الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح سُنن النّسَائي
المُسَمَّى
ذَخِيْرَة العُقَبى في شَرْحِ المجْتَبَى
لجَامِعه الفَقير إلى مَوْلَاه الغَنيّ القَديْر
محمد ابن الشيخ العلامة على بن آدم بن موسى الأيتُوبي الوَلَّوِي
المُدرّس بدَار الحَديثْ الخيريَّة بمكّة المكرَّمة
عَفَا اللَّه عَنْه وَعَنْ والدَيه آمِينْ
الجزْء الحَادي والعشرون
شرح سنن النسائيّ
جَمِيع الحقُوق مَحفُوظة
الطبعة الأولى
1424 هـ - 2003 م
دَار آل بُروم للِنشر وَالتّوزيع
المملكة العَربيّهَ السّعوديّة - مكّة المكرّمة - المكتب الرئيسي التنعيم
صَ بْ: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوّال 055541026)
بسم الله الرحمن الرحيم
2 - (بَابُ التَّغْلِيظِ فِي حَبْسِ الزَّكَاةِ)
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالّة على تشديد العقوبة على من حبس الزكاة، ومنعها من مستحقّها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2440 -
(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، فِي حَدِيثِهِ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ جَالِسٌ، فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآنِي مُقْبِلاً، قَالَ: «هُمُ الأَخْسَرُونَ، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» ، فَقُلْتُ: مَا لِي، لَعَلِّي أُنْزِلَ فِىَّ شَيْءٌ، قُلْتُ: مَنْ هُمْ؟ ، فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، قَالَ: «الأَكْثَرُونَ أَمْوَالاً، إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا، حَتَّى بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ» ، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَمُوتُ رَجُلٌ، فَيَدَعُ إِبِلاً، أَوْ بَقَرًا، لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا، إِلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَعْظَمَ مَا كَانَتْ، وَأَسْمَنَهُ، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا، أُعِيدَتْ أُولَاهَا، حَتَّى يُقْضَي بَيْنَ النَّاسِ»).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هناد بن السريّ) أبو السري الكوفي، ثقة [10] تقدم 23/ 25.
2 -
(أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة من أثبت الناس في الأعمش [9] تقدم 26/ 30.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مهران، أبو محمد الكوفي الثقة الحجة الثبت، لكنه يدلس [5] تقدم 17/ 18.
4 -
(مَغْرُور بن سُويد) الأسديّ، أبي أُميّة الكوفيّ، ثقة [2].
قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وكذا قال أبو حاتم. وقال العجليّ: تابعيّ ثقة، من أصحاب عبد اللَّه. وقال الأعمش: رأيته وهو ابن عشرين ومائة سنة. وقال ابن مهديّ، عن شعبة، عن واصل: كان المعرور يقول لنا: تعلّموا مني يا بَنِي أخي، وكان كثير الحديث. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة. وليس له عند المصنّف في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده في-11/ 2456.
[تنبيه]: ليس في الكتب الستة من اسمه معرور إلا معرور بن سويد هذا. واللَّه تعالى أعلم.
5 -
(أبو ذرّ) جندب بن جنادة الصحابيّ المشهور رضي الله عنه تقدم 203/ 322. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها:- أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) جُندب بن جُنادة رضي الله عنه (قَالَ: جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ جَالِسٌ، فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآنِي، مُقْبِلاً، قَالَ: "هُمُ الْأَخْسَرُونَ) يأتي تفسيره بقوله: "الأكثرون أموالاً"(وَرَبِّ الْكَعْبَةِ") فيه جواز القسم بهذه الصيغة (فَقُلْتُ: مَا لِي) أي أيُ شيء ثبت لي حتى حلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في وجهي هذا الحلف (لَعَلِّي أُنْزِلَ فِيَّ شَيْءٌ) مما يُستَحَقُّ به الوعيدُ (قُلْتُ: مَنْ هُمْ؟، فِدَاكَ أَبِي وَأمِّي) ولفظ مسلم: "قال: فجئت حتى جلست، فدم أتقارّ أن قمتُ، فقلت: يا رسول اللَّه، فداك أبي وأمي من هم؟ (قَالَ: "الأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا) أي هم الذين كانوا أكثر الناس أموالاً (إِلاَّ مَنْ قَالَ: هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا) قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: استثناءٌ من هذا الحكم، وفيه رجوع الضمير إلى الحاضر في الذهن، ثم تفسيره للمخاطب إذا سأل عنه، ومعنى:"إلا من قال هكذا": أي إلا من تصدق من الأكثرين في جميع الجوانب، وهو كناية عن كثرة التصدّق، فذاك ليس من الأخسرين.
وقوله: "قال" إما بمعنى "تصدّق"، وقوله:"هكذا" إشارة إلى حَثْيِهِ في الجوانب الثلاث، أي تصدّق في جميع جهات الخير، تصدّقًا كالحثي في الجهات الثلاث. أو بمعنى "فَعَل" أي إلا من فعل بماله فعلاً مثل الحثْيِ في الجهات الثلاث، وهو كناية عن التصدّق العامّ في جهات الخير، وحَثْيُهُ صلى الله عليه وسلم بيان للمشار إليه بـ"هكذا"، والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال انتهى كلام السنديّ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ، إلا قوله: "أو بمعنى فعل الخ، فإنه لا فرق بينه وبين المعنى الأول، فما الذي دعاه إلى أن يذكره احتمالاً ثانيًا؟. فليُتَأَمّل.
وقوله (حَتَّى) هكذا نسخ "المجتبى" التي بين يديّ "حتى" بالتاء المثناة، وهو مصحف من "حتى" بالثاء المثلثة، بدون شكّ، ووقع في "الكبرى" على الصواب، ولفظه:"فَحَثَى بين يديه الخ".
و"الْحَثْيُ": قبض الشيء، ثم رميه، قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: حَثَا الرجلُ الترابَ يَحثُوه حَثوًا -ويَحثِيه حَثْيًا، من باب رمى لغةٌ-: إذا هاله بيده، وبعضهم يقول قبضه بيده،
ثم رماه، ومنه "فاحثوا التراب في وجهه"، ولا يكون إلا بالقبض، والرمي. انتهى
(1)
.
(بَيْنَ يَدَيْهِ) زاد في رواية مسلم: "ومن خلفه"(وَعَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ) هذا تفسير لاسم الإشارة في قوله: "هكذا الخ. وإشارته صلى الله عليه وسلم إلى قُدّام، ووراء، والجانبين، فمعناه أنه ينفق في وجوه الخير، ولا يقتصر على نوع واحد من وجوه البرّ، بل ينبغي أن ينفق متى حضر أمرٌ مهمّ. أفاده النوويّ
(2)
.
(ثُمَّ قَالَ: "وَالذي نَفْسِي بيَدِهِ، لَا يَمُوتُ رَجُلٌ، فَيَدَعُ اِبلًا، أَوْ بَقَرًا، لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا، إِلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَعْظَمَ مًا كَانَتْ، وَأَسْمَنَهُ، تَطَؤُهُ بِأخْفَافِهَا) راجع للإبل؛ لأن الخفّ مخصوص بها، كما أن الظِّلْفَ وهو الْمُنشَقُّ من القوائم- مختصّ بالبقرِ، والغنم، والظباءِ، والحافرَ مختصّ بالفرس، والبغل، والحمارِ، والقدمَ للآدميّ. ذكره الحافظ الَسيوطيّ في "حاشية الترمذيّ"
(3)
(وَتنْطَحُهُ بقرُونِهَا) راجع للبقر، والمشهور في الرواية كسر الطاء، ويجوز الفتح (كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهًا) بكسر الفاء، وإهمال الدال، أو بفتحها، وإعجام الذال. قال النووى: ضبطناه بالدال المهملة أي مع كسر الفاء- وبالمعجمة، وفتح الفاء، وكلاهما صحيح (أُعِيدَتْ أُولَاهَا، حَتَّى يُقْضَى) بالبناء للمفعول (بَيْنَ النَّاسِ") أي يمتدّ عليه هذا التعذيب إلى أن يفرغ اللَّه تعالى من الحكم بين الناس في عرصات القيامة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا متفق عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا- 2/ 2440 - وفي "الكبرى" 2/ 2220. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1460 (م) في "الزكاة" 990 (ت) في "الزكاة" 617 (ق) في "الزكاة" 1785 (أحمد) في "مسند الأنصار" 20844 و 20890 و20980. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تغليظ العقوبة في منع الزكاة (ومنها): أن من كان أكثر الناس مالاً، ثم لم يَقُم بحقّه من أداء الزكاة، وغيره، يعاقب بالعقاب المذكور، وهو أن يكون جنسُ ذلك المال عذابا يعذّب به (ومنها):
(1)
-"المصباح المنير".
(2)
-"شرح مسلم" ج 7 ص 76.
(3)
- راجع "شرح السنديّ" ج 5 ص 11.
الحثّ على الصدقة في وجوه الخير، وأنه لا يقتصر على نوع من وجوه البرّ، بل ينفق في كلّ وجه من وجوه الخير (ومنها): جواز الحلف بغير تحليف، قال النوويّ: بل هو مستحبّ إذا كانت فيه مصلحة، كتوكيد أمر، وتحقيقه، ونفي المجاز عنه، وقد كثرت الأحاديث الصحيحة في حلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا النوع لهذا المعنى انتهى
(1)
.
(ومنها): أن بعض العصاة يُعذّب عذابًا خاصًا في عرصات القيامة قبل فصل القضاء (ومنها): أن البعث في القيامة لا يخصّ العقلاء، بل يعم سائر الحيوانات. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2441 -
(أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ رَجُلٍ، لَهُ مَالٌ، لَا يُؤَدِّي حَقَّ مَالِهِ، إِلاَّ جُعِلَ لَهُ طَوْقًا، فِي عُنُقِهِ، شُجَاعٌ أَقْرَعُ، وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ، وَهُوَ يَتْبَعُهُ» ، ثُمَّ قَرَأَ مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآيَةَ [آل عمران: 180]).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مجاهد بن موسى) الْخُتّليّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 85/ 102.
2 -
(ابن عيينة) سفيان الإمام الحجة الثبت [8].
3 -
(جامع بن أبي راشد) الكاهليّ الصيرفيّ الكوفيّ، ثقة فاضل [5].
قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: شيخ ثقة. وقال النسائيّ: ثقة. وقال العجليّ: ثقة ثبتٌ صالح، وأخوه ربيع، يقال: إنه لم يكن بالكوفة في زمانه أفضل منه، وهما في عِدَاد الشيوخ، ليس حديثهم بكثير. وقال يعقوب بن سفيان: كوفيّ ثقة ثقة. وقال البخاريّ في "التاريخ": قال عليّ، عن سفيان: جامع أحبّ إليّ من عبد الملك بن أعين. وقال ابن حبّان في "الثقات": جامع بن أبي راشد، وربما رَوَى عنه شريكٌ، فقال: جامع بن راشد، والصحيح ما قاله سفيان، وغيره -يعني ابن أبي راشد-. روى له الجماعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا 2441 و 3798 حديث:"هذا البيع يحضره الحلف والكذب .. " الحديث.
4 -
(أبو وائل) شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، مخضرم ثقة [2] 2/ 2.
5 -
(عبد اللَّه) بن مسعود رضي الله عنه 35/ 39. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال
(1)
-"شرح مسلم" ج 7 ص 76.
الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين غير شيخه كما سبق آنفًا. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي مخضرم. (ومنها): أن فيه "عبد اللَّه" مهملًا وقد سبق أنه إذا وقع "عبد اللَّه" مهملاً في الصحابة يُنظَرُ فيمن روى عنه فإن كان كوفيًا كما هنا فهو ابن مسعود، وإن كان مدنيًا فهو ابن عمر، وإن كان مكيًّا فهو ابن الزبير، وإن كان بصريًا فهو ابن عباس، وإن كان مصريًا أو شاميًا فهو ابن عمرو بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهم - أجمعين، وإلى هذا أشار السيوطي في "نظم الدرر" حيث قال:
وَحَيثُمَا أُطْلِقَ "عَبدُ اللَّهِ" فِي
…
طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرٍ وَإِنْ يَفِي
بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَوْجَرَى
…
بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودِ يُرَى
وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ
…
وَالشَّامِ مهْمأ أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو
واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ رَجُلٍ، لَهُ مَالٌ، لَا يُؤَدِّي حَقَّ مَالِهِ) أي لا يؤدي زكاته، أو أعمّ من ذلك (إِلَّا جُعِلَ لَهُ) أي ذلك المال حقيقة، والظاهر جميع المال، لا قدر الزكاة فقط، فضمير "جُعِلَ" يعود إلى المال، وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني قوله (طَوْقًا فِي عُنُقِهِ) بفتح الطاء المهملة: أي حلقةً تعلّق في عنقه. قال في "القاموس": الطَّوْق: حَلْيٌ للعنق، وكل ما استدار بشيء، والجمع أطواق انتهى (شُجَاعٌ) بالرفع خبر لمحذوف، أي هو شجاع، والجملة حال. ويحتمل أن يكون "شجاع" هو النائب عن فاعل "جُعل"، لكن الأولى جعل النائب ضمير المال، كما أسلفناه.
وفي بعض النسخ، وهو الذي في "الكبرى":"شجاعًا" بالنصب، فيكون منصوبًا على الحال، أو بدلاً من "طوقًا".
قال في "القاموس": الشجاع: كغُرَاب، وكِتَاب: الحيّة، أو الذكر منها، أو ضرب منها صغير، جمعه شِجعانٌ، بالكسر، والضمّ انتهى.
وقال القرطبيّ: والشجاع من الحيّات الذكر الذي يواثب الفارس، والراجل، ويقوم على ذنبه، وربما بلغ رأس الفارس، ويكون في الصحارى. وقيل: هو الثعبان انتهى
(1)
(أَقْرَعُ) قال في "النهاية": هو الذي لا شعر له على رأسه، يريد حيّة قد تَمَعّط جلد رأسه لكثرة سمه، وطُول عمره. وقال القاضي عياض: قيل: هو الأبيض الرأس من كثرة السمّ. وقيل: نوع من الحيّات أقبح منظرًا. قال: وظاهر هذه الرواية: أنّ ماله صُيِّرَ،
(1)
-"المفهم" ج 3 ص 30.
وخُلق على صورة الشجاع. ويحتمل أن اللَّه تعالى خلق الشجاع لعذابه.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المعنى الأول هو الأقرب، لظاهر النصّ. واللَّه تعالى أعلم.
قال: وقيل: خصّ الشجاع بذلك لشدّة عداوة الحيّات لبني آدم انتهى.
وزاد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "له زَبيبتان": وهو تثنية زَبيبة -بفتح الزاي، وموحدتين- وهما الزبدتان اللتان في الشدقين، يقال: تكلّم حتى زبد شدقاه، أي خرج الزبد منهما. وقيل: هما النكتتان السوداوان فوق عينيه. وقيل: نقطتان يكتنفان فاه. وقيل: هما في حلقه بمنزلة زَنَمَتي العَنْز. وقيل: لحمتان على رأسه مثل القرنين. وقيل: نابان يخرجان من فيه
(1)
.
(وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ) أي يفرّ صاحب المال من ذلك الشجاع خوفًا من أذاه، وهذا في أول الأمر قبل أن يصير طَوْقًا في عنقه. ولفظ "الكبرى":"وهو يَقدُمُه"، والظاهر أنه بضم الدال، أي يتقدّمه فرارًا منه (وَهُوَ يتْبَعُهُ) أي يتبع الشجاعُ الرجلَ، وفي حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم:"يتبعه فاتحًا فاه، فإذا أتاه فرّ منه، فيناديه: خذ كنزك الذي خبأته، فأنا عنه غنيّ، فإذا رأى أن لا بدّ منه، سلك يده في فيه، فيَقْضِمها قَضْمَ الفحل".
(ثُمَّ قَرَأَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية للترمذيّ:"قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، ولابن ماجه:"ثم قرأ علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"(مِصْدَاقَهُ) -بكسر، فسكون- أي ما يشهد لصدقه. قال في "القاموس": مِصْداق الشيء: ما يُصَدِّقُهُ انتهى (مِنْ كِتَابِ اللَّه عز وجل: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ} بالمدّ أي أعطاهم ({مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]) ظاهر الآية أنه يُجعل قدر الزكاة طَوْقًا له؛ لأنه الذي بخل به، وظاهر الحديث أنه كلّ المال، ويمكن أن يقال: المراد في الآية ما بخلوا بزكاته، وهو كلّ المال، فيرجع إلى معنى الحديث. واللَّه تعالى أعلم.
والحديث يدلّ على أن المراد بالتطويق في الآية الحقيقة، خلافا لمن قال: إن معناه سيطوقون الإثم.
[فإن قلت]: كيف يجمع بين هذه الآية، وبين قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} الآية؟ [التوبة: 34، 35]
[قلت]: فيه جوابان:
(1)
- راجع "الفتح" ج 4 ص 15.
(أحدهما): أنه يُحمل على أن بعض أنواع المال يكون طَوْقًا، وبعضها يُحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه، وجبينه، وظهره.
(والثاني): أنه يحمل على أنه يُعَذّب حينًا بهذه الصفة، وحينًا بتلك الصفة. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: في قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم الآية دلالة على أنها نزلت في مانعي الزكاة، وهو قول أكثر أهل العلم بالتفسير. وقيل: إنها نزلت في اليهود الذين كتموا صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل: نزلت فيمن له قرابة لا يَصِلهم. قاله مسروق
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-2/ 2441 - وفي "الكبرى" 2/ 2221. وأخرجه (ت) في "التفسير" 3012 (ق) في "الزكاة" 17840.واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2442 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْغُدَانِيِّ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«أَيُّمَا رَجُلٍ، كَانَتْ لَهُ إِبِلٌ، لَا يُعْطِي حَقَّهَا، فِي نَجْدَتِهَا وَرِسْلِهَا» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَجْدَتُهَا وَرِسْلُهَا؟ ، قَالَ: «فِي عُسْرِهَا وَيُسْرِهَا، فَإِنَّهَا تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَغَذِّ مَا كَانَتْ، وَأَسْمَنِهِ، وَآشَرِهِ، يُبْطَحُ لَهَا، بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، فَتَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، إِذَا جَاءَتْ أُخْرَاهَا، أُعِيدَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ، كَانَتْ لَهُ بَقَرٌ، لَا يُعْطِي حَقَّهَا فِي نَجْدَتِهَا وَرِسْلِهَا، فَإِنَّهَا تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَغَذَّ مَا كَانَتْ، وَأَسْمَنَهُ، وَآشَرَهُ، يُبْطَحُ لَهَا، بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، فَتَنْطَحُهُ كُلُّ ذَاتِ قَرْنٍ بِقَرْنِهَا، وَتَطَؤُهُ كُلُّ ذَاتِ ظِلْفٍ بِظِلْفِهَا، إِذَا جَاوَزَتْهُ أُخْرَاهَا، أُعِيدَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ، لَا يُعْطِي حَقَّهَا، فِي نَجْدَتِهَا وَرِسْلِهَا، فَإِنَّهَا تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَغَذِّ مَا كَانَتْ، وَأَكْثَرِهِ، وَأَسْمَنِهِ، وَآشَرِهِ، ثُمَّ يُبْطَحُ لَهَا بِقَاعٍ
(1)
- راجع "الفتح" ج 4 ص 15.
قَرْقَرٍ، فَتَطَؤُهُ كُلُّ ذَاتِ ظِلْفٍ بِظِلْفِهَا، وَتَنْطَحُهُ كُلُّ ذَاتِ قَرْنٍ بِقَرْنِهَا، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ، وَلَا عَضْبَاءُ، إِذَا جَاوَزَتْهُ أُخْرَاهَا، أُعِيدَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَي بَيْنَ النَّاسِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إسماعيل بن مسعود) الجحدري، أبو مسعود البصري، ثقة [10] من أفراد المصنف.
2 -
(يزيد بن زريع) أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.
3 -
(سعيد بن أبي عروبة) مِهران، أبو النضر البصري، ثقة ثبت، يدلس، واختلط بآخره [6].
4 -
(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري الثقة الثبت الحجة، كان يدلس [4].
5 -
(أبو عُمَر الْغُدَانيّ) ويكال: "أبو عَمْرو" بفتح، فسكون، وهو الواقع في بعض النسخ. و"الغدانيّ" بضم المعجمة، وتخفيف الدّال المهملة، البصريّ، مقبول [3].
حديثه في البصريين. روى عن أبي هريرة حديث الباب بطوله. وعنه قتادة. ذكره ابن حبّان في "الثقات". وروى حديثه الحاكم في "المستدرك"، وقال: إن اسمه يحيى بن عُبيد الْبَهْرَانيّ. لكن قال في "ت": ووهم من قال: اسمه يحيى بن عبيد. انتهى. تفرّد به أبو داود، والمصنّف وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه -1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، والغداني كما سبق آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي عُمَرَ) بضم العين المهملة، وفتح الميم، ويقال: أبو عمرو بفتح العين، كما في بعض النسخ، كما مرّ آنفًا (الْغُدَانِيِّ) -بضم الغين المعجمة، وتخفيف الدال المهملة: نسبة إلى غُدَانة بن يَرْبوع بن حنظلة بن بن مالك بن زيد مناة بن تميم. قاله في "اللباب"
(1)
(أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "أَيُّمَا رَجُلٍ)، ومثله في ذلك المرأة، فليس التنصيص للتخصيص، بل نظرًا للأغلبية، فتبصَّر واللَّه
(1)
- "اللباب في تهذيب الأنساب" ج 2 ص 375 و "الأنساب" ج 4 ص 283.
تعالى أعلم (كَانَتْ لَهُ إِبِلٌ، لَا يُعْطِي حَقَّهَا) أي لا يؤدّي زكاتها، أو أعمّ من ذلك.
وسأتي من طريق الأعرج، عن أبي هريرة -6/ 2448 - زيادة:"ومن حقها أن تُحلب على الماء"، ويأتي الكلام عليه هناك، إن شاء اللَّه تعالى (فِي نَجْدَتَهِا وَرِسْلِهَا") قال في "النهاية": النَّجْدة -أي بفتح، فسكون-: الشدّة، والرِّسْلُ -بالكسر-: الْهِينَة، والتأنّي.
قال الجوهريّ: يقال: افعل كذا وكذا على رِسْلِكَ -بالكسر-: أي اتْئد فيه، كما يقال: على هِينَتك. قال: ومنه الحديث: "إلا من أعطى في نَجْدتها، ورسلها": أي الشّدّة والرخاء، يقول: يُعطي، وهي سِمَانٌ حِسَانٌ، يشتدّ عليه إخراجها، فتلك نجدتها، وُيعطي في رِسْلِها، وهي مَهَازيلُ مُقاربة. وقال الأزهريّ: معناه: إلا من أعطى في إبله ما يَشُقّ عليه إعطاؤه، فيكون نَجْدةً عليه، أي شِدَّةً، ويعطي ما يَهُون عليه إعطاؤه منها مُستَهِينًا على رِسْلِهِ. وقال الأزهريّ: وقال بعضهم
(1)
: "في رِسْلِها": أي بطيب نفس منه. وقيل: ليس للَّهُزال فيه معنى؛ لأنه ذَكَرَ الرِّسْل بعد النّجْدة على جهة التفخيم للإبل، فجرى مجرى قولهم: إلا من أعطَى في سِمَنها وحُسْنها، ووُفُور لبنها، وهذا كلّه يرجع إلى معنى واحد، فلا معنى للهُزَالِ، لأن من بذل حقّ اللَّه من المضنون به، كان إلى إخراجه مما يَهُون عليه أسهل، فليس لِذكرِ الْهُزَال بعد السمن معنى.
قال صاحب "النهاية": والأحسن -واللَّه أعلم- أن يكون المراد بالنجدة الشدّة، والْجَدْب، وبالرسل الرخاء والْخِصْب؛ لأن الرسل اللبنُ، وإنما يكثر في حال الرخاء والخصب، فيكون المعنى أنه يُخرج حقّ اللَّه في حال الضيق والسعة، والجدب والخصب؛ لأنه إذا أخرج حقّها في سنة الضيق والجدب، كان ذلك شاقّا عليه، فإنه إجحاف، وإذا أخرجها في حال الرخاء، كان ذلك سهلاً عليه، ولذلك (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَجْدَتُهَا وَرِسْلُهَا؟، قَالَ:"فِي عُسْرِهَا وَيُسْرِهَا) فسَمَّى النَّجْدَة عُسرًا، والرِّسْلَ يُسرًا؛ لأن الجدب عسر، والخصب يُسر، فهذا الرجل يعطي حقّها في حال الجدب والضيق، وهو المراد بالنجدة، وفي حال الخصب والسعة، وهو المراد بالرسل، واللَّه أعلم انتهى كلام صاحب "النهاية" بتغيير يسير
(2)
.
(فَإِنَّهَا تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَغَذٍّ مَا كَانَتْ) بالغين، والذال المعجمتين: أي أسرع، وأنشط، يقال: أغَذّ يُغَذّ: إذا أسرع في السير. و"أغذّ" مضاف إلى "ما" المصدية، والوقتُ مقدّر، وهو متعلق بحال محذوف، أو الكاف اسم بمعنى "مثل": أي تأتي حال كونها مماثلة لأكمل أحوالها، من الإسراع، والنشاط.
(1)
- هو ابن الأعرابيّ، كما صرّح به الهرويّ، كما في "اللسان".
(2)
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" ج 2 ص 222 - 223.
ووقع في "الكبرى": "كأعدّ" بالعين، والدال المهملتين، في الموضعين بَدَلَ "كأغذّ" بالمعجمتين"، وأظنه تصحيفًا. واللَّه تعالى أعلم.
وفي رواية مسلم من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة:"أوفر ما كانت".
قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "أوفر ما كانت" أي عند مانع زكاتها؛ لأنها قد تكون عنده على حالات، مرّةً هَزيلة، ومرة سمينةً، ومرّة صغيرة، وأخرى كبيرة، فتأتي يوم القيامة على أوفر أحوالها عنده؛ زيادة في عقوبته بقوّتها، وكمال خَلْقها، فتكون أثقل في وطئها، وأيضًا فيأتي جميها، لا يفقد منها شيئًا، حتى الفصيل - بفتحِ الفاء، وكسر الصاد-: ولد الناقة إذا فُصل عن أمه، وقد تجب فيه الزكاة، إما لبلوغه حولاً، وإما لبناء حوله على حول أمه. قال: وهذا الذي ذكرته هو الظاهر، وذكر والدي -رحمه اللَّه تعالى-يعني الحافظ العراقيّ- في "شرح الترمذيّ" احتمالين آخرين:
(أحدهما): أنها تأتي أوفر ما كانت عليه في الدنيا مطلقًا، فقد تكون عند صاحبها الذي منع زكاتها هزيلة في جميع مدّتها عنده، وتسمن بعد ذلك عند غيره، أو تكون قبل أن يملكها سمينة، فتحشر على أتمّ حالاتها؛ تغليظًا عليه.
(الثاني): أنها تجيء على أعظم حالات الإبل مطلقًا، هي وغيرها، وكذلك البقر، والغنم، ويدلّ له قوله بعد ذلك:"ليس فيها عقصاء، ولا جلحاء، ولا عضباء"، وفي حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم أيضًا:"ليس فيها جمّاء، ولا منكسرٌ قرنُها". وربما كان في بقره، وغنمه في الدنيا ما هو بهذه الصفة من النقص، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنها تأتي تامّة الخلقة؛ تغليظًا انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني هو الظاهر. واللَّه تعالى أعلم.
(وَأَسْمَنِهِ، وَآشَرِهِ) -بمدّ الهمزة، والشين المعجمة، وتخفيف الراء-: أي كأبطر ما كانت، وأنشطه. وفي بعض النسخ:"وأَسَرِّهِ" -بالسين المهملة، وتشديد الراء-: أي كأسمن ما كانت، وأوفره، من سِرٍّ كلّ شيء، وهو لُبُّهُ ومُخُّهُ. وقيل: من السرور؛ لأنها إذا سمنت سَرَّتْ الناظر إليها. ويروى: "وأَبْشَره": أي أحسنه، من البِشْر، وهو طلاقة الوجه، وبشاشته. أفاده في "النهاية"
(2)
.
(يُبْطَحُ) بالبناء للمفعول: أي يُلقى على وجهه. وقال النوويّ: قوله: "بُطح" قال جماعة: معناه أُلقي على وجهه. قال القاضي: قد جاء في رواية البخاريّ: "تَخبِط وجهه بأخفافها" قال: وهذا يقتضي أنه ليس من شرط البَطْح كونه على الوجه، وإنما هو في
(1)
- "طرح التثريب" ج 4 ص 12 - 13.
(2)
- "النهاية" ج 2 ص 360. وج1 ص 129.
اللغة بمعنى البسط والمدّ، فقد يكون على وجهه، وقد يكون على ظهره، ومنه سمّيت بطحاء مكة؛ لانبساطها انتهى
(1)
(لَهَا) أي لأجل تلك الإبل، وهو متعلّق بما قبله. (بِقَاعٍ قَرْقَرٍ) "القاع": المستوي الواسع من الأرض، يعلوه ماء السماء، فيمسكه.
قال الهرويّ: وجمعه قِيَعَة، وقِيعان، مثل جار، وجيَرَة، وجِيران، و"القرقر" -بفتح القافين-: المستوي أيضًا من الأرض الواسعُ. قاله اَلنوويّ. وقال في "النهاية": القاع المكان المستوي من الأرض الواسع، والقَرْقَرُ: الأملس انتهى. فيكون ذكر القرقر بعد القاع تأكيدًا (فَتَطَؤُهُ بأخْفَافِهَا) جمع خُفّ، وهو للبعير، كالقدم للآدميّ، والحافر للفرس، والبغل، والحمار (إِذَا جَاءَتْ أُخْرَاهَا، أُعِيدَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا) ووقع في "صحيح مسلم" من طريق زيد بن أسلم، عن أبي صالح:"كلما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أُخراها". قال القاضي عياض: قالوا هو تغيير، وتصحيف، وصوابه ما في الرواية التي بعده، من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه:"كلما مرّ عليه أُخراها، رُدّ عليه أولاها"، وبهذا ينتظم الكلام. وكذا وقع عند مسلم من حديث أبي ذرّ أيضًا. وأقرّه النوويّ على هذا، وحكاه القرطبيّ، وأوضَحَ وجهَ الردّ بأنه إنما يُردّ الأول الذي قد مرّ قبلُ، وأما الآخرُ فلم يردّ بعدُ، فلا يقال فيه: رُدّت.
