِلٍ لَهُ، فَانْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَأْكُلُ -أَوْ قَالَ: يَطْعَمُ- فَقَالَ: "ادْنُ، فَكُلْ"، أَوْ قَالَ:«ادْنُ فَاطْعَمْ» ، فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ:«إِنَّ اللَّهَ عز وجل وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ، شَطْرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامَ، وَعَنِ الْحَامِلِ، وَالْمُرْضِعِ» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن حاتم) بن نُعيم المروزيّ، ثقة [12] 66/ 1800. من أفراد المصنّف.

2 -

(حِبّان) -بكسر الحاء المهملة- ابن موسى بن سَوّار السلميّ، أبو محمد المروزيّ، ثقة [10] 1/ 397.

3 -

(عبد اللَّه) بن المبارك بن واضح الحنظليّ المروزيّ، ثقة ثبت حجة [8] 32/ 36.

4 -

(ابن عيينة) هو سفيان، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت حجة [8] 1/ 1.

5 -

(أيوب) بن أبي تميمة السختيانيّ البصريّ، ثقة ثبت فقيه حجة [5] 42/ 48.

واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أيوب) السختيانيّ (عَنْ شَيْخٍ من قُشَيْرِ) لم يسمّ (عَنْ عَمِّهِ) هو أنس بن مالك

(1)

- ففد قال الذهبي في "الميزان" ج 2 ص 425 - 426: ثقة في نفسه: إلا أنه يدلّس عمن لحقه، وعمن لم يلحقه، وكان له صحف يحدّث فيها ويدلس انتهى. لكن قال في "تت" ج 2 ص 34: قال أبو حاتم: ولا يعرف له تدليس. انتهى.

(2)

- وفي نسخة: "حدثنا".

(3)

- ووقع في بعض النسخ: "ابن علية"، وهو غلط، والصواب هنا "ابن عيينة"، وحديث "ابن علية" يأتي بعده.

(4)

- وفي نسخة: "قال: ثم ألفيناه"، وفي نسخة:"لقيناه".

ص: 174

القشيريّ، كما أوضحته الرواية الآتية (حَدَّثَنَا، ثُمَّ أَلْفَيْنَاهُ) بالفاء، أي وجدناه، وفي نسخة:"ثم لقيناه" بالقاف، من اللقاء، وهو بمعنى الأول.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن في هذه الرواية حذفًا يتبيّن بالرواية التالية، ولفظها: "عن أيوب، قال: حدثني أبو قلابة هذا الحديث، ثم قال: هل لك في صاحب الحديث، فدلّني عليه، فلقيته، فقال: حدّثني قريب لي، يقال له: أنس بن مالك

". فيكون التقدير هنا: حدثنا أبو قلابة، عن شيخ، ثم ألفيناه، أي ثم بعد أن حدّثنا أبو قلابة وجدنا ذلك الشيخ. واللَّه تعالى أعلم.

(فِي إِبِلٍ لَهُ، فَقَالَ: لَهُ أَبُو قِلَابَةَ: حَدِّثْهُ) أمر من التحديث، أي قال أبو قلابة لذلك الشيخ: حدّث أيوبَ الحديث الذي حدثتنيه (فَقَالَ: الشَّيْخُ: حَدَّثَنِي عَمِّي، أنَّهُ ذَهَبَ فِي إِبِلٍ لَهُ) أي في طلب إبل أغار عليها المسلمون، فأخذوها ظنّا منهم أنها للكفار، ففي رواية أحمد: "قال: أغارت علينا خيل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأتيته، وهو يتغدى

" (فَانْتَهَى) أي وصل (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) الجار والمجرور متعلّق بـ"ذهب"، أو بـ"انتهى" على سبيل التنازع (وَهُوَ يَأْكُلُ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم يأكل الغداء، وفي الرواية التالية: "فهذا هو يتغذى" (-أَوْ قَالَ: يَطْعَمُ-) شكّ من الراوي (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ادْنُ) أمر من الدنوّ، أي اقرُب، وفي الرواية التالية:"فقال: هلمّ إلى الغداء"(فَكُلْ"، أَوْ قَالَ: "ادْنُ فَاطْعَمْ"، فَقُلْتُ: إِنِّي صَائمٌ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل، وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ، شَطْرَ الصَّلَاةِ) أي الرباعيّة، لا إلى بدل، بخلاف الصوم (وَالصِّيَامَ) بالنصب عطفًا على "شطر"، ولا يجوز جرّه؛ لأن الوضع بالنسبة للصوم كلّه، لا بعضه، فافهم، أي وضع عنه لزوم الصيام في تلك الأيام، وخيّره بين أن يصوم تلك الأيام، وبين عدّة من أيام أخر.

ولفظ أبي داود: "إن اللَّه وضع عن المسافر شطر الصلاة، والصومَ عن المسافر، وعن المرضع والحبلى".

قال الطيبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وإنما ذَكَرَ "عن المسافر" بعد الصوم ليصحّ عطف "عن المرضع" عليه، لأن شطر الصلاة ليس موضوعًا عن المرضع انتهى.

ورواه أحمد بلفظ: "إن اللَّه وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن المسافر، والحامل، والمرضع الصومَ، أو"الصيام".

قال التوربشتيّ -رحمه اللَّه تعالى-: "الصوم" منصوب، والعامل فيه "وَضَع"، وشتان بين الوضعين، فإن الموضوع عن الصلاة ساقط لا إلى قضاء، ولا كذلك الصوم، وإنما ورد البيان على تقرير الرخصة، فأتى بقضايا منسوقة في الذكر، مختلفة في الحكم،

ص: 175

وذلك لاتكاله على بيان التنزيل من قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، ثم على المخاطبين بذلك انتهى

(1)

.

(وَ) وضع الصوم أيضًا (عَنِ) المرأة (الْحَامِل) إنما لم تدخله تاء التأنيث لاختصاصه بالأنثى كالحائض، ومثله قوله (وَالْمُرْضِع) يعَني أن اللَّه تعالى وضع عن الحامل، والمرضع وجوب أداء الصوم إذا خافتا علىَ أنفسهما، أو على الحمل والرضيع، ثم هل هو وضع إلى قضاء، أو فداء، أو لا قضاء، ولا فداء قد اختلف فيه أهل العلم، وسيأتي تمام الكلام على ذلك مستوفًى في -62/ 2315 باب "وضع الصيام عن الحبلى، والمرضع"، إن شاء اللَّه تعالى.

وزاد في رواية أبي داود في آخر هذا الحديث: "فتلهّفت نفسي أن لا أكون أكلت من طعام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". أي أسفت، وندمت على عدم أكلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفتُ الرخصة. وفي رواية أحمد، والترمذيّ:"فيا لهف نفسي". وهذا يدلّ على أن أنس بن مالك الكعبيّ رضي الله عنه كان مسافرًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أيوب عن شيخ من قُشَير، عن عمه حديث حسن.

[تنبيه]: اعلم أن هذا الحديث مضطرب اضطرابًا شديدًا، وقد بين المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- ذلك فيما ساقه من هذه الروايات في هذا الباب، وقال الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن أخرجه من طريق أبي هلال الراسبيّ، عن عبد اللَّه بن سوادة، عن أنس رضي الله عنه: حديث أنس بن مالك الكعبيّ حديث حسن، ولا نعرف لأنس بن مالك هذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث الواحد انتهى، وهي الرواية الآتية للمصنّف -62/ 2315 - ونقل المنذريّ تحسين الترمذيّ

(2)

، وأقرّه عليه

(3)

وهو الذي يظهر لي. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-51/ 2274 و 2276 و 2315 - وفي "الكبرى" 51/ 2583 و2584 و 2585 و 2586 و 62/ 2624. وأخرجه (د) في "الصوم" 2408 (ت) في "الصوم" 715 (ق) في "الصيام" 1667 وفي "الأطعمة" 3299 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 18568 وفي "مسند البصريين" 19814 (الدارمي) في "الصوم" 1711. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- انظر "المرعاة" ج 7 ص 15.

(2)

- وقال الحافظ في "تت": صحح الترمذيّ حديثه. ولعل هذا لاختلاف النسخ.

(3)

- وكذا حسن الشيخ الألبانيّ -رحمه اللَّه تعالى-، انظر "صحيح النسائيّ" 2/ 484 - 485.

ص: 176

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): سماحة الشريعة، وسهولتها، حيث يسرت في مواضع الضرورة، قال اللَّه تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحجّ: 78]، وقال:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أحبّ الدين إلى اللَّه الحنيفية السمحة" رواه أحمد بسند حسن. وقال: "إن الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه

" الحديث، متفق عليه (ومنها): مشروعية قصر الصلاة للمسافر (ومنها): عدم وجوب الصوم على المسافر حال سفره (ومنها): عدم وجوب الصوم على الحامل والمرضع الخائفتين عليهما، أو على أولادهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2276 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ هَذَا الْحَدِيثَ

(1)

، ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِ الْحَدِيثِ؟ فَدَلَّنِي عَلَيْهِ، فَلَقِيتُهُ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي قَرِيبٌ لِي، يُقَالُ لَهُ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِبِلٍ، كَانَتْ

(2)

لِي أُخِذَتْ، فَوَافَقْتُهُ، وَهُوَ يَأْكُلُ، فَدَعَانِي إِلَى طَعَامِهِ، فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ: «ادْنُ أُخْبِرْكَ عَنْ ذَلِكَ، إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ

(3)

عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ، وَشَطْرَ الصَّلَاةِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو بكر بن عليّ": هو أحمد بن عليّ بن سعيد المروزيّ القاضي، ثقة حافظ [12] 1/ 2094. من أفراد المصنّف.

و"سُريج": هو ابن يونس بن إبراهيم البغداديّ، أبو الحارث مَزُوذيُّ الأصل، ثقة عابد [10].

قال الميموني عن أحمد بن حنبل: رجل صالح، صاحب خير ما علمت. وقال أبو داود عن أحمد: ليس به بأس. وقال أيضًا: سمعت أحمد يثني عليه. وقال ابن أبي خيثمة وغيره: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن سعد وابن قانع: ثقة ثبت. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الغلابي عن ابن معين: سُرَيج بن النعمان ثقة، وسريج بن يونس أفضل منه. أخرج له البخاري، ومسلم، والمصنف، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (227) و (5668) و (5684).

[تنبيه]: وقع في النسخة الهندية: "شُرَيح" بالشين المعجمة، آخره حاء مهملة، بدل "سُريج"، وهو تصحيف فاحش، فتنبّه.

(1)

- وفي نسخة: "بهذا الحديث".

(2)

- وفي نسخة: "كان".

(3)

- وفي نسخة: "إنه وُضِعَ"، فيكون مبنيًا للمفعول.

ص: 177

والحديث حسنٌ، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2277 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ رَجُلٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَةٍ، فَإِذَا هُوَ يَتَغَدَّى، قَالَ: هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ، فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: «هَلُمَّ أُخْبِرْكَ عَنِ الصَّوْمِ، إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ، نِصْفَ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمَ، وَرَخَّصَ لِلْحُبْلَى، وَالْمُرْضِعِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد اللَّه": هو ابن المبارك. وقوله: "عن رجل، قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم الخ". هذا الإسناد مخالف لما قبله، فقد أسقط خالدٌ الواسطة بين أبي قلابة، وبين الصحابيّ في إسناد أيوب الماضي. ثم إنه يحتمل أن يكون هذا الرجل المبهم هو أنس بن مالك الكعبيّ رضي الله عنه.

والحديث حسنٌ، تفرّد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2278 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ رَجُلٍ

(1)

نَحْوَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو العلاء بن الشِّخِّير": هو يزيد بن عبد اللَّه بن الشِّخِّير العامريّ البصريّ، ثقة [2] 32/ 672.

والحديث تفرّد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2279 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ هَانِئِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَلْحَرِيشٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ مُسَافِرًا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا صَائِمٌ، وَهُوَ يَأْكُلُ، قَالَ: «هَلُمَّ» ، قُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: «تَعَالَ، أَلَمْ تَعْلَمْ، مَا وَضَعَ اللَّهُ، عَنِ الْمُسَافِرِ؟» ، قُلْتُ: وَمَا وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ؟ ، قَالَ: «الصَّوْمَ، وَنِصْفَ الصَّلَاةِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو عوانة": هو الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ. و"أبو بشر": هو جعفر بن إياس البصريّ، ثم الواسطيّ.

و"هانئ بن الشخير" -بكسر المعجمتين، وتثقيل ثانيه، ثم تحتانيّة ساكنة، ثم راء- ابن عوف بن كعب بن وَقْدان بن الحَرِيش العامريّ، نُسب لجدّه- مقبول [3].

روى عن أبيه، وقيل: عن رجل من بَلْحَرِيش -وهو وَهَم- في الرخصة في الفطر في السفر. وعنه أبو بشر جعفر بن أبي وحشيّة. ذكره ابن حبّان في "الثقات". انفرّد به

(1)

- وفي نسخة: (عن الرجل).

ص: 178

المصنّف، بهذا الحديث فقط.

و"عبد اللَّه بن الشخير" بن عوف العامريّ، صحابيّ، من مسلمة الفتح تقدّم في 34/ 727. وقوله:"عن رجل" يأتي قريبًا أنه غلط، والصواب حذفه.

[تنبيه]: قوله: "بَلْحَرِيش" -بفتح الموحّدة، وكسر الراء- منحوت من "بني الحَرِيش" بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن قيس. أفاده في "اللباب" 1/ 357.

وقوله: "ما وَضَعَ اللَّه عن المسافر": يحتمل أن تكون "ما" موصولة، مفعولَ "تعلم"، ويحتمل أن تكون مصدرية، والمصدر المؤوّل مفعول "تعلم" أيضًا. و"تعلم" هنا بمعنى "تعرف"، ولذا تعدّت إلِى مفعول واحد، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

لِعِلْمِ عِرْفَانٍ وَظَنٍّ تَهُمَهْ

تَعْدِيَةٌ لِواحِدٍ مُلْتَزَمَهْ

ويحتمل أن تكون "ما" استفهاميّة. وأما "ما" التي في قوله: "وما وَضَعَ عن المسافر" استفهامية، لا غير.

والحديث تفرّد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو صحيح عن هانئ بن عبد اللَّه، عن أبيه، بإسقاط "عن رجل"، كما هو رواية أبي زرعة الآتية، إن شاء اللَّه تعالى.

قال الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف": ما نصّه: والحديث حديث أبي زرعة -يعني الذي يأتي بعد حديث- والصواب حذف "عن" من حديث قتيبة، والطرسوسيّ -يعني الحديث التالي- و"هانئ" هو ابن عبد اللَّه بن الشخّير، أخو مطرّف، ويزيد. وقول قتيبة:"هانئ بن الشخّير" ينسبه إلى جدّه، وسقط ذكر "أبيه"، ولعله عن هانئ -رجل من بني الْحَرِيش- و"عن" مَزِيدة انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما قاله الحافظ المزيّ -رحمه اللَّه تعالى- أن الحديث صحيح عن هانئ بن عبد اللَّه بن الشّخّير، عن أبيه رضي الله عنه، بإسقاط "عن رجل"، كما هي رواية أبي زرعة الرازي الآتية. أو بإسقاط "عن"، فيكون "رجل من بلحريش" بدلاً من "هانئ". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2280 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ هَانِئِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ رَجُلٍ، مِنْ بَلْحَرِيشٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا نُسَافِرُ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَطْعَمُ، فَقَالَ: «هَلُمَّ، فَاطْعَمْ» ، فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الصِّيَامِ، إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ، وَشَطْرَ الصَّلَاةِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد الرحمن بن محمد بن سلاّم" -بتشديد اللام- أبو القاسم البغداديّ، ثم الطَّرَسُوسيّ، لا بأس به [11] 172/ 1141.

ص: 179

و"أبو داود": هو سليمان بن داود الطيالسيّ. ويحتمل أن يكون عُمَر بن سَعْد الْحَفَريّ الكوفيّ، فكلاهما يرويان عن أبي عوانة، ويروي عنهما عبد الرحمن بن محمد بن سلاّم.

والحديث قد تقدّم تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2281 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ هَانِئِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ،، قَالَ: كُنْتُ مُسَافِرًا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَأْكُلُ، وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ: «هَلُمَّ» ، قُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: «أَتَدْرِي مَا وَضَعَ اللَّهُ عَنِ الْمُسَافِرِ؟» ، قُلْتُ: وَمَا وَضَعَ اللَّهُ عَنِ الْمُسَافِرِ؟ ، قَالَ: «الصَّوْمَ، وَشَطْرَ الصَّلَاةِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبيد اللَّه بن عبد الكريم": هو الحافظ الإمام الجليل أبو زرعة الرازيّ [11] 93/ 1351.

و"سهل بن بَكّار"بن بشر الدارميّ، ويقال: الْبُرْجُمِيّ، ويقال: القيسيّ، أبو بشر البصريّ المكفوف، ثقة ربما وهم [10].

قال أبو حاتم: ثقة. ووثقه الدارقطنيّ. وقال ابن قانع: صالح. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: صدوق. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: ربما وهم، وأخطأ. مات سنة (227) وقيل:(8). روى عنه البخاريّ، وأبو داود، والمصنف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا 2281 و 4449.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم قريبًا أن هذه الرواية هي الصواب، وما تقدّم بزيادة "عن رجل من بلحريش" خطأ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2282 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُوسَى -هُوَ ابْنُ أَبِي عَائِشَةَ- عَنْ غَيْلَانَ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي قِلَابَةَ فِي سَفَرٍ، فَقَرَّبَ طَعَامًا، فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَرَجَ فِي سَفَرٍ، فَقَرَّبَ طَعَامًا، فَقَالَ لِرَجُلٍ «ادْنُ، فَاطْعَمْ» ، قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ، نِصْفَ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامَ فِي السَّفَرِ» ، فَادْنُ، فَاطْعَمْ، فَدَنَوْتُ، فَطَعِمْتُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو ثقة.

و"عبيد اللَّه": هو ابن موسى بن أبي المختار باذام العبسيّ الكوفيّ ثقة يتشيّع [9] 72/ 1326.

ص: 180

و"إسرائيل": هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، ثقة [7] 75/ 1006.

و"موسى بن أبي عائشة": هو أبو الحسن الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقة عابد [5] 40/ 834.

و"غيلان": هو ابن جرير المِعْوليّ الأزديّ البصريّ، ثقة [5] 124/ 1082.

وقوله: "فادن، فأطعم" من كلام أبي قلابة. وقوله: "فدنوتُ، فطعمتُ" من كلام غيلان بن جرير. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث مرسل صحيح بما تقدّم، وهو من أفراد المصنّف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌52 - (فَضْلُ الإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ عَلَى الصِّيَامِ)

(1)

2283 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ، عَنْ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي السَّفَرِ، فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فَنَزَلْنَا فِي يَوْمٍ حَارٍّ، وَاتَّخَذْنَا ظِلَالاً، فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ، فَسَقَوُا الرِّكَابَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهوية المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، من كبار [9] 26/ 30.

3 -

(عاصم الأحول) ابن سليمان، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقة [4] 148/ 239.

4 -

(موَرّق) -بتشديد الراء- ابن مُشَمّرِج -بضمّ أوله، وفتح المعجمة، وسكون الميم، وكسر الراء، بعدها جيم- ويقال: ابن عبد اللَّه، العجليّ، أبو المعتمر البصريّ، ويقال: الكوفيّ، ثقة عابد، من كبار [3].

قال النسائيّ: ثقة. وقال العجليّ: بصريّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال:

(1)

- وفي نسخة: "على الصوم".

ص: 181

كان من العبّاد الخشن. وقال ابن سعد: كان ثقة عابدًا، قالوا: توفي في ولاية عُمَر بن هُبَيرة على العراق. مات سنة (1053) وقيل (3) وقيل (8). أخرج له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

5 -

(أنس بن مالك) بن النضر الأنصاريّ الصحابيّ الخادم المشهور - رضي اللَّه تعالى - عنه 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله. ومنها: أنه مسلسل بالبصريين غير شيخه، فمروزي، وأبي معاوية فكوفي. ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي: عاصم عن مُوَرِّقِ. ومنها: أن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة. وآخر من مات من الصحابة بالبصرة - رضي اللَّه تعالى عنهم -. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ) خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وليس هو أنس بن مالك الكعبيّ المذكور في الباب الماضي. فتنبّه (قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي السَّفَرِ، فَمِنَّا الصَّائِمُ) أراد به الجنس (وَمِنَّا الْمُفْطِرُ) وفي رواية: "فصام بعض، وأفطر بعض". وفيه دليل على جواز الصوم في السفِر، لتقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم للصائمين على صومهم (فَنَزَلْنَا فِي يَوْمٍ حَارٍّ) أي شديد الحرار (وَاتَّخَذْنَا ظِلَالَا) وفي رواية البخاريّ:"أكثرنا ظلاّ من يستظلّ بكسائه". ولمسلم: "أكثرنا ظلاًّ صاحب الكساء، ومنّا من يَتَّقِي الشمسَ بيده"(فَسَقَطَ الصُّوَّامُ) بالضمّ جمع صائم. أي ضعفوا عن الحركة، ومباشرة حوائجهم؛ لأجل ضعفهم (وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ) أي بالخدمة. وفي رواية البخاريّ:"وأما الذين أفطروا، فبعثوا الركاب، وامْتَهَنوا، وعالجوا".

وفي رواية لمسلم: "فتحزّم المفطرون، وعملوا". -بالحاء المهملة، والزاي-.

ووقع في بعض النسخ: "فتخدّموا" -بالخاء المعجمة، والدال المهملة- وادعى بعضهم أنه الصواب؛ أي أنهم كانوا يخدمون. قال القاضي عياض: والأول صحيح أيضًا، ولصحته ثلاثة أوجه: أحدها: معناه شدّوا أوساطهم للخدمة. والثاني: أنه استعاره للاجتهاد في الخدمة، ومنه:"إذا دخل العشر اجتهد، وشدّ المئزر". والثالث: أنه من الحزم، وهو الاحتياط، والأخذ بالقوّة، والاهتمام بالمصلحة انتهى

(1)

(فَسَقَوُا الرِّكَابَ) ولمسلم: "فضربوا الأخبية، وسقوا الركاب". و- الركاب" -بكسر الراء -أي الإبل التي يُسار عليها، واحدها راحلة، ولا واحد لها من لفظها (فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ) أي الأجر الوافر، وهو ما فعلوه من خدمة

(1)

- راجع "شرح النووي على صحيح مسلم".

ص: 182

الصائمين بسقي الركاب، وضرب الخباء، ونحوهما؛ لما حصل منهم من النفع المتعدّي، وليس المراد نقص أجر الصوّام، بل المراد أن المفطرين حصل لهم أجر عملهم، ومثل أجر الصوّام؛ لتعاطيهم أشغالهم، وأشغال الصوّام، فلذلك قال:"بالأجر كله"؛ لوجود الصفات المقتضية لتحصيل الأجر منهم. قاله الحافظ.

وقال القاري: أي بالثواب الأكمل؛ لأن الإفطار كان في حقهم أفضل، وفي ذكر "اليوم" إشارة إلى عدم إطلاق هذا الحكم. وقال الطيبيّ: أي إنهم مضوا، واستصحبوا الأجر، ولم يتركوا لغيرهم شيئًا منه، على طريقة المبالغة، يقال: ذهب به: إذا استصحبه، ومضى به معه.

وقال ابن دقيق العيد: فيه وجهان:

أحدهما: أن يراد بالأجر أجر تلك الأفعال التي فعلوها، والمصالح التي جرت على أيديهم، ولا يراد مطلق الأجر على سبيل العموم.

والثاني: أن يكون أجرهم قد بلغ في الكثرة بالنسبة إلى أجر الصوم مبلغًا يَنغمر فيه أجر الصوم، فتحصل المبالغة بسبب ذلك، ويجعل كأنّ الأجر كله للمفطر انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه- 52/ 2283 - وفي "الكبرى" 52/ 2592. وأخرجه (خ) في "الجهاد" 2890 (م) في "الصيام" 1119. واللَّه تعالى أعلم.

[فائدة]: قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا الحديث من الأحاديث التي أرودها البخاريّ في غير مظنتها؛ لكونه لم يذكرها في "الصيام"، واقتصر على إيرادها في "الجهاد" انتهى. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو فضل الإفطار في السفر على الصيام (ومنها): الحضّ على المعاونة في الجهاد (ومنها): أن أجر الخدمة في الغزو أعظم من أجر الصيام. قاله ابن أبي صفرة. واعترض عليه الحافظ بأنه ليس ذلك على العموم (ومنها): جوزا الصوم في السفر؛ خلافًا لمن قال: لا ينعقد. واللَّه تعالى أعلم

(1)

- راجع "المرعاة: ج 7 ص 9.

ص: 183

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌53 - (ذِكْرُ قَوْلِهِ: "الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ")

2284 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: يُقَالُ: الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ، كَالإِفْطَارِ فِي الْحَضَرِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ الْبَلْخِيُّ) الملقّب حمدويه، مستملي وكيع، ثقة حافظ [10] 44/ 951.

2 -

(معن) بن عيسى القزّاز الأشجعي مولاهم، أبو يحيى المدنيّ، ثقة ثبت، قال أبو حاتم: أثبت أصحاب مالك، من كبار [10] 50/ 62.

3 -

(ابن أبي ذئب) هو: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشيّ العامريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقة فقيه فاضل [7] 41/ 685.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الفقيه المدنيّ [4] 1/ 1.

5 -

(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة فقيه [3] 1/ 1.

6 -

(عبد الرحمن بن عوف) بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زُهرة القرشيّ الزهريّ، أحد العشرة، أسلم قديمًا، ومات سنة (32) وقيل: غير ذلك، تقدّم في 40/ 2208. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، إلا أن فيه انقطاعًا، فإن أبا سلمة لم يسمع من أبيه، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الأولى، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فلبخي. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن صحابيه أحد العشرة المبشرين بالجنة - رضي اللَّه تعالى عنهم -. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: يُقَالُ) هذا ليس من صيغ الرفع

ص: 184

حكمًا، فإن قال قائل: إنه يحتمله نقول: إن الروايات الآتية التي تنصّ على أن الحديث موقوف على عبد الرحمن رضي الله عنه تقدّم عليه ("الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ، كَالإِفْطَارِ فِي الْحَضَرِ) أي إن حكم الصيام في السفر كحكم الفطر، في الحضر، وهو المنع، وفيه مبالغة في المنع عن الصوم في السفر، وبهذا تمسك الظاهرية، فقالوا بالمنع عن صوم رمضان في السفر. وذهب الجمهور، وهو الحقّ إلى أنه محمول على حال عدم القدرة، ولحوق الضرر، أو الاستنكاف والإعراض عن العمل برخصة اللَّه تعالى.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: هو محمول على ما تقدّم أوّلاً حيث يكون الفطر أولى من الصوم انتهى.

وقال الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هو محمول على الحالة التي يكون الفطر فيها أولى من الصوم؛ كحالة المشقّة، جمعًا بين الأدلّة.

وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "كالمفطر في الحضر" أي في غير رمضان، فمرجعه إلى أن الصوم خلاف الأولى، أو كالمفطر في رمضان، فمدلوله أنه حرام، والأول أقرب، ومع ذلك لا بدّ عند الجمهور من حمله على حالة مخصوصة؛ كما إذا أجهده الصوم انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد الرحمن بن عوف هذا موقوف صحيح من رواية حميد بن عبد الرحمن، عنه وهي الآتية بعد حديث، وأما بهذا الإسناد فإنه منقطع؛ لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه. قال أحمد، وابن معين، وابن المدينيّ، وأبو حاتم، ويعقوب بن شيبة، وأبو داود: حديثه عن أبيه مرسل، قال أحمد: مات وهو صغير. وقال أبو حاتم: لا يصحّ عندي. وصرح الباقون بكونه لم يسمع. وقال ابن عبد البرّ: لم يسمع من أبيه، وحديث النضر بن شيبان في سماع أبي سلمة عن أبيه لا يصحّحونه

(1)

.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "التلخيص الحبير": حديث: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر". رواه ابن ماجه، والبزّار

(2)

من حديث عبد الرحمن بن عوف،

(1)

- انظر ترجمته في "تت" ج 4 ص 532. طبعة مؤسسة الرسالة.

(2)

- وكذا ابن حزم في "المحلى" كلهم من طريق أسامة بن زيد الليثيّ، عن الزهريّ، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، قال في الزوائد: في إسناده انقطاع، وأسامة بن زيد متفق على تضعيفه، وأبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئًا. قاله ابن معين، والبخاري. انتهى.

وفي دعوى الاتفاق على تضعيف أسامة نظر، فقد وثقه بعضهم، وأكثر مسلم الاستشهاد به في "صحيحه". فتنبّه.

ص: 185

والنسائيّ من حديثه بلفظ: "كان يقال"، وصوّب وقفه على عبد الرحمن، وأخرجه ابن عديّ من وجه آخر، وضعّفه، وكذا صحح كونه موقوفًا ابن أبي حاتم، عن أبيه، والدارقطنيّ في "العلل"، والبيهقيّ. انتهى

(1)

. والحاصل أن الحديث مرفوعًا يصحّ، وإنما الصحيح أنه موقوف على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-53/ 2284 و 2285 و 2286 - وفي "الكبرى" 53/ 2593 و 2594 و 2595. وأخرجه (ق) في "الصيام" 1666. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2285 -

(أَخْبَرَنَا

(2)

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ الْخَيَّاطِ، وَأَبُو عَامِرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ، كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، سوى:

شيخه، فقد انفرد به هو، والترمذيّ، وهو مروزي ثقة حافظ [10] 162/ 254. وكلهم تقدموا، غير:

1 -

(حماد ابن الخيّاط) وهو حماد بن خالد الخيّاط القرشيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، نزيل بغداد، ثقة أميّ [9].

قال أحمد: كان حافظًا، كتبت عنه أنا ويحيى بن معين، وكان يحدّثنا، وهو يحفظ.

وقال الدوريّ، عن ابن معين: ثقة، كان أميّا لا يكتب، وكان يقرأ الحديث. وقال ابن عمّار، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن المدينيّ: كان من أهل المدينة، وكان ثقة عندنا. وقال مجاهد بن موسى: كتبنا عنه، وهشيم حيّ، ومدحه يحمرو بن معين، ووثّقه. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، ثقة، وأنكر أن يكون أميا. وقال أبو زرعة: شيخ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الحسن بن عرفة: كان من خير من أدركنا. روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وله عند المصنف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: قوله: "ابن خيّاط" هكذا نسخ "المجتبى"، والذي في "الكبرى":"حمادٌ الخيّاط"، ولعل الخياطة حرفة أبيه، ثم انتقلت إليه. واللَّه تعالى أعلم.

و"أبو عامر": هو عبد الملك بن عمرو العَقَديّ البصريّ، ثقة [9] 2/ 327.

(1)

- راجع "التلخيص الحبير" ج 2 ص 394.

(2)

- وفي نسخة: "أخبرني".

ص: 186

والحديث موقوف، وفيه انقطاع، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2286 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ، كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ).

"أبو معاوية": هو محمد بن خازم. و"حُميد بن عبد الرحمن" بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة [2] 32/ 725.

والحديث موقوف صحيح، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌54 - (الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ، وَذِكْرُ اخْتِلَافِ خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ

(1)

فيه)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أنه أراد الاختلاف على الحكم، وذلك أن شعبة رواه عنه، عن مقسم، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، وخالفه العلاء بن المسيّب، فرواه عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

[تنبيه]: ذكر في "تهذيب التهذيب" جـ 1ص 467 في ترجمة الحكم بن عتيبة أن الإمام أحمد وغيره قالوا: لم يسمع الحكم حديث مقسم، كتابٌ

(2)

، إلا خمسة أحاديث، وعدّها يحيى القطّان: حديث الوتر، والقنوت، وعزمة الطلاق، وجزاء الصيد، والرجل يأتي امرأته، وهي حائض. رواه ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن عليّ بن المدينيّ، عن يحيى انتهى.

وقد نظمت ذلك بقولي:

اعْلَمْ بأَنَّ حَكَمَا قَدْ سَمِعَا

عَنْ مِقْسَمِ خَمْسًا فَقَطْ فَاسْتَمِعاَ

(1)

- وفي نسخة: "وذكر الاختلاف في خبر ابن عباس".

(2)

- خبر لمحذوف، أي هو كتاب.

ص: 187

حَدِيثُ وِتْرٍ وَقُنُوتٍ وَجَزَا

صَيْدٍ وَعَزْمَةُ الطَّلَاقِ أَنْجَزَا

وَرَجُلٌ جَامَعَ زَوْجًا حَائِضاَ

قَدْ عَدَّهَا الْقَطَّانُ يَحْيَى الْمُرْتَضَى

ذَكَرَهَا الحَافِظُ فِي التَّهْذِيبِ

نَظَمْتُهَا حِرْصًا عَلَى التَّقْرِيبِ

وعلى هذا تكون روايته هنا مما لم يسمعه، بل هي من قسم الوجادة. وكذا روايته عن مجاهد، فقد قال البخاريّ في "التاريخ الكبير": قال القطّان: قال شعبة: الحكم عن مجاهد كتاب، إلا ما قال: سمعت. وقال ابن حبّان في "الثقات": كان يدلّس، وكان سنّه سنّ إبراهيم النخعيّ. انتهى

(1)

.

والحاصل أن رواية الحكم مُعَلَّة بما ذكر، لكن الحديث صحيح من رواية طاوس، ومجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما سيأتي في الباب التالي. إن شاء اللَّه تعالى.

2287 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ شُعْبَةَ،، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "خَرَجَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ، حَتَّى أَتَى قُدَيْدًا، ثُمَّ أُتِيَ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ، وَأَفْطَرَ هُوَ، وَأَصْحَابُهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "سويد": هو ابن نصر المروزيّ. و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك. و"مِقسم": هو ابن بُجْرة، أو ابن نَجدة، كوفيّ صدوق يرسل [4] 182/ 289.

وقوله: "بقُديد" -بضمّ القاف، مصغرًا- موضع قريب من عُسفان. وقد تقدّم الجمع بين الرويات المختلفة في تعيين موضع الإفطار في شرح حديث جابر رضي الله عنه 49/ 2263.

وحديث ابن عباس رضي الله عنهما بهذا الإسناد معلٌّ؛ لما سبق من أن الحكم لم يسمعه عن مقسم، وسيأتي في الباب التالي أنه متفق عليه من رواية مجاهد، وطاوس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2288 -

(أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنَ الْمَدِينَةِ، حَتَّى أَتَى قُدَيْدًا، ثُمَّ أَفْطَرَ، حَتَّى أَتَى مَكَّةَ)

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "القاسم بن زكريا": الكوفيّ الطحّان، ثقة [11] 8/ 410. و"سعيد بن عمرو" بن سهل بن إسحاق بن محمد بن الأشعث بن قيس الكنديّ الأشعثيّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقة [10].

(1)

- راجع "تت" ج 1ص 467 طبعة مؤسسة الرسالة.

(2)

- وفي نسخة "بمكة"، والظاهر أنه غلط.

ص: 188

قال ابن سعد: ثقة، صدوق، مأمون. وقال ابن قانع: كوفيّ صالح. وقال مطيّن: مات في صفر، سنة (230) وكان ثقة، كتب عنه يحيى بن معين، تفرد به مسلم، والمصنّف. وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1188)، و (4096)، و (4812).

و"عَبْثَر": بن القاسم الزُّبَيديّ، أبو زُبيد الكوفيّ، ثقة [8] 190/ 1164.

و"العلاء بن المسيَّب" بن رافع الكاهليّ الكوفيّ، ثقة ربما وهم [6] 78/ 1009.

والسند مسلسل بالكوفيين إلى مجاهد، وهو وابن عباس، مكيّان. والحديث بهذا السند مُعلّ أيضًا؛ لأن الحكم عن مجاهد وجادة إلا ما قال: سمعت، كما سبق عن البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2289 -

(أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامَ فِي السَّفَرِ، حَتَّى أَتَى قُدَيْدًا، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ، مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ، فَأَفْطَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ").

"زكريا بن يحيى": هو السِّجْزيّ المعروف بـ"خيّاط السنّة" الثقة الحافظ [12] 189/ 1161. من أفراد المصنّف.

و"الحسن بن عيسى": هو أبو عليّ النيسابوريّ، ثقة [10] 189/ 1161.

[تنبيه]: كان الأولى للمصنف -رحمه اللَّه تعالى- تقديم هذا الحديث على الذي قبله؛ لأنه طريق آخر لرواية شعبة. وهو مما أخرجه هنا، ولم يخرجه في "الكبرى". وقد تقدم أنه منقطع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌55 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى مَنْصُورٍ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن شعبة رواه عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وخالفه جرير، فرواه عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 189

لكن مثل هذا الاختلاف لا يضرّ في صحّة الحديث؛ لاحتمال أن يكون مجاهد أخذه عن ابن عباس بواسطة طاوس، ثم لقيه، فأخذه منه، أو ثَبَّتَه طاوس.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- عند قول البخاريّ: "عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس": ما نصّه: كذا عنده من طريق أبي عوانة، عن منصور، عن مجاهد. وكذا أخرجه من طريق جرير، عن منصور في "المغازي". وأخرجه النسائيّ من طريق شعبة، عن منصور، فلم يذكر طاوسًا في الإسناد. وكذا أخرجه من طريق الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس.

فيحتمل أن يكون مجاهد أخذه عن طاوس، عن ابن عباس، ثم لقي ابن عباس، فحمله عنه، أو سمعه من ابن عباس، وثَبَّتَه فيه طاوس، وقد تقدّم نظير ذلك في حديث ابن عباس في قصّة الجريدتين على القبرين في "الطهارة" انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2290 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّةَ، فَصَامَ حَتَّى أَتَى عُسْفَانَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ

(2)

فَشَرِبَ".

قَالَ: شُعْبَةُ: فِي رَمَضَانَ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسماعيل بن مسعود": هو الجَحدَريّ البصريّ، من أفراد المصنّف. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ البصري الثّبت.

وقوله: "عُسفان" -بضمّ العين المهملة، وسكون السين المهملة-: قال الفيّوميّ: موضع بين مكة والمدينة، وُيذَكّر ويؤئث، ويسمّى في زماننا مَدْرَجَ عثمان، وبينه وبين مكة نحو ثلاث مراحل، ونونه زائدة انتهى

(3)

.

وقوله: "قال شعبة: في رمضان". ظاهر هذه الرواية أن قوله: "في رمضان" من قول شعبة، لكن الرواية السابقة من طريق ابن المبارك، عنه ظاهرة في أنه من نفس الحديث، ولفظه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان، فصام الخ"، وكذا رواية جرير، عن منصور التي بعد هذا بلفظ:"سافر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في رمضان"، ولعل شعبة أحيانًا يذكرها في آخر الحديث، فظنّ بعض الرواة أنها من كلامه. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "فكان ابن عباس الخ". يعني أن ابن عباس رضي الله عنهما فَهِم من فعله صلى الله عليه وسلم ذلك أنه

(1)

- الفتح ج 4 ص 698.

(2)

- وفي نسخة: "فأُتي بقدح".

(3)

- المصباح المنير.

ص: 190

لبيان الجواز، لا للأولوية، وقد تقدّم في حديث جابر رضي الله عنه 49/ 2263 - ما يوضّح المراد. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وأخرجه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في-54/ 2287 و 2288 و 2289 و 55/ 2290 و 2291 و 61/ 2313 و 2314 وفي "الكبرى" 54/ 2596 و 2597 و 55/ 2598 و 2599 و 61/ 2623. وأخرجه (خ) في "الصوم" 1948 وفي "المغازي" 4279 (م) في "الصيام" 1113 (د) في "الصوم" 2404 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 2058 و 2647 و 2987 و 3346 و3152. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2291 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ،، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ، حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ

(2)

، فَشَرِبَ نَهَارًا، يَرَاهُ النَّاسُ، ثُمَّ أَفْطَرَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن قُدَامة": هو المصّيصيّ. و" جرير": هو ابن عبد الحميد.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه فيما قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2292 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ وَيُفْطِرُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "سفيان": هو ابن حبيب البصريّ البزّاز، ثقة [9] 67/ 82.

و"العوّام بن حَوْشب" بن يزيد بن الحارث الشيبانيّ الرِّبَعيّ، أبو عيسى الواسطيّ، أسلم جدّه على يد عليّ رضي الله عنه، فوهب له جارية، فولدت له حَوْشبًا، ثقة ثبت فاضل [6].

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ثقة ثقة. وقال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح ليس به بأس. وقال العجليّ: شيبانيّ، من أنفسهم، ثقة صاحب سنّة، ثبت صالح، وكان أبوه على شُرْطة الحجاج، روى نحوًا من مائتي حديث. وقال ابن سعد، عن يزيد بن هارون: كان صاحب أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وكان ثقة.

وقال الحاكم: العوّام، ويوسف، وطلاب، أولاد حوشب ثقات يُجمَع حديثهم. وعن هُشيم قال: ما رأيت أقول بالحقّ من العوّام. قال ابن سعد: مات سنة (148). روى له

(1)

- وفي نسخة: "سافرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

(2)

- وفي نسخة: "بماء".

ص: 191

الجماعة، وله عند المصنّف ثلاثة أحاديث فقط برقم 2292 و 1521 و 5696.

والحديث مرسل، لكنه صحيحٌ بما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2293 -

(أَخْبَرَنِي هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُجَاهِدٌ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَفْطَرَ

(1)

فِي السَّفَرِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -؛ "هلال بن العلاء": أبو عمرو الرقّيّ، صدوق [11] 10/ 1199. و"حسين": بن عيّاش، أبو بكر الباجَدّائيّ، ثقة [10] 15/ 1484. و"زهير": بن معاوية بن حديج، أبو خيثمة الجعفيّ الكوفي الثبت. "وأبو إسحاق": عمرو بن عبد اللَّه بن عُبيد السَّبيعيّ الكوفيّ المشهور.

والحديث مرسل صحيح بما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌56 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى سُلَيمَانَ ابْنِ يَسَارٍ فِي حَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه فيه)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ضمير "فيه" يعود إلى ما تقدّم من الصوم والإفطار في السفر.

ووجه الاختلاف المذكور أن قتادة رواه عن سليمان، عن حمزة بن عمرو رضي الله عنه متصلاً، وتابعه عمران بن أبي أنس في رواية، وبكير بن الأشج، وخالفه عمران أبي أنس في رواية ابن إسحاق، فرواه عن سليمان، عن أبي مُرَواح، عن حمزة، فأدخل واسطة بين سليمان، وبين حمزة رضي الله عنه.

(1)

- وفي نسخة: "فأفطر".

ص: 192

لكن مثل هذا الاختلاف لا يضرّ، كما تقدّم في الاختلاف في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2294 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ؟ ، قَالَ: "إِنْ" ثُمَّ ذَكَرَ كَلِمَةً، مَعْنَاهَا: "إِنْ - شِئْتَ صُمْتَ، وَإِنْ شِئْتَ أَفْطَرْتَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن رافع) القشيريّن أبو عبد اللَّه النيسابوريّ، ثقة عابد [11] 92/ 114.

2 -

(أزهر بن القاسم) الراسبيّ، أبو بكر البصريّ، نزيل مكة، صدوق [9].

قال أحمد، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: شيخ يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: يُخطىء. قال الذهبيّ: كان بعد المائتين. روى له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه، وله عند المصنف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

3 -

(هشام) بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، ورُمي بالقدر، من كبار [7] 30/ 34.

4 -

(قتادة) بن دِعامة السدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة ثبت يُدلّس [4] 30/ 34.

5 -

(سليمان بن يسار) الهلاليّ مولاهم المدنيّ، ثقة فاضل، من كبار [7] 22/ 156.

6 -

(حمزة بن عمرو) بن عُويمر الأسلميّ، أبو صالح، ويقال: أبو محمد المدنيّ.

روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما. وعنه ابنه محمد، وحنظلة بن عليّ الأسلميّ، وسليمان بن يَسار، وأبو مُراوح، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم.

قال البخاريّ في "التاريخ": حدثني أحمد بن الحجّاج، حدثنا سفيان بن حمزة، عن كثير بن زيد، عن محمد بن حمزة الأسلميّ، عن أبيه، قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء دَحْمَسَة

(1)

، فأضاءت أصابعيّ، حتى جمعوا عليها ظهرهم، وما هلك منهم، وإن أصابعي لَتُنِير

(2)

. قال ابن سعد، وغيره: مات سنة (61) وهو ابن (71) سنة، وقيل: إنه بلغ ثمانين. علّق له البخاريّ، وأخرج له مسلم، وأبو داود، والمصنف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث، كرره إحدى عشرة مرّة برقم 2294 و 2296 و 2297 و 2298 و 2299 و2300 و 2301 و 2302 و 2303 و 2304 و 2305. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

قال في "ق": الدحمسَ كجَعْفَر، وزِبْرِجٍ، وبُرْقُعٍ: الأسودُ من كل شيء، وليلة دحمسة، وليل دحمسٌ: مُظْلِمٌ. اهـ

(2)

- رجال هذا الإسناد ثقات، ومحمد بن حمزة روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبان، وتضعيف ابن حزم له مرود عليه، فالحديث حسن ..

ص: 193

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير أزهر، كما سبق آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، إلا شيخه، فنيسابوريّ، وسليمان، والصحابيّ، فمدنيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه سليمان من الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدموا غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَميّ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ؟) وفي الرواية الآتية من طريق بكير، عن سليمان:"قال: يا رسول اللَّه، إني أجد قوّة على الصيام في السفر". وفي رواية أبي مُرواح، عن حمزة الآتية:"أجد قوّةً على الصيام في السفر، فهل عليّ جُنَاح"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنْ" ثُمَّ ذَكَرَ كلِمَةً، مَعْنَاهَا: "إِنْ شِئْتَ صُمْتَ، وَإِنْ شِئْتَ أَفْطَرْتَ") معنى هذا الكلام أن الراوي لم يحفظ لفظ الكلمة التي ذكرها النبيّ صلى الله عليه وسلم عد أداة الشرط، وهي "إن"، وإنما حفظ معناها، وهو:"إن شئتَ صُمتَ، وإن شئتَ أفطرتَ". وسمى الجملتين كلمة مجازًا. وفي نسخة: "إن شئت فصم، وإن شئت، فأفطر".

وفي رواية أبي مُراوح المذكورة: "قال: هي رخصة من اللَّه عز وجل، فمن أخذ بها، فحسن، ومن أحبّ أن يصوم فلا جناح عليه". وهذه الرواية ظاهرة في أن سؤاله كان عن صوم رمضان، إذ لا يقال:"هي رخصة الخ" إلا للفرض.

قال ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى- في قوله: "أأصوم في السفر؟ "-: ليس فيه تصريح بأنه صوم رمضان، فلا يكون فيه حجة على مَنْ مَنَعَ صيام رمضان في السفر.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهو كما قال بالنسبة إلى سياق حديث الباب، لكن في رواية أبي مُراوح التي ذكرتها عند مسلم أنه قال: يا رسول اللَّه أجد بي قوّة

" الحديث. وهذا يشعر بأنه سأل عن صيام الفريضة، وذلك أن الرخصة إنما تطلق في مقابلة ما هو واجب. وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو داود، والحاكم من طريق محمد بن حمزة بن عمرو، عن أبيه، أنه قال: "يا رسول اللَّه، إني صاحب ظهر أعالجه، أسافر عليه، وأكريه، وإنه ربما صادفني هذا الشهر -يعني رمضان- وأنا أجد القوّة، وأجدني أن أصوم أهون عليّ من أن أخّره، فيكون دينًا عليّ؟ فقال:"أيّ ذلك شئت يا حمزة" انتهى

(1)

.

(1)

- "فتح" ج 4 ص 689 - 690.

ص: 194

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن هذه الرواية في سندها حمزة بن محمد بن حمزة الأسلميّ، وهو مجهول. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم

(1)

.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكره، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-56/ 2294 و 2295 و 2296 و2297 و 2298 و2299 و 2300 و 2301 و 2302 و 58/ 0323 و 58/ 2304 و 2305 وفي "الكبرى" 56/ 2602 و 2603 و 2604 و 2605 و 2606 و 2607 و 2608 و 2609 و 2310 و 57/ 2611 و 261258/ 2613. وأخرجه (خ) في "الصوم" 1942 و 1943 (م) في "الصيام" 1121 (د) في "الصوم" 2402 و 2403 (ت) في "الصوم" 711 (ق) في "الصوم" 1662 (مالك) في "الصيام" 656 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23676 و 25079 و 25137 و 25202 (الدارمي) في "الصوم" 1707. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2295 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِثْلَهُ مُرْسَلٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدموا. و"الليث": هو ابن سعد الإمام الحجة المشهور. و"بكير": هو ابن عبد اللَّه بن الأشجّ المدنيّ.

وقوله: "مرسل" بالرفع خبر لمحذوف، أي هو مرسل، ووجه كونه مرسلاً مبنيّ على القول بالفرق بين "عن فلان"، و"أن فلانًا"، فـ"عن" محمولة على الاتصال، و"أن" محمولة على الانقطاع، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم، وقد تقدّم تمام البحث فيه غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- قلت: هذا بالنسبة لكونه من مسند حمزة - رضي اللَّه تعالى عنه - نفسه، وأما بالنسبة لكونه من مسند عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فمتّفقٌ عليه، فقد أخرجه البخاريّ برقم 1942 و 1943 وأخرجه مسلم برقم 1889 و1890 و 91 - كما سيأتي للمصنّف بعد باب برقم 2305، إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 195

2296 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ حَمْزَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ؟ ، قَالَ: «إِنْ شِئْتَ أَنْ تَصُومَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُفْطِرَ فَأَفْطِرْ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو ثقة، وكلهم تقدّموا غير مرّة. و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك. و "عبد الحميد بن جعفر" الأنصاريّ المدنيّ، صدوق رمي بالقدر، وربما وهم [6] 26/ 914. و"عمران بن أبي أنس" القرشيّ العامريّ المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، ثقة [5] 8/ 697.

والحديث صحيح، كما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2297 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ؟ ، فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ أَنْ تَصُومَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُفْطِرَ فَأَفْطِرْ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا، غير:

1 -

(أبي بكر) عبد الكبير بن عبد المجيد بن عُبيد اللَّه بن شريك بن زُهير بن سارية الحنفيّ البصريّ، ثقة [9].

قال الأثرم، عن أحمد: ثقة. وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: أنا أحدّثك عنه.

وقال عثمان الدارميّ، عن يحيى بن معين: لا بأس به، هو صدوق. وقال أبو زرعة: هم ثلاث إخوة، وهم ثقات. وقال أبو حاتم: لا بأس به، صالح الحديث. وقال العجليّ: بصريّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: إخوة أربعة: أبو بكر، وأبو عليّ، وأبو المغيرة، واسمه عمير، وشَرِيك. وقال العقيليّ: عبد الكبير ثقة، وأخوه أبو عليّ ثقة، والأخ الثالث ضعيف -يعني عمرًا- وقال الدارقطنيّ: هم أربعة إخوة، لا يعتمد منهم إلا على أبي بكر، وأبي عليّ. وقال محمد بن سعد: كان ثقة، وتوفي بالبصرة سنة (204) وفيها أرّخه أبو داود. روى له الجماعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب أربعة أحاديث برقم 2297 و 2324 و 3596 و 3630.

والحديث صحيح، كما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 196

2298 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَاللَّيْثُ، وَذَكَرَ آخَرَ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ، فِي السَّفَرِ، قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، "الربيع بن سليمان" الجيزيّ، وهو ثقة. وقوله:"فذكر آخر" أي ذكر ابن وهب مع عمرو بن الحارث، والليث بن سعد رجلاً آخر، أخبروه كلهم عن بكير بن عبد اللَّه ابن الأشجّ.

وسيأتي في 57/ 2303 - أن الرجل الآخر هو عبد اللَّه بن لَهيعة.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2299 -

(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ سَأَلَ

(1)

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ؟ ، قَالَ:«إِنْ شِئْتَ أَنْ تَصُومَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُفْطِرَ فَأَفْطِرْ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و "هارون ابن عبد اللَّه" هو: أبو موسى الحمّال البغداديّ.

و"محمد بن بكر" بن عثمان البُرْسانيّ

(2)

أبو عثمان، ويقال: أبو عثمان البصريّ، صدوق يخطئ [9].

قال حنبل بن إسحاق، عن أحمد: صالح الحديث. وقال الدوريّ، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: شيخ محلّه الصدق. وقال أبو داود، والعجليّ: ثقة. وقال ابن قانع: كان ثقة. وقال النسائيّ: في "كتاب المحاربة" من "سننه": ليس بالقويّ. وقال ابن عمار الموصليّ: لم يكن صاحب حديث، تركناه، لم نسمع منه. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال أبو موسى محمد بن المثنّى: مات سنة (204). روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم 2299 و 3733 و 4063.

(1)

- وفي نسخة: "أنه قال: سألت".

(2)

-بضمّ الموحّدة، وسكون الراء، ثم مهملة- نسبة إلى بني بُرْسَان، وهم بطن من الأزد، وبُرسان أيضًا قرية من قرى سمرقند، ينسب إليها أحمد بن خلف بن حسين. قاله في "الأنساب" 1/ 2321. و"اللباب" 1/ 138 - 139.

ص: 197

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2300 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَحَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَانِي جَمِيعًا، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: كُنْتُ أَسْرُدُ الصِّيَامَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْرُدُ الصِّيَامَ

(1)

فِي السَّفَرِ، فَقَالَ:«إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمران بن بَكّار" الْكَلَاعيّ البَرّاد المؤذّن الحمصيّ، ثقة، من أفراد المصنّف 17/ 1541.

و"أحمد بن خالد" بن موسى، ويقال: ابن محمد الوهْبيّ

(2)

الكنديّ، أبو سعيد بن أبي مخلد الحمصيّ، صدوق [9].

قال الدارقطنيّ: لا بأس به. وأخرج له ابن خزيمة في "صحيحه". وذكره ابن حبّان في "الثقات". ونقل أبو حاتم الرازيّ أن أحمد امتنع من الكتابة عنه. مات سنة (214) وقيل: (215). روى عنه البخاريّ في " جزء القراءة"، وأخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث برقم 2300 و 2330 و 4055 و 4765 و 5497.

و"محمد": هو ابن إسحاق المطلبيّ المدنيّ، نزيل العراق، إمام في المغازي، صدوق يدلّس، ورمي بالتشيّع والقدر [5] 5/ 480.

و"حنظلة بن عليّ" بن الأسقع الأسلميّ المدنيّ، ثقة [3] 58/ 1301.

وقوله: "أسرُد الصيام" -بضم الراء- من باب نصر: أي أتابعه.

واستُدلّ به على أنه لا كراهة في صيام الدهر. قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ولا دلالة فيه؛ لأن التتابع يصدُق بدون صوم الدهر، فإن ثبت النهي عن صوم الدهر، لم يعارضه هذا الإذن بالسرد، بل الجمع بينهما واضح. قاله في "الفتح"

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: سيأتي أن القول بتحريم صوم الدهر هو الحقّ، فالجمع الذي ذكره متعين، فتنبّه.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2301 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي،

(1)

- وفي نسخة: "الصوم".

(2)

-بفتح الواو، وسكون الهاء: نسبة إلى وهب بطن من كندة.

(3)

-"فتح" ج 4 ص 689.

ص: 198

عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ حَمْزَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصِّيَامَ، أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ ، قَالَ:«إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبيد اللَّه بن سعد بن إبراهيم" هو الزهريّ البغداديّ ثقة [11] 17/ 480. و"عمه": هو يعقوب بن إبراهيم الزهريّ البغداديّ ثقة فاضل، من صغار [9] 196/ 314. و"أبوه": هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة [8] 196/ 314.

وقوله: "إني رجل أسرُد الصوم الخ" قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: هو بصيغة المتكلّم؛ نظرًا إلى المعنى، وإلا فالظاهر يسرد -أي بالياء- لأنه صفة لـ"رجل"، وليس بخبرِ آخر، وإلا لم يبق في قوله:"رجل" فائدة، فتأمّل انتهى

(1)

.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2302 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ، أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا مُرَاوِحٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو، حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ رَجُلاً يَصُومُ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو مُرَاوح" -بضمّ الميم- الغفاريّ، ويقال: الليثيّ المدنيّ، قيل: له صحبة، وإلا فبصريّ ثقة [3].

قال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الحاكم أبو أحمد: يُعدّ في النفر الذين وُلدوا في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسمّاهم. وقال مسلم: اسمه سعد. وقال أبو داود: إنه أبو مُراوح الليثيّ، له صحبة. وذكره ابن منده في "الصحابة"، لكن سماه واقد بن أبي واقد، وعزاه لأبي داود، فاللَّه تعالى أعلم. أخرج له البخاريّ، ومسلم، والمصنف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وأعاده بعده، وحديث رقم (3129).

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- "شرح السندي" ج 4 ص 187.

ص: 199

‌57 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى عُرْوَةَ فِي حَدِيثِ حَمْزَةَ فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدّم أن الضمير في "فيه" يعود إلى ما تقدّم من جواز الصوم والفطر في السفر.

ووجه الاختلاف المذكور أن أبا الأسود رواه عن عروة، عن أبي مُرَاوح، عن حمزة ابن عمرو رضي الله عنه، وخالفه هشام بن عروة، كما سيأتي في الباب التالي، فرواه تارة عن أبيه، عن حمزة رضي الله عنه، فأسقط الواسطة بين عروة، وحمزة، وتارة عن أبيه، عن عائشة، عن حمزة، وسيأتي تمام الكلام عليه في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2303 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَمْرٌو وَذَكَرَ آخَرَ- عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

: أَجِدُ فِىَّ قُوَّةً، عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ، قَالَ:«هِيَ رُخْصَةٌ، مِنَ اللَّهِ عز وجل، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "وذكر آخر" أي ذكر ابن وهب رجلاً آخر مع عمرو بن الحارث، وقد تبيّن أن الرجل الآخر هو عبد اللَّه بن لَهِيعة، فيما رواه الدارقطنيّ في "سننه"، فقال:

حدثنا أبو بكر النيسابوريّ، ثنا الربيع بن سليمان، ثنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، وعمرو بن الحارث، عن أبي الأسود، عن عروة

الحديث. قال: وهذا إسناد صحيح. ثم ذكر مخالفة هشام بن عروة لأبي الأسود، فرواه عن أبيه، عن عائشة: أن حمزة بن عمرو سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال: ويحتمل أن يكون القولان صحيحين. واللَّه أعلم انتهى كلام الدارقطنيّ

(2)

.

و"أبو الأسود" هو: محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسديّ المدنيّ، يتيم عروة، ثقة [6] 4/ 746.

وقوله: "جُناح" -بضمّ الجيم-: أي إثم.

(1)

- وفي نسخة: "قال: با رسول اللَّه".

(2)

- "سنن الدارقطنيّ" ج 2 ص 189 - 190.

ص: 200

وقوله: "هي رخصة": الضمير للإفطار، والتأنيثُ باعتبار الخبر، والكلام جاء على اعتقاد السائل، فلا يلزم أن ظاهره ترجيح الإفطار، حيث قال:"فحسن"، وقال في الصوم:"فلا جُناح عليه". قاله السنديّ

(1)

.

والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌58 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى هِشَامِ ابْنِ عُرْوَةَ فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن محمد بن بشر رواه عن هشام، عن أبيه، عن حمزة بن عمرو رضي الله عنه، وخالفه عبد الرحيم بن سليمان الرازيّ، فرواه عنه، عن أبيه، عن عائشة، عن حمزة. ورواه مالك، عنه، عن أبيه، عن عائشة، قالت: "إن حمزة قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورواه ابن عجلان، وعبدة بن سليمان، كلاهما عنه، عن أبيه، عن عائشة بنحوه.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- عند شرح قول البخاريّ: "عن عائشة رضي الله عنها أن حمزة ابن عمرو الأسلمي الخ: ما نصّه:

هكذا رواه الحفّاظ عن هشام، وقال عبد الرحيم بن سليمان عند النسائيّ، والدراورديّ عند الطبرانيّ، ويحيى بن عبد اللَّه بن سالم عند الدارقطنيّ، ثلاثتهم: عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، عن حمزة بن عمرو، جعلوه من مسند حمزة، والمحفوظ أنه من مسند عائشة.

ويحتمل أن يكون هؤلاء لم يقصدوا بقولهم: "عن حمزة" الرواية عنه، وإنما أرادوا الإخبار عن حكايته، فالتقدير:"عن عائشة، عن قصّة حمزة أنه سأل".

لكن قد صحّ مجيء الحديث من رواية حمزة، فأخرجه مسلم من طريق أبي الأسود، عن عروة، عن أبي مُرَاوح، عن حمزة. وكذلك رواه محمد بن إبراهيم التيمي، عن عروة، لكنه أسقط أبا مُراوح، والصواب إثباته، وهو محمول على أن لعروة فيه

(1)

-"شرح السنديّ" ج 4 ص 188.

ص: 201

طريقين: سمعه من عائشة، وسمعه من أبي مراوح، عن حمزة. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "والصواب إثباته" فيه نظر، بل الصواب عندي صحة الطرق الثلاثة، لأن محمد بن إبراهيم لم ينفرد بإسقاط أبي مُرواح، بل تابعه عليه محمد بن بشر -كما عند المصنّف في هذه الرواية- ويحيى بنُ عبد الرحمن بن حاطب-كما ذكره الحافظ المزيّ في "تحفته" جـ3 ص 82 فرواه الثلاثة عن هشام، عن أبيه، عن حمزة، فيكون لعروة ثلاثة من الشيوخ: أبو مراوح، وعائشة، وحمزة نفسُه. فتأمّل. والحاصل أن الحديث صحيح من الطرق الثلاثة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2304 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ ، قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه "محمد بن إسماعيل بن إبراهيم" المعروف أبوه بـ"ابن عليّة"، قاضي دمشق، فإنه من أفراد المصنّف، وهو ثقة [11] 22/ 489. و"محمد بن بشر": هو أبو عبد اللَّه العبديّ الكوفيّ ثقة حافظ [9] 5/ 882.

[تنبيه]: هذا الحديث وقع في "الكبرى" في الباب المتقدّم، وهو ظاهر، حيث إن فيه بيان الاختلاف على عروة، ولِمَا هنا أيضًا وجهٌ صحيح، وهو بيان الاختلاف على هشام، ويتضح في ضمنه الاختلاف على عروة أيضًا.

والحديث صحيح كما أسلفته آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2305 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ اللاَّنِيُّ بِالْكُوفَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ الرَّازِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَجُلٌ أَصُومُ، أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ، قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، سوى شيخه "عليّ بن الحسن" اللانيّ -بنون- الكوفيّ، صدوق [10].

روى عن عبد الرحيم بن سليمان، والمعافَى بن عمران الموصليّ. وعنه النسائيّ، وعبد اللَّه بن محمد بن ناجية. ذكره النسائيّ في "مشيخته"، وقال: لا بأس به. وهو من أفراده، روى عنه حديثين فقط: هذا 2305 وحديث 2409.

(1)

- "الفتح" ج 4 ص 689.

ص: 202

[تنبيه]: قوله: "اللانيّ"، قال في "تهذيب الكمال": ولَانُ من فَزَارة، وبلدٌ بالعجم انتهى. وتعقّبه في "تهذيب التهذيب" بأنه وَهَمٌ تَبعَ فيه ابنَ السمعانيّ، وقد تعقّبه ابن الأثير، فأجاد. والذي من فزارة لاي -بتحتانيّة-، وقد يهمز، والنسبة إليه اللائيّ- بالهمزة الخفيفة- قال: وقد وجدت في نسخة من النسائيّ مصحّحة اللاَّئِيّ -بهمزة ثقيلة، نسبة إلى بيع اللؤلؤ، أو نَحْتِهِ، فليحرّر. والذي في "ثقات" ابن حبّان تصحيف من اللاني. انتهى

(1)

.

و"عبد الرحيم الرازيّ": هو ابن سليمان الكنانيّ، أو الطائيّ، أبو عليّ الأشلّ المروزيّ، نزيل الكوفة، ثقة له تصانيف، من صغار [8].