قال: ويظهر لي أن الرواية الصحيحة ليس فيها تغيير، لأن معناها: أن أول الماشية كلما وصلت إلى آخر ما تمشي عليه، تلاحقت بها أخراها، ثم إذا أرادت الأولى الرجوع بدأت الأخرى بالرجوع، فعادت الأخرى أولى، حتى تنتهي إلى آخره، وهكذا إلى أن يقضي اللَّه بين العباد. واللَّه تعالى أعلم
(2)
.
وكذا وجّهه الطيبيّ، فقال: إنّ المعنى: أولاها إذا مرّت عليه تتابع إلى أن تنتهي إلى الأخرى، ثم ردّت الأخرى من هذه الغاية، وتبعها ما كان يليها، فما يليها إلى أن تنتهي أيضًا إلى الأولى، حصل الغرض من التتابع والاستمرار انتهى. فيكون الابتداء في المرّة الأولى من الإبل الأولى، وفي المرّة الثانية من الأخرى، والحاصل أنه يحصل هذا بعد أخرى
(3)
.
(فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي على هذا المعذب، وإلا فقد جاء أنه يُخفّف على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة
(4)
. قاله السنديّ. وقيل:
(1)
- "شرح مسلم" ج 7 ص 67 - 68.
(2)
- "المفهم" ج 3 ص 27.
(3)
- انظر "المرعاة" ج 6 ص 12 - 13.
(4)
- قال الهيثميّ في "مجمع الزوائد": ج 10 ص 337: رواه أحمد، وأبو يعلى، وإسناده حسنٌ، على ضعف في راويه. انتهى.
لو حاسب فيه غير اللَّه سبحانه لكان بهذا العدد (حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ) بالبناء للمفعول: أي حتى يُفرغ من حساب الناس.
قال الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح الترمذيّ": يمكن أن يؤخذ منه أن مانع الزكاة آخر من يُقضَى فيه، وأنه يُعذّب بما ذُكر حتى يُفرغ من القضاء بين الناس، فيُقضى فيه بالنار، أو الجنّة. ويحتمل أن المراد حتى يُشرع في القضاء بين الناس، ويجيء القضاء فيه، إما في أولهم، أو وسطهم، أو آخرهم على ما يريد اللَّه، وهذا أظهر انتهى.
قال ولده وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: قد يشير إلى الأول قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]، ويقال: إنما ذُكر في معرض استيعاب ذلك اليوم بتعذيبه؛ لجواز أن يكون القضاء فيه آخر الناس، وإن احتمل أن يكون فصل أمره في وسطه، واللَّه أعلم انتهى
(1)
.
(فَيَرَى سَبِيلَهُ) زاد في رواية مسلم: "إما إلى الجنّة، وإما إلى النار". قال النوويّ: قوله: "فيرى سبيله": ضبطناه بضم الياء، وفتحها، وبرفع لام "سبيله"، ونصبها انتهى
(2)
.
وقال الحافظ وليّ الدين: الوجهان في رفع لام "سبيله" ونصبها إنما يجيئان مع ضمّ الياء، فأما مع فتح الياء، فيتعيّن نصب اللام انتهى
(3)
.
(وَأَيَّمَا رَجُلٍ، كَانَتْ لَهُ بَقَرٌ) اسم جنس، واحدته بقرة بهاء (لَا يُعْطِي حَقَّهَا) أي لا يؤدي زكاتها، أو ما هو أعمّ من ذلك.
وفيه دليل على وجوب الزكاة في البقر، قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا أصحّ الأحاديث الواردة في زكاة البقر انتهى (فِي نَجْدَتهِا وَرِسلِهَا، فَإِنهَا تَأتي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أغَذ مَا كَانَتْ، وَأَسْمَنَهُ، وَآشَرَهُ، يُبْطَحُ لَهَا، بِقَاع قَرْقَرِ، فَتَنْطَحُهُ) -بكسر الطاء المهملة، وفتحها لغتان، حكاهما الجوهريّ وغيره، والكسر أفصح، وهو المعروف في الرواية.
قاله النوويّ (كُلُّ ذَاتِ قَرْنٍ بِقَرْنَها، وَتَطَؤُهُ كُلُّ ذَاتِ ظِلْفٍ بِظِلْفِهَا)"الظلف" -بكسر، فسكون-: للبقر، والغنم، والظباء، وهو المنشقّ من القوائم. قاله النوويّ. وقال القرطبيّ: هو الظفر من كلّ دابّة مشقوقة الرجل، ومن الإبل الخفّ، ومن الخيل، والبغال، والحمير: الحافر انتهى
(4)
(إِذَا جَاوَزَتهُ) أي مرّت عليه، وتعدّته (أُخْرَاهَا،
(1)
-"طرح التثريب" ج 4 ص 10.
(2)
-"شرح مسلم" ج 7 ص 68.
(3)
- "طرح التثريب" ج 4 ص 10.
(4)
-"المفهم" ج 3 ص 27.
أُعِيدَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّي يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ) زاد في رواية مسلم أيضًا:"إما إلى الجنّة، وإما إلى النار"، وتقدّم ضبطه قريبًا.
(وَأَيُّمَا رَجُل كَانَتْ لَهُ غنَمٌ) قال الفيّوميّ: "الغنم": اسم جنس يُطلق على الضأن، والمعز، وقد تُجمع على أغنام، على معنى قُطَعَانات من الغنم، ولا واحد للغنم من لفظها، قاله ابن الأنباريّ. وقال الأزهريّ أيضًا: الغنمُ الشاء، الواحدة شاة. وتقول العرب: راح على فلان غَنَمانٍ: أي قَطيعان من الغنم، كلُّ قَطيع منفردٌ بمرعًى، وراعٍ. وقال الجوهريّ: الغنم اسمٌ مؤنثٌ موضوع لجنس الشاء، يقع على الذكور، والإناث، وعليهما، ويُصغّر، فتدخل الهاء، فيقالى: غُنَيمةٌ؛ لأن أسماء المجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كانت لغير الآدميين، وصُغّرت، فالتأنيث لازم لها انتهى كلام الفيّوميّ
(1)
.
(لَا يُعْطِي حَقَّهَا، فِي نَجْدَتَهِا وَرسْلِهَا، فَإِنَّهَا تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كأَغَذِّ مَا كَانَتْ، وَأَكْثَرِهِ، وَأَسْمَنِهِ، وَآشَرِهِ، ثُمَّ يُبْطَحُ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرِ، فَتَطَؤُهُ كُلُّ ذَاتِ ظِلْفٍ بظِلْفِهَا، وَتَنْطَحُهُ كُلُّ ذَاتِ قَرْنِ بِقَرْنِها لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ، وَلَا عَضْبَاءُ) ولفظ مسلم من طريق أبي صالح: "ليس فيها عَقصاء، ولا جَلْحاء، ولا عَضْبَاء". قال النوويّ: قال أهل اللغة: العقصاء: ملتوية القرنين، والجلحاء التي لا قرن لها، والعضباء التي انكسر قرنها الداخل انتهى
(2)
.
ووقع في "الكبرى": "عقصة، ولا عضة"، بدل "عقصاء، ولا عضباء"، والظاهر أنه تصحيف. واللَّه تعالى أعلم.
(إِذَا جَاوَزَتهُ) أي مرّت عليه، وتعدّته (أُخْرَاهَا، أُعِيدَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ") زاد مسلم في روايته أيضًا: "إما إلى الجنة، وإما إلى النار". واللهَ تعالى أعلمَ بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
(1)
-"المصباح المنير" في مادّة غنم.
(2)
- "شرح مسلم" ج 7 ص 67.
[فإن قلت]: كيف يكون متفقًا عليه، وقد تقدم أن أبا عمر الغُدَانيّ ليس من رجال الشيخين؟.
[قلت]: ليس الحديث من روايته فقط، بل أخرجه البخاريّ من طريق معمر، عن همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم من طريق زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وأخرجه البخاريّ من هذا الوجه أيضًا مختصرًا، ومن طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مختصرًا أيضًا، وله طرق أخرى أيضًا. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا- 2/ 2442 و 6/ 2448 - وفي "الكبرى" 2/ 2222 و 6/ 2228. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1402 و 1403 (م) في "الزكاة" 987 (د) في "الزكاة" 1658 (ق) في "الزكاة" 1786 (أحمد) في باقي مسند المكثرين" 7559 و 7663 و 7698 و 27401 و 8447 و 2733 و 8754 و 9971 و 10474 (الموطأ) في "الزكاة" 596. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو التغليظ في عقوبة منع الزكاة (ومنها): الدلالة على وجوب الزكاة في الإبل، والبقر، والغنم (ومنها): التنفير من جمع المال، لمن لا يقوم بواجبه، بل يمنع الحقوق الواجبة فيه؛ لما فيه من الوعيد الشديد (ومنها): أنه لا يُقطع لمانع الزكاة بالنار، إن لم يستحلّ ذلك؛ لقوله:"فيرى سبيله إما إلى الجنّة، أو إلى النار". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: فيه أن هذا الوعيد في حقّ المسلمين والكفّار، فإن الذي يرى سبيله إلى الجنّة هو المسلم، وأما الذي يرى سبيله إلى النِاِر، فيحتمل أن يكون على سبيل التأبيد فيها، فهو الكافر، ويحتمل أن يكون على سبيل التعذيب والتمحيص، ثم دخول الجنة، وهو المسلم.
وفي دخول المسلم في هذا الوعيد الرّدّ على المرجئة الذين يقولون: إنه لا يضرّ مع الإسلام معصية؛ كما لا ينفع مع الكفر طاعة، والكتاب والسنّة مشحونان بما يُخالف قولهم، واعتذروا عن ذلك بأن المراد به التخويف؛ لينزجر الناس عن المعصية، وليس على حقيقته وظاهرِهِ، وهو باطل، ولو صحّ قولهم لارتفع الوثوق عما جاءت به الشرائع، واحتمل في كلّ منها ذلك، وهذا يؤدّي إلى هدم الشرائع، وسقوط فائدتها.
وفي دخول الكافر في هذا الوعيد دليل على أن الكفّار مخاطبون بفروع الشريعة، وبه قال الشافعيّة، خلافًا للمعتزلة، والحنفيّة، وقد يجيبون عن هذا بأن المراد دخوله النار
على سبيل التعذيب، لا على سبيل التخليد، وليس في اللفظ ما يدلّ على ذلك. واللَّه أعلم انتهى كلام وفي الدين
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مسألة الخلاف في تكليف الكفار بالفروع قد تقدّم تحقيقها قبل باب مُسْتَوفًى، وأن الحقَّ هو القول بتكليفهم، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
3 - (بَابُ مَانِعِ الزَّكَاةِ)
أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على حكم مانع الزكاة، وهو مقاتلته.
وقد عقد الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "كتاب استتابة المرتدين" من "صحيحه"، لحديث الباب ترجمة عامّة، فقال:"باب قتل من أبى قبول الفرائض، وما نُسبوا إلى الرّده".
فقال في "الفتح": أي جواز قتل من امتنع من التزام الأحكام الواجبة، والعمل بها.
قال المهلّب: من امتنع من قبول الفرائض نُظر، فإن أقرّ بوجوب الزكاة مثلاً، أخذت منه قهرًا، ولا يُقتل، فإن أضاف إلى امتناعه نصب القتال قوتل إلى أن يرجع. قال مالك في "الموطإ": الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض اللَّه تعالى، فلم يستطع المسلمون أخذها منه كان حقّا عليهم جهاده. قال ابن بطّال: مراده إذا أقرّ بوجوبها لا خلاف في ذلك انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2443 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ لأَبِى بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ، وَنَفْسَهُ، إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ» ، فَقَالَ
(3)
أَبُو بَكْرٍ
(1)
- "طرح التثريب" ج 4 ص 10 - 11.
(2)
- "فتح" ج 14 ص 277 - 278.
(3)
- وفي نسخة: "قال".
- رضي الله عنه: لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً، كَانُوا يُؤَدُّونَهُ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ، إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ).
رجال هذا الإسناد: سنة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقة الثبت [10] 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد الإمام المصريّ الثقة الحجة [7] 31/ 35.
3 -
(عُقيل) -مصغرًا- بن خالد بن عَقِيل- مكبرًا-، أبو خالد الأموي مولاهم، الأيلي، ثم المدني، ثم الشامي، ثم المصري، ثقة ثقة [6] 125/ 187.
4 -
(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت الحافظ [4] 1/ 1.
5 -
(عُبيد اللَّه بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ) المدني الفقيه الثقة الثبت [3] 45/ 56.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه، فبغلانيّ، والليث، فمصري. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه أحد الفقهاء السبعة، عبيد اللَّه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين من الرواية، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ) قال في "الفتح": وهكذا رواه الأكثرون عن الزهريّ بهذا السند على أنه من رواية أبي هريرة عن عمر، وأبي بكر رضي الله عنهم، وقال يونس بن يزيد، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيّب أن أبا هريرة أخبره أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس
…
" الحديث، فساقه على أنه من مسند أبي هريرة، ولم يذكر أبا بكر، ولا عمر. أخرجه مسلم. وهو محمول على أن أبا هريرة سمع أصل الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحضر مناظرة أبي بكر وعمر، فقصّها كما هي، ويؤيّده أنه جاء عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بلا واسطة من طرُق، فأخرجه مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه- ومن طريق أبي صالح ذكوان- كلاهما عن أبي هريرة. وأخرجه ابن خزيمة من طريق أبي الْعَنْبَس سعيد بن كثير بن عُبيد، عن أبيه- وأخرجه أحمد من طريق همّام بن منبّه- ورواه مالك خارج "الموطإ" عن أبي الزناد، عن الأعرج- وذكره ابن منده في "كتاب الإيمان" من رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة- كلهم
عن أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه أيضًا ابن عمر، وجابر، وطارق الأشجعيّ عند مسلم. وأخرجه أبو داود، والترمذيّ من حديث أنس، وأصله عند البخاريّ. وأخرجه الطبريّ من وجه آخر عن أنس، وهو عند ابن خزيمة من وجه آخر عنه، لكن قال:"عن أنس، عن أبي بكر". وأخرجه البزّار من حديث النعمان بن بشير. وأخرجه الطبرانيّ من حديث سهل بن سعد، وابن عباس، وجرير البجليّ. وفي "الأوسط" من حديث سمرة، وسيأتي ما في رواياتهم من فائدة زائدة، إن شاء اللَّه تعالى
(1)
.
(لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ) ببناء الفعلين للمفعول (وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ) وفي حديث أنس عند ابن خزيمة: "لما توفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ارتدّ عامّة العرب".
قال القاضي عياض وغيره: كان أهل الرّدّة ثلاثة أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان. وصنف تبعوا مسيلمة، والأسود العنسيّ، وكان كلّ منهما ادعى النبوّة قبل موت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصدّق مسيلمةَ أهلُ اليمامة، وجماعةٌ غيرهم، وصدّق الأسودَ أهلُ صنعاء، وجماعةٌ غيرهم، فَقُتِل الأسودُ قبل موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بقليل، وبقي بعض من آمن به، فقاتلهم عُمّال النبيّ صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وأما مسيلمة فجهّز إليه أبو بكر الجيش، وعليهم خالد بن الوليد، فقتلوه.
وصنف ثالثٌ استمروا على الإسلام، لكنهم جحدوا الزكاة، وتأوّلوا بأنها خاصّة بزمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهم الذين ناظر عمرُ أبا بكر في قتالهم، كما وقع في حديث الباب.
وقال أبو محمد بن حزم في "الملل والنحل": انقسمت العرب بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم على أربعة أقسام: طالْفة بقيت على ما كانت عليه في حياته، وهم الجمهور. وطائفة بقيت على الإسلام أيضًا، إلا أنهم قالوا: نقيم الشرائع إلا الزكاة، وهم كثير، لكنهم قليل بالنسبة إلى الطائفة الأولى. والثالث أعلنت بالكفر، والردّة، كأصحاب طُلَيحة، وسَجَاح، وهم قليل بالنسبة لمن قبلهم، إلا أنه كان في كلّ قبيلة من يقاوم من ارتدّ. وطائفة توقّفت، فلم تُطع أحدًا من الطوائف الثلاثة، وتربّصوا لمن تكون الغلبة، فأخرج أبو بكر إليهم البعوث، وكان فيروز، ومن معه غلبوا على بلاد الأسود، وقتلوه، وقُتل مسيلمة باليمامة، وعاد طُليحة إلى الإسلام، وكذا سَجَاحِ، ورجع غالب من كان ارتدّ إلى الإسلام، فلم يَحُلِ الحولُ إلا والجميع قد راجعوا دين الإسلام، ولله الحمد انتهى
(2)
.
(1)
- راجع "الفتح" ج 14 ص 278 - 279.
(2)
- المصدر السابق.
(قَالَ: عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ) رضي الله عنهما (كَيْفَ نُقَاتِلُ النَّاسَ؟) وفي حديث أنس: "أتريد أن تقاتل العرب (وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:) الواو واو الحال ("أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) كذا ساقه الأكثر، وفي رواية طارق عند مسلم:"من وحّد اللَّه، وكفر بما يُعبَد من دونه حَرُمَ دمه وماله". وأخرجه الطبرانيّ من حديثه كرواية الجمهور. وفي حديث ابن عمر: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة". ونحوه في حديث أبي العنبس. وفي حديث أنس عند أبي داود: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويأكلوا ذبيحتنا، ويصلّوا صلاتنا". وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا عبده ورسوله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به".
قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: زعم الروافض أن حديث الباب متناقض؛ لأن في أوله أنهم كفروا، وفي آخره أنهو ثبتوا على الإسلام؛ إلا أنهم منعوا الزكاة، فإن كانوا مسلمين، فكيف استَحَلّ قتالهم وسبي ذراريهم؟، وإن كانوا كفّارًا، فكيف احتجّ على عمر بالتفرقة بين الصلاة والزكاة؟، فإن في جوابه إشارة إلى أنهم كانوا مقرّين بالصلاة.
قال: والجواب عن ذلك أن الذين نُسبوا إلى الردّة كانوا صنفين: صنف رجعوا إلى عبادة الأوثان. وصنف منعوا الزكاة، وتأولوا قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} الآية [التوبة: 103]، فزعموا أن دفع الزكاة خاصّ به صلى الله عليه وسلم؛ لأن غيره لا يطهّرهم، ولا يصلي عليهم،، فكيف تكون صلاته سكنًا لهم، وإنما أراد عمر بقوله:"تقاتل الناس" الصنف الثاني؛ لأنه لا يتردّد في جواز قتل الصنف الأول؛ كما أنه لا يتردّد في قتال غيرهم من عبّاد الأوثان، والنيران، واليهود، والنصارى، قال: وكأنه لم يستحضر من الحديث إلا القدر الذي ذكره، وقد حفظ غيره في الصلاة والزكاة معًا، وقد رواه عبد الرحمن بن يعقوب بلفظ يعمّ جميع الشريعة، حيث قال فيها:"ويؤمنوا بي، وبما جئت به"، فإن مقتضى ذلك أن من جحد شيئًا مما جاء به صلى الله عليه وسلم، ودُعي إليه، فامتنع، ونَصَب القتالَ أنه يجب قتاله، وقتله إذا أصرّ، قال: وإنما عَرَضت الشبهة لما دخله من الاختصار، وكأن راويه لم يقصد سياق الحديث على وجهه، وإنما أراد سياق مناظرة أبي بكر وعمر، واعتمد على معرفة السامعين بأصل الحديث انتهى مُلَخَّصًا.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه لو كان عند عمر في الحديث "حتى يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" ما استشكل قتالهم؛ للتسوية في كون غاية القتال ترك كلّ من التلقظ بالشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. قال عياض: حديث
ابن عمر نصّ في قتال من لم يُصلّ، ولم يتركّ، كمن لم يقر بالشهادتين، واحتجاج عمر على أبي بكر، وجواب أبي بكر دلّ على أنهما لم يسمعا في الحديث الصلاة والزكاة، إذ لو سمعه عمر لم يحتجّ على أبي بكر، ولو سمعه أبو بكر لردّ به على عمر، ولم يَحْتجْ إلى الاحتجاج بعموم قوله:"إلا بحقّه".
قال الحافظ: إن كان الضمير في قوله: "بحقّه" للإسلام، فمهما ثبت أنه من حقّ الإسلام تناوله، ولذلك اتفق الصحابة على قتال من جحد الزكاة انتهى
(1)
.
(فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه، عَصَمَ مِنِّي) أي منع مني، وأصل العصمة من العصام، وهو الخيط الذي يُشدّ به فم القِرْبَة؛ ليمنع سيلان الماء (مَالَهُ، وَنَفْسَهُ، إِلاَّ بِحَقِّهِ) المراد بالحقّ بالنسبة للمال، فهو الزكاة، ونحوها من الحقوق المتعلّقة به.
وأما بالنسبة للنفس فهو ما سيأتي بيانه للمصنّف في "كتاب تحريم الدم" -14/ 4057 - بسند صحيح عن ابن عمر، أن عثمان، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"لا يحل دم امرئ مسلم، إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصانه، فعليه الرجم، أو قَتَل عمدًا، فعليه الْقَوَد، أو ارتد بعد إسلامه، فعليه القتل". واللَّه تعالى أعلم.
(وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ") أي حساب سريرته على اللَّه تعالى؛ لأنه المطّلع عليه، فمن أخلص في إيمانه، وأعماله، جازاه اللَّه عليها جزاء المخلصين، ومن لم يُخلص في ذلك كان من المنافقين، يُحكم له في الدنيا بأحكام المسلمين، وهو عند اللَّه من أسوإ الكافرين.
ويستفاد منه أن أحكام الإسلام إنما تُدار على الظواهر الجليّة، لا الأسرار الخفيّة. قاله القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
.
وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: معنى قوله: "وحسابه على اللَّه" أي فيما يستسرون به، ويُخفونه، دون ما يُخِلُّون به في الظاهر، وهذا قول أكثر العلماء. وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تُقبل. وُيحكى ذلك أيضًا عن أحمد بن حنبل -رحمهما اللَّه-. هذا كلام الخطّابيّ. وذكر القاضي عياض معنى هذا، وزاد عليه، وأوضحه، فقال: اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال: لا إله إلا اللَّه تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بهذا مشركو العرب، وأهل الأوثان، ومن لا يوحّد، وهم كانوا أول من دُعي إلى الإسلام، وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقرّ بالتوحيد، فلا يُكتفى في عصمته بقوله: لا إله إلا اللَّه، إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذا جاء في الحديث الآخر:
(1)
-"فتح" ج 14 ص 279 - 280.
(2)
- "المفهم" ج 3 ص 189.
"وأني رسول اللَّه، ويقم الصلاة، ويؤتي الزكاة". هذا كلام القاضي.
قلت
(1)
: ولا بدّ مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة رضي الله عنه، هي مذكورة في "صحيح مسلم":"حئى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، ويؤمنوا بي، وبما جئت به". واللَّه أعلم.
قال: واختلف أصحابنا في قبول توبة الزنديق، وهو الذي ينكر الشرع جملة، فذكروا فيه خمسة أوجه لأصحابنا: أصحها، والأصوب منها قبولها مطلقًا، للأحاديث الصحيحة المطلقة. والثاني: لا تُقبل، ويتحتّم قتله، لكنه إن صدق في توبته نفعه ذلك في الدار الآخرة، وكان من أهل الجنّة. والثالث: إن تاب مرّة واحدة قبلت توبته، فإن تكرّر ذلك منه لم تقبل. والرابع: إن أسلم ابتداءً من غير طلب قبل منه، وإن كان تحت السيف فلا. والخامس: إن كان داعيًا إلى الضلال لم يقبل منه، وإلا قبل منه. واللَّه تعالى أعلم انتهى كلام النوويّ
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما صححه النووي -رحمه اللَّه تعالى- من قبول توبة الزنديق مطلقًا هو الأرجح عندي؛ لما ذكره، ولإطلاق قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية [الأنفال: 38]، والزنديق كافر، تعمّه هذه الآية، ولحديث عمرو بن العاص رضي الله عنهم مرفوعًا:"أما علمت أن الإسلام يَهْدِمُ ما كان قبله". أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم.
(فَقَالَ أبو بَكْرٍ رضي الله عنه: لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) وفي رواية: "واللَّه لأقاتلنّ الخ". قال النوويّ: ضبطناه بوجهين، "فَرَقَ"، و"فَرَّق" بتشديد الراء، وتخفيفها، ومعناه: من أطاع في الصلاة، وجحد الزكاة، أو منعها. انتهى.
وعبارة الحافظ: يجوز تشديد "فرّق" وتخفيفه، والمراد بالفرق من أقرّ بالصلاة، وأنكر الزكاة، جاحدًا، أو مانعًا مع الاعتراف، وإنما أطلق في أول القصّة الكفر ليشمل الصنفين، فهو في حقّ من جحد حقيقةٌ، وفي حقّ الآخرين مجازٌ تغليبًا، وإنما قاتلهم الصدّيق رضي الله عنه، ولم يَعْذُرهم بالجهل، لأنهم نصبوا القتال، فجهّز إليهم من دعاهم إلى الرجوع، فلما أصرّوا قاتلهم. قال المازريّ: ظاهر السياق أن عمر كان موافقًا على قتال من جحد الصلاة، فألزمه الصدّيق بمثله في الزكاة، لورودهما في الكتاب والسنّة مَوْرِدًا واحدًا انتهى
(3)
.
(1)
- القائل هو النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-.
(2)
- "شرح مسلم" ج1 ص 156 - 157.
(3)
- "فتح" ج 14 ص 280.
(فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ) يشير إلى دليل منع التفرقة التي ذكرها أن حقّ النفس الصلاة، وحق المال الزكاة، فمن صلّى عصم نفسه، ومن زكّى عصم ماله، فإن لم يصلّ قوتل على ترك الصلاة، ومن لم يُزكّ أُخذت الزكاة من ماله قهرًا، وإن نصب الحرب لذلك قوتل، وهذا يوضّح أنه لو كان سمع في الحديث:"ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" لما احتاج إلى هذا الاستنباط، لكنه يحتمل أن يكون سمعه، واستظهر بهذا الدليل النظريّ.
(وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً) هكذا وقع بلفظ: "عِقَالاً" هنا -3/ 2443 وفي "تحريم الدم" -1/ 3970 - ووقع في "الجهاد"-1/ 3091 و 3092 و 3093 و 3094 - وفي "تحريم الدم" أيضًا في 1/ 3973 و 3975 بلفظ: "عَنَاقاً" بدل "عِقَالًا".
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الفتح" بعد أن ذكره بلفظ "عناقًا": ووقع في رواية قتيبة، عن الليث، عند مسلم "عقالاً"، وأخرجه البخاريّ في "كتاب الاعتصام" عن قتيبة، فكنى بهذه اللفظة، فقال:"لو منعوني كذا".
واختلف في هذه اللفظة، فقال قوم: هي وَهَم، وإلى هذا أشار البخاريّ بقوله في "الاعتصام" عقب إيراده: قال لي ابنُ بُكير -يعني شيخه فيه هنا- وعبدُالله -يعني ابن صالح- عن الليث: "عَنَاقًا"، وهو أصحّ، ووقع في رواية ذكرها أبو عُبيدة:"لو منعوني جَدْيًا أَذْوَط"، وهو يؤيّد أن الرواية "عَناقًا". و "لأذوط" الصغير الفَكِّ والذَّقَنِ. قال: و"العَنَاق" -بفتح المهملة، والنون-: الأنثى من ولد المعز. انتهى
(1)
وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح مسلم": هكذا في مسلم "عِقَالاً" وكذا في بعض روايات البخاريّ، وفي بعضها "عَنَاقًا" -بفتح العين، وبالنون، وهي الأنثى من ولد المعز، وكلاهما صحيح، وهو محمول على أنه كرّر الكلام مرتين
(2)
، فقال في مرّة:"عقّالًا"، وفي الأخرى:"عناقاً"، فرُوي عنه اللفظان.
فأما رواية العَنَاق، فهي محمولة على ما إذا كانت الغنم صغارًا كلها بأن ماتت أمهاتها في بعض الحول، فإذا حال حول الأمهات زُكي السِّخَال الصغار بحول الأمهات، سواء بقي من الأمهات شيء، أم لا. هذا هو الصحيح المشهور. وقال أبو القاسم الأنماطيّ من الشافعيّة: لا يزكى الأولاد بحول الأمهات، إلا أن يبقى من الأمهات نصاب. وقال
(1)
- "فتح" ج 14 ص 280.
(2)
- قد اعترض الحافظ على النووي هذا التأويل، فقال: وهو بعيد، مع اتحاد المخرج والقصّة انتهى. لكن الذي يظهر لي أن ما قاله النوويّ ليس ببعيد، لأنه يمكن أن يكرر أبو بكر رضي الله عنه الكلام في مجلس واحد تأكيدًا، وتشديدًا، فيتلفّظ باللفظين، فينقل عنه، وهذا لا إشكال فيه، فما قاله النووي قريب، لا بعيد. واللَّه تعالى أعلم.
بعض الشافعية: إلا أن يبقى من الأمهات شيء. ويتصوّر ذلك فيما إذا مات معظم الكبار، وحدثت صغار، فحال حول الكبار على بقيّتها، وعلى الصغار. واللَّه أعلم.
وأما رواية "عِقَالاً" فقد اختلف العلماء قديمًا وحديثًا فيها، فذهب جماعة منهم إلى أن المراد بالعِقَال زكاة عام، وهو معروف في اللغة بذلك. وهذا قول النسائيّ، والنضر بن شُميل، وأبي عُبيدة، والمبرد، وغيرهم من أهل اللغة، وهو قول جماعة من الفقهاء، واحتجّ هؤلاء على أن العِقَال يُطلق على زكاة العام بقول عمرو بن الْعَدَّاء الكَلْبيّ:
سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَبَدًا
(1)
…
فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ
لأَصبَحَ الْحَيُّ أَوْبَادًا وَلَمْ يَجِدُوا
…
عِنْدَ التَّفّرُّقِ فِي الْهَيْجَا جمِالَيْنِ
(2)
أراد مُدّة عقال، فنصبه على الظرف. وعمرو هذا الساعي هو عمرو بن عتبة بن أبي سفيان وَلاّه عمه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما صدقات كلب، فاعتدى عليهم، فقال فيه قائلهم ذلك.
قالوا: ولأن العقال الذي هو الحبل الذي يُعقل به البعير لا يجب دفعه في الزكاة، فلا يجوز القتال عليه، فلا يصحّ حمل الحديث عليه.
وذهب كثيرون من المحققين إلى أن المراد بالعقال الحبل الذي يُعقل به البعير. وهذا القول يُحكى عن مالك، وابن أبي ذئب، وغيرهما، وهو اختيار صاحب "التحرير"، وجماعة من حُذّاق المتأخّرين.
قال صاحب "التحرير": قول من قال: المراد صدقة عام تعسّف، وذهابٌ عن طريقة العرب؛ لأن الكلام خرج مخرج التضييق، والتشديد، والمبالغة، فيقتضي قلّة ما علق به القتال، وحقارته، وإذا حُمل على صدقة العام لم يحصل هذا المعنى. قال: ولست أشبّه هذا إلا بتعسّف من قال في قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن اللَّه السارق يَسرق البيضة، فتُقطع يده، ويَسرق الحبل، فتقطع يده" أن المراد بالبيضة بيضة الحديد التي يُغطّى بها الرأس في الحرب، وبالحبل الواحدُ من حبال السفينة، وكلّ واحد من هذين يبلغ دنانير كثيرة. قال بعض المحقّقين: إن هذا القول لا يجوز عند من يعرف اللغة، ومخارج كلام العرب؛ لأن هذا ليس موضع تكثير لما يسرقه، فيصرفَ إليه بيضةٌ تساوي دنانير، وحبلٌ لا يقدر السارق على حمله، وليس من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبّح اللَّه فلانًا عرّض نفسه للضرب في عقد جوهر، وتعرض لعقوبة الغلول في جراب مسك، وإنما العادة في
(1)
- السبد: البقية من النبت، والقليل من الشعر. أي لم يترك شيئًا قليلاً.
(2)
- البيت الثاني مزيد من "لسان العرب"، وكذا جملة قوله:"فاعتدى عليهم".
مثل هذا أن يقال: لعنه اللَّه تعرّض لقطع اليد في حبل رَثٍّ، أو في كُبَّة شعر، وكلّما كان من هذا أحقر كان أبلغ.
فالصحيح هنا أنه أراد به العقال الذي يُعقَل به البعير، ولم يُرد عينه، وإنما أراد قدر قيمته، والدليل على هذا أن المراد به المبالغة، ولهذا قال في الرواية الأخرى:"عَنَاقًا"، وفي بعضها:"لو منعوني جَدْيًا أذوط". والأذوط صغير الفكّ والذقن. هذا آخر كلام صاحب "التحرير".
قال النوويّ: وهذا الذي اختاره هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره.
وعلى هذا اختلفوا في المراد بـ"منعوني عِقالاً"، فقيل: قدر قيمته، وهو ظاهر متصوَّرٌ في زكاة الذهب والفضّة، والمعشرات، والمعدن، والركاز، وزكاة الفطر، وفي المواشي أيضًا في بعض أحوالها، كما إذا وجب عليه سنّ، فلم يكن عنده، ونزل إلى سنّ دونها، واختار أن يردّ عشرين درهما، فمعنه من العشرين قيمة عقال، وكما إذا كانت غنمه سِخالاً، وفيها سَخْلة، فمنعها، وهي تساري عقالاً، ونظائر ما ذكرته كثيرة معروفة في كتب الفقه، وإنما ذكرت هذه الصورة تنبيهًا بها على غيرها، وعلى أنه متصوّرٌ ليس بصعب، فإني رأيت كثيرين ممن لم يعان الفقه يستصعب تصوّره حتى حمله بعضهم -وربما وافقه بعض المتقدّمين- على أن ذلك للمبالغة، وليس متصوّرًا، وهذا غلطٌ قبيحٌ، وجهلٌ صريحٌ.
وحكى الخطّابيّ عن بعض العلماء أن معناه: منعوني زكاة العقال، إذا كان من عروض التجارة. وهذا تأويل صحيحٌ أيضًا. ويجوز أن يراد منعوني عقالاً، أي منعوني الحبل نفسه على مذهب من يُجوّز القيمة، ويتصوّر على مذهب الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- على أحد أقواله، فإن للشافعيّ في الواجب في عروض التجارة ثلاثةَ أقوال: أحدها: يتعيّن أن يأخذ منها عرضًا، حبلاً أو غيره، كما يأخذ من الماشية من جنسها.
والثاني: أنه لا يأخذ إلا دراهم، أو دنانير، ربع عشر قيمته، كالذهب والفضّة.
والثالث: يتخير بين العرض والنقد. واللَّه أعلم.
وحكى الخطابيّ عن بعض أهل العلم أن العقال يؤخذ مع الفريضة، لأن على صاحبها تسليمها، وإنما يقع قبضها التامّ برباطها.
قال الخطّابيّ: قال ابن عائشة: كان من عادة الْمُصَدِّق إذا أخذ الصدقة أن يَعْمِد إلى قَرَن -وهو بفتح القاف، والراء- وهو حبلٌ، فيقرن به بين بعيرين، أي يشدّه في أعناقهما لئلا تشرد الإبل. وقال أبو عبيد: وقد بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة على الصدقة، فكان يأخذ مع كلّ فريضتين عقالهما، وقرانهما. وكان عمر رضي الله عنه أيضًا يأخذ مع كلّ
فريضة عقالاً. واللَّه أعلم انتهى كلام النوويّ
(1)
.
وحاصل ما ذكره القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "المفهم" من الأقوال في معنى "العقال" خمسة:
(الأول): أنه الفريضة من الإبل. رواه ابن وهب عن مالك، وقاله النضر بن شُميل.
(الثاني): أنه صدقة عام، قاله الكسائيّ، وأنشد البيت السابق.
(الثالث): أنه كلّ شيء يُؤخذ في الزكاة، من أنعام، وثمار؛ لأنه يُعقل عن مالكه.
قاله أبو سعيد الضرير.
(الرابع): هو ما يأخذه المصدِّق من الصدقة بعينها، فإن أخذ عوضها، قيل: أخذ نقدًا، ومنه قول الشاعر:
وَلَمْ يَأْخُذْ عِقَالًا وَلَا نَقْدًا
(الخامس): أنه اسم لماً يُعقل به البعير. قاله أبو عُبيد، وقال: قد بعث رسول اللَّه - صلي اللَّه عليه وسلم - محمد بن مسلمة على الصدقة، فكان يأخذ مع كلّ قرين عقالاً، ورِوَاء
(2)
.
قال: والأشبه بمساق أبي بكر أن يُراد بالعقال ما يُعقل به البعير؛ لأنه خرج مخرج التقليل. واللَّه أعلم
(3)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجّح لديّ أن رواية "عِقَالًا" صحيحة، وأن أقرب تفسير العقال تفسير من فسّره بالحبل الذي تربط به الدوابّ، وأن من منع إعطاء العقال إذا احتاج إليه الساعي يُعتبر مانعًا لبعض الزكاة. واللَّه تعالى أعلم.
(كَانُوا يُؤَدُّونَهُ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَقَاتلتُهم عَلَى مَنْعِهِ، قَالَ: عُمَرُ رضي الله عنه: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ) أي ما الأمر والشأن، فالضمير للشأن. وقال السنديّ: أي ما سبب رجوعي إلى رأي أبي بكر انتهى (إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ) أي علمت، وأيقنت أن اللَّه تعالى (شَرَحَ) أي فتح، ووسع، وليّن (صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ) رضي الله عنه (لِلْقِتَالِ) قال النوويّ: معناه: علمت بأنه جازم بالقتال؛ لما ألقى اللَّهَ عز وجل، في قلبه من الطمأنينة لذلك، واستصوابه ذلك (فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ) أي عرفت بما ظهر من الدليل، وأقامه أبو بكر رضي الله عنه من الحجة أن ما عزم عليه هو الحقّ، وليس معنى ذلك أن عمر رضي الله عنه قلد أبا بكر رضي الله عنه، فإن المجتهد لا يقلّد المجتهد. وقد زعمت الرافضة أن عمر رضي الله عنه إنما وافق أبا بكر تقليدًا،
(1)
-"شرح مسلم" ج1 ص 157 - 159.
(2)
- الرواء: الحبل الذي تربط به المزادتان. والمزادة: الراوية التي ينقل بها الماء. قلت: لم أر سند هذا الحديث، فيحتاج إلى النظر في سنده، واللَّه أعلم.
(3)
- راجع "المفهم" ج1ص 189 - 190.
وبنوه على مذهبهم الفاسد في وجوب عصمة الأئمة، وهذه جهالة ظاهرة منهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-3/ 2443 وفي "الجهاد" 1/ 3090 و 3091 و 3092 و 3093 و 3094 و 3095 و "تحريم الدم" 1/ 3969 و 3970 و 3971 و 3972 و 3973 و 3974 و 3975 و 3976 و 3977 و 3978 - وفي "الكبرى" 3/ 2223 و "الجهاد" 1/ 4299 و 4300 و 4301 و 4302.
وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1400 و"الجهاد والسير" 2946 و"فضائل القرآن" 4997 و"استتابة المرتدين" 6924 و"الاعتصام بالكتاب والسنة" 7285 (م) في "الإيمان" 20 و 21 (ت) في الإيمان" 2606 و 2607 (د) في "الزكاة" 1556 و"الجهاد" 2640 (ق) في "المقدّمة" 71 و"الفتن" 3927 (أحمد) في "مسند العشرة" 68 و 118 و"باقي مسند المكثرين" 8687 و 9190 و 10140 و 10459. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم مانع الزكاة، وهو مقاتلته، إن امتنع، وناصَبَ الحربَ، وإلا أُخِذت عنه قهرًا، كما يأتي في الباب التالي (ومنها): أن فيه أدلّ دليل على شجاعة أبي بكر رضي الله عنه، وتقدّمه في الشجاعة والعلم على غيره، فإنه ثبت للقتال في هذا الموطن العظيم الذي هو أكبر نعمة، أنعم اللَّه تعالى بها على المسلمين بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقد استنبط رضي الله عنهم من العلم بدقيق نظره، ورَصَانة فكره ما لم يشاركه في الابتداء به غيره، فلهذا وغيرِهِ مما أكرمه اللَّه تعالى به أجمع أهل الحقّ على أنه أفضل أمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وقد صنّف العلماء -رحمهم اللَّه تعالى- في معرفة رجحانه أشياء كثيرةٌ، مشهورةٌ في الأصول وغيرها. ومن أحسنها كتاب "فضائل الصحابة رضي الله عنهم " للإمام أبي المظفّر منصور بن محمد السمعانيّ الشافعيّ قاله النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
(ومنها): أن فيه دلالة ظاهرة لمذهب المحققين، والجماهير من السلف والخلف أن
(1)
- "شرح مسلم" ج1 ص160.
الإنسان إذا قال: لا إله إلا اللَّه محمدا رسول اللَّه والتزم أحكام دين الإسلام، فإنه مؤمن شرعًا، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم حكم بذلك، حيث قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه
…
" إلى أن قال: "فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم
…
" الحديث.
وقد أوجب عليه تعلّم أدلة المتكلّمين كثير من المعتزلة، وبعض من يدّعي الانتساب إلى أهل السنة من المغفّلين، من المتكلمين، وممن انصبغ بأفكار الفلاسفة الملحدين، وهو مذهب مبتدع، لا يعرفه السلف، وإنما أحدثه المعتزلة، وأذنابهم من الذين لا صلة لهم بالأدلة المنقولة، وإنما يخوضون في أفكارهم المنصبغة بأفكار الفلاسفة، فلاحقّ عنده إلا ما أثبته عقله السخيف، فهذا هو عين الخذلان، نعوذ باللَّه من أن نُفْتَنَ عن ديننا، أو نُردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا اللَّه، اللَّهم أرنا الحقّ حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، إنك أرحم الراحمين.
(ومنها): جواز مراجعة الأئمة الأكابر، ومناظرتهم لإظهار الحقّ (ومنها): أن الإيمان شرطه الإقرار بالشهادتين مع اعتقادهما، واعتقاد جميع ما أتى به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد جمع ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم -كما في رواية لمسلم- بقوله:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه، ويؤمنوا بما جئت به"(ومنها): وجوب الجهاد (ومنها): صيانة مال من أتى بكلمة التوحيد، ونفسه، ولو كان عند السيف (ومنها): أن الأحكام تُجرَى على الظواهر، واللَّه تعالى يتولّى السرائر (ومنها): أن الصحابة كانو قائلين بجواز القياس والعمل به (ومنها): وجوب قتال مانعي الزكاة، أو الصلاة، أو غيرهما من واجبات الإسلام، قليلاً كان أو كثيرًا؛ لقول أبي بكر رضي الله عنه:"لو منعوني عقالًا" أو"عناقًا"(ومنها): جواز التمسّك بالعموم؛ لقوله: "فإن الزكاة حقّ المال"(ومنها): وجوب قتل أهل البغي (ومنها): ما قيل: إِن فيه وجوبَ الزكاة في السخال تبعًا لأمهاتها (ومنها): اجتهاد الأئمة في النوازل، وردّها إلى الأصول، ومناظرة أهل العلم فيها، ورجوع من ظهر له الحقّ إلى قول صاحبه (ومنها): الأدب في المناظرة بترك التصريح بالتخطئة، والعدول إلى التلطّف، والأخذ في إقامة الحجة إلى أن يظهر للمناظر، فلو عاند بعد ظهورها، فحينئذ يستحقّ الإغلاظ بحسب حاله (ومنها): جواز الحلف على الشيء لتأكيده، وان كان دون استحلاف (ومنها): أن الإجماع لا ينعقد إذا خالف من أهل الحلّ والعقد واحد. قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وهو الصحيح المشهور، وخالف فيه بعض أصحاب الأصول (ومنها): أن فيه قبول توبة الزنديق، وقد تقدّم بيان الخلاف فيه (ومنها): أن فيه منع قتل من قال: "لا إله إلا اللَّه"، ولو لم يزد عليه. قال الحافظ - رحمه اللَّه تعالى -: وهو كذلك، لكن هل يصير بمجرّد ذلك مسلمًا؟ الراجح لا، بل يجب
الكفّ عن قتله حتى يُخْتَبَر، فإن شهد بالرسالة، والتزم أحكام الإسلام حُكِم بإسلامه، وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء بقوله:"إلا بحقّ الإسلام".
قال البغويّ -رحمه اللَّه تعالى-: الكافر إذا كان وثنيّا، أو ثنويّا، لا يقرّ بالواحدانيّة، فإذا قال:"لا إله إلا اللَّه" حُكم بإسلامه، ثم يُجبر على قبول جميع أحكام الإسلام، وأن يتبرّأ من كلّ دين يُخالف دين الإسلام، وأما من كان مقرًا بالوحدانية، منكرًا للنبوّة، فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول:"محمد رسول اللَّه"، فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصّة، فلا بدّ أن يقول:"إلى جميع الخلق"، فإن كان كفر بجحود واجب، أو استباحة محرّم، فيحتاج أن يرجع عما اعتقده، ومقتضى قوله:"يجبر" أنه إذا لم يلتزم تُجرى عليه أحكام المرتدّ، وبه صرّح القفّال، واستدلّ بحديث الباب، فادعى أنه لم يرد في خبر من الأخبار:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه"، كذا قال، وهي غفلة عظيمة، فالحديث في "صحيحي البخاري ومسلم" في "كتاب الإيمان" من كلّ منهما، من رواية ابن عمر بلفظ:"حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه"، ويحتمل أن يكون المراد بقول:"لا إله إلا اللَّه" هنا التلفظ بالشهادتين؛ لكونها صارت علمًا على ذلك، ويؤيده ورودهما صريحًا في الطرق الأخرى.
(ومنها): أنه استُدلّ به على أن الزكاة لا تسقط عن المرتدّ. قال الحافظ: وتُعُقّب بأن المرتدّ كافر، والكافر لا يُطالب بالزكاة، وإنما يُطالب بالإيمان، وليس في فعل الصدّيق حجة، لما ذكرنا، وإنما فيه قتال من منع الزكاة، والذين تمسّكوا بأصل الإسلام، ومنعوا الزكاة بالشبهة التي ذكروها لم يحكم عليهم بالكفر قبل إقامة الحجّة.
وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم، هل تُغنم أموالهم، وتُسبى ذراريّهم كالكفّار، أو لا، كالبغاة؟ فرأى أبو بكر الأول، وعمل به، وناظره عمر في ذلك، وذهب إلى الثاني، ووافقه غيره في خلافته على ذلك، واستقرّ الإجماع عليه في حقّ من جحد شيئًا من الفرائض بشبهة، فيطالب بالرجوع، فإن نصب القتال قوتل، وأقيمت عليه الحجة، فان رجع، وإلا عومل معاملة الكفار حينئذ. ويقال: إن أصبغ من المالكية استقر على القول الأول، فعُدّ من ندرة المخالف.
وقال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: يستفاد من هذه القصّة أن الحاكم إذا أدّاه اجتهاده في أمر لا نصّ فيه إلى شيء تجب طاعته فيه، ولو اعتقد بعض المجتهدين خلافه، فإن صار ذلك المجتهد المعتقد خلافه حاكمًا وجب عليه العمل بما أدّاه إليه اجتهاده، وتسوغ له مخالفة الذي قبله في ذلك؛ لأن عمر أطاع أبا بكر رضي الله عنهما فيما رأى
من حقّ مانعي الزكاة مع اعتقاده خلافه، ثم عمل في خلافته بما أدّاه إليه اجتهاده، ووافقه أهل عصره من الصحابة وغيرهم. وهذا مما يُنبّه عليه في الاحتجاج بالإجماع السكوتيّ، فيشترط في الاحتجاج به انتفاء موانع الإنكار، وهذا منها.
(ومنها): ما قاله الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: في الحديث أن من أظهر الإسلام أُجريت عليه أحكامه الظاهرة، ولو أسرّ الكفر في نفس الأمر، ومحلّ الخلاف إنما هو فيمن اطُّلِع على مُعتَقَده الفاسد، فأظهر الرجوع، هل يُقبل منه، أو لا؟، وأما من جُهل أمره، فلا خلاف في إجراء الأحكام الظاهرة عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
4 - (بَابُ عُقُوبَةِ مَانِعِ الزَّكَاةِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الفرق بين هذه الترجمة والتي قبلها أن تلك لمن حجد وجوبها، ونصب القتال، فإنه يعاقب بالقتل، وأما هذه فلمن منعها بُخْلًا، من غير جحد لوجوبها، فمعاقبته تكون باخذها منه قهرًا، وزيادة العوبة المالية، لا بالقتل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2444 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «فِي كُلِّ إِبِلٍ سَائِمَةٍ، فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ، لَا يُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ أَبَى، فَإِنَّا آخِذُوهَا، وَشَطْرَ إِبِلِهِ، عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَا يَحِلُّ لآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، مِنْهَا شَيْءٌ»).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفي البصري، ثقة حافظ [10] 4/ 4.
2 -
(يحيي) بن سعيد القطان البصري الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.
وأما "بهز بن حكيم"، و"أبوه"، و"جدّه" فقد تقدم الكلام عليهم قبل بابين. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات.
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن شيخه هو أحد مشايخ الأئمة الستة الذين رووا عنهم بلا واسطة. واللَّه تعالى أعلم.
شرحِ الحديث
عن بهز بن حكيم أنه (قال: حَدَّثَنِي أَبِي) حكيم (عَنْ جَدِّي) معاوية بن حَيْدَة رضي الله عنه، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:(فِي كُلِّ إِبِلٍ سَائِمَةٍ) اسم فاعل من سامت الماشيةُ سَوْمًا، من باب "قال": إذا رَعَت بنفسها، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أسامها راعيها. قال ابن خَالَوَيْهِ: ولم يُستعمل اسم مفعول من الرباعيّ، بل جُعل نسيًا منسيًا، ويقال: أسامها، فهي سائمة. قاله في "المصباح".
(فِي كُلِّ أرْبَعِينَ) بدل من الجارّ والمجرور قبله. والظاهر أن هذا إذا زادت الإبل على مائة وعشرين، فلا يخالف الأحاديث الأخرى، على ما سيأتي بيانها في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى (ابْنَةُ لَبُونٍ) هي التي دخلت في السنة الثالثة، من أولاد الناقة، والذكر ابن لبون، سميت بذلك؛ لأن أمها ولدت غيرها، فصار لها لبن، وجع الذكور كالإناث، يقال: بنات لبون.
(لَا يُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا) ببناء الفعل للمفعول، أي لا يجوز لأحد الخليطين أن يُفرّق إبله عن إبل صاحبه؛ فرارًا من الصدقة، فقوله:"عن حسابها": أي عن مقدارها، وعددها الذي تجب فيه الزكاة، كما إذا كان لأحد الخليطين ثلاث من الإبل، وللآخر اثنان، فإن في مجموعها شاة، ولو فرقاها لا يجب عليهما شيء
(1)
.
وقال السنديّ: قوله: "لا يفرّق الخ": أي يُحَاسَبُ الكلُّ في الأربعين، ولا يُترك هزال، ولا سمين، ولا صغير، ولا كبير، نعم العامل لا يأخذ إلا الوسط
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: التفسير الأول أوضح. واللَّه تعالى أعلم.
(مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا) بالهمز، أي طالبًا للأجر (فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ أَبَي) أي امتنع من إعطائها طوعًا (فَإِنَّا آخِذُوهَا) أي آخذون إياها منه قهرًا.
واستُدلّ به على أنه يجوز للإمام أن يأخذ الزكاة قهرًا إذا لم يرضَ ربُّ المال، وعلى أنه يُكتَفَى بنية الإمام، كما ذهب إليه الشافعيّ، وبعض أهل العلم. وعلى أن ولاية قبض الزكاة إلى الإمام. وإلى هذا ذهب الحنفية، ومالك، والشافعيّ في أحد قوليه
(3)
(وَشَطْرَ إِبِلِهِ) أي نصف إبله عقوبةً له على منع الزكاة. وفي نسخة: "وشطر ماله". وأفادت رواية
(1)
- راجع "المنهل" ج 9 ص 170.
(2)
- انظر "شرح السنديّ" ج 5 ص 16.
(3)
- انظر "نيل الأوطار" ج 4 ص 147.
"إبله" أن العقوبة بأخذ نصف المال إنما تكون في نوع المال الذي وجبت فيه الزكاة، لا في جميع ماله الذي يملكه، واللَّه تعالى أعلم.
فقوله: "شطرَ" بالنصب عطفًا على الضمير في "آخِذُوها" باعتبار محلّه.
وقال السنديّ: المشهور رواية سكون الطاء من "شطر" على أنه بمعنى النصف، وهو بالنصب عطف على ضمير "آخذوها"؛ لأنه مفعول، وسقط نون الجمع للاتصال، أو هو مضاف إليه، إلا أنه عطف على محلّه، ويجوز جرّه أيضًا. انتهى.
وقال ابن الأثير الجزريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "النهاية": قال الحربيّ: غَلِطَ بَهْزٌ الراوي في لفظ الرواية، إنما هو "وشُطِّرَ مالُهُ"، أي يجعل ماله شطرين، ويَتخيّر الْمُصَدِّق، فيأخذ الصدقة من خير النصفين، عقوبةً لمنعه الزكاة، فأما ما لا تلزمه فلا.
وقال الخطّابيّ في قول الحربيّ: لا أعرف هذا الوجه. وقيل: معناه إن الحقّ مُسْتَوْفًى منه، غيرُ متروك عليه، وإن تلف شطر ماله، كرجل كان له ألف شاة مثلاً، فتلفت، حتى لم يبقَ له إلا عشرون، فإنه يُؤخذ منه عشر شِياه لصدقة الألف، وهو شطر ماله الباقي.
وهذا أيضًا بعيد؛ لأنه قال: "إنا آخذوها، وشطر ماله"، ولم يقل: إنا آخذو شطر ماله. وقيل: إنه كان في صدر الإسلام يقع بعض العقوبات في الأموال، ثم نُسخ، كقوله في الثمر المعلّق:"من خرج بشيء منه، فعليه غرامة مثليه، والعقوبة". وكقوله في ضالّة الإبل المكتومة: "غرامتها، ومثلها معها". وله في الحديث نظائر. وقد أخذ أحمد بن حنبل بشيء من هذا، وعمل به، وقال الشافعيّ في القديم: من منع زكاة ماله أُخذت منه، وأُخذ شطر ماله، عقوبةً على منعه، واستدلّ بهذا الحديث، وقال في الجديد: لا يؤخذ منه إلا الزكاة لا غير، وجعلَ هذا الحديث منسوخًا، وقال: كان ذلك حيث كانت العقوبات في المال، ثم نُسخت. ومذهب عامة الفقهاء أن لا واجب على متلف الشيء أكثر من مثله، أو قيمته انتهى كلام ابن الأثير
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: سيأتي تحقيق الخلاف، وترجيح الراجح في هذا في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.
(عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا) بالرفع على أنه خبر لمحذوف، أي هذه عزمةٌ. ويجوز نصبه على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، أي عَزَمَ اللَّهُ تعالى علينا هذا عزمةً. والعزمة في اللغة: الجدّ في الأمر، والمراد بها هنا الحقّ الواجب، وعزمات اللَّه تعالى حقوقه، وواجباته
(2)
.
(1)
- انظر "النهاية" ج 2 ص 473 - 474.
(2)
- راجع "النهاية" ج 3 ص 232.
(لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ، صلى الله عليه وسلم، مِنْهَا شَيْءٌ") يعني أن الزكاة حقّ من حقوق اللَّه تعالى، ليس لآل محمد صلى الله عليه وسلم فيها نصيب، وإنما أصحابها المستحقّون لها هم الذين بيّنهم اللَّه تعالى في قوله:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية [التوبة: 60].واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه، معاوية بن حَيْدَة رضي الله عنه هذا صحيح.
[تنبيه]: مما يتعيّن توضيحه هنا الكلام في بهز بن حكيم، وحديثِهِ، فإنه قد تكلّم فيه بعض أهل العلم:
(اعلم): أن بَهْزَ بن حكيم -رحمه اللَّه تعالى- قد وثقه أكثر الأئمة
(1)
: أحمد، وابن معين، وابن المدينيّ، والنسائيّ. وقال ابن معين: بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه إسناد صحيح، إذا كان دون بهز ثقة. وقال أبو زرعة: صالح. وقال أبو داود: هو عندي حجة. وقال الترمذيّ: ثقة عند أهل الحديث. وكان شعبة يتكلم فيه، فلما تبيّن له كونه ثقة روى عنه.
وقال أبو جعفر السبتيّ: إسناد بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه صحيح. وقال ابن قتيبة: كان من خيار الناس. وقال ابن عديّ: قد روى عنه ثقات الناس، وقد روى عنه الزهريّ حديثين، ذكرهما، ولم أر أحدًا من الثقات تخلف عنه في الرواية، ولم أر له حديثًا منكرًا، وأرجو أنه إذا حدث عنه ثقة فلا بأس بحديثه.
وتكلم فيه بعضهم، فمنهم: الشافعيّ، وأبو حاتم، وابن حبّان، والحاكم، وأحمد ابن بشير، وابن حزم، وابن الطلاّع:
فأما الشافعيّ، فقال: ليس بهز بحجة، وهذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث.
والظاهر عنه أنه إنما تكلم فيه لهذا الحديث، فجوابه أنه وثقه جماهير المحدثين، وصححوا حديثه، كما تقدّم قريبًا.
وأما أبو حاتم، فقال: هو شيخ يُكتب حديثه، ولا يحتجّ به. وقال أيضًا: عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جدّه أحبّ إليّ.
ومن المعلوم أن أبا حاتم متشددٌ، فجرحه مخالفًا للأئمة المتقدمين غير مؤثّر في صحة حديث بهز. وقد قال الحافظ أبو الحسن ابن القطان: وقول أبي حاتم: لا يحتجّ
(1)
- راجع كلام الأئمة في "تهذيب التهذيب" ج1 ص 251 - 252.
به لا ينبغي أن يُقبل منه إلا بحجة، وبهز ثقة عند من علمه، وقد وثقه غير من ذُكر - وقد وثقه ابن معين، وابن المدينيّ، والنسائيّ، وابن الجارود، وصحّح الترمذيّ روايته عن أبيه، عن جدّه. انتهى ببعض تصرّف
(1)
.
وأما ابن حبان فإنه قال: كان يخطئ كثيرًا، فأما أحمد، وإسحاق فهما يحتجّان به، وتركه جماعة من أئمتنا، ولولا حديثه:"إنا آخذوها، وشطر ماله" لأدخلناه في "الثقات"، وهو ممن أستخير اللَّه فيه انتهى.
والجواب عن هذا أن ابن حبّان إنما ضعفه لأجل حديث الباب، لا لأمر آخر، فقد صرح بقوله: لولا هذا الحديث لأدخلته في "الثقات"، وهذا منه غير مقبول، فإن الثقة إذا تفرّد برواية حديث، بلا مخالفة، فكيف لا يقبل حديثه؟، إن هذا لشيء عجيب.