قال سهل بن عثمان: نظر وكيع في حديثه، فقال: ما أصحّ حديثه، كان عبد الرحيم، وحفص بن غياث يطلبان الحديث معًا. وقال ابن معين، وأبو داود: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، كان عنده مصنفات، قد صنّف الكتب. وقال ابن المدينيّ: لا بأس به. وقال العجليّ: ثقة متعبّدٌ، كثير الحديث. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: ثقة صدوق، ليس بحجة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". قال محمد بن الحجّاج الضبّيّ: مات عبد السلام بن حرب سنة (187) ومات عبد الرحيم بن سليمان أظنّ آخر السنة. روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب تسعة أحاديث برقم 2305 و 2409 و 3049 و 3074 و 3885 و 4374 و 5168 و 5561 و5671.

[تنبيه]: قوله: "الرازيّ" هكذا في نسخ "المجتبى"، والذي في كتب الرجال هو "المروزيّ"، لا الرازيّ، ولم يذكر في "الكبرى" لا هذا، ولا هذا، فليحرّر.

والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2306 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنَّ حَمْزَةَ، قَالَ: لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ -وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ- فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، "محمد بن سلمة": هو المراديّ، المصريّ الثقة الثّبت. و"ابن القاسم": هو عبد الرحمن الْعُتَقيّ

(1)

- "تهذيب "التهذيب" ج 1 ص 152.

ص: 203

المصريّ الفقيه. و"مالك": هو ابن أنس إمام دار الهجرة.

والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2307 -

(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنَّ حَمْزَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ ، فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه "عمرو بن هشام"، أبي أميّة الحرّانيّ، فإنه من أفراده، وهو ثقة [10] 141/ 222. و"محمد بن سلمة": هو الحرّانيّ أيضًا، ثقة [9] 191/ 306.

[تنبيه]: محمد سلمة هذا ليس هو المذكور في السند الماضي، بل هذا من الطبقة التاسعة من شيوخ ذاك، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

و"ابن عجلان": هو محمد بن عجلان المدنيّ صدوق [5] 36/ 40.

والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهوحسبنا، ونعم الوكيل.

2308 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ حَمْزَةَ الأَسْلَمِيَّ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، وَكَانَ رَجُلاً يَسْرُدُ الصِّيَامَ، فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و "إسحاق ابن إبراهيم": هو المعروف بـ"ابن راهويه" الحافظ الحجة [10] 2/ 2 .. و"عبدة بن سليمان": هو الكلابيّ الكوفيّ الثقة الثبت، من صغار [8] 7/ 339.

والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 204

‌59 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى أَبِي نَضْرَةَ، الْمُنْذِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قُطَعَةَ فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدّم بيان مرجع الضمير في قوله: "فيه" قريبًا.

ووجه الاختلاف المذكور أن الْجُرَيريّ رواه عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وتابعه أبو سلمة، وخالفهما عاصم الأحول، فتارة رواه عن أبي نضرة، عن جابر رضي الله عنه، وتارة رواه عن أبي سعيد، وجابر كليهما.

ومثل هذا الاختلاف لا يضرّ، كما تقدّم غير مرّة، ولهذا أخرج الحديثَ الإمام مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" من كلا الطريقين. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قوله: "ابن قُطَعة" المشهور في ضبطه أنه بضم القاف، وفتح الطاء، والعين المهملتين، هكذا ضبطه في "التقريب"، وضبطه في "الخلاصة" بكسر القاف، وسكون الطاء، وهكذا ضبطه النوويّ في أماكن من "شرح مسلم". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2309 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: "كُنَّا نُسَافِرُ فِي رَمَضَانَ، فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، لَا يَعِيبُ

(1)

الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا يَعِيبُ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يحيى بن حبيب بن عربيّ) البصريّ، ثقة [10] 60/ 75.

2 -

(حماد) بن زيد بن درهم الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت فقيه [8] 3/ 3.

3 -

(سعيد الْجُرَيريّ) هو ابن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقة اختلط قبل موته بثلاث سنين [5] 32/ 672.

4 -

(أبو نضرة) المنذر بن مالك بن قُطَعَة العبديّ الْعَوَقيّ البصريّ، ثقة [3] 21/ 538.

5 -

(أبو سعيد) سعد بن مالك بن سنان بن عُبيد الأنصاريّ الخدريّ الصحابيّ ابن

(1)

- وفي نسخة: "فلا يعيب".

ص: 205

الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - 169/ 262. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه أبا سعيد - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي نَضْرَةَ) المنذر بن مالك -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (قَالَ: حَدّثَنَا أَبُو سَعِيدِ) الخدريّ، سعد بن مالك بن سنان الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما (قَالَ: "كُنَّا نُسَافِرُ فِي رَمَضَانَ، فَمِنَّا الصَّائِمُ) وهم الأقوياء (وَمِنَّا الْمُفْطِرُ) وهم الضعفاء (لَا يَعِيبُ) بفتح الياء: أي لا يلوم، ولا يُعاتب (الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ) أي لأنه عَمِل بالرخصة، ومن أخذ بها لا لوم عليه (وَلَا يَعِيبُ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ) لعمله بالعزيمة. يعني أنه لا ينكر الصائم على المفطر إفطاره أخذًا بالرخصة، ولَا المفطر على الصائم صومه أخذا بالعزيمة؛ لأنهما جائزان.

زاد مسلم في رواية من طريق ابن علية، عن الجريري:"يَرون أن من وجد قوّة فصام، فإن ذلك حسنٌ، ويرون من وجد ضعفًا، فأفطر، فإن ذلك حسن".

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا صريح في ترجيح مذهب الأكثرين، وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر، ولا مشقّة ظاهرة. وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء؛ لتعادل الأحاديث. والصحيح قول الأكثرين انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" بعد ذكر هذا الحديث: ما لفظه: وهذا التفصيل هو المعتمد، وهو رافع للنزاع انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

(1)

- "شرح مسلم" ج 8 ص230.

ص: 206

أخرجه هنا 59/ 2310 و 2311 و 2312 - وفي "الكبرى" 59/ 2618 و 2619 و 2620. وأخرجه (م) في "الصيام" 1116 و 1117 (ت) في "الصوم" 712 و 713 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 11021 و 11079 و 11308 و 1399. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): سماحة الشريعة، وسهولتها حيث شَرَع اللَّه تعالى الفطر في مواضع الضرورة، كالسفر، والمرض (ومنها): جواز الفطر للمسافر إذا كان يشُقّ عليه (ومنها): جواز صومه إذا لم يلحقه بذلك ضرر، خلافًا لمن منع ذلك (ومنها): أن من فعل شيئا مما شرعه اللَّه تعالى لا ينبغي للآخرين أن يعيبوا عليه ذلك، وإن كانوا يرونه خلاف الأولى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2310 -

(أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ يَعْقُوبَ الطَّالْقَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ- عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، وَلَا يَعِيبُ

(1)

الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا يَعِيبُ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ).

قال الجاَمع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه "سعيد بن يعقوب الطالقانيّ"، أبي بكر، ثقة، صاحب حديث [10].

قال الأثرم: رأيته عند أحمد يذاكره الحديث. وقال أبو زرعة، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. ووثقه مسلمة، والدارقطنيّ. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: ربما أخطا، مات ببغداد سنة (244) وكذا أرّخه البخاري.

وقال الحاكم في "تاريخه": هو محدّث خراسان في عصره، قَدِم نيسابور قديمًا، وحدّث بها، فسمع منه الذهليّ وأقرانه، ومن زعم أن ابن خزيمة سمع منه فقد وَهِم.

روى عنه المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: قوله: "الطالقانيّ": بسكون اللام، بعدها قاف نسبة إلى بلد بخراسان، وبقزوين. قاله في "لبّ اللباب" ج 2 ص 84. وضبطه بعضهم بفتح اللام. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- وفي نسخة: "فلا يعيب".

ص: 207

و"خالد بن عبد اللَّه الطحّان" الواسطيّ الثقة الثبت [8] 67/ 1807.

و"أبو مسلمة" سعيد بن يزيد بن مسلمة الأزديّ، ثم الطاحي البصريّ القصير، ثقة [4] 24/ 775.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى"، و"الكبرى" في هذا السند:"أبو سلمة"، وهو تصحيف فاحش، والصواب "أبو مسلمة" بالميم، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2311 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَوَارِيرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَامَ بَعْضُنَا، وَأَفْطَرَ بَعْضُنَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو بكر بن عليّ": هو أحمد بن عليّ بن سعيد بن إبراهيم المروزيّ القاضي الثقة الحافظ [12] 1/ 2094. من أفراد المصنّف.

و"القواريريّ": هو عبيد اللَّه بن عُمَر بن ميسرة، أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقة ثبت [10] 59/ 2311.

و"بشر بن منصور" السَّليميّ -بفتح المهملة، وبعد اللام تحتانيّة- أبو محمد الأزديّ البصريّ، ثقة

(1)

عابد زاهد [8].

قال ابن المدينّي: ما رأيت أحدًا أخوف للَّه منه، وكان يصلي كلّ يوم خمسمائة ركعة، وكان وِرْده ثلثَ القرآن. وقال القواريريّ: هو من أفضل من رأيت من المشايخ.

وقال أبو زرعة: ثقة مأمون. وقال أبو حاتم، والنسائيّ: ثقة. وقال عليّ بن نصر بن عليّ الجهضميّ: ثبت في الحديث. وقال ابن حبّان في "الثقات": كان من خيار أهل البصرة، وعبّادهم، مات بعد ما عمي. وقال يعقوب بن شيبة: كان قد سمع، ولم يكن له عناية بالحديث. مات سنة (180) روى له مسلم، والمصنف، وأبو داود، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا 2311 وفي "كتاب الاستعاذة"5502.

والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2312 أ- (أَخْبَرَنِي

(2)

أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ،

(1)

- قال عنه في "ت": صدوق. قلت: بل هو ثقة، كما علمت من أقوال أهل العلم فيه، وليس لمخالفة يعقوب بن شيبة في جنب ما قاله الجمهور قيمة. فتنبّه.

(2)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 208

عَنْ أَبِي نَضْرَةَ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُمَا سَافَرَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَصُومُ الصَّائِمُ، وَيُفْطِرُ الْمُفْطِرُ، وَلَا يَعِيبُ

(1)

الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، سوى شيخه "أيوب بن محمد" الوزّان، أبي محمد الرقّيّ، فإنه من أفرأده هو، وأبي داود، وابن ماجه، وهو ثقة [10] 28/ 32.

و"مروان" بن معاوية الفزاريّ الكوفيّ، ثم المكيّ، ثم الدمشقيّ، ثقة حافظ، يدلّس أسماء الشيوخ [8] 50/ 850. و "عاصم": هو ابن سليمان الأحول.

والحديث أخرجه مسلم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌60 - (الرُّخْصَةُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ بَعْضًا، وَيُفْطِرَ بَعْضًا)

2313 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ صَائِمًا، فِي رَمَضَانَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْكَدِيدِ أَفْطَرَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وهو من أصحّ الأسانيد لابن عباس رضي الله عنهما.

و"سفيان": هو ابن عيينة. و "عبيد اللَّه بن عبد اللَّه": هو ابن عتبة بن مسعود.

قوله: "بالكديد": -بفتح الكاف، وكسر الدال المهملة- قال النوويّ رحمه الله تَعَالَى-: هي عين جارية بينها وبين المدينة سبع مراحل، أو نحوها، وبينها وبين مكة قريب من مرحلتين، وهي أقرب إلى المدينة من عُسفان. قال القاضي عياض: الكَدِيد عين جارية على اثنين وأربعين ميلاً من مكة، قال: وعُسْفان قرية جامعة بها منبر على ستة وثلاثين ميلاً من مكة، قال: والْكَدِيد ما بينها وبين قُدَيد.

(1)

- وفي نسخة: "فلا يعيب".

ص: 209

وفي الحديث الآخر: "فصام حتى بلغ كُرَاع الغميم"، وهو بفتح الغين المعجمة، وهو وادٍ أمامَ عُسفان بثمانية أميال، يُضاف إليه هذا الكُرَاع، وهو جبل أسود متصل به، والكُراع كلّ أنف سال من جبل أو حرّة.

قال القاضي: وهذا كله في سفر واحد في غَزَاة الفتح، قال: وسميت هذه المواضع في هذه الأحاديث لتقاربها، وإن كانت عُسفان متباعدة شيئًا عن هذه المواضع، لكنها كلها مضافة إليها، ومن عَمَلِها، فاشتمل اسم عُسفان عليها، قال: وقد يكون عَلِمَ حالَ الناس، ومشقّتهم في بعضها، فأفطر، وأمرهم بالفطر في بعضها. هذا كلام القاضي.

قال النوويّ: وهو كما قال، إلا في مسافة عسفان، فإن المشهور أنها على أربعة بُرُد من مكة، وكل بَرِيد أربعة فراسخ، وكلّ فرسخ ثلاثة أميال، فالجملة ثمانية وأربعون ميلاً، هذا هو الصواب المعروف الذي عليه الجمهور انتهى كلام النووي

(1)

.

وقوله: "حتى إذا بلغ الكَديد أفطر": هذا محلّ الترجمة، حيث إنه يدلّ على جواز صوم بعض الشهر، وفطر بعضه للمسافر. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متفق عليه، وقد تقدّم تخريجه في-54/ 2287 - واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌61 - (الرُّخْصَةُ فِي الإِفْطَارِ لِمَنْ شَهِدَ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَصَامَ، ثُمَّ سَافَرَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الفرق بين هذه الترجمة والتي قبلها أن تلك لبيان جواز صوم المسافر بعض الشهر، وفطره بعضه مطلقًا، سواء وقع ذلك البعض في الحضر، أم في السفر، وهذه خاصّة بمن صام بعضه في الحضر، ثم سافر.

ووجه الاستدلال لما ترجم له من جهة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سافر في أثناء رمضان، وذلك في

(1)

- "شرح مسلم" ج 8 ص230.

ص: 210

عاشر رمضان، وقد شَهِدَ الشهرَ، وصام أيامًا في الحضر.

وأشار بهذه الترجمة إلى تضعيف ما روي عن عليّ رضي الله عنه؛ وإلى ردّ ما روي عن غيره في ذلك، قال ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: رُوي عن عليّ بإسناد ضعيف، وقال به عَبِيدة بن عمرو، وأبو مِجْلَز، وغيرهما، ونقله النوويّ عن أبي مجلز وحده، ووقع في بعض الشروح أبو عبيدة، وهو وَهَمٌ، قالوا: إنّ من استهلّ عليه رمضان في الحضر ثم سافر بعد ذلك، فليس له أن يفطر؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، قال: وقال أكثر أهل العلم: لا فرق بينه وبين من استهلّ عليه رمضان في السفر، ثم ساق ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عمر، قال: قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} نسخها قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} الآية. ثم احتجّ للجمهور بحديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور في هذا الباب. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2314 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُفَضَّلٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ، فَشَرِبَ نَهَارًا، لِيَرَاهُ النَّاسُ، ثُمَّ أَفْطَرَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ، فَافْتَتَحَ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَصَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غيرا مرّة. و"مفضل": هو ابن مُهلْهَل السعديّ الكوفي، ثقة ثبت نَبِيل عابد [7] 25/ 1240.

و"منصور": هو ابن المعتمر.

وقول ابن عباس رضي الله عنهما هذا هو الذي عليه الجمهور، وهو الحقّ.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- عند الكلام على الحديث المذكور: ما نصّه: فيه دليل لمذهب الجمهور أن الصوم والفطر جائزان. وفيه أن المسافر له أن يصوم بعض رمضان، دون بعض، ولا يلزمه بصوم بعضه إتمامه، وقد غَلِطَ بعضُ العلماء في فهم هذا الحديث، فتوهّم أن الكديد، وكراع الغميم قريب من المدينة، وأن قوله:"فصام حتى بلغ الكديد، وكراع الغميم" كان في اليوم الذي خرج فيه من المدينة، فزعم أنه خرج من المدينة صائمًا، فلما بلغ كراع الغميم في يومه أفطر في النهار، واستدلّ به هذا

(1)

-"فتح" ج 4 ص 690.

ص: 211

القائل على أنه إذا سافر بعد طلوع الفجر صائمًا له أن يفطر في يومه، ومذهب الشافعيّ والجمهور أنه لا يجوز الفطر في ذلك اليوم، وإنما يجوز لمن طلع عليه الفجر في السحفر، واستدلال هذا القائل بهذا الحديث من العجائب الغريبة؛ لأن الكديد، وكراع الغميم على سبع مراحل، أو أكثر من المدينة. واللَّه أعلم انتهى كلام النوويّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن أين الدليل لمنع الفطر لمن طلع عليه الفجر، وهو في الحضر، هيهات هيهات، بل النصوص الدّالّة على إباحة الفطر للمسافر مطلقة، فالحقّ ما ذهب إليه أحمد، وإسحاق، والمزنيّ --رحمهم اللَّه تعالى-- أنه يجوز الفطر للمسافر مطلقًا، سواء طلع عليه الفجر، وهو مقيم، أم لا، وقد تقدّم بيان ذلك في شرح حديث جابر رضي الله عنه في 49/ 2263 - فلا تغفل، وباللَّه تعالى التوفيق.

والحديث متفق عليه، كما تقدّم البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌62 - (وَضْعُ الصِّيَامِ عَنِ الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ)

2315 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ وُهَيْبِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَوَادَةَ الْقُشَيْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَجُلٌ مِنْهُمْ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَغَدَّى، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ» ، فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل، وَضَعَ لِلْمُسَافِرِ الصَّوْمَ، وَشَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَنِ الْحُبْلَى، وَالْمُرْضِعِ»).

رجال هذا الإسناد:

كلهم رجال الصحيح، سوى شيخه، فإنه من أفراده، وهو نسائيّ ثقة. و"مسلم بن إبراهيم": هو الأزديّ البصريّ الثقة المأمون المكثر، من صغار [9] و"وهيب بن خالد": هو الباهليّ البصريّ الثقة الثبت [7].

و"عبد اللَّه بن سَوَادة" بن حنظلة القشيريّ البصريّ، ثقة [4].

روى عن أبيه، وأنس بن مالك الكعبيّ. وعنه أبو هلال الراسبيّ، ووُهيب بن خالد،

ص: 212

وعبد الوارث، وحماد بن زيد، وابن علية. قال ابن معين: ثقة. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال العجليّ: ثقة. روى له مسلم، والأربعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وعندهم هذا، وحديث "لا يَغُرَّنَّ أحدَكُم أذان بلال من السحور .. " الحديث.

و"أبوه": هو سوادة بن حنظلة القشيريّ البصريّ، صدوقٌ [3] 30/ 2171.

والسند مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فنسائيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "للمسافر" اللام بمعنى "عن"، كما في قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11].كما قاله ابن الحاجب. أي عن المسافر، ويحتمل أن تكون للتعليل، أي لأجل الرفق بالمسافر، وبه قال ابن مالك وغيره في الآية. أفاده ابن هشام في "مغنيه"

(1)

.

وقوله: "وعن الحبلى والمرضع" أي وَضَعَ الصوم عنهما فقط، فليس شطر الصلاة موضوعًا عنهما. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أنس بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا حسن، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في- 51/ 2274 - إلا "الْحُبْلَى"، و"المرضع"، وهذا موضع البحث في حكمهما، فأقول:

(مسألة): في اختلاف أهل العلم في حكم الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما، أو على أولادهما لو صامتا:

قال الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى-بعد أن أخرج الحديث-: ما نصّه: والعمل على هذا عند أهل العلم، وقال بعض أهل العلم: الحامل والمرضع يفطران، ويقضيان، ويُطعمان، وبه يقول سفيان، ومالك، والشافعيّ، وأحمد. وقال بعضهم: يفطران، ويُطعمان، ولا قضاء عليهما، وإن شاءتا قضتا، ولا طعام عليهما، وبه يقول إسحاق. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": اختُلِفَ في الحامل والمرضع، ومن أفطر لكِبَر، ثم قَوِي على القضاء بعدُ، فقال الشافعيّ: يقضون، وُيطعمون، وقال الأوزاعيّ، والكوفيون: لا إطعام. انتهى.

(1)

- راجع "مغني اللبيب" ج 1 ص 213.

(2)

- انظر "الجامع" ج 3 ص 402 - 403. بنسخة "تحفة الأحوذيّ".

ص: 213

وحكى ابن قُدامة، والزرقانيّ اتفاق العلماء على وجوب القضاء من غير فدية فيما إذا خافت الحامل، والمرضع على أنفسهما. قال ابن قدامة في "المغني" جـ3 ص 139: إن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما، فلهما الفطر، وعليهما القضاء، فحسبُ، لا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافًا؛ لأنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه.

وقال الزرقانيّ: إذا خافتا على أنفسهما، فلا فدية باتفاق أهل المذاهب، وهو إجماع؛ إلا عند من أوجب الفدية على المريض انتهى.

وأما إذا خافتا على ولديهما فقط، وأفطرتا، فاختلفوا فيه على خمسة أقوال:

(أحدها): يُطعمان، ولا قضاء عليهما، وهو مرويّ عن ابن عمر، وابن عباس، رواه أبو داود، والبزّار، والدارقطنيّ، والبيهقيّ عن ابن عباس، ومالكٌ، وابنُ أبي حاتم، والدارقطنيّ، والبيهقيّ عن ابن عمر، وهو أحد أقوال مالك.

(الثاني): يقضيان فقط، ولا إطعام عليهما، وبه قال عطاء، والزهريّ، والحسن، وسعيد بن جُبير، والنخعيّ، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعيّ، والثوريّ، واسُتدلّ لهم بحديث الباب.

قال الجصّاص: ووجه الدلالة على هذا إخباره صلى الله عليه وسلم بأنّ وضعَ الصوم عن الحامل والمرضع هو كوضعه عن المسافر، ألا ترى أن وضع الصوم الذي جَعَلَه من حكم المسافر هو بعينه جَعَلَه من حكم الحامل والمرضع؛ لأنه عطفهما عليه من غير استثناء ذكر شيء غيره، فثبت بذلك أن حكم وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو حكم وضعه عن المسافر، لا فرق بينهما، ومعلوم أن وضع الصوم عن المسافر إنما هو على جهة إيجاب قضائه بالإفطار من غير فدية، فوجب أن يكون ذلك حكمَ الحامل والمرضع.

وفيه دلالة على أنه لا فرق بين الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما، أو ولديهما، إذ لم يفصّل النبيّ صلى الله عليه وسلم -بينهما، وأيضًا لما كانت الحامل والمرضع يُرجى لهما القضاء، وإنما أبيح لهما الإفطار للخوف على النفس، أو الولد مع إمكان القضاء وجب أن تكونا كالمريض والمسافر انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الجصّاص -رحمه اللَّه تعالى-، حسنٌ جدًّا.

(الثالث): يقضيان، ويُطعمان، وهو المشهور من مذهب الشافعيّ، وهو ثاني أقوال مالك، وإليه ذهب أحمد.

(الرابع): إن الحامل تقضي، ولا تطعم، والمرضع تقضي وتطعم. وبه قال الليث، وهو المشهور من أقوال مالك؛ لأن المرضع يمكن أن تسترضع لولدها بخلاف

ص: 214

الحامل، ولأن الحمل متّصل بالحامل، فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها.

(الخامس): يطعمان، ولا قضاء عليهما، وإن شاءتا قضتا، ولا إطعام. حكاه الترمذيّ عن إسحاق بن راهويه

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجح عندي من هذه الأقوال قول من قال: يجب عليهما القضاء، فقط، دون الإطعام؛ لأنهما في حكم المريض، ولم يُجب اللَّه تعالى الإطعام عليه، فكذلك هما، وأيضًا فقد سوّى النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما وبين المسافر في وضع الصوم عنهم، ومعلوم أن المسافر يقضي، ولا إطعام عليه، كما تقدّم تقريره في كلام الجصّاص -رحمه اللَّه تعالى-.

والحاصل أن الحامل والمرضع إذا أفطرتا لما ذُكر تقضيان، ولا فدية عليهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌63 - (تَأْوِيلُ قَوْلِ اللَّه عز وجل: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184])

2316 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا بَكْرٌ -وَهُوَ ابْنُ مُضَرَ- عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ يَزِيدَ، مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ مِنَّا أَنْ يُفْطِرَ، وَيَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا، فَنَسَخَتْهَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(بكر بن مضر) بن محمد، أبو محمد المصريّ، ثقة ثبت [8] 122/ 173.

3 -

(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقة

(1)

- أفاده في "المرعاة" ج 7 ص 15 - 16.

ص: 215

ثبت فقيه [7] 63/ 79.

4 -

(بكير) بن عبد اللَّه بن الأشجّ المدنيّ، ثم المصريّ، ثقة [5] 135/ 211.

5 -

(يزيد مولى سلمة بن الأكوع) بن أبي عبيد الأسلميّ المدنيّ، ثقة [4] 67/ 1961.

6 -

(سلمة بن الأكوع) هو سلمة بن عمرو بن الأكوع -نُسب لجده- الأسلميّ، أبو مسلم، أو أبو إياس الصحابيّ، شهد بيعة الرضوان، ومات سنة (64) وتقدّم في 15/ 765. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بثقات المصريين، وقتيبة، وإن كان بغلانيّا، إلا أنه دخل مصر للأخذ عن مشايخها، ونصفه الثاني مسلسل بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ) هو ابن عمرو بن الأكوع نُسب لجدّه الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، أنه (قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَدِهِ الآيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كانَ مَنْ أَرَادَ مِنَّا أَنْ يُفْطِرَ، وَيفتَدِيَ) خبر "كان" محذوف، أي فَعَلَ ذلك (حتى نَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا) أي قوله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185](فَنَسَخَتْهَا) حديثُ سلمة رضي الله عنه هذا صريح في أن هذه الآية منسوخة، وثبت مثله عن ابن عمر رضي الله عنه، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" من طريق نافع، عنه أنه قرأ:{فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: هي منسوخة".

ورجّح النسخَ ابنُ المنذر من جهة قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ، قال: لأنها لو كانت في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام لم يناسب أن يقال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ، مع أنه لا يُطيق الصيام.

وقيل: إن الناسخ قوله تعالى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} .

قال البخاريّ تعليقًا: وقال ابن نمير، حدثنا الأعمش، حدثنا عمرو بن مرّة، حدثنا ابن أبي ليلى، حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم:"نزل رمضان، فشقّ عليهم، فكان من أطعم كلّ يوم مسكينًا، ترك الصوم، ممن يُطيقه، ورُخّص لهم في ذلك، فنسختها: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فأمروا بالصوم".

وهذا التعليق وصله أبو نعيم في "المستخرج"، والبيهقيّ من طريقه، ولفظ البيهقيّ:

ص: 216

"قَدِم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، ولا عهد لهم بالصيام، فكانوا يصومون ثلاثة أيام من كلّ شهر، حتى نزل: {شَهْرُ رَمَضَانَ}، فاستكثروا ذلك، وشقّ عليهم، فكان من أطعم مسكينًا كلّ يوم ترك الصيام، ممن يُطيقه، ورخص لهم في ذلك، ثم نسخه: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، فأُمروا بالصيام".

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وإذا تقرّر أن الإفطار والإطعام كان رخصة، ثم نسخ لزم أن يصير الصيام حتمًا واجبًا، فكيف يلتئم مع قوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ، والخيريّة لا تدلّ على الوجوب، بل المشاركة في أصل الخير؟.

أجاب الكرمانيّ -رحمه اللَّه تعالى- بأن المعنى: فالصوم خير من التطوّع بالفدية، والتطوّع بها كان ستة، والخير من السنة لا يكون إلا واجبًا، أي لا يكون شيء خيرًا من السنة إلا الواجب. كذا قال، ولا يخفى بعده، وتكلّفه. ودعوى الوجوب في خصوص الصيام في هذه الآية ليست بظاهرة، بل هو واجب مخيّر، من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم، فنصّت الآية على أن الصوم أفضل، وكون بعض الواجب المخيّر أفضل من بعض لا إشكال فيه. واتفقت هذه الأخبار على أن قوله:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} منسوخ.

وخالف في ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، فذهب إلى أنها محكمة، لكنها مخصوصة بالشيخ الكبير ونحوه، كما يأتي في الرواية التالية، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-63/ 2316 - وفي "الكبرى" 63/ 2625 و 25/ 11017. وأخرجه (خ) في "التفسير" 4507 (م) في "الصيام" 1145 (د) في "الصوم" 2315 (ت) في "الصوم" 798 (الدارميّ) في "الصوم" 1734. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ثبوت النسخ في القرآن، وقد أجمعت الأمة على ذلك، ودلّ عليه قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} (ومنها): التدرّج في تشريع الصوم، تسهيلًا على المكلّفين، فكان أول ما شُرع من أراد أن يصوم صام، ومن أراد أن يُطعم أطعم وأفطر، حتى إذا أَلِفُوه، وسهل عليهم نزل قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ

ص: 217

فَلْيَصُمْهُ}، فأوجب اللَّه عليهم صيامه، ونسخ الفدية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2317 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ عز وجل:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} يُطِيقُونَهُ: يُكَلَّفُونَهُ، فِدْيَةٌ، طَعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} طَعَامُ مِسْكِينٍ آخَرَ، لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ:{فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} لَا يُرَخَّصُ فِي هَذَا، إِلاَّ لِلَّذِي

(1)

لَا يُطِيقُ الصِّيَامَ، أَوْ مَرِيضٍ لَا يُشْفَى).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) المعروف أبوه بابن عُليّة البصريّ، نزيل دمشق، وقاضيها، ثقة حافظ [11] 22/ 489.

2 -

(يزيد) بن هارون السلميّ، أبو خالد الواسطيّ، ثقة متقن عابد [9] 153/ 244.

3 -

(ورقاء) بن عمر اليشكريّ، أبو بشر الكوفيّ، نزيل المدائن، صدوقٌ في حديثه عن منصور لين [7] 60/ 866.

4 -

(عمرو بن دينار) الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

5 -

(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة فقيه فاضل، كثير الإرسال [3] 112/ 154.

6 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر الحبر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ.

(ومنها): أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (فِي قَوْلِهِ عز وجل) أي في بيان ما يتعلّق به

(1)

- وفي نسخة: "إلا الذي".

ص: 218

من المعانى ({وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} {يُطِيقُونَهُ}: يُكَلَّفُونَهُ) قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: أي يَعُدّونه مشقّة على أنفسهم، ويَحمِلونه بكلفة، وصعوبة، وفي "الكشّاف" وغيره من التفاسير أن هذا المعنى مبنيّ على قراءة ابن عباس رضي الله عنهما، وهي يُطَوَّقُونه، -بتشديد الواو، من باب التفعيل، من الطوق، ثم ذكروا عنه روايات أُخَر، ثم ذكروا أنه يصحّ هذا المعنى على قراءة {يُطِيقُونَهُ} أي يبلغون به غاية وسعهم، وطاقتهم، وعلى هذا لا حاجة إلى تقدير حرف النفي على القراء المشهورة، والمشهور أنه على القراءة المشهورة يُقدَّر حرف النفي. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

.

وقال الحافظ عند قول البخاريّ: "قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة": ما نصّه:

هذا مذهب ابن عباس، وخالفه الأكثر. وفي هذا الحديث، والذي بعده ما يدلّ على أنها منسوخة، وهذه القراءة تضعّف تأويل من زعم أن "لا" محذوفة من القراءة المشهورة، وأن المعنى: وعلى الذين لا يطيقونه فدية، وأنه كقول الشاعر:

فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا

أي لا أبرح قاعدًا، ورُدّ بدلالة القسم على النفي بخلاف الآية، وُيثَبِّت هذا التأويل أن الأكثر على أن الضمير في قوله:{يُطِيقُونَهُ} للصيام، فيصير تقدير الكلام: وعلى الذين يطيقون الصيام فدية، والفدية لا تجب على المطيق، وإنما تجب على غيره.

والجواب عن ذلك أن في الكلام حذفا تقديره: وعلى الذين يطيقون الصيام إذا أفطروا فدية، وكان هذا في أول الأمر عند الأكثر، ثم نُسخ، وصارت الفدية للعاجز إذا أفطر.

وأما على قراءة ابن عباس -يعني يطوّقونه بالتضعيف- فلا نسخ؛ لأنه يجعل الفدية على من تكلّف الصوم، وهو لا يقدر عليه، فيفطر ويكفّر، وهذا الحكم باق.

وفي هذا الحديث حجة لقول الشافعيّ، ومن وافقه: إن الشيخ الكبير، ومن ذكر معه إذا شق عليهم الصوم، فأفطروا، فعليهم الفدية؛ خلافًا لمالك ومن وافقه.

واختلف في الحامل والمرضع، ومن أفطر لكبر، ثم قوي على القضاء بعدُ، فقال الشافعيّ، وأحمد: يقضون، ويطعمون. وقال الأوزاعيّ، والكوفيون: لا إطعام انتهى كلام الحافظ

(2)

.

(1)

- "شرح السنديّ" ج 4 ص 191.

(2)

- "فتح" ج 9 ص 35.

ص: 219

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدّم أن الراجح هو ما ذهب إليه الأوزاعيّ، والكوفيون؛ لأنه لا دليل على إيجاب الفدية مع الصوم. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قد اختلف السلف في الحدّ الذي إذا وجده المكلّف جاز له الفطر، والذي عليه الجمهور أنه المرض الذي يحيى له التيمم مع وجود الماء، وهو ما إذا خاف على نفسه لو تمادى على الصوم، أو على عضو من أعضائه، أو زيادة في المرض الذي بدأ به، أو تماديه. وعن ابن سيرين: متى حصل للإنسان حال يستحقّ بها اسم المرض، فله الفطر، وهو نحو قول عطاء. وعن الحسن والنخعيّ: إذا لم يقدر على الصلاة قائمًا يفطر. قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي ذهب إليه الجمهور هو الأرجح عندي؛ لأن اللَّه تعالى رخّص في الفطر للمريض، إزالة للضرر، فإذا كان مرضه خفيفًا لا يتضرّر بالصوم، ولا يشقّ معه فلا حاجة له للرخصة. واللَّه تعالى أعلم.

(فدّيَةٌ، طَعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} طَعَامُ مِسكِينٍ آخَرَ، لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ) أي الآية على هذا المعنى ليست منسوخة، وجملة "ليست منسوخة" معترضة بين تفسير الآية {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} لَا يُرَخَّصُ في هَذَا، إِلاَّ لِلَّذِي لَا يُطِيقُ الصِّيَامَ) قد يؤخذ منه الإشارة إلى التوجيه المشهور، وهو تقدير "لا" للقراءة المشهورة على هذا المعنى (أَوْ مَرِيضٍ لَا يُشْفَى) بالبناء للمفعول، والجملة صفة لـ "مريض". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-63/ 2317 وفي "الكبرى" 63/ 2626 وفي "التفسير" 25/ 11018 و 11019 وأخرجه (خ) في "التفسير" 4505 (د) في "الصوم" 2316 و 2317 و 2318. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- المصدر المذكور.

ص: 220

‌64 - (وَضْعُ الصِّيَامِ عَنِ الْحَائِضِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد بوَضْع الصيام إسقاطَ وجوب أدائه عنها حال الحيض، لا إسقاط وجوبه أصلاً، فإنه يجب عليها قضاؤه إذا طهرت بخلاف الصلاة.

وقد ذكر العلماء في الفرق بين الصلاة والصيام، حيث إن الصيام وُضع عن الحائض إلى بدل، بخلاف الصلاة؛ لأنها تتكرّر، فلم يجب قضاؤها للحرج، بخلاف الصيام. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2318 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

عَلِيٌّ -يَعْنِي ابْنَ مُسْهَرٍ- عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ،، عَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ، أَتَقْضِي الْحَائِضُ الصَّلَاةَ، إِذَا طَهُرَتْ، قَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ، كُنَّا نَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ نَطْهُرُ، فَيَأْمُرُنَا بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا يَأْمُرُنَا بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ).

قال الجامع عفا اللَّه تعالَى عنه: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"سعيد": هو ابن أبي عروبة.

وقوله: "امرأة سألت الخ" السائلة المبهمة هي معاذة نفسها، فقد بينه مسلم في رواية: "قالت: سألتُ عائشةَ

".

وقولها: "أحرورية أنت" -بفتح الحاء المهملة، وضم الراء الأولى-: أي أمنهم أنتِ؟، وهم طائفة من الخوارج، نُسبوا إلى حروراء بالمدّ والقصر، وهو موضع قريب من الكوفة، وكان عندهم تشدّد في أمر الحيض شبَهتها بهم في تشدّدهم في أمرهم، وكثرة مسائلهم، وتعنّتهم بها. وقيل: أرادت أنها خرجت عن السنّة كما خرجوا عنها، ولعلّ عائشة زعمت أن سؤالها تعنت؛ لظهور الحكم عند الخواصّ والعوامّ، فأغلظت عليها الجواب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

وهذا الحديث تقدّم شرحه، وبيان مسائله في "كتاب الحيض والاستحاضة"، رقم 17/ 382، فقد رواه هناك عن عمرو بن زُرارة، عن إسماعيل ابن عليّة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن مُعَاذة، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فراجعه تزدد علماً. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2319 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ،

(1)

- وفي نسخة: "حدثنا"، وفي أخرى:"أخبرنا".

ص: 221

قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنْ كَانَ لَيَكُونُ عَلَيَّ الصِّيَامُ، مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَقْضِيهِ حَتَّى يَجِيءَ شَعْبَانُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفيّ، أبو حفص البصريّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(يحيي) بن سعيد القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 4.

3 -

(يحيي بن سعيد) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5] 22/ 23.

4 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة فقيه [3] 1/ 1.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد المشايخ التسعة الذين روى الجماعة عنهم بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فبصريّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ:"إِنْ كَانَ") "إن" مخففة من الثقيلة، ولذا دخلت اللام في خبرها، واسمها ضمير الشأن محذوفًا، أي إن الشأن، قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: وأحد الكونين زائد انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لا يلزم ذلك، بل يحتمل أن يكون "يكون" تاما بمعنى "يجب"، أو"يثبت" (لَيَكُونُ) وفي نسخة:"فيكون" بالفاء بدل اللام، وهو تصحيف (عَلَيَّ الصِّيَامُ، مِنْ رَمَضَانَ) أي بسبب تركها لأجل الحيض (فَمَا أَقْضِيهِ حَتَّى يَجِيءَ شَعْبَانُ) قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: استُدلّ به على أن عائشة رضي الله عنها -كانت لا تتطوّع بشيء من الصيام، لا في عشر ذي الحجة، ولا في عاشوراء، ولا غير ذلك. وهو مبنيّ على أنها كانت لا ترى جواز صيام التطوّع لمن عليه دينٌ من رمضان، ومن أين لقائله ذلك؟.

زاد البخاريّ في آخر هذا الحديث: ما نصّه: قال يحيى: الشغلُ من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو بالنبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى.

ص: 222

وهو خبر لمحذوف، أي المانع لها الشغل، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي الشغل هو المانع لها.

قال في "الفتح": وفي قوله: "قال يحيى" تفصيل لكلام عائشة من كلام غيرها.

ووقع في رواية مسلم مدرجًا، لم يقل: قال يحيى، فصار كأنه من كلام عائشة، أو من روى عنها. وكذا أخرجه أبو عوانة من وجه آخر، عن زهير، عن يحيى بن سعيد.

وأخرجه مسلم من طريق سليمان بن بلال، عن يحيى مدرجًا أيضًا، ولفظه:"وذلك لمكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". وأخرجه من طريق ابن جريج، عن يحيي، فبين إدراجه، ولفظه:"فظننت أن ذلك لمكانها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" يحيى يقوله. وأخرجه أبو داود من طريق مالك، والنسائيّ من طريق يحيي القطّان، وسعيد بن منصور، عن ابن شهاب وسفيان، والإسماعيليّ من طريق أبي خالد كلهم عن يحيي بدون الزيادة. وأخرجه مسلم من طريق محمد بن إبراهيم التيميّ، عن أبي سلمة بدون هذه الزيادة، لكن فيه ما يشعر بها، فإنه قال فيه: ما معناه: "فما أستطيع قضاءها مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ". ويحتمل أن يكون المراد بالمعيّة الزمان، أي أن ذلك كان خاصًا بزمانه. وللترمذيّ، وابن خزيمة من طريق عبد اللَّه البهيّ، عن عائشة:"ما قضيت شيئًا مما يكون عليّ من رمضان إلا في شعبان حتى قبض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ".

ومما يدلّ على ضعف الزيادة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم لنسائه، فيعدل، وكان يدنو من المرأة في غير نوبتها، فيقبّل، ويلمس من غير جماع، فليس في شغلها بشيء من ذلك ما يمنع الصوم، اللَّهمّ إلا أن يقال: إنها كانت لا تصوم إلا بإذنه، ولم يكن يأذن لاحتمال احتياجه إليها، فإذا ضاق الوقت أذن لها، وكان هو صلى الله عليه وسلم يكثر الصوم في شعبان، كما تقدّم، فلذلك كانت لا يتهيّأ لها القضاء إلا في شعبان.

وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقًا، سواء كان لعذر، أو لغير عذر؛ لأن الزيادة كما بيناه مدرجة، فلو لم تكن مرفوعة

(1)

لكان الجواز مقيّدًا

بالضرورة؛ لأن للحديث حكم الرفع؛ لأن الظاهر اطلاع النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، مع توفّر دواعي أزواجه على السؤال منه عن أمر الشرع، فلولا أن ذلك كان جائزًا لم تواظب عائشة عليه.

ويؤخذ من حرصها على ذلك في شعبان أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان آخر.

(1)

- هكذا نسخة الفتح، والظاهر أن الصواب:"فلو لم تكن مدرجة". فليحرّر.

ص: 223

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في الاستدلال به على عدم جواز التأخير المذكور نظر لا يخفى، والظاهر أن التأخير جائز، لإطلاق قوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، لكن لا ينبغي للشخص أن يتساهل في التأخير إلا لعذر. واللَّه تعالى أعلم.

قال: وأما الإطعام فليس فيه ما يُثبته، ولا ما ينفيه، وقد تقدّم البحث فيه. انتهى كلام الحافظ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الراجح أنه لا يجب الإطعام؛ لعدم نصّ صحيح مرفوع بوجوبه، بل المنصوص عليه هو القضاء فقط، والأصل براءة الذمّة، حتى يوجد نصّ ملزم، قال الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-: لم يَذكُر اللَّه الإطعام، إنما قال:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وهو استنباط قويّ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-64/ 2319 - وفي "الكبرى" 64/ 2628. وأخرجه (خ) في "الصوم" 1950 (م) في "الصوم" 1146 (د) في "الصوم" 2399 (ت) في "الصوم"783 (ق) في "الصيام" 1669 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 24407 و 24934 (مالك في الموطإ) في "الصيام" 686. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو وضع الصيام عن الحائض أيام حيضها (ومنها): وجوب القضاء على الحائض بعد ما طهرت عن الحيض (ومنها): جواز تأخير قضاء رمضان (ومنها): عدم وجوب الفدية لتاخيره، وقد اختلفوا في وجوبها إذا آخره عن رمضان الذي بعده، وسيأتى بيان ذلك قريبًا إن شاء اللَّه تعالى.

(المسألة الرابعة): اختُلف في وجوب التتابع في قضاء رمضان:

ذهب الجمهور إلى جواز التفريق، قال الشوكانيّ: وحكاه في "البحر" عن عليّ، وأبي هريرة، وأنس، ومعاذ رضي الله عنهم

وذهب بعضهم إلى وجوب التتابع، نقله ابن المنذر عن عليّ، وعائشة رضي الله عنهما. قال في "الفتح": وهو قول بعض أهل الظاهر. وروى عبد الرزاق بإسناده عن ابن عمر أنه قال: يقضيه تباعًا. وروي عن إبراهيم النخعيّ، وهو أحد قولي الشافعيّ. وتمسكوا

ص: 224

بقراءة: {فعدة من أيام أخر متتابعات} قال في "الموطإ": هي قراءة أبيّ بن كعب رضي الله عنه. وأجيب بأن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلت {فعدة من أيام أخر متتابعات} فسقطت {متتابعات} .

قال الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: على أنه قد اختلف في الاحتجاج بقراءة الآحاد؛ كما تقرر في "الأصول". وإذا سلم أنها لم تسقط فهي منزلة عند من قال بالاحتجاج بها منزلة أخبار الآحاد، وقد عارضها ما في الباب من الأحاديث.

ومما احتُجّ به للتتابع ما أخرجه الدارقطنيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عليه صوم من رمضان، فليسرده، ولا يقطعه". لكن قال البيهقيّ: لا يصحّ، وفي إسناده عبد الرحمن بن إبراهيم القاضي، وهو مختلف فيه. قال الدارقطنيّ: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، رَوَى حديثًا منكرًا. قال عبد الحق: يعني هذا. وتعقّبه ابن القطّان بأنه لم ينصّ عليه فلعله غيره. قال: ولم يأت مَن ضعفه بحجة، والحديث حسن.

قال الحافظ: قد صرّح ابن أبي حاتم عن أبيه بأنه أنكر هذا الحديث بعينه على عبد الرحمن انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور من جواز تفريق قضاء رمضان هو الأرجح عندي؛ لإطلاق قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، وعدم صحة دليل على خلافه، والحديث المذكور قد عرفت ما فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): اختُلف أيضًا في وجوب الفدية على من أخّر قضاء رمضان حتى جاء رمضان آخر:

ذهب الجمهور إلى وجوب الفدية عليه، وروي عن جماعة من الصحابة، منهم: ابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة. وقال الطحاويّ، عن يحيى بن أكثم، قال: وجدته عن ستة من الصحابة، لا أعلم لهم مخالفًا.

وذهب إبراهيم النخعيّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، إلى أن الفدية لا تجب. وقد مال الإمام البخاريّ إلى هذا القول، فقال في "صحيحه": ولم يذكر اللَّه الإطعام، إنما قال:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .

وقال العلامة الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد ذكر الخلاف: ما نصّه: وقد بيّنّا أنه لم يثبت في ذلك -أي في وجوب الفدية- عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيء، وأقوال الصحابة لا حجة فيها، وذهاب الجمهور إلى قول لا يدلّ على أنه الحق، والبراءة الأصليّة قاضية بعدم

ص: 225

وجوب الاشتغال بالأحكام التكليفية حتى يقوم الدليل الناقل عنها، ولا دليل ها هنا،

فالظاهر عدم الوجوب انتهى كلام الشوكاني

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى- من عدم وجوب الفدية في التأخير حسنٌ جدًا، وهو الذي مال إليه الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، كما مرّ قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌65 - (إِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ، أَوْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ فِي رَمَضَانَ، هَلْ يَصُومُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ؟)

2320 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، أَبُو حَصِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَيْفِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ عَاشُورَاءَ: «أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَكَلَ الْيَوْمَ؟» ، فَقَالُوا مِنَّا مَنْ صَامَ، وَمِنَّا مَنْ لَمْ يَصُمْ، قَالَ: «فَأَتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ، وَابْعَثُوا إِلَى أَهْلِ الْعَرُوضِ، فَلْيُتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عبد اللَّه بن أحمد بن عبد اللَّه بن يونس) الْيَرْبوعيّ، أبو حَصِين -بفتح أوله، وكسر ثانيه- الكوفيّ، ثقة [11].

قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائيّ، والحضرميّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (248) وكذا أرّخه مُطيّنٌ، وزاد: في ذي القعدة. انفرد بالرواية عنه الترمذيّ، والمصنف، وروى عنه في هذا الكتاب حديثين فقط: هذا 2320 و 2390 حديث "لكني أنا أقوم وأنام .. " الحديث.

2 -

(عَبْثر) -بفتح أوله، وسكون الموحّدة، وفتح المثلثة- ابن القاسم الزُّبيديّ- بالضمّ- أبو زُبيد- كذلك- الكوفيّ، ثقة [8] 190/ 1164.

(1)

- انظر "نيل الأوطار" ج 4 ص 278.

ص: 226

3 -

(حُصين) بن عبد الرحمن السلميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقة تغيّر حفظه في الآخر [5] 47/ 846.

4 -

(الشعبيّ) عامر بن شَرَاحيل الهمدانيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة فقيه فاضل مشهور [3] 66/ 82.

5 -

(محمد بن صَيْفيّ) بن سهل بن الحارث بن عميد، ويقال: عُبيد بن عنان، ويقال: عتبان بن عامر بن خَطْمة بن جُشم بن مالك بن الأوس الأنصاريّ الخطميّ

الصحابيّ المدنيّ، ثم الكوفيّ.

روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث الباب فقط. وروى عنه الشعبيّ. قال الأزديّ: لم يرو عنه غير الشعبيّ. وقال البغويّ: لم يرو إلا هذا الحديث الواحد، وكذا قال ابن عبد البرّ. وقال البخاريّ، وابن حبّان: عِدَاده في أهل الكوفة. وأما أبو حاتم، فقال: إنه مدنيّ. كأنه أراد أن أصله منها. انفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط، وابن ماجه، له عنده حديثان. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، والصحابيّ، كما مرّ آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا هذا الحديث عند المصنّف، وابن ماجه، وحديث في "كتاب الذبائح" عند ابن ماجه

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَيْفِيِّ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ عَاشُورَاءَ) هو اليوم العاشر من المحرّم. قال الفيّوميّ: وفيها لغات: المدّ، والقصر، مع الألف بعد العين، وعَشُوراء بالمدّ مع حذف الألف انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": وعاشوراء بالمدّ على المشهور، وحكي فيه القصر، وزعم ابن دريد أنه اسم إسلاميّ، وأنه لا يعرف في الجاهليّة. وردّ عليه ابن دحية بأن ابن الأعرابيّ

(1)

-وهو ما أخرجه ابن ماجه في "سننه" برقم (3166) قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو الأحوص، عن عاصم، عن الشعبيّ، عن محمد بن صيفي، قال:"ذبحت أرنبين بمروة، فأتيت بهما النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرني بأكلهما". انتهى. ولم يذكر في "تحفة الأشراف" -8/ 358 - له إلا الحديث الأول، فيكون هذا الحديث مما يُستدرك عليه. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

- "المصباح المنير" في مادة "عشر".

ص: 227

حكى أنه سمع في كلامهم خابوراء، وبقول عائشة: إن أهل الجاهلية كانوا يصومونه انتهى. قال الحافظ: وهذا الأخير لا دلالة فيه على ردّ ما قال ابن دريد انتهى

(1)

. (أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَكَلَ الْيَوْمَ؟، فَقَالُوا: مِنَّا مَنْ صَامَ) أي أمسك عن الأكل (وَمنَّا مَنْ لَمْ يَصُمْ) أي من أكل الطعام (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَأَتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ) أي أكملوا صوم بقيّة يومكم.

وهذا محلّ الترجمة، وسيأتي وجه الاستدلال في "المسألة الثالثة" إن شاء اللَّه تعالى (وَابْعَثُوا إِلَى أَهْلِ الْعَرُوضِ، فَليُتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ)"الْعَرُوض" -بفتح العين المهملة، وضمّ الراء- يطلق على مكة والمدينة، وما حولهما. كما في "القاموس". وقال ابن الأثير: أراد مَنْ بأكناف مكة والمدينة. يقال لمكة، والمدينة، واليمن: الْعَرُوض، ويقال للرَّسَاتيق بأرض الحجاز: الأَعْرَاض، واحدها عِرْض بالكسر انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث محمد بن صيفيّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-65/ 2320 - وفي "الكبرى" 65/ 2629. وأخرجه (ق) في "الصيام" 1735 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 18957. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف، وهو أن الحائض إذا طهرت، والمسافر إذا قدم من سفره، أو أراد الإقامة في مكان في أثناء النهار يجب عليهما أن يصوما بقية يومهما، ووجه دلالته على ذلك، أنه صلى الله عليه وسلم أمر مَن أكل، ومن لم يأكل بإتمام صومه في أثناء النهار، فدلّ على أن الحائض إذا طهرت، أو أقام المسافر في أثناء النهار وجب عليهما الإمساك في بقية النهار، ويكون صومهما صومًا صحيحًا، ويعتبر الأكل قبل ذلك مغتفرًا، كما اغتُفِر أكل الناسي.

(ومنها): أن على الإمام أن يُقيم من يُعلن بدخول وقت الصوم حتى يتنبّه من كان غافلاً (ومنها): وجوب صوم عاشوراء، وهذا قبل أن يفرض رمضان، ثم نسخ وجوبه، وبقي استحبابه (ومنها): أن وجوب تبييت النيّة إنما هو على من كان عالمًا بوجوب

(1)

- "فتح" ج 4 ص 771.

(2)

- "النهاية في غريب الحديث" ج 3 ص 214.

ص: 228

الصوم من الليل، أما من جهل ذلك بأن لم يعلم بدخول رمضان إلا في أثناء النهار، فصومه صحيح بنيّة النهار. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في تعيين يوم عاشوراء:

ذهب أكثر العلماء إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر. قال القرطبيّ: عاشوراء مَعدُول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة؛ لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد، واليوم مضاف إليها، فإذا قيل: يوم عاشوراء، فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة؛ إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسميّة، فاستغنوا عن الموصوف، فحذفوا الليلة، فصار هذا اللفظ عَلَمًا على اليوم العاشر.

وذكر أبو منصور الجواليقيّ أنه لم يُسمع فاعولاء إلا هذا، وضاروراء، وساروراء، ودالولاء، من الضارّ، والسارّ، والدالّ، وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر، وهذا قول الخليل وغيره.

وقال الزين ابن الْمُنَيّر: أكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر اللَّه المحرّم، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية.

وقيل: هو اليوم التاسع، فعلى الأول فاليوم مضاف لليلة الماضية، وعلى الثاني هو مضاف لليلته الآتية، وقيل: إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذًا من إيراد الإبل، كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية أيام، ثم أوردها في التاسع قالوا: وردنا عِشْرًا -بكسر العين- وكذلك إلى الثلاثة.

وروى مسلم من طريق الحكم بن الأعرج، قال: "انتهيت إلى ابن عباس، وهو متوسّد رداءه، فقلت: أخبرني عن يوم عاشوراء، قال: إذا رأيت هلال المحرّم، فاعدد، وأصبح يوم التاسع صائمًا، قلت: أهكذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم.

وهذا ظاهر أن عاشوراء هو اليوم التاسع، لكن قال الزين ابن المنيّر: قوله: إذا أصبحت من تاسعه، فأَصْبحْ يشعر بأنه أراد العاشر؛ لأنه لا يصبح صائمًا بعد أن أصبح من تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة، وهي الليلة العاشرة.

قال الحافظ: ويقوّي هذا الاحتمال ما رواه مسلم أيضًا من وجه آخر، عن ابن عبّاس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم -قال:"لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التاسع، فمات قبل ذلك". فإنه ظاهر في أنه كان يصوم العاشر، وهمّ بصوم التاسع، فمات قبل ذلك، ثم ما همّ به من صوم التاسع يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه، بل يضيفه إلى اليوم العاشر؛ إما احتياطًا له، وإما مخالفة لليهود والنصارى، وهو الأرجح، وبه يشعر بعض روايات مسلم. ولأحمد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعًا: "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا يومًا

ص: 229

قبله، أو يومًا بعده". وهذا كان في آخر الأمر، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ولا سيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان، فلما فُتحت مكة، واشتهر أمر الإسلام أحبّ مخالفة أهل الكتاب أيضًا، كما ثبت في "الصحيح"، فهذا من ذلك، فوافقهم أوّلاً، وقال: "نحن أحقّ بموسى منكم"، ثم أحبّ مخالفتهم، فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله، أويوم بعده خلافًا لهم. ويؤيّده رواية الترمذيّ من طريق أخرى بلفظ: "أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء، يوم العاشر".

وقال بعض أهل العلم: قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: "لئن عشت إلى قابل لأصومنّ التاسع" يحتمل أمرين: "أحدهما": أنه أراد نقل العاشر إلى التاسع. و"الثاني": أراد أن يضيفه إليه في الصوم، فلما توفّي صلى الله عليه وسلم قبل بيان ذلك كان الاحتياط صوم اليومين، وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر.

(1)

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): استدلّ بحديث الباب على صحة الصيام لمن لم ينوه من الليل، سواء كان رمضان، أو غيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم -أمر بالصوم في أثناء النهار، فدلّ على أن النيّة لا تشترط من الليل.

قال الحافظ: وأجيب بأن ذلك يتوقّف على أن صيام عاشوراء كان واجبًا، والذي يترجّح من أقوال العلماء أنه لم يكن فرضًا، وعلى تقدير أنه كان فرضًا، فقد نسخ بلا ريب، فنسخ حكمه، وشرائطه بدليل قوله:"من أكل فليتمّ"، ومن لا يشترط النيّة من الليل لا يجيز صيام من أكل من النهار.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "والذي يترجح من أقوال العلماء أنه لم يكن فرضًا"، إن أراد كونه مذهب الجمهور، فمسلم، وإن أراد أنه راجح من حيث الدليل فلا؛ لأن الذي يترجح بالأدلة الواضحة كونه فرضًا، لكنه نسخ برمضان.

وقد ذكر الحافظ نفسه ما يناقض كلامه المذكور، فقال عند شرح حديث معاوية رضي الله عنه "ولم يكتب اللَّه عليكم صيامه":

ما ملخّصه: ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبًا؛ لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكُّد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العامّ، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يُرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم:

(1)

- "فتح" ج 4 ص 771 - 772.

ص: 230

"لما فُرض رمضان تُرك عاشوراء"، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدلّ على أن المتروك وجوبه. وأما قول بعضهم: المتروك تأكد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه، فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم، حيث يقول:"لئِن عشت لأصومنّ التاسع والعاشر"، ولترغيبه في صومه، وأنه يكفّر سنة، وأيّ تأكيد أبلغ من هذا؟ انتهى.

فتبيّن بهذا أن الصواب أن صوم عاشوراء كان فرضًا، ثم نسخ بفرض رمضان. واللَّه تعالى أعلم.

قال: وصرّح ابن حبيب من المالكيّة بأن ترك التبييت لصوم عاشوراء من خصائص عاشوراء، وعلى تقدير أن حكمه باق، فالأمر بالإمساك لا يستلزم الإجزاء، فيحتمل أن يكون أمر بالإمساك لحرمة الوقت، كما يؤمر من قدم من سفر في رمضان نهارًا، وكما يؤمر من أفطر يوم الشكّ، ثم رأى الهلال، وكلّ ذلك لا ينافي أمرهم بالقضاء.

بل ورد ذلك صريحًا في حديث أبي داود، والنسائيّ، من طريق قتادة، عن عبد الرحمن بن سلمة

(1)

، عن عمّه: أن أسلم أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"صمتم يومكم هذا؟ "، قالوا: لا، قال:"فأتمّوا بقية يومكم، واقضوه". وعلى تقدير أن لا يثبت هذا الحديث في الأمر بالقضاء، فلا يتعيّن ترك القضاء، لأن من لم يدرك اليوم بكماله لا يلزمه القضاء، كمن بلغ، أو أسلم في أثناء النهار.

واحتجّ الجمهور لاشتراط النية في الصوم من الليل بما أخرجه أصحاب "السنن" من حديث عبد اللَّه بن عمر، عن أخته حفصة رضي الله عنهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من لم يبيّت الصيام من الليل فلا صيام له". لفظ النسائيّ، ولأبي داود، والترمذيّ:"من لم يُجمِع الصيام قبل الفجر فلا صيام له".

واختُلف في رفعه ووقفه، ورجّح الترمذيّ، والنسائيّ الموقوف، بعد أن أطنب النسائيّ في تخريج طرقه. وحكى الترمذيّ في "العلل" عن البخاريّ ترجيح وقفه.

وعمل بظاهر الإسناد جماعة من الأئمة، فصحّحوا الحديث، منهم: ابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم، وابن حزم. وروى له الدارقطنيّ طريقًا آخر، وقال: رجالها ثقات.

وأبعَدَ من خصّه من الحنفيّة بصيام القضاء والنذر، وأبعَدُ من ذلك تفرقة الطحاويّ

(1)

- قال ابن القطان: مجهول، وقال الذهبيّ: لا يعرف. فالحديث بزيادة: "واقضوه" لا يصحّ، لكونه من طريق عبد الرحمن بن سلمة، وهو وإن ذكره ابن حبان في "الثقات"، مجهول.

ص: 231

بين صوم الفرض إذا كان في يوم بعينه، كعاشوراء، فتجزىء النيّة في النهار، أو لا في يوم بعينه، كرمضان، فلا يجزئ إلا بنيّة من الليل، وبين صوم التطوّع، فيجزىء في الليل وفي النهار.

وقد تعقّبه إمام الحرمين بأنه كلام غثّ، لا أصل له. وقال ابن قُدامة: تعتبر النية في رمضان لكلّ يوم في قول الجمهور، وعن أحمد أنه يجزئه نية واحدة لجميع الشهر، وهو كقول مالك، وإسحاق. وقال زفر: يصحّ صوم رمضان في حقّ المقيم الصحيح بغير نية، وبه قال عطاء، ومجاهد.

واحتجّ زفر بأنه لا يصحّ فيه غير صوم رمضان؛ لتعينه، فلا يفتقر إلى نية؛ لأن الزمن معيار له، فلا يتصوّر في يوم واحد إلا صوم واحد.

وقال أبو بكر الرازيّ: يلزم قائل هذا أن يصحح صوم المغمى عليه في رمضان إذا لم يأكل، ولم يشرب؛ لوجود الإمساك بغير نيّة، قال: فإن التزمه كان مستشنعًا. وقال غيره: يلزمه أن من أخر الصلاة حتى لم يبق من وقتها إلا قدرها، فصلى حينئذ تطوعًا أنه يجزئه عن الفرض.

واستدلّ ابن حزم بحديث الباب، وحديث سلمة رضي الله عنه الآتي في الباب التالي، مرفوعًا:"من أكل، فليتمّ بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم". على أن من ثبت له هلال رمضان بالنهار جاز له استدراك النية حينئذ، ويجزئه، وبناه على أن عاشوراء كان فرضًا أوّلاً، وقد أمروا أن يمسكوا في أثناء النهار، قال: وحكم الفرض لا يتغيّر. قال الحافظ: ولا يخفى ما يَرِدُ عليه مما قدمناه. وألحق بذلك من نسي أن ينوي من الليل؛ لاستواء حكم الجاهل والناسي. انتهى كلام الحافظ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-، هو الراجح الذي يؤيّده الدليل الواضح البيّن، وما ادعاه الحافظ من أنه يَرِدُ عليه ما تقدّم غير مقبول؛ لأن ما قدمه من ترجيح عدم كون صوم عاشوراء فرضًا، غير مسلّم، فتنبّه.

والحاصل أن الصوم فرضه ونفله لايصحّ إلا بنيّة من الليل، إلا ما خصّ بحديث الباب، ونحوه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 232

‌66 - (إِذَا لَمْ يُجْمِعْ مِنَ اللَّيْلِ، هَلْ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنَ التَّطوُّعِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يرى أن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء الذي في حديث الباب كان أمر استحباب، وبنى على ذلك جواز صوم التطوّع لمن لم ينو من الليل.

لكن الذي يتضح من حديث الباب، وحديث الباب السابق، ونحوهما أن أمره صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء أمر وجوب، لا أمر استحباب، إذ الأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف، ولا صارف هنا. فتأمّل.

قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرحه": والمصنف حمل الحديث على صوم النفل؛ لأن صوم عاشوراء ليس بفرض، ولكن استدلّ صاحب "الصحيح" على عموم الحكم، وذلك لأن الأحاديث تدلّ على افتراض صوم عاشوراء، من جملتها هذا الحديث، فإن هذا الاهتمام يقتضي الافتراض. وعلى هذا فالحديث ظاهر في جواز الصوم بنية من النهار في صوم الفرض.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: نعم هذا الاستدلال يتمّ، لو لم يصحّ لدينا حديث:"من لم يبيت الصيام من الليل، فلا صيام له"، وأما بعد صحته، فيحمل هذا الحديث على من كان جاهلاً بيوم الصوم مثل حال أهل صوم عاشوراء الذين أذّن فيهم بالأمر المذكور، وأما من علم ذلك، فلا بدّ من تبييت النية من الليل عملاً بالدليلين. فتنبّه.

قال: وما قيل: إنه إمساك لا صوم، مردود بأنه خلاف الظاهر، فلا يصار إليه بلا دليل.

نعم قد قام الدليل فيمن أكل قبل ذلك.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ليس هنا دليل يدلّ على أن من أكل لم يصحّ صومه، بل الدليل بالعكس، وهو أن صوم من أكل صحيح. فتنبّه.

قال: وما قيل: إنه جاء في "سنن أبي داود" أنهم أتموا بقية اليوم، وقضوه. قلنا: هو شاهد لنا، عليكم، حيث خصّ القضاء بمن أتمّ بقية اليوم، لا بمن صام تمامه، فعلم أن من صام تمامه بنية من النهار فقد جاز صومه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كلام السنديّ هذا كله مبنيٌّ على نصرة مذهبه مذهب الحنفية، والحديث المذكور لا يصحّ، ولا يصلح للاحتجاج به، كما تقدّم، فكيف يُردّ به ما

ص: 233

صحّ من أحاديث وجوب تبييت النيّة؟ فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّرْ بتقليد ذوي الاعتساف.

قال: لا يقال: يوم عاشوراء منسوخ، فلا يصحّ به الاستدلال؛ لأنا نقول: دلّ الحديث على شيئين: أحدهما وجوب صوم عاشوراء. والثاني: أن الصوم الواجب في يوم بعينه يصحّ بنية من نهار، والمنسوخ هو الأول، ولا يلزم من نسخه نسخ الثاني، ولا دليل على نسخه أيضًا.

بقي فيه بحثٌ، وهو أن الحديث يقتضي أن وجوب الصوم عليهم ما كان معلومًا من الليل، وإنما عُلم من النهار، وحينئذ صار اعتبار النية من النهار في حقّهم ضروريا؛ كما إذا شهد الشهود بالهلال يوم الشكّ، فلا يلزم جواز الصوم بنية من النهار بلا ضرورة، وهو المطلوب. واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام السنديّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا البحث الأخير هو محطّ الأنظار لكلّ منصف، ولذا لم يتعرّض السنديّ لدفعه، حيث عَلِم أنه دليل مُفحِم.

والحاصل أن الحقّ أنه لا يصحّ الصوم إلا بنية من الليل؛ لحديث حفصة رضي الله عنها الآتي بعد باب، إلا لمن كان على مثل حال هؤلاء الذين بين حالهم حديثُ سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، من الجهل بوجوب الصوم من الليل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2321 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لِرَجُلٍ: "أَذِّنْ" -يَوْمَ عَاشُورَاءَ- "مَنْ كَانَ أَكَلَ، فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ، فَلْيَصُمْ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(محمد بن المثنى) بن عُبيد المعروف بالزَّمِنُ، أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ، ثقة ثبت [10] 64/ 80.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان المذكور قبل باب، وكذا الباقيان تقدّما قبل بابين. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (125) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد المشايخ التسعة الذين يروي عنهم الجماعة بلا واسطة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ يَزِيدَ) بن أبي عُبيد، مولى سلمة بن الأكوع، أنه (قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ) بن عمرو

ص: 234

ابن الّأكواع رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لِرَجُلٍ: أَذِّنْ") من التأذين، ويحتمل أن يكون من الإيذان، فيكون بمدّ الهمزة. وفي رواية للشيخين: "بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم، يوم عاشوراء، فأمره أن يؤذّن في الناس

".

قال في "الفتح": واسم هذا الرجل هند بن أسماء بن حارثة الأسلميّ، له ولأبيه، ولعمه هند بن حارثة صحبة، أخرج حديثه أحمد، وابن أبي خيثمة من طريق ابن إسحاق: حدثني عبد اللَّه بن أبي بكر، عن حبيب بن هند بن أسماء الأسلميّ، عن أبيه، قال: بعثني النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قومي من أسلم، فقال:"مُرْ قومك أن يصوموا هذا اليوم، يوم عاشوراء، فمن وجدته منهم قد أكل في أول يومه، فليصم آخره". ورى أحمد أيضًا من طريق عبد الرحمن بن حرملة، عن يحيى بن هند، قال: وكان هند من أصحاب الحُدَيبية، وأخوه الذي بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمر قومه بالصيام يوم عاشوراء. قال: فحدّثني يحيى بن هند، عن أسماء بن حارثة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعثه، فقال:"مر قومك بصيام هذا اليوم"، قال: أرأيت إن وجدتهم قد طَعِمُوا؟ قال: "فليتمّوا آخر يومهم".

قال الحافظ: فيحتمل أن يكون كلّ من أسماء، وولده هند أُرسلا بذلك. ويحتمل أن يكون أطلق في الرواية الأولى على الجدّ اسم الأب، فيكون الحديث من رواية حبيب ابن هند، عن جدّه أسماء، فتتحد الروايتان. واللَّه أعلم انتهى.

(- يَوْمَ عَاشُورَاءَ-) متعلّق بـ"أذّن"(مَنْ كَانَ أَكَلَ، فَلْيُتِمّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ) ولفظ مسلم: "فليُتمّ صيامه إلى الليل"، وهو صريح في أن صومه بقية يومه صوم لكله، وإن تقدمه أكل، أو شرب، أو نحوه، فهو بمنزلة من أكل، أو شرب ناسيًا، فإن صومه صحيح بإجماع، ومن تأوله بأن المراد مجرد الإمساك لحرمة اليوم، فقد حمّله ما لا يتحمّله من دون ضرورة تُلجِىء إليه. واللَّه تعالى أعلم.

(وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ، فَليَصُمْ) قال النوويّ: احتجّ أبو حنيفة رحمه الله بهذا الحديث لمذهبه أن صوم رمضان وغيره من الفرض يجوز نيته في النهار، ولا يشترط تبييتها، قال: لأنهم نووا في النهار، وأجزأهم.

وقال الجمهور: لا يجوز رمضان، ولا غيره من الصوم الواجب إلا بنية من الليل، وأجابوا عن هذا الحديث بأن المراد إمساك بقية النهار، لا حقيقة الصوم، والدليل على هذا أنهم أكلوا، ثم أمروا بالإتمام، وقد وافق أبو حنيفة وغيره على أن شرط إجزاء النية في النهار في الفرض والنفل أن لا يتقدمها مفسد للصوم من أكل أو غيره.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الجواب فيه نظر لا يخفى، إذ هو مخالف لظاهر النصّ، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"فليتمّ صيامه إلى الليل"، فيُثبِت كونه صومًا صحيحًا، بنصه

ص: 235

الصريح، وهو إنما بعث لتبيين الحقائق الشرعيّة، وهم يقولون: ليس صومًا صحيحًا، إن هذا لشيءٌ عُجاب.

والحاصل أن الصواب أن هذا الصوم صحيح، وجاز بنية من النهار للعذر بالجهل به، كما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم.

قال: وجواب آخر أن صوم عاشوراء لم يكن واجبًا عند الجمهور، وإنما كان سنة متأكدة.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد قدّمنا أن الصحيح كون صوم عاشوراء فرضًا، ثم نسخ، لظواهر النصوص. واللَّه تعالى أعلم.

قال: وجواب ثالث أنه ليس فيه أنه يجزيهم، ولا يقضونه، بل لعلهم قضوه، وقد جاء في سنن أبي داود في هذا الحديث:"فأتموا بقية يومكم، واقضوه". انتهى كلام النوويّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "لعلهم قضوه" غير صحيح، فمن أين هذا الظنّ؟، والزيادة التي ذكرها من "سنن أبي داود" غير صحيحة، كما تقدم بيان ذلك.

والحاصل أن صوم من لم يعلم يكون اليوم من رمضان، ثم تبين له في أثناء النهار أنه منه، فليتم يومه صائمًا سواء تقدّم له أكل ونحوه، أو لم يتقدم، فيكون صومه صحيحًا مجزئًا عن فرضه؛ لحديث الباب وغيره، فيكون كمن أكل، أو شرب ناسيًا، فإن صومه صحيح تامّ بلا خلاف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سلمة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-66/ 2321 - وفي "الكبرى" 66/ 2630. وأخرجه (خ) في "الصوم" 1924 و 2007 وفي "أخبار الآحاد" 7265 (م) في "الصيام" 1135 (أحمد) في "مسند المدنيين" 16072 (الدارميّ) في "الصوم" 1761. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 236

‌67 - (النِّيَّةُ فِي الصِّيَامِ، والاخْتِلَافُ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ يَحيىَ بْنِ طَلْحَةِ فِي خَبَرِ عَائِشَةَ فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن أبا الأحوص، وشَريكًا، وسفيان في رواية رووه عن طلحة، عن مجاهد، عن عائشة رضي الله عنها.

ورواه سفيان، في رواية، ويحيى القطّان، ووكيع، ثلاثتهم عن طلحة، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة رضي الله عنها.

ورواه القاسم بن مَعْن في رواية، عن طلحة بن يحيى، عن عائشة بنت طلحة، ومجاهد كلاهما عن عائشة رضي الله عنها.

ورواه القاسم في رواية، عن طلحة، عن مجاهد، وأم كلثوم: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة، مرسلاً.

والظاهر أن مثل هذا الاختلاف لا يضرّ كما في نظائره. وقد رجّح مسلم طريق طلحة ابن يحيى، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة رضي الله عنها، فأخرجها في "صحيحه". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2322 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟». فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: «فَإِنِّي صَائِمٌ» ، ثُمَّ مَرَّ بِي بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقَدْ أُهْدِيَ إِلَيَّ حَيْسٌ، فَخَبَأْتُ لَهُ مِنْهُ، وَكَانَ يُحِبُّ الْحَيْسَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَخَبَأْتُ لَكَ مِنْهُ، قَالَ: «أَدْنِيهِ، أَمَا إِنِّي قَدْ أَصْبَحْتُ، وَأَنَا صَائِمٌ» ، فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ صَوْمِ الْمُتَطَوِّعِ، مَثَلُ الرَّجُلِ، يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ الصَّدَقَةَ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهَا»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائيّ، ثقة ثبت [11] 108/ 147.

2 -

(عاصم بن يوسف) اليربوعيّ، أبي عمرو الخيّاط الكوفيّ، ثقة، من كبار [10].

قال أبو حاتم: لقيته، ولم أسمع منه. وقال الدارقطنيّ: ثقة. وقال أبو بكر البزّار: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال محمد بن عبد اللَّه الحضرميّ: مات

ص: 237

سنة (220) وكان ثقة. روى له البخاريّ، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث برقم 2322 و 3623 و 4089.

3 -

(أبو الأحوص) سلام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة متقن [7] 79/ 96.

4 -

(طلحة بن يحيى بن طلحة) المدنيّ، نزيل الكوفة، صدوق يخطئ [6] 36/ 580.

5 -

(مجاهد) بن جبر المخزوميّ مولاهم، أبو الحجّاج المكيّ، ثقة فقيه إمام [3] 27/ 31.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فنسائي، ومجاهد، فمكيّ، والصحابية، فمدنيّة. (ومنها): أن فيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: "هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟) وفي نسخة: "من شيء"، أي مما يُؤكل (فَقُلْتُ: لَا، قَالَ:"فَإِنِّي صَائِمٌ") فيه دليل على جواز صوم التطوّع بنية من النهار، وبه قال كثير من أهل العلم، وقد تقدّم الكلام عليه في الباب الماضي.

(ثُمَّ مَرَّ بِي بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقَدْ أُهْدِيَ) بالبناء للمفعول (إِلَيَّ حَيْسٌ) بفتح الحاء المهملة، وسكون التحتانيّة: هو شيء يُتّخذ من تمر، وسَمْن، وأُقِطِ. وقال الفيّوميّ: تمر يُنزَع نواه، ويُدَقّ مع أَقِطٍ، وُيعجنان بالسمن، ثم يُدلك باليد حتى يبقى كالثريد، وربما جُعل معه سويقٌ، وهو مصدرٌ في الأصل، يقال: حاسَ الرجلُ حَيْسًا، من باب باع: إذا اتخذ ذلك انتهى.

(فَخَبَأْتُ لَهُ مِنْهُ) أي أفردت له بعضه، وتركته مستورًا عن أعين الناس (وَكَانَ يُحِبّ الْحَيْسَ، قَالَتْ) وفي نسخة: "قلت"(يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَخَبَأْتُ لَكَ مِنْهُ، قَالَ: "أَدْنِيهِ") أمر من الإدناء، أي قرّبيه (أَمَا) أداة استفتاح، وتنبيه، مثل "ألا"(إِنِّي قَدْ أَصْبَحْتُ، وأَنَا صَائِمٌ، فَأَكَلَ مِنْهُ) وهذا يدلّ على جواز الفطر للصائم المتطوّع بلا عذر، وهو مذهب الجمهور، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 238

(ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلُ صَوْمِ الْمُتَطَوَّعِ) وفي نسخة: "إنما مثل التطوّع"(مَثَلُ الرَّجُلِ، يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ الصَّدَقَةَ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهَا") ظاهر رواية المصنّف يدلّ على أن قوله: "إنما مثل صوم المتطوّع الخ" من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم لكن في "صحيح مسلم" ما يدلّ على أنه من كلام مجاهد، ولفظه من طريق عبد الواحد بن زياد، عن طلحة بن يحيى:"قال طلحة: فحدثت مجاهدًا بهذا الحديث، فقال: ذاك بمنزلة الرجل يُخرج الصدقة من ماله، فإن شاء أمضاها، وإن شاء أمسكها" انتهى.

وصحح رفع هذه الزيادة بعض أهل العلم

(1)

، وقال: إن الرواي قد يرفع الحديث تارة، ويوقفه أخرى، فإذا صحّ السند بالرفع بدون شذوذ كما هنا، فالحكم له، ولذلك قالوا: زيادة الثقة مقبولة انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كون الزيادة مرفوعة هو الظاهر، ولا ينافيها وقف من وقفها، إذ المرفوع، روايته، والموقوف فتواه، رواه لبعض الناس، وأفتى به بعضَ الناس، فلا تنافي بينهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه مسلم دون قوله: "إنما مثل الخ".

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-67/ 2322 و 2323 و 2324 و 2345 و 2326 و 2327 و 2328 و 2329 و 2330 - وفي "الكبرى" 67/ 2631 و 2632 و 2633 و 2634 و 2635 و 2636 و 2637 و 2638 و 2639. وأخرجه (م) في "الصيام" 1154 (د) في "الصوم" 2455 (ت) في "الصوم" 733 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23700 و 25203. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز صوم التطوّع بنيّة من النهار (ومنها): جواز الفطر للمتطوّع متى شاء، ولو بلا عذر (ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التقلّل من الدنيا زهدًا في ملذات الدنيا الفانية، وإيثارًا لما عند اللَّه، من نعيم الآخرة: قال اللَّه تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (ومنها): ما كان عليه

(1)

- هو الشيخ الألباني -حفظه اللَّه تعالى-، انظر "الإرواء" ج 4 ص 136.

ص: 239

الصحابة رضي الله عنهم من مواساة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بما عندهم من طيبات الطعام (ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من قبول الهدية (ومنها): ضرب المثل للتقريب إلى الأذهان (ومنها): أن من أخرج شيئًا من ماله للتصدق به، ثم بدا له أن لا يتصدّق، فله ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف العلماء في حكم فطر الصائم المتطوّع:

ذهبت طائفة إلى جواز الفطر لمن كان صائمًا تطوعا، ولا قضاء عليه. وبه قال عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، وحذيفة، وأبو الدرداء، والثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.

واحتجّوا بحديث الباب، وبما رواه البخاريّ في"صحيحه" من طريق أبي العُمَيس، عن عون ابن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء مُتَبَذِّلَه، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء، ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاما، فقال: كل، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل، ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نَمْ، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: ثم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"صدق سلمان".

وبما رواه الترمذيّ، والنسائيّ، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، عن أم هانئ، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الصائم المتطوّع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر". قال النوويّ في "شرح المهذّب": ألفاظ رواياتهم متقاربة المعنى، وإسنادها جيّد

(1)

. وقال الترمذيّ: في إسناده مقال.

ومن حجتهم حديث أم هانئ: أنها دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي صائمة، فدعا بشراب، فشرب، ثم ناولها، فشربت، ثم سألته عن ذلك، فقال:"أكنت تقضين يوما من رمضان؟ "، قالت: لا، قال:"فلا بأس"، وفي رواية:"إن كان من قضاء، فصومي مكانه، وان كان تطوعا، فإن شئت فاقضه، وإن شئت فلا تقضه". أخرجه أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ. وفي إسناده هارون ابن ابنة أم هانئ، لا يعرف.

(1)

- هذا ليس بجيّد، بل الصحيح ما قاله الترمذيّ من أن في إسناده مقالاً، لأن في إسناده جعدة المخزوميّ، قال فيه البخاريّ: فيه نظر، وضعفه ابن عديّ. وقد صحح الشيخ الألباني الحديث، انظر "صحيح الجامع" ج 2 ص 717.

ص: 240

ويشهد له ما أخرجه البيهقيّ، من طريق إسماعيل بن أبي أويس، عن أبيه، عن ابن المنكدر، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: صنعتُ للنبيّ صلى الله عليه وسلم طعامًا، فلما وُضع، قال رجل: أنا صائم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"دعاك أخوك، وتكلّف لك، أَفطِر، وصُمْ مكانه إن شئت". قال الحافظ: وإسناده حسن.

وبما رواه البيهقيّ عن ابن مسعود، قال: إذا أصبحت، وأنت ناوي الصوم، فأنت بخير النظرين، إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت". وبما رواه الدارقطنيّ، والبيهقيّ بإسناد صحيح عن جابر رضي الله عنه أنه لم يكن يرى بإفطار المتطوّع بأسًا. وروى الشافعيّ، والبيهقيّ بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله.

وبهذا قالت الشافعيّة، والحنابلة، وقالوا: إذا دخل في صوم التطوّع استحبّ له إتمامه، وإذا أفطر بعذر، أو بغير عذر، فلا إثم عليه، ولا يجب عليه القضاء، لكن يكره له الفطر بدون عذر، لعموم قوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في الاستدلال بهذه الآية لهذه المسألة نظر لا يخفى؛ لأن هذا الفطر بإذن من الشارع، وما كان بإذنه ليس إبطالاً، وأيضًا إن الآية عامة، والأحاديث الدالة على جواز الفطر -كحديث الباب، وكحديث سلمان رضي الله عنه المذكور- خاصة والخاصّ يقضي على العامّ. واللَّه تعالى أعلم.

قالوا: وخروجًا من خلاف من أوجب الإتمام، وإذا أفطر بعذر فلا كراهة، وعلى كل فيستحبّ قضاؤه.

وذهب أبو حنيفة في ظاهر الرواية، ومالك إلى أنه يجب إتمام ما شَرَع فيه من نفل الصوم، ولا يجوز فطره بلا عذر، للآية المتقدمة، فإن أفطر بلا عذر أثم، وعليه القضاء، وإن أفطر بعذر فلا إثم عليه، ولا قضاء عند المالكية، وأوجبه الحنفيّة.

قال الحافظ: وأغرب ابن عبد البرّ، فنقل الإجماع على عدم وجوب القضاء عمن أفسد صومه بعذر.

واحتجّ من أوجب القضاء بما روى الترمذيّ، والنسائيّ من طريق جعفر بن بُرقان، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، قالت: كنت أنا، وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه، فأكلنا منه، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فبدرتني إليه حفصة، وكانت بنت أبيها، فقالت: يا رسول اللَّه

فذكرت ذلك، فقال:"اقضيا يومًا آخر مكانه".

قال الترمذيّ: رواه ابن أبي حفصة، وصالح بن أبي الأخضر، عن الزهريّ مثل هذا.

ورواه مالك، ومعمر، وزياد بن سعد، وابن عيينة، وغيرهم من الحفّاظ عن الزهريّ، عن عائشة مرسلاً، وهو أصحّ، لأن ابن جريج ذكر أنه سأل الزهريّ عنه، فقال: لم

ص: 241

أسمع من عروة في هذا شيئا، ولكن سمعت من ناس عن بعض من سأل عائشة، فذكره، ثم أسنده كذلك. وقال النسائيّ: هذا خطأ، وقال ابن عيينة في روايته: سئل الزهريّ عنه، أهو عن عروة؟ فقال: لا. وقال الخلال: اتفق الثقات على إرساله، وشذّ من وصله. وتوارد الحفاظ على الحكم بضعف حديث عائشة هذا. وقد رواه من لا يوثق به عن مالك موصولاً ذكره الدارقطنيّ في "غرائب مالك"، وبيّن مالك في روايته، فقال: إن صيامهما كان تطوعًا.

وله طريق آخر عن أبي داود، من طريق زُميل مولى عروة، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: أهدي لي ولحفصة طعام، وكنا صائمتين، فأفطرنا، ثم دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلنا له: يا رسول اللَّه، إنا أهديت لنا هدية، فاشتهيناها، فأفطرنا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا عليكما، صوما مكانه يوما آخر".

وهو حديث ضعيف؛ لأن زميلاً مجهول، وقال البخاريّ: لا يعرف لزميل سماع من عروة، ولا ليزيد سماع من زميل، ولا تقوم به الحجة. قال في "الفتح" وضعفه أحمد، والبخاريّ، والنسائيّ بجهالة حال زُميل

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الراجح عندي ما ذهب إليه الأولون؛ لحديث الباب وغيره من الأحاديث الصحيحة، وقد ذكرنا بعضها فيما مضى.

والحاصل أنه يجوز للصائم المتطوّع الفطر مطلقًا، ولا قضاء عليه؛ إذ لم يصحّ دليل على وجوبه، وقد عرفت ضعف الأحاديث التي احتجّ بها الموجبون. وعلى تقدير صحتها، يحمل الأمر بالقضاء على الندب؛ جمعًا بين الأدلة. فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2323 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ،، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَارَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَوْرَةً، قَالَ:«أَعِنْدَكِ شَيْءٌ» ، قَالَتْ:

(2)

لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ، قَالَ:«فَأَنَا صَائِمٌ» ، قَالَتْ: ثُمَّ دَارَ عَلَيَّ الثَّانِيَةَ، وَقَدْ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَجِئْتُ بِهِ، فَأَكَلَ، فَعَجِبْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَخَلْتَ عَلَيَّ، وَأَنْتَ صَائِمٌ، ثُمَّ أَكَلْتَ حَيْسًا، قَالَ:«نَعَمْ، يَا عَائِشَةُ، إِنَّمَا مَنْزِلَةُ مَنْ صَامَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، أَوْ غَيْرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ، أَوْ فِي التَّطَوُّعِ، بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ، أَخْرَجَ صَدَقَةَ مَالِهِ، فَجَادَ مِنْهَا بِمَا شَاءَ، فَأَمْضَاهُ، وَبَخِلَ مِنْهَا بِمَا بَقِيَ، فَأَمْسَكَهُ» ).

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو داود": سليمان بن سيف الحرّانيّ ثقة حافظ

(1)

- "فتح" ج 4 ص730.

(2)

- وفي نسخة: "قلت:".

ص: 242

[11]

103/ 136 من أفراد المصنّف.

و"يزيد": هو ابن هارون. و"شريك": هو ابن عبد اللَّه النخعيّ القاضي الكوفيّ.

وقولها: "ثم دار عليّ الثانية". قال السنديّ: ظاهره أنه في ذلك اليوم، والرواية السابقة صريحة في خلاف ذلك انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لا مانع من حمل القصّة على التعدد، ففي وقت دار عليها في يوم مرتين، وفي وقت آخر دار عليها في يوم آخر.

والحديث صحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2324 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَجِيءُ، وَيَقُولُ:«هَلْ عِنْدَكُمْ غَدَاءٌ؟» ، فَنَقُولُ: لَا. فَيَقُولُ: «إِنِّي صَائِمٌ» ، فَأَتَانَا يَوْمًا، وَقَدْ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ:«هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» ، قُلْنَا: نَعَمْ، أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، قَالَ:«أَمَا إِنِّي قَدْ أَصْبَحْتُ، أُرِيدُ الصَّوْمَ» ، فَأَكَلَ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد اللَّه بن الهيثم" بن عثمان، ويقال: ابن محمد بن الهيثم العبديّ، أبو محمد البصريّ، نزيل الرّّقَّة، لا بأس به [11].

قال النسائيّ: ثقة. وقال الخطيب: كان ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: سكن الجزيرة، ومات بناحية فارس سنة (261) وقال محمد بن سعيد الحرّانيّ: مات بالشام. انفرد به المصنّف، وله عنده أربعة أحاديث، برقم 2324 و 2560 و 4853 و 5597.

و"أبو بكر الحنفيّ": هو عبد الكبير بن عبد المجيد.

[تنبيه]: قوله: "الحنفيّ"- بحاء مهملة، ونون- هكذا وقع في معظم نسخ "المجتبى"، وهو الصواب

(1)

، ووقع في "الكبرى"، وبعض نسخ "المجتبى":"الخيفيّ" -بخاء بعجمة، وياء مثناة تحتانيّة- وهو غَلَطٌ فاحش، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

و"سفيان": هو الثوريّ.

والحديث صحيح وقد تقدم تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقول المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-:

(1)

- انظر "تحفة الأشراف" 12/ 294.

ص: 243

(خَالَفَهُ قَاسِمُ بْنُ يَزِيدَ) أي خالف أبا بكر الحنفي قاسمُ بنُ يزيد في روايته عن سفيان، فجعله عن طلحة، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة، بدل طلحة، عن مجاهد، عن عائشة، كما بيّنه بقوله:

2325 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقُلْنَا أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، قَدْ جَعَلْنَا

(1)

لَكَ مِنْهُ نَصِيبًا، فَقَالَ:«إِنِّي صَائِمٌ، فَأَفْطَرَ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن حرب": هو الطائيّ الموصليّ، صدوق

[10]

102/ 135. من أفراد المصنّف.

و"قاسم": هو ابن يزيد الجرميّ، أبو يزيد الموصليّ، ثقة عابد [9] 102/ 135. من أفراد المصنّف أيضًا.

و"عائشة بنت طلحة" بن عُبيد اللَّه التيمية، أم عمران، عمة طلحة بن يحيى الراوي عنها، كانت فائقة الجمال، وهي ثقة [3] 56/ 1947.

والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2326 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَأْتِيهَا، وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَ:«أَصْبَحَ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ، تُطْعِمِينِيهِ؟» ، فَنَقُولُ

(2)

: لَا. فَيَقُولُ: «إِنِّي صَائِمٌ» ، ثُمَّ جَاءَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ،

فَقَالَ: «مَا هِيَ؟» ، قَالَتْ

(3)

: حَيْسٌ، قَالَ:«قَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا» ، فَأَكَلَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن عليّ": هو الفلاّس. و"يحيى": هو القطّان. وقولها: "فقال: أصبح" هكذا بهمزة واحدة، وهو بتقدير همزة الاستفهام. ووقع في "الكبرى": فيقول: "أأصبح" بهمزتين. وقوله: "تُطعمينيه" بضم حرف المضارعة، من الإطعام.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- وفي نسخة: "وقد جعلت".

(2)

- وفي نسخة: "فقالت".

(3)

- وفي نسخة: "قلت".

ص: 244

2327 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عَمَّتِهِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» ، قُلْنَا: لَا. قَالَ: «فَإِنِّي صَائِمٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسحاق": هو المعروف بـ"ابن راهويه. وقولها: "ذات يوم" أي يوما من الأيام.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2328 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مَعْنٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، وَمُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَاهَا، فَقَالَ:«هَلْ عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟» ، فَقُلْتُ

(2)

: لَا، قَالَ:«إِنِّي صَائِمٌ» ، ثُمَّ جَاءَ يَوْمًا آخَرَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَدْ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَدَعَا بِهِ، فَقَالَ:«أَمَا إِنِّي قَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا» ، فَأَكَلَ).

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو بكر بن عليّ": هو أحمد بن عليّ بن سعيد المروزيّ، الثقة الحافظ [12] 1/ 2094 من أفراد المصنّف.

و"نصر بن عليّ": هو ابن نصر بن عليّ الجهضميّ البصريّ، ثقة ثبت [10] 20/ 386.

و"عليّ بن نصر" بن عليّ بن صُهبان بن أُبيّ الْجَهضميّ الحُدَّانيّ الأزديّ، أبو الحسن البصريّ الكبير، ثقة من كبار [9].

قال أحمد بن حنبل: صالح الحديث، أثبت من أبي معاوية. وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. وقال صالح بن محمد: صدوق. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال محمد بن عبد اللَّه الحضرميّ، وأبو حاتم بن حبّان: مات سنة (187). روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا 2328 وفي "كتاب الأشربة" 5607 حديث: "كل مسكر حرام".

و"القاسم بن مَعن" المسعوديّ الكوفيّ، أبو عبد اللَّه القاضي، ثقة فاضل [7] 90/ 1199.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

- وفي نسخة: "فقلنا".

ص: 245

2329 -

(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعَافَى بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ،، وَأُمِّ كُلْثُومٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟» ، نَحْوَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن يحيى بن الحارث" الحمصيّ الزَّنْجَانيّ

(1)

، ثقة [12].

قال النسائيّ: ثقة. وقال في موضع آخر: لا بأس به. وهو من أفراده، روى عنه في هذا الكتاب سبعة عشر حديثًا.

و"الْمُعَافَى بن سليمان" الجزريّ، أبو محمد الرَّسْعَنِيّ، صدوق [10] 10/ 1199.

و"القاسم" بن مَعْن المذكور في السند السابق.

و"أم كلثوم" بنت أبي بكر الصديق المدنيّة، توفي أبوها، وهي حمل، ثقة [2] 21/ 536.

والحديث سبق الكلام فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: وَقد رَوَاهُ سِمَاكُ بنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلحَةَ) يعني أن هذا الحديث رواه سماك بن حرب، فخالف، فرواه عن رجل أبهمه، عن عائشة بنت طلحة، ثم بين طريق سماك، بقوله:

2330 -

(أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ؟» ، قُلْتُ: لَا. قَالَ: «إِذًا أَصُومَ» ، قَالَتْ: وَدَخَلَ عَلَيَّ مَرَّةً أُخْرَى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: «إِذًا أُفْطِرَ الْيَوْمَ، وَقَدْ فَرَضْتُ الصَّوْمَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "صفوان بن عمرو" الحمصيّ الصغير، صدوق [11]. قال النسائيّ: لا بأس به. ووثّقه مسلمة بن قاسم. تفرّد به المصنّف، روى عنه حديثين فقط: هذا 2330 وفي "كتاب النكاح"2841.

و"أحمد بن خالد" الوهبيّ الكنديّ، أبو سعيد، صدوق [9] 56/ 2300.

و"إسرائيل": هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ الثقة [7] 75/ 1006.

و"سماك بن حرب" بو المغيرة الكوفيّ، صدوق تغيّر بآخره، فربما تلقّن [4] 2/ 325.

(1)

-بفتح الزاي، وسكون النون: نسبة إلى زنجان مدينة على حدّ أذربيجان. "لب اللباب" ج 1ص 384.

ص: 246

وقوله: "وقد فَرَضتُ" أي نويتُ. قال السنديّ: وقد يؤخذ منه أنه يلزم بالنية مع الشروع هو أو بدله، وهو القضاء. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: استدلال السنديّ هذا غريب، فكيف فهمه من هذا الحديث؟، فأين موضع الاستدلال، إن هذا لشيء عجيب!!!.

وهذا الحديث في سنده مبهم، لكن يشهد له ما تقدّم، فيصحّ به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌68 - (ذِكْرُ اخْتِلَافِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ حَفْصَةَ فِي ذَلِكَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: اسم الإشارة يعود إلى ما تقدم من النية في الصيام. ووجه الاختلاف المذكور أن رواة الزهريّ اختلفوا عليه، فرواه عنه عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وابنُ جريج، عن سالم، عن عبد اللَّه بن عمر، عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنهم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ورواه عبد اللَّه بن أبي بكر أيضا عن سالم بن عبد اللَّه، فأسقط الزهريّ.

ورواه عبيد اللَّه بن عمر، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن حفصة رضي الله عنها قولَها. ورواه يونس، ومعمر، وابن عيينة، ثلاثتهم عن الزهريّ، عن حمزة بن عبد اللَّه بن عمر، عن أبيه، عن حفصة رضي الله عنها قولَها.

ورواه مالك، عن الزهريّ، عن عائشة، وحفصة رضي الله عنها قولَهما، منقطعًا. وقال الإمام الحافظ أبو الحسن الدارقطنيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "سننه" -بعد أن ساق

الحديث من طريق عبد اللَّه بن أبي بكر، عن سالم، عن ابن عمر، عن حفصة مرفوعًا، وعن ابن شهاب عن سالم، عن أبيه، عن حفصة مرفوعًا أيضًا-: ما نصه: رفعه عبد اللَّه ابن أبي بكر، عن الزهريّ، وهو من الثقات الرُّفَعَاء.

واختُلِف على الزهريّ في إسناده، فرواه عبد الرزاق، عن عمر، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن حفصة من قولها، وتابعه الزُّبيديّ، وعبد الرحمن بن إسحاق، عن

ص: 247

الزهريّ. وقال ابن المبارك، عن معمر، وابنِ عيينة، عن الزهريّ، عن حمزة بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن حفصة. وكذلك قال بشر بن المفضّل، عن عبد الرحمن بن إسحاق. وكذلك قال إسحاق بن راشد، وعبد الرحمن بن خالد، عن الزهريّ. وغيرُ ابن المبارك يرويه، عن ابن عيينة، عن الزهريّ، عن حمزة، واختلف عن ابن عيينة في إسناده. وكذلك قال ابن وهب، عن يونس، عن الزهريّ. وقال ابن وهب أيضًا، عن يونس، عن الزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر قولَه. وتابعه عبد الرحمن بن نَمِر، عن الزهريّ. وقال الليث، عن عقيل، عن الزهريّ، عن سالم أن عبد اللَّه، وحفصة قالا ذلك. ورواه عبيد اللَّه بن عمر، عن الزهريّ، واختلف عنه. انتهى كلام الحافظ الدراقطنيّ

(1)

.

وقال الحافظ في "التلخيص الحبير": واختَلَف الأئمة في رفعه، ووقفه، فقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: لا أدري أيهما أصحّ. -يعني رواية يحيي بن أيوب، عن عبد اللَّه بن أبي بكر، عن سالم بغير واسطة الزهريّ، كما هي رواية النسائيّ في أول الباب- لكن الوقف أشبه.

وقال أبو داود: لا يصحّ رفعه. وقال الترمذيّ: الوقف أصحّ. ونقل في "العلل" عن البخاريّ أنه قال: هو خطأ، وهو حديث فيه اضطراب، والصحيح عن ابن عمر موقوف. وقال النسائيّ: الصواب عندي موقوف، ولم يصحّ رفعه

(2)

. وقال أحمد: ما له عندي ذلك الإسناد. وقال الحاكم في "الأربعين": صحيح على شرط الشيخين، وقال في "المستدرك": صحيح على شرح البخاريّ. وقال البيهقيّ: رواته ثقات إلا أنه روي موقوفًا. وقال الخطّابيّ: أسنده عبد اللَّه بن أبي بكر، وزيادة الثقة مقبولة. وقال ابن حزم: الاختلاف فيه يزيد الخبر قوّة. وقال الدارقطنيّ: كلهم ثقات انتهى كلام الحافظ

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن كونه مرفوعًا أرجح؛ لكونه زيادة ثقة مقبولة، ولأن الموقوف في مثل هذا له حكم الرفع، لأنه لا يُدرَك بالرأي، فيحمل على أن الرفع رواية حفصة، والوقف فتواها، فتارة تروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتارة تفتي بنفسها

(1)

- "سنن الدارقطنيّ" ج 2 ص 172 - 173.

(2)

- عبارته في "الكبرى" ج 2 ص 117 - 118: قال أبو عبد الرحمن: والصواب عندنا موقوف، ولم يصح رفعه. واللَّه أعلم، لأن يحيى بن أيوب ليس بذاك القوي، وحديث ابن جريج عن الزهريّ، غير محفوظ. واللَّه أعلم. انتهى.

(3)

- "التلخيص الحبير" ج 2 ص 361.

ص: 248

معتمدة على ما روته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال أبو محمد ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن ساق رواية ابن جريج، عن ابن شهاب، من طريق المصنّف-

(1)

: ما نصّه:

وهذا إسناد صحيح، ولا يضرّ إسنادَ ابن جريج له أَنْ وقفه معمر، ومالك، وعبيد اللَّه، ويونس، وابن عيينة، فابن جريج لا يتأخر عن أحدٍ من هؤلاء في الثقة والحفظ، والزهريُّ واسع الرواية، فمرّة يرويه عن سالم، عن أبيه، ومرّة عن حمزة، عن أبيه، وكلاهما ثقة، وابن عمر كذلك مرّة رواه مسندًا، ومرّة روى أن حفصة أفتت به، ومرّة أفتى هو به، وكلّ هذا قوّة للخبر. انتهى كلام ابن حزم

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كان الأولى لابن حزم أن لا يقتصر على رفع ابن جريج فقط، إذ يوهم تفرّده برفعه، فقد رفعه أيضًا عبد اللَّه بن أبي بكر من الثقات الرفعاء، كما قال الدارقطنيّ، ومن الغريب أن رواية عبد اللَّه بن أبي بكر عند المصنّف قبل رواية ابن جريج التي ساقها ابن حزم من طريق المصنّف، فلماذا تعدّاها؟.

والحاصل أن الحديث صحيح مرفوعًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2331 -

(أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(3)

اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ، قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(القاسم بن زكريّا بن دينار) القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، وربما نُسب لجدّه، ثقة [11] 8/ 410.

2 -

(سعيد بن شُرَحبيل) الكنديّ الْعَفِيفيّ الكوفيّ، صدوق، من قدماء [10].

قال الدارقطنيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، قال: وروى عنه الكوفيون. قال محمد بن عبد اللَّه الحضرميّ: مات سنة (212). أخرج له البخاريّ، والمصنف، وابن ماجه، وله عند المصنف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

3 -

(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن، أبو الحارث الفهميّ مولاهم المصريّ الإمام الحجة الثبت [7] 31/ 35.

(1)

- هي الرواية الآتية للمصنف برقم 2334.

(2)

- "المحلّى" ج 6 ص 162.

(3)

- وفي نسخة: "حدثنا"، وفي أخرى:"أخبرنا".

ص: 249

4 -

(يحيي بن أيوب) الغافقيّ، أبو العباس المصريّ، صدوق ربما أخطأ [7] 60/ 1771.

5 -

(عبد اللَّه بن أبي بكر) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقة [5] 118/ 163.

6 -

(سالم بن عبد اللَّه) بن عمر العدويّ المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 23/ 490.

7 -

(عبد اللَّه بن عمر) بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12.

8 -

(حفصة) بنت عمر بن الخطاب، أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها -، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد خُنيس بن حُذافة سنة ثلاث من الهجرة، وماتت سنة (45) تقدّمت في 39/ 583. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من ثمانيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من عبد اللَّه بن أبي بكر، وشيخة وشيخ شيخه كوفيان، والليث ويحيى مصريان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وصحابيّ عن صحابية، والابن عن أبيه، عن شقيقته. (ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو سالم. (ومنها): أن فيه عبد اللَّه بن عمر أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. وفيه واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - (عَنْ) أخته (حَفْصَةَ) بنت عمر، أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنهما - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ) -بتشديد التحتانيّة- من التبييت، أي من لم ينو الصيام من الليل، يقال: بيّت فلان رأيه: إذا فكّر فيه، وخمّره، وكلّ ما فُكّر فيه، ودُبْر بليل، فقد بُيِّتَ. قاله ابن الأثير

(1)

(قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ") قال الشوكاني -رحمه اللَّه تعالى-: نكرة في سياق النفي، فيعمّ كلّ صيام، ولا يخرج عنه إلا ما قام الدليل على أنه لا يشترط فيه التبييت، والظاهر أن النفي متوجه إلى الصحة، لأنها أقرب المجازين إلى الذات، أو متوجه إلى نفي الذات الشرعية، فيصلح الحديث للاستدلال به على عدم صحة صوم من لا يبيّت النيّة إلا ما خُصّ كالصورة المتقدّمة. والحديث أيضًا يردّ على الزهريّ، وعطاء، وزفر؛

(1)

- "النهاية" ج 1ص 170.

ص: 250

لأنهم لم يوجبوا النية في صوم رمضان، وهو يدلّ على وجوبها. وأيضًا يدلّ على الوجوب حديث:"إنما الأعمال بالنيات". والظاهر وجوب تجديدها لكلّ يوم لأنه عبادة مستقلة مسقطة لفرض وقتها، وقد وَهِمَ من قاس أيام رمضان على أعمال الحجّ باعتبار التعدد للأفعال؛ لأن الحجّ عمل واحد، ولا يتمّ إلا بفعل ما اعتبره الشارع من المناسك، والإخلال بواحد من أركانه يستلزم عدم إجزائه انتهى كلام الشوكاني

(1)

.

وقد تقدّم بيان اختلاف العلماء، وترجيح الراجح من أقوالهم في 66/ 2321، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث حفصة رضي الله عنها هذا صحيح، وقد تقدّم الكلام عليه أول الباب.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-68/ 2331 و 2332 و 2333 و 2334 و 2335 و 2336 و 2336 و 2337 و 2338 و 2339 و 2340 و 2341 - وفي "الكبرى" 68/ 2640 و 2641 و 2642 و 2643 و 2644 و 2645 و 2646 و 2647 و 2648 و 2649 و 2650.

وأخرجه (د) في "الصوم" 2454 (ت) في "الصوم" 730 (ق) في "الصيام" 1700 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 25918 (مالك: الموطأ) في "الصوم" 637 (الدارميّ) في "الصوم"1698. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2332 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ، قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة. والحديث صحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2333 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ أَشْهَبَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَذَكَرَ آخَرَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ،

(1)

-"نيل الأوطار" ج 4 ص 233.

ص: 251

حَدَّثَهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،،، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ،،، عَنْ حَفْصَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ، قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَلَا يَصُومُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -:"محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم" المصريّ الفقيه، ثقة [11] 120/ 166. من أفراد المصنّف.

و"أشهب" بن عبد العزيز بن داود القيسيّ، أبو عمرو المصريّ، يقال: اسمه مسكين، ثقة فقيه [10] 151/ 242.

وقوله: "وذكر آخر" أي ذكر أشهب مع يحيى بن أيوب شيخا آخر، وهو عبد اللَّه بن لهيعة، كما بينه أبو داود من طريق عبد اللَّه بن وهب، حدثني ابن لهيعة، ويحيى بن أيوب، عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن حزم

ومنِ عادة المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أنه إذا أراد أن يروي بسند فيه ابن لهيعة، أبهمه، وقرنه بآخر، وهكذا يصنع البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وقد تقدّم هذا البحث غير مرّة.

وقوله: "من لم يُجمِع" -بضمّ حرف المضارعة، وكسر الميم- من الإجماع، أي يَعزِم عليه، وَيجمَع رأيه على ذلك. وقال ابن الأثير: الإجماع: إحكام النيّةِ والعزيمةِ، أجمعتُ الرأيَ، وأَزْمَعْتُهُ، وعَزَمْتُ عليه بمعنًى انتهى.

والحديث صحيح، وقد تقدّم البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2334 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الأَزْهَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن الأزهر" بن منيع، أبو الأزهر العبديّ النيسابوريّ، صدوق، كان يحفظ، ثم كَبِرَ فصار كتابه أتقن من حفظه [11] 66/ 1802. من أفراد المصنّف، وابن ماجه. و"عبد الرزاق": هو ابن همام الصنعانيّ.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2335 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَفْصَةَ، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: "مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ

(1)

مِنَ اللَّيْلِ، فَلَا يَصُومُ").

(1)

- وفي نسخة: "الصوم".

ص: 252

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد: كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة. و"محمد بن عبد الأعلى" هو الصنعانيّ البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.

و"معتمر": هو ابن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، ثقة، من كبار [9] 10/ 10.

و"عبيد اللَّه": هو ابن عُمر العُمريّ ثقة ثبت فقيه [5] 15/ 15.

والحديث موقوف صحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2336 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،، قَالَ: أَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ،، قَالَ: قَالَتْ: حَفْصَةُ، زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعْ قَبْلَ الْفَجْرِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه سليمان، وهو الجيزيّ، أو المراديّ، وكلاهما ثقتان.

و"حمزة بن عبد اللَّه بن عمر" بن الخطاب، أبو عُمارة المدنيّ، شقيق سالم، ثقة [3].

قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال العجلي: مدنيّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكره ابن المدينيّ، عن يحيى بن سعيد في فقهاء أهل المدينة، وهو شقيق سالم. روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث: هذا، وقد كرره خمس مرّات 2446 و 2337 و 2338 و 2339 و 2340 وفي "كتاب الزكاة" 2585 حديث ابن عمر مرفوعًا:"ما يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة .. " الحديث. و 3569 حديثه أيضًا: "الشؤم في الدار والمرأة والفرس".

والحديث موقوف صحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2337 -

(أَخْبَرَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، قَالَتْ: "لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعْ قَبْلَ الْفَجْرِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "زكريا بن يحيى": هو السِّجْزيّ، نزيل دمشق، المعروف بـ"خيّاط السنة" الثقة الحافظ [12] 189/ 1161 من أفراد المصنّف.

و"الحسن بن عيسى" بن ما سَرْجِس، أبو عليّ النيسابوريّ، ثقة [10] 189/ 1161.

والحديث موقوف صحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 253

2338 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،،،، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ،،،، عَنْ حَفْصَةَ، قَالَتْ: "لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن حاتم" بن نُعيم المروزيّ، ثقة [12] 66/ 1800 من أفراد المصنّف.

"حبّان" -بكسر المهملة- ابن موسى، أبو محمد المروزيّ، ثقة [10] 1/ 397.

و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك.

والحديث موقوف صحيح، وتقدّم تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2339 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،،، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، قَالَتْ: "لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ، قَبْلَ الْفَجْرِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسحاق": هو ابن راهويه. و"سفيان": هو ابن عيينة. والحديث موقوف صحيح، تقدّم البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2340 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَفْصَةَ، قَالَتْ: "لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ، قَبْلَ الْفَجْرِ". أَرْسَلَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن حرب" تقدّم في الباب الماضي.

والحديث موقوف صحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وقوله: (أرْسَلَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسِ) يعني أن هذا الحديث رواه الإمام مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن عائشة، منقطعًا، والإرسال كثيرًا ما يطلقه المصنّف على الانقطاع، ثم بين طريق مالك، فقال:

2341 -

قَالَ: الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ: وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ، مِثْلَهُ:"لَا يَصُومُ إِلاَّ مَنْ أَجْمَعَ الصِّيَامَ، قَبْلَ الْفَجْرِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "ابن القاسم": هو عبد الرحمن بن القاسم الْعُتَقيّ المصريّ الفقيه الثقة، من كبار [10] 19/ 20.

والحديث موقوف منقطع؛ لأن الزهريّ لم يسمع من عائشة، وحفصة - رضي اللَّه

ص: 254

تعالى عنهما -، لكنه صحيح بما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2342 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى،،، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ،،، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "إِذَا لَمْ يُجْمِعِ الرَّجُلُ الصَّوْمَ، مِنَ اللَّيْلِ، فَلَا يَصُمْ")

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة. و"المعتمر": هو ابن سليمان بن طرخان. و"عُبيد اللَّه": هو ابن عمر العمريّ الحافظ. والحديث موقوف صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2343 -

(قَالَ: الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ،، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "لَا يَصُومُ إِلاَّ مَنْ أَجْمَعَ الصِّيَامَ، قَبْلَ الْفَجْرِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو وأبو داود، وهو ثقة حافظ، وكلهم تقدّموا غير مرّة، والحديث موقوف صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌69 - (صَوْمُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السلام

-)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: من هذا الباب إلى آخر الكتاب لبيان صيام التطوّع، ولذا كتب هنا في "الكبرى":[أبواب صيام التطوّع]- "صوم نبي اللَّه داود". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2344 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ عز وجل، صِيَامُ دَاوُدَ عليه السلام، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَأَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ عز وجل، صَلَاةُ دَاوُدَ عليه السلام، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ

(1)

- وفي نسخة: "فلا يصوم".

ص: 255

ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"عمرو بن أوس" هو: الثقفي الطائفي تابعي كبير من [2] 17/ 653.

والحديث متفق عليه وقد تقدّم سندًا ومتنًا في-14/ 1630 - وتقدّم شرحه، والكلام على مسائله هناك، فراجعه، تستفد، وأورده المصنّف هنا استدلالاً على أن المستحبّ في صوم التطوّع صوم يوم، وفطر يوم، كما كان النبيّ داود عليه السلام يفعله، لأنه لا يؤثّر في قوى الشخص، مع إدامة العبادة المحبوبة للَّه تعالى، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم "إن أحبّ الدين إلى اللَّه عز وجل ما دووم عليه، وإن قلّ"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌70 - (صَوْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بأَبِي هُوَ وَأُمِّي، وَذِكْرُ اخْتِلَافِ النَّاقِلِينَ لِلْخَبَرِ فِي ذَلِكَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "بأبي هو وأمي" متعلّق بمحذوف، أي أَفديه بأبي، وأمي، أو مَفْديّ بأبي وأمي.

[تنبيه]: عقد الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" لجواز قول الرجل: "فداك أبي وأمي"، وأورد قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه:"ارم فداك أبي وأمي"، ثم عقد بعده بابًا لقول الرجل:"جعلني اللَّه فداءك"، قال: وقال أبو بكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "فديناك بآبائنا، وأمهاتنا"، وأخرج بسنده حديث أنس رضي الله عنه أنه أقبل هو وأبو طلحة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم

الحديث، وفيه قول أبي طلحة للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا نبيّ اللَّه جعلني اللَّه فداءك، هل أصابك من شيء

".

قال الحافظ: وقد استوعب الأخبار الدّالّة على الجواز أبو بكر بن أبي عاصم في أول

(1)

- متفق عليه.

ص: 256

كتابه "آداب الحكماء"، وجزم بجواز ذلك لسلطانه، ولكبيره، ولذوي العلم، ولمن أحبّ من إخوانه، غير محظور عليه ذلك، بل يثاب عليه إذا قصد توقيره، واستعطافه، ولو كان ذلك محظورًا لنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم -قائل ذلك، ولأعلمه أن ذلك غير جائز أن يقال لأحد غيره انتهى.

قال الطبرانيّ

(1)

: في هذه الأحاديث دليل على جواز قول ذلك. وأما ما رواه مبارك ابن فَضالة، عن الحسن، قال: دخل الزبير على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو شَاكٍ، فقال: كيف تجدك جعلني اللَّه فداءك؟ قال: "ما تركتَ أعرابيتك بعدُ"، ثم ساقه من هذا الوجه، ومن وجه آخر، ثم قال: لا حجة في ذلك على المنع؛ لأنه لا يقاوم تلك الأحاديث في الصحّة. وعلى تقدير ثبوت ذلك، فليس فيه صريح المنع، بل فيه إشارة إلى أنه ترك الأولى في القول للمريض، إما بالتأنيس والملاطفة، وإما بالدعاء والتوجّع.

[فإن قيل]: إنما ساغ ذلك لأن الذي دعا بذلك كان أبواه مشركين.

[فالجواب]: أن قول أبي طلحة كان بعد أن أسلم، وكذا أبو ذرّ رضي الله عنه

(2)

، وقول أبي بكر رضي الله عنه كان بعد أن أسلم أبواه انتهى ملخّصًا.

قال الحافظ: ويمكن أن يُعْتَرَض بأنه لا يلزم من تسويغ قول ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم أن يسوغ لغيره؛ لأن نفسه أعزّ من أنفس القائلين، وآبائهم، ولو كانوا أسلموا.

فالجواب: ما تقدّم من كلام ابن أبي عاصم، فإن فيه إشارة إلى أن الأصل عدم الخصوصية. وأخرج ابن أبي عاصم من حديث ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة:"فداكِ أبوك"، ومن حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:"فداكم أبي وأمي"، ومن حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك للأنصار انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2345 -

(أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يُفْطِرُ أَيَّامَ الْبِيضِ، فِي حَضَرٍ، وَلَا سَفَرٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(القاسم بن زكريا) المذكور قبل باب.

(1)

- هكذا نسخة "الفتح"، ولعله "الطبريّ"، فليحرّر.

(2)

- حديث أبي ذرّ رضي الله عنه -أخرجه أبو داود في "سننه" بسنده عن أبي ذرّ، قال: قلت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لبيك، وسعديك، جعلني اللَّه فداك".

(3)

- "فتح" ج 12 ص 209 - 210.

ص: 257

2 -

(عبيد اللَّه) بن موسى بن أبي المختار باذام العبسيّ الكوفيّ، ثقة يتشيّع [9] 72/ 1326.

3 -

(يعقوب) بن عبد اللَّه بن سَعْد بن مالك بن هانئ بن عامر بن أبي عامر الأشعريّ، أبو الحسن القُميّ -بضمّ القاف، وتشديد الميم- صدوق يَهِم [8].

قال النسائيّ: ليس به بأس. وقال أبو القاسم الطبرانيّ: كان ثقة. وقال الدارقطنيّ: ليس بالقويّ. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال أبو نُعيم الأصبهانيّ: كان جرير بن عبد الحميد إذا رآه قال: هذا مؤمن آل فرعون. وقال محمد بن حميد الرازيّ: دخلت بغداد، فاستقبلني أحمد، وابن معين، فسألاني عن أحاديث يعقوب الْقُمّيّ. وقال الذهبيّ: عالم أهل قُمّ. قال أبو نعيم: مات سنة (174) علق عنه البخاريّ، وأخرج له الباقون، سوى مسلم، وله عند المصنف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

4 -

(جعفر) بن أبي المغيرة الْخُزَاعيّ القمّي، صدوق يَهِم [5].

قال أبو الشيخ: رأى ابنَ الزبير، ودخل مكة أيام ابن عمر مع سعيد بن جبير. وذكره ابن حبان في "الثقات"، ونقل عن أحمد بن حنبل توثيقه. وقال ابن منده: ليس بالقويّ في سعيد بن جبير. وقال الذهبيّ: صدوق. وقال أبو نعيم الأصبهانيّ: اسم أبي المغيرة دينار. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه في "التفسير"، وله عند المصنف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

5 -

(سعيد) بن جُبير الأسديّ الوالبيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه عابد [3] 28/ 436.

6 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، ومن المكثرين السبعة، ومن المشهورين بالفتوى. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يُفْطِرُ أَيَّامَ الْبِيضِ) قال في "النهاية": هذا على حذف المضاف، يريد أيام الليالي البيض،

ص: 258

وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وسميت بيضًا لأن القمر يطلع فيها من أولها إلى آخرها. وأكثر ما تجيء الرواية "الأيامُ البيضُ، والصواب أن يقال: "أيام البِيض" بالإضافة؛ لأن البيض من صفة الليالي. انتهى

(1)

(في حَضَرِ، وَلَا سَفَرٍ") الظاهر أن هذا محمول على الغالب.

وفيه استحباب ملازمة صيام أيام البيض. وسيأتي من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه -84/ 2422 - : "أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام، البيضَ؛ ثلاثَ عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة". واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث حسن، تفرّد به المصنّف، أخرجه هنا- 70/ 2345 - وفي "الكبرى"70/ 2654. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2346 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ، حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ، حَتَّى نَقُولَ: مَا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ، وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا، غَيْرَ رَمَضَانَ، مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن بشّار) بن عثمان العبديّ المعروف بببُندار، أبو بكر البصريّ، ثقة حافظ [10] 24/ 27.

2 -

(محمد) بن جعفر الهذليّ، أبو عبد اللَّه البصريّ المعروف بغندر، ثقة صحيح الكتاب [9] 21/ 22.

3 -

(شعبة) بن الحجّاج الإمام الحجة الثبت البصريّ [7] 24/ 27.

4 -

(أبو بِشر) بن أبي وحشية جعفر بن إياس البصريّ، ثم الواسطيّ، ثقة [5] 13/ 20. والباقيان تقدّما في السند الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد شيوخ الجماعة الذين يرون عنهم بلا واسطة. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين إلى أبي بشر. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- "النهاية" ج 1ص 173.

ص: 259

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ، حَثى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ) أي من مواصلة صومه (وَيُفْطِرُ، حَتَّى نَقُولَ: مَا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ) أي من مواصلة فطره، يعني أنه صلى الله عليه وسلم أحيانًا يواصل الصوم حتى يَظُنّ الظان أنه لا يريد أن يفطر في هذا الشهر، وأحيانًا يواصل الفطر حتى يَظُن الظانّ أنه لا يريد أن يصوم من هذا الشهر (وَمَا صَامَ شَهرًا مُتَتَابِعًا غَيْرَ رَمَضَانَ) أي متواليًا صيامُ أيامه كلها، ولفظ البخاريّ من طريق أبي عوانة، عن أَبي بشر: "وما صام النبيّ صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملاً غير رمضان" (مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ") حذف غايته، أي إلى أن مات، يعني أنه صلى الله عليه وسلم لم يصم شهرًا كاملاً من ابتداء هجرته من مكة إلى المدينة إلى أن مات إلا رمضان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 70/ 2346 - وفي "الكبرى"70/ 2655. وأخرجه (خ) في "الصوم" 1971 (م) في "الصيام" 1157 (د) في "الصوم" 2430 (ق) في "الصيام" 1711 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 1999 و 2047 و 2152 و 2941 و 3002 "الدارميّ" في "الصوم" 1743. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2347 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ مُسَاوِرٍ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ مَرْوَانَ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: مَا يُرِيدُ أَنْ يُفْطِرَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: مَا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن النضر بن مُساور بن مِهْران المروزيّ"، صدوق [10].

قال النسائيّ: لا بأس به. وكذا قال مسلمة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (239). روى عنه أبو داود، والمصنّف، روى عنه في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم 2347 و 2580 و 3256 و 3341 و 5126.

و"حماد": هو ابن زيد.

ص: 260

و"مروان أبو لبابة": هو الورّاق البصريّ، مولى عائشة، ويقال: مولى هند بنت المهلّب، ويقال: مولى عبد الرحمن بن زياد، ثقة [4].

قال ابن أبي خيثمة: سألت ابن معين عن أبي لبابة الذي يروي عنه حماد بن زيد؟ قال: اسمه مروان بصريّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". انفرد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-70/ 2347 - وفي "الكبرى" 70/ 2656. وفي "عمل اليوم والليلة" 712. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2348 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، عَنْ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "لَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلَا قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ، وَلَا صَامَ شَهْرًا قَطُّ كَامِلاً، غَيْرَ رَمَضَانَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو بصريّ ثقة. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجيميّ البصريّ الثقة الثبت. و"سعيد": هو ابن أبي عروبة.

والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم في 17/ 1641 - رواه هناك عن هارون بن إسحاق، عن عبدة بن سليمان، عن سعيد به، وتقدّم البحث فيه مستوفًى هناك، فراجعه، تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2349 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: سَأَلْتُ

(1)

عَائِشَةَ، عَنْ صِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ، وَمَا صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا كَامِلاً، مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِلاَّ رَمَضَانَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"حماد": هو ابن زيد. و"أيوب": هو السختيانيّ، والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم في 35/ 2183 - رواه هناك عن محمد بن أحمد الصَّيْدَلانيّ، عن محمد بن سلمة، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن عبد اللَّه بن شقيق به، وتقدم تمام البحث فيه هناك، فراجعه، تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- وفي نسخة: "سئلت".

ص: 261

2350 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي قَيْسٍ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ، تَقُولُ: كَانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَصُومَهُ شَعْبَانُ، بَلْ كَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الربيع بن سليمان": هو المصريّ الجيزيّ، ثقة [11] 122/ 173. و"معاوية بن صالح": هو ابن حُدَير الحمصيّ، صدوق له أوهام [7] 50/ 62. و"عبد اللَّه بن أبي قيس"، ويقال: ابن قيس، ويقال: ابن أبي موسى، أبو الأسود النصريّ -بالنون- الحمصيّ، ثقة مخضرم [2] 5/ 404.

وقولها: "كان أحبّ المشهور الخ" سيأتي قريبًا سبب محبته له، أنه شهر يَغفُل فيه الناس بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفَع فيه الأعمال إلى اللَّه تعالى، فأحبَّ أن يُرفَع عمله وهو صائم.

وقولها: "بل كان يصله برمضان" أي بل كان يصومه كله، فيصله بصوم رمضان، والمراد أنه يصوم غالبه، أو محمول على بعض الأحيان. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح، أخرجه المصنّف هنا - 70/ 2351 - وفي "الكبرى" 70/ 2659.

وأخرجه (د) في "الصوم"2431. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2351 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكٌ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَذَكَرَ آخَرَ قَبْلَهُمَا، أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُمْ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ مَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ، حَتَّى نَقُولَ: مَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرٍ، أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الربيع بن سليمان بن داود) الجيزيّ، أبو محمد المصريّ الأعرج، ثقة [11] 122/ 173.

2 -

(ابن وهب) هو عبد اللَّه المصريّ، ثقة ثبت فقيه عابد [9] 9/ 9.

3 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة الثبت الفقيه [7] 7/ 7.

4 -

(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقة ثبت فقيه [7] 63/ 79.

[تنبيه]: قوله: "وذكر آخر قبلهما" الظاهر أنه ابن لهيعة، كما تقدّم غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(أبو النضر) سالم بن أبي أمية، مولى عمر بن عبيد اللَّه التيميّ المدنيّ، ثقة ثبت،

ص: 262

يرسل [5] 98/ 121.

6 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة فقيه [3] 1/ 1.

7 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من مالك، وعمرو، والربيع، وابن وهب مصريون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، وفي رواية يحيي بن أبي كثير، عن أبي سلمة أن عائشة حدثته، فصرّح بالتحديث.

قال في "الفتح": اتفق أبو النضر، ويحيى -يعني ابن أبي كثير- ووافقهما محمد بن إبراهيم، وزيد بن أبي عَتّاب، عند النسائيّ، ومحمد بن عمرو عند الترمذيّ على روايتهم إياه عن أبي سلمة، عن عائشة، وخالفهم يحيي بن سعيد، وسالم بن أبي الجعد، فرياه عن أبي سلمة، عن أمّ سلمة، أخرجهما النسائيّ

(1)

، وقال الترمذيّ عقب طريق سالم بن أبي الجعد: هذا إسناد صحيح. ويحتمل أن يكون أبو سلمة رواه عن كل من عائشة، وأم سلمة رضي الله عنهما.

قال الحافظ: ويؤيّده أن محمد بن إبراهيم التيميّ رواه عن أبي سلمة، عن عائشة تارة، وعن أمّ سلمة تارة أخرى، أخرجهما النسائيّ

(2)

انتهى كلام الحافظ

(3)

.

(قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ حَتىِ نَقُولَ مَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: مَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرٍ، أكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ) قال الزركشيّ رحمه الله تعالى في "التنقيح": "صيامًا" بالنصب، وروي بالخفض، قال السهيليّ رحمه الله تعالى: وهو وَهَمٌ، وربما بَنَى اللفظَ على الخطّ، مثل أن يكون رآه مكتوبًا بميم مطلقة على مذهب من رأى الوقف على المنوّن المنصوب بغير ألف، فتوهمه مخفوضًا، لا سيما وصيغة أفعل تضاف كثيرًا، فتوهمها مضافة، وإضافته هنا لا تجوز قطعًا انتهى

(4)

.

(1)

- أما طريق سالم، ففي الرواية التي بعد هذه، وقد تقدمت أيضًا برقم 33/ 2175، وأما طريق يحيى فلم أرها. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

- تقدم في 34/ 2176 و 2177.

(3)

- "فتح" ج 4 ص 732.

(4)

- راجع "زهر الربى".

ص: 263

واللَّه تعالى أعلم.

("فِي شَعْبَانَ") متعلق بـ"صيامًا"، والمعنى أنه كان يصوم في شعبان، وغيره، وكان صيامه في شعبان أكثر من صيامه فيما سواه.

وسمي شعبان لتشعبهم في طلب الماء، أو في الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام، وهذا أولى من الذي قبله، وقيل فيه غير ذلك. قاله في "الفتح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 70/ 2352 - وفي "الكبرى" 70/ 2660. وأخرجه (خ) في "الصوم" 1969 (م) في "الصيام" 175 (د) في "الصوم" 2434 (ت) في "الشمائل" 290. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2352 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ لَا يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، إِلاَّ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"أبو داود": هو سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ.