وأما الحاكم، فقال: كان من الثقات، ممن يُجمع حديثه، وإنما أُسقط من الصحيح روايته عن أبيه، عن جدّه؛ لأنها شاذّة، لا متابع له عليها انتهى.
والجواب عنه هو الجواب عن كلام ابن حبّان لأن الظاهر أن كلامه نظير كلامه فحواهما واحد.
وأما أحمد بن بشير، فقال: أتيت البصرة في طلب الحديث، فأتيت بهزًا، فوجدته يلعب بالشَّطْرنج مع قوم، فتركته، ولم أسمع منه انتهى.
وقد أجاب عنه الحافظ ابن القطّان، فقال: وليس ذلك بضائر له، فإن استباحة الشطرنج مسألة فقهيّة مجتهدٌ فيها
(2)
.
وأما ابن حزم، فقال: غير مشهور. وأما ابن الطلاع، فقال: إنه مجهول.
وقد تُعُقّبا بأنه قد قد عرفه الأئمة الكبار الذين تقدّم ذكرهم، ووثقوه، فلا يضرّه جهلهما له. واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر أن بهز بن حكيم ثقة وأن حديثه صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب
(3)
.
(1)
- كتاب "بيان الوهم والإيهام" ج 5 ص 566.
(2)
- بيان الوهم والإيهام ج 5 ص 566.
(3)
- إنما أطلت الكلام في هذا الحديث لأن الشيخ الألباني في كتيه يحسن أحاديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه، ويعتذر عن عدم تصحيحه له بالكلام في بهز، فقال في "الإرواء" -ج 3 ص 264 - بعد قوله: وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقة الذهبيّ: قلت: وإنما هو حسن، للخلاف المعروف في بهز بن حكيم انتهى. فأوضحت الأمر فيه، وأن الكلام فيه غير مؤثر، فحديثه صحيح. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-4/ 2444 و 7/ 2449 - وفي "الكبرى" 4/ 2224 و 7/ 2229.
وأخرجه (د) في "الزكاة" 15750 (أحمد) في "مسند البصريين" 19534 (الدارميّ) في "الزكاة"1677. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعية عقوبة مانع الزكاة بأخذ شطر ماله الذي وجب فيه الزكاة (ومنها): بيان أن الواجب في كلّ أربعين من الإبل ابنة لبون، وهذا كما سبق إنما هو بعد مائة وعشرين، كما هو المعروف في كتب الصدقات التي كتبها أبو بكر لأنس بن مالك رضي الله عنهما، كما سيأتي بيانه في -5/ 2447 - إن شاء اللَّه تعالى (ومنها): أنه لا تجب الزكاة في المعلوفة، لتقييده بقوله:"سائمة"، وفيه خلاف، سيأتي تحقيقه في -7/ 2449 - إن شاء اللَّه تعالى (ومنها): أنه لا يجوز التفريق للخليطين بين إبليهما، خشية الصدقة (ومنها): أن من أَعطَى زكاته عن طيب نفس، طالبًا الأجر من اللَّه تعالى، فله الأجر العظيم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في مشروعية العقوبة بأخذ المال:
ذهب الأئمة: أحمد، وإسحاق، والشافعيّ في القديم عنه إلى جواز العقوبة بالمال، أخذًا بظاهر حديث الباب، وبالحديث المتفق عليه في همّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت المتخلّفين عن الجماعة، وقد تقدم ذلك في بابه.
وبحديث عمر رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا وجدتم الرجل قد غلّ، فأحرقوا متاعه". أخرجه أبو داود. لكن في سنده صالح بن محمد بن زائدة المدنيّ، ضعيف. وقال البخاريّ: عامة أصحابنا يحتجون به، وهو باطل. وقال الدارقطنيّ: أنكروه على صالح، ولا أصل له، والمحفوظ أن سالمًا أمر بذلك في رجل غلّ في غزاة مع الوليد ابن هشام. قال أبو داود: وهذا أصحّ.
وبحديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر أحرقوا متاع الغالّ، وضربوه". أخرجه أبو داود، والحاكم. لكن في سنده زهير بن محمد، قيل: هو الخراسانيّ، وقيل: غيره، وهو مجهول.
وبحديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "من وجدتموه يصيد فيه -يعني حرم المدينة- فخذوا سَلَبَه". أخرجه مسلم.
وبحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سُئل عن الثمر المعلّق؟ فقال: "من أصاب
بفيه من ذي حاجة، غير متّخذ خُبْنة
(1)
، فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه، فعليه غرامة مثليه، والعقوبة، ومن سرق منه شيئًا بعد أن يُؤويه الْجَرِين، فبلغ ثمن الْمِجَنّ، فعليه القطع". أخرجه أبو داود، والنسائيّ، والحاكم، وصححه.
وبقصّة المدديّ الذي أغلظ لأجله الكلامَ عوفُ بنُ مالك على خالد بن الوليد لَمّا أخذ سَلَبه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تردّ عليه". أخرجه مسلم.
وبإحراق عليّ رضي الله عنه طعام المحتكرين، ودور قوم يبيعون الخمر، وهدمه دار جرير ابن عبد اللَّه، ومُشاطرة عمر لسعد بن أبي وقّاص في ماله الذي جاء به من العمل الذي بعثه إليه. وتضمينه لحاطب بن أبي بلتعة مثلي قيمة الناقة التي غصبها عبيده، وانتحروها. وتغليظه هو، وابن عباس الدية على من قتل في الشهر الحرام في البلد الحرام.
وذهب الجمهور إلى أن العقوبة بالمال غير مشروعة، ولا فرق في ذلك بين مانع الزكاة، والغالّ في الصدقة، والغنيمة، وغيرهما.
وأجابوا عن الأدلة المتقدّمة بأجوبة:
أما عن حديث بهز بأنه لم يثبت، فقد قال الشافعيّ: ليس بهز حجة، وهذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث؛ ولو ثبت لقلنا به، وكان قال به في القديم. وسئل عنه أحمد؟ فقال: لا أدري ما وجهه؟، فسئل عن إسناده؟ فقال: صالح الإسناد.
وتعقب بأنه حديث صحيح ثابت، فقد قال ابن معين: إسناده صحيح. وسئل عنه أحمد؟ فقال: صالح الإسناد، وصححه غيرهما، وقد تقدّم تمام الكلام عليه في المسألة الأولى الماضية قريبًا، وباللَّه تعالى التوفيق.
وقال البيهقيّ وغيره: حديث بهز هذا منسوخ.
وتعقبه النوويّ بأن الذي ادعوه من كون العقوبة كانت بالأموال في أول الإسلام ليس بثابت، ولا معروف، ودعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ.
وزعم الشافعيّ أن الناسخ له حديث ناقة البراء رضي الله عنه، لأنه صلى الله عليه وسلم حكم عليه بضمان ما أفسدت، ولم يُنقل أنه صلى الله عليه وسلم -في تلك القضيّة أضعف الغرامة.
وفيه ما تقدّم من الجهل بالتاريخ، وبأن تركه صلى الله عليه وسلم للمعاقبة بأخذ المال في هذه القضيّة لا يستلزم الترك مطلقًا، ولا يصحّ للتمسّك به على عدم الجواز، وجعله ناسخًا البتّة.
وأجابو أيضًا بما تقدّم من كلام إبراهيم الحربيّ بأن الراوي وَهِمَ فيه، والصواب:
(1)
-بضم الخاء المعجمة، وسكون الباء الموحّدة-: معطف الإزار، وطرف الثوب، أي لا يأخذ منه في ثوبه.
"فإنا آخذوها من شطر ماله"، أي يُجعل ماله شطرين، ويتخيّر عليه المصدّق، ويأخذ الصدقة من خير الشطرين، عقوبة لمنعه الزكاة، وأما ما لا يلزمه فلا.
وبما قال بعضهم: إن لفظة: "وشُطِرَ مالُهُ" بضم الشين المعجمة، وكسر الطاء المهملة، فعل مبنيّ للمجهول، أي جعل ماله شطرين، يأخذ المصدّق من أي الشطرين أراد.
وتعقّب بأن الأخذ من خير الشطرين يصدق عليه اسم العقوبة بالمال؛ لأنه زائد على الواجب، وبأنه يستلزم تغليط الثقة بدون ضرورة.
وأجابو عن حديث همّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإحراق بأن السنة أقوال، وأفعال، وتقريرات، والهمّ ليس من الثلاثة.
وتعقّب بأن الهمّ من النبيّ صلى الله عليه وسلم من السنّة عند المحققين، كما هو موضّح في كتب مصطلح أهل الحديث، وفي كتب الأصول أيضًا، وبأنه صلى الله عليه وسلم -لا يهمّ إلا بالجائز.
وأما حديثًا عمر، وعبد اللَّه بن عمرو، فأجابو عنهما بما تقدم من ضعف الإسناد.
وأجابوا عن حديث قصة أخذ سَلَب من يصيد في المدينة؛ بأنه صلى الله عليه وسلم عيّن نوع الفدية هنا بأنها سَلَبُ الصائد فيُقتصر فيه على السبب، لقصور العلّة التي هي هتك الحرمة عن التعدية.
وعن قصة المدديّ بأنها واردة على سبب خاص، فلا يُجاوَزُ بها إلى غيره؛ لأنها، وسائر أحاديث الباب مما ورد على خلاف القياس لورود الأدلة كتابًا، وسنّةً بتحريم مال الغير، قال اللَّه تعالى:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} الآية وقال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} الآية [البقرة: 188].
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم بينكم حرام
…
" الحديث.
وأما تحريق عليّ طعام المحتكرين، ودور القوم، وهدمه دار جرير، فبعد تسليم صحّة الإسناد إليه، وانتهاض فعله للاحتجاج به يجاب عنه بأن ذلك من قطع ذرائع الفساد، كهدم مسجد الضرار، وتكسير المزامير. وأما المرويّ عن عمر من ذلك، فيجاب عنه إن ثبت بأنه أيضًا قول صحابيّ، لا ينتهض للاحتجاج به، ولا يَقوَى على تخصيص عمومات الكتاب والسنّة. وكذلك المرويّ عن ابن عباس رضي الله عنهما. أفاده العلامة الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "نيل الأوطار"، ونقلته عنه بتصرّف
(1)
.
(1)
-"نيل الأوطار" ج 4 ص 147 - 149.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر أن الصحيح أن عقوبة مانع الزكاة بأخذ شطر ماله مشروع لصحة حديث الباب، وأما قياس جواز العقوبة بالمال في غير موارد النصّ، فغير صحيح، لما مرّ آنفا.
وخلاصة المسألة أن قول الجمهور بعدم مشروعيّة العقوبة بالمال مطلقًا حتى في المواضع التي صحّت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مثل حديث الباب، محتجين بالنصوص العامة المتقدمة ونحوها في تحريم مال المسلم فيه نظرٌ؛ لأن حرمة مال المسلم مشروط بقوله صلى الله عليه وسلم:"إلا بحقه"، وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم كحديث الباب، فإنه من حقّه، فلا تتناوله نصوص التحريم. وكذلك القول بجواز العقوبه به مطلقًا، كما يقول الآخرون فيه نظر أيضًا؛ لقوة نصوص منع مال المسلم إلا بحقّه، فما لم يصحّ عنه صلى الله عليه وسلم لا يجوز استعمال القياس فيه؛ لتلك النصوص، فالقياس مع النص باطل. وما صحّ عنه استثناؤه، فالعمل به واجب.
والحاصل أن عقوبة مانع الزكاة بأخذ شطر ماله مشروع؛ للأدلة المذكورة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
5 - (بَابُ زَكَاةِ الإِبِلِ)
قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: "الإبُل" -بكسرتين-: اسم جمع لا واحد لها، وهي مؤنّثة؛ لأن اسم الجمع الذي لا واحد له من لفظه إذا كان لما لا يعقل يلزمه التأنيث، وتدخله الهاء إذا صُغّر، نحو أُبَيلةٍ، وغُنَيمةٍ، وسُمع إسكان الباء للتخفيف، ومن التأنيثِ، وإسكانِ الباء قولُ أبي النَّجْم [من الرجز]:
وَالإبْلُ لَا تَصْلُحُ لِلبُسْتَانِ
…
وَحَنَّتِ الإبْلُ إِلَى الأَوْطَانِ
والجمع آبال، وأَبِيل، وزانُ عَبِيد، وإذا ثُنّي، أو جُمِع، فالمراد به قَطِيعان، أو قَطِيعاتٌ، وكذلك أسماء الجموع، نحوُ أبقارٍ، وأَغنامٍ. والإبِلُ بناء نادرٌ، قال سيبَوَيهِ: لم يجىء على فِعِلٍ -بكسر الفاء والعين- من الأسماء إلا حرفان
(1)
: إِبِلٌ، وحِبِرٌ، وهو
(1)
- لم يذكر سيبويه من الكلمات على فِعِل إلا إبلاً فقط، قال: ويكون فعلاً في الاسم، نحو إبل، وهو قليل، لا نعلم في الأسماء والصفات غيره. انتهى "الكتاب" ج2 ص 315.
الْقَلَحُ، ومن الصفات إلا حرف، وهي امرأةٌ بِلِزٌ، وهي الضخمة، وبعض الأئمة يذكر ألفاظًا غير ذلك، لم يثبُت نقلها عن سيبويهِ انتهى كلام الفيّوميّ بتصرّف
(1)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا نقل الفيّوميّ عن سيبويه، لكن الذي نقله عنه غيره أنه لم يذكر من الكلمات على فِعِل إلا إبلاً فقط، ونصّ عبارته في "الكتاب"-جـ2 ص 315 - على ما نقله بعض المحققين:"ويكون فِعِلًا في الاسم، نحو إبل، وهو قليل، لا نعلم في الأسماء والصفات غيره". انتهى
(2)
وقال الرضيّ في "شرح الشافية": قال سيبويه: ما يعرف إلا إبل، وزاد الأخفش بِلِزًا. وقال السيرافيّ: الْحِبِرُ: صفرة الأسنان، وجاء الإطِلُ، والإبِطُ، وقيل: الإقِطُ لغةٌ في الأَقِطِ، وأتانٌ إِبِدٌ: أي وَلُود. انتهى
(3)
. واللَّه تعالى أعلم بالَصواب.
2445 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى ح وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ -وَشُعْبَةَ- وَمَالِكٍ- عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ»).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(عبيد اللَّه بن سعيد) أبو قُدامة السرخسي، ثقة ثبت [10] 15/ 150
2 -
(محمد بن المثنى) أبو موسى العَنَزي البصريّ، ثقة حافظ [10] 64/ 80.
3 -
(محمد بن بشار) أبو بكر بندار البصري، ثقة حافظ [10] 24/ 27.
4 -
(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت المكي [8] 1/ 1.
5 -
(عبد الرحمن) بن مهدي البصري الثقة الثبت الحجة [9] 42/ 49.
6 -
(سفيان) بن سعيد الإمام الحجة الثبت الكوفي [7] 33/ 37.
7 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.
8 -
(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الفقيه الحجة [7] 7/ 7.
(1)
وقال الرضيّ في "شرح الشافية": قال سيبويه: ما يعرف إلا إبل، وزاد الأخفش بلِزًا. وقال السيرافيّ: الْحِبِرُ: صفرة الأسنان، وجاء الإطِلُ، والإبِطُ، وقيل: الإقِطُ لغةٌ في الأًقِطِ، وأتانٌ إِبدٌ: أي ولود انتهى"شرح الرضي على الشافية" جـ1 ص 45 - 46 .. - "المصباح المنير" في مادّة إبل.
(2)
- راجع هامش"المصباح" ص 2.
(3)
-"شرح الرضي على شافية ابن الحاجب" جـ1 ص 45 - 46.
9 -
(عمرو بن يحيى) المازني المدني، ثقة [6] 80/ 97.
10 -
(أبوه) يحيى بن عُمارة بن أبي حسن المازني الأنصاري المدني، ثقة [3] 80/ 99.
11 -
(أبو سعيد) سعد بن مالك الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - 169/ 262. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بالنسبة للأول، ومن سداسياته بالنبسة للثاني. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخيه ابن المثنى، وابن بشار من مشايخ الستة بلا واسطة. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. (ومنها): أن فيه أبا سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيىَ، عَنْ أَبِيهِ) يحيى بن عُمارة بن أبي الحسن الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ.
وفي مسند الحميديّ، عن سفيان، سألت عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي الحسن المازنيّ، فحدّثني عن أبيه. وفي رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ عند البخاريّ التصريح بسماع عمرو بن يحيى، عن أبيه.
وقد حكى ابن عبد البرّ عن بعض أهل العلم أن حديث الباب لم يأت إلا من حديث أبي سعيد الخدريّ، قال: وهذا هو الأغلب، إلا أنني وجدته من رواية سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، ومن طريق محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن جابر انتهى.
قال الحافظ: ورواية سُهيل في "الأموال لأبي عبيد"، ورواية محمد بن مسلم في "المستدرك". وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن جابر. وجاء أيضًا من حديث عبد اللَّه ابن عمرو بن العاص، وعائشة، وأبي رافع، ومحمد بن عبد اللَّه بن جَحْش، أخرج أحاديث الأربعة الدارقطنيّ. ومن حديث ابن عمر، أخرجه ابن أبي شيبة، وأبو عبيد أيضًا انتهى
(1)
.
(عَنْ أَبِيِ سَعِيدٍ الْخُدْريِّ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ) وهكذا وقع في رواية الشيخين. ووقع في رواية ابن ماجه من طريق أبي الْبَخْتَريّ الطائيّ، عن أبي سعيد نحو هذا الحديث، وفيه:"والوسق ستون صاعًا". وأخرجها أبو داود أيضًا، لكن قال:"ستون مختومًا". وأخرج أيضًا عن إبراهيم النخعيّ، قال:
(1)
- "فتح" ج 4 ص 66.
"الوسق ستون صاعًا مختومًا بالحجّاجيّ". وأخرج الدارقطنيّ من حديث عائشة رضي الله عنها أيضًا: "والوسق ستون صاعًا".
ومعنى قوله: "مختومًا": أي صاعًا مُعْلَمًا بخاتم في أعلاه، قال أبو عبيد رحمه الله تعالى في "كتاب الأموال": والمختوم ههنا الصالح بعينه، وإنما سمّي مختومًا؛ لأن الأمراء جعلت على أعلاه خاتمًا مطبوعًا؛ لئلا يُزاد فيه، ولا يُنقص منه انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيهان]:
(الأول): "الأَوْسُق" جمع قلة للوَسْق -بفتح الواو، كفَلْس وأَفْلُس، ويجوز كسرها- كما حكاه صاحب "المحكم" وغيره، والأشهر فتح الواو، وجمعه في الكسر أوساق، كحِمْلٍ وأَحمال. وأصله في اللغة: الْحِمْلُ.
واختلفوا في اشتقاق الوَسْق، فقال شَمِر: كلّ شيء حَمَلْتَه فقد وَسَقته، يقال: ما أفعلُ كذا ما وَسَقَت عيني الماءَ: أي ما حملته. وقال غيره: الوسق ضمّك الشيء إلى الشيء، ومنه قوله تعالى:{وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق: 17]: أي جمع، وضمّ، وذلك أن الليل يضمّ كلّ شيء إلى مأواه، واستوسق الشيءُ: إذا اجتمع وكمل. وقيل: معنى وَسَقَ: علا، وذلك أن الليل يعلو كلّ شيء، ويُجَلِّلُه، ولا يمتنع منه شيء، ويقال للذي يجمع الإبل: وَاسِقٌ، وللإبل نفسها: وَسَقَت، وقد وسقتها، فاستوسقت: أي اجتمعت، وانضمّت.
وقال الخطّابيّ: الوسق تمام حِمْل الدوابّ النقّالة، وهو ستون صاعًا. وقال غيره: والصاع أربعة أمداد، والمدّ رطل وثلث بالبغداديّ، والرطل البغداديّ اثنا عشر أوقيّة، والأُوقيّة هنا زنة عشرة دراهم، وثلثي درهم، من دراهم عبد الملك بن مروان، فمبلغ زنة الرطل من ذلك مائة درهم وثمانية وعشرون درهمًا.
قال الإمام ابن الملقّن: كذا قدره القرطبيّ، وهو أحد الأوجه عن الشافعيّة، والأصحّ عند الرافعيّ أنه مائة وثلاثون. والأصحّ عند النوويّ أنه مائة وثمانية وعشرون درهمًا
وأربعة أسباع درهم. فالأوسق الخمسة: ألف وستمائة رطل بالبغداديّ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رأيت في كلام الشيخ عبد اللَّه البسّام في كتابه "توضيح الأحكام شرح بلوغ المرام": ما نصّه: والوسق ستون صاعًا، فيكون نصاب الحبوب والثمار ثلاثمائة صاع، والصاع في الموازين الحاضرة 3000 (ثلاثة آلاف
(1)
-"كتاب الأموال" ص 518.
غرامًا) وهذا تقدير تقريبيّ احتياطي بالحنطة الرزينة، فيكون الثلاثمائة صاع 9000 (تسعة آلاف غرامًا)
(1)
.
وقد بحث مجلس هيئة كبار العلماء في قدر الصالح النبويّ بالنسبة للمكاييل الحديثة، فلم يصلوا إلى تحديد متيقّن حاسم، وذلك لعدم وجود صاع نبويّ متيقّن، فكان رأي غالب الأعضاء تقديره بثلاثة آلاف غرام، وهذا احتياط لصدقة الفطر ونحوها. انتهى
(2)
.
قال ابن الملقّن: وهل هذا التقدير بالأرطال تقريبٌ، أم تحديدٌ وجهان للشافعيّة، أصحّهما أنه تحديد، كسائر النُّصُب، وهو ظاهر الحديث. وقيل: تقريبٌ. ووقع في "شرح مسلم للنوويّ" تصحيحه، وتبعه على ذلك الفاكهيّ، وابن العطار، ورجّحه الشيخ ابن دقيق العيد، فقال: الأظهر أن النقصان اليسير لا يمنع إطلاق الاسم في العرف، ولا يَعبَأُ به أهل العرف أنه يغتفر
(3)
. واللَّه تعالى أعلم.
(الثاني): أنه لم يقع في هذا الحديث بيان الْمَكِيل بالأوسق، لكن وقع في رواية المصنّف الآتية في 18/ 2474 - بلفظ:"ليس فيما دون خمسة أوسق، من التمر صدقة". وفي لفظ 21/ 2483: "ليس فيما دون خمس أوساقٍ، من حبّ، أو تمر صدقة". وفي لفظ 22/ 2484 - : "لا يَحُلُّ في البرّ والتمر زكاة حتى تبلغ خمسة أوسق". وفي لفظ 23/ 2485 - : "ليس في حبّ، ولا تمر صدقة حتى تبلغ خمسة أوسق". ونحوُ ذلك في بعض روايات مسلم في "صحيحه".
(صَدَقَةٌ) أي زكاة، والمراد بها العشر، أو نصف العشر، على ما سيأتي. قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ولفظ "دون" في المواضع الثلاثة بمعنى "أقلّ"، لا أنه نَفَى عن غير الخمس الصدقة، كما زعم بعض من لا يُعتدّ بقوله انتهى.
والمعنى أنه إذا خرج من الأرض أقلّ من ذلك فلا زكاة فيه، وبه أخذ جمهور أهل العلم، وهو الحقّ والصواب، وخالفهم فيه أبو حنيفة، فقال: في قليل ما أخرجته الأرض وكثيره الزكاة، وهو قول إبراهيم النخعي، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز. وخالف أبو يوسف، ومحمد الإمام أبا حنيفة، فقالا بقول الجمهور، وهو الحقّ الذي تدلّ عليه النصوص الصريحة، وسيأتي تحقيق القول في ذلك مستوفًى في -24/ 2486 -
(1)
- هكذا عبارة الشيخ، وهو غير صحيح، والصواب 900000 (تسعون ألف غرام). فليحرّر.
(2)
-"توضيح الأحكام من بلوغ المرام" ج 3 ص 45.
(3)
- "المفهم" ج 3 ص 9 - 10 و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" ج 5 ص 45 - 47. و"إحكام الأحكام" ج3 ص 286 - 288.
باب القدر الذي تجب فيه الصدقة"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم.
(وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدِ صَدَقَةٌ) الرواية المشهورة إضافة "خمس" إلى "ذود"، وروي بتنوين "خمس"، فيكون "ذود" بدلًا منها، والمعروف الأول، ونقله ابن عبد البرّ، والقاضي عياض عن الجمهور.
والذود أصله -كما قال القرطبيّ- من ذاد يذود: إذا دفع شيئًا، فهو مصدرٌ، فكأن من كان عنده دفع عن نفسه مَعرَّة الفقر، وشدّة الفاقة والحاجة
(1)
.
وهو عند أهل اللغة من الثلاثة إلى العشرة، من الإبل، لا واحد له من لفظه. قالوا: ويقال في الواحد بعير. قالوا: وكذلك النفَرُ، والرَّهْطُ، والقوم، والنساء، وأشباه هذه الألفاظ، لا واحد لها من لفظها. قالوا: وقولهم: "خمس ذود" كقولهم: "خمسة أبعرة"، و"خمسة جِمَال"، و"خمس نُوق"، و"خمس نسوة". وقال سيبويه: تقول: ثلاث ذود؛ لأن الذود مؤنّثٌ، وليس باسم كُسِّرَ عليه مذكّره. وقال أبو عُبيد: الذود ما بين الثنتين إلى التسع. - وقوله مخالف جمهورَ أهل اللغة- قال: وهو مختصّ بالإناث.
وقال الأصمعيّ: لما ذكر أن الذود من الثلاث إلى العشرة الصُّبّة -بالضمّ-: خمسٌ، أو ستٌّ. والصِّرْمَة -بالكسر-: ما بين العشر إلى العشرين، والْعَكَرَةُ -محرّكةٌ-: ما بين العشرين إلى الثلاثين. والْهَجْمَة -بفتح، فسكون-: ما بين الستين إلى السبعين. والْهُنَيدُ -مصغّرًا-: مائة. والْخِطْرُ -بكسر، فسكون، وتُفتح خاؤه-: نحو المائتين. والْعَرْجُ- بفتح، فسكون- من خمسائة إلى ألف.
وقال أبو عبيد وغيره: الصِّرْمة: من العشرين إلى الأربعين. وقال غير الأصمعيّ: وهِنْد -بكسر، فسكون- غير مصغّر مائتان، وأُمَامة -بالضمّ- ثلاثمائة.
وأنكر ابن قُتيبة أن يُراد بالذود الواحد، وقال: لا يصحّ أن يقال خمس ذود، كما لا يقال: خمس ثوب. وغلّطه العلماء، بل هذا اللفظ شائعٌ مسموع من العرب، معروف في كتب اللغة، وهو ثابت في الأحاديث الصحيحة، وليس جمعًا لمفرد، بخلاف الأثواب.
قال أبو حاتم السجستانيّ: تركوا القياس في الجمع، فقالوا: خمس ذود من الإبل، وثلاث ذود، لثلاث من الإبل، وأربع ذود، وعشر ذود، على غير قياس، كما قالوا: ثلاثمائة، وأربعمائة، والقياس مئين، ومئات، ولا يكادون يقولونه.
وقال القرطبيّ: وهذا صريح بأن الذود واحد في لفظه، والأشهر ما قاله المتقدّمون
(1)
- "المفهم" ج 3 ص 8.
أنه لا يقال على الواحد.
ثم اعلم أن رواية الجمهور: "خمس ذود"، ورواه بعضهم "خمسة ذود" وكلاهما لرواية مسلم، ولكن الأول أشهر، وهما صحيحان في اللغة، فإثبات الهاء لإطلاقه على المذكّر والمؤنث، ومَن حَذَفَها: أراد أن الواحدة منه فريضة. قاله الإمام ابن الملقّن -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
(وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ") زاد مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد صلى الله عليه وسلم:"خمس أواق، من الوَرِق صدقة". و"أواق" بالتنوين، وبإثبات التحتانيّة، مشدّدًا، ومخفّفًا، جمع أوقيّة -بضمّ الهمزة، وتشديد التحتانيّة- وحكى اللحيانيّ:"وقيّة" -بحذف الألف، وفتح الواو- ومقدار الأوقيّة في هذا الحديث أربعون درهمًا بالاتفاق. والمراد بالدرهم الخالص من الفضّة، سواء كان مضروبًا، أو غير مضروب. قال القاضي عياض: قال أبو عبيد: إن الدرهم لم يكن معلوم المقدار حتى جاء عبد الملك بن مروان، فجمع العلماء، فجعلوا كلّ عشرة دراهم سبعة مثاقيل. قال: وهذا يلزم منه أن يكون صلى الله عليه وسلم أحال بنصاب الزكاة على أمر مجهول، وهو مشكل، والصواب أن معنى ما نُقل من ذلك أنه لم يكن شيء منها من ضرب الإسلام، وكانت مختلفة في الوزن بالنسبة إلى العدد، فعشرة مثلًا وزن عشرة، وعشرة وزن ثمانية، فاتفق الرأي على أن تنقش بكتابة عربيّة، ويصير وزنها واحدًا. وقال غيره: لم يتغيّر المثقال في جاهلية، ولا إسلام، وأما الدراهم فأجمعوا على أن كلّ سبعة مثاقيل عشرة دراهم، ولم يُخالف في أن نصاب الزكاة مائتا درهم، يبلغ مائة وأربعين مثقالًا من الفضّة الخالصة إلا ابن حبيب الأندلسيّ، فإنه انفرد بقوله: إن كلّ أهل بلد يتعاملون بدراهمهم. وذكر ابن عبد البرّ الإجماع، فاعتبر النصاب بالعدد، لا الوزن. وانفرد السرخسيّ من الشافعيّة بحكاية وجه في المذهب أن الدراهم المغشوشة إذا بلغت قدرًا لو ضمّ إليه قيمة الغشّ من نحاس مثلاً لبلغ نصابًا فإن الزكاة تجب فيه، كما نُقل عن أبي حنيفة.
واستُدِلّ بهذا الحديث على عدم الوجوب فيما إذا نقص من النصاب، ولو حبّة واحدة، خلافًا لمن سامح بنقص يسير، كما نقل عن بعض المالكيّة. قاله في "الفتح"
(2)
.