والحديث صحيح، وقد تقدّم في 33/ 2175 - رواه هناك عن شعيب بن يوسف، ومحمد بن بشّار، كلاهما عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان الثوريّ، عن منصور به، وتقدم البحث فيه مستوفى هناك، فراجعه، تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2353 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ تَوْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ، مِنَ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا، إِلاَّ شَعْبَانَ، وَيَصِلُ بِهِ رَمَضَانَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير:

1 -

(محمد بن الوليد) بن عبد المجيد القرشيّ الْبُسريّ -بضمّ الموحدة، وسكون المهملة- من ولد بُسْر بن أرطأة العامريّ، أبي عبد اللَّه البصريّ، لقبه حمدان، ثقة [10].

ص: 264

قال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي بالبصرة في الرحلة الثالثة، وسئل عنه، فقال: صدوق. وقال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". قيل: إنه مات بعد سنة (250). روى له الجماعة، سوى أبي داود، والترمذيّ، وروى عنه المصنّف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث: هذا 2353 و 4156 و 5268.

و"محمد": هو ابن جعفر، المعروف بـ"غُندر". و"توبة": هو العنبريّ، أبو الْمُوَرِّع البصريّ، ثقة [4] 34/ 2176.

والحديث صحيح، وقد تقدّم في 34/ 2176 رواه هناك عن إسحاق بن إبراهيم، عن النضر بن شُميل، عن شعبة به، وتقدم تمام البحث فيه هناك، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2354 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِشَهْرٍ، أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ لِشَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُهُ، أَوْ عَامَّتَهُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"عبيد اللَّه بن سعد": هو الزهريّ، أبو الفضل البغداديّ. وقوله:"عن عمه" هو: يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهريّ البغداديّ.

والحديث صحيح، وقد تقدّم في 35/ 2180، وسبق البحث عنه مستوفًى هناك، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2355 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلاً").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه "عمرو بن هشام" أبي أمية الحرّانيّ، فإنه من أفراده، وهو ثقة. و"محمدُ بنُ سلمة": هو الحرّانيّ أيضًا.

والحديث صحيح، وقد تقدّم بأتمّ من هذا في 34/ 2178 وتقدّم البحث فيه مستوفًى هناك، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- وفي نسخة: " ثنا".

ص: 265

2356 أ- (أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَحِيرٌ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، أَنَّ

(1)

عَائِشَةَ، قَالَتْ:"إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن عثمان": هو الحمصيّ. و"بقية": هو ابن الوليد الحمصيّ. و"بَحِير"-بفتح الموحدة، مكبرًا- ابن سَعْد الحمصيّ.

وقولها: "كان يصوم شعبان كلّه" قال الزركشيّ: يحتاج إلى الجمع بين هذا، وبين روايتها الأولى:"ما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان الخ"، فقيل: الأول مفَسِّر للثاني، ومخصّص له، وأن المراد بالكلّ الأكثر. وقيل: كان يصوم مرّة كله، ومرة ينقص منه لئلا يُتوهّم وجوبه. وقيل: معنى قولها: "كله" أي يصوم في أوله، وأوسطه، وفي آخره، ولا يخصّ شيئا منه، ولا يعمّه بصيامه. وذكر هذه الأقوال الثلاثة النوويّ في "شرح مسلم"، قال: وقيل في تخصيص شعبان بكثرة الصوم لكونه تُرفع فيه أعمال العباد. وقيل: غير ذلك.

فإن قيل: في الحديث الآخر إن أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرّم، فكيف أكثر منه في شعبان دون المحرّم.

فالجواب لعله لم يعلم فضلَ المحرّم إلا في آخر الحياة قبل التمكّن من صومه، أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم، كسفر، ومرض، ونحوهما انتهى

(2)

.

والحديث صحيح، وقد تقدّم سندًا ومتنًا في 36/ 2186 - وتقدّم تمام البحث فيه هناك، فراجعه، تزدد علمًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2357 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، أَبُو الْغُصْنِ، شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا، مِنَ الشُّهُورِ، مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ، يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ، تُرْفَعُ

(3)

فِيهِ الأَعْمَالُ، إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي، وَأَنَا صَائِمٌ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاّس، أبو حفص البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

(1)

- وفي نسخة: "عن".

(2)

- راجع "زهر الربى" ج 4 ص 201 - 202.

(3)

- وفي نسخة: "يُرفع".

ص: 266

2 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ بن حسان العنبريّ البصريّ، ثقة ثبت إمام [9] 42/ 49.

3 -

(ثابت بن قيس) الغفاريّ مولاهم، أبو الغُصْن المدنيّ، صدوق يهم [5].

قال أبو طالب، عن أحمد: ثقة. وقال عباس، عن ابن معين: ليس به بأس. وقال في موضع آخر: حديثه ليس بذاك، وهو صالح. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال ابن عديّ: هو ممن يكتب حديثه. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: ليس حديثه بذاك. وقال مسعود السجزيّ، عن الحاكم: ليس بحافظ، ولا ضابط. وقال ابن حبّان في "الضعفاء": كان قليل الحديث، كثير الوهم فيما يرويه، لا يحتجّ بخبره إذا لم يتابعه عليه غيره، وأعاده في "الثقات". وقال ابن سعد: مات سنة (168) وهو يومئذ ابن مائة سنة، وكان قديما، قد رأى الناس، وروى عنهم، وهو شيخ قليل الحديث. روى له البخاريّ في "جزء رفع اليدين"، وأبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، كرّره ثلاث مرّات برقم 2357 و 2358 و 2359.

4 -

(أبو سعيد المقبريّ) كيسان المدنيّ، مولى أم شريك، ثقة ثبت [3] 63/ 872.

[تنبيه]: وقع في "الكبرى""أبو معبد" بدل "أبي سعيد"، وهو تصحيف فاحش، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(أسامة بن زيد) بن حارثة بن شَرَاحيل الكلبيّ الأمير، أبو محمد، أو أبو زيد الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما -، مات سنة (54) بالمدينة، وهو ابن (75) سنة، وتقدّم في 96/ 120. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير ثابت بن قيس، كما سبق آنفًا. (ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين يروي عنهم الجماعة بلا واسطة. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فبصريّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن أسامة بن زيد - رضي اللَّه تعالى عنهما - حبّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وابن حبّه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن أبي سعيد المقبريّ -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (قَالَ: حدّثني أسامة بن زيد) حِبُّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وابن حِبّه رضي الله عنهما (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أرَكَ تَصُومُ شَهرًا، مِنَ الشُّهُورِ، مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ) "ما" يحتمل أن تكون مصدرية، والمصدر المؤل مفعول "أر" أي لم أَرَ صومَكَ، ويحتمل أن تكون اسما موصولاً، أي لم أر الذي تصومه من شعبان صائما إياه في سائر المشهور (قَالَ) صلى الله عليه وسلم مبيّنا سبب إكثاره الصوم في شعبان ("ذَلِكَ

ص: 267

شَهْرٌ، يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ) بضم الفاء، من باب قعد: إذا ترك وسها (بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ) أراد -واللَّه أعلم- أنهم يكثرون العبادة في هذين الشهرين، ويتساهلون بينهما في شعبان (وَهُوَ شَهْرٌ، تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ، إِلَى رَبِّ العَالَمِينَ) أي فينبغي أن تكون الأعمال فيه صالحة، ولا سيما أفضل الأعمال، وهو الصوم، فلذا قال (فَأُحِبُّ أَنْ يرفَعَ عَمَلِي، وَأَنَا صَائِمٌ) قال الشيخ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: إن قلت: ما معنى هذا مع ما ثبت في "الصحيحين" أن اللَّه تعالى يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل"؟.

قلت: يحتمل أمرين:

(أحدهما): أن أعمال العباد تُعرض على اللَّه تعالى كلّ يوم، ثم تعرض عليه أعمال الجمعة في كلّ اثنين وخميس، ثم تعرض عليه أعمال السنة في شعبان، فتعرض عرضًا بعد عرض، ولكلّ عرض حكمة يُطْلِع عليها من يشاء من خلقه، أو يستأثر بها عنده مع أنه تعالى لا يخفى عليه من أعمالهم خافية ..

(ثانيهما): أن المراد أنها تُعرض في اليوم تفصيلاً، ثم في الجمعة جملة، أو بالعكس انتهى

(1)

واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا حديث حسن، وهو من أفراد المصنّف، أخرجه هنا- 70/ 2357 - وفي "الكبرى" 70/ 2666. وأخرجه (أحمد) في "مسند الأنصار" 21246. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2358 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، أَبُو الْغُصْنِ، شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَصُومُ حَتَّى لَا تَكَادَ تُفْطِرُ، وَتُفْطِرُ حَتَّى لَا تَكَادَ أَنْ تَصُومَ، إِلاَّ يَوْمَيْنِ، إِنْ دَخَلَا فِي صِيَامِكَ، وَإِلاَّ صُمْتَهُمَا، قَالَ: «أَيُّ يَوْمَيْنِ؟» ، قُلْتُ: يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، قَالَ: «ذَانِكَ يَوْمَانِ، تُعْرَضُ فِيهِمَا الأَعْمَالُ، عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي، وَأَنَا صَائِمٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث جزء من الحديث السابق، فرّقه المصنّف، ولعله سمعه من شيخه مفرّقًا، فساقه كما سمعه، وقد ساقه الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- بسند المصنّف مساقًا واحدًا، في "مسنده"، فقال:

(1)

- انظر "زهر الربى" ج 4 ص 202 - 203.

ص: 268

21246 حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا ثابت بن قيس، أبو غُصْن، حدثني أبو سعيد المقبريّ، حدثني أسامة بن زيد، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يصوم الأيام يسرد، حتى يقال: لا يفطر، ويفطر الأيام حتى لا يكاد أن يصوم، إلا يومين، من الجمعة، إن كانا في صيامه، وإلا صامهما، ولم يكن يصوم من شهر من الشهور، ما يصوم من شعبان، فقلت: يا رسول اللَّه، إنك تصوم، لا تكاد أن تفطر، وتفطر حتى لا تكاد أن تصوم، إلا يومين، إن دخلا في صيامك، وإلا صمتهما، قال:"أي يومين؟ "، قال: قلت: يوم الاثنين، ويوم الخميس، قال:"ذانك يومان، تعرض فيهما الأعمال، على رب العالمين، وأحب أن يعرض عملي، وأنا صائم"، قال: قلت: ولم أرك تصوم، من شهر من الشهور، ما تصوم من شعبان، قال: ذاك شهر، يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر يُرفَع فيه الأعمال، إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي، وأنا صائم" انتهى.

وقوله: "لا تكاد" جرّد خبرها في الأول عن "أن"، وقرنه في الثاني، وكلاهما جائز، إلا أن التجريد هو الأكثر، عكس "عسى"، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

كَكَانَ كَادَ وَعَسَى لَكِن نَدَرْ .... غَيْرُ مُضَارعِ لِهَذَيْنِ خَبَرْ

وَكوْنُهُ بِدُونِ "أَنْ" بَعْدَ عَسَى

نَزْرٌ وَكَادَ الأَمْرُ فِيهِ عُكِسَا

وقوله: "إن دخلا في صيامك" جواب "إن" محذوف، أي صُمْتَهما. وقوله:"وإلا صمتهما" أي وإن لم يدخلا في صيامك صمتهما أيضًا.

والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم -لا يترك صوم يومي الاثنين والخميس، سواء وقعتا في جملة الأيام التي يصومها بالتوالي، أم لم تقع.

والحديث حسن، كما سبق بيانه قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2359 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ الْغِفَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَسْرُدُ الصَّوْمَ، فَيُقَالُ: "لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ، فَيُقَالُ: لَا يَصُومُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن سليمان" هو الرُّهاويّ الثقة الحافظ [11] 38/ 42 من أفراد المصنّف. و"زبد بن الْحُبَاب": هو أبو الحسين الْعُكْليّ الكوفيّ، صدوق [9] 33/ 37.

والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-70/

ص: 269

2359 -

وفي "الكبرى" 70/ 2668.

[تنبيه]: وقع في هذا الإسناد زيادة "أبي هريرة رضي الله عنه" بين أبي سعيد، وبين أسامة، بخلافه في الإسناد السابق، ولعل أبا سعيد يرويه عن أسامة بالوجهين، ولذلك صرّح بالتحديث فيهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2360 -

(أَخْبَرَنَا

(1)

عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ بَقِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَحِيرٌ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَتَحَرَّى صِيَامَ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم في 36/ 2186 - سندا ومتنًا، ولفظه هناك:"كان يصوم شعبان كله، ويتحرّى صيام الاثنين والخميس"، ففرقه هنا، فأورد الجزء الأول قبل أربعة أحاديث، وأورد الجزء الثاني هنا، وتقدم تمام البحث فيه بالرقم المذكور، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

و"بقية": هو ابن الوليد. و"بَحِير" -بفتح، فكسر-: هو ابن سَعْد الحمصيّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2361 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ،، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ثَوْرٌ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَتَحَرَّى يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح أيضًا، وقد تقدّم في 36/ 3187 - سندًا ومتنًا، وقد مضى البحث فيه مستوفًى هناك، فراجعه، تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

و"عبد اللَّه بن داود": هو الخُرْيبيّ الثقة العابد [9] 71/ 1322. و"ثور": هو ابن يزيد الحمصيّ الثقة الثبت [7] 7/ 504. و"ربيعة الْجُرَشيّ": هو ابن عمرو، أو ابن الحارث الدمشقيّ، ثقة، وقيل: له صحبة 36/ 2187. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2362 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَتَحَرَّى الاِثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسَ).

(1)

- وفي نسخة: "أخبرني".

ص: 270

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"إسحاق": هو ابن راهويه. و"عبيد اللَّه بن سعيد الأمويّ": هو عُبيدُ اللَّه بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص، أبو محمد الكوفيّ، ثقة [9].

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن ابن معين: ثقة، ليس به بأس، قد رأيته كان أصغر من أبي أحمد الزُّبَيريّ. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق، وقال أبو زرعة: ثقة. وقال الدارقطنيّ: هم أربعة إخوة: يحيى، ومحمد، وعبد اللَّه، وعبيد اللَّه، وهم ثقات.

وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (200). روى له مسلم، والمصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. و"سفيان": هو الثوريّ.

والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-70/ 2362 - وفي "الكبرى" 70/ 2671. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2363 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَتَحَرَّى يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو داود": هو عُمَر بن سَعْد الْحَفَريّ الثقة العابد. و"سفيان": هو الثوريّ. و"منصور": هو ابن المعتمر. و"خالد بن سَعْد": هو الكوفيّ، ثقة [2] 35/ 2181.

والحديث صحيح، وقد تقدّم في 35/ 2181 - بلفظ:"كان يصوم شعبان كلّه"، وتقدم تمام البحث فيه هناك، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2364 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ سَوَاءٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد" البصريّ الشَّهِيديّ، أبو يعقوب البصريّ، ثقة [10].

قال أحمد: صدوق. وقال النسائيّ: ثقة. وقال الدارقطنيّ: ثقة مأمون. وقال أيضًا: هو، وأبوه، وجدّه ثقات. وقال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبي، وسألت أبا زُرعة عنه، فقال: صدوق، وذكره ابن حبّان في "الثقات". قال إبراهيم بن محمد الكنديّ: توفي في جمادى الآخرة سنة (257). روى عنه المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط،

ص: 271

وروى عنه أبو داود في "المراسيل"، والترمذيّ، وابن ماجه.

و"يحيى بن يمان" العجليّ، أبو زكريّا الكوفيّ، صدوق عابد يخطئ كثيرًا، وقد تغيّر، من كبار [9].

قال أبو بكر بن عياش: ذاك راهب. -يعني لعبادته-. وقال زكريا الساجيّ: ضعّفه أحمد، وقال: حدّث عن الثوريّ بعجائب. وقال حنبل بن إسحاق، عن أحمد: ليس بحجة. وقال إبراهيم بن الجنيد، عن ابن معين: ليس بثبت، لم يكن يُبالي أيّ شيء حدّث، كان يتوهّم الحديث. قال: وقال وكيع: هذه الأحاديث التي يحدث بها يحيى ابن يمان ليست من أحاديث الثوريّ. وقال عثمان الدارميّ، عن يحيى بن معين: أرجو أن يكون صدوقًا. وقال عبد الخالق ابن منصور، عن ابن معين: ليس به بأس. وقال عبد اللَّه بن عليّ ابن المدينيّ، عن أبيه: صدوق، كان قد فُلِجَ، فتغيّر حفظه. وقال أبو بكر بن عفّان الصوفيّ، عن وكيع: ما كان أحد من أصحابنا أحفظ منه، ثم نسي، فلا أعلم بالكوفة أحفظ من داود ابنه. وقال يعقوب ابن شيبة: كان صدوقًا كثير الحديث، وإنما أَنكَر عليه أصحابنا كثرة الغلط، وليس بحجة إذا خولف، وهو من متقدّمي أصحاب سفيان في الكثرة عنه. وقال الآجريّ، عن أبي داود: يخطئ في الأحاديث، ويقلبها. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ، وكان متقشّفًا. وقال ابن عديّ: عامة ما يرويه غير محفوظ، وهو في نفسه لا يتعمّد الكذب، إلا أنه يخطئ، ويشتبه عليه. وقال العجليّ: كان من كبار أصحاب الثوريّ، وكان ثقة، جائز الحديث، متعبدًا، معروفًا بالحديث، صدوقًا، إلا أنه فُلج بآخره، فتغيّر حفظه، وكان فقيرًا صبورًا. وقال يعقوب بن شيبة أيضًا: يحيى بن يمان ثقة، أحد أصحاب سفيان، وهو يخطئ كثيرًا في حديثه. وقال ابن أبي شيبة: كان سريع الحفظ، سريع النسيان. وقال هارون بن حاتم: مات سنة (188) وقال أبو هاشم الرفاعيّ: مات سنة (189). روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله عند المصنف في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا 2364، وفي "كتاب الأشربة" 5705 حديث:"عطش النبيّ صلى الله عليه وسلم، حول الكعبة، فاستسقى، فأتي بنبيذ .. " الحديث.

و"سفيان": هو الثوريّ. و"عاصم": هو ابن بَهْدَلة المقرئ الكوفيّ، صدوق له أوهام [6] 20/ 1221.

و"المسيّب بن رافع": هو الأسديّ الكاهليّ، أبو العلاء الكوفيّ، ثقة [4] 5/ 1184.

و"سواء الْخُزَاعيّ": هو أخو مُغِيث مقبول [3].

ص: 272

روى عن حفصة، وأم سلمة، وعائشة رضي الله عنهن إن كان محفوظًا. وعنه معبد ابن خالد، والمسيّب بن رافع، وعاصم بن بَهْدلة. ذكره ابن حبّان في "الثقات". وأخرج ابن خزيمة في "صحيحه" حديثه عن عائشة رضي الله عنها. وله عند المصنّف ثلاثة أحاديث برقم 2364 و 2365 و 2366.

والحديث حسن، أخرجه هنا- 70/ 2364 - وفي "الكبرى"70/ 2673. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2365 -

(أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ سَوَاءٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، الاِثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسَ، مِنْ هَذِهِ الْجُمُعَةِ، وَالاِثْنَيْنِ، مِنَ الْمُقْبِلَةِ).

قال الجامع -- عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو بكر بن عليّ": هو أحمد بن عليّ بن سعيد المروزيّ الثقة الحافظ [12] 1/ 2094 من أفراد المصنّف.

و"أبو نصر التمّار" هو: عبد الملك بن عبد العزيز القشيريّ الدَّقِيقيّ النَّسَويّ البغداديّ، قيل: اسم جدّه الحارث والد بِشْرِ الحافي. وقيل: اسمه عبد الملك بن ذكوان بن يزيد ابن محمد بن عبيد اللَّه، ثقة عابد، من صغار [9].

قال أبو حاتم: ثقة، يُعدّ من الأبدال. وقال أبو داود، والنسائيْ: ثقة. وقال أبو زرعة: كان أحمد لا يرى الكتابة عن أحد ممن أجاب في المحنة، كأبي نصر التمّار.

وقال الميمونيّ: صحّ عندي أن أحمد لم يحضره لما مات. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: ذكر أنه وُلد بعد قتل أبي مسلم بستة أشهر، ونزل بغداد، واتجر بها في التمر، وكان ثقة فاضلاً خيّرًا ورعًا، توفي في أول يوم من المحرّم سنة (228) وهو ابن (91) سنة وقد ذهب بصره، وكذا أرّخ البغويّ وفاته. انفرد به مسلم، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

والحديث حسن، أخرجه المصنّف هنا -70/ 2365 - وفي "الكبرى" 70/ 2674.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2366 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا النَّضْرُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ سَوَاءٍ، عَنْ حَفْصَةَ، قَالَتْ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَيَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَمِنَ الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ").

قال الجامع عفا اللَّهَ تعالى عنه: "زكريا بن يحيى": هو السِّجْزيّ، المعروف بخيّاط

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 273

السنّة. و"إسحاق": هو ابن راهويه. و"النضر": هو ابن شُميل. و"حماد": هو ابن سلمة.

وقوله: "يوم الخميس، ويوم الاثنين" أي من الجمعة الأولى، ففيه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه، وقد ثبت في رواية "الكبرى"، ولفظها:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كلّ شهر، يوم الخميس، ويوم الاثنين من الجمعة الأولى، ومن الجمعة الثانية يوم الاثنين". انتهى.

والحديث حسن، أخرجه المصنّف هنا -70/ 2366 - وفي "الكبرى" 70/ 2675.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2367 أ- (أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ عَنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ حَفْصَةَ، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ، جَعَلَ كَفَّهُ الْيُمْنَى

(1)

، تَحْتَ خَدِّهِ الأَيْمَنِ، وَكَانَ يَصُومُ الاِثْنَيْنَ وَالْخَمِيسَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"القاسم بن زكريا بن دينار": هو الكوفيّ الطحان، ثقة [11] 8/ 410.

و"حسين": هو ابن عليّ الجعفيّ المقرئ العابد الكوفيّ، ثقة [9] 74/ 91.

و"زائدة": هو ابن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلّت الكوفيّ، ثقة ثبت [7] 74/ 91. و"عاصم"، و "المسيّب" تقدما قبل حديثين.

وقولها: "إذا أخذ مضجعه الخ": فيه اسحباب وضع الكف اليمنى تحت الخدّ الأيمن، واستحباب النوم على الشقّ الأيمن، لأنه لا يمكن وضع الكفّ اليمنى تحت الخد الأيمن إلا إذا نام على الشقّ الأيمن.

والحديث حسن، أخرجه المصنّف هنا -70/ 2367 - وفي "الكبرى" 70/ 2676.

[فإن قلت]: كيف يكون حسنًا، وفيه انقطاع؛ لأن المسيّب لم يسمع من حفصة رضي الله عنها، كما في ترجمته من "تهذيب التهذيب" جـ 4 ص80؟.

[قلت]: قد تقدّم قبل حديثين ذكر الواسطة بينهما، وهو سَوَاءٌ الخزاعي، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2368 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: أَبِي، أَنْبَأَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ، وَقَلَّمَا يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عليّ بن الحسن" المروزيّ، ثقة، صاحب حديث [11] 22/ 206.

(1)

- وفي نسخة: "اليمين".

ص: 274

و"عليّ بن الحسن بن شقيق بن دينار"، أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقة حافظ، من كبار [10] 22/ 906.

و"أبو حمزة": السُّكَّريّ، محمد بن ميمون المروزيّ، ثقة فاضل [7] 22/ 206.

و"زِرّ" بن حُبيش بن حُباشة، أبو مريم الأسديّ الكوفيّ، ثقة جليل مخضرم [2] 198/ 126.

وقوله: "من غُرّة كل شهر": أي من أول كلّ شهر، فإن غُرّة كل شيء أوّله. ويحتمل أن المراد بالغرّة أيام البيضِ، وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: ذكر المصنّف في "الكبرى" عقب هذا الحديث: ما نصّه:

قال أبو عبد الرحمن: أبو حمزة هذا اسمه محمد بن ميمون، مروزيّ، لا بأس به، إلا أنه كان ذهب بصره في آخر عمره، فمن كتب عنه قبل ذلك، فحيثه جيّد. وأبو حمزة صاحب إبراهيم النخعيّ، اسمه ميمون الأعور، وليس بثقة. وأبو حمزة ثابت بن أبي صفية، كوفيّ، وليس بثقة. وأبو حمزة عمران بن أبي عطاء يروي عن ابن عبّاس، روى عنه شعبة، وسفيان، وأبو عوانة، وليس بالقويّ. وأبو حمزة طلحة بن يزيد كوفيّ ثقة. وأبو حمزة محمد بن كعب القرظي، مدني ثقة. وأبو حمزة سعد بن عبيدة، كوفيّ ثقة. وأبو حمزة أنس بن سيرين، ثقة، وهم أربعة إخوة: محمد بن سيرين، ويحيى بن سيرين، ومعبد بن سيرين، وأنس بن سيرين، وحفصة بنت سيرين، وكريمة بنت سيرين، وهم موالي أنس بن مالك الأنصاريّ انتهى كلام المصنّف

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: جملة ما ذكره ممن يكنى بأبي حمزة من رواة الأحاديث ثمانية، ويزاد عليهم أنسُ بن مالك الأنصاريّ الصحابيّ: رضي الله عنه خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإن كنيته أبو حمزة أيضًا. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث حسن، أخرجه المصنّف هنا -70/ 2368 - وفي "الكبرى" 70/ 2677.

وأخرجه (د) في "الصوم" 2450 (ت) في "الصوم" 742 (ق) في "الصيام"1725.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2369 -

(أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ لَا أَنَامَ

(2)

إِلاَّ عَلَى وِتْرٍ، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ").

(1)

- انظر "السنن الكبرى" للمصنف ج 2 ص 122 - 123.

(2)

- وفي نسخة: "ولا أنام".

ص: 275

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: و "زكريا بن يحيى": هو: السجزيّ المعروف بخيّاط السنّة.

و"أبو كامل": فضيل بن الحسين بن طلحة الْجَحْدريّ البصريّ، ثقة حافظ [10].

قال أبو طالب، عن أحمد: أبو كامل بصير بالحديث، متقنٌ، يشبه الناس، وله عقل. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن عليّ ابن المدينيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكر ابن السمعانيّ أن مولده كان سنة (145) وقال مطيّن، وموسى بن هارون: مات سنة (237). علّق له البخاريّ، وأخرج له مسلم، وأبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط 2369 وأعاده برقم 2406.

و"أبو عوانة": هو الوضاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ الثقة الثبت [7] 41/ 46.

و"الأسود بن هلال" المحاربيّ الكوفيّ، ثقة جليل مخضرم [2] 17/ 1529. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث قد تقدّم في "كتاب قيام الليل""باب الحثّ على الوتر قبل النوم" 28/ 1677 - فقد أخرجه هناك من طريق أبي عثمان النَّهْديّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو متفق عليه من هذا الوجه.

وأما من الوجه الذي أخرجه به هنا، ففيه اختلاف، فقد رواه هنا 70/ 2369 و 81/ 2406 - من طريق أبي كامل، عن أبي عوانة، عن عاصم، عن رجل، عن الأسود بن هلال، عن أبي هريرة رضي الله عنه، فأدخل واسطة بين عاصم، وبين الأسود. ورواه في 81/ 2405 و 2407 - من طريق أبي حمزة السكّري، وأبي معاوية شيبان بن عبد الرحمن، كلاهما عن عاصم، عن الأسود، عن أبي هريرة رضي الله عنه، فأسقط الواسطة.

والظاهر أن هذه الطريق أرجح؛ لاتفاق أبي حمزة، وأبي معاوية عليها.

والحاصل أن الحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2370 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ عَاشُورَاءَ، قَالَ: مَا عَلِمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، صَامَ يَوْمًا، يَتَحَرَّى فَضْلَهُ عَلَى الأَيَّامِ، إِلاَّ هَذَا الْيَوْمَ -يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ-).

رجال هذا الإسناد: أريبعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(سفيان) بن عيينة الهلاليّ مولاهم، أبو محمد المكيّ الإمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.

ص: 276

3 -

(عبيد اللَّه) بن أبي يزيد المكيّ، مولى آل قارظ بن شيبة، ثقة كثير الحديث [4].

قال ابن المدينيّ، وابن معين، والعجليّ، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: ثقة كثير الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن عيينة: مات سنة (226) وله (86) سنة. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم 2270 و 2896 و 3032 و 4217 وأعاده بعده 4218 و 4580.

4 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (126) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، فبغلانيّ. (ومنها): أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُبَيدِ اللَّهِ) بن أبي يزيد (أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ عَاشُورَاءَ) جملة في محلّ نصب على الحال (قَالَ: مَا عَلِمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، صَامَ يَوْمًا، يَتَحَرَّى) أي يقصده، ويعتقدُ (فَضْلَه عَلَى الْأَيَّامِ) هذا يقتضي أن يوم عاشوراء أفضل الأيام للصائم بعد رمضان، لكن ابن عباس رضي الله عنهما أسند ذلك إلى علمه، فليس فيه ما يردّ علم غيره، فقد روى مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، مرفوعًا:"إن صوم عاشوراء يكفّر سنة، وإن صوم يوم عرفة يكفّر سنتين". وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء.

وقد قيل في الحكمة في ذلك: إن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام، ويوم عرفة منسوب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلذلك كان أفضل. قاله في "الفتح"

(1)

(إِلاَّ هَذَا الْيَوْمَ - يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ-) هكذا لفظ المصنّف هنا، ولفظه في "الكبرى":"ما علمت النبيّ صلى الله عليه وسلم صام يومًا يتحرّى فضله على الأيام إلا هذا اليوم -يعني يوم عاشوراء-". ولم يذكر "شهر رمضان".

ولفظ البخاريّ: "ما رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يتحرّى صيام يوم فضّله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء، وهذا الشهر -يعني شهر رمضان-".

(1)

- "فتح" ج 4 ص 776.

ص: 277

قال في "الفتح": كذا ثبت في جميع الروايات، وكذا هو عند مسلم وغيره، وكأن ابن عباس اقتصر على قوله:"وهذا الشهر" وأشار بذلك إلى شيء مذكور، كأنه تقدّم ذكر رمضان، وذكر عاشوراء، أو كانت المقابلة في أحد الزمانين، وذكر الآخر، فلهذا قال الراوي عنه:"يعني رمضان"، أو أخذه الراوي من جهة الحصر في أن لا شهر يُصام إلا رمضان، لما تقدّم له عن ابن عباس أنه كان يقول: "لم أر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صام شهرًا كاملاً غير رمضان.

وإنما جمع ابن عباس بين عاشوراء ورمضان -وإن كان أحدهما واجبًا، والآخر مندوبًا- لاشتراكهما في حصول الثواب؛ لأن معنى "يتحرّى" أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه، والرغبة فيه انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-70/ 2370 - وفي "الكبرى" 70/ 3679. وأخرجه (خ) في "الصوم" 2056 (م) في "الصيام" 1132 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 1939 و 2851 و 2465. واللَّه تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2371 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ، فِي هَذَا الْيَوْمِ: «إِنِّي صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ، أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت الفقيه [4] 1/ 1.

2 -

(حميد بن عبد الرحمن بن عوف) الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ ثقة [2] 32/ 725.

3 -

(معاوية) بن أبي سفيان صخر بن حرب الأمويّ الخليفة الشهير الصحابي ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما -، مات سنة (60) وقد قارب الثمانين، وتقدم في 286/ 294. والباقيان تقدّما في السند الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- "فتح" ج 4 ص 776.

ص: 278

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وسفيان، فمكيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ حُمَيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) هكذا رواه ابن عيينة، وتابعه مالك، ويونس، وصالح ابن كيسان، وغيرهم كلهم عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن، عن معاوية رضي الله عنه، وقال الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن. وقال النعمان بن راشد: عن الزهريّ، عن السائب بن يزيد، كلاهما عن معاوية رضي الله عنه. والمحفوظ رواية الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن. قاله النسائيّ وغيره. ووقع عند مسلم في رواية يونس، عن الزهريّ: أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية. قاله في "الفتح". (قَالَ: سَمِعتُ مُعَاوِيَةَ) بن أبي سفيان رضي الله عنهما (يَوْمَ عَاشُورَاءَ) زاد في رواية البخاريّ من طريق مالك، عن الزهريّ:"عامَ حَجّ"، وزاد في رواية يونس:"بالمدينة"، وقال في روايته:"في قَدْمَةٍ قَدِمَها". قال الحافظ: وكأنه تأخّر بمكة، أو المدينة في حجته إلى يوم عاشوراء. وذكر أبو جعفر الطبريّ أن أول حجة حجها معاوية بعد أن استُخلف كانت في سنة أربع وأربعين، وآخر حجة حجها سنة سبع وخمسين، والذي يظهر أن المراد بها في هذا الحديث الحجة الأخيرة انتهى

(1)

.

(وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟) أي حتى يصدّقوني فيما أقول.

وقال في "الفتح": في سياق القصّة إشعار بأن معاوية لم ير لهم اهتمامًا بصيام عاشوراء، فلذلك سأل عن علمائهم، أو بلغه عمن ينكر صيامه، أو يوجبه انتهى.

[تنبيه]: نقل القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى- أن بعض السلف كان يرى بقاء فرضيّة عاشوراء. لكن انقرض القائلون بذلك. ونقل ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى- الإجماع على أنه الآن ليس بفرض، والإجماع على أنه مستحبّ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يَكره قصده بالصوم، ثم انقرض القول بذلك. قاله في "الفتح"

(2)

.

(سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ، فِي هَذَا الْيَوْمِ: (إِنِّي صائِمٌ") ولفظ البخاري:

(1)

-"فتح" ج 4 ص 773.

(2)

- "فتح" ج 4 ص 773.

ص: 279

"سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "هذا يوم عاشوراء، ولم يَكتُب اللَّه عليكم صيامه، وأنا صائم

".

قال في "الفتح": وقد استُدِلّ به على أنه لم يكن فرضا قط، ولا دلالة فيه لاحتمال أن يريد": ولم يكتب اللَّه عليكم صيامه على الدوام، كصيام رمضان، وغايته أنه عامّ خُصّ بالأدلّة الدالّة على تقدّم وجوبه، أو المراد أنه لم يدخل في قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية [البقرة: 183]، ثم فسّره بأنه شهر رمضان. ولا يناقض هذا الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخًا، ويؤيّد ذلك أن معاوية إنما صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم -من سنة الفتح، والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء، والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى، أو أوائل العام الثاني انتهى (فَمَنْ شَاءَ، أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ") زاد في رواية البخاريّ: "ومن شاء فليفطر". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث معاوية رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 70/ 2371 - وفي "الكبرى"70/ 2680. وأخرجه (خ) في "الصوم" 2006 (م) في "الصيام" 1132 (أحمد) في "مسند الشاميين" 16425 و 16448 (مالك) في "الصيام" 1666. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2372 أ- (أَخْبَرَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْحُرِّ بْنِ صَيَّاحٍ

(1)

، عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ امْرَأَتِهِ، قَالَتْ: حَدَّثَتْنِي بَعْضُ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَتِسْعًا مِنْ ذِى الْحِجَّةِ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ، أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ، وَخَمِيسَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زكريا بن يحيى) بن إياس، أبو عبد الرحمن السجزي، نزيل دمشق المعروف بخيّاط السنّة، ثقة حافظ [12] 189/ 1161.

2 -

(شيبان) بن أبي شيبة فَرُّوخ الْحَبَطيّ -بمهملة، وموحّدة مفتوحتين- أبو محمد

(1)

- وفي نسخة: "عن حرّ بن الصيّاح".

ص: 280

الأُبُلّيّ

(1)

-بضم الهمزة، والموحّدة، وتشديد اللام- صدوق يَهِم، ورمي بالقدر، من صغار [9].

قال أحمد بن سعد بن إبراهيم، عن أحمد بن حنبل: ثقة. وقال أبو زرعة: صدوق. وقال أبو حاتم: كان يَرى القدر، واضطرّ الناس إليه بأَخَرَة. وقال أبو الشيخ، عن عبدان الأهوازيّ: كان شيبان أثبت عندهم من هُدْبَة. وقال مسلمة: ثقة. وقال الساجيّ: قدريّ إلا أنه كان صدوقًا. مولده في حدود سنة (140) ومات سنة (6) وقيل: (235). أخرج له مسلم، وأبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

3 -

(أبو عوانة) الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ، ثقة ثبت [7] 41/ 46.

4 -

(الحرّ) -بضم أوله، وتشديد ثانيه- ابن صيّاح -بمهملة، ثم تحتانيّة، وآخره مهملة- النخعيّ الكوفيّ، ثقة [3].

قال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صالح الحديث. روى له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث 2372 وأعاده برقم 2413 و 2414 و 1245 و 2416 و 2417 و 2418.

5 -

(هُنيدة بن خالد) -بنون مصغّرًا- الخزاعيّ، ويقال: النخعيّ، كانت أمه تحت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مذكور في الصحابة، وقيل: تابعيّ [2].

ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وذكره أيضًا في "الصحابة"، وقال: له صحبة. وكذا ذكره ابن عبد البرّ في "الاستيعاب"، وأخرج له أبو نُعيم حديثين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ: لكن ليس فيهما تصريح. روى له أبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث كرره بالأرقام المذكورة في الترجمة التي قبله. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ امْرَأَتِه) قال الحافظ في "التقريب": هنيدة بن خالد، عن أم المؤمنين، هي حفصة، وعن امرأته، لم أقف على اسمها، وهي صحابيّة، روت عن أم سلمة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أمه كانت تحت عمر صحابية أيضًا، وقد تقدم أن هنيدة المذكور معدود في الصحابة. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا أثبت الحافظ في "التقريب": لامرأة هُنيدة، وأمه الصحبة، ولم يذكر لذلك مُستنده، ولا ذكرهما في "الإصابة"، وقال الحافظ أبو بكر الهيثميّ -رحمه اللَّه تعالى- في "مجمع الزوائد" بعد أن أورد الحديث من "مسند أحمد" بلفظ:

(1)

- نسبة إلى أُبُلّة بلدة على أربعة فراسخ من البصرة.

ص: 281

"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم -يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كلّ شهر، أوّلها الاثنين، والجمعة، والخميس": ما نصّه: قلت: رواه النسائيّ، خلا "والجمعة"، وأم هنيدة لم أعرفها انتهى. فالظاهر أنها مجهولة. واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَتْ: حَدَّثَتْي بعضُ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هي حفصة رضي الله عنها، كما مرّ آنفًا (أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَتِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) أي يصوم تسعة أيام من أول شهر ذي الحجة لغاية اليوم التاسع (وَثَلَاَثةَ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ، أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ، وَخَمِيسَيْنِ") أي يصوم يوم الاثنين الذي في الأسبوع الأول، ثم يوم الخميس من الأسبوع التالي، ثم يوم الخميس من الأسبوع الذي يليه. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي في-83/ 2414 - :"كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، يوم الاثنين، من أول الشهر، والخميس الذي يليه، ثم الخميس الذي يليه". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا في إسناده امرأة هنيدة، وهي مجهولة، لكنه صحيح، من حديث هنيدة نفسه، عن حفصة رضي الله عنه، وسيأتي في 83/ 2415 و 2416 إن شاء اللَّه تعالى.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-70/ 2372 و 83/ 2415 و 2416 و 2417 و 2418 و 2419 - وفي "الكبرى" 70/ 2681 و 83/ 2723 و 2724 و 2725 و2726 و 2727. وأخرجه (د) في "الصوم" 2452. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب"

‌71 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى عَطَاءٍ فِي الْخَبَرِ فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الضمير في "فيه" يعود إلى صوم التطوّع،

ووجه الاختلاف المذكور أن الحارث بن عطية، والوليد بن مسلم روياه عن

ص: 282

الأوزاعيّ، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد اللَّه بن عُمَر رضي الله عنهما.

وخالفهما الوليد بن مزيد، وعقبة بن علقمة، وموسى بن أعين فرووه عن الأوزاعيّ، عن عطاء، عمن سمع ابن عمر رضي الله عنهما، فأدخلوا واسطة بين عطاء، وابن عمر، وهو راو مبهم.

وخالفهم يحيي بن حمزة، عن الأوزاعيّ، عن عطاء، عمن سمع عبد اللَّه بن عمرو ابن العاص، فجعله من مسند عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

ورواه ابن جريج، عن عطاء، عن أبي العباس الشاعر، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وهذه الرواية هى الصحيحة، ولذا اتفقا الشيخان على إخراجها. والحاصل أن الحديث صحيح من مسند عبد اللَّه بن عمرو، وأما حديث عبد اللَّه بن عُمَرَ فلا يصح، وذلك لأن عطاء لم يسمع من ابن عمر، كما قاله الإمام أحمد وابن المدينيّ، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" جـ 3 ص 103، وإلى هذا يشير صنيع المصنّف رحمه الله، حيث جرى على عادته في تقديم الأخبار المعلّة، فقد بدأ برواية الحارث بن عطية، والوليد بن مسلم كلاهما عن الأوزاعيّ، عن عطاء، عن ابن عمر، ثم أتبع ذلك برواية الوليد بن مزيد، وعقبة بن علقمة، وموسى بن أعين، ثلاثتهم عن الأوزاعيّ، عن عطاء، عمن سمع ابن عمر، وروايتهم أرجح من روايد الأولَيْن؛ لكثرتهم، فيكون الواسطة بين عطاء وابن عمر مبهمًا. ثم أتى برواية يحيي بن حمزة عن الأوزاعيّ، عن عطاء، عمن سمع عبد اللَّه بن عَمْرو، فجعده من مسند عبد اللَّه بن عمرو، وهي رواية صحيحة؛ لأن المبهم فيها مفَسَّر في الرواية التالية.

ثم أتى برواية ابن جريج، عن عطاء، عن أبي العباس، عن عبد اللَّه بن عمرو، وهذه هي الرواية الصحيحة التي اتفق عليها الشيخان.

وخلاصة القول أن الحديث صحيح من مسند عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لا من مسند عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2373 -

(أَخْبَرَنِي حَاجِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ الأَبَدَ، فَلَا صَامَ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حاجب بن سليمان) الْمنبجيّ، أبي سعيد، مولى بني شيبان، صدوق يَهِم [10] 7/ 634. من أفراد المصنف.

2 -

(الحاث بن عطية) البصريّ، نزيل الْمِصِّيصة، صدوق يَهِم [9] 190/ 1168. وهو من أفراده أيضًا.

ص: 283

3 -

(الأوزاعيّ) عبد الرحمن بن عمرو، أبو عمرو الدمشقيّ ثقة حجة [7] 45/ 56.

4 -

(عطاء بن أبي رباح) أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة فقيه فاضل، كثير الإرسال [3] 112/ 154.

5 -

(عبد اللَّه بن عمر) بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وشيخ شيخه، فإنهما من أفراده. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة ومن المشهورين بالفتوى. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَن صَامَ الْأَبَدَ، فَلَا صَامَ") وفي الرواية التالية: "فلا صام، ولا أفطر".

قال الخطابيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المعالم": معناه لم يصم، ولم يفطر، وقد يوضع "لا" بمعنى "لم"، كقوله تعالى:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة: 31]، أي لم يصدق، ولم يصلّ. وقد يحتمل أن يكون معناه الدعاء عليه؛ كراهة لصنيعه، وزجرًا له عن ذلك. انتهى

(1)

.

وقال الجزريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "النهاية": قوله: "لا صام، ولا أفطر" أي لم يصم، ولم يفطر، وهو إحباط لأجره على صومه، حيث خالف السنّة. وقيل: دعاء عليه؛ كراهية لصنيعه انتهى

(2)

.

وقال التوربشتيّ -رحمه اللَّه تعالى-: فُسّر هذا على وجهين: أحدهما على معنى الدعاء عليه زجرًا له على صنيعه، والآخرِ سبيل الإخبار، والمعنى لم يكابد سَوْرة الجوع، وحرّ الظمأ؛ لاعتياده الصوم حتى خَفّ عليه، ولم يفتقر إلى الصبر على الجهد الذي يتعلّق به الثواب، فصار كأنه لم يصم. انتهى.

وقال العلامة الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "السيل الجرّار": حديث "لا صام من صام الأبد" في "الصحيحين" في حديث عبد اللَّه بن عمرو، وكذلك حديث:"لا صام، ولا أفطر"، أو "لم يصم، ولم يفطر" في حديث أبي قتادة: معناهما أنه لما خالف الهدي النبويّ الذي رغّب فيه صلى الله عليه وسلم كان بمنزلة من لم يصم صومًا مشروعًا، يؤجر عليه، ولا أفطر فطرًا ينتفع به، ويؤيد أن هذا المعنى هو المراد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لعبد اللَّه

(1)

- "المعالم" ج 2 ص 129.

(2)

- "النهاية" ج 3 ص 61.

ص: 284

ابن عمرو، وقد كان أراد أن يصوم الدهر، فقال له:"صم من كلّ شهر ثلاثة أيام"، فقال: إني أقوى من ذلك، فلم يزل يرفعني حتى قال:"صم يومًا، وأفطر يومًا، فإنه أفضل الصيام، وهو صوم أخي داود"، فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا أفضل من ذلك". هكذا في "الصحيحين" وغيرهما من حديثه.

وقد ثبت في "الصحيح" من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال للثلاثة الذين قال أحدهم: إنه يصوم، ولا يفطر، وقال الثاني: إنه يقوم الليل، ولا ينام، وقال الثالث: إنه لا يأتي النساء، فقال صلى الله عليه وسلم:"أمّا أنا فأصوم، وأفطر، وأقوم، وأنام، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني". فهذا الحديث الصحيح يدلّ على أن صيام الدهر من الرَّغْبَة عن سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيسحقّ فاعله ما رتبه عليه من الوعيد بقوله:"فمن رغب عن سنتي، فليس منّي".

وقد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أخبره أنه يصوم الدهر:"من أمرك أن تعذّب نفسك". انتهى كلام الشوكاني

(1)

. وهو حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما هذا ضعيف

(2)

؛ لأن فيه انقطاعًا، كما سبق بيانه، وهو متفق عليه من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، كما سيأتي آخر الباب، إن شاء اللَّه تعالى.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له:

أخرجه هنا-71/ 2373 و 2374 و 2375 و 2376 - وفي "الكبرى" 73 م 2687 و 2688 و 2689 و 2690. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم صوم الدهر:

ذهب إسحاق بن راهويه، وأهل الظاهر إلى كراهته مطلقا، سواء أفطر الأيام الخمسة المنهيّ عنها، وهي رواية عن أحمد، قال الأثرم: قيل لأبي عبد اللَّه: فَسَّرَ مسدّدٌ قول أبي موسى: "من صام الدهر ضُيّقت عليه جهنم": أي فلا يدخلها. فضحك، وقال: من قال هذا؟، فأين حديث عبد اللَّه بن عمرو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كره ذلك، وما فيه من الأحاديث

(3)

.

وقال ابن حزم: لا يحلّ صوم الدهر أصلاً -يعني أنه يحرم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه ابن حزم هو الحقّ عندي، كما يأتي

(1)

- "السيل الجرّار" ج 2 ص 141 - 132.

(2)

صحح الشيخ الألباني رحمه الله حديث ابن عمر- رضي الله عنهما هذا برواياته المختلفة، وقد عرفت أنه منقطع، فلا وجه لتصحيحه، فتبصّر.

(3)

- انظر "المغني" ج 3 ص 67.

ص: 285

تحقيقه، إن شاء اللَّه تعالى.

وإلى الكراهة مطلقًا ذهب ابن العربيّ من المالكية، فقال: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صام من صام الأبد" في حديث عبد اللَّه بن عمرو، إن كان معناه الدعاء، فيا وَيحَ من أصابه دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم،وإن كان معناه الخبر، فيا وَيحَ من أخبر عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لم يصم، وإذا لم يصم شرعًا، لم يكتب له الثواب؛ لوجوب صدق قوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نفى عنه الصوم، وقد نفى عنه الفضل، كما تقدّم، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى.

واستُدلّ للكراهة والمنع بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صام، ولا أفطر"، وقد تقدم وجه الاستدلال به في كلام ابن العربيّ، والجزريّ، والشوكانيّ، وغيرهم.

وقد روي مثل هذا مرفوعًا عن جماعة من الصحابة، منهم:

عبد اللَّه بن الشخير عند أحمد، والمصنّف

(1)

، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم. وعمرانُ بن حُصين، عند المصنّف

(2)

، والحاكم. وابنُ عمر عند المصنّف

(3)

.

واستدل أيضا لذلك بقصّة عبد اللَّه بن عمرو التي تقدمت الإشارة إليها.

قال ابن التين: استُدلّ على كراهة صوم الدهر من هذه القصّة من أوجه: نهيُهُ صلى الله عليه وسلم عن الزيادة على صوم نصف الدهر، وأمره بأن يصوم ويفطر، وقوله:"لا أفضل من ذلك"، ودعاؤه على من صام الأبد انتهى.

وبحديث أنس الذي تقدمت الإشارة إليه أيضًا في كلام الشوكانيّ مع وجه الاستدلال منه. وبحديث رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم -رجل يصوم الدهر؟ قال: "وددت أنه لم يطعم الدهر شيئًا

" الحديث. أخرجه المصنّف

(4)

.

قال السنديّ: أي وددت أنه ما أكل ليلاً، ولا نهارًا حتى مات جوعًا، والمقصود بيان كراهة عمله، وأنه مذموم العمل، حتى يتمنى له الموت بالجوع.

وبحديث أبي موسى، رفعه:"من صام الدهر ضُيّقت عليه جهنم هكذا، وقبض كفّه". أخرجه أحمد، والنسائيّ، وابن خزيمة، وابن حبّان، والبيهقيّ

(5)

، وابن أبي شيبة، والبزّار، ولفظ ابن حبّان، والبزار، والبيهقيّ:"ضيّقت عليه جهنم هكذا، وعقد - تسعين ". وأخرجه أيضًا الطبرانيّ، قال الهيثميّ

(6)

: رجاله رجال الصحيح.

(1)

- يأتي برقم -72/ 2380 - .

(2)

- يأتي برقم -72/ 2379 - .

(3)

- يأتي برقم -71/ 2373 و 2374 و 2375 و 2376.

(4)

- يأتي برقم -75/ 2385.

(5)

- "السنن الكبرى" ج 4 ص 300.

(6)

- "مجمع الزوائد" ج 3 ص 193.

ص: 286

قال الحافظ: ظاهره أنها تضيّق عليه حصرًا له فيها لتشديده على نفسه، وحمله عليها، ورغبته عن سنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، واعتقاده أن غير سنته أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد، فيكون حرامًا انتهى.

وقال ابن التركماني: ظاهر هذا الحديث يقتضي المنع من صوم الدهر. وقد أورده ابن أبي شيبة في "باب من كره صوم الدهر". واستدلّ به ابن حزم على المنع، وقال: إنما أورده رواته كلهم على التشديد، والنهيِ عن صومه. وقال ابن حبّان:

"ذكر الأخبار عن نفي جواز سرد المسلم صوم الدهر". وذكر هذا الحديث.

واستدلّ للمنع أيضًا بما روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي عمرو الشيبانيّ، قال: بلغ عمر أن رجلا يصوم الدهر، فأتاه، فعلاه بالدّرّة، وجعل يقول: كُلْ يا دهريّ.

قال ابن حزم: قد صحّ عن عمر تحريم صيام الدهر، كما رويناه، فذكر هذا الأثر، ثم قال: هذا في غاية الصحّة عنه، فصح أن تحريم صوم الدهر كان من مذهبه، ولو كان عنده مباحًا لما ضرب فيه، ولا أمر بالفطر انتهى.

وبما روى ابن أبي شيبة أيضًا من طريق أبي إسحاق أن عبد الرحمن بن أبي نُعْم كان يصوم الدهر، فقال عمرو بن ميمون لو رآى هذا أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم لرجموه.

وبما روى الطبرانيّ عن عمرو بن سلمة، قال: سئل ابن مسعود عن صوم الدهر؟ فكرهه. قال الهيثميّ: إسناده حسن.

وذهب آخرون إلى استحباب صيام الدهر لمن قوي عليه، ولم يفوت فيه حقّا، وأفطر الأيام المنهيّ عنها، وإلى هذا ذهب الجمهور، منهم: مالك، والشافعيّ، وأحمد في رواية.

قال مالك في "الموطإ": إنه سمع أهل العلم يقولون لا بأس بصيام الدهر إذا أفطر الأيام التي نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن صيامها، وذلك أحبّ ما سمعت إلى في ذلك انتهى.

وصرّح الزرقاني، وغيره من المالكية باستحبابه بالشروط المذكورة.

وقال النوويّ: مذهب الشافعي، وأصحابه أن سرد الصيام إذا أفطر العيدين، والتشريق، لا كراهة فيه، بل هو مستحبّ بشرط أن لا يلحقه به ضرر، ولا يفوّت حقّا، فإن تضرّر، أو فوّت حقا فمكروه انتهى.

وقال ابن قُدامة: قال أبو الخطاب: إنما يكره إذا أدخل فيه يومي العيدين، وأيام التشريق؛ لأن أحمد قال: إذا أفطر يومي العيدين، وأيام التشريق رجوت أن لا يكون بذلك بأس. وروي نحو هذا عن مالك، وهو قول الشافعيّ؛ لأن جماعة من الصحابة كانوا يسرون الصوم، منهم أبو طلحة. قال ابن قدامة: والذي يَقوَى عندي أن صوم

ص: 287

الدهر مكروه، وإن لم يصم هذه الأيام، فإن صامها فقد فعل محرّمًا، وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقّة والضعف، وشبه التبتّل المنهي عنه؛ بدليل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعبد اللَّه بن عمرو:"إنك تصوم الدهر، وتقوم الليل"، فقلت: نعم، قال: "إنك إذا فعلت ذلك هَجَمَت له عينك، ونَفِهَت له نفسك، لا صام من صام الدهر

" الحديث.

واحتجّ الجمهور على الاستحباب بما صحّ من حديث حمزة بن عَمْرو الأسلميّ رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول اللَّه، إني أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال:"إن شئت فصم"، فأقرّه صلى الله عليه وسلم على سرد الصيام، ولو كان مكروهًا لم يقرّه.

وأجيب عن هذا: أولاً بأن سؤال حمزة إنما كان عن صوم الفرض في السفر، لا عن صوم الدهر، كما سبق. وثانيًا بأن سرد الصوم لا يستلزم صوم الدهر؛ لأن التتابع يصدق بدون صوم الدهر، بل المراد إني أكثر الصوم، وكان هو كثير الصوم، كما ورد في بعض الروايات، ويؤيّد عدم الاستلزام ما أخرجه أحمد، والنسائيّ من حديث أسامة ابن زيد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسرد الصوم، مع ما ثبت أنه لم يصم الدهر، بل لم يصم شهرًا كاملاً إلا رمضان. وبهذا يجاب عما رُوي عن عمر، وعائشة أنهما كانا يسردان الصوم.

واحتجّوا أيضًا بما وقع في بعض طرق حديث عبد اللَّه بن عمرو الآتي: "صم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر". وفي حديث أبي أيوب رضي الله عنه مرفوعًا: "من صام رمضان، ثم أتبعه ستًا من شوّال كان كصيام الدهر". رواه مسلم. قالوا: والمشبّه به يكون أفضل من المشبه، فدلّ ذلك على أن صوم الدهر أفضل من هذه المشبهات، فيكون مستحبّا، وهو المطلوب.

وتُعُقّب بأن التشبيه في الأمر المقدّر لا يقتضي جوازه، فضلًا عن استحبابه، وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يومًا. ومن المعلوم أن المكلّف لا يجوز له صيام جميع السنة، فلا يدلّ التشبيه على أفضلية المشبه به من كل وجه. كذا ذكره الحافظ.

وقد بسط هذا الجواب ابن القيّم في "الهدي"، فأجاد.

وأجاب الجمهور عن حديث "لا صام من صام الأبد"، وحديث "لا صام، ولا أفطر" بأجوبة:

(أحدها): أنه محمول على حقيقته بأن يصوم معه العيدين، وأيام التشريق.

وفيه نظر؛ لأنه رضي الله عنه قد قال جوابًا لمن سأله عن صوم الدهر: "لا صام، ولا أفطر"، وهو يؤذن بأنه ما أُجر، ولا أثم، ومن صام الأيام المحرّمة لا يقال فيه ذلك؛

ص: 288

لأنه عند من أجاز صوم الدهر إلا الأيام المحرّمة يكون قد فعل مستحبّا وحرامًا، وأيضا فإن أيام التحريم مستثناة بالشرع غير قابلة للصوم شرعًا، فهي بمنزلة الليل، وأيام الحيض، فلم تدخل في السؤال عند من علم تحريمها، ولا يصلح الجواب بقوله:"لَا صام، ولا أفطر" لمن لم يعلم تحريمها. كذا ذكره الحافظ في "الفتح"، وهو ملخّص كلام ابن القيّم في "الهدي".

وقد تعقّب ابن دقيق العيد تأويل الجمهور هذا بوجه آخر، من شاء الوقوف عليه رجع إلى "شرح العمدة"

(1)

.

(الثاني): أنه محمول على من تضرّر به، أو فوّت به حقّا، قالوا: ويؤيده أن النهي كان خطابا لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وقد ذكر مسلم أنه عجز في آخر عمره، ونَدِم على كونه لم يقبل الرخصة، قالوا: فنهى ابن عمرو لعلمه بأنه سيعجز عنه، ويضعف، وأقرّ حمزة لعلمه بقدرته بلا ضرر.

وفيه أن هذا التأويل أيضًا مردود لما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه: "ومن رغب عن سنتي، فليس مني"، ويردّه أيضًا قوله:"لا أفضل من ذلك". ويردّه أيضًا ورود قوله: "لا صام، ولا أفطر"، وقوله:"لا صام من صام الأبد" عن غير واحد من الصحابة، سوى عبد اللَّه بن عمرو، كما تقدّم. ويردّه أيضًا حديث أبي موسى المتقدّم، وكلّ ذلك يدلّ على أن هذا الحكم ليس خاصًا بابن عمرو، بل هو عامّ لجميع المسلمين، وأما إقراره لحمزة على سرد الصوم، فلا حجة فيه، كما سبق.

(الثالث): أن معنى "لا صام" أنه لا يجد من مشقّته ما يجدها غيره، فيكون خبرًا لا دعاء.

وتعقّبه الطيبيّ بأنه مخالف لسياق الحديث، ألا تراه كيف نهاه عن صيام الدهر كله، ثم حثّه على صوم داود، والأولى أن يكون خبرًا عن أنه لم يمتثل أمر الشارع، أو دعاء كما تقدّم.

وأجابوا عن حديث أبي موسى المتقدم ذكره بأن معناه ضُيّقت عليه، فلا يدخلها، فعلى هذا تكون "على" بمعنى "عن"، أي ضيقت عنه، وهذا التأويل حكاه الأثرم عن مسدّد، وحكى ردّه عن أحمد، كما سبق.

وقال ابن خزيمة: سألت المزنيّ عن هذا الحديث؟ فقال: يشبه أن يكون معناه ضُيقت عنه، فلا يدخلها، ولا يشبه أن يكون على ظاهره؛ لأن من ازداد عملاً وطاعةً

(1)

- راجع "شرح العمدة" ج 3 ص 409 - 412 بنسخة الحاشية.

ص: 289

ازداد عند اللَّه رفعةً، وعنه كرامة.

ورجّح هذا التأويلَ جماعةٌ، منهم الغزالي، فقالوا: له مناسبة من جهة أن الصائم لما ضيّق على نفسه مسالك الشهوات بالصوم ضيّق اللَّه عليه النار، فلا يبقى له فيها مكان؛ لأنه ضيّق طرقها بالعبادة.

وتُعقّب بأنه ليس كلّ عمل صالح إذا ازداد العبد منه ازداد من اللَّه تقرّبًا، بل ربّ عمل صالح إذا ازداد منه ازداد بعدًا، كالصلاة في الأوقات المكروهة، وأيضًا لو كان المراد ما ذكروه لقال: ضيّقت عنه، وأما التضييق عليه فلا يكون إلا وهو فيها.

قال ابن حزم بعد ذكر التأويل: ما لفظه: هذه لُكْنة وكَذِبٌ، أما اللكنة فإنه لو أراد هذا لقال: ضيّقت عنه، ولم يقل: عليه. وأما الكذب فإنما أورده رواته كلهم على التشديد، والنهي عن صومه انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الصواب إجراء الحديث على ظاهره، والقول بمنع صيام الدهر مطلقًا.

قال الشوكانيّ في "السيل الجرّار" -بعد ذكر حديث أبي موسى-: هذا وعيد ظاهر، وتأويله بما يخالف هذا المعنى تعسّف وتكلّف، والعجب ذهاب الجمهور إلى استحباب صوم الدهر، وهو مخالف للهدي النبويّ، وهو أمر لم يكن عليه أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما صحّ عنه:"كلّ أمر ليس عليه أمرنا، فهو ردّ"، وهو أيضًا من الرغبة عن سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومن رغب عن سنته، فليس منه، كما تقدّم، وهو أيضًا من التعسير والتشديد المخالف لما استقرّت عليه هذه الشريعة المطهّرة، قال اللَّه تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقال صلى الله عليه وسلم: "يسّروا، ولا تُعسّروا، ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه"، وقال:"أمِرتُ بالشريعة السمحة السهلة"

(2)

.

فالحاصل أن صوم الدهر إذا لم يكن محرمًا بحتا، فأقلّ أحواله أن يكون مكروهًا

كراهة شديدة. هذا لمن لا يضعف بالصوم من شيء من الواجبات، أما من كان يضعف بالصوم عن بعض الواجبات الشرعيّة، فلا شك في تحريمه من هذه الحيثية بمجرّدها من غير نظر إلى ما قدّمنا من الأدلةّ انتهى كلام الشوكاني

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تَبَيَّنَ بما ذُكِرَ أن أرجحَ الأقوال قولُ من قال بتحريم

(1)

- "المحلى" ج 7 ص 16.

(2)

- أخرجه أحمد بلفظ: "إني لم أبعث باليهودية، ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة

الحديث. وفي سنده لين الحديث، وعلي بن يزيد الألهاني ضعيف.

(3)

- 2 ص 142 - 143.

ص: 290

صيام الدهر؛ لظواهر الأدلة، كحديث "لا صام من صام الأبد"، وحديث "من رغب عن سنتي فليس مني"، قاله صلى الله عليه وسلم -لمن قال: أصوم، ولا أفطر، وحديث:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو ردّ"، وحديث:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ"، وحديث "ضُيّقت عليه جهنم"، وحديث:"كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"، وغير ذلك.

فهذه الأدلةُ إذا لم تفد التحريم، فما الذي يفيده؟، إن هذا لشيء عجاب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2374 -

(حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مُسَاوِرٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي

(1)

عَطَاءٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ الأَبَدَ، فَلَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عيسى بن مُساور" الجوهريّ، أبو موسى البغداديّ، صدوق، من صغار [10].

قال النسائيّ: لا بأس به. وقال السرّاج: كان محمد بن إشكاب يُحسن الثناء عليه. وقال الخطيب: كان ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان راويًا للوليد بن مسلم، وسُويد بن عبد العزيز. مات في شوال سنة (244) وقيل: سنة (245). انفرد به المصنّف. وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث برقم (2374) و (2437) و (3741) و (4172).

و"محمد بن عبد اللَّه" هو أبو بكر الإسكندرانيّ، بغداديّ الأصل، صدوق، من صغار [10]

قال ابن أبي حاتم: كتبتُ عنه بالإسكندرية، وهو صدوق ثقة. وقال مسلمة بن قاسم: تُكلّم فيه، ورُمي بالكذب، ولم يترك أحد الكتابة عنه. وقال ابن يونس: كان ثقة، وخرج إلى الإسكندرية، فأقام بها، وتوفي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، سنة (262).

روى. عنه أبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب أربعة أحاديث بالأرقام المذكورة في الترجمة التي قبله.

و"الوليد": هو ابن مسلم الدمشقيّ، ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية [8] 5/ 454.

والحديث ضعيف؛ لأن فيه انقطاعًا وقد تقدم تمام البحث فيه في الحديث الماضي.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- وفي نسخة: "حدثنا".