وسيأتي تمام البحث في الدراهم والدنانير مُستَوفًى في -18/ 2473 - "باب زكاة
(1)
- "الإعلام" ج5 ص 41 - 44.
(2)
- "فتح" ج4 ص 66 - 67
الورق" إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متفق عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-5/ 2445 و 2446 و 2473/ 18 و 2474 و 2475 و 2476 و 21/ 2483 و 22/ 2484 و 23/ 2485 و 24/ 2486 و 2487 - وفي "الكبرى" 5/ 2225 و 2226 و 19/ 2252 و 2253 و 2254 و 2255 و 22/ 2262 و 23/ 2263 و 24/ 2264 و 2265/ 25 و 2266.
وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1405 و 1447 و 1459 و 1484 (م) في "الزكاة" 979 (د) في "الزكاة" 1558 و 1559 (ت) في الزكاة" 626 (ق) في "الزكاة" 1793 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 10647 و 10860 و 11012 و110170 و 11181 و 11310 و 11338 و 11404 و 11520 (الموطأ) في "الزكاة" 575 و 576 (الدارميّ) في "الزكاة" 1633 و 1634. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان وجوب الزكاة في الإبل، وبيان أقلّ نصاب زكاة الإبل، وهو خمس ذود (ومنها): بيان أقلّ نصاب الحبوب والثمار، وهو خمسة أوسق، فما كان أقلّ من ذلك لا يجب فيه شيء، وهذا مذهب جمهور الفقهاء: مالك، والشافعيّ، وأحمد، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وغيرهم، وهو المذهب الراجح، وخالف فيه أبو حنيفة، وروي عن ابن عباس، وزيد ابن عليّ، والنخعيّ، فقالوا: تجب الزكاة في قليل ما أخرجته الأرض، وكثيره، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"فيما سقت السماء والعيون، أو كان عَثَرِيّا العشر، وفيما سُقي بالنضح نصف العشر" رواه البخاريّ
(1)
. قالوا: هذا عامّ في القليل والكثير.
قال الإمام ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى- وأجيب عنه بأن المقصود من الحديث بيان قدر المخرج، لا بيان المخرج منه. وهذا فيه قاعدة أصولية، وهو أن الألفاظ العامّة بوضع اللغة على ثلاث مراتب:
(1)
- سيأتي للمصنّف في 25/ 2488 و 2489 و2490.
(إحداها): ما ظهر فيه عدم قصد التعميم، ومُثّل بهذا الحديث.
(والثانية): ما ظهر فيه التعميم بأن أورد مبتدأ، لا على سبب؛ لقصد تأسيس القواعد.
(والثالثة): ما لم تظهر فيه قرينة زائدة تدلّ على التعميم، ولا قرينة تدلّ على عدم التعميم.
وقد وقع تنازع من بعض المتأخّرين في القسم الأول في كون المقصود منه عدم التعميم، فطالب بعضهم بالدليل على ذلك، وهذا الطريق ليس بجيّد؛ لأن هذا أمر يُعرف من سياق الكلام، ودلالة السياق لا يقام عليها دليل، وكذلك لو فُهم المقصود من الكلام، وطولب بالدليل عليه لعسُر، فالناظر يرجع إلى ذوقه، والمناظر إلى دينه وإنصافه انتهى كلام ابن دقيق العيد
(1)
.
وحكى القاضي عياض عن داود أن كلّ ما يدخله الكيل يُراعى فيه خمسة أوسق، وما عداه مما لا يوسق ففي قليله وكثيره الزكاة. وسيأتي تمام البحث في هذه المسألة في بابه1 - 24/ 2486 - إن شاء اللَّه تعالى (ومنها): بيان أقلّ نصاق الورق، وهو خمسة أواق، وهي مائتا درهم، وسيأتي إيضاح ذلك في بابه 18/ 2473 - إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2446 -
(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
و"عيسى بن حماد": هو المصريّ المعروف هو وأبوه بـ "زُغْبَة". و"الليث": هو ابن سعد الإمام المصريّ. و"يحيى بن سعيد": هو الأنصاريّ.
وقوله: "خمسة ذود" أنث العدد هنا، وذكره في ما سبق؛ لأن الذود يذكّر، ويؤنث، فمن قال:"خمسة ذود" أراد التذكير، ومن قال:"خمس ذود" أراد التأنيث، وسبق هذا البحث قريبًا. والحديث متفق عليه، وقد استوفيتُ شرحه، والكلام على مسائله في الحديث الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكبل.
(1)
- "إحكام الأحكام" ج 3 ص 283 - 285 بنسخة الحاشية.
2447 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُظَفَّرُ بْنُ مُدْرِكٍ، أَبُو كَامِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَخَذْتُ هَذَا الْكِتَابَ، مِنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، كَتَبَ لَهُمْ: "إِنَّ هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ، الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ، الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عز وجل بِهَا رَسُولَهُ
(1)
صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا، فَلْيُعْطِ، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَ ذَلِكَ، فَلَا يُعْطِ، فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، مِنَ الإِبِلِ، فِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَابْنُ لَبُونٍ، ذَكَرٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ، إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتَّةً
(2)
وَأَرْبَعِينَ، فَفِيهَا حِقَّةٌ، طَرُوقَةُ الْفَحْلِ، إِلَى سِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَسِتِّينَ، فَفِيهَا جَذَعَةٌ، إِلَى خَمْسٍ
(3)
وَسَبْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا
(4)
وَسَبْعِينَ، فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ إِلَى تِسْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، فَفِيهَا حِقَّتَانِ، طَرُوقَتَا الْفَحْلِ، إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، فَإِذَا تَبَايَنَ أَسْنَانُ الإِبِلِ، فِي فَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ، فَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ، إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ
(5)
حِقَّةٌ، وَعِنْدَهُ جَذَعَةٌ
(6)
، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، أَوْ شَاتَيْنِ، إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ، إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ ابْنَةِ لَبُونٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلاَّ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ ابْنَةِ لَبُونٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ، إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ ابْنَةِ مَخَاضٍ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ إِلاَّ ابْنُ لَبُونٍ، ذَكَرٌ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، إِلاَّ أَرْبَعٌ مِنَ الإِبِلِ، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ، فِي سَائِمَتِهَا، إِذَا
(1)
- وفي نسخة: "رسول اللَّه".
(2)
- وفي نسخة: "ستا".
(3)
- وفي نسخة: "خمسة".
(4)
- وفي نسخة: "ستة".
(5)
- وفي نسخة:"بأنها" والظاهر أنه تصحيف.
(6)
- قوله: "وليست الخ، وفي نسخة بدل هذه الجملة: ما نصّه: "وليست عنده إلا جذعة، فإنه تقبل منه"، وهي بمعنى الجملة الأولى.
كَانَتْ أَرْبَعِينَ، فَفِيهَا شَاةٌ، إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ، فَفِيهَا شَاتَانِ، إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ، فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إِلَى ثَلَاثِ مِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ، فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ
(1)
، وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلَا تَيْسُ الْغَنَمِ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْمُصَّدِّقُ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً، مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَفِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ الْمُبَارَكِ) الْمُخَرِّميّ، أبو جعفر البغدادي، ثقة حافظ [11] 43/ 50.
2 -
(الْمُظَفر) -بتشديد الفاء المفتوحة، بصيغة اسم المفعول- بن مُدْرِك- بصيغة اسم الفاعل- أبو كامل الْخُرَاسانيّ، نزيل بغداد، ثقة حافظ متقنٌ، كان لا يُحدّث إلا عن ثقة، من صغار [9].
قال مُهَنّا، عن أحمد: لا أعلم أثبت في زهير من الأشيب، إلا أبا كامل مظفرًا، فإنه كان أثبت منه. وقال أبو داود: سمعت أحمد ذَكَر حديثًا عن أبي كامل، عن إبراهيم بن سعد، فقيل له: إنّ يعقوب بن إبراهيم بن سعد لا يقول كذا، فقال: ليس فيهم مثله - يعني أبا كامل-. وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: كان أصحاب الحديث ببغداد: أبو كامل، وأبو سَلَمة الْخُزَاعيّ، والهيثم، وكان الهيثم أحفظهم، وأبو كامل أتقنهم.
وحكى أبو طالب، عن أحمد نحوه، وزاد: لم يكونوا يَحملون عن كلّ واحد، ولم يكتبوا إلا عن الثقات، وزاد أيضًا: وكان أبو كامل بصيرًا بالحديث، متقنًا، يشبه الناس، له عقل سديدٌ، وكان من أبصر الناس بأيام الناس، وكان يتفقّه. وقال الفضل بن زياد، عن أحمد: نحو ذلك. وقال هارون الحمّال، عن أحمد أيضًا: نحوه، وزاد: قال: تراضوا به مرّة أن يسأل لهم شريكًا. وقال عبد اللَّه بن أحمد: وقال أبي: كان أبو كامل من أصحاب الحديث، لما قَدِم شريك، قالوا: لا نرضى أحدًا يسأله غير أبي كامل، وكان يُعدّ يومئذ من أهل الفضل، وكان ابن مهديّ يقول: أيش يقول أبو كامل؟ في حديث كذا، من حديث إبراهيم بن سعد. قال عبد اللَّه أيضًا، عن أبيه: سمعت منه منذ أربعين سنة، وكان له وقارٌ وهَيْبةٌ. قال عبد اللَّه: سمعت يحيي بن معين، وذكره،
(1)
- وفي نسخة: "ففي كلّ مائةِ شاةٍ شاةٌ".
فقال: كنت آخذ عنه هذا الشأن، قال: وكان رجلاً صالحًا، قَلَّ من رأيت يُشبهه. وقال المفضّل الغلابيّ، عن ابن معين: سمعت أبا كامل، شيخًا من الأبناء، ثقة، صاحب حديث. وقال ابن سعد: كان من أبناء خُرَاسان، وكان ثقة. وقال أبو يعلى الموصليّ: سمعت أبا خيثمة يقول: ما كان أبو كامل عندنا بدون وكيع، وابن مهديّ. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: صدوق. وقال الآجريّ، عن أبي داود: ثقة ثقة. وقال النسائيّ: ثقة مأمون. وقال مرّة: مُظَفّر بن مُدرِك الثقة المأمون الرجل الصالح. وقال مرّة: حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن المبارك، حدّثنا أبو كامل شيخٌ، ثقةٌ، صاحب حديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال إبراهيم الحربيّ: مات سنةَ مات رَوْحُ بنُ عُبَادة، سنة (207).
ووهم ابن عديّ، وابن منده في عدّه من شيوخ البخاريّ، لأن أول رحلة البخاريّ كانت سنة (210) بعد موته بنحو ثلاث سنين. تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. واللَّه تعالى أعلم.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصري، ثقة عابدًا [8] 181/ 288.
4 -
(ثمامة بن عبد اللَّه بن أنس بن مالك) الأنصاريّ البصريّ، قاضيها، ثقة
(1)
[4]. قال أحمد، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن عديّ: له أحاديث عن أنس، وأرجو أنه لا بأس به، وأحاديثه قريبة من غيره، وهو صالح فيما يرويه عن أنس عندي. وذكر في "الكامل" عن أبي يعلى أن ابن معين أشار إلى تضعيفه. وقال العجليّ: تابعيّ ثقة. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات". قال عمر بن شبّة: سمعت بعض علمائنا يذكر أن ثمامة لما دُعي إلى ولاية القضاء شاور محمد بن سيرين، فأشار عليه أن لا يقبل، فقال: لا أُترَك، فقال: أخبرهم أنك لا تُحسن القضاء، قال: فأكذب؟ قال: فجعل ابن سيرين يَعجَب منه. وقال ثمامة: وقعت على باب من القضاء جسيم، أدفع الخصوم حتى يصطلحوا، فكتب بذلك بلالٌ إلى خالد، فعزله عن القضاء في سنة عشرين ومائة، وكان ولاّه في سنة (106). روى له الجماعة، وله عند المصنف حديثان: هذا 2447 وأعاده 2455 و 5260 حديث: "إذا أُتي بطيب لم يردّه".
5 -
(أنس بن مالك) الأنصاري، أبو حمزة الصحابي الجليل رضي الله عنه 6/ 6.
6 -
(أبو بكر) الصديق الأكبر - رضي اللَّه تعالى عنه - 59/ 1302. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال
(1)
- قال عنه في "ت": صدوق، قلت: ينبغي أن يكون ثقة، فإن الجمهور على توثيقه، وما نقله ابن عديّ عن ابن معين ليس صريحًا في التضعيف. واللَّه تعالى أعلم.
الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين غير شيخه، وشيخ شيخه، فبغداديان.
(ومنها): أن فيه رواية صحابي، عن صحابي. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن حمّاد بن سلمة -رحمه اللَّه تعالى- أنه (قال: أَخَذْتُ هَذَا الْكِتَابَ، مِنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبدِ اللَّهِ بْنِ أَنسِ ابنِ مَالِكٍ) الأنصاريّ البصريّ. قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: صرّح إسحاق بن راهويه في "مسنده" بأن حمادًا سمعه من ثمامة، وأقرأه الكتاب، فانتفى تعليل من أعلّة بكونه مكاتبة انتهى (عَنْ) جدّه (أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَن أَبَا بَكْرِ) رضي الله عنه (كَتَبَ لَهُمْ) أي لأنس ومن معه. وفي رواية البخاريّ، من طريق ثمامة بن عبد اللَّه بن أنس المذكورة، أن أنسًا حدّثه، أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجّهه إلى البحرين: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المسلمين
…
" الحديث (إِنَّ هَذِهِ) أي المعاني الذهنية الدّالة عليها النقوش اللفظيّة الآتية (فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ) أي نسخة فرائض، فحذف المضاف للعلم به، وفيه أن اسم الصدقة يقع على الزكاة، خلافًا لمن منع ذلك من الحنفيّة. قاله في "الفتح" (الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": ظاهر في رفع الخبر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس موقوفًا على أبي بكر، وقد صرّح برفعه في رواية إسحاق الْمُقَدَّم ذكرها.
ومعنى "فَرَضَ" هنا: أوجب، أو شرع، يعني بأمر اللَّه تعالى، فالإيجاب من اللَّه تعالى في الحقيقة، وأضيف إليه صلى الله عليه وسلم لأنه المبلّغ عنه، وقد فرض اللَّه تعالى طاعته على المكلفين، فلذا سمي أمره صلى الله عليه وسلم، وتبليغه عن اللَّه تعالى فرضًا. وقيل: معناه قدّر؛ لأن إيجابها ثابت في الكتاب، ففرض النبيّ صلى الله عليه وسلم لها بيانه للمجمل من الكتاب بتقدير الأنواع، والأجناس، وقد جعله اللَّه مبيّنا للكتاب، حيث قال:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: 44].
وأصل الفرض قطع الشيء الصَّلْب، ثم استعمل في التقدير؛ لكونه مقتطعًا من الشيء الذي يقدّر منه. ويرد بمعنى البيان؛ كقوله تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} الآية [التحريم: 2]. وبمعنى الإنزال، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} الآية [القصص: 85]. وبمعنى الْحِلِّ، كقوله تعالى:{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} الآية [الأحزاب: 38]. وكلّ ذلك لا يخرُج من معنى التقدير. ووقع استعمال الفرض بمعنى اللزوم، حتى كاد يغلب عليه، وهو لا يخرُج أيضًا من معنى التقدير.
وقد قال الراغب: كلّ شيء ورَدَ في القرآن فَرَضَ على فلان، فهو بمعنى الإلزام،
وكلّ شيء فَرَضَ له، فهو بمعنى لم يحرّمه عليه، وذكر أن معنى قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} الآية [القصص: 85]: أي أوجب عليك العمل به.
قال الحافظ: وهذا يؤيّد قول الجمهور: إن الفرض مرادف للوجوب، وتفريق الحنفية بين الفرض والواجب باعتبار ما يَثبُتان به لا مشاحّةَ فيه، وإنما النزاع في حمل ما ورد من الأحاديث الصحيحة على ذلك؛ لأن اللفظ السابق لا يُحمل على الاصطلاح الحادث. انتهى
(1)
.
(عَلَى الْمُسْلِمِينَ) استُدلّ به على أن الكافر ليس مخاطبًا بذلك. وتعُقّب بأن المراد بذلك كونها لا تصحّ منه، لا أنه لا يُعاقب عليها، وهو محلّ النزاع. وقد تقدّم في أوائل "كتاب الزكاة" تحقيق الخلاف، وأن الراجح كونه مكلّفًا بالفروع كالأصول. واللَّه تعالى أعلم.
(الَّتِي) هكذا للمصنّف، وأبي داود بدون واو العطف، فيكون بدلاً من الموصول السابق. ووقع في رواية الشيخين:"والتي" بالعطف (أَمَرَ اللَّه عز وجل بَها رَسُولَهُ) وفي نسخة: "رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم") أي بتلك الصدقة، أي أمره بتبليغها، أو بتقدير أنواعها وأجناسها، والقدرِ الْمُخرَج منها (فَمَنْ سُئِلَهَا) بالبناء للمجهول في الموضعين، أي من سُئل الزكاة المفروضة (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) بيان لـ"من"(عَلَى وَجْهِهَا) حال من المفعول الثاني في "سُئلها"، أي حال كونها على حسب ما بيّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -في هذا الحديث. وفيه دلالة على دفع الأموال الظاهرة إلى الإمام (فَليُعْطِ، وَمَن سُئِلَ فَوْقَ ذَلِكَ، فَلَا يُعْطِ) أي من سُئل زائدًا على ذلك في سنْ، أو عدد، فله المنع. ونقل الرافعيّ الاتفاق على ترجيحه. وقيل: معناه: فليمنع الساعي، ولْيَتَوَلَّ هو إخراجه بنفسه، أو بساع آخر، فإن الساعي الذي طلب الزيادة يكون بذلك متعدّيًا، وشرطه أن يكون أمينًا، لكن محلّ هذا إذا طلب الزيادة بغير تأويل، كمن طلب شاتين عن شاة، فأما من طلب زيادة بتأويل، بأن كان مالكيّا يرى أخذ الكبيرة عن الصغار، فإنه الواجب بلا خلاف، ولا يعطي الزائد؛ لأنه لا يفسُق، ولا يعصي، والحالة هذه. قاله النوويّ، والحافظ -رحمهما اللَّه تعالى-.
وهذا الكلام فيه إشارة إلى الجمع بين هذا الحديث، وحديث جرير الآتي في -14/ 2460 - "أَرْضُوا مُصدّقيكم" بأن حديث جرير محمول على أن للعامل تأويلاً في طلب الزائد على الواجب.
قال القاري -رحمه اللَّه تعالى-: هذا -أي حديث أبي بكر رضي الله عنه يدلّ على أن
(1)
- "فتح" ج4 ص 76.
المصدّق إذا أراد أن يظلم المزكّي، فله أن يأباه، ولا يتحرّى رضاه، وحديث جرير، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"أرضوا مصدّقيكم، وإن ظُلمتم" على خلاف ذلك.
وأجاب الطيبيّ -رحمه اللَّه تعالى- بأن أولئك المصدّقين من الصحابة، وهم لم يكونوا ظالمين، وكأن نسبة الظلم إليهم على زعم المزكِّي، أو جريانٌ على سبيل المبالغة، وهذا عامّ، فلا منافاة بينهما انتهى.
وقد يُجاب بأن الأول محمول على الاستحباب، وهذا على الرخصة والجواز. أو الأول إذا كان يَخشَى التهمة والفتنة، وهذا عند عدمهما.
قال في "شرح السنّة": فيه دليل على إباحة الدفع عن ماله إذا طولب بغير حقّه. انتهى
(1)
.
(فِيمَا دُونَ خَمْسِ وَعِشْرِينَ) الجار والجرور، متعلّق بفعل مقدّر، أي "يجب"، أو بمبتدأ مقدّر، أي "الواجب". أو خبر مقدّم لقوله:"شاة". ولفظ البخاريّ: "في أربع وعشرين، من الإبل، فما دونها من الغنم، من كلّ خمسٍ شاةٌ"
قال في "الفتح": وقوله: "من الغنم" كذا للأكثر، وفي رواية ابن السكن بإسقاط "من"، وصوّبها بعضهم. وقال عياض: من أثبتها، فمعناه: زكاتُها -أي الإبل- من الغنم، و"من" للبيان، لا للتبعيض. ومن حذفها فـ"الغنم" مبتدأ، والخبر مضمرٌ في قوله:"في كلّ أربع وعشرين" وما بعده، وإنما قدّم الخبر لأن الغرض بيان المقادير التي تجب فيها الزكاة، والزكاة إنما تجب بعد وجود النصاب، فحسُن التقديم. انتهى.
وقال الطيبيّ: "من" الأولى ظرف مستقرّ، لأنه بيان لـ"شاةٌ" توكيدًا، كما في قوله:"خمس ذَود من الإبل"، والثانية لغوٌ، ابتدائيّة، متّصلة بالفعل المحذوف، أي لِيُعْطَ في أربع وعشرين من الإبل شاةٌ كائنة من الغنم لأجل كلّ خمس من الإبل. وقيل:"من الغنم" خبر لمبتدإ محذوف، أي الصدقة في أربع وعشرين من الإبل من الغنم. وقوله:"من كلّ خمس شاةٌ" مبتدأ وخبر، بيان للجملة المتقدّمة
(2)
.
والحاصل أن هذه الجملة مستأنفة أتى بها بيائا لقوله "إن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المسلمين الخ"، وكأنه أشار بـ:"هذه" إلى ما في الذهن، ثم أتى به بيانًا له (مِنَ الإِبِلِ) بيان لـ"خمس وعشرين"، وبدأ بزكاة الإبل لأنها كانت جُلّ أموالهم، وأنفَسَها حينئذ.
(1)
- راجع "المرعاة" ج 6 ص 98.
(2)
- راجع "المرعاة" ج 6 ص 98.
(فِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ) بدلٌ من الجارّ والجرور قبله، بدلَ تفصيل من مجمل (شَاةٌ) فاعل للفعل الذي قدّرناه، أو خبر للمبتدإ المقدّر، أو مبتدأ مؤخّر والجار والمجرور قبله خبر مقدّم، والجملة تفصيل للجملة التي قبله.
(فَإِذَا بَلَغَت خَمْسًا وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاض) هي ولد الناقة إذا استكملت السنة، ودخلت في الثانية.
قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: "المخاض" -بفتح الميم، والكسرُ لغةٌ: وَجَعُ الولادة، ومَخِضَت المرأةُ، وكلُّ حامل، من باب تَعِبَ: دنا وِلَادُهَا، وأخذها الطَّلْقُ، فهي مَاخِضٌ بغير هاء، وشاةٌ ماخصٌ، ونُوقٌ مُخَّضٌ، ومَوَاخضُ. فإن أردت أنها حامل قلتَ: نُوقٌ مَخَاضٌ -بالفتح- الواحدة خَلِفَةٌ من غير لفظها، كما قيل لواحدة الإبل ناقة، من غير لفظها، وابن مخاض: ولدُ الناقة يأخذ في السنة الثانية، والأنثى بنت مخاض، والجمع فيهما بنات مخاض. وقد يقال ابن المخاض بزيادة اللام، سمّي بذلك لأن أمه قد ضَرَبهَا الفَحْلُ، فَحَمَلَت، ولَحِقَت بالمخاض، وهنّ الحوامل، ولا يزال ابنَ مخاض حتى يستكمل السنة الثانيةَ، فإذا دخل في الثالثة، فهو ابن لَبُون انتهى كلام الفيّوميّ
(1)
.
وقال ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى-: "المخاض": النُّوق الحوامل، واحدتها خَلِفَةٌ، وبنت المخاض، وابن المخاض: ما دخل في السنة الثانية؛ لأن أمه قد لَحِقَت بالمخاض، أي الحوامل، وإن لم تكن حاملًا. وقيل: هو الذي حملت أمُّهُ، أو حَمَلت الإبل التي فيها أمه، وإن لم تَحمِل هي، وهذا هو معنى ابن مخاض، وبنت مخاض؛ لأن الواحد لا يكون ابن نُوق، وإنما يكون ابن ناقة واحدة. والمراد أن تكون وَضَعتها أمها في وقتٍ مّا، وقد حَمَلت النُّوق التي وَضَعنَ مع أمها، وإن لم تكن أمها حاملاً، فنَسَبَها إلى الجماعة بحكم مُجاورتها أمها.
وإنما سُمّي ابن مخاض في السنة الثانية؛ لأن العرب إنما كانت تحمل الفحول على الإناث بعد وضعها بسنة ليشتدّ ولدها، فهي تَحمل في السنة الثانية، وتَمْخَض، فيكون ولدُها ابن مخاض انتهى كلام ابن الأثير
(2)
.
ولفظ البخاريّ: "ففيها بنت مخاض أنثى". وقيد بالأنثى للتأكيد، كما يقال: رأيت بعيني، وسمعت بأذني. وقال الطيبيّ: ذكره تأكيدًا، كما قال تعالى:{نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقّة: 13]، ولئلا يُتوهّم أن البنت ههنا والابن في "ابن لبون" كالبنت، والابن في بنت طَبَق، وابن آوى، يشترك فيهما الذكر والأنثى.
(1)
-" المصباح المنير" في مادة مخض.
(2)
- "النهاية" ج 4 ص 306.
وحاصله أن وصف البنت بالأنثى؛ لئلا يُتوهّم أن المراد منه الجنس الشامل للذكر والأنثى، كالولد، إذ في غير الآدميّ قد يُطلق البنت والابن، وُيراد بهما الجنس، كما في ابن عِرْس، وبنت طَبَق، وهي السُّلَحفاة
(1)
. واللَّه تعالى أعلم.
[فائدة]: ذكر الإمام أبو داود -رحمه اللَّه تعالى- في "سننه" تفسير أسنان الإبل، فأحببت إيراده هنا لنفاسته، قال:
(باب تفسير أسنان الإبل):
قال أبو داود: سمعته من الرِّيَاشي
(2)
، وأبي حاتم
(3)
، وغيرهما، ومن كتاب النضر ابن شميل، ومن كتاب أبي عبيد
(4)
، وربما ذكر أحدهم الكلمة، قالوا: يُسَمَّى الْحُوَار
(5)
، ثم الفَصِيل، إذا فُصِل، ثم تكون بنت مخاض لسنة، إلى تمام سنتين، فإذا دخلت في الثالثة، فهي ابنة لبون، فإذا تمت له ثلاث سنين، فهو حِقٌّ، وحقة، إلى تمام أربع سنين، لأنها استحقت أن تُركَب، ويُحمَل عليها الفحلُ، وهي تَلْقَح
(6)
، ولا يُلقِحُ الذكر، حتى يُثْنِي، ويقال للحقة: طَرُوقة الفحل؛ لأن الفحل يَطرُقها، إلى تمام أربع سنين، فإذا طَعَنَت في الخامسة، فهي جذعة، حتى يتم لها خمس سنين، فإذا دخلت في السادسة، وألقى ثنيته، فهو حينئذ ثَنِيّ، حتى يستكمل ستا، فإذا طعن في السابعة، سُمِّي الذكر رَبَاعِيًا، والأنثى رَبَاعية، إلى تمام السابعة، فإذا دخل في الثامنة، وألقى السنن السَّدِيس
(7)
الذي بعد الرَّبَاعية، فهو سَدِيسٌ وسَدَسٌ، إلى تمام الثامنة، فإذا دخل في التسع، وطَلَع نابه، فهو بازل، أي بَزَل نابه، يعني طلع، حتى يدخل في العاشرة، فهو حينئذ مُخْلِف، ثم ليس له اسم، ولكن يقال: بازل عام، وبازل عامين، ومخلف عام، ومخلف عامين، ومخلف ثلاثة أعوام، إلى خمس سنين، والْخَلِفَة: الحاملُ. قال أبو حاتم: والجذوعة: وقت من الزمن، ليس بسن، وفُصولُ الأسنان: عند طلوع
(1)
- راجع "المرعاة" ج 6 ص 100 - 101.
(2)
- هو عباس بن الفرج، أبو الفضل البصريّ النحويّ، وثقه ابن حبّان، وابن السمعانيّ، ومسلمة ابن قاسم، والخطيب.
(3)
- هو سهيل بن محمد بن عثمان السجستانيّ النحويّ المقرئ.
(4)
- القاسم بن سلّام البغدادي الفقيه القاضي، قال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: أحد أئمة الدنيا، صاحب حديث وفقه، ودين وورع، ونعرفه بالأدب، جمع، وصنّف، وذبّ عن الحديث، ونصره.
(5)
-بضم المهملة، وكسرها: ولد الناقة إلى أن بُفصَل.
(6)
- من باب تَعِبَ: أي تحمل.
(7)
- الأول: مثل بَريد وبُرُد، والثاني: مثل أَسَد وأُسُد: وهو السنّ الذي بعد الرباعية، وقبل الناب.
سهيل
(1)
، قال أبو داود: وأنشدنا الرِّيَاشي [من الرجز]:
إِذَا سُهَيلٌ آخِرَ اللَّيْلِ طَلَعْ
…
فَابْنُ اللَّبُونِ الْحِقُّ وَالْحِقُّ جَذَعْ
لْم يَبْقَ مِنْ أَسْنَانَها غَيْرُ الْهُبَعْ
والْهُبَعُ الذي يولد في غير حينه. انتهى ما ذكره أبو داود -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
. (إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ)"تكن" تامّة، و"بنت مخاض" بالرفع فاعلها، أي فإن لم توجد بنت مخاض. ويحتمل أن تكون ناقصة، وخبرها محذوف، أي موجودة (فَابْنُ لَبُونٍ، ذَكَرٌ)"ابن" مبتدأٌ خبره محذوف، أي مقبول، أو نائب لفعل مقدّر، أي يُقبل منه ابن لبونٍ ذَكَر.