ص: 291

2375 -

(أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، وَعُقْبَةُ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ الأَبَدَ فَلَا صَامَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "العباس بن الوليد" بن مَزْيَد البَييروتيّ، صدوق عابد [11] 40/ 1711. و"الوليد بن مَزْيَد" أبو العباس البَيروتيّ، ثقة ثبت، قال المصنّف: لا يدلّس، ولا يُخطىء [8] 40/ 1711.

و"عُقبة" بن عَلْقمة بن حُديج الْمَعَافريّ البيروتيّ، صدوق [9].

قال ابن أبي خيثمة: حدثني أبو محمد من بني تميم، صاحب لي ثقة، قال: قال أبو مسهر: حدثني عقبة بن علقمة المعافريّ، من أصحاب الأوزاعيّ، من أهل أطرابلس، من المغرب، سكن الشام، وكان خيارًا ثقة. وقال المفضّل الغلابيّ، عن ابن معين: دمشقيّ لا بأس به. وقال أبو حاتم: هو أحبّ إليّ من الوليد بن مَزْيد. وقال ابن خراش: ثقة. وقال الحاكم: ثقة مأمون. وقال ابن حبّان في "الثقات": يعتبر بحديثه من غير رواية ابنه محمد بن عقبة عنه؛ لأن محمدًا كان يُدخل عليه الحديث، فيجيب فيه. وقال العقيليّ: لا يتابع على حديثه. وقال ابن عديّ: رَوَى عن الأوزاعيّ ما لم يوافقه عليه أحد، من رواية ابنه محمد عنه. وقال النسائيّ: ثقة. وقال ابن قانع: صالح. قال العباس بن الوليد: مات سنة (204). انفرد به المصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث 237 و 5159 حديث معاوية رضي الله عنه في النهي عن لبس الذهب.

والحديث ضعيف؛ لأن في سنده مبهمًا، وقد تقدّم تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2376 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ صَامَ الأَبَدَ، فَلَا صَامَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسماعيل بن يعقوب" بن إسماعيل بن صَبِيح الصبّيحيّ، أبو محمد الحرّانيّ، ثقة [11].

قال النسائيّ: لا بأس به، من الثقات. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وأخرج عنه ابن خزيمة في "صحيحه". قال أبو عروبة: مات قبل أبي داود الحرّاني بعد سنة (270) وموت أبي داود سنة (272). انفرد به المصنّف، روى عنه في هذا الكتاب حديثين فقط: هذا 2376 و 5127 حديث يعلي بن مرّة، مرفوعًا:"اذهب فاغسله، ثم اغسله .. " الحديث.

و"محمد بن موسى" بن أعين أبو يحيى الحرّانيّ، صدوق، من كبار [10] 4/ 403.

ص: 292

و "موسى بن أعين" الجزريّ، أبو سعيد، ثقة عابد [8] 11/ 415.

والحديث ضعيف؛ لأن فيه مبهمًا، كما سبق تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2377 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ الأَبَدَ، فَلَا صَامَ، وَلَا أَفْطَرَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن إبراهيم بن محمد" بن عبد اللَّه بن بكّار بن عبد الملك بن الوليد بن بُسْر بن أرطأة، العامريّ القرشيّ البُسْريّ، أبو عبد الملك الدمشقيّ، صدوق [11].

قال النسائيّ: لا بأس به. وقال ابن عساكر: كان ثقة، مات في شوّال سنة (289) انفرد به المصنّف، وروى عنه في هذا الكتاب أربعة أحاديث برقم 2377 و 4789 و 4842 و 5192.

و"محمد بن عائذ" بن أحمد، ويقال: سعيد، ويقال: عبد الرحمن القرشيّ، أبو أحمد، ويقال: أبو عبد اللَّه الدمشقيّ، صاحب المغازي، صدوق رمي بالقدر [10].

قال إبراهيم بن الجنيد، عن ابن معين: ثقة. وقال صالح بن محمد: ثقة إلا أنه قدريّ.

وقال أبو زرعة الرازيّ، عن دُحيم: ثقة. وقال الآجريّ: سألت أبا داود عنه؟ فقال: هو كما شاء اللَّه، قال أبو داود: وَليَ خراجًا. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكره أبو زرعة الدمشقيّ في أهل الفتوى، وقال: مات سنة (234) وقال عمرو ابن دُحَيم: مات بدمشق في ربيع الآخر سنة (233) وكان مولده سنة (150).

روى له أبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب الأحاديث المذكورة في ترجمة شيخ المصنّف قبله.

و"يحيى": هو ابن حمزة، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضي، ثقة رُمي بالقدر [8] 60/ 1768.

والحديث صحيح [فإن قلت]: كيف يصح، وفي سنده مبهم، كالأسانيد السابقة؟

[قلت]: إنما صح؛ لأن المبهم هنا مفسر في الرواية التالية، وهو أبو العباس الشاعر، بخلاف المبهم في الروايات السابقة؛ فإنه لم يعرف، فتبصر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2378 -

(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، سَمِعْتُ عَطَاءً، أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ

ص: 293

الْعَاصِ، قَالَ: بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَنِّي أَصُومُ أَسْرُدُ الصَّوْمَ

(1)

، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الأَبَدِ؟ ، "لَا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إبراهيم بن الحسن": هو أبو إسحاق الخَثعميّ المصّيصيّ. و"حجاج بن محمد": هو الأعور المصّيصيّ أيضًا.

و"أبو العباس" الشاعر": هو السائب بن فَرّوخ الأعمى المكيّ، ثقة [3]

قال شعبة، عن حبيب: سمعت أبا العباس الأعمى، وكان صدوقًا. وقال أحمد، والنسائيّ: ثقة. وقال الدوريّ، عن ابن معين: ثبت. وقال مسلم: كان ثقة عدلاً. وقال ابن سعد: كان بمكة زمن ابن الزبير، وهواه مع بني أمية، وكان قليل الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث برقم 2388 و 2397 و 2399 و 2400 و 2401 و 2402. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "وساق الحديث" الضمير لابن جريج، يعني أنه ساق هذا الحديث المختصر بتمامه، وسيأتي مطولاً في 78/ 2400. إن شاء اللَّه تعالى.

(وقوله: "قَالَ عَطَاءٌ") أي بالإسناد السابق، فهو موصول. وقوله:"لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الْأَبَدِ؟ الخ) أي إن عطاء لم يحفظ كيف جاء ذكر صيام الأبد في هذه القصّة، إلا أنه حفظ أن فيها أنه صلى الله عليه وسلم -قال: "لا صام من صام الأبد". وقد تقدّم في الرواية السابقة أن عطاء روى هذه الجملة وحدها. والحديث متفق عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌72 - (النَّهْي عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ، وَذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِاللَهِ فِي الْخَبَرِ فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدم تفاصيل المذاهب في حكم صوم الدهر في الباب السابق، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

(1)

- وفي نسخة: "أني أسرُد الصوم".

ص: 294

ووجه الاختلاف المذكور أن يزيد بن عبد اللَّه بن الشخّير رواه عن أخيه مطرّف، عن عمران ابن حصين رضي الله عنهما وخالفه قتادة، فرواه عن مطرّف، عن أبيه.

لكن مثل هذا الاختلاف لا يضرّ، فيحمل على أن مطرفًا حمله عن أبيه، وعن عمران ابن حصين رضي الله عنهم، فكان يحدّث به عنهما، كما تقدّم نظير هذا غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2379 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَخِيهِ، مُطَرِّفٍ عَنْ عِمْرَانَ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانًا، لَا يُفْطِرُ نَهَارًا، الدَّهْرَ، قَالَ:«لَا صَامَ، وَلَا أَفْطَرَ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدموا غير مرّة.

و"إسماعيل": هو ابن عليّة. و"الْجُريريّ": هو سعيد بن إياس .. ومعنى الحديث تقدّم في شرح الحديث الذي مرّ في الباب الماضي.

وقوله: "نهارًا الدهر" منصوبان على الظرفيّة، متعلّقان بـ"لا يفطر".

وهو حديث صحيح، تفرّد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-72/ 2379 - وفي "الكبرى" 71/ 2682.

[فإن قلت]: كيف يصح، وفيه الجريري، وقد اختلط قبل موته بثلاث سنين؟.

[قلت]: إنما صح لأنه من رواية إسماعيل ابن علية، وهو ممن روى عنه قبل اختلاطه، راجع ترجمة الجريري في "تهذيب التهذيب" جـ 2 ص 7. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2380 -

(أَخْبَرَنِي

(2)

عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، أَخْبَرَنِي أَبِي، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ، يَصُومُ الدَّهْرَ، قَالَ:«لَا صَامَ، وَلَا أَفْطَرَ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، عمرو بن هشام" الحرّانيّ، فإنه من أفراده، وهو ثقة.

و"مخلد": هو ابن يزيد القرشيّ الحرّانيّ.

والحديث صحيح، ولا يضرُّه عنعنة قتادة؛ لأنه صرح بالسماع في الرواية التالية، أخرجه المصنّف هنا -72/ 2380 و 2381 - وفي "الكبرى" 71/ 2683 و 2684.

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا"، وفي أخرى:"حدثنا".

(2)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 295

وأخرجه (ق) في "الصيام" 1705 (أحمد) في "مسند المدنيين" 15869 و 15873 و 1588 (الدارميّ) في "الصوم"1744. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2381 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،، عَنْ قَتَادَةَ،، قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ،، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فِي صَوْمِ الدَّهْرِ: «لَا صَامَ، وَلَا أَفْطَرَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وهو مسلسل بثقات البصريين، و"أبو داود": هو سليمان بن داود بن الجارود الطياليسيّ.

وقوله: "في صوم الدهر": أي في شأن صوم الدهر، أو في بيان حكمه. واللَّه تعالى أعلم. والحديث صحيح، كما سبق بيانه فيما قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌73 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى غَيْلَانَ ابْنِ جَرِيرِ فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن أن أبا هلال الراسبيّ رواه عن غيلان، عن عبد اللَّه بن مَعبد، عن أبي قتادة، عن عمر، فجعله من مسند عمر رضي الله عنه. وخالفه شعبة، فرواه عن غيلان، عن عبد اللَّه بن معبد، عن أبي قتادة: رضي الله عنه، فجعله من مسند أبي قتادة.

وهذا هو المحفوظ، لأن أبا هلال ممن لا يُحتَمل مخالفته، كما سيأتي أقوال أهل العلم فيه في ترجمته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2382 -

(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غَيْلَانُ -وَهُوَ ابْنُ جَرِيرٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ -وَهُوَ ابْنُ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيُّ- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَرَرْنَا بِرَجُلٍ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذَا لَا يُفْطِرُ، مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ

(1)

: «لَا صَامَ، وَلَا أَفْطَرَ» ).

(1)

- وفي نسخة: "قال".

ص: 296

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير أبي هلال، فمن رجال الأربعة، و "هارون بن عبد اللَّه": هو أبو موسى الحمال البغداديّ. و"الحسن ابن موسى": هو الأشيب البغداديّ.

و"أبو هلال": هو محمد بن سُليم الراسبي -بمهملة، ثم موحدة- البصريّ، مولى بني سامة بن لؤيّ، نزل في بني راسب، فنُسب إليهم، قيل: كان مكفوفًا، صدوق، فيه لين [6].

قال عمرو بن عليّ: كان يحيى لا يحدّث عنه، وكان عبد الرحمن يحدّث عنه، وسمعت يزيد بن زُريع يقول: عَدَلت عن أبي بكر الْهُذَليّ، وأبي هلال الراسبيّ عمدًا.

وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: حماد بن سلمة أحبّ إليك في قتادة، أو أبو هلال؟ فقال: حماد أحبّ إليّ، وأبو هلال صدوق. وقال مرّة: ليس به بأس، وليس بصاحب كتاب. وقال ابن أبي حاتم: أدخله البخاريّ في "الضعفاء"، وسمعت أبي يقول: يُحوّل منه. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: أبو هلال ثقة، ولم يكن له كتاب، وهو فوق عمران القطّان. وقال أحمد بن حنبل: يُحتمل في حديثه، إلا أنه يُخالف في قتادة، وهو مضطرب الحديث. وقال الساجي: رُوي عنه حديث منكر. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وقال البزّار: احتمل الناس حديثه، وهو غير حافظ. وقال ابن عديّ بعد أن ذكر له أحاديث: كلُّها، أو عامتها غير محفوظة، وله غير ما ذكرت، وفي بعض رواياته ما لا يوافقه عليه الثقات، وهو ممن يكتب حديثه. وقال البخاريّ: قال محمد ابن محبوب: مات في ذي الحجة سنة (167).

وقال ابن سعد: فيه ضعف، أخبرنا موسى بن إسماعيل، قال: كان أعمى، وكان لا يحدّث حتى يُنسب من عنده، وقالوا: توفي في خلافة المهديّ سنة (169).

علّق عنه البخاريّ، وروى له الباقون، سوى مسلم، وله عند المصنف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

و"غيلان بن جرير": هو الْمِعْوَليّ الأزديّ البصريّ.

و"عبد اللَّه بن معبد الزِّمَّانيّ" -بكسر الزاي، وتشديد الميم- البصريّ، ثقة [3].

قال النسائيّ: ثقة. وقال أبو زرعة: لم يدرك عمر. وقال البخاريّ: لا يُعرف سماعه من أبي قتادة. وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن خلفون: وثّقه الْبَرْقيّ. روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، كرره ثلاث مرّات برقم 2382 و 2383 و 2387.

[تنبيه]: قول البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-: لا يعرف سماعه من أبي قتادة، لعله ثبت سماعه منه عند مسلم، فإنه أخرج هذا الحديث في "صحيحه" من طريقه. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 297

والحديث بهذا السند ضعيف؛ لمخالفة أبي هلال الراسبي للإمام الحجة شعبة بن الحجاج الآتي في السند التالي، وهو بهذا السند من أفراد المصنّف رحمه الله أخرجه هنا- 72/ 2382 و 2383

(1)

و 2387 - وفي "الكبرى" 72/ 2685 و 2686 و74/ 2695 وأخرجه بالسند التالي (م) في "الصيام" 1162 (د) في "الصوم" 2425 (ت) في "الصوم" 767 (ق) في "الصيام" 1713 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 21498 و 21598. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2383 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ غَيْلَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيَّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ عَنْ صَوْمِهِ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: عُمَرُ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَسُئِلَ عَمَّنْ صَامَ الدَّهْرَ؟

(2)

، فَقَالَ:"لَا صَامَ، وَلَا أَفْطَرَ"، أَوْ "مَا صَامَ، وَمَا أَفْطَرَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"محمد" شيخ ابن بشّار: هو ابن جعفر المعروف بـ"غندر".

وقوله: "فغضب": قال العلماء -رحمهم اللَّه تعالى-: سبب غضبه صلى الله عليه وسلم أنه كره مسألته؛ لأنه يحتاج إلى أن يُجيبه، ويخشى من جوابه مفسدة، وهي أنه ربما اعتقد السائل وجوبه، أو استقلّه، أو اقتصر عليه، وكان يقتضي حاله أكثر منه، وإنما اقتصر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم لشغله بمصالح المسلمين، وحقوقهم، وحقوق أزواجه، وأضيافه، والوافدين إليه؛ لئلا يقتدي به كل أحد، فيؤدي إلى الضرر في حقّ بعضهم، وكان حقّ السائل أن يقول: كم أصومُ؟، أو كيف أصوم؟ فيخصّ السؤال بنفسه؛ ليجيبه بما يقتضيه حاله، كما أجاب غيره بمقتضى أحوالهم. ذكره النوويّ في "شرح مسلم"

(3)

.

وقوله: "فقال عمر: رضينا الخ" إنما قال عمر رضي الله عنه ذلك، خشيةَ أن يغضب اللَّه تعالى لغضب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فينزل العقاب عليهم.

والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

أي بالسند التالي.

(2)

- وفي نسخة: "عن صيام الدهر".

(3)

- شرح صحيح مسلم ج 8 ص 291.

ص: 298

‌74 - (سَرْدِ الصِّيَامِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المراد بالسرد المتابعة، ولا يستلزم ذلك أن يستوعب الدهر كلّه، بل يصدق على من تابع صوم شهر أو شهرين أنه يسرد الصيام، كما تقدّم في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما -70/ 2359 - "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -كان يسرد الصوم

" الحديث.

فبهذا يتبيّن خطأ من استدك بحديث حمزة بن عمرو رضي الله عنه هذا على استحباب صيام الدهر، وقد تقدّم تمام البحث في ذلك قبل بابين، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2384 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ

(1)

صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ، أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ ، قَالَ:«صُمْ إِنْ شِئْتَ، أَوْ أَفْطِرْ إِنْ شِئْتَ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"حماد": هو ابن زيد. و"هشام": هو ابن عروة.

والحديث متفق عليه، ومحل الاستدلال للباب واضح في قوله:"إني رجل أسرد الصوم"، وقد تقدّم في 57/ 2303 - وتقدم تمام البحث فيه هناك، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌75 - (صَوْمُ ثُلثَيِ الدَّهْرِ، وَذِكْرُ اخْتِلَافِ النَّاقِلِينَ للْخَبَرِ فِي ذَلِكَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن سفيان الثوريّ رواه عن الأعمش، عن أبي عمار، عن عمرو بن شُرحبيل، عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعله متصلاً، وخالفه أبو معاوية، فرواه عن الأعمش، عن أبي عمار، عن عمرو بن

(1)

- وفي نسخة: "النبيّ".

ص: 299

شرحبيل، أتي رجل الخ، فجعله منقطعًا؛ لأن عمرو بن شُرحبيل لم يحضر القصّة، والقاعدة أن من حكى قصّة لم يشهدها تكون حكايته منقطعة، كما أشار إليه الحافظ السيوطيّ في "ألفية الحديث" حيث قال:

وَكُلُّ مَنْ أدْرَكَ مَا لَهَ رَوَى

مُتَّصِلٌ وَغَيْرُهُ قَطْعًا حَوَى

ثم إن الأرجح هنا هو الوصل؛ لأن سفيان أحفظ، وأتقن، وأبو معاوية، وإن كان مقدّمًا في الأعمش إلا أن سفيان يقدّم عليه، كما معلوم في محلّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2385 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ رَجُلٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: رَجُلٌ يَصُومُ الدَّهْرَ، قَالَ: «وَدِدْتُ أَنَّهُ لَمْ يَطْعَمِ الدَّهْرَ» ، قَالُوا: فَثُلُثَيْهِ، قَالَ: «أَكْثَرَ» ، قَالُوا: فَنِصْفَهُ، قَالَ: «أَكْثَرَ» ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ، صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن بشار) العبديّ المعروف ببُندار، أبو بكر البصريّ، ثقة حافظ [10] 24/ 27.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ بن حسان البصريّ، ثقة ثبت إمام [9] 42/ 49.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة ثبت حجة [7] 33/ 37.

4 -

(الأعمش) سليمان بن مِهران الكوفيّ، ثقة ثبت ورع، لكنه يدلّس [5] 17/ 18.

5 -

(أبو عمّار) عَرِيب -بفتح أوله، وكسر الراء بعدها تحتانيّة، ثم موحّدة- ابن حُمَيد الدُّهْنيّ -بضم، فسكون- الكوفيّ، ثقة [3].

قال ابن أبي خيثمة: سألت أحمد، ويحيى عن أبي عقار الدهني، فقال: اسمه عَريب بن حُميد، وهو كوفيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: يَروي المراسيل. تفرّد به المصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا 2385 وأعاده بعده 2386 و 2507 حديث قيس بن سعد:"أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر .. " الحديث، و 5009 حديث:"ملىء عمار إيمانًا إلى مُشاشه".

6 -

(عمرو بن شُرحبيل) الهمدانيّ، أبو ميسرة الكوفيّ، مخضرم ثقة عابد [2] 180/ 285.

7 -

(الصحابيّ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، وسيأتي الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 300

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير أبي عمار، كما مرّ آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن أبي عمّار، عن عمرو ابن شُرحبيل. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ رَجُلِ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) لم أر من سمّاه، لكن جهالته لا تضرّ؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول بإجماع من يُعتدّ بإجماعه، كما هو مقرّر في كتب مصطلح الحديث (قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: رَجُلٌ يَصُومُ الدَّهْرَ) "رجل" مبتدأ، وما بعده صفته، والخبر محذوف، أي ما حكمه؟. ويحتمل أن يكون "قيل" بمعنى ذُكِرَ، و "رجل" نائب فاعله، وجملة "يصوم الدهر" صفة لـ"رجل". ويؤيّد الاحتمال الأول وقوعه في الرواية التالية بلفظ الاستفهام:"ما تقول في رجل صام الدهر؟ ". (قَالَ: (وَدِدْتُ أنَّهُ لَمْ يَطْعَمِ الدَّهْرَ") أي وددت أنه ما أكل ليلاً، ولا نهارًا، حتى مات جوعًا، والمقصود بيان كراهة عمله، وأنه مذموم العمل حتى يتمنّى له الموت بالجوع (قَالُوا: فَثلُثَيْهِ) بالنصب مفعولا لمقدّر، أي إن صام ثلثي الدهر، فما حكمه؟ (قَالَ:"أَكْثَرَ) يحتمل أن يكون أفعل تفضيل، مرفوعًا خبرًا لمحذوف، أي هو أكثر من الحد المطلوب. ويحتمل أن يكون فعلاً ماضيا، أي أكثر الرجل من الصوم حتى جاوز الحدّ ينبغي أن لا يتجاوزه عع (قَالُوا: فَنِصْفَهُ) أي إن صام نصف الدهر (قَالَ: "أَكْثَرَ") هذا بناء على النظر إلى أحوال غالب الناس، فإنه بالنظر إلى غالبهم يضعف، ويُخلّ في إقامة الفرائض وغيره، وإلا فهو صوم داود عليه السلام، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الصيام صيام داود عليه السلام"، كما يأتي في الباب التالي (ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ) - بفتحتين- قيل: غَشّه، ووساوسه. وقيل: الحقد والغيظ. وقيل: العداوة. وقيل: أشدّ الغضب. وقيل: ما يحصل في القلب من الكدورات، والقسوة، وينبغي أن يراد ههنا الحاصلة بالاعتياد على الأكل والشرب، فإن الصوم إنما شُرع لتصقيل القلب، كما قال اللَّه عز وجل:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فكأنه أشار إلى أن هذا القدر يكفي في ذلك. ويحتمل أن يقال: طالب العبادة لا يطمئن قلبه بلا عبادة، فأشار إلى أن القدر الكافي في الاطمئنان هذا القدر، والباقي زائد عليه. واللَّه تعالى أعلم. قاله السنديّ

(1)

.

(1)

- "شرح السندي" ج 4 ص 208 - 209.

ص: 301

(صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّام) بالرفع على أنه خبر لمحذوف، أي هو صوم ثلاثة أيام (مِنْ كُلِّ شَهْرٍ).

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، ولا يقال: فيه سفيان والأعمش من المدلسين؛ لأنه تشهد له الأحاديث الآتية، وهو من أفراد المصنّف، أخرجه هنا-75/ 2385 و 2386 - وفي "الكبرى" 75/ 2693 و 2694. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2386 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ، صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَدِدْتُ أَنَّهُ لَمْ يَطْعَمِ الدَّهْرَ شَيْئًا، قَالَ: فَثُلُثَيْهِ؟ ، قَالَ: «أَكْثَرَ» ، قَالَ: فَنِصْفَهُ؟ ، قَالَ: «أَكْثَرَ» ، قَالَ: «أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ؟» ، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، مِنْ كُلِّ شَهْرٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد هم المذكورون في السند الماضي، غير شيخه، محمد بن العلاء، أبي كريب، وغير أبي معاوية محمد بن خازم الضرير.

والحديث مرسل؛ لأن عمرو بن شُرحبيل تابعيّ، لكن يشهد له ما قبله، فهو صحيح به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2387 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ ، قَالَ: "لَا صَامَ، وَلَا أَفْطَرَ" أَوْ "لَمْ يَصُمْ، وَلَمْ يُفْطِرْ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ، وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ ، قَالَ: أَوَيُطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ؟ ، قَالَ: فَكَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: «ذَلِكَ صَوْمُ دَاوُدَ عليه السلام» ، قَالَ: فَكَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟ ، قَالَ: «وَدِدْتُ أَنِّي أُطِيقُ ذَلِكَ» ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، هَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"حماد": هو ابن زيد.

وقوله: أَوَ يطيق ذلك" الهمزة للاستفهام، والواو عاطفة، قال السنديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: كأنه كرهه؛ لأنه مما يُعجَز عنه في الغالب، فلا يُرغَب فيه في دين سَهْلٍ سَمْحٍ انتهى.

وقوله: "ذاك صوم داود" أي وصومه أفضل الصيام، وكأنه تركه لتقريره ذلك غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 302

وقوله: "وددت أني أُطيق ذلك" أي أقدر عليه مع أداء حقوق النساء، فمرجع هذا إلى خوف ذوات حقوق النساء، فإن إدامة الصوم يُخلّ بحظوظهنّ منه، وإلا فكان يُطيق أكثر منه، فإنه كان يواصل. قاله السنديّ.

والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم قبل باب برقم -73/ 2382 - وتقدم تمام البحث فيه هناك، فراجعه تزدد علمًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌76 - (صَوْمُ يَوْمٍ، وَإِفْطَارُ يَوْمٍ، وَذِكْرُ اخْتِلَافِ أَلْفَاظَ النَّاقِلِينَ

(1)

لِخَبَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أنه في روايات مجاهد سمى صوم يوم وإفطار يوم أفضل الصيام، وفي رواية أبي سلمة سماه صوم نصف الدهر، وفي رواية ابن المسيّب، وأبي سلمة سماه أعدل الصيام، وفي رواية أبي سلمة الأخيرة سماه أعدل الصيام عند اللَّه.

ولا تخالف بينها، فإن الأعدل لا ينافي كونه أفضل؛ لأن العدل في الأمور هو الاقتصاد، وهو خلاف الجور، كما في "المصباح"، والاقتصاد أفضل الأمور، وهو أيضًا صوم نصف الدهر؛ لأن صوم يوم، وفطر يوم هو صوم نصف الدهر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2388 -

(قَالَ: وَفِيمَا قَرَأَ عَلَيْنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حُصَيْنٌ، وَمُغِيرَةُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ، صِيَامُ دَاوُدَ عليه السلام، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا»).

قال الجامعَ - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: (قال: وفيما قرأ علينا الخ" هكذا العبارة هنا، وفي "الكبرى" على خلاف عادته، حيث يقول: "أخبرنا" بكثرة، و"حدثنا"، أو نحو

(1)

- هكذا النسخة الهندية، ووقع في النسخ المطبعة بلفظ "وذكر اختلاف ألفاظ الناقلين في ذلك الخ"، والظاهر أنه غلط، لأن قوله في الآخر:"فيه" بمعناه، فيكون تكرارًا. فتنبّه.

ص: 303

ذلك بقلة، ولما هنا أيضًا وجه صحيح.

وذلك أن قائل "قال" هو الراوي عن المصنّف، وهو الحافظ أبو بكر ابن السنّيّ؛ لأنه المشهور برواية "المجتبى" عنه، ويحتمل أن يكون غيره، وفاعل "قال" ضمير النسائيّ، وقوله:"فيما قرأ علينا الخ" متعلّق بحال مقدّر، أو بـ"قال"، من قوله:"قال: حدثنا هشيم"، وفاعل "قال" ضمير أحمد بن منيع، وجملة "حدثنا هشيم" مقول القول، والتقدير: قال النسائيّ: قال أحمد بن منيع فيما قرأه علينا من الأحاديث: حدثنا هشيم الخ.

و"هشيم": هو ابن بشير الواسطيّ. و"حصين": هو ابن عبد الرحمن. و"مغيرة": هو ابن مقسم.

والحديث صحيح، ويأتي تمام البحث فيه في الحديث الذي بعده، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2389 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً، ذَاتَ حَسَبٍ، فَكَانَ يَأْتِيهَا، فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا، فَقَالَتْ: نِعْمَ الرَّجُلُ، مِنْ رَجُلٍ، لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا، مُنْذُ أَتَيْنَاهُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«ائْتِنِي بِهِ» ، فَأَتَيْتُهُ مَعَهُ، فَقَالَ:«كَيْفَ تَصُومُ؟» ، قُلْتُ: كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ:«صُمْ مِنْ كُلِّ جُمُعَةٍ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ، قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ

(1)

مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:«صُمْ يَوْمَيْنِ، وَأَفْطِرْ يَوْمًا» ، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ، أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:«صُمْ أَفْضَلَ الصِّيَامِ، صِيَامَ دَاوُدَ عليه السلام، صَوْمُ يَوْمٍ، وَفِطْرُ يَوْمٍ» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن مَعْمَر) بن ربعيّ القيسيّ البحرانيّ البصريّ، صدوق، من كبار [11] 5/ 1829.

2 -

(يحيي بن حمّاد) بن أبي زياد الشيبانيّ مولاهم البصريّ، خَتَنُ أبي عوانة، ثقة عابد، من صغار [9] 43/ 2225.

3 -

(أبو عوانة) الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطي البزّاز، ثقة ثبت [7] 41/ 46.

4 -

(مغيرة) بن مِقْسَم الضبّيّ مولاهم، أبو هشام الكوفيّ الأعمى، ثقة متقنٌ، إلا أنه

(1)

- وفي نسخة: "أكثر".

ص: 304

يدلس [6] 188/ 301.

5 -

(مجاهد) بن جبر المخزوميّن أبو الحجاج المكيّ، ثقة فقيه فاضل [3] 27/ 31.

6 -

(عبد اللَّه بن عمرو) بن العاص بن وائل السهميّ، أبو محمد، أو أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - 89/ 111. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد المشايخ التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وهم الذين جمعتهم بقولي:

اشْتَرَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ .... ذَوُو الأُصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ

فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ

الْحَافِظِينَ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ

أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرٍ

نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌ السَّرِي

وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارٍ

كَذَا ابْنُ المُثَنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى

(ومنها): أن صحابيّه - رضي اللَّه تعالى عنه - أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العبادلة الأربعة المجموعين في قول السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "ألفية الحديث":

وَالْحَبْرُ وَابْنَا عُمَرٍ وَعَمْرِو .... وَابنُ الزُّبَيْرِ فِي اشْتِهَار يَجْرِي

دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَهُمْ عَبَادِلَهْ .... وَغَلَّطُوا مَنْ غَيْرَ هَذَا مَالَ لَهْ

وتقدّم كل هذا غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مُجَاهِدٍ) بن جَبْر -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو) ابن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنْكَحَنِي أَبِي) أي زوّجني، وهذا ظاهر في كون أبيه هو الذي تولّى تزويجه، كما جرت العادة بذلك، فإن أبا الرجل يتولّى تزويج ابنه، وإن كان كبيرًا، وذلك بأن يستشيره بالتزويج، ويتقدّم لخِطْبة المرأة المناسبة له، ويتولّى ما يتعلّق بأمر العقد، من دفع المهر، ونحو ذلك، فلا حاجة لما ذكره في "الفتح" من قوله: وهو محمول على أنه كان المشير عليه بذلك، وإلا فعبد اللَّه بن عمرو حينئذ كان رجلاً كاملاً.

قال: ويحتمل أن يكون قام عنه بالصداق، ونحو ذلك انتهى.

قلت: وهذا الأخير هو المقصود هنا. واللَّه تعالى أعلم (امْرَأَةٌ، ذَاتَ حَسَبِ) وفي

ص: 305

رواية أحمد عن هشيم، عن مغيرة، وحصين، عن مجاهد في هذا الحديث:"امرأة من قريش". وهي أمّ محمد بنت مَحْمِيَة -بفتح الميم، وسكون المهملة، وكسر الميم، بعها تحتانيّة مفتوحة خفيفة- ابن جَزْء الزُّبيديّ، حليف قريش، ذكرها الزبير وغيره. قاله في "الفتح"

(1)

(فَكَانَ يَأْتِيهَا) وفي رواية البخاريّ في "فضائل القرآن": "فكان يأتي كَنَّتَه"،- بفتح الكاف، وتشديد النون: هي زوج الولد (فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا) أي عن شأنه، هل يتفقّدها؟، أو لا يلتفت إليها لشغله بالطاعة، ويحتمل أن يكون السؤال عن غير ذلك، كصحته، أو مرضه، لكن جواب المرأة يقويّ الاحتمال الأول. واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَالَتْ: نِعْمَ الرَّجُلُ، مِنْ رَجُلٍ) قال ابن مالك -رحمه اللَّه تعالى-: يُستفاد منه وقوع التمييز بعد فاعل "نعم" الظاهرِ، وقد منعه سيبويه، وأجازه المبرّد. وقال الكرمانيّ: يحتمل أن يكون التقدير: نعم الرجل من الرجال، قال: وقد تفيد النكرة في الإثبات التعميم، كما في قوله تعالى:{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14]، قال: ويحتمل أن تكون "من" للتجريد، كأنه جرّد من رجل موصوف بكذا وكذا رجلاً، فقال: نعم الرجل المجرد من كذا، صفته كذا انتهى (لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا) أي لم يضاجعنا، حتى يطأ فراشنا (وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا) قال في "الفتح": كذا للأكثر -بفاء، ومثناة ثقيلة، وشين معجمة- وفي رواية لأحمد، والنسائيّ، والكشميهنيّ:"ولم يَغْشَ"-بغين معجمة ساكنة، بعدها شين معجمة- و"كنَفًا" -بفتح الكاف والنون، بعدها فاء-: هو الستر، والجانب، وأرادت بذلك الكنايةَ عن عدم جماعه لها؛ لأن عادة الرجل أن يدخل يده مع زوجته في داخل أمرها. وقال الكرمانيّ: يحتمل أن يكون المراد بالكنف الكنيف، وأرادت أنه لم يطعم عندها حتى يحتاج إلى أن يفتّش عن موضع قضاء الحاجة. كذا قال، والأول أولى. وزاد في الرواية التالية من طريق عَبْثر، عن حُصين: "فوقع بي، وقال: زوجتك امرأة من المسلمين، فعَضَلْتها، فجعلت، لا ألتفت إلى قوله مما أرى عندي من القوّة والاجتهاد، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم

".

(مُنْذُ أَتَيْنَاهْ) تعني من أول وقت أن تزوّجها (فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنبِي صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: "فلما طال ذلك عليه ذكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم"، وفيه أنه أباه تَأَنَّى في شكواه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجاءَ أن يتدارك، فلما تمادى على حاله، خشي أن يلحقه الإثم بتضييع حقوق زوجته، فشكاه (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ائْتِنِي بِهِ) وفي رواية البخاريّ:"القَني به" (فَأَتَيتُهُ مَعَهُ، فَقَالَ:"كَيْفَ تَصُومُ؟ "، قُلْتُ: كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: "صُمْ مِنْ كُلِّ جُمْعَةٍ، ثَلَاَثةَ أَيَّامِ، قُلْتُ:

(1)

-"فتح" ج10 ص 117.

ص: 306

إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:"صُمْ يَوْمَيْنِ، وَأَفْطِرْ يَوْمًا") ووقع عند البخاريّ في "فضائل القرآن" بلفظ: "صم ثلاثة أيام في الجمعة، قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: أفطر يومين، وصم يومًا".

قال الداوديّ: هذا وَهَمٌ من الراوي؛ لأن ثلاثة أيام من الجمعة أكثر من فطر يومين، وصيام يوم، وهو إنما يُدَرِّجه من الصيام القليل إلى الصيام الكثير. قال الحافظ: وهو اعتراض متّجه، فلعلّه وقع من الراوي فيه تقديم وتأخير، وقد سلمت رواية هشيم من ذلك، ولفظه: "صم في كل شهر ثلاثة أيام، قال: إنى أقوى من ذلك، فلم يزل يرفعني، حتى قال: صم يومًا، وأفطر يومًا انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رواية المصنّف سالمة من الاعتراض المذكور، خلاف مما يوهمه ما قاله السنديّ في "شرحه"

(1)

.

(قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ، أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:"صُمْ أَفْضَلَ الصِّيَامِ، صِيَامَ دَاوُدَ عليه السلام بنصب "صيام" على البدلية، أو البيان، أو بتقدير "أعني"، ويجوز رفعه على أنه خبر لمبتدإ محذوف، أي هو، ولا يجوز جرّه.

وفي رواية لمسلم: "فصم صوم داود نبيّ اللَّه عليه السلام، فإنه كان أعبد الناس". قال القرطبيّ: إنما أحاله على صوم داود، ووصفه بأنه كان أعبد الناس؛ لقوله تعالى:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17]، قال ابن عباس رضي الله عنهما:"الأَيْدُ" هنا القوة على العبادة، و"الأواب" الرجّاع إلى اللَّه تعالى، وإلى عبادته، وتسبيحه انتهى

(2)

(صَوْمُ يَوْمٍ، وَفِطْرُ يَوْمٍ") بالرفع على الخبرية لمحذوف، أي هو، ويجوز النصب، كما تقدّم فيَ الذي قبله.

وزاد في رواية: "ولا تزد عليه"، وفي أخرى:"قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا أفضل من ذلك"، وفي رواية: "ولكن أدلّك على صوم الدهر، ثلاثة أيام من الشهر"، قلت: يا رسول اللَّه، إني أطيق أكثر من ذلك، قال: "صم خمسة أيام"، قلت: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: "فصم عشرًا"، فقلت: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: "فصم صوم داود عليه السلام

". وفي رواية: "صوم يوما" -يعني من كل عشرة أيام- ولك أجر ما بقي"، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال:"صم يومين، ولك أجر ما بقي"، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال:"صم ثلاثة أيام، ولك أجر ما بقي"، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال:"صم أربعة أيام، ولك أجر ما بقي"، قال: إني

(1)

- راجع "شرح السنديّ" ج 4 ص 210.

(2)

- "المفهم" ج 3 ص 226.

ص: 307

أطيق أكثر من ذلك، قال:"صم أفضل الصيام عند اللَّه، صوم داود عليه السلام".

وهذا يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم -أمره بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ثم بستة، ثم بتسعة، ثم باثني عشر، ثم بخمسة عشر، فالظاهر من مجموع الروايات الواردة في الباب أنه أمره بالاقتصار على ثلاثة أيام من كلّ شهر، فلما قال: إنه يطيق أكثر من ذلك زاده بالتدريج إلى أن أوصله إلى خمسة عشر يومًا، فذكر بعض الرواة عنه ما لم يذكره الآخرون، ويدلّ على ذلك رواية عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عمرو، عند أبي داود:"فلم يزل يناقصني، وأناقصه".

ووقع عند المصنّف في رواية محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة الآتية -2393 - :"فصم من الجمعة يومين: الاثنين، والخميس". وهو فرد من أفراد ما تقدّم ذكره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-76/ 2388 و 2389 و 2390 و 2391 و 2392 و 2393 و 77/ 2394 و 2395 و 2396 و 78/ 2397 و 2398 و 2399 و 2400 و 2401 و 79/ 2402 و 80/ 2403 و 14/ 1630 و 69/ 2344 - وفي " الكبرى" 76/ 2696 و 2697 و 2698 و 2699 و 2670 و 26701 و 77/ 2702 و 2703 و 2704 و 78/ 2705 و 2706 و 2707 و 2708 و 2709 و 79/ 2710 و 80/ 2711 و 69/ 2653 و 22/ 1327.

وأخرجه (خ) في "الجمعة" 1131 و 1153 و"الصوم" 1974 و 1975 و 1976 و 1977 و 1978 و 1979 و 1980 و"أحاديث الأنبياء" 3418 و 3419 و 3420 "فضائل القرآن" 5052 و 5053 و 5054 و"النكاح" 5199 و"الأدب" 6134 و"الاستئذان" 6277 (م) في "الصيام" 1962 و 1963 و 1964 و 1966 و 1967 و 1968 و 1969 و 1970 و 1971 و 1972 و 1973 (د) في "الصلاة" 1388 و 1389 و1390 و 1391 و"الصوم" 2427 و 2448 (ت) في "الصوم"770 (ق) في "الصلاة" 1346 و"الصيام" 1706 و 1712 (أحمد) في "مسند المكثرين من الصحابة" 6441 و 6455 و 6470 و 6480 و 6491 و 6721 و 6725 و 6750 و 6793 و 6802 و 6823 و 6824 و 6834 و 6837 و 6875 و 6882 و 6984 و 7058 (الدارميّ) في 1752 و"فضائل القرآن"3486. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 308

(المسألة الثالثة): في فوائد حديث عبد اللَّه بن عَمْرٍو رضي الله عنه على اختلاف ألفاظه

(1)

:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أفضيلة صوم يوم، وإفطار يوم (ومنها): مشروعية قيام الأب بتزويج ابنه، ليصونه عن الوقوع في المحرمات (ومنها): تفقّد الأب ابنه في شأن زوجته؛ لئلا يضيع حقوقها (ومنها): يجوز للمرأة أن تشكو زوجها في عدم جماعها، ونحو ذلك؛ لئلا يلحقها ضرر بذلك (ومنها): شكوى الأب ابنه إلى وليّ الأمر إذا رأى منه تفريطًا في الحقوق؛ حفظا له عن المأثم (ومنها): تفقّد الإمام لأمور رعيته كلياتها، وجزئياتها، وتعليمهم ما يُصلحهم (ومنها): بيان رفق النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمته، وشفقته عليهم، وإرشاده إياهم إلى ما يُصلحهم، وحثه لهم على ما يطيقون الدوام عليه، ونهيهم عن التعمّق في العبادة؛ لما يُخشى من إفضائه إلى الملل المفضي إلى الترك، أو ترك البعض، وقد ذمّ اللَّه تعالى قومًا لازموا العبادة، ثم فرّطوا فيها (ومنها): الندب إلى الدوام على ما وظّفه الإنسان على نفسه من العبادة (ومنها): جواز الإخبار عن الأعمال الصالحة، والأوراد، ومحاسن الأعمال، ولا يخفى أن محلّ ذلك عند أمن الرياء (ومنها): الحضّ على ملازمة العبادة؛ لأنه- صلى الله عليه وسلم مع كراهته لعبد اللَّه بن عمرو تشدّده على نفسه حضّه على الاقتصاد، كانه قال له: ولا يمنعك اشتغالك بحقوق من ذكر من النفس، والأهل، والأضياف أن تضيّع حقّ العبادة، وتتروك المندوب جملة، ولكن اجمع بينهما. (ومنها): أنه لا يجوز للإنسان أن يُجهد نفسه بالعبادة حتى يَضعُف عن القيام بحقوق زوجته، من الجماع، والاكتساب.

وقد اختلف العلماء فيمن كفّ عن جماع زوجته، فقال مالك: إن كان بغير ضرورة أُلزم به، أو يفترق بينهما، ونحوه عن أحمد، والمشهور عند الشافعيّة أنه لا يجب عليه. وقيل: يجب مرّة. وعن بعض السلف في كلّ أربع ليلة. وعن بعضهم في كل طهر مرّة

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي ما ذهب إليه مالك، وأحمد من وجوب جماعها؛ لأن هذا من المعاشرة بالمعروف التي أوجبها اللَّه تعالى بقوله:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية [النساء: 19]، وقال أيضًا:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} الآية [البقرة: 231]، وسيأتي تمام البحث في ذلك في موضعه من "كتاب النكاح"، إن شاء اللَّه تعالى.

(ومنها): جواز القَسَمِ على التزام العبادة، وفائدته الاستعانة باليمين على النشاط لها،

(1)

- ليس المراد فوائد هذا المتن الذي شرحته الآن، بل فوائد الحديث بجميع طرقه المختلفة التي ذكرها المصنّف في الروايات الآتية، أو زيدت في الشرح.

(2)

- فتح ج10ص 374.

ص: 309

وأن ذلك لا يخلّ بصحة النية، والإخلاص فيها (ومنها): أن اليمين على التزام العبادة لا يُلحقها بالنذر الذي يجب الوفاء به (ومنها): جواز الحلف من غير استحلاف (ومنها): أن النفل المطلق لا ينبغي تحديده، بل يختلف الحال باختلاف الأشخاص، والأوقات، والأحوال (ومنها): جواز التفدية بالأب والأمّ (ومنها): الإشارة إلى الاقتداء بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في أنواع العبادات (ومنها): أن طاعة الوالد لا تجب في ترك العبادة، ودهذا احتاج عمرو إلى شكوى ولده عبد اللَّه، ولم ينكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ترك طاعته لأبيه في ذلك (ومنها): زيارة الفاضل للمفضول في بيته (ومنها): إكرام الضيف بإلقاء الفُرُش، ونحوها تحته، وتواضع الزائر بجلوسه دون ما يفرش له، وأنه لا حرج عليه في ذلك، إذا كان على سبيل التواضع والإكرام للمزور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2390 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو حَصِينٍ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: زَوَّجَنِي أَبِي امْرَأَةً، فَجَاءَ يَزُورُهَا، فَقَالَ: كَيْفَ تَرَيْنَ بَعْلَكِ، فَقَالَتْ: نِعْمَ الرَّجُلُ، مِنْ رَجُلٍ، لَا يَنَامُ اللَّيْلَ، وَلَا يُفْطِرُ النَّهَارَ، فَوَقَعَ بِي، وَقَالَ: زَوَّجْتُكَ امْرَأَةً، مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَعَضَلْتَهَا،

قَالَ: فَجَعَلْتُ لَا أَلْتَفِتُ إِلَى قَوْلِهِ، مِمَّا أَرَى عِنْدِي، مِنَ الْقُوَّةِ وَالاِجْتِهَادِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«لَكِنِّي أَنَا أَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، فَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ» ، قَالَ:«صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ، فَقُلْتُ: أَنَا

(1)

أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:«صُمْ صَوْمَ دَاوُدَ عليه السلام، صُمْ يَوْمًا، وَأَفْطِرْ يَوْمًا» ، قُلْتُ: أَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:"اقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ» ، ثُمَّ انْتَهَى إِلَى خَمْسَ عَشْرَةَ"، وَأَنَا أَقُولُ أَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو:"أبو حَصِين" -بفتح أوله، وكسر ثانيه- هو اليربوعيّ الكوفيّ، ثقة [11] 65/ 2320 فإنه ممن انفرد به هو والترمذيّ.

و"عبثر": هو ابن القاسم الزُّبَيديّ الكوفيّ، ثقة [8] 90/ 1164.

و"حُصين": هو ابن الرحمن.

وقوله: "فوقع بي": أي سَبَّني، يقال: وقع فلان في فلان وُقُوعًا، ووَقِيعةً: إذا سبَّه، وثَلَبَه. أفاده في "المصباح".

وقوله: "ثم انتهى إلى خمس عشرة الخ" هذه الرواية فيها اختصار، وسيأتي في

(1)

- وفي نسخة: "إني".

ص: 310

الرواية الآتية من طريق أبي العباس الشاعر، عن عبد اللَّه بن عمرو ما يوضّح ذلك، ولفظه:"اقرإ القرآن في شهر، قلت: إني أطيق أكثر من ذلك، فلم أزل أطلب إليه، حتى قال: في خمسة أيام"

" الحديث.

وفي رواية الدارميّ في "مسنده" من طريق أبي فروة

(1)

، عن عبد اللَّه بن عمرو: قال: "قلت: يا رسول اللَّه في كم أختم القرآن؟ قال: اختمه في شهر، قلت: إني أطيق، قال: اختمه في خمسة وعشرين، قلت: إني أطيق، قال: اختمه في عشرين، قلت: إني أطيق، قال: اختمه في خمس عشرة، قلت: إني أطيق، قال: اختمه في خمس، قلت: إني أطيق، قال: لا".

وفي رواية: "قال: فاقرأه في كلّ شهر، قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال: فاقرأه في كلّ عشرة أيام، قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال: فاقرأه في كلّ ثلاث".

وعند أبي داود والترمذيّ مصححًا من طريق يزيد بن عبد اللَّه بن الشّخّير، عن عبد اللَّه ابن عمرو، مرفوعًا:"لا يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث"، وشاهده عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح من وجه آخر عن ابن مسعود:"اقرؤوا القرآن في سبع، ولا تقرؤوه في أقلّ من ثلاث"، ولأبي عبيد من طريق الطيب بن سلمان، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم -كان لا يختم القرآن في أقلّ من ثلاث".

ولأبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ من طريق وهب بن منبه، عن عبد اللَّه بن عمرو أنه سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في كم يقرأ القرآن؟ قال:"في أربعين يومًا"، ثم قال:"في شهر"، ثم قال:"في عشرين"، ثم قال:"في خمس عشرة"، ثم قال:"في عشر"، ثم قال:"في سبع"، ثم لم ينزل عن سبع.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا إن كان محفوظًا احتمل في الجمع بينه، وبين رواية أبي فَرْوة تعدد القصّة، فلا مانع أن يتعدد قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد اللَّه بن عمرو ذلك تأكيدًا، ويؤيده الاختلافُ الواقع في السياق.

[تنبيه]: قراءة القرآن في ثلاث هو اختيار أحمد، وأبي عبيد، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم، وثبت عن كثير من السلف أنهم قرؤو القرآن في دون ذلك، قال النوويّ: والاختيار أن ذلك يختلف بالأشخاص، فمن كان من أهل الفهم، وتدقيق الفكر استُحبّ له أن يقتصر على القدر الذي لا يُخلّ به المقصود، من التدبّر، واستخراج المعاني،

(1)

- أبو فروة اسمه عروة بن الحارث، الهمدانيّ الكوفيّ ثقة من الخامسة.

ص: 311

وكذا من كان له شغل بالعلم، أو غيره، من مهمات الدين، ومصالح المسلمين العامّة يستحبّ له أن يقتصر منه على القدر الذي لا يُخلّ بما هو فيه، ومن لم يكن كذلك، فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل، ولا يقرؤه هذرمة. واللَّه أعلم انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "فالأولى له الاستكثار ما أمكنه الخ" فيه نظر، بل الأولى له التقيّد بما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم من عدم تجاوز الثلاث. واللَّه تعالى أعلم.

وقال الحافظ في موضع آخر: وكأن النهي عن الزيادة ليس على التحريم، كما أن الأمر في جميع ذلك ليس للوجوب، وعُرف ذلك من قرائن الحال التي أرشد إليها السياق، وهو النظر إلى عجزه عن سوى ذلك في الحال، أو في المآل.

وأغرب بعض الظاهريّة، فقال: يحرم أن يقرأ القرآن في أقلّ من ثلاث. وقال النوويّ: أكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك، وإنما هو بحسب النشاط والقوّة، فعلى هذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في هذا الكلام نظر من أوجه:

(أحدها): أن قوله: وكأن النهي ليس للتحريم، وتشبيهه بالأمر غير صحيح، لأنه ليس هنا قرينة تدلّ على أنه ليس للتحريم، بل القرائن كلها إنما تدلّ على عدم كون الأمر للوجوب، كما لا يخفى لمن تأمل.

و (الثاني): قوله: "وأغرب بعض الظاهرية الخ" هذا عجيب منه، فهل يوصف من كان ظاهر النصوص معه بأنه يُغرب، بل الذي يُغرب هو الذي خالف ظواهر النصوص المتقدّمة، وتأولها بما يخرجها عن موضوعها.

(والثالث): قول النوويّ: إنما هو بحسب النشاط، والقوّة عجيب أيضًا، فهل هناك نشاط أكثر من نشاط عبد اللَّه بن عمرو الذي شدّد، فشدّد النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، فنهاه أن يقرأ في أقلّ من ثلاث؟، وهل بعد صحة قوله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث ابن مسعود-:"لا تقرؤوه في أقلّ من ثلاث" مجال لتعليق الأمر على النشاط؟ فهيهات هيهات.

(والرابع): قوله أيضًا: "أكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك" غريبٌ، فهل كثرة

القائلين مع مخالفة النصّ الصريح لهم تكون حجة، كلاّ، وإنما الحجة في قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تقرؤوا القرآن في أقلّ من ثلاث"، فقط، وأما الأكثرون، فيُعتذر لهم بعدم ثبوت الخبر لديهم، أو نحو ذلك.

والحاصل أن قراءة القرآن في أقلّ من ثلاث ممنوع؛ لصحة الأدلة بذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

ص: 312

والحديث صحيح، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2391 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ دُرُسْتَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُجْرَتِي، فَقَالَ:«أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ؟» ، قَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَلَا تَفْعَلَنَّ، نَمْ وَقُمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ، فَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجَتِكَ

(1)

عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِصَدِيقِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَطُولَ بِكَ عُمُرٌ، وَإِنَّهُ حَسْبُكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثًا، فَذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا» ، قُلْتُ إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قَالَ:«صُمْ مِنْ كُلِّ جُمُعَةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ، قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قَالَ:«صُمْ صَوْمَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السلام» ، قُلْتُ: وَمَا كَانَ صَوْمُ دَاوُدَ؟ ، قَالَ:«نِصْفُ الدَّهْرِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يحيى بن دُرُست" -بضمتين، وسكون المهملة- البصريّ، ثقة [10] 23/ 24. و"أبو إسماعيل": هو إبراهيم بن عبد الملك القَنّاد البصريّ، صدوق في حفظه شيء [7] 23/ 24.

و"أبو سلمة": هو ابن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ الفقيه الثبت.

وقوله: "ألم أُخْبَر الخ" -بضم الهمزة، وسكون المعجمة، وفتح الموحّدة، مبنيًا

للمفعول، وهمزة "ألم" للاستفهام، ولكنه خرج عن الاستفهام الحقيقيّ، فمعناه هنا حمل المخاطب على الإقرار بأمر، قد استقرّ عنده ثبوته.

وفيه أن الحكم لا ينبغي إلا بعد التثبّت؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكتف بما نُقل له عن عبد اللَّه حتى لقيه، واستثبته فيه؛ لاحتمال أن يكون قال ذلك بغير عزم، أو علّقه بشرط لم يطّلع عليه الناقل، ونحو ذلك. قاله في "الفتح"

(2)

.

ثم إن الذي أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم -بذلك هو عمرو بن العاص والد عبد اللَّه رضي الله عنهما، كما بينته الرواية السابقة.

وقوله" نَمْ" بفتح النون.

وقوله: "فَإِن لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) بالإفراد، وفي رواية بالتثنية، وذلك لأنه من المعلوم نقصان قوة الباصرة من دوام الصوم والسهر.

وقوله: (وَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا): أي بأن ترعاه، وترفق به، ولا تضرّه حتى تُقعَد

(1)

وفي نسخة: "لزوجاتك".

(2)

- "فتح" ج 3 ص 350.

ص: 313

عن القيام بالفرائض ونحوها.

وقوله: (وَإِنَّ لِزَوْجَتِكَ عَلَيْكَ حَقًّا): أي في الوطء، فإذا سرد الزوج الصوم، ووالى القيام في الليل ضعف عن حقها.

وقوله: (وإِن لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حقًّا): أي في البسط، والمؤانسة، وغيرهما، فيعجز بالصام والقيام عن حسن معاشرته، والقيام بخدمته، ومجالسته، إما لضعف البدن، أو لسوء خلقه، أو يدخل الوحشة عليه بعدم الأكل معه بسبب صومه.

وقوله: (وَإِنَّ لِصَدِيقِكَ عَلَيْكَ حقًّا): من عطف الخاصّ على العامّ.

وفي رواية: "ولأهلك حقا" والمراد بالأهل هنا الأولاد، والقرابة، وحقهم هو الرفق بهم، والانفاق عليهم، ومؤاكلتهم، وتأنيسهم، وملازمةُ ما التزم من سرد الصوم، وقيام الليل يؤدي إلى امتناع تلك الحوق كلها، ويفيد أن الحقوق إذا تعارضت قُدّم الأولى. قاله القرطبيّ

(1)

.

وقوله: "فشددتُ، فشُدِّد عليّ" الأول بالبناء للفاعل، والثاني بالبناء للمفعول، يعني أنه شدد في مطالبة النبيّ صلى الله عليه وسلم -بالزيادة، وشدد صلى الله عليه وسلم عليه في مطالبة التنقيص.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2392 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ يَقُولُ: لأَقُومَنَّ اللَّيْلَ، وَلأَصُومَنَّ النَّهَارَ، مَا عِشْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:: «أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ ذَلِكَ؟» ، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» ، قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «صُمْ يَوْمًا، وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ» ، فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَصُمْ يَوْمًا، وَأَفْطِرْ يَوْمًا، وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ، وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ». قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلَاثَةَ الأَيَّامَ، الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو

(1)

- "المفهم" ج3 ص 225.

ص: 314

مصريّ، ثقة.

وقوله: "لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام الخ" كذا في رواية لمسلم، وفي لفظ للبخاريّ:"وكان عبد اللَّه يقول بعد ما كَبِرَ: يا ليتني قبدت رخصة النبيّ صلى الله عليه وسلم"، ولمسلم: قال: فصرت إلى الذي قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

ومعنى كلامه هذا: أنه كبر، وعجز عن المحافظة على ما التزمه، ووظّفه على نفسه عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فشقّ عليه فعله لعجزه، ولم يعجبه أن يتركه لالتزامه له، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"يا عبد اللَّه لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل"، فتمنى أن لو قبل الرخصة، فأخذ بالأخفّ.

ومع عجزه، وتمنّيه الأخذ بالرخصة لم يترك العمل بما التزمه، بل صار يتعاطى فيه نوع تخفيف، فقد ثبت عنه أنه كان حين ضعف، وكبر يصوم تلك الأيام كذلك، يصل بعضها إلى بعض، ثم يفطر بعدد تلك الأيام، فيقوى بذلك، وكان يقول: لأن أكون قبلت الرخصة أحبّ إليّ مما عُدل به، لكنني فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا إنما قاله عبد اللَّه لما انتهى من العمر إلى الكبر الذي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أخبره به بقوله: "إنك لا تدري لعله يطول بك عمر"، قال: فصرت للذي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فلما كبرتُ وددتُ أني كنت قبلت رخصة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهذا من عبد اللَّه يدلّ على أنه كان قد التزم الأفضل مما نقله إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، والأكثر، إما بحكم التزامه الأول، إذ قال: لأصومنّ الدهر، ولأقومنّ الليل ما عشتُ، وإما بحكم أنه هو الحال الذي فارق النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، وكره أن ينقص من عمل فارق النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، فلم ير أن يرجع عنه، وإن كان قد ضعف عنه. واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

والحديث متّفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2393 -

(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -وَهُوَ ابْنُ سَلَمَةَ- عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قُلْتُ: أَيْ عَمِّ حَدِّثْنِي، عَمَّا قَالَ: لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنِّي كُنْتُ أَجْمَعْتُ

(1)

- "فتح" ج 4 ص 739 - 740.

(2)

- "المفهم" ج 3 ص 227 - 228.

ص: 315

عَلَى أَنْ أَجْتَهِدَ، اجْتِهَادًا شَدِيدًا، حَتَّى قُلْتُ: لأَصُومَنَّ الدَّهْرَ، وَلأَقْرَأَنَّ الْقُرْآنَ، فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَانِي، حَتَّى دَخَلَ عَلَيَّ فِي دَارِي، فَقَالَ:«بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ: لأَصُومَنَّ الدَّهْرَ، وَلأَقْرَأَنَّ الْقُرْآنَ» ، فَقُلْتُ: قَدْ قُلْتُ: ذَلِكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ، قُلْتُ: إِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:«فَصُمْ مِنَ الْجُمُعَةِ، يَوْمَيْنِ الاِثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسَ» ، قُلْتُ: فَإِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:«فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ عليه السلام، فَإِنَّهُ أَعْدَلُ الصِّيَامِ، عِنْدَ اللَّهِ، يَوْمًا صَائِمًا، وَيَوْمًا مُفْطِرًا، وَإِنَّهُ كَانَ إِذَا وَعَدَ لَمْ يُخْلِفْ، وَإِذَا لَاقَى لَمْ يَفِرَّ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن بكّار": هو الحرّانيّ، صدوق، من أفراد المصنّف. و"محمد بن سلمة": هو الحرّانيّ أيضًا.

و"ابن إسحاق": هو محمد صاحب المغازي. و"محمد بن إبراهيم": هو التيميّ. وكلهم من رجال الصحيح، غير شيخه.

وقوله: "يومًا صائمًا الخ" منصوب على أنه خبر "يكون" مقدرًا، أي يكون داود يومًا صائمًا، ويكون يومًا مفطرًا، ويحتمل أن يكون خطابًا لعبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، أي تكون يومًا صائمًا، ويومًا مفطرًا.

وقوله: "كان إذا وعد لم يُخلف" هذه الزيادة لم تذكر في غير هذا الطريق، بل المذكور قوله:"ولا يفرّ إذا لاقى".

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ولها مناسبة بالمقام، وإشارة إلى أن سبب النهي خشية أن يعجز عن الذي يلزمه، فيكون كمن وعد، فأخلف، كما أن في قوله:"ولا يفرّ إذا لاقى" إشارة إلى حكمة صوم يوم، وفطر يوم.

وقال الخطابي -رحمه اللَّه تعالى-: محصّل قصّة عبد اللَّه بن عمرو أن اللَّه تعالى لم يتعبّد عبده بالصوم خاصّة، بل تعبّده بأنواع من العبادات، فلو استفرغ جهده لقصّر في غيره، فالأولى الاقتصاد فيه؛ ليستبقي بعض القوّة لغيره، وقد أشير إلى ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في داود عليه السلام:"وكان لا يفرّ إذا لاقى"؛ لأنه كان يتقوّى بالفطر؛ لأجل الجهاد. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "ولا يفرّ إذا لاقى" تنبيه على أن صوم يوم، وإفطار يوم لا يُضعُف ملتزمه، بل يحفظ قوّته، ويجدُ من الصوم مشقّته، كما قدمناه، وذلك بخلاف سرد الصوم، فإنه يُنهك البدن والقوّة، ويزيل روح الصوم؛ لأنه يعتاده،

(1)

- "فتح" ج 4 ص 742.

ص: 316

فلا يُبالي به، ولا يجد له معنى. انتهى

(1)

.

والحديث في إسناده عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلسٌ، لكن يشهد له ما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌77 - (ذِكْرُ الزِّيَادَةِ فِي الصِّيَامٍ، وَالنُّقْصَانِ مِنَ الأَجْرِ، وَذِكْرُ اخْتِلافِ النَّاقِلِينَ لِخَبِرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا ترجمة "الكبرى" بزيادة لفظة "من الأجر"، ولم يقع في نسخ "المجتبى"، ولا بدّ منه، لأن حذفه يوهم أن النقصان من الصوم أيضًا، وليس كذلك، بل المراد أن الزيادة في الصيام، مع النقص في الأجر.

ووجه الاختلاف المذكور، أن في رواية أبي عياض قال:"صم يومًا، ولك أجر ما بقي"، ولم يقيده بعشرة، ولا بشهر، وخالف ابن أبي ربيعة، فرواه مقيّدًا، فقال:"صم من كلّ عشرة أيام يومًا، ولك أجر تلك التسعة الخ، وخالفه شعيب، فقال: "صم يوما، ولك أجر عشرة الخ".

لكن الذي يظهر أنه لا اختلاف في الحقيقة، فرواية أبي عياض المطلقة تحمل على الرواية المفسّرة، وأما رواية شعيب فمعنى قوله:"صم يومًا، ولك أجر عشرة" أي مع أجر يوم الصوم، وكذلك ما بعده. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2394 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ فَيَّاضٍ، سَمِعْتُ أَبَا عِيَاضٍ يُحَدِّثُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لَهُ «صُمْ يَوْمًا، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ» ، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنَ ذَلِكَ، قَالَ:«صُمْ يَوْمَيْنِ، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ» ، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:«صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ» ، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:«صُمْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ» ، قَالَ:

(1)

-"المفهم" ج 3 ص 226.

ص: 317

إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:«صُمْ أَفْضَلَ الصِّيَامِ عِنْدَ اللَّهِ، صَوْمَ دَاوُدَ عليه السلام، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"محمد": هو ابن جعفر، غندر.

و"زياد بن فياض": الخُزاعيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقة عابد [6].

قال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة، وهو أحبّ إليّ من زياد بن عِلَاقة. وقال أبو زرعة: شيخ. وقال يعقوب بن سفيان: كوفيّ ثقة ثقة. وقال ابن خلفون: وثقه ابن نُمير، وعلي ابن المدينيّ، وغيرهما. وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال: مات سنة (129).

روى له مسلم، وأبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده برقم 2403.