و"ابن اللبون": وَلَدُ الناقة، يدخل في السنة الثالثة، والأنثى بنت لبون، سمي بذلك لأن أمه وَلَدت غيره، فصار لها لبن، وجمع المذكور كالإناث: بنات اللبون، وإذا نزل اللبن في ضرع الناقة، فهي مُلبنٌ، ولهذا يقال في ولدها أيضًا ابن مُلْبِن. قاله في "المصباح". وقوله:"ذكر" تأكيد، كما سبق في الذي قبله.
وعُلِم من هذا أن المصدّق إذا لزمه بنت مخاض، ولم توجد عنده يدفع للساعي ابن لبون؛ جَعْلاً لزيادة السنّ مقابلا بزيادة الأنوثة. وهذا متعيّن عند مالك، والشافعيّ، وهو رواية عن أبي يوسف؛ أخذًا بظاهر الحديث. وذهب أبو حنيفة، ومحمد إلى أنه لا يتعيّن أخذ ابن لبون عند فقد بنت المخاض، بل العبرة بالقيمة. قال في "فتح القدير": كان ابن اللبون يعدل بنت المخاض إذ ذاك، جعلاً لزيادة السنّ مقابلاً بزيادة الأنوثة، فإذا تغيّر تغيّر انتهى. فلو عينّا أخذ ابن اللبون من غير اعتبار القيمة لأدى إلى الإضرار بالفقراء، أو الإجحاف بأرباب الأموال
(3)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول الأول هو الظاهر. واللَّه تعالى أعلم.
(فَإِذَا بَلَغَتْ ستًّا وَثَلَاِثِينَ، فَفِيهَا بنْتُ لَبُونٍ، إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ) الغاية داخلة في المُغَيّا بدليل قوله (فإذَا بَلَغَتْ سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ) فعلم أن حكمها حكم ما قبلها. ووقع في نسخة: "ستا وأربعين"، وكلاهما صحيح، لأن قاعدة العدد في تأنيثه مع المذكّر، وتذكيره مع المؤنّث إنما هو إذا ذكر العدود بعده تمييزًا، وأما إذا حذف، أو قُدّم فيجوز
(1)
-يعني أن حساب أعمار الإبل يكون عند ظهور سهيل، وهو النجم الذي إذا ظهر تنضج الفواكه، وينقضي زمن القيظ. وجعلت فصول الإبل عند ظهور هذا النجم لما قيل: إنه يطلع عند نتاج الإبل.
(2)
- انظر "المنهل العذب" ج 9 ص 192 - 194.
(3)
- راجع "المنهل" ج 9 ص 142.
تذكير العدد، وتأنيثه، كحديث:"من صام رمضان، وأتبعه ستًا من شوّال، كان كصوم الدهر". رواه مسلم. وتقول: عندي ثلاثة، وتريد نسوة
(1)
. واللَّه تعالى أعلم.
(فَفِيهَا حِقّةٌ) بكسر الحاء المهملة، وفتح القاف المشدّدة، جمعها حِقَقٌ، مثل سِدْرة وسِدَر، وهي من الإبل ما استكمل السنة الثالثة، ودخل في الرابعة، وهي كذلك إلى تمامها، ويقال للذكر الْحِقّ، وجمعه حِقَاقٌ -بالكسر، والتخفيف-. سميت بذلك؛ لاستحقاقها أن تُركَب، ويُحمل عليها، وَيركَبَها الفحلُ، ولذلك قال في صفتها (طَرُوقَةُ الْفحْلِ) بفتح أوله: أي مطروقته، فَعُولة بمعنى مفعولة، كحَلُوبة بمعنى محلوبة، صفة لحقّة". والمراد من شأنها أن تَقبَل ذلك، وإن لم يَطرُقها الفحل بالفعل، يعني أنها بلغت، وصلحت أن يَغشاها الفحل، ويطأها، من الطَّرْق، وهو الضرب.
و"الفحلُ": الذكر من الحيوان، جمعه فُحُول، وفُحُولة، بالضمّ فيهما، وفِحَالٌ بالكسر. ولفظ البخاريّ:"طَروقة الجمل"، والمعنى واحد.
(إِلَى سِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَسِتِّينَ، فَفِيهَا جَذَعَةٌ) -بفتح الجيم، والذال المعجمة- قال ابن الأثير: الْجَذَع والْجَذَعَة، من الإبل: ما استكمل الرابعة، ودخل في الخامسة إلى آخرها.
قال ابن قُدامة: قيل لها: ذلك؛ لأنها تُجْذِعُ إذا سقطت سنها، وهي أعلى سنّ تجب في الزكاة
(2)
.
وقال القسطلاّنيّ: سميت بذلك لأنها جذعت مُقدّم أسنانها، أي أسقطته، وهي غاية أسنان الزكاة.
وقال القاري: سميت بذلك لأنها سقطت أسنانها، والجذع السقوط.
وقال ابن منظور: في "لسان العرب": الجَذَعُ: الصغير السنّ، والجَذَعُ: اسمٌ له في زمن ليس بسنّ تَنْبُتُ، ولا تَسْقُط، وتعاقبها أخرى.
قال الأزهريّ: أما الجذع، فإنه يختلف في أسنان الإبل، والخيل، والبقر، والشاء، وينبغي أن يُفسِّر قول العرب فيه تفسيرًا مُشبعًا؛ لحاجة الناس إلى معرفته في أضاحيهم، وصدقاتهم، وغيرها:
فأما البعير، فإنه يُجذِعُ لاستكماله أربعة أعوام، ودخوله في الخامسة، وهو قبل ذلك حِقٌّ، والذكر جَذَعٌ، والأُنثى جذَعَةٌ، وهي التي أوجبها النبيّ - صلي اللَّه علية وسلم - في صدقة الإبل، إذا جاوزت ستين، وليس في صدقات الإبل سنٌّ فوق الجذعة، ولا يُجزىء الجذع من
(1)
- راجع "حاشية الخضري" على "ألفية ابن مالك"، في "باب العدد".
(2)
- انظر "المغني" ج 4 ص 16.
الإبل في الأضاحي. وأما الجذعِ في الخيل، فقال ابن الأعرابيّ: إذا استتمّ الفرس سنتين، ودخل في الثالثة، فهو جَذعٌ، وإذا استتمّ الثالثة، ودخل في الرابعة، فهو ثنيّ.
وأما الجذع من البقر، فقال ابن الأعرابيّ: إذا طلع قرن العِجْل، وقُبض عليه، فهو عَضَبٌ، ثم هو بعد ذلك جذعٌ، وبعده ثنيّ، وبعده رباعٌ. إلى آخر ما ذكره في "اللسان".
وقال المجد في "القاموس": الجَذَعُ -محرّكةً- قبل الثنِيِّ، وهي بهاء، اسم له في زمن، وليس بسنٍّ تَنْبُتُ، أو تَسقُطُ، والشابّ الْحَدَث، جمعه جِذاعٌ، وجُذْعَانٌ -بالضمّ. انتهى.
(إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ) الغاية داخلة في المغيّا، كالماضي. وفي نسخة:"خمسة وسبعين"، وتقدم وجهه قريبًا (فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًا وَسبْعِينَ) وفي نسخة:"ستة وسبعين"، والكلام فيه كسابقه (فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ إِلَى تِسْعِينَ، فَإِذَا بَلغَتْ إِحدَى وَتِسْعِينَ، فَفِيهَا حِقَّتَانِ، طَرُوقَتَا الْفَحْلِ، إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ) أجمع أهل العلم على المذكور من أول الحديث إلى هذا؛ إلا ما تقدّم عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: "في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه، وفي ستّ وعشرين بنت مخاض"، حَكَى هذا الإجماع أبو عبيد، والسرخسيّ، وابن قدامة، والعينيّ، قال أبو عبيد: هذا ما جاء في فرائض الإبل إلى أن تبلغ عشرين ومائة، لم يختلفوا؛ إلا في هذا الحرف الواحد، فإذا جاوزت عشرين ومائة، فهناك الاختلاف، ثم ذكره، كما سيأتي بيانه. وقال السرخسيّ: على هذا اتفقت الآثار، وأجمع العلماء إلا ما روي شاذّا عن عليّ. وقال ابن قدامة: هذا كله مجمع عليه إلى أن تبلغ عشرين ومائة، ذكره ابن المنذر. وقال العينيّ: لا خلاف بين الأئمة، وعليها اتفقت الأخبار عن كتب الصدقات التي كتبها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم،والخلاف فيما إذا زادت على مائة وعشرين.
(فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ) أي إذا زادت الإبل على عشرين ومائة واحدًا فصاعدًا، كما هو مذهب الجمهور، فلا عبرة بزيادة ما دون الواحد، كما ذهب إليه الإصطخريّ، وذلك يُتصوّر في الشركة، كما قاله الحافظ (فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ) أي إذا زاد يجعل الكلّ على عدد الأربعينات والخمسينات مثلاً إذا زاد واحدٌ على العدد المذكور يعتبر الكلّ ثلاث أربعينات وواحد، والواحد لا شىء فيه، وثلاث أربعينات فيها ثلاث بنات لبون إلى ثلاثين ومائة، وفي ثلاثين ومائة حقةٌ لخمسين، وبنتا لبون لأربعينين، وهكذا، ولا يظهر التغيّر إلا عند زيادة عشر. قاله السنديّ.
وقال الشوكانيّ: المراد أنه يجب بعد مجاوزة المائة والعشرين بواحدة في كلّ أربعين بنت لبون، فيكون الواجب في مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، وإلى هذا ذهب الجمهور. ولا اعتبار بالمجاوزة بدون واحد، كنصف، أو ثلث، أو ربع، خلافًا للإصطخريّ من الشافعيّة، فقال: يجب ثلاث بنات لبون بزيادة بعض واحدة لصدق
الزيادة.
ويردّ عليه ما عند الدارقطنيّ في آخر هذا الحديث، وما في كتاب عمر رضي الله عنه:"فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة، ففيها ثلاث بنات لبون، حتى تبلغ تسعًا وعشرين ومائة". ومثله في كتاب عمرو بن حَزْم.
قال الحافظ: ومقتضاه أن ما زاد على ذلك فزكاته بالإبل خاصّة. وعن أبي حنيفة: إذا زادت على عشرين ومائة رجعت إلى فريضة الغنم، فيكون في خمس وعشرين ومائة ثلاث بنات لبون وشاة. انتهى كلام الشوكانيّ بزيادة.
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: سيأتي تحقيق الخلاف في هذه المسألة في المسألة السادسة، إن شاء اللَّه تعالى.
(فَإِذَا تَبَايَنَ أَسْنَانُ الإِبِلِ، فِي فَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ) أي اختلف أسنان الإبل في باب الفريضة، بأن كان المفروض سنّا، والموجود عند صاحب المال سنّا آخر، كما أوضحه بقوله (فَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الجَذَعَةِ) أي بلغت إبله نصابًا تجب فيه الجذعة (وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ) جملة حاليّة، أي والحال أن الجذعة ليست موجودة عنه (وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ) جملة حالية أيضًا، إما متداخلة، أو مترادفة (فَإِنَّها تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ" الضمير المنصوب للقصّة، والجملة خبر "من بلغت"، والمراد أن الحقّة تُقبَل موضع الجذعة (وَ) لكن (يَجْعَلُ) المزكي (مَعَهَا شَاتَيْنِ) قال الموفّق ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: ولا يُجزىء في الغنم المخرجة في الزكاة إلا الجذع من الضأن، والثنيّ من المعز، وكذلك شاة الْجُبْران، وأيهما أخرج أجزأه، ولا يُعتبر كونها من جنس غنمه، ولا جنس غنم البلد؛ لأن الشاة مطلقة في الخبر الذي ثبت به وجوبها، وليس غنمه، ولا غنم البلد سببًا لوجوبها، فلم يتقيّد بذلك؛ كالشاة الواجبة في الفدية، وتكون أنثى، فإن أخرج ذكرًا لم يجزئه، لأن الغنم الواجبة في نُصُبها إناث. ويحتمل أن يجزئه؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أطلق لفظ الشاة، فدخل فيه الذكر والأنثى، ولأن الشاة إذا تعلقت بالذمّة دون العين أجزأ فيها الذكر، كالأضحية انتهى كلام ابن قُدامة
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني عندي أقوى؛ لظاهر الحديث. واللَّه تعالى أعلم. (إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ) أي إن كانتا موجودتين في ماشيته، يقال: تيسر، واستيسر بمعنى (أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا) أي أو يجعل مع الحقّة عشرين درهما فضّةً. قال الخطّابيّ رحمه الله
(1)
- "فتح" ج 4 ص 78. و"نيل الأوطار" ج 4 ص 152 - 153.
(2)
- "المغني" ج 4 ص 14.
تعالى: فيه من الفقه أن كلّ واحدة من الشاتين، والعشرين درهما أصلٌ في نفسه، ليست ببدل، وذلك لأنه قد خيّره بينهما بحرف "أو" انتهى.
وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: حمله بعضهم على أن ذلك تفاوت قيمة ما بين الجذعة والحقّة في تلك الأيام، فالواجب هو تفاوت القيمة، لا تعيّن ذلك، فاستَدَلّ به على جواز أداء القيم في الزكاة. والجمهور على تعيين ذلك القدر برضا صاحب المال، وإلا فليطلب السنّ الواجب، ولم يُجوّزوا القيمة
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الجمهور عندي هو الأرجح؛ عملاً بظاهر النصّ. واللَّه تعالى أعلم.
(وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ) أي وجبت الحقّة عليه، لأجل أن كانت إبله ستا وأربعين (وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ حِقَّةٌ، وَعِنْدَهُ جَذَعَةٌ) وفي نسخة: "وليست عنده إلا جذَعة، فإنها تقبل منه"(فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ) أي تُقبل الجذعة عوضًا عن الحقّة، وإن كانت الجذعة زائدة على ما يلزمه، فلا يُكلّف تحصيل ما ليس عنده (وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ) -بضمّ الميم، وتخفيف الصاد، وكسر الدال المشدّدة، كمحدّثٍ: آخذ الصدقة، وهو الساعي الذي يأخذ الزكاة. وأما المصّدّق -بتشديد الصاد، والدال- فهو المزكّي، ولا يناسب هنا (عِشْرِينَ دِرْهَمًا، أو شَاتَيْنِ، إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ) كما سلف في عكسه (وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقبَلُ مِنْهُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ، إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أَو عِشْرِينَ دِرْهَمًا) قالَ الطيبيّ: فيه دليل على أن الخيرة في الصعود والنزول من السنّ الواجب إلى المالك انتهى. وعُلّل بأنهما شُرعتا تخفيفًا له، ففوّض الأمر إلى اختياره
(2)
(وَمَنْ بَلَغَت عِندَهُ صَدَقَةُ ابنَةِ لَبُونٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلاَّ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وُيعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ) أي الساعي (عِشْرِينَ دِرهَمًا، أَوْ شَاتَيْن، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ ابْنَةِ لَبُونٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ بنتُ لَبُونٍ، وَعِنْدَهُ بنتتُ مَخَاضٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنهُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ، إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أَو عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عندَهُ صَدَقَةُ ابْنَةِ مَخَاضٍ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ إِلاَّ ابْنُ لَبُونٍ، ذَكَرٌ) تقدّم وجه تقييده بالذكر، فلا تغفل (فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ) أي لا يلزمه مع ابن لبون شيء آخر من الجبران.
قال ابن الملك تبعًا للطيبيّ: وهذا يدلّ على أن فضيلة الأنوثة تُجبر بفضل السنّ. وقال الخطّابيّ: هذا دليلٌ على أن ابنة المخاض ما دامت موجودةً، فإن ابن اللبون لا يُجزىء عنها، وموجب هذا الظاهر أنه يُقبل منه، سواء كانت قيمته قيمة ابنة مخاض، أو
(1)
-"شرح السنديّ" ج 5 ص 20.
(2)
- "المرعاة" ج 6 ص 110.
لم تكن، ولو كانت القيمة مقبولة لكان الأشبه أن يُجعل بدل ابنة مخاض قيمتها، دون أن يأخذ الذكران من الإبل، فإن سنّة الزكاة قد جرت بأن لا يؤخذ فيها إلا الإناث إلا ما جاء في البقر من التَّبِيع.
وزعم بعض أهل العلم أنه إذا وجد قيمة ابنة مخاض لم يُقبل منه ابن لبون؛ لأن واجد قيمتها كواجد عينها؛ ألا ترى أن من وجد ثمن الرقبة في الظهار لم ينتقل إلى الصيام؟.
قلت: وهذا خلاف النصّ، وخلاف القياس الذي قاله، وتمثّل به، وذلك أنه قال في الآية:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} الآية [النساء: 92]. فعلّق الحكم بالوجود، ووجودُ القيمة وجود لما يتقوّم بها، وإنما قال في الحديث:"ومن بلغت صدقته ابنة مخاض، وليس عنده إلا ابن لبون ذكر، فإنه يقبل منه". فعلق الحكم بكونه عنده، لا بقدرته عليه، فالأمران مختلفان انتهى كلام الخطابيّ
(1)
.
وفيه دليل على أن ابن اللبون يجزئ عن بنت المخاض عند عدمها، وهو أمر متفقٌ عليه، لا خلاف في ذلك عند الأئمة، حكى هذا الإجماع جمع من الشُّرّاح، كالباجيّ، وابن قدامة، وابن رُشد، والحافظ.
لكن المدار عند الحنفيّة على القيمة، وعليه حمَلُوا الحديث بأن ابن اللبون كانت قيمته مساوية لقيمة بنت المخاض في ذلك الزمان، فعند الحنفيّة لا يتعيّن أخذ ابن اللبون، خلافًا لمن عداهم من أهل العلم، فإنه يتعيّن عندهم أخذه، وهو الحقّ والصواب.
ولو لم يجد واحدًا منهما، لا ابنة مخاض، ولا ابن لبون يتعيّن عليه شراء بنت مخاض، وهو قول مالك، وأحمد. والأصحّ عند الشافعيّة أن له أن يشتري أيهما شاء؛ لظاهر الخبر، وعمومه
(2)
.
وحجة الأولين أنهما استويا في العدم، فلزمته بنت مخاض، كما لو استويا في الوجود، والحديث محمول على وجوده، لأن ذلك للرفق به؛ إغناءً له عن الشراء، ومع عدمه لا يستغني عن الشراء، فكان شراء الأصل أولى، ذكره ابن قدامة
(3)
.
(1)
-"معالم السنن" ج 2 ص 181 - 182.
(2)
- وعبارة الحافظ: وهذا الحكم متفق عليه، فلو لم يجد واحدًا منهما، فله أن يشتري أيهما شاء على الأصحّ عند الشافعيّة. وقيل: يتعيّن شراء بنت مخاض، وهو قول مالك، وأحمد انتهى فتح ج4 ص 78.
(3)
- راجع "المرعاة" ج 6 ص 111 - 112.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله مالك، وأحمد -رحمهما اللَّه تعالى- عندي أرجح، لأن قوله في حديث الباب:"وليس عنده إلا ابن لبون" يؤيّد هذا المعنى؛ حيث شرط في قبول ابن اللبون مكان ابنة المخاض أن يوجد ابن اللبون، مع فقدها. فيفيد أنه إذا عُدما معًا لا بدّ منها. واللَّه تعالى أعلم.
(وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، إِلاَّ أَرْبَعٌ مِنَ الإِبلِ، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ) أي لا يجب عليه فيها إعطاء شيء؛ لكونها دون النصاب (إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا) أي إلا أن يريد صاحب الإبل الأربع أن يتصدّق بشيء منها، تبرّعًا، فله ذلك. واللَّه تعالى أعلم.
(وفي صدقة الغنم) متعلق بفعل محذوف، أي يَجب في صدقة الغنم، وقوله:"شاة" هو الفاعل، أو متعلّق بمبتدإ مقدّر، أي الواجب في صدقة الغنم، وخبره قوله:"شاةٌ". وقوله (في سائمتها) بدل مما قبله، وفي تكرار الجارّ إشارة إلى أن للسوم في هذا الجنس مَدْخلاً قويًا. واللَّه تعالى أعلم.
و"السائمة": هي التي ترعى، ولا تُعلف في الأهل، والمراد بالسوم لقصد الدّرّ والنسل، فلو أُسيمت الإبل، أو البقر، أو الغنم للحمل، أو الركوب، أو اللحم، فلا زكاة فيها، وإن أُسِيمت للتجارة ففيها زكاة التجارة، وإن كانت أقْلّ من النصاب إذا ساوت مائتي درهم.
والمعتبر عند أحمد، وأبي حنيفة السوم في أكثر الحول؛ لأن اسم السوم لا يزول بالعلف اليسير؛ ولأن العلف اليسير لا يمكن التحرّز عنه، فاعتباره في جميع السنة يُسقط الزكاة بالكليّة، سيما عند من يسوغ له الفرار من الزكاة، فإنه إذا أراد إسقاط الزكاة أسامها يومًا فأسقطها بالإسامة؛ ولأن الضرورة تدعو إليه في بعض الأحيان، ولأن هذا وصفٌ معتبر في رفع الكلفة في الزرع والثمار. واعتبر الشافعيّ السوم في جميع الحول، فلا تجب الزكاة فيها إذا لم تكن سائمة في جميع السنة.
وسيأتي تمام البحث في زكاة الغنم في بابه -10/ 2455 - إن شاء اللَّه تعالى.
(إِذَا كَانَتْ) الغنم (أَرْبَعِينَ) وقوله (فَفِيهَا) توكيد لقوله: "في صدقة الغنم"، وقوله (شَاة) فاعل للفعل المقدّر على الوجه الأول، أو خبر المبتدإ المقدّر على الوجه الثاني، كما أسلفته (إِلَى عِشْرِينَ ومِائَةٍ، فَإذَا زَادَتْ وَاحِدَةً) فصاعدًا، ففي كتاب عمر رضي الله عنه:"فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة حتى تبلغ مائتين، ففيها شاتان"، وقد تقدّم قول الإصطخريّ في ذلك، والتعقيب عليه، فلا تَغْفُل (فَفِيهَا شَاتَانِ، إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً) أي ولو واحدةً (فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إِلَى ثَلَاثِ مِائَةٍ، فَإذَا زَادَتْ) على ثلاثمائة مائةً أخرى، لا أقلّ منها (فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ) ففي أربعمائة أربعُ شياه، وفي خمسمائة خمس،
وفي ستمائة ست، وهكذا.
قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "فإذا زادت على ثلاثمائة الخ" إنما معناه أن يزيد مائة أخرى، فيصير أربعمائة، وذلك لأن المئين لما توالت أعدادها حتى بلغت ثلاثمائة، وعُلّقت الصدقة الواجبة فيها بمائة مائة، ثم قيل:"فإذا زادت" عُقل أن هذه الزيادة اللاحقة بها إنما هي مائة، لا ما دونها. وهو قول عامّة الفقهاء: الثوريّ، وأصحاب الرأي، وقول الحجازيين: مالك، والشافعيّ، وغيرهم -رحمهم اللَّه تعالى-.
وقال الحسن بن صالح بن حيّ: إذا زادت على ثلاثمائة واحدةً، ففيها أربع شياه انتهى
(1)
.
وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "فإذا زادت على ثلاثمائة الخ": مقتضاه أنه لا تجب الشاة الرابعة حتى توفي أربعمائة، وهو قول الجمهور، قالوا: فائدة ذكر الثلاثمائة لبيان النصاب الذي بعده؛ لكون ما قبله مختلفًا. وعن بعض الكوفيين، كالحسن بن صالح بن حيّ، ورواية عن أحمد: إذا زادت على الثلاثمائة واحدة وجبت الأربع انتهى
(2)
.
(وَلَا يُؤْخَذُ) بالبناء للمفعول، وفي رواية:"ولا تُخرج"(فِي الصَّدَقَةِ) أي المفروضة، وهي الزكاة (هَرِمَةٌ) بفتح الهاء، وكسر الراء: أي كبيرة سقطت أسنانها. وقال ابن الأثير: الطاعنة في السنّ. وقال التوربشتيّ: أراد التي نال منها كِبَرُ السنّ، وأضرّ بها (وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ) بفتح العين المهملة، وضمها: أي معيبة. وقيل: بالفتح: العيب، وبالضمّ الْعَوَرُ في العين. قاله في "الفتح". وقال ابن الأثير: بفتح العين، ويضمّ: أي صاحبة عيب ونقص. وعطف "ذات العوار" على "الهرمة" من عطف العامّ على الخاصّ إذ العيب يشمل المرض، والْهَرَم، وغيرهما.
واختُلف في ضبط العيب الذي يمنع الإجزاء في الزكاة فالأكثر على أنه ما يَثبُت به الردّ في البيع -وهو ما يوجب نقصان الثمن عند التجّار-. وقيل: ما يَمنع الإجزاء في الأضحية. ويَدخُل في المعيب المريض، والذكور بالنسبة إلى الأنوثة، والصغير بالنسبة إلى سنّ أكبر منه. أفاده في "الفتح"
(3)
.
ومحلّ عدم إجزاء المعيبة إذا كان المال كلّه سليمًا، فإن كان فيه سليمٌ ومعيبٌ أُخِذ سليمٌ وسطٌ، قيمته بين المعيب والسليم، وإن كان كلّه معيبًا أَخذ المصَدِّقُ واحدة من
(1)
- "معالم السنن" ج 2 ص 183.
(2)
- "فتح" ج 4 ص 79.
(3)
- "فتح" ج 4 ص80.
أوسطه. وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة، والشافعيّ، وأحمد، ورواية عن مالك. وفي أخرى له يكلّف رب المال الإتيان بصحيحة، أخذًا بظاهر الحديث، وهو مشهور المذهب
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الأخير هو الظاهر؛ لأن قوله - صلي اللَّه عليه وسلم -: "ولا يؤخذ في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار" مطلقٌ، حيث لم يقيّده بقوله: إلا إذا كانت كلها معيبة، فدلّ على أن الواجب في الصدقة مطلقًا هو السليم من العيب، فليتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
(وَلَا تَيْسُ الْغَنَم) -بفتح الثناة الفوقانيّة، وسكون التحتانيّة، بعدها سين مهملة-: فَحْلُ الغنم الْمُعَدّ لضِرَابها. قال في "القاموس": هو الذكر من الظباء، والمعز، والوُعُول، أو إذا أتى عليه سنة. وقال الباجيّ: التيس الذكر من المعز، وهو الذي لم يبلغ حدّ الفحولة، فلا منفعة فيه لضراب، ولا لدَرّ، ولا نسل، وبنحوه فسّر الإمام مالك، كما في "المدوّنة".
وقال العينيّ: معناه إذا كانت ماشيته كلها أو بعضها إناثاً، لا يؤخذ منه الذكر، إنما تؤخذ الأنثى، إلا في موضعين، وردت بهما السنّة: أحدهما أخذ التَّبِيع من ثلاثين من البقر. والآخر أخذ ابن اللبون من خمس وعشرين من الإبل، بدلَ بنت مخاض، عند عدمها. وأما إذا كانت ماشيته كلها ذكورًا، فيؤخذ الذكر. وقيل: إنما لا يؤخذ التيس؛ لأنه مرغوب عنه لنتنه، وفساد لحمه. أو لأنه ربما يقصد به المالك منه الفحولة، فيتضرّر بإخراجه انتهى
(2)
.
(إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْمُصَّدِّقُ) اختُلف في ضبطه ومعناه، فقيل: المراد ربّ الماشية، لا الساعي، وعلى هذا هو إما بتخفيف الصاد، وفتح الدال المشدّدة، وهذا اختيار أبي عُبيد، أي الذي أُخذت صدقة ماله، أو بتشديد الصاد، وكسر الدال المشددة، وأصله المتصدّق، فأدغمت التاء بعد قلبها في الصاد. قال تعالى:{إنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} الآية [الحديد: 18]. أو بتخفيف الصاد، وكسر الدال المشدّدة، اسم فاعل من قوله تعالى:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة: 31]. قال الراغب: يقال: صدّق، وتصدّق.
وتقدير الحديث: لا تؤخذ هرمة، ولا ذات عيب أصلاً، ولا يؤخذ التيس إلا برضا المالك؛ لكون المالك يحتاج إليه، ففي أخذه بغير اختياره إضرار به، وعلى هذا
(1)
- انظر "المنهل العذب" ج 9 ص 147. وشرح السنة ج 6 ص 13 - 14.
(2)
- "عمدة القاري" ج 9 ص 22 - 23.
فالاستثناء مختصّ بالثالث، وهو التيس.
وقيل: المراد به الساعي، وعلى هذا هو بتخفيف الصاد، وكسر الدال المشدّدة لا غير. وهذا هو المشهور في ضبطها، وهو قول المحدّثين، وعامة الرواة، كما قال الخطّابيّ، أي العامل الذي يستوفي الزكاة من أربابها. قال في "القاموس": الْمُصَدِّقُ، كمُحَدِّثٌ: آخذ الصدقات انتهى. والاستثناء متعلّق بالأقسام الثلاثة.
قال الحافظ: وكأنه يشير بذلك إلى التفويض إليه في اجتهاده؛ لكونه يجري مجرى الوكيل، فلا يتصرّف بغير المصلحة، فيتقيّد بما تقتضيه القواعد. وهذا قول الشافعيّ في "البويطيّ"، ولفظه:"ولا تُؤخذ ذات عوارٍ، ولا تيس، ولا هرمة؛ إلا أن يرى المصدّق أن ذلك أفضل للمساكين، فيأخذه على النظر" انتهى.
وهذا أشبه بقاعدة الشافعيّ في تناول الاستثناء جميعَ ما ذُكر قبله، فلو كانت الغنم كلها معيبةً مثلاً، أو تيوسًا أجزأه أن يُخرج منها. وعن المالكية يلزم المالك أن يشتري شاة مجزئة؛ تمسّكًا بظاهر هذا الحديث. وفي رواية أخرى عندهم كالأول انتهى كلام الحافظ
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدم ترجيح القول الأول من قولي مالك -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، فلا تغفل.
وقيل: الاسثناء مخصوص بما إذا كانت المواشي كلها معيبة، أو تيوسًا. قال ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: وعلى هذا -أي على ضبط "المصَدِّق" بكسر الدال، بمعنى العامل- لا يأخذ المصدِّق، وهو الساعي أحدَ هذه الثلاثة، إلا أن يرى ذلك بأن يكون جميع النصاب من جنسه، فيكون له أن يأخذ من جنس المال، فيأخذ هرمة من الهرمات، وذات عوار من أمثالها، وتيسًا من التيوس. وقال مالك، والشافعيّ: إن رأى المصدّق أن أخذ هذه الثلاثة خير له، وأنفع للفقراء، فله أخذه؛ لظاهر الاستثناء. انتهى المقصود من كلام ابن قدامه
(2)
.
وقال الطيبيّ: ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعًا، والمعنى لا يُخرج المزكّي الناقص والمعيب، لكن يُخرج ما شاء المصدّق من السليم الكامل
(3)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدم قريبًا ترجيح القول بعدم جوز أخذ الهرمة، ونحوها في الصدقة، وهذا لا ينافي قولَهُ:"إلا أن يشاء المصدّق" على القول بأن
(1)
- "فتح" ج 4 ص 80.
(2)
-"المغني" ج 2 ص 40 - 41.
(3)
- انظر "المرعاة" ج 6 ص 116 - 117.
الاستثناء للجميع؛ لأنه إذا رأى المصدّق أن الأصلح للفقراء أخذ الهرمة، أو ذات العوار، أو التيس، حيث إن قيمتها أكثر من قيمة غيرها، كانت بمنزلة السليم، بل أفضل منه، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
(وَلَا يُجْمَعُ) -بضمّ أوله، وفتح ثالثه، على البناء للمفعول، أي لا يجوز للمالك، ولا للمصدّق أن يجمع (بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ) بتقديم التاء على الفاء، من التفرّق. وفي رواية "مفترق" بتقديم الفاء على التاء، من الافتراق (وَلَا يُفَرَّقُ) -بضم أوله، وفتح ثالثه
(1)
مشدّدًا، أو مخففًا، على البناء للمفعول أيضًا، أي لا يجوز للمالك، ولا للمصدّق أن يفرق (بَيْنَ مُجْتَمِعٍ) بصيغة اسم الفاعل (خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ) بالنصب على أنه مفعول لأجله، متعلق بالفعلين على سبيل التنازع. ويحتمل أن يتعلّق بفعل مقدّر، يعمّ الفعلين، أي لا يفعل شيئًا من ذلك خشية الصدقة، أي خشية وجوب الصدقة، أو كثرتها، هذا إن عاد الكلام إلى المالك، أو خشية سقوط الصدقة، أو قلّتها، إن عاد إلى المصدّق، فالنهي للمالك والساعي كليهما، فالخشية خشيتان:
إحداهما: خشية المالك أن تجب الصدقة، أو تكثر، فيجمع، أو يفرّق:
مثال جمعه خشية كثرة الصدقة: أن يكون لرجل أربعون شاة، فجمعها، وخلطها بأربعين لغيره عند حضور المصدق؛ فرارًا عن لزوم الشاة إلى نصفها. أو يكونوا ثلاثة، لكلّ واحد منهم أربعون شاة متفرّقة، فجمعوها عند قدوم الساعي بعد الحول، حتى تجب عليهم شاة واحدة.
ومثال تفريقه خشية وجوب الصدقة، أن يكون له عشرون شاة مخلوطة بمثلها لغيره، ففرقها لئلا يكون نصابًا، فتجبَ عليه شاة. أو يكون لرجلين أو رجال أربعون شاةً مختلطةً، ففرقوها عند قدوم الساعي، حتى لا تجب عليهم زكاة أصلاً.
ومثال تفريقه خشية كثرتها أن يكون لرجل مائة شاة، وشاة مخلوطة بمثلها لغيره، فيكون عند الاجتماع والخلط ثلاث شياه، ففرقا مالهما؛ لتقلّ الصدقة، ويكون على كلّ واحد شاة واحدة فقط. ونهوا عن ذلك لأنه هُرُوب عن الحقّ الواجب، وإجحاف بالفقير.
والثاني: خشية الساعي أن تسقط الصدقة، أو تَقِل، فيجمع، أو يفرّقّ:
مثال جمعه خشية سقوط الصدقة: أن يكون رجلان لهما أربعون شاة متفرقة، فجمعها المصدّق، وخلطها حتى تجب فيها شاة.
(1)
- لم يتعرض لثانيه، مع أنه يختلف في الحالين، فمع تشديد الثالث يفتح، ومع تخفيفه يُسَكَّنُ، فليُتنبّه.
ومثال جمعه خشية أن تقلّ أن يكون لكلّ واحد منهما مائة وعشرون، فجمع بينهما ليأخذ ثلاث شياه، بدل شاتين.
ومثال تفريقه خشية قلّة الصدقة: أن يكون لثلاثةِ خُلَطاءَ مائة وعشرون شاة، وواجبها شاة واحدة، ففرقها الساعي أربعين أربعين، ليكون فيها ثلاث شياه.
ومحلّ النهي عن الجمع والتفريق خشية الصدقة في الجنس الواحد، ومن الجنس الواحد الضأن والمعز، والبقر والجاموس، والبخت والعراب من الإبل -والبخت هو المتولّد بين عربيّ وعجميّ- فلا يدخل في النهي ما اختلف جنسه، فمن كان عنده دون نصاب من البقر، ودون نصاب من الغنم مثلاً، لا يضمّ بعضه إلى بعض اتفاقًا كي يصير نصابًا تجب فيه الزكاة.
ومحلّ النهي المذكور أيضًا إذا تعدد المالك، وأما إذا اتحد المالك، وكان له ماشية ببلد لا تبلغ نصابًا، وله بأخرى ما يكمله من جنس تلك الماشية، فإنه يضمّ بعضها إلى بعض. وكذا من له نصاب في جهة، وآخر في جهة أخرى، فإنه يضمّ بعضه إلى بعض أيضًا، ولا يضرّ اختلاف الأمكنة.
وقد ذهب إلى ذلك الجمهور، ووافقهم أحمد فيما إذا كانت ماشية الرجل المتفرقة دون مسافة القصر، وأما إذا كانت بينهما مسافة القصر، فما فوقُ فلا يجمع بينها وينزل كلّ منها منزلة مال مستقلّ، فما بلغ منها نصابًا زكّاه، وإلا فلا.
قال ابن المنذر: لا أعلم هذا القول عن غير أحمد. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور هو الراجح عندي؛ لظواهر النصوص الواردة في وجوب الزكاة، حيث إنها علّقت الوجوب بالملك، لا باتحاد المحلّ. واللَّه تعالى أعلم.
ويؤخذ من عموم النهي في الحديث أن من كان عنده دون النصاب من الفضّة، ودون النصاب من الذهب لا يضمّ بعضه إلى بعض، وعلى ذلك أكثر العلماء.
وقالت الحنفيّة، والمالكيّة: يُضم بعضه إلى بعض؛ ليصير نصابًا كاملاً، فتجب فيه الزكاة، وحملوا النهي في الحديث على الماشية
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه أكثر العلماء هو الراجح؛ لموافقته لحديث الباب. واللَّه تعالى أعلم.
(وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بالسَّوِيَّةِ)"ما" هنا نكرة تامّة، متضمّنة
(1)
- راجع "المنهل العذب" ج 9 ص 148 - 149.
معنى حرف الاستفهام، ومعناها: أيّ شيء كان من خَليطين، فإنهما يتراجعان بالسويّة على قدر أموالهما.
ومعنى ذلك عند الشافعيّ، وجماعة أن ما كان متميّزًا لأحد الخليطين من المال، فأخذ الساعي من ذلك المتميّز يرجع على صاحبه بحصّته، كأن يكون لكلّ منهما عشرون شاة، وأخذ الساعي من مال أحدهما، فإنه يرجع بقيمة نصف شاة على الآخر، وإن كان لأحدهما عشرون، وللآخر أربعون مثلاً، فأخذ من صاحب العشرين، فإنه يرجع على صاحب الأربعين بالثلثين، وإن أخذ من صاحب الأربعين، فإنه يرجع على صاحب العشرين بالثلث.
وعند مالك هو كخليطين بينهما مائة شاة لأحدهما ستون، وللآخر أربعون، ففيها عليهما شاة واحدة، يكون على صاحب الأربعين خمساها، وعلى صاحب الستّين ثلاثة أخماسها، فإن أخذ الساعي الشاة الواجبة من الأربعين رجع صاحبها على صاحب الستين بقيمة ثلاثة أخماسها، وإن أخذها من الستين رجع صاحبها على صاحب الأربعين بخمسيها.
وعند أبي حنيفة يُحمل الخليط على الشريك، إذ المال إذا تميّز، وأُخذ من ذلك المشترك، فعنده يجب التراجع بالسوية، أي يرجع كلّ منهما على صاحبه بقدر ما يساوي ماله.
مثلًا إذا كان لأحدهما أربعون بقرة، وللآخر ثلاثون، والمال مشترك غير متميّز، فأخذ الساعي عن صاحب الأربعين مسنّةً، وعن صاحب الثلاثين تبيعًا، وأعطى كلّ منهما من المال المشترك، فيرجع صاحب الأربعين بأربعة أسباع التبيع على صاحب الثلاثين، وصاحبُ الثلاثين بثلاثة أسباع المسنّة على صاحب الأربعين.
(1)
وسيأتي تحقيق المسألة بالتفصيل، وترجيح المذهب الراجح بدليله في المسألة التاسعة، إن شاء اللَّه تعالى.
(فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ) ومثله المرأة (نًاقِصَةً) منصوب على أنه خبر "كانت"(مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً) منصوب على التمييز (وَاحِدَةً) بالنصب على نزع الخافض، أي بواحدة، أو على أنه مفعول "ناقصة"، أو حال من ضمير "ناقصة". ويحتمل أن يكون "شاة" مفعول "ناقصة"، و"واحدةً" وصفٌ لها، والتمييز محذوف؛ للدلالة عليه. وروي "بشاة واحدةٍ" بالجر (فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ) يعني أنه إذا كان عند الرجل سائمة تنقص واحدة من أربعين، فلا زكاة عليه فيها، وبطريق الأولى إذا نقصت زائدًا على ذلك (إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا) أي إلا إذا أراد صاحب تلك السائمة الناقصة أن يتطوّع بالتصدق منها، فله ذلك، وله الأجر العظيم.
(1)
- سيأتي ترجيحُ ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله في تفسير الخليط في المسألة التاسعة، إن شاء اللَّه تعالى.
(وَفِي الرِّقَةِ) بكسر الراء، وتخفيف القاف: هي الفضّة الخالصة، مضروبة كانت، أو غير مضروبة. قيل: أصلها الورق، فحذفت الواو، وعُوّضت الهاء. وقيل: يطلق على الذهب والفضّة، بخلاف الورق، وعلى هذا قيل: إن الأصل في زكاة النقدين نصاب الفضّة، فإذا بلغ الذهب ما قيمته مائتا درهم فضة خالصة، وجبت فيه الزكاة، وهي ربع العشر. وهذا قول الزهريّ، وخالفه الجمهور، وسيأتي البحث عن ذلك في باب زكاة الورق-18/ 2473 - إن شاء اللَّه تعالى.
(رُبْعُ الْعُشْرِ) بضم الأول، وسكون الثاني، وضمّهما فيهما (فَإِنْ لَمْ تَكُن) أي الرقة التي عنده (إِلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ) يعني أنه إذا كانت الفضّة ناقصة عن مائتي درهم، فلا يجب عليه فيها شيء، إجماعًا.
قال البغوي -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح السنّة": هذا يوهم أنها إذا زادت عليها -أي على تسعين ومائة- شيئًا قبل أن يتمّ مائتين كانت فيه الصدقة، وليس الأمر كذلك؛ لأن نصابها مائتان، وإنما ذكر تسعين لأنه آخر فصل، -أي عَقْدٍ- من فصول المائة، والحسابُ إذا جاوز المائة كان تركيبه بالفصول، كالعشرات، والمئين، والألوف، فذَكَرَ التسعين ليدلّ على أن لا صدقة فيما نقص عن كمال المائتين، بدليل قوله - صلي اللَّه عليه وسلم -:"ليس فيما دون خمس أواق من الورِقِ صدقة" انتهى كلام البغويّ
(1)
.
وقال الطيبيّ: أراد أن دلالة هذا الحديث على أقلّ ما نقص من النصاب إنما يتمّ بحديث: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة". ويُسمّى هذا في "الأصول" النصَّ المقيّد بمفارقة نصّ آخر، وينصره الحديث المرويّ عن عليّ رضي الله عنه:"وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين، ففيها خمسة دراهم" انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عليّ رضي الله عنه المذكور أخرجه أحمد، وأبو داود بإسناد حسن، وسيأتي للمصنّف برقم 2477 و 2478 مختصرًا. واللَّه تعالى أعلم.
(إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا") أي يريد مالكها أن يُعطي على سبيل التبرّع، فله ذلك، وهذا كقوله - صلي اللَّه عليه وسلم - في حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه:"إلا أن تطوّع". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هذا أخرجه البخاريّ.
(1)
- "شرح السنّة" ج 6 ص 17.
[تنبيه]: هذا الحديث أخرجه الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في عشرة مواضع من "صحيحه"، في "الزكاة" في ستّة مواضع، وفي "الشرِكَة"، وفي "الخمس"، وفي "اللباس"، وفي "ترك الحيل"، مطوّلاً، ومختصرًا بسند واحد:
قال: حدّثنا محمد بن عبد اللَّه بن المثنّى الأنصاريّ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني ثُمَامة بن عبد اللَّه بن أنس، أن أنسًا حدّثه:"أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب الخ".
وقد انتقد عليه الدارقطنيّ في "التتبّع، والاستدراك" حيث قال: إن ثمامة لم يسمع من أنس، ولا سمعه عبد اللَّه بن المثنّى من ثُمامة. ثم روى عن عليّ بن المدينيّ، عن عبد الصمد، حدثني عبد اللَّه بن المثنّى، قال: دفع إليّ ثمامة هذا الكتاب، قال: وثنا عفّان، ثنا حماد، قال: أخذت من ثمامة كتابًا عن أنس، نحو هذا، وكذا قال حماد بن زيد، عن أيوب: أعطاني ثمامة كتابا، فذكر هذا انتهى.
قال الحافظ في "مقدّمة الفتح": ليس فيما ذكر الدارقطنيّ ما يقتضي أن ثمامة لم يسمعه من أنس، كما صدّر به كلامه، فأما كون عبد اللَّه بن المثنّى لم يسمعه من ثُمامة فلا يدلّ على قدح في هذا الإسناد، بل فيه دليل على صحّة الرواية بالمناولة، إن ثبت أنه لم يسمعه مع أن في سياق البخاريّ عن عبد اللَّه بن المثنّى، حدثني ثمامة أن أنسًا حدّثه، وليس عبد الصمد فوق محمد بن عبد اللَّه الأنصاريّ في الثقة، ولا أعرفَ بحديث أبيه منه انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" في "باب زكاة الغنم" -38/ 1454 - : هذا سند مسلسل بالبصريين من آل أنس بن مالك. وعبد اللَّه بن المثنى اختَلَف فيه قولُ ابن معين، فقال مرّة: صالح، ومرّةً ليس بشيء، وقوّاه أبو زرعة، وأبو حاتم، والعجليّ، وأما النسائيّ، فقال: ليس بالقوي، وقال العقيليّ: لا يتابع في أكثر حديثه انتهى.
وقد تابعه على حديثه هذا حماد بن سلمة، فرواه عن ثمامة أنه أعطاه كتابًا زعم أن أبا بكر كتبه لأنس، وعليه خاتم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين بعثه مصدقًا
…
فذكر الحديث. هكذا أخرجه أبو داود عن أبي سلمة -موسى بن إسماعيل التبوذكيّ- عنه.
ورواه أحمد في "مسنده" قال: "حدّثنا أبو كامل، حدّثنا حماد، قال: أخذت هذا الكتاب من ثمامة بن عبد اللَّه بن أنس، عن أنس أن أبا بكر
…
" فذكره.
وقال إسحاق بن راهويه في "مسنده": أخبرنا النضر بن شميل، حدّثنا حماد بن
(1)
- "هدي الساري" ص 515.
سلمة، أخذنا هذا الكتاب من ثمامة، يحدّثه عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكره. فوضح أن حمادًا سمعه من ثمامة، وأقرأه الكتاب، فانتفى تعليل من أعلّه بكونه مكاتبة، وانتفى تعليل من أعلّه يكون عبد اللَّه بن المثنّى لم يُتابع عليه انتهى كلام الحافظ
(1)
.
وقد تكلّم ابن معين أيضًا على حديث أنس هذا، ففي "الأطراف" للمقدسيّ: قيل لابن معين: حديث ثمامة، عن أنس في الصدقات، قال: لا يصحّ، وليس بشيء، ولا يصحّ في هذا حديث في الصدقات انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وقد ردّ على كلام ابن معين هذا ابن حزم وغيره: قال الإمام أبو محمد ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى- في "المحلّى" بعد أن ساقه من طريق البخاريّ، وأبي داود، والنسائيّ، وغيرهم: ما نصّه:
هذا الحديث في نهاية الصحّة، وعَمِلَ به أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه بحضرة جميع الصحابة، لا يُعرف له منهم مخالف أصلاً، وبأقلّ من هذا يدّعي مخالفونا الإجماع، ويشنّعون علينا، رواه عن أبي بكرٍ أنسٌ، وهو صاحبٌ، ورواه عن أنس ثمامة بن عبد اللَّه بن أنس، وهو ثقة سمعه من أنس، ورواه عن ثمامة حماد بن سلمة، وعبد اللَّه ابن المثنّى، وكلاهما ثقة وإمام، ورواه عن ابن المثنّى ابنه القاضي محمد، وهو مشهور ثقة، وَلي قضاء البصرة، ورواه عن محمد بن عبد اللَّه محمدُ بنُ إسماعيل البخاريّ، جامع "الصحيح"، وأبو قلابة، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، والناس. ورواه عن حماد بن سلمة يونس بن محمد، وشُريح بن النعمان، وموسى بن إسماعيل التبوذكيّ، وأبو كامل الْمُظَفَّر بن مُدرِك، وغيرهم، وكلّ هؤلاء إمام ثقة، مشهور.
والعجب ممن يَعترض في هذا الخبر بتضعيف يحيى بن معين لحماد بن سلمة هذا! وليس في كلّ من رواه عن حمّاد بن سلمة -ممن ذكرنا- أحد إلّا وهو أجلّ وأوثق من يحيى بن معين، وإنما يؤخذ كلام يحيى بن معين وغيره إذا ضعّفوا غير مشهور بالعدالة، وأما دعوى ابن معين، أو غيره ضعف حديث رواه الثقات، أو ادّعوا فيه أنه خطأ من غير أن يذكروا فيه تدليسًا، فكلامهم مطّرَحٌ مردودٌ، لأنه دعوى بلا برهان، وقد قال اللَّه تعالى:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64]، ولا مَغْمَزَ لأحد في أحد من رُواة هذا الحديث، فمن عانده، فقد عاند الحقّ، وأَمْرَ اللَّه، وأمرَ رسوله صلى الله عليه وسلم، لا سيّما من يحتجّ في دينه بالمرسلات، وبرواية ابن لهيعة، ورواية جابر الجعفيّ المتّهم في دينه:"لا يؤمّنّ أحدٌ بعدي جالسًا"، ورواية حرام بن عثمان -الذي لا تحلّ الرواية عنه-
(1)
-"فتح" ج4 ص75.
(2)
- انظر "الجوهر النقيّ" ج4 ص89 - 90 ..
في إسقاط الصلاة عن المستحاضة بعد طهرها ثلاثة أيام، ورواية أبي زيد مولى عمرو بن حُريث في إباحة الوضوء للصلاة بالخمر، وبكل
(1)
نطيحة، أو متردّية، وما أهلّ لغير اللَّه به في مخالفة القرآن والسنن الثابتة، ثم يتعلّل في السنن الثابتة التي لم يأت ما يُعارضها، بل عَمِلَ بها الصحابةُ رضي الله عنهم، ومن بعدهم انتهى كلام ابن حزم
(2)
.
وقال الإمام البيهقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "المعرفة": لا نعلم من حَمَلة الحديث وحفّاظهم من استقصى في انتقاد الرواة ما استقصى محمد بن إسماعيل البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-، مع إمامته، وتقدمه في معرفة الرجال، وعلل الأحاديث، ثم إنه اعتمد في هذا الباب على حديث عبد اللَّه بن المثنّى الأنصاريّ، عن ثمامة، عن أنس، فأخرجه في "الصحيح" عن محمد بن عبد اللَّه بن المثنّى، عن أبيه، وذلك لكثرة الشواهد لحديثه هذا بالصحّة انتهى
(3)
.
وقال في "السنن الكبرى": قد روينا الحديث من حديث ثُمامة بن عبد اللَّه بن أنس، عن أنس، من أوجه صحيحة، ورويناه عن سالم، ونافع، موصولاً، ومرسلاً، ومن حديث عمرو بن حزم موصولاً، وجميع ذلك يشُدّ بعضه بعضًا انتهى
(4)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن العلل التي ذُكرت في حديث أنس رضي الله عنه هذا غير مقبولة، فهو حديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-5/ 2447 و 10/ 2455 - وفي "الكبرى" 5/ 2225 و 10/ 2235.
وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1450 و 1451 و 1448 و 1454 و 1455 و"الشركة" 2487 و"فرض الخمس" 3106 و"اللباس" 5879 و"الحيَل" 6955 (د) في "الزكاة" 1567 (ق) في "الزكاة" 1800 (أحمد) في "مسند العشرة" 73 و"باقي مسند المكثرين" 11578 و 1236 و 12327 و 12453 و 12529 و 12634 و 12771 و12914 و 13504 و 13677 (ابن خزيمة في "صحيحة") 2261 و2279 و 2281 و 229 (ابن حبان في "صحيحه") 3266 (الشافعيّ في "مسنده") 1/ 235 - 236 (الطحاويّ) 2/ 33 (ابن الجارود) 342 (البيهقيّ) 4/ 85 (الدارقطنيّ) 2/ 113 - 114 (البغوي) 1570 (أبو يعلى)127. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
- هكذا نسخة "المحلّى"، ولعلّ الصواب "وبأكل الخ"، فليحرّر.
(2)
- "المحلّى" ج5 ص20 - 21.
(3)
-"معرفة السنن والآثار" ج3 ص 217.
(4)
-"السنن الكبرى" ج4 ص90.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم زكاة الإبل، ونصابها (ومنها): أنه احتجّ بقوله: "إن هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المسلمين" من قال: إن الكفّار غير مخاطبين بفروع الشريعة، وقد تقدّم تحقيق الخلاف في ذلك، وأن الراجح أنهم مخاطبون بها، وأن المراد بقوله:"على المسلمين" أنها تؤخذ منهم في الدنيا، وأما الكافر فلا تؤخذ منه في الدنيا، وإنما يعاقب بها في الآخرة (ومنها): أن زكاة المواشي، ونحوها، من الأموال الظاهرة تُدفع للإمام (ومنها): أنه لا طاعة للإمام فيما خالف الشرع، حيث قال:"ومن سئل فوق ذلك، فلا يُعط"(ومنها): أن ما بين كلّ نصابين من أنصبة الماشية عفوٌ لا زكاة فيه، وهو المعروف عند الفقهاء بالْوَقَص (ومنها): أن السَّوْم شرط في وجوب زكاة الغنم، وهو مذهب الجمهور، وكذلك يشترط في زكاة الإبل، لحديث بَهْز بن حكيم المتقدّم في -4/ 2444 - (ومنها): أنه لا يجوز في الزكاة أخذ الْهَرِمة، ولا ذات العَوَار، ولا التيس، إلا أن يشاء المصدّق (ومنها): أن الحيل في الزكاة حرامٌ، على المالك، وعلى الساعي أيضًا، وذلك كأن يَجمَع بين متفرّق، أو يُفرِّق بين مجتمع، خشيةَ وجوب الصدقة، أو كثرتها، أو عدم وجوبها، أو قلّتها (ومنها): أن ما كان من الخليطين، إذا أُخذ من أحدهما فإنه يرجع على الآخر بالسويّة (ومنها): أن الفضّة إذا بلغت مائتي درهم يجب فيها ربع العشر، خمسةُ دراهم، وما كان ناقصًا من ذلك، فلا شيء فيه، إلا أن يتطوّع صاحبه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): استدلّ بقوله: "فما دون خمس وعشرين، من الإبل، في كلّ خمسِ ذَوْدٍ شاةٌ". على تعيّن إخراج الغنم في مثل ذلك، وهو قول مالك، وأحمد، فلو أخرج بعيرًا عن الأربع والعشرين لم يجزه.
وذهب الشافعيّ، والجمهور إلى أنه يجزئه، لأنه يجزئه عن خمس وعشرين، فما دونها أولى؛ ولأن الأصل أن يجب من جنس المال، وإنما عدل عنه رفقًا بالمالك، فإذا رجع باختياره إلى الأصل أجزأه. فإن كانت قيمة البعير مثلاً دون قيمة أربع شياه، ففيه خلاف مشهور عند الشافعيّة، وغيرهم، والأقيس -كما قال الحافظ- أنه لا يجزئ.
ويجوز عند الحنفيّة إذا ساوى قيمةُ المؤدَّى قيمة الواجب، كما بسط في فروعهم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه مالك، وأحمد من أن إخراج الغنم متعيّنٌ هو الصواب؛ عملاً بظاهر النصّ، فإن فيه براءةَ الذّمّة بيقين، وما عداه مشكوك فيه.
ويؤيّده أيضًا ما يأتي من قوله في صلى الله عليه وسلم: "ومن بلغت عنده صدقة الجَذَعة، وليست عنده جذَعةٌ، وعنده حقّةٌ فإنها تقبل منه الخ، فلو كان البعير يجزئ عن الشياه الأربع مثلًا لبيّنه، كما بين ذلك في وجوب ابنة مخاض، حيث قال: "فإن لم تكن بنت مخاض، فابن لبون ذكر".
وأما قولهم: ولأن الأصل أن يجب من جنس المال، وإنما عُدل عنه رفقًا الخ، فقد تُعُقّب بأنه قياس في مقابلة النصّ
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): اختُلف في الأوقاص -وهو ما بين الفرضين- على قولين: فذهب مالك في رواية، والشافعيّ في الجديد، وأحمد، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وداود إلى أنّ الزكاة في النصاب فقط، دون العفو، وهو الصحيح في مذهب مالك. وقال ابن المنذر: قال أكثر العلماء: لا شيء في الأوقاص.
وذهب مالك في رواية، والشافعيّ في القديم، ومحمد بن الحسن، وزُفَر إلى أنها في النصاب والعفو جميعًا.
ويظهر أثر الخلاف فيمن له مثلاً تسعٌ من الإبل، فتلف أربعة بعد الحول، وقبل التمكّن من الأداء، حيث قلنا: إنه شرط في الوجوب، وجبت عليه شاة بلا خلاف، وكذا إن قلنا: التمكّن شرط في الضمان، وقلنا: الوقص عفوٌ، وإن قلنا: يتعلّق به الفرض وجب خمسة أتساع شاة.
وقال النوويّ: أكثر ما يتصوّر من الأوقاص في الإبل تسعٌ وعشرون، وفي البقر تسع عشرة، وفي الغنم مائة وثمان وتسعون، ففي الإبل ما بين إحدى وتسعين، ومائة وإحدى وعشرين، وفي البقر ما بين أربعين، وستين، وفي الغنم ما بين مائتين وواحدة، وأربعمائة انتهى.
[تنبيه]: "الوقص" -بفتح الواو، والقاف، ويجوز إسكانها، وبالسين المهملة، بدل الصاد-: هو ما بين الفرضين، عند الجمهور، واستعمله الشافعيّ فيما دون النصاب الأول أيضًا. قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح المهذب": "الوقص" -بفتح القاف، وإسكانها- لغتان، أشهرهما عند أهل اللغة الفتح، والمستعمل منهما عند الفقهاء الإسكان، واقتصر الجوهريّ وغيره من أصحاب الكتب المشهورة في اللغة على الفتح،
(1)
- راجع "المرعاة": ج6 ص 100.
(2)
- "فتح" ج4 ص77.
وصنّف الإمام ابن برّيّ المتأخّر جزءًا في لحن الفقهاء، لم يُصب في كثير منه، فذكر من لحنهم "وقص" بالإسكان، وليس كما قال. وذكر القاضي أبو الطيّب الطبريّ في تعليقه في آخر "باب زكاة البقر"، وصاحب "الشامل" في "باب زكاة البقر" أيضًا، وآخرون من أصحابنا أن أكثر أهل اللغة قالوا:"الوقص" بالإسكان، وكذا قال صاحب "الشامل": أكثر أهل اللغة. وقال القاضي: الصحيح في اللغة الأول. وقال بعض أهل اللغة: هو بالفتح، فالأول ليس هو بصحيح.
واحتجّ مانع الإسكان بأنّ فَعْلًا الساكن المعتلّ الفاء، لا يُجمع على أفعال. وهذا غلط فاحش، فقد جاء وَطْبٌ وأوطابٌ، ووَغْدٌ وأوغاد، ووَعْرٌ وأوعار، وغير ذلك.
فحصل في "الوقص" لغتان. قال أهل اللغة، والقاضي أبو الطيّب، وصاحب "الشامل"، وغيرهما من أصحابنا: الشَّنَقُ -بفتح الشين المعجمة، والنون-: هو أيضًا ما بين الفريضتين، قال القاضي: أكثر أهل اللغة يقولون: الوَقَص، والشَّنَقُ سواء، لا فرق بينهما. وقال الأصمعيّ: الشَّنَق يختصّ بأوقاص الإبل، والوَقَصُ مختصّ بالبقر، والغنم، واستعمل الشافعيّ رضي الله عنه في "البويطيّ" الشنَقَ في أوقاص الإبل، والبقر، والغنم جميعًا، ويقال أيضًا: وَقَس -بالسين المهملة.