و"أبو عياض": ويقال: أبو عبد الرحمن، عمرو بن الأسود الْعَنسيّ -بالنون- ويقال: الهمدانيّ، الدمشقيّ، ويقال: الحمصيّ، سكن دَارِيَا، ويقال له: عُمير بن الأسود أيضًا -مصغّرًا-، مخضرم ثقة عابد، من كبار التابعين.

قال ضمرة بن حبيب: مَرّ عمرو بن الأسود على عمر بن الخطاب، فقال: من سرّه أن ينظر إلى هدي محمد صلى الله عليه وسلم فلينظر هدي هذا. وقال محمد بن عوف: عمرو بن الأسود يُكنى أبا عياض، وهو والد حكيم بن عمير. وقيل: إن أبا عياض الذي يروي عنه زياد بن فيّاض والعراقيون رجل آخر. كذا حكى ابن أبي حاتم، عن أبيه، وقال: اسمه مسلم بن نُذير. وقيل: إن أبا عياض اسمه قيس بن ثعلبة، حكاه النسائيّ في "الكنى"، والحاكم أبو أحمد. وقال ابن حبّان في "الثقات": عُمير بن الأسود كان من عُبّاد أهل الشام، وزُهّادهم، وكان يُقسم على اللَّه فيُبرّه. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وروى الحاكم في "الكنى" من طريق مجاهد، قال: حدثنا أبو عياض في خلافة معاوية. وقال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنه كان من العلماء الثقات، مات في خلافة معاوية. وذكره أبو موسى المدينيّ في "ذيل الصحابة"، وحكاه عن ابن أبي عاصم أنه ذكره فيهم، قال أبو موسى: وليس بصحابيّ، إنما يَروي عن الصحابة. وحكى ابن أبي خيثمة، عن مجاهد أنه قال: ما رأيت بعد ابن عباس أعلم من أبي عياض

(1)

.

وروى الطبرانيّ في "مسند الشاميين" من طريق أرطأة بن المنذر، حدثنا رُزيق أبو عبد اللَّه

(1)

- روى الحسن بن عليّ الحلوانيّ في "كتاب المعرفة" هذا الكلام عن مجاهد أيضًا بإسناد صحيح.

ص: 318

الألهانيّ أن عمرو بن الأسود قدم المدينة، فرآه عبد اللَّه بن عمر يصلي، فقال: من سرّه أن ينظر إلى أشبه الناس برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلينظر إلى هذا. روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله عند المصنف في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وفي "كتاب الأشربة" حديث رقم 5652.

وقوله: "صم يوما، ولك أجر ما بقي" أي صم من كلّ عشرة أيام يومًا واحدًا، ولك أجر عشرة أيام.

قال الحافظ: هذا يقتضي أنه أمره بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ثم بستة، ثم بتسعة، ثم باثني عشر، ثم بخمسة عشر، فالظاهر أنه أمره بالاقتصار على ثلاثة أيام من كلّ شهر، فلما قال: إنه يطيق أكثر من ذلك زاده بالتدريج إلى أن وصله إلى خمسة عشر يومًا، فذكر بعض الرواة عنه ما لم يذكره الآخر، ويدلّ على ذلك رواية عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عمرو عند أبي داود:"فلم يزل يناقصني، وأناقصه". انتهى

(1)

.

وقد استُشكل قولُهُ: "صم من كلّ عشرة أيام يومًا، ولك أجر ما بقي " مع قوله: "صم من كل عشرة أيام يومين، ولك أجر ما بقي الخ"، لأنه يقتضي الزيادة في العمل، والنقص من الأجر، وبذلك ترجم المصنّف هذا الباب.

وأجيب بأن المراد لك أجر ما بقي بالنسبة إلى التضعيف. قال عياض: قال بعضهم: معنى "صم يومًا، ولك أجر ما بقي" أي من العشرة، وقوله:"صم يومين، ولك أجر ما بقي" أي من العشرين، وفي الثلاثة ما بقي من الشهر، وحمله على ذلك استبعاد كثرة العمل، وقلّة الأجر.

وتعقّبه عياض بأن الأجر إنما اتحد في كل ذلك لأنه كان نيته أن يصوم جميع الشهر، فلما منعه صلى الله عليه وسلم من ذلك إبقاء عليه لما ذكر بقي أجر نيته على حاله، سواء صام منه قليلاً، أو كثيرًا، كما تأوله في حديث:"نية المرء خير من عمله"، أي إن أجره في نيته أكثر من أجر عمله؛ لامتداد نيته بما لا يقدر على عمله انتهى.

قال الحافظ: والحديث المذكور ضعيف، وهو في "مسند الشهاب"، والتأويل المذكور لا بأس به.

ويحتمل أيضًا إجراء الحديث على ظاهره، والسبب فيه أنه كلما ازداد من الصوم ازداد من المشقّة الحاصلة بسببه المقتضية لتفويت بعض الأجر الحاصل من العبادات التي قد يفوّتها مشقّة الصوم، فينقص الأجر باعتبار ذلك.

(1)

-" فتح" ج 4 ص 739.

ص: 319

على أن قوله في نفس الخبر: "صم أربعة أيام، ولك أجر ما بقي" يردّ الحمل الأول، فإنه يلزم منه على سياق التأويل المذكور أن يكون التقدير: ولك أجر أربعين، وقد قيّده في نفس الحديث بالشهر، والشهر لا يكون أربعين.

وكذلك قوله في رواية المصنّف التالية من طريق ابن أبي ربيعة، عن عبد اللَّه بن عمرو بلفظ:"صم من كلّ عشرة أيام يومًا، ولك أجر تلك التسعة"، ثم قال:"صم من كلّ تسعة أيام يومًا، ولك أجر تلك الثمانية"، ثم قال:"من كلّ ثمانية أيام يومًا، ولك أجر السبعة"، قال: فلم يزل، حتى قال:"صم يومًا، وأفطر يومًا"، وله من طريق شعيب بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو، عن جدّه بلفظ:"صم يومًا، ولك أجر عشرة"، قلت: زدني، قال:"صم يومين، ولك أجر تسعة"، قلت: زدني، قال:"صم ثلاثة، ولك أجر ثمانية". فهذا يدفع في صدر التأويل الأول، واللَّه أعلم. أفاده في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأقرب عندي حمل الحديث على ظاهره، وهو الاحتمال الأخير الذي مرّ آنفًا في "الفتح"، وإنما نقص الأجر مع زيادة العمل؛ لما ذُكِرَ من ترتب تفويت بعض العبادات بسبب مشقة الصوم. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2395 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَلَاءِ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: ذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّوْمَ، فَقَالَ: «صُمْ مِنْ كُلِّ عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، وَلَكَ أَجْرُ تِلْكَ التِّسْعَةِ» ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «صُمْ مِنْ كُلِّ تِسْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، وَلَكَ أَجْرُ تِلْكَ الثَّمَانِيَةِ» ، قُلْتُ: إِنِّي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «فَصُمْ مِنْ كُلِّ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، وَلَكَ أَجْرُ تِلْكَ السَّبْعَةِ» ، قُلْتُ: إِنِّي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ، حَتَّى قَالَ: «صُمْ يَوْمًا، وَأَفْطِرْ يَوْمًا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"أبو العلاء": هو يزيد بن عبد اللَّه بن الشّخّير، أخو مطرّف.

و"ابن أي ربيعة": هو الحارث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة، ويقال: ابن عياش بن أبي ربيعة عَمْرو بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عُمَر بن مخزوم المخزوميّ المكيّ، أمير الكوفة، المعروف بـ"القُبَاع" -بضم القاف، وتخفيف الموحدة- صدوق [2].

قال الزبير بن بكّار: استعمله ابن الزبير على البصرة، فرأى مكيالاً، فقال: إن مكيالكم هذا لقُبَاع، فلقّبوه به. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، رَوَى عن عمر.

(1)

- "فتح" ج 4 ص 739.

ص: 320

وذكره بعض من ألف في الصحابة. وذكره ابن معين في تابعي أهل مكة. وذكره ابن حبّان في ثقات التابعين. وقال ابن سعد: كانت ولايته على البصرة سنةٌ، واستعمل ابنُ الزبير بعده أخاه مصعبًا. وقال المبرد: القُبَاع -بالتخفيف- الذي يُخفِي ما فيه. روى له مسلم، وأبو داود في "المراسيل"، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا 2395 و 2879 حديث "يُبعث جند إلى هذا الحرم .. " الحديث.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2396 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ ح وَأَخْبَرَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صُمْ يَوْمًا، وَلَكَ أَجْرُ عَشْرَةٍ» ، فَقُلْتُ: زِدْنِي. فَقَالَ: «صُمْ يَوْمَيْنِ، وَلَكَ أَجْرُ تِسْعَةٍ» ، قُلْتُ زِدْنِي. قَالَ: «صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَكَ أَجْرُ ثَمَانِيَةٍ» ، قَالَ ثَابِتٌ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُطَرِّفٍ، فَقَالَ: مَا أُرَاهُ إِلاَّ يَزْدَادُ فِي الْعَمَلِ، وَيَنْقُصُ مِنَ الأَجْرِ، وَاللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن إسماعيل بن إبراهيم": هو المعروف أبوه بـ"ابن عُليّة. و"زكريا بن يحيي": هو السِّجزيّ المعروف بـ"خياط السنّة". و"يزيد": هو ابن هارون الواسطيّ.

و"عبد الأعلى": هو ابن حماد بن نصر الباهليّ مولاهم البصريّ، أبو يحيى المعروف بـ"النَّرْسيّ" -بفتح النون، وسكون الراء، وبالهملة- لا بأس به، من كبار [10].

قال ابن معين: النرسيّان

(1)

ثقات، وقال مرّة: لا بأس بهما. وقال أبو حاتم: ثقة. وقال صالح بن محمد، وابن خراش: صدوق. وقال النسائيّ: ليس به بأس. ووثقه ابن قانع، والدارقطنيّ، ومسلمة بن قاسم، والخليليّ. وذكره ابن حبان في "الثقات". مات في جمادى الآخرة سنة (237). أخرج له البخاريّ، وأبو داود، والمصنّف، وله عنده ستة أحاديث برقم 2396 و 2408 و 5407 و 5678 و 5708 و 5722.

و"حماد": هو ابن سلمة. و"ثابت": هو ابن أسلم البُنَانيّ. و"شعيب بن عبد اللَّه": هو شعيب بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، نسب لجدّه.

وقوله: "مما أراه الخ" أراد مطرّف بهذا الكلام أن المراد زيادة العمل، ونقصان الأجر، فإنه إذا صام يومين، وأعطي أجر تسعة كان أنقص ممن صام يومًا، وأعطي أجر عشرة

(1)

- لعله أراد بالنرسيين: عبد الأعلي بن حماد، والعباس بن الوليد.

ص: 321

أيام، وهكذا.

وقوله: "واللفظ لمحمد" يعني أن لفظ الحديث المذكور لشيخه محمد بن إسماعيل، وأما شيخه زكريا فرواه بالمعنى.

[تنبيه]: زاد في "الكبرى" في آخر هذا الحديث: ما نصّه: قال أبو عبد الرحمن: زاد بعضهم على بعض انتهى، ولم يذكر:"واللفظ لمحمد". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌78 - (صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَاخْتِلَافِ أَلْفَاظِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِيهِ)

2397 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلاَّ الْخَيْرَ، قَالَ:«لَا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ، وَلَكِنْ أَدُلُّكَ عَلَى صَوْمِ الدَّهْرِ، ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، مِنَ الشَّهْرِ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:«صُمْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ» ، قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:«فَصُمْ عَشْرًا» ، فَقُلْتُ

(1)

: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:«صُمْ صَوْمَ دَاوُدَ عليه السلام، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه "محمد بن عبيد" أبي جعفر النحاس الكوفيّ، وهو صدوق [10] 144/ 226.

و"أسباط": هو ابن محمد، أبو محمد القرشيّ الكوفيّ، ثقة [9] 92/ 1349.

و"مطرّف": هو ابن طَريف الكوفيّ، ثقة فاضل، من صغار [6] 2/ 327.

و"أبو العباس": هو السائب بن فَرُّوخ الشاعر المكيّ.

(1)

- وفي نسخة: "قلت".

ص: 322

وقوله: "ولم أُرِد إلا الخير" يعني أنه ما أراد بهذه العبادة إلا وجه اللَّه تعالى، لا رياء، ولا سمعة.

والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2398 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ، عَنْ شُعْبَةَ،، عَنْ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاسِ، وَكَانَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَكَانَ شَاعِرًا، وَكَانَ صَدُوقًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ: لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

وَسَاقَ الْحَدِيثَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه "عليّ بن الحسين" الدِّرْهميّ البصريّ، وهو صدوق، من كبار [11] 17/ 1547.

و"أُمَيَّة": هو ابن خالد القيسيّ البصريّ، أخو هُدْبة، أكبر منه، صدوق [9] 42/ 1906.

وقوله: "وكان رجلاً من أهل الشام الخ". ولفظ البخاريّ من رواية آدم بن أبي إياس، عن شعبة:"سمعت أبا العباس المكيّ، وكان شاعرًا، وكان لا يتّهم في حديثه".

قال في "الفتح": فيه إشارة إلى أن الشاعر بصدد أن يُتّهم في حديثه لما تقتضيه صناعته من سلوك المبالغة في الإطراء وغيره، فأخبر الراوي عنه أنه مع كونه شاعرًا كان غير متهم في حديثه.

وقوله: "في حديثه" يحتمل مرويه من الحديث النبويّ، ويحتمل فيما هو أعمّ من ذلك، والثاني أليق، وإلا لكان مرغوبًا عنه، والواقع أنه حجة عند كلّ من أخرج الصحيح، وأفصح بتوثيقه أحمد، وابن معين، وآخرون، وليس له في البخاريّ سوى هذا الحديث، وحديثين آخرين: أحدهما في "الجهاد"، والآخر في "المغازي"، وأعادهما معًا في "الأدب" انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وليس له عند المصنّف إلا حديث عبد اللَّه بن عمرو هذا، وحديثه الآخر في "الجهاد" في استئذان رجلِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقاله:"أَحَيٌّ والداك" الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2399 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ، هُوَ الشَّاعِرُ، يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

(1)

-"فتح" ج 4 ص 746.

ص: 323

بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، إِنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ، وَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، هَجَمَتِ الْعَيْنُ، وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ، صَوْمُ الدَّهْرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، مِنَ الشَّهْرِ، صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ» ، قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:«صُمْ صَوْمَ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدموا غير مرّة. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ.

وقوله: "هجمت العين": أي غارت، ودخلت في موضعها. وقال القرطبيّ: وتحقيقه: هجمت على الضرر دفعة واحدةً، فإن الْهَجْم هو أخذ الشيء بسرعة بغتةً.

ويحتمل أن يكون معناه: هجمت العين عليه بغلبة النوم لكثرة السهر السابق، فينقطع عما التزم، فيدخل في ذمّ من ابتدع رَهْبانيّة، ولم يُرَاعها، وكما قال له:"يا عبد اللَّه لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل" انتهى

(1)

.

وقوله: "ونفِهَت له النفس" بكسر الفاء: أي تَعِبَت، وكَلت، وضَعُفت عن القيام بالواجبات.

قال في "الفتح": ووقع في رواية النسفيّ: "نَثِهَت" بالمثلثة بدل الفاء، وقد استغربها ابن التين، فقال: لا أعرف معناها. قال الحافظ: وكأنها أبدلت من الفاء، فإنها تبدل منها كثيرًا. وفي رواية الكشميهني بدلها:"ونَهِكَت": أي هزلت، وضعفت. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: وقع في "الكبرى": "هجعت العين، -بالعين بدل الميم- "وتعمدت له النفس" بدل "نفهت" والظاهر أنهما مصحّفان.

وقوله: "صوم الدهر ثلاثة أيام من الشهر، صوم الدهر كله" هكذا وقع في النسخ، ثم هو يحتمل أن يكون قوله:"صوم الدهر" بالنصب بدلاً مما قبله، أي لا صام من صام الأبد، صومَ الدهر، أو مفعولا لفعل مقدّر، أي أعني صومَ الدهر، فيكون من تمام ما قبله، ويكون قوله:"ثلاثةُ أيام من الشهر صوم الدهر كله" مبتدأ وخبرًا، فيكون قد بيّن المشروع من صوم الدهر، بعد أن بيّن منع صوم الدهر، أي صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر يحصل به صوم الدهر مع كونه مشروعًا.

ويحتمل أن يكون "صوم الدهر" مرفوعًا على أنه خبر مقدم لقوله: "ثلاثةُ أيام"، أي صوم ثلاثة أيام من الشهر كصوم الدهر، وقوله:"صوم الدهر كله" خبر لمحذوف، أي هو صوم الدهر كله، والجملة تأكيد لما قبلها.

(1)

- "المفهم" ج 3 ص 224.

(2)

- "فتح" ج 4 ص 746.

ص: 324

والحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2400 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ،، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:: «اقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ»

(1)

، قُلْتُ:: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ أَزَلْ أَطْلُبُ إِلَيْهِ، حَتَّى قَالَ:«فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ» ، وَقَالَ «صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ» ، قُلْتُ:: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ أَزَلْ أَطْلُبُ إِلَيْهِ، حَتَّى قَالَ:«صُمْ أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ عز وجل، صَوْمَ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدموا غير مرّة. و"محمد": هو ابن جعفر، المعروف بـ"غندر".

وقوله: "في خمسة أيام" أي اختم القرآن في خمسة أيام.

والحديث صحيح الإسناد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2401 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عَطَاءً، يَقُولُ: إِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: بَلَغَ النَّبِيَّ

(2)

صلى الله عليه وسلم، أَنِّي أَصُومُ أَسْرُدُ الصَّوْمَ، وَأُصَلِّى اللَّيْلَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا لَقِيَهُ، قَالَ: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ، وَلَا تُفْطِرُ، وَتُصَلِّى اللَّيْلَ، فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لِعَيْنِكَ حَظًّا

(3)

، وَلِنَفْسِكَ حَظًّا، وَلأَهْلِكَ حَظًّا، وَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَصَلِّ وَنَمْ، وَصُمْ مِنْ كُلِّ عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، وَلَكَ أَجْرُ تِسْعَةٍ» ، قَالَ: إِنِّي أَقْوَى لِذَلِكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«صُمْ صِيَامَ دَاوُدَ إِذًا» ، قَالَ: وَكَيْفَ كَانَ صِيَامُ دَاوُدَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ ، قَالَ:«كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى» ، قَالَ: وَمَنْ لِي بِهَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيحه "إبراهيم بن الحسن" المصيّصيّ، وهو ثقة. و"حجاج": هو ابن محمد الأعور.

وقوله: "فإما أرسل إليه، وإما لَقِيَه". ولفظ البخاريّ: "فإما أرسل إليّ، وإما لقيته". قال في "الفتح": شك من بعض الرواة، وغلط من قال: إنه شكّ من عبد اللَّه بن عمرو؛ لما تقدّم من أنه صلى الله عليه وسلم قصده إلى بيته، فدلّ على أن لقاءه إياه كان

(1)

- وفي نسخة: "في الشهر".

(2)

- وفي نسخة: "رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

(3)

- وفي نسخة: "حقّا".

ص: 325

عن قصد منه إليه. انتهى

(1)

.

وقوله: "من لي بهذه": أي من يتكفّل لي به، أو من يُحصّله لي؟، وأشار به إلى استبعاد عدم الفرار، وتمني أن لو كانت له تلك القوّة.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌79 - (صِيَامُ خَمْسَةِ أَيَّامِ مِنَ الشَّهْرِ)

2402 -

(أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا خَالِدٌ، عَنْ خَالِدٍ، وَهُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِيكَ زَيْدٍ، عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ذُكِرَ لَهُ صَوْمِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ، فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةَ أَدَمٍ، رَبْعَةً

(2)

، حَشْوُهَا لِيفٌ، فَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ، وَصَارَتِ الْوِسَادَةُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، قَالَ:«أَمَا يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«خَمْسًا» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«سَبْعًا» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«تِسْعًا» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«إِحْدَى عَشْرَةَ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ، دَاوُدَ شَطْرَ الدَّهْرِ، صِيَامُ يَوْمٍ، وَفِطْرُ يَوْمٍ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة حافظ.

و"وهب بن بَقِيّة": هو أبو محمد الواسطيّ الثقة. و"خالد": هو ابن عبد اللَّه الطّحّان الواسطيّ. و"أبو قِلَابة": هو عبد اللَّه بن زيد بن عمرو الْجَرْميّ. و"أبو الْمَلِيح": هو عامر، أو زيد، أو زياد بن أسامة بن عمير الْهُذليّ، لأبيه صحبة.

وقوله: "وسادة أَدَم" بكسر الواو: الْمِخَدّة. والأدم بفتحتين: الجلد. وقوله: "رَبعة" سقط من النسخة الهنديّة، وهو بفتح، فسكون، أو بفتحتين: الوسط، منصوب على أنه صفة لـ"وسادة". أي متوسطة، لا كبيرة، ولا قصيرة. وقوله:"حَشْوُها لِيفٌ": بفتح،

(1)

-"فتح" ج 4 ص 746.

(2)

- لفظ "ربعة" ساقط من النسخة الهندية.

ص: 326

فسكون: أي ما يجعل فيها، وليف النخل بالكسر معروف.

وقوله: "فجلس على الأرض، وصارت الوسادة بيني وبينه" فيه بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التواضع، وترك الاستئثار على جليسه، وفي كون الوسادة من أدم حشوها ليف بيان ما كان عليه الصحابة في غالب أحوالهم في عهده صلى الله عليه وسلم من الضيق، إذ لو كان عنده أشرف منها لأكرم بها نبيّه صلى الله عليه وسلم

(1)

وقوله: "قلت: يا رسول اللَّه" أي قلت له: يا رسول اللَّه زدني.

وقوله: "خمسا" ووقع عند البخاريّ في رواية البخاريّ "خمسة" وكذا في البواقي، فمن قال:"خمسمة" أراد الأيام، ومن قال:"خمسًا" أراد الليالي، وفيه تجوّز؛ لأن الصوم في الأيام، لا في الليالي.

وقوله: "شطر الدهر" بالرفع على القطع، ويجوز النصب على إضمار فعل، والجرّ على البدل من "صوم داود".

وقوله: "صيام يوم، وفطر يوم" يجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة، على الوجه الذي ذكرته في سابقه.

وفي هذا الحديث بيان أن أفضل الصيام صيام يوم، وفطر يوم، وقد تقدّم بيان اختلاف العلماء في جواز صوم الدهر، وكراهته، أو أنه جائز، وأفضل من صوم داود -عليه السلام-، مع بيان القول الراجح، وهو تحريم صوم الدهر؛ للأدلة الواضحة في ذلك في الباب -71 - فراجعه تستفد، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌80 - (صِيَامُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ)

2415 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ فَيَّاضٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عِيَاضٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صُمْ مِنَ الشَّهْرِ يَوْمًا، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ» ، قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:«فَصُمْ يَوْمَيْنِ، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ» ، قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:

(1)

- المصدر السابق.

ص: 327

«فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ» ، قُلْتُ:: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:«صُمْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ» ، قُلْتُ:: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا» ).

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم تمام البحث فيه قبل بابين، فراجعه، تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌81 - (صَوْمُ ثَلَاَثةِ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ)

2404 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: أَوْصَانِي حَبِيبِي صلى الله عليه وسلم، بِثَلَاثَةٍ، لَا أَدَعُهُنَّ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَبَدًا: أَوْصَانِي بِصَلَاةِ الضُّحَى، وَبِالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ، وَبِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عليّ بن حُجر) السعديّ المروزيّ، ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 13.

2 -

(إسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ المدنيّ القارئ، ثقة ثبت [8] 16/ 17.

3 -

(محمد بن أبي حَرْملة) القرشيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، مولى عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حُوَيطب، وقد ينسب إليه، ثقة [6] 36/ 578.

4 -

(عطاء بن يسار) الهلاليّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، ثقة فاضل صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [3] 64/ 80.

5 -

(أبو ذرّ) الغفاريّ جندب بن جُنادة الصحابيّ المشهور، اختُلف في اسمه واسم أبيه والأصح ما ذكرناه آنفًا، تقدّم إسلامه، وتأخّرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، ومات سنة (32) تقدّم في 203/ 322. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمروزيّ. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 328

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) جندب بن جُنادة رضي الله عنه، أنه (قَالَ: أَوْصَانِي) أي عَهِدَ إليّ، وأمرني به، يقال: أوصاه، ووصّاه: عَهِدَ إليه. قاله في "القاموس". وفي "المصباح": وأصيته بالصلاة: أمرته بها، وعليه قوله تعالى:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وقوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} ، أي يأمركم انتهى (حَبِيبِي) وفي نسخة:"خليلي"(صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثَةٍ) أي بثلاثة أمور (لَا أَدَعُهُنَّ) أي لا أتركهنّ (إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى أَبَدًا) علّقه بالمشيئةَ، عملاً بقوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (أَوْصَانِي بِصَلاةِ الضُّحَى) أي بأداء الصلاة النافلة في وقت الضحى (وَبِالْوَتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ) أي خوفًا من أن يفوته، وفيه أن من خاف فوت الوتر يصليه قبل النوم (وَبصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ) وهذا يعم كونها أيام البيض، وغيرها، لكن كونها البيض أولى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا- 81/ 2404 - وفي "الكبرى" 81/ 2712. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2405 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ: بِنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ، وَالْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ).

قال الجَامع عفا اللَّه تعالى عنه: "محمد بن علي بن الحسن": هَو المروزيّ، ثقة [11].

و"أبوه": هو عليّ بن الحسن بن شقيق، أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقة حافظ، من كبار [10]. و" أبو حمزة": هو محمد بن ميمون السكّريّ. و"عاصم": هو ابن بَهْدلة.

[تنبيه]: وقع في رواية الأسود بن هلال هذه "والغسل يوم الجمعة" بدل "صلاة الضحى"، وكذا وقع في رواية الحسن البصريّ، عن أبي هريرة عند أحمد وهي رواية شاذّة، والمحفوظ "صلاة الضحى"، كما هو عند جمهور الرواة عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقد نبّه على هذا بالنسبة لرواية الحسن قتادة أحد رواته عن الحسن، فقال بعد روايته الحديث: ما نصّه: ثم أوهم الحسن، فجعل مكان الضحى غسل يوم الجمعة. راجع "مسند أحمد" في ج 2 ص 271 و 489.

ووقع أيضا في بعض نسخ "المجتبى" في 28/ 1678 - "وركعتي الفجر" بدل "وركعتي الضحى"، وهو أيضًا شاذّ، وقد نبّهت عليه هناك، فراجعه تستفد.

ص: 329

والحاصل أن الحديث بذكر الغسل منكر، والمعروف "صلاة الضحى"، وقد تقدّم شرحه، والكلام على مسائله بالرقم المذكور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2406 -

(أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،، قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ لَا أَنَامَ إِلاَّ عَلَى وِتْرٍ، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ).

قال الجامع عَفا اللَّه تعالى عنه: "أبو كامل": هو فُضَيل بن حُسين الْجَحْدَريّ. و"أبو عَوانة": الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ.

وقوله: "عن رجل" هذا في رواية أبي عوانة، وقد خالفه أبو حمزة، كما في السند السابق، وأبو معاوية، كما في السند التالي، فقالا: عن عاصم، عن الأسود بن هلال، فأسقطا الواسطة، وروايتهما أرجح.

والحاصل أن الحديث صحيح عن أبي هريرة من طُرُق شتى، كما تقدّم في 28/ 1677 - واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2407 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ وَالْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: يوجد في النسخة "الهندية": ما نصّه: وُجِدَ هذا الحديثُ في نسخة، وليس في نسخ صحيحة، ولكنه مذكور في "الأطراف"، وقال فيها:"عن أبي معاوية، شيبان بن عبد الرحمن". هكذا بهامش الأصل. انتهى ما كُتب في الهامش المذكور.

قلت: وهو أيضًا موجود في "الكبرى" ج 2 ص 133 رقم 81/ 2714.

و"أبو النضر": هاشم بن القاسم بن مسلم بن مِقسَم الليثيّ مولاهم البغداديّ الحافظ، خُرَاسانيّ الأصل، مشهور بكنيته، ولقبه "قيصر"، ثقة ثبت [9].

قال الحارث بن أبي أسامة: كان أحمد بن حنبل يقول: أبو النضر شيخنا من الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر. وقال أبو بكر بن أبي عتّاب، عن أحمد بن حنبل: أبو النضر من متثبّتي بغداد. وقال مُهنّا، عن أحمد: أبو النضر أثبت من شاذان. وحكى أحمد بن منصور الرَّمَاديّ، عن أحمد بن حنبل ترجيحه على وهب بن جرير. وقال ابن معين، وابن المدينيّ، وابن سعد، وأبو حاتم: ثقة. وقال العجليّ: بغداديّ صاحب

ص: 330

سنة، وكان أهل بغداد يفخرون به. ووثقه ابن قانع. وقال ابن عبد البرّ: اتفقوا على أنه صدوق. وقال النسائيّ: لا بأس به. وقال الحاكم: حافظ ثبت في الحديث. وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: قال أبو النضر: ولدت سنة (134)، وقال ابن حبّان: مات في ذي القعدة سنة (5) أو (207). روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ستة أحاديث برقم 2407 و 2416 و 2481 و 3134 و 3186 و5096.

و"أبو معاوية": هو شيبان بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ البصريّ، نزيل الكوفة، ثقة صاحب كتاب، يقال: إنه منسوب إلى نَحوَة، بَطْنِ من الأزد، لا إلى علم النحو [7] 13/ 347. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌82 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى أَبِي عُثْمَانَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي صِيَامٍ ثَلَاَثةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن ثابتا البُنَانيّ رواه عن أبي عثمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وخالفه عاصم الأحول، فرواه عن أبي عثمان، عن أبي ذرّ رضي الله عنه.

ثم هذا الاختلاف لا يضرّ بصحة الحديث، فالحديث صحيح مروي عنهما جميعًا.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2408 -

(أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «شَهْرُ الصَّبْرِ، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زكريّا بن يحيى) السِّجْزيّ المعروف بخيّاط السنة، نزيل دمشق، ثقة حافظ [12] 189/ 1161.

2 -

(عبد الأعلى) بن حماد بن نصر الباهليّ البصريّ، صدوق، من كبار [10] 77/ 2396.

ص: 331

3 -

(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بآخره، من كبار [8] 181/ 288.

4 -

(ثابت) بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة عابد [4] 45/ 53.

5 -

(أبو عثمان) عبد الرحمن بن ملّ -مثلّث الميم- ابن عمرو النَّهْديّ الكوفي، من كبار التابعين، مخضرم ثقة ثبت عابد [2] 11/ 641.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) النهديّ -رحمه اللَّه تعالى- (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "شَهْرُ الصَّبْرِ) مبتدأ خبره قوله: "صوم الدهر". أي صوم شهر رمضان، وأصل الصبر الحبس، فسمي الصوم صبراً؛ لما فيه من حبس النفس عن الطعام، والشراب، والنكاح (وَثَلَاَثةُ أَيَّامٍ) عطف على "شهر"(مِنْ كُلِّ شَهْرٍ) حال مما قبله أو صفة له (صَوْمُ الدَّهْرِ") أي مثل صوم الدهر في الثواب.

وهذا الحديث أخرجه أحمد وفيه قصّة لأبي هريرة رضي الله عنه، فقال:

8760 -

حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أبي عثمان، أن أبا هريرة، كان في سفر، فلما نزلوا، أرسلوا إليه، وهو يصلي ليَطْعَم، فقال للرسول: إني صائم، فلما وضع الطعام، وكادوا يَفرُغُون، جاء فجعل يأكل، فنظر القوم إلى رسولهم، فقال: ما تنظرون؟ قد أخبرني أنه صائم، فقال أبو هريرة: صدق، إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر، صوم الدهر"، فقد صمت ثلاثة أيام، من كل شهر، وأنا مفطر في تخفيف اللَّه، وصائم في تضعيف اللَّه عز وجل

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف، أخرجه هنا-82/ 2408 - وفي "الكبرى" 82/ 2716 - وأخرجه (أحمد) في "مسند المكثرين" 7523 و"باقي مسند المكثرين"87660. واللَّه تعالى أعلم

(1)

- وهذا إسناد صحيح.

ص: 332

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2409 أ- (أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ اللاَّنِيُّ بِالْكُوفَةِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ -وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ - عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، مِنَ الشَّهْرِ، فَقَدْ صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» ، ثُمَّ قَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عليّ بن الحسن اللاَّنِيّ الكوفيّ"، صدوق، من صغار [10] 57/ 2305 من أفراد المصنّف.

و"عبد الرحيم بن سليمان": الكنانيّ الأشلّ المروزيّ، نزيل الكوفيّ ثقة مصنّف، من صغار [8] 57/ 2303.

وقوله: "فقد صام الدهر" أي فكأنما صام الدهر له، وذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها، كما أشار إليه بذكر الآية.

[فإن قيل]: أخرج مسلم في "صحيحه" عن أبي أيوب الأنصاريّ، رضي الله عنه، أنه حدثه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"من صام رمضان، ثم أتبعه ستًا من شوال، كان كصيام الدهر". وهو يدلّ على صوم رمضان، مع ستة أيام من شوال يكون كصيام الدهر، فكيف توفّق بينه، وبين حديث الباب؟.

[قلت]: يجاب بأنه لا تنافي بينهما، إذ لا مانع من أن يجمع اللَّه لمن صام رمضان، وأتبعه ستا من شوال، وصام أيضًا ثلاثة أيام من كلّ شهر، فعمل بالاثنين أن يجمع اللَّه تعالى له أجر الدهر مرتين، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "ثم قال: صَدَق اللَّهُ الخ" ولفظ "الكبرى": "صدق اللَّه ورسوله". أي قال أبو ذرّ بعد أن ذكر الحديث: صدق اللَّه في كتابه، حيث قال مصدِّقًا لهذا الحديث:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]. ولفظ الترمذيّ، وابن ماجه: "فأنزل اللَّه عز وجل تصديق ذلك في كتابه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160]، فاليوم بعشرة أيام انتهى.

وفيه أن سبب نزول هذه الآية هو هذا الحديث. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح، أخرجه المصنّف هنا 82/ 2409 و 2410 - وفي "الكبرى" 82/ 2717 و 2718. وأخرجه (ت) في "الصوم" 762 (ق) في "الصيام" 1708 (أحمد) في "مسند الأنصار" 20794. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2410 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ رَجُلٍ، قَالَ: أَبُو ذَرٍّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ

ص: 333

أَيَّامٍ، مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَقَدْ تَمَّ صَوْمُ الشَّهْرِ"، أَوْ "فَلَهُ صَوْمُ الشَّهْرِ"، شَكَّ عَاصِمٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث بهذا الإسناد ضعيف؛ لأن شيخ أبي عثمان لم يعرف.

و"حِبان": -بكسر المهملة-: هو ابن موسى المروزيّ. و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2411 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، أَنَّ مُطَرِّفًا حَدَّثَهُ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «صِيَامٌ حَسَنٌ، ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"مُطَرّفٌ": هو ابن عبد اللَّه بن الشِّخِّير.

وقوله: "صيام حسنٌ" خبر مقدّم لقوله: "ثلاثة أيام"، يعني أن صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر صيام حسنٌ. والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" مُطَوّلاً، فقال:

حدثنا عَفّان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا سعيد الْجُرَيري، عن أبي العلاء، عن مطرف، قال: دخلت على عثمان بن أبي العاص، فأمر لي بلبن لِقْحَة، فقلت: إني صائم، فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"الصوم جُنَّة من عذاب اللَّه، كجُنّة أحدكم من القتال، وصيام حسن ثلاثة أيام، من كلّ شهر"، قال: وكان آخر شيء عهده النبيّ صلى الله عليه وسلم إلي، أن قال:" جَوِّز في صلاتك، واقدُر الناس بأضعفهم، فإن منهم الصغير" والكبير، والضعيف، وذا الحاجة" انتهى.

وقد تقدّم للمصنّف في 43/ 2230 و 2231 - مختصرًا على قوله: "الصيام جنة، كجنة أحدكم من القتال".

والحديث صحيح، أخرجه المصنّف هنا -82/ 2411 و 2412 - وفي "الكبرى" 82/ 2719 و2720. وأخرجه (أحمد) في مسند المدنيين" 15844 وفي "مسند الشاميين" 17445 و 17451. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2412 -

(أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا، بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، قَالَ: عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، نَحْوَهُ مُرْسَلٌ).

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا"، وفي أخرى:"حدثنا"

ص: 334

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق آخر لحديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، ساقه المصنّف لبيان الاختلاف في إسناده، فإنه مخالف لما قبله، حيث وقع فيه انقطاع، وهو المراد بقوله:"مرسل"، والوصل هنا أرجح؛ لأن يزيد بن أبي حبيب أحفظ من ابن إسحاق، وتقدم في 43/ 2231 و 2232 - اختلاف على ابن إسحاق بالوصل والانقطاع، وأن الوصل هناك أيضًا أرجح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2413 -

(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنِ الْحُرِّ بْنِ صَيَّاحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ).

قاَل الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يوسف بن سعيد" المصّيصيّ الحافظ الثقة [11] 131/ 198 من أفراد المصنف. و"حجاج": هو ابن محمد الأعور المصيصيّ الحافظ الثبت [9] 28/ 32.

و"شَرِيك": هو ابن عبد اللَّه النخعيّ القاضي الكوفيّ، صدوق يخطئ كثيرًا، وتغيّر حفظه [8] 25/ 29. و"الْحُرّ بن الصيّاح" بالصاد المهملة، والتحتانيّة المشددة- النخعيّ الكوفيّ، ثقة [3] 70/ 2372.

والحديث في سنده شريك القاضي، وقد عرفتَ حاله، ولكنه صحيح، بشواهده، كالأحاديث الآتية في الباب التالي، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا -82/ 2413 و 83/ 2414 - وفي "الكبرى" 82/ 2721 و 83/ 2722. وأخرجه (أحمد) في "مسند المكثرين" 5611. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 335

‌83 - (كيفَ يَصُومُ ثَلَاَثةَ أَيام مِنْ كُلِّ شَهْرِ، وَذِكْرُ اخْتِلَافِ الناقَلِينَ لِلْخَبَرِ فِي ذَلِكَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن في حديث ابن عمر، وحديث بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم -أن الثلاثة الأيام هي أول الاثنين من الشهر، والخميسان بعده، وفي حديث أم سلمة رضي الله عنهما أنها أول خميس، ويوما الاثنين بعده، وفي حديث جرير بن عبد اللَّه رضي الله عنه أنها أيام البيض.

وهذا الاختلاف ليس اختلاف تعارض وتضادّ، وإنما هو اختلاف إباحة، وبيان جواز، فيُحمَل على أنه كان يفعل تارة هذا، وتارة هذا، فكله جائز، ومباح.

قال الشيخ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: اختلاف هذه الروايات يدلّ على أن المقصود كون هذه الأيام الثلاثة واقعة في الاثنين والخميسين، أو بالعكس، على أيّ وجه كان انتهى

(1)

.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم من رواية معاذة العدويّة، أنها سألت عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصوم من كلّ شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، فقلت لها: من أيّ أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أيّ أيام الشهر يصوم انتهى.

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: تعني أنه لم يكن يعين لصوم الثلاثة زمانًا مخصوصًا من الشهر يداوم عليه، وإنما كان يصومها مرّة في أوله، ومرة في آخره، ومرة في وسطه.

قال: وقد اختُلف في أيُ أيام الشهر أفضلُ للصوم؟ فقال جماعة من الصحابة والتابعين؛ منهم عمر، وابن مسعود، وأبو ذرّ أن صوم أيام البيض أفضل، تمسكًا بحديث جرير رضي الله عنه -يعني المذكور آخر الباب.

وقال آخرون؛ منهم النخعيّ: آخر الشهر أفضل. وقالت فرقة ثالثة: أول الشهر أفضل؛ منهم الحسن. وذهب آخرون إلى أن الأفضل صيام أول يوم من السبت، والأحد، والاثنين في شهر، ثم الثلاثاء، والأربعاء، والخميس، منهم عائشة. واختار آخرون الاثنين، والخميس. وفي حديث ابن عمر: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة

(1)

- راجع "زهر الربى" ج4 ص220.

ص: 336

من كلّ شهر، أول اثنين، والخميس الذي بعده، والخميس الذي يليه. وعن أم سلمة: أول خميس، والاثنين، والاثنين.

واختار بعضهم صيام أول يوم من الشهر، ويوم العاشر، ويوم العشرين. وبه قال أبو الدرداء. ويُروى أنه كان صيام مالك، واختاره ابن شعبان. وقد رُوي عن مالك كراهة تعمّد صيام أيام البيض، وقال: ما هذا ببلدنا، والمعروف من مذهبه كراهة تعيين أيام مخصوصة للنفل، وأن يجعل الرجل لنفسه يومًا، أو شهرًا يلتزمه.

والحاصل أن ثلاثة أيام من كلّ شهر صيام الدهر، حيث صامها، وفي أيّ وقت أوقعها، واختلاف الأحاديث في هذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم يدلّ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يُرتّب على زمان بعينه من الشهر، كما قالته عائشة رضي الله عنها، وأن كلّ ذلك قد فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويرحم اللَّه مالكاً لقد فَهِمَ، وغَنِمَ انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي مال إليه القرطبيّ من ترجيح ما ذهب إليه مالك -رحمه اللَّه تعالى-، من كراهة تعيين أيام البيض بعينها، أو شهر بعينه، ليس بصحيح؛ لأنه قد صحت الأحاديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخلافه، فقد نصّ على استحباب صيام المحرّم، ويوم الاثنين، ويوم الخميس، وأيام البيض، وغير ذلك، فهل يُرجّح قول أحد بعد صحة سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إن هذا لشيء عجيب.

وأما اختلاف الأحاديث فليس اختلاف تضادّ، وإنما هو اختلاف إباحة، وبيان للجواز.

وأما الإمام مالك -رحمه اللَّه تعالى-، فإنه يُعتذر عنه بأن هذه الأحاديث التي فيها تعيين بعض الأوقات لعلها لم تصحّ لديه، ولذلك علل الكراهة لذلك بكونه غير معروف ببلده، هذا هو الظنّ به -رحمه اللَّه تعالى-.

والحاصل أن الأفضل في صيام ثلاثة أيام من الشهر أن تكون أيام البيض، لما ذكرنا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2414 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنِ الْحُرِّ بْنِ صَيَّاحٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَالْخَمِيسَ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ الْخَمِيسَ الَّذِي يَلِيهِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الحسن بن محمد الزَّعْفَرانيّ" البغداديّ، صاحب

(1)

-"المفهم" ج 3 ص 232 - 234.

ص: 337

الشافعيّ، ثقة [10] 21/ 427. و"سعيد بن سليمان" الواسطيّ، نزيل بغداد الملقّب سعدويه ثقة حافظ، من كبار [10] 15/ 1854.

والحديث صحيح بما بعده، وقد تقدّم الكلام عليه في الباب الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2415 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ، عَنْ زُهَيْرٍ، عَنِ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ، قَالَ: سَمِعْتُ هُنَيْدَةَ الْخُزَاعِيَّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، سَمِعْتُهَا تَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ، ثُمَّ الْخَمِيسَ، ثُمَّ الْخَمِيسَ الَّذِي يَلِيهِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عليّ بن محمد بن عليّ" بن أبي الْمَضَاء المصّيصيّ القاضي، ثقة [11].

قال النسائيّ: ثقة. وقال في "مشيخته": نعم الشيخ كان. ووثقه مسلمة بن قاسم.

وذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرّد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب سبعة أحاديث برقم 2415 و 3336 و 3850 و 4083 و 4122 و 4823 و 5208.

و"خلف بن تميم" بن أبي عتّاب مالك التميميّ مولاهم، وقيل: غير ذلك، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، نزيل المصّيصة، صدوق عابد [9].

قال عثمان الدارميّ: سألت ابن معين عنه؟ فقال: هو المسكين صدوق. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق، أحد النسّاك، صحب إبراهيم بن أدهم. وقال أبو حاتم: ثقة صالح الحديث. وقال العجليّ: كوفيّ لا بأس به. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان من العبّاد الْخُشْنِ. مات سنة (206) وقال ابن سعد: مات بالمصّيصة سنة (213) وكان عالمًا.

تفرّد به المصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم 2415 و 3850 و 4083 و 4122 و 4823. و"زُهير": هو ابن معاوية بن حُدَيج الجعفيّ الكوفيّ الحافظ الثبت [7] 38/ 42. و"أمّ المؤمنين" هي حفصة رضي الله عنها.

والحديث صحيح، وقد تقدّم الكلام عليه في 70/ 2372. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2416 -

(أَخْبَرَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي النَّضْرِ، قَالَ: حَدَّثَنِي

(2)

أَبِي النَّضْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الأَشْجَعِيُّ كُوفِيٌّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ، عَنِ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ، عَنْ

(1)

- وفي نسخة: "أخبرني".

(2)

- وفي نسخة: "حدثنا".

ص: 338

هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ حَفْصَةَ، قَالَتْ: أَرْبَعٌ لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صِيَامَ عَاشُورَاءَ، وَالْعَشْرَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ).

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عَنه: "أبو بكر بن أبي النضر": هو أبو بكر بن النضر بن أبي النضر البغداديّ، نُسب هنا لجدّه، اسمه وكنيته واحد، وقيل: اسمه محمد، وقيل: أحمد، ثقة [11].

قال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال أبو بكر بن مردويه في "كتاب أولاد المحدثين": بغداديّ ثقة. روى عنه مسلم، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا 2416 و 3186. و"أبو النضر": هاشم بن القاسم، الملقّب قيصر تقدّم قبل باب. و"أبو إسحاق الأشجعيّ الكوفيّ"، مقبول [8].

روى عن عَمْرو بن قيس الْمُلَائيّ، وعنه أبو النضر، وقال: ليس هو عبيد اللَّه. وهو من أفراد المصنّف، وله عنده هذا الحديث فقط. و"عمرو بن قيس الْمُلائيّ" الكوفيّ، ثقة متقنٌ عابد [6] 92/ 1349.

وقوله: "والعشر" أي عشر ذي الحجة، والمراد تسعة أيام منه، لأن العاشر يومُ عيدٍ لا يُشرع صومه، وقد تقدّم في -71/ 2372 - بلفظ:"وتسعًا من ذي الحجّة".

والحديث في سنده أبو إسحاق الأشجعيّ مجهول، لكنه صحيح من وجه آخر، فقد تقدّم في 70/ 2372. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2417 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(2)

أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ، عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ امْرَأَتِهِ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَصُومُ تِسْعًا، مِنْ ذِى الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ، وَخَمِيسَيْنِ).

قال الجامع عفا الَله تعالى عنه: "أحمد بن يحيى" أبو جعفر الكوفيّ العابد، ثقة [11] 38/ 1274 من أفراد المصنّف.

و"أبو نعيم" الفضل بن دُكين. و"أبو عوانة" الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ.

و"امرأة هنيدة" لا تعرف. و"بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم هي أم سلمة.

والحديث في سنده مجهولة، لكنه صحيح عن هنيدة، وقد تقدم في 70/ 2372.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 339

2418 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ، عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ امْرَأَتِهِ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَصُومُ الْعَشْرَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، الاِثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عثمان بن أبي صفوان الثقفيّ"، ثقة [11] 10/ 468.

و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ الإمام المشهور.

وقوله: "عن امرأته" لا يعرف اسمها. و"بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، هي أم سلمة رضي الله عنها.

وقوله: "والخميس". وفي نسخة: "والخميسين" بالتثنية، ولا تنافي بينهما، إذ يمكن جعل "ال" فيه للجنس، فيكون بمعنى"الخميسين"، كما تقدّم.

والحديث في سنده مجهولة، لكنه صحيح عن هنيدة، كما سبق بيانه فيما قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2419 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ هُنَيْدَةَ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَأْمُرُ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوَّلِ خَمِيسٍ، وَالاِثْنَيْنِ، وَالاِثْنَيْنِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إبراهيم بن سعيد الجوهريّ"، أبو إسحاق الطبريّ، نزيل بغداد، ثقة حافظ، تكُلّم فيه بلا حجة [10].

قال أبو حاتم: كان يُذكر بالصدق. وقال النسائيّ: ثقة. ووثقه الدارقطنيّ، والخليليّ، وابن حبّان، وغيرهم. وقال الخطيب: كان ثقة مكثرًا ثبتًا، صنف المسند.

وقال عبد اللَّه بن جعفر بن خاقان السلميّ: قال إبراهيم الجوهريّ: كل حديث لا يكون عندي من مائة وجه فأنا فيه يتيم. وفي "تاريخ الخطيب" عن ابن خراش، قال: سمعت حجاج بن الشاعر يقول: رأيت إبراهيم بن سعيد عند أبي نعيم، وأبو نعيم يقرأ، وهو نائم، وكان الحجاج يقع فيه.

قال الحافظ: وابن خراش رافضيّ، ولعل الجوهريّ كان قد سمع ذلك الجزء من أبي نعيم قبل ذلك. مات سنة (249) وقيل: بعد (250) روى عنه الجماعة سوى البخاريّ، روى عنه المصنف في هذا الكتاب حديثين فقط: هذا 2419 وفي "كتاب الأشربة" 5652 حديث: "رخّص في الجرّ غيرَ مزفّت".

و"محمد بن فضيل" هو الضبيّ الكوفيّ، صدوق رُمي بالتشيّع [9] 18/ 799.

و"الحسن بن عُبيد اللَّه" أبو عروة النخعيّ الكوفيّ، ثقة فاضل [6] 5/ 501.

ص: 340

والحديث في سنده مجهولة، وهو صحيح من حديث هنيدة نفسه، كما تقدّم، وأخرجه المصنّف هنا -83/ 2419 - وفي "الكبرى" 83/ 2727 - وأخرجه (أحمد) في "باقي مسند الأنصار"25941. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2420 -

(أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، صِيَامُ الدَّهْرِ، وَأَيَّامُ الْبِيضِ، صَبِيحَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مخلد -بفتح أوله، وسكون ثانيه- بن الحسن) بن أبي زُميل -مصغرًا- أبو محمد، ويقال: أبو أحمد الحرّانيّ، نزيل بغداد، لا بأس به [10]

(1)

.

قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائيّ: لا بأس به. ووثقه مسلمة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث. تفرّد به المصنّف، روى عنه في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

2 -

(عبيد اللَّه) بن عَمْرو الرقّيّ، ثقة فقيه ربما وهم [8] 120/ 167.

3 -

(زيد بن أبي أُنيسة) واسم أبيه زيد الرّقّيّ، أبو أسامة الْجَزَريّ، ثقة له أفراد [6] 191/ 306.

4 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه بن عُبيد السَّبِيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد اختلط بأَخَرَة [3] 38/ 42.

5 -

(جرير بن عبد اللَّه) بن جابر البجليّ الأحمسيّ الصحابيّ المشهور، مات - رضي اللَّه تعالى عنه - سنة (51) وقيل: بعدها، وتقدّم في 43/ 51. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، كما مرّ آنفًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، مِنْ كُلِّ شهرٍ، صِيَامُ الدَّهْر) جملة من مبتدإ وخبر، بَيَّنَ به صلى الله عليه وسلم أنّ ثواب صيام ثلاثة

(1)

- في نسخ "ت" أنه من التاسعة، لكن الذي يظهر لي أنه من العاشرة، فتنبّه.

ص: 341

من كلّ شهر مثل ثواب صيام الدهر (وَأيَّامُ الْبِيضِ) أي أيام الليالي البيض بوجود القمر طوالَ الليل.

ثم إن نسخ "المجتبي" التي بين يديّ هكذا بواو العطف، والظاهر أنه مبتدأ، محذوف الخبر، أي أيام البيض أحسنها، وفي "الكبرى""أيام البيض" بحذفها، وهي واضحة، فيكون مبتدأ، خبره محذوف، أي هي أيام البيض وقوله (صَبِيحَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ) بالرفع أيضًا خبر لمحذوف، أي هي صبيحة الخ، ويحتمل النصب على أنه مفعول لفعل مقدّر، أي أعني.

وقال السنديّ في "شرحه": وفي الحديث اختصارٌ مثلُ "وخيُرها صيامُ أيام البيض، وأيامُ البيض كذا وكذا" انتهى.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المفهم"- بعد أن أورد رواية المصنّف هذه-: ما نصّه: روينا هذا اللفظ عن متقني مشايخنا برفع "أيام"، و"صبيحة" على إضمار المبتدإِ، كأنه قال: هي أيام البيض، عائدًا على "ثلاثة أيام"، و"صبيحة" يُرفع على البدل من "أيام". وأما الخفض فيهما، فعلى البدل من "أيام المتقدّمة. هذا أولى ما يوجّه في إعرابها، وعلى التقديرين فهذا الحديث مُفيدٌ

(1)

لمطلق الثلاثة الأيام التي صومها كصوم الدهر، على أنه يحتمل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم عيّنَ هذه الأيام لأنها وسط الشهر، وأعدله، كما قال "خير الأمور أوساطها"، وعلى هذا يدلّ قوله صلى الله عليه وسلم:"هل صمت من سرّة هذا الشهر شيئًا" انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

وذكر السنديّ عن بعضهم أن الحكمة في صومها أنه لما عمّ النور لياليها ناسب أن تعمّ العبادة نهارها. وقيل: الحكمة في ذلك أن الكسوف يكون فيها غالبًا، ولا يكون في غيرها، وقد أُمرنا بالتقرّب إلى اللَّه تعالى بأعمال البرّ عند الكسوف انتهى

(3)

.

والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-83/ 2420 - وفي "الكبرى" 83/ 2728. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- هكذا نسخة "المفهم" بالفاء، والظاهر أنه "مقيّد" بالقاف، من التقييد.

(2)

-"المفهم" ج 3 ص 232 - 233.

(3)

- "شرح السنديّ" ج 4 ص 221 - 222.

ص: 342

‌84 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى مُوسَى ابْنِ طَلْحَةَ فِي الْخَبَرِ فِي صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامِ مِنَ الشَّهْرِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن عبد الملك بن عُمير رواه عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه بقصّة الأرنب، وخالفه يحيي بن سام، فرواه عن موسى بن طلحة، عن أبي ذرّ رضي الله عنه -بدون القصّة، وخالفهما محمد بن أبي ليلى، وحكيم بن جبير، فروياه عن موسى، عن ابن الحوتكية، عن أبي ذرّ رضي الله عنه، وخالفهم طلحة بن يحيي، فرواه عن موسى: أن رجلاً أتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلاً.

وأصح هذه الطرق طريق يحيى بن سام، عن موسى بن طلحة، عن أبي ذرّ رضي الله عنه، وما عداها ضعاف؛ لما سيأتي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2421 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِأَرْنَبٍ قَدْ شَوَاهَا، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَأْكُلْ، وَأَمَرَ الْقَوْمَ أَنْ يَأْكُلُوا، وَأَمْسَكَ الأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَأْكُلَ؟» ، قَالَ: إِنِّي أَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ، قَالَ: «إِنْ كُنْتَ صَائِمًا، فَصُمِ الْغُرَّ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن معمر) القيسيّ الْبَحرانيّ

(1)

البصريّ، صدوقٌ، من كبار [11] 5/ 1829.

2 -

(حَبّان) -بالفتح- ابن هلال البصريّ، ثقة ثبت [9] 44/ 590.

3 -

(أبو عوانة) الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ، ثقة ثبت [7] 41/ 46.

4 -

(عبد الملك بن عُمير) الفَرَسيّ الكوفيّ، ثقة فقيه تغير حفظه، وربما دلّس [3] 41/ 947.

5 -

(موسى بن طلحة) بن عبيد اللَّه التيميّ المدنيّ، نزيل الكوفة، ثقة جليل [2] 5/ 468.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- صرح المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "كتاب الصيد والذبائح" 25/ 4312 بأنه البحرانيّ، فتنبّه.

ص: 343

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين يروي عنهم الجماعة بلا واسطة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ) بفتح الهمزة، الواحد من الإعراب، وهم سكان البدو، وهم أصحاب النُّجْعَة، والارتياد للكلإ، سواء كانوا من العرب، أو من مواليهم، كما تفيده عبارة "المصباح"(إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِأَرْنَبٍ، قَدْ شَوَاهَا، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أي بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (فَأَمْسَكَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي كفّ يده عن أكلها بعد أن مدها إليها، حينما قال بعضهم: إني قد رأيت بها دمًا؛ ولعل تركه كان تقذرًا (فَلمْ يَأْكُلْ، وَأَمَرَ الْقَوْمَ أَنْ يَأْكُلُوا) وقال: "كلوا، فإني لو أشتهيتها أكلتها"(وَأَمْسَكَ الْأَعْرَابِيُّ) أي ترك أكلها (فَقَالَ: لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَأْكُلَ؟ "، قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ، قَالَ: "إِنْ كُنْتَ صَائِمًا، فَصُمِ الْغُرَّ") أي أيام الليالي البيض التي يضيء فيها القمر من أول الليل إلى آخره. واللَّه تعَالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث ضعيف بهذا السند، لأن عبد الملك بن عمير، وإن كان ثقة، لكنه تغيّر حفظه، وربما دلس، وقد خولف، كما سيأتي.

وهو من أفراد المصنّف، أخرجه هنا- 84/ 2421 و 2428 و 2429 - وفي "الكبرى" 84/ 2729 و 2735 و 2736. وأخرجه (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 8229 و 8355. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2422 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ فِطْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَامٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ نَصُومَ مِنَ الشَّهْرِ، ثَلَاثَةَ أَيَّامِ، الْبِيضِ، ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ).

قال الجامع عفا اَلله تعالى عنه: "محمد بن عبد العزيز" بن أبي رِزْمة أبو عمرو المروزيّ، ثقة [10] 47/ 602. و"الفضل بن موسى السِّينَانيّ، أبو عبد اللَّه المروزيّ، ثقة ثبت ربما أغرب، من كبار [9] 83/ 100. وفِطْر" بن خَليفة، أبو بكر

ص: 344

الحنّاط، صدوق رمي بالتشيّع [5] 5/ 882.

و"يحيي بن سام" بن موسى الضّبّيّ، مقبول [4].

روى عن موسى بن طلحة. وعنه فطر بن خليفة، والأعمش، وبَسّام الصيرفيّ، ويزيد بن أبي زياد. قال الآجرّيّ، عن أبي داود: بلغني أنه لا بأس به، وكأنه لم يَرْضه.

وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: رَوَى عن ابن عمر رضي الله عنهما. تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، كرّره ثلاثة مرّات رقم 2422 و 2423 و 2434.

وقوله: "البيض" -بكسر الموحّدة- جمع أبيض، وهو يحتمل الرفع على أنه خبر لمحذوف، أي هي البيض، ويحتمل النصب على أنه بدل من "ثلاثة"، أو مفعول لفعل مقدر، أي أعني البيض. وقوله:"ثلاث عشرة الخ" بدل من البيض، ويحتمل القطع. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث حسن، أخرجه هنا-84/ 2422 و 2423 و 2424 و 2425 و 2426 و 2427 و 4310 و 4311 و 4310 وفي "كتاب الصيد والذبائح" 25/ 4313 - وفي "الكبرى" 84/ 2730 و 2731 و 2732 و 2733 و 2734 و 2735 و 27/ 4822 و 4823 وفي "كتاب الصيد والذبائح" 27/ 4823. وأخرجه (ت) في "الصوم" 761. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2423 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،، عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَامٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ نَصُومَ مِنَ الشَّهْرِ، ثَلَاثَةَ أَيَّامِ الْبِيضِ، ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن يزيد" -بالزاي مكبّرًا- أبو بُرَيد بالراء، مصغّرًا- الْجَرميّ البصريّ، صدوق [11] 100/ 130. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ.

والحديث حسنٌ، كما تقدّم بيانه في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2424 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَامٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صُمْتَ شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ، فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ،

ص: 345

وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد هوالسابق، وقد صرّح فيه موسى بن طلحة بالسماع من أبي ذرّ رضي الله عنه.

و"الربذة" -بفتحات-: قال الفيّوميّ: الرّبْذَة وزان قَصَبَة: خِرْقة الصائغ، يجلو بها الحُلِيّ، وبها سميت "الرَّبَذَة"، وهي قرية كانت عامرة في صدر الإسلام، وبها قبر أبي ذرّ الغفاريّ، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وهي في وقتنا دارسة، لا يُعرف بها رَسْمٌ، وهي عن المدينة في جهة الشرق، على طريق حاجّ العراق، نحو ثلاثة أيام، هكذا أخبرني به جماعة من أهل المدينة في سنة (723) انتهى

(1)

.

والحديث حسن، كما سبق بيانه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2425 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ بَيَانِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ الْحَوْتَكِيَّةِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لِرَجُلٍ:«عَلَيْكَ بِصِيَامِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ» .

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ، لَيْسَ مِنْ حَدِيثِ بَيَانٍ، وَلَعَلَّ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا اثْنَانِ، فَسَقَطَ الأَلِفُ، فَصَارَ بَيَانٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن منصور" هو الْجوّاز المكيّ. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"بيان بن بشر": هو الأحمسيّ الكوفيّ، وسيأتي للمصنّف أنه مصحّف من "اثنان".

و"ابن الحَوْتَكية": التميميّ الكوفيّ، مقبول [2].

رَوَى عن عمر، وعمار، وأبي ذرّ، وأبي الدرداء، وأُبي بن كعب. وعنه موسى بن طلحة بن عُبيد اللَّه. قال يعقوب بن شيبة: وكان ابن الحَوْتكيّة أحد أخوال موسى بن طلحة بن عبيد اللَّه. وأكثر ما يأتي غير مسمّى. وقال أبو حاتم الرازيّ: لا أعلم أحدًا سماه غير حجاج بن أرطأة، عن عثمان بن موهَب، عن موسى بن طلحة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الحديث، وكرره أربع مرّات برقم 2425 و 2426 و 2427 و 4311.

وقوله: "قال أبو عبد الرحمن الخ" أشار المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا إلى أن هذا الإسناد وقع فيه خطأ، وذلك أن الحديث ليس مما رواه بيان بن بشر، وإنما رواه ابن

(1)

- "المصباحُ المنير".

ص: 346

عيينة، عن رجلين، هما محمد، وحكيم، كلاهما عن موسى بن طلحة، كما يأتي في الرواية التالية.

ثم بين المصنّف منشأ الخطإ، فقال: لعلّ سفيان قال: حدثنا اثنان، فسقطت همزة الوصل، فظنه الراوي بيانًا، فقال: بيان بن بشر.

والحديث حسنٌ بما قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2426 أ- (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَجُلَانِ: مُحَمَّدٌ، وَحَكِيمٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ الْحَوْتَكِيَّةِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَمَرَ رَجُلاً بِصِيَامِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ).

قال الجَامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد": هو ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاريّ الكوفيّ القاضي، صدوق سيء الحفظ جدّا [7] 19/ 2149.

و"حكيم": هو ابن جبير الأسديّ، وقيل: مولى ثقيف الكوفيّ، ضعيف رمي بالتشيّع [5].

قال أحمد: ضعيف الحديث، مضطرب. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال معاذ ابن معاذ لشعبة: حَدَّثْنِي بحديث حكيم بن جبير، قال: أخاف النار. وقال يعقوب بن شيبة ضعيف الحديث. وقال الجُوزجانيّ: كذاب. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه، فقال: في رأيه شيء، قلت: ما محلّه؟ قال: الصدق إن شاء اللَّه. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث، له رأي غير محمود، نسأل اللَّه السلامة، غال في التشيّع. وقال البخاريّ: كان شعبة يتكلّم فيه. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وقال الدارقطنيّ: متروك. وقال أبو داود: ليس بشيء. روى له الأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث برقم 2426 و 2592 و 4313.

[تنبيه]: زاد المصنّف في كتاب "الصيد والذبائح" -25/ 4311 - مع محمد، وحكيم رجلاً ثالثًا، فقال: حدثنا محمد بن منصور، قال: حدثنا سفيان، عن حكيم بن جُبير، وعمرو بن عثمان، ومحمد بن عبد الرحمن، عن موسى بن طلحة

الحديث. وعمرو بن عثمان بن عبد اللَّه بن موهب التيميّ مولاهم الكوفيّ، ثقة [6] 10/ 468.

والحديث حسنٌ بما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2427 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ بَكْرٍ، عَنْ عِيسَى، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ الْحَوْتَكِيَّةِ، قَالَ: قَالَ أُبَيٌّ، جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى

ص: 347

رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ أَرْنَبٌ، قَدْ شَوَاهَا، وَخُبْزٌ، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي وَجَدْتُهَا تَدْمَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ:«لَا يَضُرُّ، كُلُوا» ، وَقَالَ لِلأَعْرَابِيِّ:«كُلْ» ، قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ:«صَوْمُ مَاذَا؟» ، قَالَ: صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ، قَالَ:«إِنْ كُنْتَ صَائِمًا، فَعَلَيْكَ بِالْغُرِّ الْبِيضِ، ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ» .

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الصَّوَابُ "عَنْ أَبِي ذَرٍّ"، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ مِنَ الْكُتَّابِ:"ذَرٌّ" فَقِيلَ: "أُبَيٌّ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن عثمان بن حكيم": هو الأوديّ الكوفيّ، ثقة [11] 160/ 252.

و"بكر": هو ابن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاريّ، أبو الرحمن الكوفيّ القاضي، ويقال له: بكر بن عُبيد، ثقة [9].

قال أبو حاتم، وأبو زرعة: رأيناه، ولم نكتب عنه. وقال الدارقطنيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (1) أو (213). وقال مطيّن: سنة (219).

روى له أبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: وقع في "الكبرى""بكير" مصغرًا بدل "بكر"، وهو تصحيف، فتنبّه.

و"عيسى": هو ابن المختار بن عبد اللَّه بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاريّ الكوفيّ، ثقة [9].

قال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن معين: صالح. وقال الدارقطنيّ: ثقة. وقال الذهبيّ: مُقلّ تفرّد عنه ابن عمّه بكر بن عبد الرحمن. روى له أبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

و"محمد": هو ابن عبد الرحمن المذكور في السند السابق. و"الْحَكَم": هو ابن عُتيبة الكنديّ الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه، ربما دلّس [5] 86/ 104.

وقوله: "وجدتها تَدمى" -بفتح حرف المضارعة، والميم- من دَمِيَ الجُرْحُ دَميّ، من باب تَعِبَ، ودَمْيًا أيضًا: خرج منه الدم. قاله في "المصباح".

وأراد هنا أنها تحيض، فإنها من الحيوانات التي تحيض، قيل: هي ثلاثة: الأرنب، والضبع، والخُفّاش

(1)

.

وقوله: "بالغرّ البيض" جمع أغرّ، وأبيض، فالبيض عطف تفسير للغرّ. و"ثلاث

(1)

- انظر حاشية ابن عابدين على "الدرّ المختار" في الفقه الحنفيّ ج1 ص 295.

لكن قال بعضهم: ردّ هذا القول الأطباء، فقالوا: إن هذا الدم يسيل منها عند الجماع خاصة. واللَّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

ص: 348

عشرة" بدل، أو عطف بيان، ويجوز قطعه.

وقوله: "قال أبو عبد الرحمن الخ": أراد به أن قوله: "قال أبِي" خطأ، والصواب:"عن أبي ذرّ الخ"، ثم بين وجه الخ"، بما أشار إليه بقوله: "ويشبه الخ"، وحاصله: أن أصله "عن أبي ذرّ"، فأسقط الكاتب لفظ "ذرّ" سهوًا، فظنه من رآه كذلك، أنه لفظ "أَبٍ" مضافًا إلى ياء المتكلّم، فقال: "قال أَبِي".

وقوله: "وقع من الكتاب" يحتمل أن يكون بكسر الكاف، وتخفيف التاء، أي سقط من المكتوب، ويحتمل أن يكون بضم الكاف، وتشديد التاء، جمع كاتب، أي سقط من كتابة الكاتبين.

والحديث ضعيف والصحيح حديث أبي ذرّ رضي الله عنه، كما أشار إليه المصنّف رحمه الله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2428 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعَافَى بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِأَرْنَبٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، مَدَّ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: الَّذِي جَاءَ بِهَا إِنِّي رَأَيْتُ بِهَا دَمًا، فَكَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، وَأَمَرَ الْقَوْمَ أَنْ يَأْكُلُوا، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ رَجُلٌ، مُنْتَبِذٌ، فَقَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا لَكَ؟» ، قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ: لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَهَلاَّ ثَلَاثَ الْبِيضِ، ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن يحيى بن الحارث": هو الحمصيّ، ثقة [12] 67/ 2329. و"المعافى بن سليمان": هو أبو محمد الجزريّ، صدوق [10] 10/ 1199. و"القاسم بن مَعْن": هو المسعوديّ الكوفيّ القاضي، ثقة فاضل [7] 90/ 1199. و"طلحة بن يحيى" بن طلحة التيميّ المدنيّ، نزيل الكوفة، صدوق يخطئ [6] 36/ 580.

وقوله: "منتبذ": أي منفرد عن الناس، والرجل هو الأعرابيّ الذي أتى بالأرنب، كما بينته الرواية السابقة.

وقوله: "فهلاّ ثلاث البيض""هلّا" بتشديد اللام: من أدواة التحضيض، و"ثلاث" منصوب بفعل مقدّر، كما يأتي في الرواية التالية، أي فهلاّ صمتَ ثلاثة أيام البيض.

والحديث مرسل؛ لأن موسى بن طلحة تابعيّ، كما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2429 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَرْنَبٍ، قَدْ شَوَاهَا رَجُلٌ، فَلَمَّا قَدَّمَهَا إِلَيْهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ بِهَا دَمًا، فَتَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَأْكُلْهَا،

ص: 349

وَقَالَ لِمَنْ عِنْدَهُ: «كُلُوا، فَإِنِّي لَوِ اشْتَهَيْتُهَا أَكَلْتُهَا» ، وَرَجُلٌ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«ادْنُ، فَكُلْ مَعَ الْقَوْمِ» ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ:«فَهَلاَّ صُمْتَ الْبِيضَ» ، قَالَ: وَمَا هُنَّ؟ ، قَالَ:«ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن إسماعيل بن إبراهيم": هو المعروف أبوه بـ"ابن عُلَيّة". و"يعلى": هو ابن عُبيد الطَّنَافسيّ الكوفيّ، ثقة، من كبار [9] 105/ 140.

والحديث مرسل أيضًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2430 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ رَجُلٍ، يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الْمَلِكِ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَأْمُرُ بِهَذِهِ الأَيَّامِ الثَّلَاثِ، الْبِيضِ، وَيَقُولُ: «هُنَّ

(2)

صِيَامُ الشَّهْرِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عبد الأعلى": هو الصنعاني البصري. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ.

و"أنس بن سيرين" الأنصاريّ، أبو موسى، وقيل: أبو حمزة، وقيل: أبو عبد اللَّه البصريّ، هو أخو محمد بن سرين، ثقة [3].

ولد لسنة، أو لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، ودخل على زيد بن ثابت. قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقة. وقال محمد بن عيسى بن السكن الواسطيّ، عن ابن معين: وَلَدُ سيرين ستة، أثبتهم محمد، وأنس دونه، ولا بأس به. وقال العجليّ: تابعيّ ثقة. وقال ابن سعد: توفي بعد أخيه محمد، وكان ثقة، قليل الحديث. وقال خليفة: مات سنة (118) وقال أحمد: مات سنة (120). روى له الجماعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا وكرره ثلاث مرات برقم 2430 و 2431 و 2432 وفي "كتاب الأشربة" 5728 حديث: "إن نوحًا نازعه الشيطان في عُود الكرم .. " الحديث.

[فائدة]: لِسِيرِينَ أولادٌ كثيرون، وهم محمد، وأنس، ويحيى، ومَعْبَد، وحفصة، وكريمة، وكان معبد أكبرهم سنّا، وأقدمهم موتًا، وحفصة أصغرهم، وممن عدّهم ستة ابن معين، كما تقدّم، والنسائيّ، في "الكنى"، والحاكم في "علومه"، وكذا أبو عليّ الحافظ فيما نقله الحاكم في "تاريخه" عنه، لكنه جعل مكان كريمة خالدًا، وجعله ابن سعد في "الطبقات" سابعًا، وزاد فيهم أيضًا عمرة، وسودة، وأمهما كانت أم ولد أنس ابن مالك، وأم سُليم، وأمها هي، ومحمد، وحفصة، وكريمة صفيّةُ، فصاروا عشرة،

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

- وفي نسخة: "هي".

ص: 350

وقد نظم ذلك البرماويّ بقوله [من الطويل]:

لِسِيرِينَ أَوْلَادٌ يُعَدُّونَ سِتَّةً

عَلَى الأَشْهَرِ الْمَعرُوفِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ

وِبِتتَانِ مِنْهُمْ حَفْصَة وَكرِيمَةُ

كَذَا أَنَسٌ مِنْهُمْ وَيَحْيَى وَمَعْبَدُ

وَزَادَ ابْنُ سَعْدٍ خَالدًا ثُمَّ عَمْرَةً

وَأُمَّ سُلَيمِ سَوْدَةَ لَا تُفَنَّدُ

وعدّهم ابن قتيبة في "المعارف" إجمالاً ثلاثة وعشرين، من أمهات أولاد.

وأبوهم سيرين كان من سَبْي عَيْنِ التَّمْر، وهو مولى لأنس بن مالك رضي الله عنه، كاتبه على عشرين ألف درهم، فأدّاهَا، وعَتَق

(1)

.

و"عبد الملك" بن قتادة بن مِلْحان القيسيّ، ويقال: ابن قُدامة -بدل قتادة- ويقال: عبد الملك ابن المنهال، ويقال: ابن أبي المنهال، مقبول [3].

رَوَى عن أبيه. وعنه أنس بن سيرين حديث الباب فقط. قال ابن المدينيّ: لم يرو عنه غيره. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال البخاريّ: عداده في البصريين، قال أبو الوليد الطيالسيّ: وَهِمَ شعبة في قوله: "ابن المنهال" -يعني أن الصواب "ابن مِلْحَان".

واللَّه أعلم. وأما ابن حبّان فقال: هو عبد الملك بن المنهال بن ملحان، قال: وليس في

الصحابة من يُسمّى المنهال غيره. روى له أبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط كرره ثلاث مرات بالأرقام المذكورة في الترجمة السابقة.

و"أبوه": هو قتادة بن مِلْحان -بكسر الميم، وسكون اللام، بعدها مهملة- القيسيّ الْجُريريّ، عداده في أهل البصرة. وله حديث الباب فقط. روى عنه ابنه عبد الملك، وأبو العلاء يزيد بن عبد اللَّه بن الشّخّير، وأبو العلاء حَيّان بن عُمير القيسيّ، وفي إسناد حديثه اختلاف. ورُوي عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن حيّان بن عُمير، قال: عُدتُ قَتادة بن ملحان، فمرّ رجل في أقصى الدار، فرأيته في وجه قتادة، ويقال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم مسح وجهه. وحُكي أن شعبة وَهِم في اسمه، فقال في رواية: عن أنس بن سيرين، عن عبد الملك بن منهال، عن أبيه، في صوم أيام البيض، فذكر البخاريّ، وغير واحد أن شعبة أخطأ في ذلك، وقد رُوي عن شعبة على الصواب أيضًا فيما حكاه العسكريّ، وابن عبد البرّ. روى له أبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، كرره ثلاث مرات بالأرقام المذكور في الترجمة السابقة.

وقوله: "هن صيام الشهر" أي ثواب صيام هذه الثلاثة الأيام كثواب صيام الشهر

(1)

- راجع شرحي "إسعاف ذوي الوطر" على ألفية السيوطي في "المصطلح" ج 2 ص 233 - 234.

ص: 351

كاملاً، إذ الحسنة بعشر أمثالها. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث ضعيف؛ لجهالة عبد الملك بن بن قتادة حالاً. أخرجه المصنّف هنا -84/ 2430 و 2431 و 2432 - وفي "الكبرى" 84/ 2737 و 2738 و 2739. وأخرجه (د) في "الصوم" 2449 (ق) في "الصيام" 1707 (أحمد) في مسند البصريين" 19805 و 19807. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

2431 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ شُعْبَةَ،، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ أَبِي الْمِنْهَالِ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ،، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَمَرَهُمْ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامِ الْبِيضِ، قَالَ: «هِيَ صَوْمُ الشَّهْرِ»).

قال الجامع عفا اللَّه تعالىَ عنه: "محمد بن حاتم": هو ابن نُعيم المروزيّ الثقة [12] من أفراد المصنّف. و"حبّان" -بكسر المهملة، وتشديد الموحدة- ابن موسى المروزيّ الثقة. و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك.

والحديث ضعيف، كما تقدّم بيانه فيما قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2432 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قُدَامَةَ بْنِ مِلْحَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَأْمُرُنَا بِصَوْمِ أَيَّامِ اللَّيَالِي، الْغُرِّ الْبِيضِ، ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن معمر" هو القيسيّ البحرانيّ المذكور أول الباب. وكذا "حَبَان" -بفتح الحاء المهملة

(1)

- ابن هلال، تقدم هناك أيضًا، ولا يلتبس عليك بحِبان المذكور في السند الذي قبله فإنه بكسر الحاء، فتفطن. و"همام": هو ابن يحيى العَوْذيّ البصريّ.

والحديث ضعيف، كما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- فما وقع في النسخة المطبوعة من "المجتبى" من ضبطه بالقلم بكسر الحاء غلط.

ص: 352

‌85 - (صَوْمُ يَوْمَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ)

2433 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَيْفُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، مِنْ خِيَارِ الْخَلْقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي نَوْفَلِ بْنِ أَبِي عَقْرَبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الصَّوْمِ؟ ، فَقَالَ:«صُمْ يَوْمًا مِنَ الشَّهْرِ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زِدْنِي زِدْنِي

(1)

، قَالَ:«تَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، زِدْنِي زِدْنِي، يَوْمَيْنِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زِدْنِي زِدْنِي، إِنِّي أَجِدُنِي قَوِيًّا، فَقَالَ:«زِدْنِي زِدْنِي، أَجِدُنِي قَوِيًّا» ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى ظَنَنْتُ، أَنَّهُ لَيَرُدُّنِي

(2)

، قَالَ:«صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، مِنْ كُلِّ شَهْرٍ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن عليّ": هو الفلاّس. و"سيف بن عُبيد اللَّه" الْجَرْميّ -بفتح الجيم- أبو الحسن السّرّاج البصريّ، صدوق ربّما خالف [9].

قال الفلاّس: من خيار الخلق، كما ذكره المصنّف هنا. وقال عمرو بن يزيد الجرميّ: ثقة. وذكره ابن في "الثقات"، وقال: ربما خالف. وقال أبو بكر البزّار في "مسنده": ثقة. وقال مسلمة بن قاسم: فيه ضعف. تفرّد به المصنّف، روى عنه هذا الحديث فقط.

و"الأسود بن شيبان": هو أبو شيبان السَّدُوسيّ البصريّ، ثقة عابد [6] 107/ 2048. و"أبو نوفل بن أبي عَقْرب، الكناني الْعَرِيجيّ -بفتح المهملة، وكسر الراء، وبالجيم- اسمه مسلم بن أبي عقرب، وقيل: عمرو بن مسلم بن أبي عقرب، وقيل: معاوية بن مسلم بن أبي عقرب، ثقة [3].

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وسماه شعبة معاوية بن عمرو، وقال: كنت آتيه أنا، وأبو عمرو بن العلاء، فأسأله أنا عن الفقه، ويسأله أبو عمرو عن العربيّة. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث، وأعاده بعده.

و"أبو عَقْرب" البكريّ الكنانيّ، والد أبي نوفل بن أبي عقرب، وقيل: جدّه. قال خليفة: اسمه خُويلد بن بَحِير. وقيل: عَوِيج بن بَحير بن عمرو بن حِمَاس بن عَوِيج بن بكر بن عبدمناة بن كنانة. وقيل: غير ذلك في نسبه، عداده في أهل البصرة، من الصحابة. وقال الواقديّ: عداده في أهل المدينة. وقال ابن سعد: كان من أهل مكة،

(1)

- وفي نسخة: "زدني" بلا تكرار.

(2)

- وفي نسخة: "ليس يزيدني".

ص: 353

ثم سكن البصرة، ويقال: إنه كان من الأجواد. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وله عنده هذا الحديث 2433 و 2434.

وقوله: "سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الصوم": أي عن مقدار ما أصومه من الأيام. وقوله: "تقول: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زدني زدني"، وفي "الكبري": قال: "يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "زني زدني".

وظاهر هذا الكلام منه صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستنكار، كأنه صلى الله عليه وسلم -استنكر طلب الزيادة منه، ويوضّح هذا المعنى ما يأتي في الرواية التالية من قوله:"فما كاد أن يزيده".

وقوله: "لَيَرُدُّني": -بالراء- من الرّدّ، وفي "الكبرى":"إن يزيدُني" -بالزاي- من الزيادة، وعليه فـ"إن" نافية، أي ما يزيدني، فيكون معنى النسختين واحدًا.

وقوله: "يومين من كلّ شهر": أي صُمْ يومين. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح الإسناد، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا- 85/ 2433 و 2434 - وفي "الكبرى" 85/ 2740 و 2741. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2434 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي نَوْفَلِ بْنِ أَبِي عَقْرَبٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الصَّوْمِ، فَقَالَ: «صُمْ يَوْمًا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ» ، وَاسْتَزَادَهُ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَجِدُنِي قَوِيًّا فَزَادَهُ قَالَ: «صُمْ يَوْمَيْنِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ» ، فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُنِي قَوِيًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي أَجِدُنِي قَوِيًّا، إِنِّي أَجِدُنِي قَوِيًّا» ، فَمَا كَادَ أَنْ يَزِيدَهُ، فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد الرحمن بن محمد بن سَلّام" -بتشديد اللام- ابن ناصح البغداديّ، ثم الطرَسوسيّ، أبو القاسم، مولى بني هاشم، وقد ينسب لجده، لا بأس به [11] 172/ 1141.

وقوله: "بأبي أنت وأمي". الضمير مبتدأ، والجارّ والمجرور متعلّق بالخبر المقدّر: والتقدير: أنت مَفْديّ بأبي، وأمي.

وقوله: "إني أجدني قويا، إني أجدني قويا" مكررًا استنكار منه صلى الله عليه وسلم لطلب المزيد، لأنه ربما يشقّ عليه، ويقع في حرج بسبب كثرة الصيام، فأراد أن يكتفي بصوم يومين من الشهر، فلما ألحّ عليه قال له:"صم ثلاثة أيامِ من الشهر".

اللَّهُمَّ زِدْنَا، وَلَا تَنْقُصّنَا، وَأَكْرِمْنَا، وَلَا تُهِنَّا، وَأعْطِنَا، وَلَا تحرِمْنَا، وَآثِرْنَا، وَلَا تُؤْثِرْ

ص: 354

عَلَيْنَا، وَارْضِنَا، وَارْضَ عَنا. اللَّهم آمين، آمين، آمين

(1)

.

[تنبيه]: هذا الباب آخر ما في "المجتبى" من الصيام، ويوجد في النسخة الهندية هنا: ما نصّه:

هذا آخر ما عند الشيخ من الصيام، والحمد للَّه رب العالمين. انتهى.

وقد اختصر المصنّف كتاب الصوم من "الكبرى" اختصارًا شديدًا، وذلك أن عدة أبواب كتاب الصوم فيه نحو (216) بابًا، وعدد أحاديثه نحو (932) فحذف منه نحوَ (34) بابًا، ونحوَ (590) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الدعاء ليس من النسائيّ، بل هو لي بمناسبة استزادة الصحابيّ من النبي صلى الله عليه وسلم، فزاده.

ص: 355

‌22 - (كِتَابُ الزَّكَاةِ)

أي هذا كتاب تُذكر فيه الأحاديث الدّالة على أحكام الزكاة.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم في أول "كتاب الصيام" وجه تأخير المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- لـ "كتاب الزكاة" عن "كتاب الصيام"، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

قال العلامة ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى-: قد تكرر في الحديث ذكر "الزكاة"، و"التزكية"، وأصل "الزكاة" في اللغة: الطهارة، والنماء، والبركة، والمدح، وكلّ ذلك قد استُعمِل في القرآن، والحديث، ووزنها فَعَلَة كالصدقة، فلما تحركت الواو، وانفتح ما قبلها انقلبت ألفًا، وهي من الأسماء المشتركة بين الْمُخرَج، والفعل، فتُطلَق على العين، وهي الطائفة من المال المزَكَّى بها، وعلى المعنى، وهو التزكية. ومن الجهل بهذا البيان أتِي من ظَلَم نفسه بالطعن على قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] ذاهبًا إلى العين، وإنما المراد المعنى الذي هو التزكية، فالزكاة طُهْرة للأموال، وزكاة الفطر طُهرة للأبدان انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: والزكاء بالمدّ: النماء، والزيادة، يقال: زكا الزرع والأرض تزكو زُكُوًّا، من باب قعد، وأزكى بالألف مثله، وسُمّي القدرُ الْمُخرَج من المال زكاةً؛ لأنه سبب يُرجى به الزكاءُ، وزكى الرجلُ ماله -بالتشديد تزكيةً، والزكاةُ اسم منه، وأزكى اللَّه المالَ، وزكّاه بالألف، والتثقيل. وإذا نسبت إلى الزكاة وجب حذفُ الهاء، وقلبُ الألف واوًا، فيقال: زكويّ، كما يقال في النسبة إلى حصاة حَصَويّ؛ لأن النسبة تردّ إلى الأصول، وقولهم: زكاتيّةٌ عاميّ، والصواب زكويّة انتهى

(2)

.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المجموع": قال الإمام أبو الحسن الواحديّ: الزكاة تطهير للمال، وإصلاح له، وتمييز، وإنماء، كلّ ذلك قد قيل، قال: والأظهر أن أصلها عن الزيادة، يقال: زكا الزرع يزكو زَكَاءً ممدود، وكلّ شيء ازداد فقد زكا، قال: والزكاة أيضًا الصلاح، وأصلها من زيادة الخير، يقال: رجلٌ زَكِيٌّ: أي زائد الخير، من قوم أزكياء، وزَكَّى القاضي الشهودَ: إذا بيّن زيادتهم في الخير، وسمي ما يُخرَج من

المال للمساكين بإيجاب الشرع زكاة؛ لأنها تزيد في المال الذي أُخرِجت منه، وتوفّره

(1)

- "النهاية" ج 2 ص 307.

(2)

- "المصباح المنير" في مادة زكا.

ص: 356

في المعنى، وتقيه الآفات. هذا كلام الواحديّ.

وأما الزكاة في الشرع، فقال صاحب "الحاوي" وآخرون: هو اسم لأخذ شيء مخصوص، من مال مخصوص، على أوصاف مخصوصة، لطائفة مخصوصة.

و (اعلم): أن الزكاة لفظة عربيّة معروفة قبل ورود الشرع، مستعملة في أشعارهم، وذلك كثير من أن يُستدلّ له. قال صاحب "الحاوي": وقال داود الظاهريّ: لا أصل لهذا الاسم في اللغة، وإنما عُرف بالشرع، قال صاحب "الحاوي": وهذا القول -وإن كان فاسدًا- فليس الخلاف فيه مؤثرًا في أحكام الزكاة. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الفتح": والزكاة في اللغة: النماء، يقال: زكا الزرع: إذا نما، وتَرِد أيضًا في المال، وترد أيضًا بمعنى التطهير. وشرعًا بالاعتبارين معًا.

أما بالأول فلأن إخراجها سبب للنماء في المال، أو بمعنى أن الأجر بسببها يكثر، أو بمعنى أن متعلّقها الأموال، ذات النماء، كالتجارة، والزراعة، ودليل الأول:"ما نقص مالٌ من صدقة"

(2)

، ولأنها يضاعف ثوابها، كما جاء:"إن اللَّه يربّي الصدقة"

(3)

.

وأما بالثاني: فلأنها طهرة للنفس من رذيلة البخل، وتطهير من الذنوب.

وهي الركن الثالث من الأركان التي بني الإسلام عليها.

وقال ابن العربيّ: تطلق الزكاة على الصدقة الواجبة، والمندوبة، والنفقة، والحقّ، والعفو. وتعريفها في الشرع: إعطاء جزء من النصاب الحوليّ إلى فقير ونحوه، غير هاشميّ، ولا مطّلبيّ.

ثم لها ركنٌ، وهو الإخلاص، وشرطٌ، هو السبب، وهو ملك النصاب الحوليّ، وشرطُ من تجب عليه، وهو العقل، والبلوغ، والحرّيّة.

ولها حكم، وهو سقوط الواجب في الدنيا، وحصول الثواب في الأخرى.

وحكمة: وهي التطهير من الأدناس، ورفع الدرجة، واسترقاق الأحرار، فإن الإنسان عبد الإحسان انتهى. وهو جيدٌ لكن في شرط من تجب عليه اختلاف.

والزكاة أمر مقطوع به في الشرع، يَستغني عن تكلّف الاحتجاج له، وإنما وقع الاختلاف في فروعه، وأما أصل فرضية الزكاة فمن جحدها كفر. انتهى كلام الحافظ

(4)

.

(1)

- "المجموع" ج 5 ص 295.

(2)

- رواه مسلم.

(3)

- متفق عليه بنحوه.

(4)

- "فتح" ج 4 ص 5.

ص: 357

وقال العلامة ابن الملّقن -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام": الزكاة في اللغة: النماء، والتطهير. فمن الأول قولهم: زَكَى الزرعُ: أي نما، فالمال ينمو بإخراج الزكاة من حيث لا يُرى، وإن كان في الظاهر يُحسّ بالنقصان، وقد صحّ أنه صلى الله عليه وسلم -قال:"ما نقص مال من صدقة". وقد وقع لبعض الصالحين، فوجد وزن ما عنده كما كان قبل الصدقة. وقيل: يزكو عند اللَّه أجرها، كما صحّ أن اللَّه تعالى يربّي الصدقة حتى تكون كالجبل. وقيل: لأن متعلقها الأموال ذات النماء، فسميت بالنماء لتعلقها به.

ومن الثاني: قوله تعالى: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} الآية [التوبة: 103]، وقوله:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]: أي طهّرها من دنس المعاصي والمخالفات، دليله قوله تعالى:{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10]: أي أخملها بالمعاصي، فالزكاة تطهّر النفس من رذيلة البخل وغيره. وقد قيل: من أدّى زكاة ماله لم يُسَمّ بخيلاً، وتطهّر أيضًا من الذنوب، وتطهّر المال أيضًا من الخبث. وقيل: سميت زكاةً لأنها تزكي صاحبها، وتشهد بصحّة إيمانه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"والصدقة بُرهان" رواه مسلم. وقد قيل في قوله تعالى: {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7]: لا يشهدون أن لا إله إلا اللَّه. وتسمى أيضًا صدقةً؛ كما نصّ عليه القرآن والسنّة؛ لأنها دليل لتصديق صاحبها، وصحّة إيمانه ظاهرًا وباطنًا. وتسمى أيضًا حقّا، قال تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، ونفقةً، قال تعالى:{وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]، وعفوًا، قال تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199]، فهذه خمسة أسماء.

وقوله تعالي: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف: 74] وقوله تعالى {غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم: 19] أي طاهرًا. وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] وقوله: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 18] أي يتقرّب. وقيل: يعمل صالحًا.

وجاء في القرآن بمعنى الإسلام، قال تعالى:{وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس: 7]. وبمعنى الحلال، قال تعالى:{أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف: 19].ومن العجب إنكار داود الظاهريّ وجود الزكاة لغة، وقال: إنما عُرفت بالشرع.

وهي في الشرع: اسم لما يُخرج من المال طهارةً له.

وشُرعت لمصلحة الدافع طهرةً له، وتضعيفًا لأجره، ولمصلحة الآخذ سدّا لخلّته.

وأفهم الشرع أنها وجبت للمساواة، وأنها لا تكون إلا في مال له بالٌ، وهو النصاب، ثم جعلها في الأموال النامية، وهي العين، والزرع، والماشية. وأجمعوا على أن وجوب الزكاة في هذه الأنواع، واختلفوا فيما سواها كالعروض، والجمهورُ على الوجوب

ص: 358

فيها؛ خلافًا لداود، مستدلاّ بحديث:"ليس على المسلم في عبده، ولا في فرسه صدقة". متفق عليه. وحمله الجمهور على ما كان للقنية. وحدّد الشرع نصاب كلّ جنس بما يحتمل المواساة.

فنصاب الفضّة خمس أواق، وهي مائتا درهم بنصّ الحديث. وأما الذهب، فعشرون مثقالاً بنصّ الحديث، والإجماع أيضًا، وإن كان فيه خلاف شاذّ. وأما الزرع والثمار والماشية، فنُصُبُها معلومة.

ورتّب الشرع مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب في المال، فأعلاها، وأقلها تعبًا

الركاز، وفيه الخمس؛ لعدم التعب فيه، ويليه الزرع والثمر، فإن سُقي بماء السماء، ونحوه، ففيه العشر، وإلا فنصفه؛ لأن في الأول التعبَ من طرف

(1)

، والثاني من طرفين، ويليه الذهب والفضّة، والتجارة، ففيها ربع العشر؛ لأنه يحتاج إلى العمل فيه جميع السنة، ويليه الماشية، فإنه يدخلها الأوقاص

(2)

، بخلاف الأنواع السابقة.

فالمأخوذ إذًا: الْخُمُس، ونصفه، وربعه، وثمنه، وهذا من حسن ترتيب الشريعة، وهو التدريج في المأخوذ انتهى كلام ابن الملقن

(3)

.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وتسمى الزكاة صدقةً مأخوذة من الصدق، إذ هي دليل على صحّة إيمانه، وصدق باطنه مع ظاهره.

قال: وشرعها اللَّه تعالى مواساة للفقراء، وتطهيرًا للأغنياء من البخل، وإنما تجب على من كان له من المال ما له بالٌ، وأقلّ ذلك النصاب على ما يأتي بيانه.

ثم موضوعها الأموال النامية، أي الصالحة للنماء، وهي العين، والحرث، والماشية، ثم هذه الأصول منها ما ينمو بنفسه، كالحرث والماشية، ومنها ما ينو بتغيير عينه وتقليبه كالعين. والإجماع منعقدٌ على تعلّق الزكاة بأعيان هذه المسميات، فأما تعلّق الزكاة بما سواها من العروض، والديون، ففيها ثلاثة أقوال:

فأبو حنيفة يوجبها على الإطلاق، وداود يُسقطها في ذلك، ومالك يوجبها في عروض التجارة، وفي الديون تفصيل يعرف في كتب الفقه، وسيأتي حجة كل فريق في تضاعيف الكلام انتهى كلام القرطبيّ

(4)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله القرطبيّ من إيجاب الإمام أبي حنيفة الزكاة في

(1)

- وقع في الكتاب بلفظ "من طرفين" في الموضعين، والظاهر أن الأول خطأ.

(2)

- جمع وَقَص بفتحتين، وهو ما بين الفريضتين من نُصُب الزكاة مما لا شيء فيه. اهـ"مصباح".

(3)

- "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" ج 5 ص 7 - 11.

(4)

- "المفهم" ج 3 ص 5.

ص: 359

الديون على الإطلاق، ليس كما قال، بل في مذهبه تفصيلٌ، فليُرجَع لكتب مذهبه.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

‌1 - (بَابُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ)

2435 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ، عَنِ الْمُعَافَى، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ الْمَكِّيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِمُعَاذٍ -حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ-: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا، أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ، أَنَّ اللَّهَ عز وجل، فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ -يَعْنِي أَطَاعُوكَ بِذَلِكَ- فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عز وجل، فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ بِذَلِكَ، فَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه بن عَمّار الموصليّ) ثقة حافظ [10] 20/ 1220.

2 -

(الْمُعَافَى) بن عمران الموصليّ، ثقة فقيه عابد، من كبار [9].

3 -

(زكريا بن إسحاق المكيّ) ثقة رمي بالقدر [6] 60/ 865.

4 -

(يحيي بن عبد اللَّه بن صَيفيّ) ويقال: يحيى بن عبد اللَّه بن محمد بن صَيفيّ، ويقال: يحيي بن محمد، مولى بني مخزوم، ويقال: مولى عثمان، المكيّ، ثقة [6].

قال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: يحيى بن عبد اللَّه بن صيفيّ كان ثقة، وله أحاديث. أخرج له الجماعة، وله عند المصنّف هذا الحديث فقط، وأعاده برقم 2522.

5 -

(أبو معبد) نافذ -بالذال المعجمة- مولى ابن عباس المكيّ، ثقة [4] 79/ 1335.

6 -

(ابن عباس) - رضي اللَّه تعالى عنهما -. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين غير شيخه وشيخ شيخه، فموصليان. (ومنها): إن فيه ابنَ عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من المكثرين

ص: 360

السبعة روى (1696) حديثًا، وهو آخر من مات بالطائف من الصحابة - رضي اللَّه تعالى - عنهم، ومن المشهورين بالفتوى. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِمُعَاذ) ابن جبل رضي الله عنه. قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: كذا في جميع الطرق، إلا ما أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كُريب، وإسحاق بن إبراهيم، ثلاثتهم عن وكيع، فقال فيه:"عن ابن عباس، عن معاذ بن جبل، قال: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، فعلى هذا فهو من مسند معاذ، وظاهر سياق مسلم أن اللفظ مدرج، لكن لم أر ذلك في غير رواية أبي بكر بن أبي شيبة، وسائر الرواة أنه من مسند ابن عباس، فقد أخرجه الترمذيّ، عن أبي كريب، عن وكيع، فقال فيه:"عن ابن عباس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا"، وكذا هو في مسند إسحاق بن إبراهيم، وهو ابن راهويه، قال:"حدثنا وكيع به". وكذا رواه عن وكيع أحمد في "مسنده"، أخرجه أبو داود عن أحمد، وللبخاريّ في "المظالم" عن يحيى بن موسى، عن وكيع كذلك. وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" عن محمد بن عبد اللَّه المخرِّميّ، وجعفر بن محمد الثعلبيّ. وللإسماعيليّ من طريق أبي خيثمة، وموسى بن السديّ، والدارقطنيّ من طريق يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقِيّ، وإسحاق بن إبراهيم البَغَويّ، كلهم عن وكيع كذلك. فإن ثبتت رواية أبي بكر، فهو من مرسل ابن عباس، لكن ليس حضور ابن عباس لذلك ببعيد؛ لأنه كان في أواخر حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو إذ ذاك مع أبويه بالمدينة انتهى كلام الحافظ

(1)

.

وقال ابن الملقّن رحمه الله بعد أن ذكر الاختلاف المذكور-: ما نصّه: ويُجمع بينهما بأن يكون سمع ابن عباس الحديث مرّة من معاذ، فرواه متّصلاً، وأرسله تارة، ومرسله حجة على المشهور، كيف وقد عُرف من أرسل عنه، ويحتمل أن ابن عباس سمعه من معاذ، وحضر القصّة، فرواه تارة بلا واسطة، وتارة بها، إما لنسيانه، وإما لمعنى آخر انتهى

(2)

.

(حِينَ بَعَثَهُ اِلَى الْيَمَنِ) وكان بَعْثُ معاذ رضي الله عنه إلى اليمن سنة عشر، قبل حج النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما ذكره البخاريّ في أواخر "المغازي". وقيل: كان ذلك في أواخر سنة تسع عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك، رواه الواقديّ بإسناده إلى كعب بن مالك، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" عنه. ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة تسع

(3)

. وقيل: بعثه

(1)

- "فتح" ج 4 ص 176.

(2)

-"الإعلام" ج 5 ص 14.

(3)

- وقع في "الفتح" هنا "سنة عشر"، وهو تصحيف، بلا شكّ، وقد وقع في "المغازي" ج 8 ص 386 على الصواب، فتنبّه.

ص: 361

عام الفتح سنة ثمان. واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر رضي الله عنهما، ثم توجّه إلى الشام، فمات بها، واختلف هل كان معاذ واليًا، أو قاضيًا؛ فجزم ابن عبد البرّ بالثاني، والغسّانيّ بالأول قاله الحافظ

(1)

.

(إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا، أَهْلَ كِتَابٍ) هي كالتوطئة للوصيّة لتستجمع همته عليها، لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهّال من عبدة الأوثان، وليس فيه أن جميع من يُقْدِمُ عليهم من أهل الكتاب، بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم، وإنما خصّهم بالذكر تفضيلاً لهم على غيرهم.

(فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) وفي رواية: "وأني رسول اللَّه". قال في "الفتح": كذا في رواية زكريا بن إسحاق لم يُختلف عليه فيها، وأما إسماعيل بن أمية، ففي رواية رَوْح بن القاسم عنه:"فأول ما تدعوهم إليه عبادة اللَّه، فإذا عرفوا اللَّه". وفي رواية الفضل بن العلاء عنه: "إلى أن يوحّدوا اللَّه، فإذا عرفوا ذلك".

ويجمع بينها بأن المراد بعبادة اللَّه توحيده، وبتوحيده الشهادة له بذلك، ولنبيّه صلى الله عليه وسلم بالرسالة.

ووقعت البداءة بهما لأنهما أصل الدين الذي لا يصحّ شيء غيرهما إلا بهما، فمن كان منهم غير موحّد، فالمطالبة متوجّهة إليه بكلّ واحدة من الشهادتين على التعيين، ومن كان موحدًا فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار بالوحدانيّة، والإقرار بالرسالة، وإن كانوا يعتقدون ما يقتضي الإشراك، أو يستلزمه، كمن يقول ببنوّة عُزير، أو يعتقد التشبيه، فتكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم.

واستَدَلّ به من قال من العلماء: إنه لا يشترط التبرّي من كلّ دين يخالف دين الإسلام؛ خلافًا لمن قال: إن من كان كافرًا بشيء، وهو مؤمن بغيره لم يدخل في الإسلام إلا بترك اعتقاد ما كفر به.

والجواب أن اعتقاد الشهادتين يستلزم ترك اعتقاد التشبيه، ودعوى بُنُوّة عزير، وغيره، فيكتفى بذلك.

واستُدلّ به على أنه لا يكفي في الإسلام الاقتصار على شهادة أن لا إله إلا اللَّه، حتى يُضيف إليها الشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وهو قول الجمهور. وقال بعضهم: يصير بالأولى مسلمًا، ويطالب بالثانية. وفائدة الخلاف تظهر في الحكم بالردّة.

(1)

- "فتح" ج 4 ص 126 - 127.

ص: 362

[تنبيهان]:

(أحدهما): كان أصل دخول اليهودية في اليمن في زمن أسعد أبي كُريب، وهو تُبّعٌ الأصغر، كما حكاه ابن إسحاق في أوائل "السيرة النبويّة".

(ثانيهما): قال ابن العربيّ في "شرح الترمذيّ": تبرّأت اليهود في هذه الأزمان من القول بأن عزيزًا ابنُ اللَّه، وهذا لا يمنع كونه موجودًا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك نزل في زمنه، واليهود معه بالمدينة وغيرها، فلم يُنقل عن أحد منهم أنه ردّ ذلك، ولا تعقّبه، والظاهر أن القائل بذلك طائفة منهم، لا جميهم بدليل أن القائل من النصارى: إن المسيح ابن اللَّه طائفة منهم، لا جميعهم، فيجوز أن تكون تلك الطائفة انقرضت في هذه الأزمان، كما انقلب اعتقاد معظم اليهود عن التشبيه إلى التعطيل، وتحوّل معتقد النصارى في الابن، والأب إلى أنه من الأمور المعنوية، لا الحسيّة، فسبحان مقلّب القلوب.

(1)

.

وكتب العلامة الصنعانيّ -رحمه اللَّه تعالى- على قول ابن العربيّ: ولم ينقل عن أحد منهم ردّ ذلك، ولا تعقّبه: ما نصّهُ: ونقول: إنهم لا يُصَدَّقون الآن في دعوى البراءة، فإنهم يُكَذّبون نصّ القرآن، فإن اللَّه أخبرنا بأن صفات رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم عندهم، يجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل، وأنكروا ذلك، فكيف تقبل براءتهم مما حكاه اللَّه عنهم من قولهم:{عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، وإن أراد ابن العربي أن الموجودين في زمنه تبرأوا من قولهم بذلك، فلا يُجدي نفعًا، ولا ينفي إشراك آبائهم، وإن قيل: إن بعض اليهود كان يقول ذلك، فكذلك قد قيل: إن بعض النصارى يقول ذلك، وقد نسب اللَّه القول إلى اليهود والنصارى جملة. انتهى. كلام الصنعانيّ

(2)

. وهو بحث نفيس. واللَّه تعالى أعلم.

(فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ بذَلِكَ) ولفظ "الكبرى": "فإن هم أطاعوا بذلك": أي انقادوا، وفي رواية ابن خُزيمة:"فإن هم أجابوا لذلك"، وفي رواية الفضل بن العلاء:"فإذا عرفوا ذلك".

واستُدلّ به على أن أهل الكتاب ليسوا بعارفين، وإن كانوا يعبدون اللَّه، وُيظهرون معرفته.، لكن قال حذاق المتكلّمين: ما عَرَفَ اللَّهَ من شبّهه بخلقه، أو أضاف إليه اليد، أو أضاف إليه الولد، فمعبودهم الذي عبد وه ليس هو اللَّه، وإن سمّوه به. قاله في "الفتح".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله هؤلاء المتكلّمون مشتمل على حقّ

(1)

- "فتح" ج 4 ص 127.

(2)

- "العدّة حاشية العمدة" ج 3 ص 273.

ص: 363

وباطل، أما الحقّ، فقولهم: من سننه اللَّه بخلقه، أو أضاف إليه الولد. وأما الباطل، فقولهم: أو أضاف إليه اليد، فإن هذا باطل بلا شكّ، فكيف يقال: من أضاف إلى اللَّه عز وجل ما أضافه لنفسه في كتابه العزيز، في قوله تعالى:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وقوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وأضافه إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحيحة، كما هو منصوص عليه في محلّه: إنه لا يعرف اللَّه، إن هذا لهو العجب العجاب، فمن اعتقد أن للَّه تعالى يدًا، لا تشبه أيدي المخلوقين، بل على ما يليق بجلاله، فهو العارف بربه حقّ معرفته، وإنه هو الذي على الحقّ، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّرْ بالاعتساف، واللَّه الهادي إلى سواء السبيل.

واستدلّ به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع، حيث دُعُوا أولاً إلى الإيمان فقط، ثم دُعُوا إلى العمل، ورتب ذلك بالفاء. وأيضًا فإن قوله:"فإن هم أطاعوا، فأَخْبِرْهُم" يُفهَم منه أنهم لو لم يطيعوا لا يجب عليهم شيء.

وفيه نظر؛ لأن مفهوم الشرط مُختَلَفٌ في الاحتجاج به. وأجاب بعضهم عن الأول بأنه استدلال ضعيف؛ لأن الترتيب في الدعوة لا يستلزم الترتيب في الوجوب، كما أن الصلاة، والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب، وقد قُدّمت إحداهما على الأخرى في هذا الحديث، ورُتبت الأخرى عليها بالفاء، ولا يلزم من عدم الإتيان بالصلاة إسقاط الزكاة.

[تنبيه]: كتب العلامة الصنعانيّ -رحمه اللَّه تعالى- في مسألة خطاب الكفّار بالفروع بحثا مفيدًا، أحببت إيراده هنا لنفاسته:

قال -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "غير مخاطبين بالفروع" أقول: هكذا أطبق الناس عليه، ولا يخفى أن اللَّه بعث الرسل تدعو العباد إلى طاعته تعالى في كلّ ما أمرت به الرسل، من غير تفرقة بين فروع ولا أصول، بل هذه التفرقة والتسمية حادثة اصطلاحًا قطعًا، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم في حديث عمر رضي الله عنه، وإتيان جبريل عليه السلام يسأله عن الإيمان، والإسلام، فأجابه بأن:"الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلًا". فقال له جبريل: "صدقت". وإذا كان هذا مسمّى الإسلام بالنصّ النبويّ. ورواية "بني الإسلام على خمس"، وذكر هذه، أخرج الأولى مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ. وأخرج الثانية الشيخان، والترمذيّ، وأبو داود، والنسائيّ.

وإذا عرفت أن هذا مسمى الإسلام، وقد عرفت أنه صلى الله عليه وسلم بُعث يدعوا الأمة إلى الإسلام، وقال في كتابه إلى قيصر الذي أخرجه البخاريّ وغيره:"أَسْلِمْ تَسْلَمْ" فقد دعا

ص: 364

إلى هذا المركّب من الخمسة الأجزاء، وهي سواء في صدقه عليها، فلا فروع، ولا أصول، بل هذه تسمية مبتدعة، وإذا كان كذلك، فالدخول في هذا الإسلام مخاطب به كلّ مكلّف، الكافر مكلّف بالدخول فيه، والاتصاف به، والمسلم مكلّف بالاستمرار عليه، فإن امتنع الكافر عن الدخول فيه عُذّب على تركه كما يُعذّب المسلم على تركه لأيّ أجزائه عمدًا، فالكفار مخاطبون بهذا الذي اصطلحوا على تسميته فروعًا، فإن امتنع الكافر عن الإسلام عوقب على تركه الإسلام بجميع أجزائه بلا فرق. وقالت الكفّار لَمّا سُئلوا:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} الآية [المدثر: 42، 43].والرسل من أولهم إلى آخرهم يقولون لأممهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وعبادته المأمور بها شاملة لكلّ ما تأمرهم به الرسل مما سَمَّوه أصولاً، وفروعًا، وهذا شيء دخيل. قال: ولكن لما قسموا الإسلام إلى الأمرين، فشا لهم الخلاف في مسألة خطاب الكفار بالفروع، وأطالوا المسألة، والمقاولة في الأصول الفقهيّة، وإلا فهذا شيء لا يُعرَف في سلف الأمّة، وعصر النبوّة انتهى كلام الصنعانيّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله العلاّمة الصنعانيّ -رحمه اللَّه تعالى- بحثٌ نفيس، وتحرير أنيس. واللَّه تعالى أعلم.

وقيل: الحكمة في ترتيب الزكاة على الصلاة أن الذي يقرّ بالتوحيد، ويجحد الصلاة يكفر بذلك، فيصير ماله فيئًا، فلا تنفعه الزكاة.

قال الحافظ: وأما قول الخطابي: إن ذكر الصدقة أُخّر عن ذكر الصلاة؛ لأنها إنما تجب على قوم دون قوم، وأنها لا تكرر تكرار الصلاة. فهو حسن، وتمامه أن يقال: بدأ بالأهمّ، فالأهمّ، وذلك من التلطّف في الخطاب، لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرّة لم يأمن النفرة

(2)

.

وقال الإمام ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى-: قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن هم أطاعوا لك بذلك". طاعتهم في الإيمان بالتلفّظ بالشهادتين، وأما طاعتهم في الصلاة، فتحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المراد إقرارهم بوجوبها، وفرضيتها عليهم، والتزامهم لها.

والثاني: أن يكون المراد الطاعة بالفعل، وأداء الصلاة، وقد رجّح الأول بأن المذكور في لفظ الحديث هو الإخبار بالفرضيّة، فتعود الإشارة بذلك إليها. ويترجّح الثاني بأنهم لو أُخبروا بالوجوب، فبادروا بالامتثال بالفعل لكفى، ولم يشترط تلفّظهم بالإقرار بالوجوب، وكذلك نقول في الزكاة: لو امتثلوا بأدائها من غير تلفّظ بالإقرار

(1)

- المصدر السابق.

(2)

-"فتح" ج 4 ص 128.

ص: 365

لكفى، فالشرط عدم الإنكار، والإذعان للوجوب، لا التلفّظ بالإقرار انتهى

(1)

.

وذكر ابن المقّن وجهًا ثالثًا، وهو أن يكون المراد مجموع ذلك، قال: وهو الظاهر

(2)

.

وقال الحافظ: الذي يظهر أن المراد القدر المشترك بين الأمرين، فمن امتثل بالإقرار بالفعل كفاه، أو بهما فأولى، وقد وقع في رواية الفضل بن العلاء بعد ذكر الصلاة:"فإذا صلّوا"، وبعد ذكر الزكاة:"فإذا أقرّوا بذلك، فخذ منهم". انتهى

(3)

.

وقال الصنعانيّ: ويظهر أن المراد: فأخبرهم أن اللَّه قد فرض عليهم فعل خمس صلوات في اليوم والليلة، لا أنه فَرَضَ الإقرار بوجوبها خمس مرّات كما عبّر في غيره بقوله صلى الله عليه وسلم:"وتقيم الصلاة"، وإقامتها فعلها، فطاعتهم بفعلها، وهو المطلوب، لا مجرّد الإقرار، ولذا ضمّن أطاعوا انقادوا، وعدّاه باللام

(4)

، إذ الانقياد زيادة على مجرّد الطاعة، فالمطلوب منهم في الصلاة فعلها، وهو يتضمّن الإقرار بفرضيتها، واعتقاده ظاهرًا، وأما التلفّظ بالإقرار بالفرضيّة لها، فليس بمراد، ولا ورد طلب الشارع لذلك، إلا في الشهادتين، لا غير، فقول الشارح: ولو بادروا بالامتثال بالقول لكفى غير ظاهر، بل نقول: التلفّظ بالوجوب بها غير مطلوب منهم، ومثله يجري في الزكاة. وإنما قلنا ظاهراً لأنهم لو فعلوها غير معتقدين وجوبها، كصلاة المنافقين قبلنا ظاهر فعلهم، وأدخلناهم في حكم الإسلام، ووكلنا سرائرهم إلى اللَّه، كما تقرّر في غير هذا انتهى كلام الصنعانيّ

(5)

. وهو حسن جدًّا. واللَّه تعالى أعلم.

(فَأَخْبِرْهُمْ، أَنَّ اللَّهَ عز وجل، فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةِ) استُدلّ به على أن الوتر ليس بواجب، وكذا ركعتا الفجر، فإن بَعْثَ معاذ إلى اليمن قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم -بقليل، بعد الأمر بالوتر، وركعتي الفجر. وقد قال بوجوب الوتر أبو حنيفة، دون صاحبيه، وبوجوب ركعتي الفجر الحسن البصريّ، وذلك مردود عليهما، وقد تقدّم تمام البحث في ذلك في موضعه، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

(فَإِنْ هُمْ -يَعْنِي أَطَاعُوكَ بِذَلِكَ) ولفظ "الكبرى": "فإن يعني هم أطاعوا لك بذلك".

(1)

- "إحكام الأحكام" ج 3 ص 274 - 275. بنسخة الحاشية.

(2)

- "الإعلام" ج5 ص 20.

(3)

- "فتح" ج 4 ص 129.

(4)

- هذا في رواية من رواه "فإن هم أطاعوا لك بذلك"، وأما رواية النسائيّ هنا، "فإن هم أطاعوك" بدون لام.

(5)

-"العدّة" ج 3 ص 275.

ص: 366

ولعلّ بعض الرواة شكّ، فزاد "يعني". وسيأتي في 46/ 2522 - من طريق وكيع، عن زكريا بن إسحاق بدونها (فأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عز وجل، فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً) زاد في رواية أبي عاصم، عن زكريا:"في أموالهم". وفي رواية الفضل بن العلاء: "افترض عليهم زكاة في أموالهم، تؤخذ من غنيّهم، فتُردّ على فقيرهم"(تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ) استُدلّ به على أن الإمام هو الذي يتولّى قبض الزكاة، وصرفها، إما بنفسه، وإما بنائبه، فمن امتنع منها أُخذت منه قهرًا (فَتُرَدُّ) وفي نسخة:"وتردّ" بالواو (عَلَى فُقَرَائِهِمْ) استُدلّ به لقول مالك وغيره: إنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد. قال الحافظ: وفيه بحث -كما قال ابن دقيق العيد- لاحتمال أن يكون ذكر الفقراء لكونهم الغالب في ذلك، وللمطابقة بينهم وبين الأغنياء انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول الأول هو الأظهر، فيقدّم على الاحتمال المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

وقال الخطابيّ: وقد يَستَدِلّ به من لا يرى على المديون زكاة ما في يده إذا لم يفضل من الدين الذي عليه قدر نصاب، لأنه ليس بغنيّ، إذا كان إخراج ماله مستحقًا لغرمائه.

(فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ بِذَلِكَ) ولفظ "الكبرى": "فإن هم أطاعوا لك بذلك، (فَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ") وفي الرواية الآتية في -46/ 2522 - :"فإن هم أطاعوك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين اللَّه حجاب".

و"إياك" منصوب بفعل مضمر، لا يجوز إظهاره، والتقدير: باعد، واتق كرائم أموالهم، وهو من باب إياك والأسد، وأهلك والليل، وأشباه ذلك. قال ابن قتيبة: ولا يجوز: "إياك كرائم" بحذف الواو. قال ابن مالك في "خلاصته":

إِيَّاكَ وَالشَّرَّ وَنَحْوَهُ نَصَبْ

مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ

والكرائم جمع كريمة، وهي جامعة الكمال الممكن في حقّها، من غزارة لبن، وكمال صورة، أو كثرة لحم، أو صوف، وهي النفائس التي تتعلّق بها نفس مالكها، أو يختصّها لنفسه، ويؤثرها، كالأكولة

(1)

، والرُّبّى، وهي التي تُربّي ولدها، أو الحديثة العهد بالنتاج، والماخض، وهي الحامل، وفحلِ الغنم، وحَزَرَاتِ المال

(2)

-بتقديم الزاي، وقيل: بتأخيرها- وهي التي تُحرَز بالعين، وتُرمَق لشرفها عند أهلها.

(1)

- الأكولة التي تُسَمَّنُ للأكل، وقيل: هي الخصيّ. وأخرج مالك في "الموطإ" عن سفيان بن عبد اللَّه الثقفيّ، أن عمر بن الخطاب قال له:"لا تأخذ الأكولة، ولا الرُّبّى، ولا الماخض، ولا فحل الغنم" انتهى.

(2)

- "الحَزْرَةُ" من المال: خياره، وجمعه حَزَرَات بفتحات. أفاده في "القاموس".

ص: 367

والحكمة في منع الساعي ذلك أن الزكاة وجبت مواساة للفقراء في مال الأغنياء، فلا يناسب ذلك الإجحاف بأرباب الأموال، فسامحهم الشرع بما يضنّون به، ونهى الساعي عن أخذه، فيحرم عليه أخذها، بل يأخذ الوسط، ويحرم على ربّ المال إخراج شرّ المال، نعم لو رضي المالك بإخراج الكريمة قُبلت منه.

وفي وجه عند الشافعية: أن الرجل لا تؤخذ؛ لأنها لقرب عهدها بالولادة مهزولة، والهزال عيب. وفي وجه آخر: أنه لا تقبل الكريمة إذا تبرّع المالك بها للنهي المذكور، وهذان الوجهان فاسدان، كما قال العلامة ابن الملقّن -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقوله: "واتق دعوة المظلوم": أي تجنّب الظلم؛ لئلا يدعو عليك المظلوم. وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم، والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم الإشارة إلى أن أخذها ظلم.

وقال بعضهم: عطف "واتق" على عامل "إياك" المحذوف وجوبًا، فالتقدير اتق نفسك أن تتعرّض للكرائم. وأشار بالعطف إلى أن أخذ الكرائم ظلم. ولكنه عمم إشارة إلى التحرّز عن الظلم مطلقًا.

وقوله: "فإنها ليس بينها وبين اللَّه عز وجل حجاب" أي ليس لها صارف يصرفها، ولا مانع، والمراد أنها مقبولة، وإن كان عاصيًا، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. عند أحمد مرفوعًا:"دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرًا، ففجوره على نفسه". وإسناده حسن.

وقال الطيبيّ: قوله: "اتق دعوة المظلوم" تذييل لاشتماله على الظلم الخاصّ من أخذ الكرائم، وعلى غيره. وقوله:"فإنه ليس بينها وبين اللَّه حجاب" تعليل للاتقاء، وتمثيل للدعاء، كمن يقصد دار السلطان متظلّمًا، فلا يُحجب.

قال ابن العربيّ: إلا أنه وإن كان مطلقًا، فهو مقيد بالحديث الآخر أن الداعي على ثلاث مراتب: إما أن يُعجّل له ما طلب، وإما أن يدّخر له أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله. وهذا كما قُيّد قوله تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} الآية [النمل: 62] بقوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} الآية [الأنعام: 41] انتهى.

[تنبيه]: كتب ابن الملقّن في "شرح العمدة" على قوله: "ليس بينها وبين اللَّه حجاب": ما نصّه: الحجاب يقتضي الاستقرار في المكان، والباري منزّه عن ذلك، إلا أنه صلى الله عليه وسلم -كان يُخاطب العرب بما تَفهم. والمراد أنها مقبولة على كلّ حال، لا أن للباري

(1)

- "الإعلام" ج5 ص 26 - 28.

ص: 368

جلّ وتعالى حجابًا يحجبه عن الناس. ويحتمل كما قال الفاكهيّ أن يراد بالحجاب هنا المعنويّ، دون الحسيّ انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ليت شعري ما الذي يعنيه بنفي الحجاب؟، كيف ينفي حجاب اللَّه تعالى، من يسمع الحديث الصحيح، كحديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، قال: قام فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بخمس كلمات، فقال:"إن اللَّه عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يَخفِض القسط، وَيرفعه، يُرفَع إليه عملُ الليل، قبل عمل النهار، وعمل النهار، قبل عمل الليل، حجابه النورُ". وفي روايةٍ: "النارُ"، لو كشفه، لأحرقت سُبُحاتُ وجهه، ما انتهى إليه بصره، من خلقه". أخرجه مسلم في "صحيحه". وغير ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة في إثبات الحجاب؟، إن هذا لهو العَجَب العُجَاب.

ومن العجيب أن صاحب "الفتح" قد ذكر أيضًا نحو هذا الكلام مُقررًا له، وراضيا به.

والحقّ أننا نثبت ما أثبته اللَّه تعالى لنفسه، من حجاب، أو غيره، على المعنى اللائق به سبحانه وتعالى، فلا نعطّل، ولا نشبّه. ولقد صدق في قوله: كان صلى الله عليه وسلم يخاطب العرب بما تفهم.

ونحن- وللَه الحمد- نكتفي بما تفهمه العرب، واكتفت به من ظواهر النصوص التي بلّغها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ، لأنه هو الصراط المستقيم الذي أوجب اللَّه على عموم الثقلين أن يتّبعوه، وأوجب عليهم أيضًا اعتقاد ما فهموه، فلو كان هذا الذي فهمته العرب غير مراد لبادر صلى الله عليه وسلم إلى أنه غير مراد، وبيّن أن المراد كذا وكذا، فقد بيّن جميع ما يحتاج إليه المكلّف، من المعتقدات، والأعمال بيانا شافيًا. كما أمره اللَّه عز وجل بقوله:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: 44]

فيا أيها العاقل لا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وملجأ العنيد. اللَّهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عباك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، اللَّهمّ أرنا الحقّ حقًا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، آمين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

- "الإعلام" ج5 ص 28 - 29.

ص: 369

حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 1/ 2435 و 46/ 2522 - وفي "الكبرى" 1/ 2215.

وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1385 و 1458 و 1496 وفي "المظالم والغصب" 2448 و"المغازي" 4347 و"التوحيد" 7371 و 7372 (م) في "الإيمان" 19 وفي "الزكاة" 625 و"البر والصلة" 2014 (د) في "الزكاة" 1584 (ق) في "الزكاة" 1783 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 2072 (الدارميّ) في 1614. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو وجوب الزكاة (ومنها): وجوب الدعوة إلى اللَّه تعالى (ومنها): مشروعيّة الدعاء إلى التوحيد قبل القتال (ومنها): توصية الإمام عامله فيما يحتاج إليه من الأحكام وغيرها (ومنها): بَعْثُ السعاة لأخذ الزكاة (ومنها): قبول خبر الواحد، ووجوب العمل به (ومنها): إيجاب الزكاة في مال الصبيّ والمجنون؛ لعموم قوله: "من أغنيائهم". قاله عياض، وفيه بحث (ومنها): أن الزكاة لا تدفع إلى الكافر؛ لعود الضمير في "فقرائهم" إلى المسلمين، سواء قلنا بخصوص البلد، أو العموم (ومنها): أن الفقير لا زكاة عليه (ومنها): أن من ملك نصابًا لا يُعطى من الزكاة، من حيث جعل المأخوذ منه غنيًا، وقابله بالفقير، ومن ملك النصاب فالزكاة مأخوذة منه، فهو غنيّ، والغنى مانع من إعطاء الزكاة؛ إلا من استشني

(1)

. قال ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى-: وليس هذا البحث بالشديد القوة، وهذا مذهب أبي حنفية، وبعض أصحاب مالك (ومنها): ما قاله البغويّ: فيه أن المال إذا تلف قبل التمكن من الأداء سقطت الزكاة؛ لإضافة الصدقة إلى المال، وفيه نظر أيضًا (ومنها): أنه دليل على تعظيم أمر الظلم (ومنها): استجابة دعوة المظلوم، وأنه لا يحجبها عن اللَّه تعالى حجاب، وإن كان صاحبها فاجرًا، فقد أخرج أحمد بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافرًا، فإنه ليس دونها حجاب". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): [إن قيل]: لِمَ لم يقع في هذا الحديث ذكر الصوم، والحجّ، مع أن بعث معاذ كما تقدّم كان آخر الأمر؟.

(1)

- أراد به ما أخرجه أبو داود، وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا تحلّ الصدقة لغنيّ، إلا لخمسة: العامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل اللَّه، أو مسكين تُصُدّق عليه، فأهداها لغنيّ"، وهو حديث صحيح.

ص: 370

[قلت]: أجاب ابن الصلاح -رحمه اللَّه تعالى- بأن ذلك تقصير من بعض الرواة. وتُعُقّب بأنه يفضي إلى ارتفاع الوثوق بكثير من الأحاديث النبويّة؛ لاحتمال الزيادة والنقصان.

وأجاب الكرمانيّ بأن اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر، ولهذا كرّرا في القرآن، فمن ثَمّ لم يُذكر الصوم والحجّ في هذا الحديث مع أنهما من أركان الإسلام. والسرّ في ذلك أن الصلاة والزكاة إذا وجبا على المكلّف لا يسقطان عنه أصلاً، بخلاف الصوم، فإنه يسقط بالفدية، والحجّ فإن الغير قد يقوم مقامه فيه كما في المعضوب

(1)

، ويحتمل أنه لم يكن شُرع انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الأخير باطلٌ، لما تقدّم آنفًا من أن بعث معاذ رضي الله عنه كان متأخرًا. واللَّه تعالى أعلم.

وقال الحافظ: وأجاب شيخنا شيخ الإسلام- يريد البلقينيّ-: إذا كان الكلام في بيان الأركان لم يُخلّ الشارع منه بشيء، كحديث ابن عمر:"بُني الإسلام على خمس"، فإذا كان في الدعاء إلى الإسلام اكتفى بالأركان الثلاثة: الشهادة، والصلاة، والزكاة، ولو كان بعد وجود فرض الصوم والحجّ، كقوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} الآية [التوبة: 5 و11]، في موضعين من "براءة" مع أن نزولها بعد فرض الصوم والحجّ قطعًا، وحديث ابن عمر أيضًا:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، ويقيموا الصلاة، ويؤتو الزكاة"، وغير ذلك من الأحاديث.

قال: والحكمة في ذلك أن الأركان الخمسة اعتقاديّ، وهو الشهادة، وبدنيّ، وهو الصلاة، وماليّ، وهو الزكاة، فاقتصر في الدعاء إلى الإسلام عليها لتفرّع الركنين الأخيرين عليها، فإن الصوم بدنيّ محض، والحجّ بدنيّ ماليٌّ. وأيضًا فكلمة الإسلام هي الأصل، وهي شاقّة على الكفّار، والصلوات شاقّة لتكرّرها، والزكاة شاقّة لما في جِبلّة الإنسان من حبّ المال، فإذا أذعن المرء لهذه الثلاثة كان ما سواها أسهل عليه بالنسبة إليها. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله شيخ الإسلام البلقينيّ -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في السنة التي فُرضت فيها الزكاة:

ذهب الأكثرون إلى أنّ فرضيتها وقع بعد الهجرة، فقيل: كان في السنة الثانية، قبل

(1)

- يقال رجل معضوب: زَمِنٌ لا حَرَاكَ به، كان الزَّمَانة عَضَبته، ومنعته الحركة. قاله في "المصباح".

(2)

- "فتح" ج 4 ص 130.

ص: 371

فرض رمضان، أشار إليه النوويّ في "باب السير" من كتابه "الروضة". وجزم ابن الأثير في "التاريخ" بأن ذلك كان في السنة التاسعة: وهذا -كما قال الحافظ- فيه نظر، فقد ثبت في حديث ضمام بن ثعلبة، وفي حديث وقد عبد القيس، وفي عدّة أحاديث ذكر الزكاة، وكذا مخاطبة أبي سفيان مع هرقل، وكانت في أول السابعة، وقال فيها:"يأمرنا بالزكاة"، لكن يمكن تأويل كلّ ذلك، كما سيأتي في آخر الكلام.

وقوّى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع في قصّة ثعلبة بن حاطب المطوّلة، ففيها:"لما أنزلت آية الصدقة بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عاملاً فقال: ما هذه إلا جزيةٌ، أو أخت الجزية". والجزية إنما وجبت في التاسعة، فتكون الزكاة في التاسعة. لكن الحديث ضعيف، لا يُحتجّ به.

وادعى ابن خزيمة في "صحيحه" أن فرضها كان قبل الهجرة، واحتجّ بما أخرجه من حديث أم سلمة في قصّة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها أن جعفر بن أبي طالب، قال للنجاشيّ في جملة ما أخبره به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ويأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام" انتهى.

قال الحافظ: وفي استدلاله بذلك نظرٌ، لأن الصلوات الخمس لم تكن فُرضت بعدُ، ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن في أول ما قدم على النجاشيّ، وإنما أخبره بذلك بعد مدّة، قد وقع فيها ما ذكر، من قصّة الصلاة، والصيام، وبلغ ذلك جعفرًا، فقال:"يأمرنا" بمعنى يأمر به أمته، وهو بعيدٌ جدًّا.

وأولى ما حُمل عليه حديث أم سلمة هذا -إن سَلِمَ من قدح في إسناده- أن المراد بقوله: "يأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام"، أي في الجملة، ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس، ولا بالصيام صيام رمضان، ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول.

ومما يدلّ على أن فرض الزكاة كان قبل السنة التاسعة حديث أنس رضي الله عنه في قصّة ضمام بن ثعلبة، المتقدّم للنسائيّ في "الصيام"- 1/ 2092 - وقوله: أنشدك اللَّه، آالله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا، فتردها على فقرائنا"، وكان قدوم ضمام سنة خمس، كما تقدّم، وإنما الذي وقع في التاسعة بعث العمّال لأخذ الصدقات، وذلك يقتضي تقدّم فريضة الزكاة قبل ذلك.

ومما يدلّ على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أن صيام رمضان إنما فُرض بعد الهجرة؛ لأن الآية الدّالة على فرضيته مدنيّة بلا خلاف.

ص: 372

وثبت عند أحمد، وابن خزيمة أيضًا، والنسائيّ

(1)

، وابن ماجه، والحاكم، من حديث قيس بن سعد بن عُبادة، قال:"أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت الزكاة، فلم يأمرنا، ولم ينهنا، ونحنُ نفعله". إسناد صحيح، ورجاله رجال الصحيح، إلا أبا عمّار الراوي له عن قيس بن سعد، وهو كوفيّ، اسمه عَرِيب -بالمهملة المفتوحة- ابن حُميد، وقد وثقه أحمد، وابن معين، وهو دالّ على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة، فيقتضي وقوعها بعد فرض رمضان، وذلك بعد الهجرة، وهو المطلوب.

ووقع في "تاريخ الإسلام": في السنة الأولى فُرِضت الزكاة. وقد أخرج البيهقيّ في "الدلائل" حديث أم سلمة المذكور من طريق "المغازي" لابن إسحاق" من طريق يونس ابن بُكير، عنه، وليس فيه ذكر الزكاة، وابن خزيمة أخرجه من حديث ابن إسحاق، لكن من طريق سلمة بن الفضل، عنه، وفي سلمة مقال

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن الراجح أن فرض الزكاة كان بعد الهجرة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم فيمن تجب عليه الزكاة:

قال الإمام محمد بن رُشد -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "بداية المجتهد، ونهاية المقتصد":

اتفقوا على أنها تجب على كل مسلم حرّ، بالغ، عاقل، مالك للنصاب، ملكًا تامًّا.

واختلفوا في وجوبها على اليتيم، والمجنون، والعبيد، وأهل الذمّة، والناقص الملك، مثل الذي عليه دينٌ، أو له الدين، ومثل المال المحبّس الأصل.

فأما الصغار، فإن قومًا قالوا: تجب عليهم الزكاة في أموالهم، وبه قال عمر، وعليّ، وابن عمر، وجابر، وعائشة، والحسن بن عليّ من الصحابة رضي الله عنهم، وبه قال جابر بن زيد، وابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، وربيعة، ومالك، والشافعيّ، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وغيرهم من فقهاء الأمصار.

وقال قوم: ليس في مال اليتيم صدقة أصلاً. وبه قال النخعيّ، والحسن، وسعيد بن جبير، من التابعين.

وفرق قوم بين ما تخُرج الأرض، وبين ما لا تُخرجه، فقالوا: عليه الزكاة فيما تُخرجه الأرض، وليس عليه زكاة فيما عدا ذلك، من الماشية، والنّاضّ

(3)

، والعُرُوض، وغير

(1)

- سيأتي في - 35/ 2507.

(2)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 9 - 10.

(3)

-أي الدرهم والدينار، فقد ذكر في "القاموس" من معاني الناضّ: الدرهم، والدينار، أو إنما يسمى ناضّا إذا تحوّل عيَنًا بعد أن كان متاعًا انتهى بتصرّف من مادّة نضّ.

ص: 373

ذلك. وهو قول أبي حنيفة، وأصحابه.

وفرق آخرون بين الناضّ وغيره، فقالوا: عليه الزكاة إلا في الناضّ.

قال ابن رشد: وسبب اختلافهم في إيجاب الزكاة عليه، أو لا إيجابها هو اختلافهم في مفهوم الزكاة الشرعية، هل هي عبادة كالصلاة، والصيام؟ أم هي حقّ واجب للفقراء على الأغنياء؟ فمن قال: إنها عبادة اشترط فيها البلوغ، ومن قال: إنها حقّ واجبٌ للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء، لم يَعتَبِر في ذلك بلوغًا من غيره، وأما من فرّق بين ما تُخرجه الأرض، أو لا تخرجه، وبين الخفيّ والظاهر، فلا أعلم له مستندًا في هذا الوقت. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المذهب الأول عندي هو الأرجح؛ لعموم النصوص الصحيحة في إيجاب الزكاة، ولما روي من آثار الصحابة: عمر، وعليّ، وعائشة، وجابر رضي الله عنهم، رواها أبو عبيد، والبيهقيّ، والدارقطنيّ وغيرهم. واللَّه تعالى أعلم.

قال: وأما أهل الذمّة، فإن الأكثر على أن لا زكاة على جميعهم؛ إلا ما روت طائفة من تضعيف الزكاة على نصارى بني تغلب -أعني أن يؤخذ منهم مثلا ما يؤخذ من المسلمين في كلّ شيء-.

وممن قال بهذا الشافعيّ، وأبو حنيفة، وأحمد، والثوريّ، وليس عن مالك في ذلك قولٌ، وإنما صار هؤلاء لهذا لأنه ثبت أنه فعل عمر بن الخطّاب بهم، وكأنهم رأوا أن مثل هذا هو توقيفٌ، ولكن الأصول تعارضه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كون هذا الذي أخذ من نصارى بني تغلب زكاةً فيه نظرٌ لا يخفى. واللَّه تعالى أعلم.

قال: وأما العبيد فإن الناس فيهم على ثلاثة مذاهب:

فقوم قالوا: لا زكاة في أموالهم أصلاً، وهو قول ابن عمر، وجابر من الصحابة رضي الله عنهم، ومالك، وأحمد، وأبي عُبيد، من الفقهاء.

وقال آخرون: بل زكاة مال العبد على سيده، وبه قال الشافعيّ، فيما حكاه ابن المنذر، والثوريّ، وأبو حنيفة، وأصحابه.

وأوجبت طائفة أخرى على العبد في ماله الزكاة، وهو مرويّ عن ابن عمر، من الصحابة، وبه قال عطاء، من التابعين، وأبو ثور من الفقهاء، وأهل الظاهر، وبعضهم

(1)

. وجمهور من قال: لا زكاة في مال العبد هو على أن لا زكاة في مال المكاتب حتى يعتق. وقال أبو ثور: في مال المكاتب زكاة.

(1)

- هكذا نسخة الكتاب: "وبعضهم" بالواو، ولعله:"أو بعضهم" بـ "أو"، فليحرّر.

ص: 374

وسبب اختلافهم في زكاة مال العبد اختلافهم في هل يملك العبد ملكًا تامّا أو غير تام؟ فمن رأى أنه لا يملك ملكًا تامًّا، وأن السيّد هو المالك، إذ كان لا يخلو مال من مالك، قال: الزكاة على السيّد، ومن رأى أنه لا واحد منهما يملكه ملكا تامًا، لا السيّد، إذ كانت يد العبد هي التي عليه، لا يد السيّد، ولا العبد أيضًا؛ لأن للسيّد انتزاعه منه، قال: لا زكاة في ماله أصلًا. ومن رأى أن اليد على المال توجب الزكاة فيه لمكان تصرّفها فيه تشبيهًا بتصرّف يد الحرّ قال: الزكاة عليه، لا سيّما من كان عنده أن الخطاب العامّ يتناول الأحرار والعبيد، وأن الزكاة عبادة تتعلّق بالمكلّف لتصرّف اليد في المال.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا القول الأخير هو الظاهر عندي؛ لأن النصوص تعمّ الحرّ والعبد، وظواهر النصوص أن العبد يملك إذا أذن له السيّد في التصرّف. واللَّه تعالى أعلم.

قال: وأما المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم، أو تستغرق ما تجب فيه الزكاة من أموالهم، وبأيديهم أموال تجب فيها الزكاة، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال: قوم: لا زكاة في مال حبًّا كان، أو غيره حتى تُخرج منه الديون، فإن بقي ما تجب فيه الزكاة زُكّي، وإلا فلا وبه قال الثوريّ، وأبو ثور، وابن المبارك، وجماعة.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: الدين لا يمنع زكاة الحبوب، ويمنع ما سواها.

وقال مالك: الدين يمنع زكاة الناضّ فقط، إلا أن يكون له عُروض فيها وفاء من دينه، فإنه لا يَمنع.

وقال قوم بمقابل القول الأول، وهو أن الدين لا يمنع زكاة أصلاً.

والسبب في اختلافهم اختلافُهم، هل الزكاة عبادة، أو حقّ مرتّبٌ في المال للمساكين؟ فمن رأى أنها حقّ لهم قال: لا زكاة في مال من عليه الدين، لأن حقّ صاحب الدين متقدّم بالزمان على حقّ المساكين، وهو في الحقيقة مال صاحب الدين، لا للذي المالُ بيده، ومن قال: هي عبادة قال: تجب على من بيده مالٌ لأن ذلك هو شرط التكليف، وعلامته المقتضية الوجوب على المكلّف، سواء كان عليه دينٌ، أو لم يكن؛ وأيضًا فإنه قد تعارض هنالك حقّان: حقّ للَّه، وحقّ للآدميّ، وحقّ اللَّه أحقّ أن يُقضى. والأشبه بغرض الشرع إسقاط الزكاة عن المديون؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وتُردّ على فقرائهم

" والمديون ليس بغنيّ. وأما من فرق بين الحبوب، وغير الحبوب، وبين الناضّ، وغير النّاضّ، فلا أعلم له شبهة بيّنة.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأقرب عندي أن من عليه دين يستغرق بماله، لا زكاة عليه أصلاً، ومن عليه دين لا يستغرق لا زكاة عليه بقدر الدين، ويزكي ما عداه؛

ص: 375

لظاهر النصّ المذكور، فإنه شرط في أخذ الزكاة أن يكون غنيّا، والمديون لا يسمّى غنيّا. واللَّه تعالى أعلم.

قال: وأما المال الذي هو في الذّمّة -أعني في ذمة الغير- وليس هو بيد المالك، وهو الدين، فإنهم اختلفوا فيه أيضًا، فقدم قالوا: لا زكاة فيه، وإن قُبض حتى يستكمل شرط الزكاة عند القابض له، وهو الحول، وهو أحد قولي الشافعيّ، وبه قال الليث، أو هو قياس قوله. وقوم قالوا: إذا قبضه زكّاه لما مضى من السنين. وقال مالك: يزكيه لحول واحد، وإن أقام عند المديون سنين إذا كان أصله عن عوض، وأما إذا كان عن غير عوض، مثل الميراث، فإنه يستقبل به الحول انتهى كلام ابن رشد ببعض تصرف

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجّح عندي أنه إن كان الدين عند مقرّ به، أو له عليه بيّنة، فإنه يزكّيه، وإلا فلا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط الحول في الزكاة:

ذكر ابن رشد -رحمه اللَّه تعالى- أن جمهور الفقهاء يشترطون في وجوب الزكاة في الذهب والفضّة والماشية الحولَ، لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة، ولانتشاره في الصحابة رضي الله عنهم ولانتشار العمل به، ولاعتقادهم أن مثل هذا الانتشار من غير خلاف لا يجوز أن يكون إلا عن توقيف. وقد روي مرفوعًا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول"، وهذا مجمع عليه عند فقهاء الأمصار، وليس فيه في الصدر الأول خلاف، إلا ما روي عن ابن عباس، ومعاوية رضي الله عنهم، وسبب اختلافهم أنه لم يرد في ذلك حديث ثابت. قاله ابن رشد رحمه الله تعالى

(2)

.

وقال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: ما معناه: هذا الأثر المذكور عن أبي بكر، وعثمان، وعليّ رضي الله عنهم صحيح عنهم، رواه البيهقيّ وغيره، وقد روي عن عليّ، وعائشة رضي الله عنها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول".

قال: وإنما لم يحتجّ المصنّف -يعني صاحب "المهذّب"- بالحديث؛ لأنه ضعيف، فاقتصر على الآثار المفسّرة. قال البيهقيّ: الاعتماد في اشتراط الحول على الآثار "الصحيحة، فيه عن أبي بكر الصدّيق، وعثمان، وابن عمر، وغيرهم رضي الله عنهم.

قال العبدريّ: أموال الزكاة ضربان: (أحدهما): ما له نماء في نفسه، كالحبوب

(1)

- "بداية المجتهد" ج1 ص 245 - 246.

(2)

-"بداية المجتهد" ج1 ص 270.

ص: 376

والثمار، فهذا تجب الزكاة فيه لوجوده. (والثاني): ما هو مُرَصَّدٌ للنماء، كالدراهم، والدنانير، وعروض التجارة، والماشية، فهذا يُعتبر فيه الحول، فلا زكاة في نصابه حتى يحول عليه الحول، وبه قال الفقهاء كافّةً، قال: وقال ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم: تجب الزكاة فيه يوم ملك النصاب، قال: فإذا حال الحول وجبت زكاة ثانية.

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مذهب الجمهور، في اشتراط الحول عندي هو الأرجح؛ للآثار الصحيحة المذكور، والحديث المذكور صحيح موقوفًا، لكن الموقوف في مثل هذا في حكم المرفوع، وأما رفعه فضعيف. وقد صححه بعض أهل العلم من المعاصرين، وفيه نظر لا يخفى، لأن فيه عنعنة أبي إسحاق السبيعيّ، وهو معروف بالتدليس، وأن جرير بن حازم خالف الثقات في رفعه، فقد رواه الثوريّ، وشريك، وزكريا بن أبي زائدة، وغيرهم عن أبي إسحاق عن عليّ موقوفًا

(2)

.

وفيه علّة أخرى، نبّه عليها ابن الموّاق، وهي أن جرير بن حازم لم يسمعه من أبي إسحاق، فقد رواه الحفّاظ أصحاب ابن وهب: سحنون، وحرملة، ويونس، وبحر بن نصر، وغيرهم عن ابن وهب، عن جرير بن حازم، والحارث بن نبهان، عن الحسن بن عمارة، عن أبي إسحاق، فذكره. ذكره الحافظ في "التلخيص الحبير"

(3)

.

وهذه العلة بمفردها تكفي، فإن الحسن بن عمارة متروك الحديث.

وقد روي الحديث أيضًا عن ابن عمر، وعائشة، بأسانيد ضعيفة، لا تصلح للاحتجاج بها، ولا للاستشهاد.

والحاصل أن الاعتماد في المسألة على الآثار الصحيحة المتقدّمة، لا على المرفوع، كما نبّه عليه البيهقيّ -رحمه اللَّه تعالى-، فيما تقدّم من كلامه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2436 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ بَهْزَ بْنَ حَكِيمٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا أَتَيْتُكَ حَتَّى حَلَفْتُ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِهِنَّ، لأَصَابِعِ يَدَيْهِ، أَنْ لَا آتِيَكَ، وَلَا آتِيَ دِينَكَ، وَإِنِّي كُنْتُ امْرَأً، لَا أَعْقِلُ شَيْئًا، إِلاَّ مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ عز وجل، وَرَسُولُهُ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِوَحْيِ اللَّهِ، بِمَا بَعَثَكَ رَبُّكَ إِلَيْنَا؟ ، قَالَ: «بِالإِسْلَامِ» ، قُلْتُ: وَمَا آيَاتُ الإِسْلَامِ؟ ، قَالَ: «أَنْ تَقُولَ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ إِلَى اللَّهِ، وَتَخَلَّيْتُ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ»).

(1)

-"المجموع" ج5 ص 327 - 328.

(2)

- راجع "الإرواء" للشيخ الألبانيّ ج3 ص 256 - 257.

(3)

- "التلخيص الحبير" ج 2 ص 337.

ص: 377

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعانيّ البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(معتمر) بن سليمان التيميّ البصريّ، ثقة، من كبار [9] 10/ 10.

3 -

(بهز بن حَكِيم) بن معاوية القشيريّ، أبو عبد الملك البصريّ، صدوق [6].

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وقال أيضًا: إسناد صحيح، إذا كان دون بهز ثقة. وقال ابن البراء، عن ابن المدينيّ: ثقة. وقال أبو زرعة: صالح، ولكنه ليس بالمشهور. وقال أبو حاتم: هو شيخ يُكتب حديثه، ولا يحتجّ به. وقال أيضًا: عمرو بن شُعيب، عن أبيه عن جدّه أحبّ إليّ. وقال النسائيّ: ثقة. وقال صالح جَزَرَة: إسناد أعرابيّ. وقال الحاكم: كان من الثقات ممن يُجمع حديثه، وإنما أسقط من الصحيح روايته عن أبيه، عن جدّه لأنها شاذّة، لا متابع له عليها. وقال ابن عديّ: قد روى عنه ثقات الناس، وقد روى عنه الزهريّ، وأرجو أنه لا بأس به، ولم أر له حديثًا منكرًا، وإذا حدّث عنه ثقة، فلا بأس به. وقال الآجريّ، عن أبي داود: هو عندي حجة، وعند الشافعيّ ليس بحجة، ولم يُحدّث شعبة عنه، وقال له: من أنت؟، ومن أبوك؟. وقال ابن حبّان: كان يُخطىء كثيرًا، فأما أحمد، وإسحاق فهما يحتجان به، وتركه جماعة من أئمتنا، ولولا حديثه:"وإنا آخذوها، وشطرَ ماله" لأدخلناه في "الثقات"، وهو ممن أستخير اللَّه فيه. وقال الترمذيّ: وقد تكلّم شعبة في بهز، وهو ثقة عند أهل الحديث. وقال أبو جعفر محمد بن الحسن البغداديّ في "كتاب التمييز": قلت لأحمد -يعني ابن حنبل-: ما تقول في بهز بن حكيم؟ قال: سألت غندرًا عنه، فقال: قد كان شعبة مسّه، ثم تبيّن معناه، فكتب عنه. قال: وسألت ابن معين: هل روى شعبة عن بهز؟ قال: نعم، حديث "أَتَرْعَوُون عن ذكر الفاجر"، وقد كان شعبة متوقّفًا عنه.

وقال أبو جعفر السبتيّ: بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه صحيح. وقال ابن قُتيبة: كان من خيار الناس. وقال أحمد بن بشير: أتيت البصرة في طلب الحديث، فأتيت بهزًا، فوجدته يَلعب بالشطرنج مع قوم، فتركته، ولم أسمع منه.

علّق له البخاريّ، وأخرج له الأربعة، وروى له المصنف برقم 2436 و 2444 و 2449 و 2566 و 2568 و 2613 و 4877 و 4878.

4 -

(أبوه) حكيم بن معاوية القشيريّ، صدوق [3].

قال العجليّ: ثقة. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات".

وذكره أبو الفضائل الصغاني فيمن اختُلف في صحبته، وهو وهَمٌ منه، فإنه تابعيٌّ قطعًا.

علّق له البخاريّ، وأخرج له الأربعة، وروى له المصنف بالأرقام المذكورة في الترجمة الماضية.

ص: 378

5 -

(جدّه) معاوية بن حَيْدَة بن معاوية بن قُشير بن كعب بن رَبيعة بن عامر بن صَعْصَعة القشيريّ، نزل البصرة. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنه ابنه حكيم، وعُروة بن رُوَيم اللَّخْميّ، وحميد المزنيّ. قال ابن سعد: وَفَد على النبيّ صلى الله عليه وسلم،وصحبه. وقال ابن الكلبيّ: أخبرني أبي أنه أدركه بخُرَاسان، ومات بها. وذكر الحاكم أبو عبد اللَّه، وتبعه ابن الصلاح أنه تفرّد بالرواية عنه ابنه. لكن فيه نظر، فقد مرّ آنفًا أنه رَوى عنه عروة بن رُوَيم، وحميد المزني.

علّق له البخاريّ، وروى له الأربعة، وروى له المصنف في هذا الكتاب بالأرقام المذكورة أيضًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية الراوي، عن أبيه، عن جدّه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه، أنه قال:(قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا أَتَيْتُكَ)"ما" نافية، أي لم أجىء إليك (حَتْى حَلَقْتُ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِهِنَّ، لِأَصَابعِ يَدَيْهِ) يريد أن ضمير "عددهنّ" لأصابع يديه، وفي رواية أحمد عن يحيى بن سعيد، عن بهزة:"واللَّه ما أتيتك، حتى حلفت أكثر من عدد أُولاء، وضرب إحدى يديه على الأخرى"(أَنْ لَا آتِيَكَ، وَلَا آتِيَ دِينَكَ) يريد أنه كان كارهًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولدين الإسلام، إلا أن اللَّه تعالى من عليه، فهداه للإسلام، فجاء، مسترشدًا، وطالبًا معرفة حقيقة الأمر الذي جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم (وَإِنِّي كُنْتُ امْرَأً) الظاهر أن "كان" هنا زائدة، والمراد أني في الحال لا أعقل شيئًا الخ. وليس المراد أنه كان في سالف الزمان كذلك، ومقصوده أنه ضعيف الرأي، عقيم النظر، فينبغي للنبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في تعليمه، وتفهيمه. قاله السنديّ

(1)

.

(لَا أَعْقِلُ شَيْئًا، إِلاَّ مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ عز وجل، وَرَسُولُهُ) صلى الله عليه وسلم (وَإِنِّي أَسْاَلُكَ بِوَحيِ اللَّهِ) وفي "الكبرى": "بوجه اللَّه"، وأشار في هامش "الهندية" أنه هكذا في بعض نسخ "المجتبى"، وهو الذي ترجم عليه في الرواية الآتية -73/ 2568 - باب "من سأل بوجه اللَّه عز وجل"(بِمَا بَعَثَكَ رَبُّكَ إِلَيْنَا؟) وفي "الكبرى""بم بعثك الخ"، بحذف الألف، وهو البخاريّ على غالب الاستعمال، لأن "ما" الاستفهامية إذا جرّت تُحذفُ ألفها غالباً،

(1)

- "شرح السنديّ" ج 5 ص 4 - 5.

ص: 379

سواء جُرّت بحرف، كما في قوله تعالى:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1]، أو باسم، كما في قولك:"اقتضاءَ مَ اقتَضَى زيدٌ"، وقَلّ إثباتها، كقول حسّان [من الوافر]:

عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ

كَخِنْزِيرِ تَمَرَّغَ فِي الرَّمَادِ

وكقراءة بعضهم: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ، وكهذا الحديث، وتلحقها هاء السكت في الوقف غالبًا، وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:

و"مَا" في الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرّتْ حُذِفْ

أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ

وَلَيْسَ حَتْمَا فِي سِوَى مَا انْخَفَضَا

بِاسْمٍ كَقَوْلِكَ اقْتِضَاءَ مَ اقْتَضَى

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (بِالْإِسْلَامِ) متعلّق بمقدّر، دلّ عليه السؤال، أي بعثني بالإِسلام (قُلْتُ: وَمَا آيَاتُ الْإِسْلَامِ؟) أي ما هي الأشياء التي تكون دالّة على تحقق الدخول فيه، واستحقاق من تمسّك بها أن يسمّى مسلمًا (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَنْ تَقُولَ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَى اللَّهِ) أي جعلت جميع أجِزائي منقادًا لحكمه تعالى، واستسلمت له، فالمراد بالوجه تمام النفس، أي كله (وَتَخلَّيْتُ) أي تبرّأت من الشرك، وانقطعت عنه. قاله ابن الأثير

(1)

.

وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: والتخلّي: التفرّغ، أراد البعد من الشرك، وعقدَ القلب على الإيمان، أي تركتُ جميع ما يُعبد من دون اللَّه، وصِرتُ عن الميل إليه فارغًا، ولعلّ هذا كان بعد أن نطق بالشهادتين، لزيادة رُسُوخ الإيمان في القلب.

ويحتمل أن يكون هذا إنشاءَ الإسلام؛ لأنه في معنى الشهادة بالتوحيد، والشهادة بالرسالة قد سبقت منه بقوله:"إلا ما علّمني اللَّه ورسوله"، أو أن هذا الكلام يتضمّن الشهادة بالرسالة؛ لما في أسلمت وجهي من الدلالة على قبول جميع أحكامه تعالى، ومن جملة تلك الأحكام أن يشهد الإنسان لرسوله بالرسالة، ففيه أن المقصود الأصليّ هو إظهار التوحيد، والشهادة بالرسالة بأيّ عبارة كانت. واللَّه تعالى أعلم انتهى كلام السنديّ

(2)

.

(وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ) أي تؤديها مراعيًا شروطها، وأركانها، وسننها (وَتُؤتِيَ الزَّكَاةَ") زاد في الرواية الآتية:"كُلُّ مسلم على مسلم مُحْرِمٌ، أخوان نصيران، لا يقبل اللَّه عز وجل من مشرك عملاً، أو يفارقَ المشركين إلى المسلمين".

فقوله: "كلّ مسلم على مسلم مُحْرِمٌ". وهو بصيغة اسم الفاعل كما قال ابن الأثير، وعبارته في "النهاية": يقال: إنه لَمُحْرِمٌ عنك، أي يَحَرِّمَ أذاك عليه، ويقال: مسلم

(1)

-" جامع الأصول" ج1ص 234 تحقيق عبد القادر الأرناؤوط.

(2)

-"شرح السندي" ج 5 ص 5.

ص: 380

مُحْرِمٌ، وهو الذي لم يُحلَّ من نفسه شيئًا يوقع به، يريد أن المسلم معتصم بالإسلام، ممتنع بحرمته ممن أراده، أو أراد ماله انتهى

(1)

.

ومثله لابن منظور في "لسانه": ونصّه: ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلُّ مسلم على مسلم مُحرِمٌ، أخوان نصيران". قال أبو العبّاس: قال ابن الأعرابيّ: يقال: إنه لَمُحْرِمٌ عنك: أي يُحَرِّمُ أذاك عليه؛ قال الأزهريّ: وهذا بمعنى الخبر، أراد أنه يَحْرُم على كلّ واحد منهما أن يؤذي صاحبه لِحُرْمة الإسلام المانعة عن ظلمه. ويقال: مسلم مُحْرِمٌ، وهو الذي لم يُحِلّ من نفسه شيئًا يوقع به، إلى آخر ما تقدّم في كلام ابن الأثير

(2)

.

وقوله: "أخوان نصيران": خبر لمحذوف، أي هما أخوان، "نصيران" أي يتناصران، ويتعاضدان، والنصير: فَعِيل بمعنى فاعل، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول

(3)

.

وقوله: "لا يَقبل اللَّه من مسلم الخ": يعني أن من شرط قبول الإسلام الهجرةَ، ومفارقةَ دار المشركين إلى دار الإسلام، فإن ذلك واجب على كلّ من آمن، فمن ترك فهو عاص يستحقّ ردّ العمل، والظاهر أن هذا محمول على ما قبل فتح مكة، أو يُحمل على من لا يستطيع أن يظهر شعائر الإسلام في دار الكفر.

وقوله: "أو يفارقَ" منصوب بـ"أن مضمرة بعد "أو" التي بمعنى "حتى"، على حدّ قول الشاعر [من الطويل]:

لأَسْتَسْهِلنَّ الصَّعْبَ أَو أُدْرِكَ الْمُنَى

فَمَا انْقَادَتِ الآمَالُ إِلاَّ لِصَابِرِ

وإلى هذا أشار ابن مالك في "خلاصته" بقوله:

كذَاكَ بَعْدَ "أو" إِذَا يَصْلَحُ فِي

مَوْضِعِهَا "حَتَّى" أَوِ "إلَّا""أَنْ" خَفِي

زاد في رواية أحمد المتقدّمة: "ما لي أُمسك بِحُجَزِكُم عن النار، أَلَا إن ربي داعيَّ، وإنه سائلي، هل بَلَّغتَ عبادي، وأنا قائل له: رب قد بلغتهم، ألا فليبلغ الشاهد، منكم الغائب، وثم إنكم مَدعُوُّون، ومُفَدَّمَة أفواهكم بالفِدَام

(4)

، وإن أول ما يبين"، وقال بواسط: "يترجم" قال: وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيده، على فخذه، قال: قلت: يا رسول اللَّه، هذا ديننا، قال: "هذا دينكم، وأينما تحسن يكفك" انتهى. واللَّه تعالى أعلم

(1)

- "النهاية" ج1 ص 372.

(2)

- راجع "لسان العرب" ج 2 ص 848 في مادة حرم.

(3)

- "جامع الأصول" ج1 ص 234.

(4)

- في "ق": الفِدام، ككتاب، وسَحاب، وشدّاد، وتَنُّور: شيء تشُدّه العجم، والمجوس على أفواهها عند السقي، والْمِصْفَاةُ. قال: وفَدَمَ فاه، وعليه بالفِدَامِ، وفدّمه: وضعه عليه. انتهى.

ص: 381

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أخرجه هنا-1/ 2436 و 73/ 2568 - وفي "الكبرى" 1/ 2216 و 75/ 2349. وأخرجه (أحمد) في "مسند البصريين" 19511. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو وجوب الزكاة، ووجه دلالته عليه، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم غير عدّه من علامات الإسلام التي لا يوجد تحقق الإسلام للشخص إلا بها، فصار ركنا من أركان الإسلام (ومنها): وجوب إسلام الوجه للَّه تعالى، ومعناه الاستسلام له، والانقياد لأمره (ومنها): وجوب التبرّي عن جميع ما يُضادّ الإسلام (ومنها): وجوب إقامة الصلاة (ومنها): تحريم تعرّض المسلم للمسلم بأيّ وجه من الأذى، إلا بما أوجب اللَّه عليه من العقوبة، وهذا هو معنى ما أشار إليه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58](ومنها): أن نصر المسلم لأخيه المسلم من واجبات الإسلام (ومنها): أنه لا يقبل عمل المسلم إلا بمفارقة المشركين إلى المسلمين مفارقة تامّة، بحيث لا يكون له علاقة قلبية بهم، ولا ينافي ذلك التعامل الظاهريّ معهم في الأمور الدنيوية، وهذا هو معنى ما أشار إليه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} الآية [البقرة: 208]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2437 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ مُسَاوِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ شَابُورَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلاَّمٍ، عَنْ أَخِيهِ، زَيْدِ بْنِ سَلاَّمٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ جَدِّهِ أَبِي سَلاَّمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، أَنَّ أَبَا مَالِكٍ الأَشْعَرِيَّ، حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ يَمْلأُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالزَّكَاةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أَوْ عَلَيْكَ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عيسى بن مُساور) الجوهريّ، أبو موسى البغداديّ، صدوق، من صغار [10] 71/ 2374.

2 -

(محمد بن شُعيب بن شابور) الدمشقيّ، نزيل بيروت، صدوق، صحيح الكتاب، من كبار [9] 6/ 1190.

ص: 382

3 -

(معاوية بن سلاّم) أبو سلاّم الدمشقيّ، ثم الحمصيّ، ثقة [7] 13/ 1479.

4 -

(زيد بن سلاّم) الدمشقيّ، ثقة [6] 2/ 1370.

5 -

(أبو سلاّم) -بشديد اللام- ممطور الحبشيّ، ثقة يُرسل [3] 2/ 1370.

6 -

(عبد الرحمن بن غَنْم) -بفتح الغين المعجمة، وسكون النون- الأشعريّ، مختلف في صحبته.

ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام، وقال: كان ثقة إن شاء اللَّه، بعثه عمر بن الخطاب يفقّه الناس، وكان أبوه قَدِم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صُحْبة أبي موسى. وقال ابن يونس: عبد الرحمن بن غَنْم بن كريب بن هانئ بن ربيعة، وساق نسبه إلى أشعر ممن قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في السفينة، وقدم مصر مع مروان سنة (65). وقال ابن منده: ذكر يحيى بن بُكير عن الليث، وابن لهيعة أنهما كانا يقولان: لعبد الرحمن بن غنم صحبة. وقال أبو زرعة الدمشقيّ: ناظرت عبد الرحمن بن إبراهيم، قلت: أرأيت الطبقة التي أدركت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولم تره، وأدركت أبا بكر، وعمر، ومن بعدهما من أهل الشام، مَن المقدّم منهم: الصنابحيّ، أو عبد الرحمن بن غنم؟ قال: ابن غنم المقدّم عندي، وهو رجل أهل الشام. وقال العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقة، من كبار التابعين. وقال يعقوب بن شيبة: مشهور من ثقات الشاميين، وقد حدّث عن غير واحد من الصحابة، وأدرك عمر، وسمع منه. وذكره ابن حبّان في ثقات التابعين، وقال: زعموا أن له صحبة، وليس ذلك بصحيح عندي. وقال ابن عبد البرّ: كان مسلمًا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولم يره، ولازم معاذ بن جبل إلى أن مات، وسمع من عمر، وكان أفقه أهل الشام، وهو الذي فقّه عامة التابعين بالشام، وكانت له جلالة وقدر. وقال أبو القاسم البغويّ: لا أدري أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، أم لا، وقيل: ولد على عهده. وقال حرب بن إسماعيل، عن أحمد: عبد الرحمن بن غنم قد أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه.

قال خليفة وغيره: مات سنة (78).

علق عنه البخاريّ، وأخرج له الأربعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب حديثان برقم 2437 و 3641 و 3642.

7 -

(أبو مالك الأشعريّ) له صحبة. قيل: اسمه الحارث بن الحارث، وقيل: عبيد اللَّه، وقيل: عمرو، وقيل: كعب بن عاصم، وقيل: كعب بن كعب، وقيل: عامر ابن الحارث بن هانئ بن كلثوم. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعنه عبد الرحمن بن غنم الأشعريّ، وأبو صالح الأشعريّ، وربيعة بن عمرو الْجُرَشيّ، وشُريح بن عُبيد

ص: 383

الحضرميّ، وشهر بن حوشب، وأبو سلاّم الأسود، وغيرهم. وروى أبو سلاّم أيضًا عن عبد الرحمن بن غنم، عنه. وقيل: إن الذي روى عنه أبو سلاّم آخر.

قال شَهْر بن حَوْشَب، عن عبد الرحمن بن غنم: طُعن معاذ بن جبل، وأبو عُبيدة بن الجراح، وشُرحبيل بن حسنة، وأبو مالك الأشعريّ في يوم واحد. وقال ابن سعد، وخليفة: توفي في خلافة عمر.

وقال الحافظ في "تهذيب التهذيب": ما خلاصته: أبو مالك الأشعريّ الذي روى عنه أبو سلاّم، وشهر بن حوشب، ومن في طبقتهما هو الحارث بن الحارث الأشعريّ، وقد ذكرت في ترجمته ما يدلّ على ذلك، وبيّنت أنه تأخرت وفاته، وأما أبو مالك الأشعريّ هذا فهو آخر قديم، كما تقدّم هنا أنه مات في خلافة عمر، هو، ومعاذ بن جبل، وغيرهما، قال: والفصل بينهما في غاية الإشكال انتهى. علّق له البخاريّ، وأخرج له الباقون، وله عند المصنف هذا الحديث فقط. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالشاميين، غير شيخه، فإنه بغدادي. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، وروية الراوي عن أخيه، عن جده. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ غَنْمٍ) الأشعريّ، ورواه مسلم من طريق أبي سلاّم، عن أبي مالك، بإسقاط عبد الرحمن بن غنم، فتكلّم فيه الدارقطنيّ وغيره، وقال النوويّ: يمكن أن يجاب عن مسلم بأن الظاهر من حاله أنه علم سماع أبي سلاّم لهذا الحديث من أبي مالك، فيكون أبو سلاّم سمعه من أبي مالك، وسمعه أيضًا من عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك، فرواه مرّة عنه، ومرّة عن عبد الرحمن، عنه انتهى (أَنَّ أَبَا مَالِكٍ الأَشْعَرِيّ) رضي الله عنه (حَدَّثَهُ) أي حدّث عبد الرحمن بن غنم (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ شَطْرُ الْإِيمَانِ) ولفظ مسلم: "الطهور شطر الإيمان".

قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: وَذَكَرُوا في توجيهه وجوهًا لا تناسب رواية الكتاب: منها: أن الإيمان يطهّر نجاسة الباطن، والوضوء يطهّر نجاسة الظاهر، وهذا إن تمّ يفيد أن الوضوء شطر الإيمان، كرواية مسلم، لا أن إسباغه شطر الإيمان، كما في رواية الكتاب، مع أنه لا يتمّ، لأنه يقتضي أن يُجعل الوضوء مثل الإيمان، وعديله، لا نصفه، أو شطره، وكذا غالب ما ذكروا.

ص: 384

والأظهر الأنسب لما في الكتاب أن يقال: أراد بالإيمان الصلاة، كما في قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الآية [البقرة: 143]، والكلام على تقدير مضاف، أي إكمال الوضوء شطر إكمال الصلاة، وتوضيحُهُ أن إكمال الصلاة بإكمال شرائطها الخارجة عنها، وأركانها الداخلة فيها، وأعظم الشرائط الوضوء، فجُعل إكماله نصف إكمال الصلاة.

ويحتمل أن المراد الترغيب في إكمال الوضوء، وتعظيم ثوابه حتى بلغ إلى نصف ثواب الإيمان. واللَّه تعالى أعلم انتهى كلام السنديّ

(1)

.

وقال العلاّمة القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وقد اختُلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان" على أقوال كثيرة:

أَوْلَاها: أن يقال: إنه أراد بالطهور الطهارة من المستخبثات الظاهرة والباطنة، والشطر النصف، والإيمان هنا هو بالمعنى العامّ، كما قد دلّلْنا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعملٌ بالأركان"

(2)

ولا شكّ أن هذا الإيمان ذو خصال كثيرة، وأحكام متعدّدة، غير أنها منحصرة فيما ينبغي التنزّه والتطهّر منه، وهي كلّ ما نهى الشرع عنه، وفيما ينبغي التلبّس، والاتصاف به، وهي كلّ ما أمر الشرع به، فهذان الصنفان عُبّر عن أحدهما بالطهارة على مستعمل اللغة، وهو كما قد روي مرفوعًا:"الإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر"

(3)

.

وقد قيل: إن الطهارة الشرعيّة لما كانت تكفّر الخطايا السابقة، كانت كالإيمان الذي يَجُبّ ما قبله". فكانت شطر الإيمان بالنسبة إلى هو الخطايا. وهذا فيه بُعْد؛ إذ الصلاة وغيرها من الأعمال الصالحة، تكفّر الخطايا؛ فلا يكون لخصوصية الطهارة بذلك معنى. ثم لا يصحّ أيضًا معنى كون الطهارة نصف الإيمان بذلك الاعتبار؛ لأنها إنما تكون مثلًا له في التكفير؛ ولا يقال على المثل للشيء: شطره.

وقيل: إن الإيمان هنا يُراد به الصلاة، كما قال اللَّه تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الآية [البقرة: 143] أي صلاتكم على قول المفسّرين، ومعناه على هذا: أن الصلاة لما كانت مفتقرة إلى الطهارة، كانت كالشطر لها. وهذا أيضًا فاسد؛ إذْ لا يكون

(1)

- "شرح السنديّ" ج 5 ص 6.

(2)

- رواه الخطيب في "تاريخه" 9/ 386 وفيه عبد اللَّه بن أحمد الطائيّ، لم يكن بالمرضيّ، وفيه أيضًا عبد السلام بن صالح، أبو الصلت الهرويّ ليس بثقة.

(3)

- رواه الديلميّ في "مسند الفردوس"، والبيهقيّ في "الشعب"، وفي سنده عتبة بن السكن، ويزيد بن أبان متروكان.

ص: 385

شرط الشيء شطره، لا لغة، ولا معنى، فالأولى التأويل الأول. واللَّه أعلم. انتهى كلام القرطبيّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما تقدّم ترجيح السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- له هو الأقرب، وهو الذي رجحه النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-، وما ردّ به القرطبيّ فيه نظر، لأنه لا مانع من كونه من باب التشبيه، وذلك أنه لما كانت الطهارة من أعظم شروط الصلاة، جُعلت كأنها شطرها، فما المانع من هذا التشبيه لأجل المبالغة؟. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(وَالْحَمْدُ لِلَهِ تَمْلَاُ الْمِيزَانَ) بالتاء الفوقانية، وإنما أنثها باعتبار الكلمة، ومعناه أن نفس هذا الذكر يوزن، فيملأ الميزان" وفيه أن الأعمال تتجسّد، فتوزن.

قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: معناه عظم أجرها، وأنه يملأ الميزان، وقد تظاهرت نصوص الكتاب والسنّة على وزن الأعمال، وثقل الميزان، وخفتها انتهى

(1)

.

(وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ يَمْلَاُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) بالإفراد، أي كلّ واحد منهما، أو مجموعهما، وفي بعض النسخ:"يملآن" بالتثنية، وهو واضحٌ.

والظاهر أن هذا يكون عند الوزن، وأن الأعمال تصير أجسامًا لطيفة نورانيّة لا تتزاحم فيما بينها، ولا تُزاحم غيرها، كما هو المشاهد في الأنوار، إذ يمكن أن يُسرج ألف سراج في بيت واحد، مع أنه يمتلئ نورًا من واحد من تلك السرج، لكن كونه لا يزاحم يجتمع معه نور الثاني والثالث، ثم لا يمتنع امتلاء البيت من النور جلوسَ القاعدين فيه لعدم المزاحمة، فلا يرد أنه كيف يتصوّر ذلك مع كثرة التسبيحات والتقديسات، مع أنه يلزم من وجود واحد أن لا يبقى مكان لشخص من أهل المحشر، ولا لعمل آخر متجسّد مثل تجسّد التسبيح وغيره. واللَّه تعالى أعلم. أفاده السنديّ

(2)

.

وأما ما ذكره النوويّ من أنه يحتمل أن يقال: لو قُدّر ثوابهما جسمًا الخ

(3)

فمما لا حاجة إليه؛ لأنه لا مانع من ذلك، لا شرعًا، ولا عقلاً، فإن ظواهر النصوص تدلّ على أن نفس الأعمال توزن، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ: ما حاصله: أن الحمد راجع إلى الثناء على اللَّه تعالى بأوصاف

(1)

- راجع "شرح مسلم" ج 3 ص 96.

(2)

- "شرح السنديّ" ج 5 ص 6 - 7.

(3)

- راجع "شرح مسلم" ج 3 ص 96 - 97.

ص: 386

كماله، فإذا حمد اللَّه تعالى حامدٌ مستحضرًا معنى الحمد في قلبه امتلأ ميزانه من الحسنات، فإذا أضاف إلى ذلك "سبحان اللَّه" الذي معناه تبرئة اللَّه، وتنزيهه عن كلّ ما لا يليق به من النقائص ملأت حسناته، وثوابها زيادة على ذلك ما بين السموات والأرض؛ إذ الميزان مملوء بثواب التحميد، وذكر السموات والأرض على جهة الإغياء

(1)

على العادة العربية، والمراد أن الثواب على ذلك كثير جدًّا، بحيث لو كان أجساماً لملأ ما بين السموات والأرض انتهى

(2)

.

[تنبيه]: ذكر الإمام ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى- في "تفسيره" 2/ 203 اختلاف العلماء فيما هو الموزون، هل هي الأعمال، أم ثوابها؟ فقال: عند قوله عز وجل: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ} الآية [الأعراف: 8]-: والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال، وإن كانت أعراضا، إلا أن اللَّه تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما، قال البغوي: يُرْوَى نحوُ هذا عن ابن عباس، كما جاء في "الصحيح" من "أن البقرة، وآل عمران، يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف" .. ومن ذلك في "الصحيح" قصة القرآن، وإنه "يأتي على صاحبه في صورة شاب شاحب اللون، فيقول. من أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي أسهرت ليلك، وأظمأت نهارك". وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر: "فيأتي المؤمن شاب حسن اللون طيب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول أنا عملك الصالح"، وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.

وقيل: يوزن كتاب الأعمال، كما جاء في حديث البطاقة في الرجل الذي يؤتى به، ويوضع له في كفة تسعة وتسعون سِجِلاًّ، كل سِجِلّ مد البصر، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها لا إله إلا اللَّه، فيقول: يا رب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول اللَّه تعالى: إنك لا تظلم، فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة"، رواه الترمذي بنحو من هذا، وصححه.

وقيل: يوزن صاحب العمل، كما في الحديث:"يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين، فلا يزن عند اللَّه جناح بعوضة، ثم قرأ: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]، وفي مناقب عبد اللَّه بن مسعود، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أتعجبون من دقة ساقيه، والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد".

وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا، فتارة توزن الأعمال، وتارة توزن محالها، وتارة يوزن فاعلها. واللَّه أعلم. انتهى كلام ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى-.

(1)

- "الإغياء": بلوغ الغاية، يقال: أغيا الرجل: بلغ الغاية.

(2)

- "المفهم" ج1 ص 475 - 476.

ص: 387

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الجمع الذي ذكره الإمام ابن كثير -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في وجه الجمع حسنٌ جدّا؛ إذ به تجتمع النصوص المذكورة ونحوها، دون تعارض. واللَّه تعالى أعلم.

(وَالصَّلَاةُ نُورٌ) قال أبو العباس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: معناه: أن الصلاة إذا فُعلت بشروطها المصحّحة، والمكمّلة نوّرت القلب؛ بحيث تشرق فيه أنوار المكاشفات والمعارف، حتى ينتهي أمر من يراعيها حقّ رعايتها أن يقول:"وجُعلت قرّة عيني في الصلاة"

(1)

وأيضًا فإنها تنوّر بين يدي مُراعيها يوم القيامة في تلك الظُّلَم. وأيضًا تنوّر وجه المصليّ يوم القيامة، فيكون ذا غرّة وتحجيل، كما ورد في حديث عبد اللَّه بن بُسْر رضي الله عنه، مرفوعًا:"أمتي يوم القيامة غُرٌّ من السجود، محجّلون من الوضوء"

(2)

انتهى كلام القرطبيّ

(3)

واللَّه تعالى أعلم.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: معناه: أنها تمنع من المعاصي، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهدي إلى الصواب؛ كما أن النور يُستضاء به. وقيل: معناه أنه يكون أجرها نورًا لصاحبها يوم القيامة. وقيل: لأنها سبب لإشراق أنوار المعارف، وانشراح القلب، ومكاشفات الحقائق؛ لفراغ القلب فيها، وإقباله إلى اللَّه تعالى بظاهره وباطنه، وقد قال

اللَّه تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الآية [البقرة: 45]. وقيل: معناه أنها تكون نورًا ظاهرًا على وجهه يوم القيامة، ويكون في الدنيا أيضا على وجهه البهاء، بخلاف من لم يصلّ. واللَّه أعلم. انتهى

(4)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لا مانع من إرادة جميع هذه المعاني في هذا الحديث، فلا تدافع بين هذه الأقوال، لأن النصّ يحتمل جميعها. واللَّه تعالى أعلم.

(وَالزَّكَاةُ بُرْهَانٌ) ولفظ مسلم: "والصدقة برهان". أي دليل على صدق صاحبها في دعوى الإيمان؛ إذ الإقدام على بذل المال خالصًا للَّه تعالى لا يكون إلا ممن هو صادق في إيمانه.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: قال صاحب "التحرير": معناه يُفزَع إليها كما يُفزَع إلى البراهين، كأن العبد إذا سئل يوم القيامة عن مصرف ماله كانت صدقاته براهين في جواب هذا السؤال، فيقول: تصدّقت به. قال: ويجوز أن يوسم المتصدّق بسيماء

(1)

- حديث صحيح، رواه أحمد 3/ 128 و 199 و 285. وسيأتي للمصنّف 7/ 62.

(2)

- رواه أبو أحمد الحاكم، وقال غريب. انظر"كنز العمال"34534. و"فيض القدير" 2/ 184.

(3)

- "المفهم" ج1 ص 476.

(4)

- "شرح مسلم" ج 3 ص 97.

ص: 388

يعرف بها، فيكون برهانًا له على حاله، ولا يسأل عن مصرف ماله. وقال غير صاحب "التحرير": معناه الصدقة حجة على إيمان فاعلها، فإن المنافق يمتنع منها؛ لكونه لا يعتقدها، فمن تصدّق استُدلّ بصدقته على صدق إيمانه. واللَّه أعلم انتهى كلام النوويّ

(1)

.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: برهان على صحة إيمان المتصدّق، أو على أنه ليس من المنافقين الذين يَلمزون المطّوعين من المؤمنين في الصدقات. أو على صحّة محبة المتصدّق للَّه تعالى، ولما لديه من الثواب؛ إذ قد آثر محبّة اللَّه تعالى، وابتغاء ثوابه على ما جُبل عليه من حبّ الذهب والفضّة؛ حتى أخرجه للَّه تعالى

(2)

.

(وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ) قال أبو العباس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: كذا صحّت روايتنا فيه، وقد رواه بعض المشايخ:"والصوم ضياء" بالميم، ولم تقع لنا تلك الرواية، على أنه يصحّ أن يعبّر بالصبر عن الصوم، وقد قيل ذلك في قوله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الآية [البقرة: 45] فإن تنزّلنا

(3)

على ذلك؛ فيقال في كون الصبر ضياء؛ كما قيل في كون الصلاة نورًا، وحينئذ لا يكون بين النور والضياء فرقٌ معنويٌّ، بل لفظيٌّ.

والأَوْلَى أن يقال: إن الصبر في هذا الحديث غير الصوم، بل هو الصبرُ على العبادات، والمشاقّ، والمصائب، والصبرُ عن المخالفات، والمنهيّات؛ كاتباع هوى النفس، والشهوات، وغير ذلك، فمن كان صابرًا في تلك الأحوال متثبّتًا فيها؛ مقابلًا لكلّ حال بما يليق به ضاءت له عواقب أحواله، ووضَحَت له مصالح أعماله، فظَفِرَ بمطلوبه، وحَصَل من الثواب على مرغوبه، كما قيل [من الطويل]:

فَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي أَمْرٍ تَطَلَّبَهُ

وَاسْتعمَلَ الصَّبْرَ إِلاَّ فَازَ بِالظَّفَرِ

انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(4)

.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: معناه: الصبر المحبوب في الشرع، وهو الصبر على طاعة اللَّه تعالى، والصبر عن معصيته، والصبر أيضًا على النائبات، وأنواع المكاره في الدنيا، والمراد أن الصبر محمود، ولا يزال صاحبه، مستضيئا، مهتديًا، مستمرًا على الصواب. قال إبراهيم الخوّاص: الصبر هو الثبات على الكتاب والسنّة. وقال ابن عطاء: الصبر الوقوف مع النبلاء بحسن الأدب. وقال الأستاذ أبو عليّ الدّقّاق: حقيقة

(1)

-"شرح مسلم" ج 3 ص 97.

(2)

-" المفهم" ج1 ص 476.

(3)

- هكذا نسخة "المفهم"، ولعل الصواب:"فإن نزّلناه على ذلك"، فليحرّر.

(4)

-"المفهم" ج1 ص 477.

ص: 389

الصبر أن لا يعترض على المقدور، فأما إظهار النبلاء، لا على وجه الشكوى، فلا ينافي الصبر، قال اللَّه تعالى في أيوب عليه السلام:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} الآية [ص: 44]. مع أنه قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} الآية [الأنبياء: 83]. واللَّه تعالى أعلم انتهى كلام النوويّ

(1)

.

(وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أَوْ عَلَيْكَ") قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يعني أنك إذا امتثلت أوامره؛ واجتنبت نواهيه، كان حجة لك في المواقف التي تُسأل فيها عنه، كمسألة الملكين في القبر، والمسألة عند الميزان" وفي عقبات الصراط، وإن لم تمتثل ذلك احتُجّ به عليك. ويحتمل أن يُراد به أن القرآن هو الذي يُنتهى إليه عند التنازع في المباحث الشرعية، والوقائع الحكمية، فيه تَستَدلّ على صحّة دعواك، وبه يَستَدلّ عليك خصمك انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المعنى الأول هو الذي يدلّ عليه السياق، فافهم، واللَّه تعالى أعلم.

زاد مسلم في روايته: "كلّ الناس يَغدو، فبايعٌ نفسه، فمعتقها، أو موبقها".

قال القرطبيّ في شرحه: "يغدو": بمعنى يُبكّر، يقال: الناس فريقان: غَدَا: إذا خرج صباحًا في مصالحه يغدو، وراح: إذا رجع بعشيّ، ومعنى ذلك أن كلّ إنسان يُصبح ساعيًا في أموره، متصرفًا في أغراضه، ثم إما أن تكون تصرّفاته بحسب دواعي الشرع والحقّ، فهو الذي يبيع نفسه من اللَّه، وهو بيع آثل إلى عتق وحرّيّة؛ كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الآية [التوبة: 111] ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه: "الناس غاديان، فبائع نفسه، فموبقها، أو مُفاديها، فمعتقها"

(2)

انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي مالك الأشعريّ رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 1/ 2437 - وفي "الكبرى"2217. وأخرجه (م) في "الطهارة" 223

(1)

- "شرح مسلم" ج 3 ص 97.

(2)

- قال الهيثميّ في "مجمع الزوائد": 10/ 236: رواه الطبرانيّ، وإسناده جيّد.

ص: 390

(ت) في "الدعوات" 3517 (ق) في "الطهارة" 280 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 22395 و 22401 (الدارميّ) في "الطهارة"653. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان وجوب الزكاة، ووجه ذلك أنه لما كان أداء الزكاة برهانًا على صدق إيمان الشخص، وعدم نفاقه، دلّ على أن من لم يزكّ كاذب في دعواه الإيمان، فيدلّ على وجوب أداء الزكاة (ومنها): فضل إسباغ الوضوء، حيث جُعِل شطر الإيمان (ومنها): أن "الحمد، والتسبيح، والتكبير" توزن، كالأجسام، فتملأ الميزان، والسموات والأرض (ومنها): فضل الصلاة، حيث إنها تكون نورًا للمصلي (ومنها): فضل الصبر، وأنه ضياء يستضيء به العبد في ظلمة المصائب، والمشاقّ، وفيه المثوبة العظيمة، كما قال اللَّه تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10](ومنها): أن القرآن إما أن يتنفع به صاحبه، فيكون حجة له، وذلك إذا قام به حقّ القيام، وإما أن لا ينتفع به، فيكون حجة عليه، وذلك إذا لم يقم بحقه، وهذا بمعنى الحديثِ الصحيح:"القرآنُ شافع مُشَفَّع، ومَاحِلٌ مُصَدّق، مَن جعله أمامه، قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار". أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" والبيهقيّ من حديث جابر رضي الله عنه، والطبرانيّ، والبيهقيّ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

2438 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا خَالِدٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي صُهَيْبٌ، أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ أَبِي سَعِيدٍ، يَقُولَانِ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَكَبَّ، فَأَكَبَّ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا يَبْكِي، لَا نَدْرِي عَلَى مَاذَا حَلَفَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فِي وَجْهِهِ الْبُشْرَى، فَكَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْنَا، مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ، يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ، وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ، إِلاَّ فُتِّحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَقِيلَ لَهُ: ادْخُلْ بِسَلَامٍ»).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم) المصريّ الفقيه، ثقة [11] 120/ 166. من أفراد المصنّف.

2 -

(شعيب) بن الليث المصريّ، أبو عبد الملك، ثقة نبيل فقيه، من كبار [10] 120/ 166.

ص: 391

3 -

(الليث) بن سعد، أبو الحارث الفهمي، إمام أهل مصر الفقيه الثقة الثبت الحجة [7] 31/ 35.

4 -

(خالد) بن يزيد الجُمَحِيُّ السَّكْسَكِيُّ، أبو عبد الرحيم المصريّ ثقة فقيه [6] 41/ 686.

5 -

(ابن أبي هلال) هو سعيد بن أبي هلال الليثي مولاهم، أبو العلاء المصريّ، صدوق [6] 41/ 686.

6 -

(نعيم) بن عبد اللَّه المجمر -بضم الميم، وسكون الجيم، وكسر الميم الثانية- أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة [3] 21/ 905.

7 -

(صهيب) مولى العُتواريين -بمهملة، ومثناة ساكنة- المدنيّ مقبول [4].

روى عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأبي سعيد رضي الله عنهما وعنه نُعيم بن عبد اللَّه المجمر. ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: رَوَى عنه نُعيم المجمر، وقد ذكر الحاكم أنه لم يرو عنه غيره، وكذا أخرج ابن حبّان حديثه في "صحيحه" من طريق نُعيم عنه. انفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

8 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من ثمانيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وصهيب كما سبق آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين إلى ابن أبي هلال، ومن بعده مدنيون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا. (ومنها): أن فيه أبا سعيد الخدري رضي الله عنه من المكثرين السبعة، (1170) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن نُعيم المجمر أنه (قال: أَخْبَرَني صُهَيْبٌ) الْعُتْوَاريّ (أنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ أَبِي سَعِيدٍ) رضي الله عنهما (يَقُولَانِ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ"، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أي كرّر هذا الحلف ثلاث مرّات، تأكيدًا، وإيذانًا يكون المحلوف عليه أمرًا عظيمًا (ثُمَّ أَكَبَّ) أي طأطأ رأسه (فَأَكَبَّ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا يَبْكِي، لَا نَدْرِي عَلَى مَاذَا حَلَفَ) جملة تعليلية، أي وإنما بكينا لأنا لا ندري تعيين الشيء الذي حلف عليه، وإن كان يُعلم جملةً أنه من الأمور الشديدة، حيث اكده بحلفه (ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ، في وَجْهِهِ الْبُشْرَى) متعلّق بحال مقدّر، أي حال كونه ظاهرًا في وجهه البشارة (فَكَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْنَا) أي كانت البشرى التي شاهدناها في وجهه صلى الله عليه وسلم -أحبّ إلينا (مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ) لأنها ما ظهرت على وجهه إلا بسبب خير عظيم، من خيرات

ص: 392

الدنيا والآخرة. و"الحمر" بضم الحاء المهملة، وسكون الميم، جمع "أحمر"، و"حُمْرُ النعم" هي الإبل الحُمْر، وهي أنفس أموال العرب، وكانوا يشبهون بها أشرف الأشياء عندهم (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا مِنْ عَبْدٍ، يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ) هذا محلّ الترجمة، ووجه الاستدلال به على وجوب الزكاة، أن من أخلّ بشيء من هذه الأمور ليس له هذه البشرى، ولا يدخل الجنّة بسلام، بل يعذّب، وإن دخل الجنّة بعد ذلك لإيمانه، وهذا التعذيب لا يكون إلا بترك واجب، فدلّ على أن هذه الأشياء كلها من الواجبات، والزكاةُ فرد من أفرادها. واللَّه تعالى أعلم.

(وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ" ولفظ "الكبرى" "الموبقات السبع": أي المهلكات السبع، وهي التي ورد تفسيرها في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قالوا: يا رسول اللَّه، وما هُنَّ؟، قال: "الشرك باللَّه، والسحر، وقتل النفس التي حرم اللَّه، إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات، المؤمنات، الغافلات". متفق عليه (إِلاَّ فُتِّحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَقِيلَ لَهُ: ادْخُلْ بِسَلَامٍ") وفيه أن مرتكب الصغائر إذا أتى بالفرائض لا يُعذّب، إذ لا يُناسب أن يقال: يمكن أن يكون هذا بعد خروجه من العذاب، إذ يأبى عنه قوله:"ادخل بسلام"، وهذا هو الذي دلّ عليه قوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده صهيبًا مولى العُتْواريين، وهو مجهول الحال، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا- 1/ 2438 - وفي "الكبرى" 1/ 2218. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2439 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ، مِنْ شَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ لَكَ، وَلِلْجَنَّةِ أَبْوَابٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ» ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ عَلَى مَنْ

(2)

يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ؟ ، فَهَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ، قَالَ:«نَعَمْ، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» -يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ-).

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

- وفي نسخة: "الذي".

ص: 393

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدّم للمصنف رحمه الله في 43/ 2238 واستوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

و"عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرٍ": هو أبو حفص الحمصيّ، صدوق [10].

و"أبوه": هو عثمان بن سعيد بن كثير" أبو عمرو الحمصيّ، ثقة عابد [9]. و"شعيب":

هو ابن حمزة الحمصيّ الثقة الثبت [7].

وقوله: "من أنفق زوجين" الزوج: الصنف والنوع من كلّ شيء، يعني أنفق صنفين من ماله.

وقوله: "من شيء من الأشياء" أي من صنف من أصناف المال: فرسين، أو بعيرين، أو شاتين، أو نحوها. وقيل: يحتمل أن يكون الحديث في جميع أعمال البرّ، من صلاتين، أو صيام يومين، والمطلوب تشفيع صدقته بأخرى. والأول أظهر.

وقوله: "في سبيل اللَّه" قيل: هو على العموم في جميع وجوه الخير. وقيل: مخصوص في الجهاد. قال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: والأول أصحّ، وأظهر.

وقوله: "يا عبد اللَّه هذا خير" قيل: معناه: لك هنا خير ثواب، وغبطة. وقيل: هذا الباب فيما نعتقده خير لك من غيره من الأبواب؛ لكثرة ثوابه، ونعيمه، فأدخل منه.

وقوله: "فمن كان من أهل الصلاة الخ" أي من كان الغالب عليه في عمله وطاعته الصلاة، والمراد في الكلّ النوافل، لا الفرائض، إذ يشترك فيها كثير من المكلّفين، فلا خصوصية فيها لبعضهم.

وقوله: "هل على من يُدعَى من تلك الأبواب من ضروة""هل" هنا للنفي، بدليل الرواية السابقة:"ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة". وورود "هل" للنفي ثابت في اللغة، كما في قوله تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وأما "هل" في قوله:"فهل يُدعى أحد الخ" فللاستفهام الحقيقيّ. واللَّه تعالى أعلم.

وفي استدلال المصنّف بهذا الحديث على وجوب الزكاة خفاء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإِتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، - عفا اللَّه تعالى عنه - وعن والديه ومشايخه آمين:

ص: 394

قد انتهيت من كتابة الحادي والعشرون من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى-، المسمّى "ذخيرةَ العُقْبَى في شرح المجتبى"، أو "غاية المنى في شرح المجتبى".

وذلك بحيّ الزهراء، مخطط الأمير طلال، في مكة المكرمة زادها اللَّه تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني من خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأعْظِمْ به تكريمًا.

وأخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورحمة اللَّه، وبركاته".

ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الثاني والعشرون مفتتحًا بالباب 2 "باب التغليظ في حبس الزكاة" الحديث رقم 2440.

"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

ص: 395