وقال أيضًا: فحصل من هذه الجملة أنه يقال: وَقَصٌ، ووقْصٌ، -بفتح القاف، وإسكانها- وشَنَقٌ، ووقس- بالسين المهملة-، وأنه يطلق على ما لا زكاة فيه، سواء كان بين نصابين، أو دون النصاب الأول، لكن أكثر استعماله فيما بين النصابين. انتهى كلام النوويّ باختصار
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): اختلفوا فيما إذا زادت الإبل على عشرين ومائة على مذاهب: (الأول): ذهب الشافعيّ، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه إلى أنها إذا زادت على العشرين ومائة واحدة، ففيها ثلاث بنات لبون إلى أن تصير مائة وثلاثين، فيجب فيها حقّة، وبنتا لبون، ثم كلما زادت عشرة كان في كلّ خمسمين حقّة، وفي كلّ أربعين بنت لبون، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، والمختار عند الحنابلة، وهو قول عمر بن عبد العزيز، والزهريّ، وأبي ثور، وابن حزم، وداود، وابن القاسم، صاحب مالك، قال الباجيّ: قول ابن قاسم روايةٌ لمالك أيضًا.
واحتُجّ لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا زادت على عشرين ومائة، ففي كلّ أربعين بنت لبون، وفي كلّ خمسين حقّة". فإنه صلى الله عليه وسلم جعل هذا الحكمَ بنفس الزيادة، والواحدة
(1)
- "المجموع" ج5 ص358 - 359.
زيادة، فعندها يجب في كلّ أربعين بنت لبون، وقد جاء مصرّحًا بذلك عند الدارقطنيّ في آخر هذا الحديث:"فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة، ففيها ثلاث بنات لبون، حتى تبلغ تسعًا وعشرين ومائة"، ومثله في كتاب عمر رضي الله عنه، وكتاب عمرو بن حزم، كما تقدّم، والحديث وإن كان فيه ضعف، إلا أنّ له شواهد يتقوّى بها. واللَّه تعالى أعلم.
وقال الخطّابيّ: فيه دليلٌ على أن الإبل إذا زادت على العشرين ومائة لم يستأنف لها الفريضة؛ لأنه علّق تغيّر الفرض بوجود الزيادة، وقد يحصل وجود الزيادة بالواحدة، كحصولها بأكثر منها، وعلى هذا وُجد الأمر في أكثر الفرائض، فإن زيادة الواحد بعد منتهى الْوَقَص توجب تغيّر الفريضة، كالواحدة بعد الخامسة والثلاثين، وبعد الخامسة والأربعين، وبعد كمال الستين
(1)
.
(الثاني): ذهب أبو عُبيد، ومحمد بن إسحاق، وأحمد في رواية إلى أنها لا تجب فيما زاد على العشرين والمائة شيء، حتى تكون مائة وثلاثين، ففيها حقّة، وبنتا لبون، فلا يتغيّر الفرض عندهم، ولا يتعدّى إلى ثلاثين ومائة، وهو رواية عن مالك، رواها عنه عبد الملك، وأشهب، وابن نافع.
واستُدلّ لهم بأن قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا زادت على عشرين ومائة
…
" الحديث، يقتضي أن يكون تغيّر الفرض في عدد يجب السِّنَّان معًا، أي المراد بالزيادة هي التي يمكن اعتبار المنصوص عليه فيها، وذلك لا يكون فيما دون العشر.
وأجيب عنه بأن هذا غير لازم، وذلك أنه إنما علّق تغيّر الفرض بوجود الزيادة على المائة والعشرين، وجعل بعدها في أربعين ابنة لبون، وفي خمسين حقّة، وقد وجدت الأربعونات الثلاث في هذا النصاب، فلا يجوز أن يسقط الفرض، ويتعطّل الحكم، وإنما اشترط وجود السّنّين في محلّين مختلفين، لا في محلّ واحد، فاشتراطهم وجودهما معًا في واحد غلطٌ.
واستُدلّ لهم أيضًا بأن الفرض لا يتغيّر بزيادة الواحدة، كسائر الفروض.
وأجيب عنه بأنه ما تغيّر بالواحدة وحدها، وإنما تغيّر بها مع ما قبلها، فأشبهت الواحدة الزائدة على التسعين، والستّين، وغيرهما.
واستدلّ لهم أيضًا بما روى أبو عُبيد في "كتاب الأموال" عن يزيد بن هارون، عن حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هرم، عن محمد بن عبد الرحمن، أن في كتاب صدقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب عمر في الصدقة: أن في الإبل إذا زادت على عشرين
(1)
- "معالم السنن" ج2 ص 178.
ومائة، فليس فيما دون العشر شيء، حتى تبلغ ثلاثين ومائة
(1)
.
وأجيب بأن هذا مرسل، ولا حجّة فيه. وأيضًا قد رواه الدارقطنيّ، والحاكم، والبيهقيّ، مطوّلاً، وفيه:"فإذا زادت على العشرين ومائة واحدة، ففيها ثلاث بنات لبون، حتى تبلغ تسعًا وعشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك، فليس فيما لا يبلغ العشر منها شيء حتى يبلغ العشر" انتهى.
وهذا -كما ترى- نصّ في القول الأول، وصريح في الرّدّ على القول الثاني.
(الثالث): ذهب مطرّف، وابن أبي حازم، وابن دينار، وأصبغ إلى أن الساعي بالخيار بين أن يأخذ في إحدى وعشرين ومائة ثلاث بنات لبون، أو حقّتين، أيّ الصنفين أدّى أجزأه إلى أن يبلغ ثلاثين ومائة، فيجب فيها حقّة وبنتا لبون، وهو رواية عن مالك أيضًا، وهو مختار فروع المالكيّة.
قال ابن حزم: قول مالك في التخيير بين إخراج حقتين، أو ثلاث بنات لبون خطأ، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرق بين حكم العشرين ومائة، فجعل حقّتين بنصّ كلامه، وبين حكم ما زاد على ذلك، فلم يجز أن يسوى بين حكمين فرق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بينهما، ولا نعلم أحدًا قبل مالك قال بهذا التخيير انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح المذاهب عندي المذهب الأول، وهو أنه إذا زادت الإبل على مائة وعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون، إلى أن تصير مائة، وثلاثين، ففيها حقّة، وبنتا لبون، ثم كلما زادت عشرة، كان في كلّ خمسين حقّة، وفي كلّ أربعين بنت لبون، لظاهر حديث الباب، وأصرح منه ما في كتاب عمر رضي الله عنه، وكتاب عمرو بن حزم، من أنه إذا كانت إحدى وعشرين ومائة، ففيها ثلاث بنات لبون، حتى تبلغ تسعًا وعشرين ومائة، والحديث، وإن تكلّم فيه إلا أنّ له شواهد تقويه، كما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): اختُلف في حكم ما بعد العشرين والمائة:
ذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعيّ، وأحمد، إلى أنه يدور الحكم بعد العشرين والمائة على الأربعينات والخمسينات أبدًا، من غير أن تُستأنف الفريضة، فيتغير الفريضة عندهم بعد العدد المذكور إلى بنت لبون في كلّ أربعين، وإلى حقّة في كلّ خمسين، ولا تعود إلى الأول.
واحتجّوا لذلك بما روي في كتاب أبي بكر الصدّيق، وفي كتاب عمر، وفي كتاب
(1)
- راجع "كتاب الأموال" ص367 - 369.
(2)
- "المحلّى" ج5 ص31.
عمرو بن حزم، وفي كتاب زياد بن لَبِيد إلى حضرموت، من قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا زادت على عشرين ومائة، ففي كلّ أربعين بنت لبون، وفي خمسين حقّة.
وذهب أبو حنفية، وأصحابه، والثوريّ، والنخعيّ إلى أنه تُستَأنَف الفريضة بعد العشرين ومائة، كما في الأول إلى مائة وخمسين؛ إلا أنه لا تجب في هذا الاستئناف بنت لبون وجذعة، فليس عندهم فيما بعد العشرين ومائة إلا حقّتان فقط، حتى تتمّ خمسًا وعشرين ومائة، فيجب فيها حقّتان وشاة، إلى ثلاثين ومائة، فهذا بلغتها، ففيها حقّتان وشاتان إلى خمس وثلاثين ومائة، ففيها حقّتان، وثلاث شياه، إلى أربعين ومائة، ففيها حقّتان، وأربع شياه، إلى خمس وأربعين ومائة، فإذا بلغتها ففيها حقّتان، وبنت مخاض، إلى خمسين ومائة، فإذا بلغتها ففيها ثلاث حقاق. هذا هو الاستئناف الأول، ثم تُستأنف الفريضة، وتجب فيه ابن لبون أيضًا على خلاف الاستئناف الأول، فيجب في مائة وخمس وخمسين ثلاث حقاق وشاة، ثم كما ذكرنا في كلّ خمس شاة مع الثلاث حقاق إلى أن تصير خمسًا وسبعين ومائة، فيجب فيها بنت مخاض، وثلاث حقاق، إلى ستّ وثمانين ومائة، فإذا بلغتها كانت فيه بنت لبون، وثلاث حقاق إلى ستّ وتسعين ومائة، فإذا بلغتها ففيها أربع حقاق إلى مائتين، ثم تستأنف الفريضة كما بعد مائة وخمسين، فتجب في كلّ خمس شاة، فإذا صارت مائتين وخمسًا وعشرين، ففيها أربع حقاق، وبنت مخاض، وفي ستّ وثلاثين ومائتين أربع حقاق، وبنت لبون إلى ستّ وأربعين ومائتين، فإذا بلغتها كانت فيها خمس حقاق إلى خمسين ومائتين، وهكذا إلى ما لا نهاية له، كلما بلغت الزيادة خمسين زاد حقة، ثم استأنف تزكيتها بالغنم، ثم ببنت مخاض، ثم ببنت لبون، ثم بالحقّة.
ولا يخفى أن هذا المذهب لا يصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "فهذا زادت على عشرين ومائة، ففي كلّ أربعين بنت لبون، وفي كلّ خمسين حقة"، فإنه يدلّ على أن مدار الحكم والحساب بعد العشرين ومائة هو الأربعون والخمسون، وعلى أنه يُجعل الكلّ على عدد الأربعينات، والخمسينات، وقد عرفت أنهم لم يجعلوا الأربعين والخمسين مدارًا للحكم، بل قالوا بالعود إلى أول الفريضة والاستئناف، وتقدّم أنه ليس في الاستئناف الأول بنت لبون أصلاً، ثم إنها وإن كانت في الاستئناف الثاني، لكن الفريضة لا تدور على الأربعين عندهم، فإنه تجب بنت لبون من ست وثلاثين إلى ستّ وأربعين، والأربعون واقع في البين، فلم يكن مدارَ الحكم، ولا يكون لتخصيصه بالذكر على مذهبهم معنى؛ لكون بنت اللبون واجبة فيما دونه، وفيما فوقه أيضًا، وكذا الحقّة تجب من ستّ وأربعين إلى خمسين، فلا يكون الخمسون مدارًا، ولا يظهر لتخصيصه في
قوله: "وفي كلّ خمسين حقّة" معنى أيضًا.
قال صاحب "العرف الشذي": الحقّ أن حديث الباب أقرب بمذهب الحجازيين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد أجمل بعد مائة وعشرين، ومذهب الحجازيين مستقيم على هذا الحديث بعد مائة وعشرين إلى الأبد. وأما مذهبنا فاستقامته إنما هو بعد خمسين ومائة انتهى.
قال صاحب "المرعاة": الحديث الذي استدلّ به أهل الحجاز لا يصدق على مذهب أهل العراق أصلاً، فإن مذهبهم كما لا يستقيم قبل الخمسين ومائة، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه عند الدارقطنيّ:"فإذا بلغت إحدى وعشرين ومائة، ففي كلّ أربعين بنت لبون، وفي كلّ خمسين حقّة"، كذلك لا يستقيم بعده أيضًا، فإن مدار بنت اللبون هو ستّ وثلاثون، لا أربعون، ومدار الحقّة ستّ وأربعون، لا خمسون، فإن هذين العددين يكونان في البين، والحديث نصّ في كون الأربعينات والخمسينات مدارًا بعد العشرين ومائة، مطّردًا دائمًا.
هذا، وقد تصدّى الحنفيّة، كالطحاوي في "شرح معاني الآثار"، والسرخسيّ في "المبسوط"، وأبي بكر الرازيّ في "أحكام القرآن"، وابن الهمام في "فتح القدير"، والزيلعيّ في "شرح الكنز"، والعينيّ في "شرح البخاريّ" للجواب عن حديث الباب، والتخلّص من مخالفته.
قال صاحب "المرعاة": ولولا أنه يطول البحث جدًا، لذكرنا كلامهم أجمعين، وبيّنّا ما في أجوبتهم من التكلّف، والتمحّل، والتلبيس، والتخليط، والفساد. وقد ذكر تقريرَ ابن الهمام وجوابَهُ الشيخُ عبد العلى بحر العلوم اللكنويّ الحنفيّ في "رسائل الأركان الأربعة"- (ص 170 - 171) ثم ردّ عليه، ورجّح مذهب الجمهور، وقال في آخر كلامه: فالأشبه ما عليه الإمام الشافعيّ، والإمام أحمد.
واحتجّ الحنفيّة لمذهبهم بما روى أبو داود في "المراسيل"، وإسحاق بن راهويه في "مسنده"، والطحاويّ في "مشكله" عن حماد بن سلمة، قال: قلت لقيس بن سعد: خذ لي كتاب محمد بن عمرو بن حزم، فأعطاني كتابًا، أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كتبه لجده، فقرأته، فكان فيه ذكر ما يُخرج من فرائض الإبل، فقصّ الحديث إلى أن يبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت أكثر من عشرين ومائة، فإنه يُعاد إلى أول فريضة الإبل، وما كان أقلّ من خمس وعشرين ففيه الغنم في كلّ خمس ذودٍ شاة". كذا في "نصب الراية".
وأجيب عنه بما قال ابن الجوزيّ في "التحقيق": إن هذا حديث مرسل. وقال هبة اللَّه الطبريّ: هذا الكتاب صحيفة ليس بسماع، ولا يَعرِفُ أهلُ المدينة عندهم عن كتاب
عمرو بن حزم إلا مثل روايتنا، رواها الزهريّ، وابن المبارك، وأبو أويس، كلهم عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جدّه، مثلَ قولنا. ثم لو تعارضت الروايتان عن عمرو بن حزم بقيت روايتنا عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، وهي في "الصحيح"، وبها عَمِلَ الخلفاءُ الأربعة.
وقال البيهقيّ في "السنن" ج4 ص94: هذا منقطع بين أبي بكر بن حزم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيس بن سعد أخذه عن كتاب، لا عن سماع، وكذلك حماد بن سلمة أخذه عن كتاب، لا سماع، وقيس بن سعد، وحماد بن سلمة، وإن كانا من الثقات، فروايتهما هذه بخلاف رواية الحفّاظ عن كتاب عمرو بن حزم وغيره، وحماد بن سلمة ساء حفظه في آخر عمره، فالحفّاظ لا يحتجّون بما يخالف فيه، ويتجنّبون ما ينفرد به عن قيس بن سعد خاصّة، وأمثاله، وهذا الحديث قد جمع الأمرين، مع ما فيه من الانقطاع.
وقال في "معرفة السنن": الحفّاظ، مثل يحيى القطّان وغيره يُضعّفون رواية حماد، عن قيس بن سعد، ثم أسند عن أحمد بن حنبل، قال: ضاع كتاب حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، فكان يحدّثهم من حفظه، ثم أسند عن ابن المدينيّ نحو ذلك.
قال البيهقيّ: ويدلّ على خطأ هذه الرواية أن عبد اللَّه بن أبي بكر بن بن محمد بن عمرو بن حزم، رواه عن أبيه، عن جدّه بخلافه، وأبو الرجال محمد بن عبد الرحمن الأنصاريّ رواه بخلافه، والزهريّ مع فضل حفظه رواه بخلافه في رواية سليمان بن داود الْخَوْلانيّ، عنه موصولاً، وفي رواية غيره مرسلاً، وإذا كان حديث حماد عن قيس مرسلاً، وخالفه عددٌ، وفيهم ولد الرجل، والكتابُ بالمدينة، يتوارثونه بينهم، فأخبروا بما وجدوا فيه، ويعرف عنه عمر بن عبد العزيز، وأمر بأن يُنسخ له، فوُجد مخالفًا ما رواه حماد، عن قيس، وموافقًا لما في كتاب أبي بكر، وما في كتاب عمر، وكتابُ أبي بكر في "الصحيح"، وكتاب عمر أسنده سفيان بن حسين، وسليمان بن كثير، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يكتبه عمر عن رأيه، إذ لا مدخل للرأي فيه، وعَمِلَ به، وأَمَرَ عُمّاله، فعملوا به، وأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم متوافرون، وأقرأ ابنَه عبد اللَّه بن عمر، وأقرأه عبد اللَّه ابنَه سالمًا، ومولاه نافعًا، وكان عندهم حتى قرأه مالك بن أنس، أفما يدلّ ذلك كله على خطأ تلك الرواية التي انفردت عن سائر الروايات، وأن الأخذ بغيرها أولى انتهى كلام البيهقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المعرفة" بتصرّف
(1)
.
(1)
-"المعرفة" ج3 ص 223 - 230.
وقال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى- في "المغني" بعد الإشارة إلى كتاب أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الذي استدلّ به الحنفيّة: ولنا أن في حديثَيِ الصدقات الذي كتبه أبو بكر لأنس، والذي كان عند آل عمر بن الخطاب مثلُ مذهبنا، وهما صحيحان، وقد رواه أبو بكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المسلمين".
وأما كتاب عمرو بن حزم، فقد اختلف في صفته، فرواه الأثرم في "سننه" مثل مذهبنا، والأخذ بذلك أولى لموافقته الأحاديث الصحاح، وموافقته القياس، فإن المال إذا وجب فيه من جنسه لم يجب من غير جنسه، كسائر بهيمة الأنعام، ولأنه مال احتمل المواساة من جنسه، فلم يجب من غير جنسه، كالبقر والغنم، وإنما وجب في الابتداء من غير جنسه لأنه ما احتمل المواساة من جنسه، فعدلنا إلى غير الجنس ضرورةً، وقد زال ذلك بزيادة المال، وكثرته، ولأنه عندهم ينتقل من بنت مخاض إلى حقّة بزيادة خمس من الإبل، وهي زيادة يسيرة، لا تقتضي الانتقال إلى حقة، فإنا لم ننتقل في محلّ الوفاق من بنت مخاض إلى حقّة إلا بزيادة إحدى وعشرين انتهى كلام ابن قُدامة
(1)
.
وقال ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-: والعجب أنهم يدّعون أنهم أصحاب قياس، وقد خالفوا في هذا المكان النصوص والقياس، فهل وجدوا فريضةً تعود بعد سقوطها؟، وهل وجدوا في أوقاص الإبل وقصًا من ثلاثة وثلاثين من الإبل؟ إذ لم يجعلوا بعد الإحدى والتسعين حكمًا زائدًا إلى خمسة وعشرين ومائة، وهل وجدوا في شيء من الإبل حكمين مختلفين في إبل واحدة، بعضها يزكّى بالإبل، وبعضها يُزكّى بالغنم؟، وهَلّا إذ ردّوا الغنم وبنت المخاض بعد إسقاطهما ردّوا أيضًا في ستّ وثلاثين زائدة على العشرين ومائة بنت اللبون؟، فإن قالوا: منعنا عن ذلك قوله عليه السلام "في كلّ خمسين حقّة"، قيل لهم: فهلّا منعكم من ردّ الغنم قوله عليه السلام: "وفي كلّ أربعين بنت لبون" انتهى كلام ابن حزم.
(2)
.
واحتجّ الحنفيّة أيضًا بما روى ابن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن عليّ رضي الله عنه، قال:"إذا زادت الإبل على عشرين ومائة يُستقبل بها الفريضة" انتهى
(3)
.
(1)
- "المغني" ج4 ص 22.
(2)
- "المحلّى" ج 6 ص 41.
(3)
- "مصنف ابن أبي شيبة" ج3 ص 125 ..
ورواه البيهقيّ بلفظ: "إذا زادت على عشرين ومائة، فبحساب ذلك يُستأنف بها الفرائض"
(1)
. قال الحافظ في "الدراية": إسناده حسن، إلا أنه اختلف على أبي إسحاق انتهى. ورواه أبو عبيد بلفظ:"استُؤنف بها الفريضة بالحساب الأول"
(2)
.
وأجيب عن هذا بما قال البيهقيّ- جـ4 ص 92 - : قد أنكر أهل العلم هذا على عاصم ابن ضمرة؛ لأن رواية عاصم بن ضمرة على خلاف كتاب آل عمرو بن حزم، وخلاف كتاب أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما.
وقال أيضًا -ص 93 - : واستدلّوا على خطئه بما فيه من الخلاف للروايات المشهورة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم عن أبي بكر، وعمر، رضي الله عنهما في الصدقات. وقال أيضًا في (ص 94) بعد ما روى من طريق عاصم بن ضمرة، والحارثِ، عن عليّ:"في خمس وعشرين خمسٌ من الغنم، فإذا زادت واحدة، ففيها بنت مخاض": ما لفظه: وفيه وفي كثير من الروايات عنه: "في خمس وعشرين خمس شياه"، وقد أجمعوا على ترك القول به لمخالفة عاصم بن ضمرة والحارث، عن عليّ الروايات المشهورة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر وعمر في الصدقات في ذلك، كذلك رواية من روى عنه الاستئناف مخالفة لتلك الروايات المشهورة، مع ما في نفسها من الاختلاف والغلط، وطَعْنِ أئمة أهل النقل فيها، فوجب تركها، والمصير إلى ما هو أقوى منها انتهى
(3)
.
ونقل الخطّابيّ في "المعالم" عن ابن المنذر أنه قال: ليس هذا النقل بثابت عن عليّ رضي الله عنه.
وروى البيهقيّ- جـ4 ص 93 - من طريق شريك- وشعبة- وابنُ حزم- جـ6 ص 38 - من طريق معمر- كلهم عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن عليّ رضي الله عنه، قال:"إذا زادت على عشرين ومائة، ففي كلّ خمسين حقّةٌ، وفي كلّ أربعين ابنة لبون"، موافقًا للروايات المشهورة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال الحازميّ في "كتاب الاعتبار"- ص 10 - : (الوجه الثامن عشر) من الترجيحات أن يكون أحد الحديثين قد اختلفت الرواية فيه، والثاني لم يُختلف فيه، فيُقَدّم الذي لم يُختلف فيه، وذلك نحو ما رواه أنس في زكاة الإبل:"إذا زادت على عشرين ومائة، ففي كلّ أربعين بنت لبون، وفي كلّ خمسين حقّة". وهو حديث مخرّج في "الصحيح" من رواية ثُمامة، عن أنس، ورواه عن ثمامة ابنه عبد اللَّه، وحماد بن سلمة، ورواه
(1)
- "السنن الكبرى" ج 4 ص 92.
(2)
-" كتاب الأموال" ص 363.
(3)
- "السنن الكبرى للبيهقي" ج4 ص 92 - 94.
عنهما جماعة كلهم قد اتفقوا عليه من غير اختلاف بينهم.
ثم ذكر الاختلاف في رواية أبي إسحاق، عن عاصم، عن عليّ رضي الله عنه، ثم قال: فحديث أنس لم تختلف الرواية فيه، وحديث عليّ اختلفت الرواية فيه، كما ترى، فالمصير إلى حديث أنس أولى؛ للمعنى الذي ذكرناه، على أن كثيرًا من الحفّاظ أحالوا الغلط في حديث عليّ على عاصم، وإذا تقابلت حجتان، فما سَلِمَ منهما من المعارض أولى، كالبيّنات إذا تقابلت، فإن الحكم فيها كذلك انتهى كلام الحازميّ.
وقال الشافعيّ بعد ذكر رواية شريك، عن أبي إسحاق، موافقًا لحديث أنس كما قدّمنا: وبهذا نقول، وهو موافق للسنّة، وهم -يعني العراقيين- لا يأخذون بهذا، فيخالفون ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، والثابت عن عليّ عندهم إلى قول إبراهيم -النخعيّ- وشيء يغلط به عن عليّ رضي الله عنه انتهى.
وقد تصدّى الحنفيّة، وتمحّلوا لإثبات أن رواية سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم ابن ضمرة، عن عليّ، مسندة مرفوعة. وقد ردّ عليهم ابن حزم، فأجاد، من أحبّ الوقوف عليه رجع إلى "المحلّى" جـ6 ص 37 - 38 - .
واحتجّوا أيضًا بما رواه الطحاويّ عن خُصَيف، عن أبي عُبيدة، وزياد بن أبي مريم، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"فإذا بلغت العشرين ومائة، استقبلت الفريضة بالغنم، في كلّ خمس شاةٌ، فإذا بلغت خمسًا وعشرين، ففرائض الإبل".
واعترضه البيهقيّ بأنه موقوف، ومنقطع بين أبي عُبيدة، وزياد، وبين ابن مسعود، قال: وخُصيف غير محتجّ به. انتهى
(1)
.
وقال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وقال محمد بن جرير الطبريّ: هو مخيّر إن شاء استأنف الفريضة إذا زادت الإبل على مائة وعشرين، وإن شاء أخرج الفرائض لأن الخبرين جميعًا، قد رُويا.
قال الخطابيّ: وهذا قول لا يصحّ؛ لأن الأمة قد فرّقت بين المذهبين، واشتهر الخلاف فيه بين العلماء، فكلّ من رأى استئناف الفريضة لم ير إخراج الفرائض، ومن رأى إخراج الفرائض لم يُجِز استئناف الفريضة، فهما قولان متنافيان. على أن رواية عاصم بن ضمرة عن عليّ رضي الله عنه عنه لا تقاوم لضعفها روايةَ حديث أنس، وهو حديث صحيح، ذكره البخاريّ في "جامعه" عن محمد بن عبد اللَّه الأنصاريّ، عن أبيه، عن ثمامة، عن أنس، عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما، وفي حديث عاصم بن ضمرة كلام
(1)
- "معرفة السنن" ج3 ص 224.
متروك بالإجماع، غير مأخوذ به في قول أحد من العلماء، وهو أنه قال:"في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه". وروى أبو داود الحديثين معًا في هذا الباب، وذكر أن شعبة وسفيان لم يرفعا حديث عاصم بن ضمرة، ووقفاه على عليّ رضي الله عنه انتهى كلام الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال صاحب "المرعاة" بعد ذكر الأقوال وأدلتها: ما نصّه:
وقد ظهر بما حرّرنا فسادُ قول الحنفيّة، وخلافهم للروايات المرفوعة المشهورة، ولأبي بكر، وعمر، وعليّ، وأنس، وابن عمر، وسائر الصحابة، والتابعين، دون أن يتعلّقوا برواية صريحة صحيحة عن أحد منهم بمثل قولهم، إلا عن إبراهيم النخعيّ وحده. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أرجح المذاهب في هذه المسألة مذهب الجمهور القائلين بمقتضى حديث أنس رضي الله عنه المذكور في هذا الباب؛ لوضوح حجته. وحاصله أنه إذا زادت الشياه على مائة وعشرين وجب في كلّ أربعين بنت لبون، وفي كلّ خمسين حقّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم: "ويجعل معها شاتين، إن استيسرتا، أو عشرين درهما":
فذهب إلى ظاهر الحديث إبراهيم النخعيّ، والشافعيّ، وأصحاب الحديث، والظاهرية.
وذهب سفيان الثوريّ إلى ما روي عن عليّ رضي الله عنه أنه يَرُدّ عشرة دراهم، أو شاتين. قال ابن حزم: وروي أيضًا عن عمر رضي الله عنه، وإليه ذهب أبو عُبيد.
وقال مالك: لا يُعطي إلا ما وجب عليه، بأن يبتاع للساعي السنّ الذي وجب له، ولا يعطي سنّا مكان سنّ بردّ شاتين، أو عشرين درهمًا.
وقال أبو حنيفة: يأخذ قيمة السنّ الذي وجب عليه، وإن شاء أخذ أفضل منها، وردّ عليه فيه دراهم، وإن شاء أخذ دونها، وأخذ الفضل دراهم، ولم يُعيّن عشرين درهمًا، ولا غيرها، فجبران ما بين السنّين غير مقدّر عنده، ولكنه بحسب الغلاء والرخص، وحمل هذا الحديث على أن تفاوت ما بين السّنّين كان ذلك القدر في تلك الأيام، لا أنه تقدير شرعيّ، بدليل ما روي عن عليّ رضي الله عنه أنه قدّر جبران ما بين السّنّين بشاتين، أو عشرة دراهم، وروي أيضًا عن عمر رضي الله عنه.
(1)
- "معالم السنن" ج 2 ص 179.
وتعقّب هذا بأنه لا حجّة في قول أحد دون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وأجاز أبو حنيفة أيضًا أداء القيمة من العُرُوض وغيرها بدل الزكاة الواجبة، وإن كان المأمور بأخذه ممكنًا
(1)
.
وأجاب الجمهورالذين لم يقولوا بجواز أداء القيمة في الزكاة عن ذلك بأنه لو كان كذلك لكان ينظر إلى ما بين السنّين في القيمة، فكان العرض يزيد تارة، وينقص أخرى؛ لاختلاف ذلك في الأمكنة والأزمنة، فلما قدّر الشارع التفاوت بمقدار معيّن لا يزيد، ولا ينقص كان ذلك هو الواجب في الأصل في مثل ذلك.
قال الخطابيّ في "المعالم": وأصحّ هذه الأقاويل قول من ذهب إلى أن كلّ واحد من الشاتين، والعشرين درهمًا أصل في نفسه، وأنه ليس له أن يعدل عنهما إلى القيمة، ولو كان للقيمة فيها مدخل لم يكن لنقله الفريضة إلى سنّ فوقها، وأسفل منها، ولا لجبران النقصان فيهما بالعشرين، أو بالشاتين معنىً.
قال: ويشبه أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما جعل الشاتين، أو العشرين درهمًا تقديرًا في جبران النقصان، والزيادة بين السّنّين، ولم يَكِلِ الأمرَ في ذلك إلى اجتهاد الساعي، وإلى تقديره؛ لأن الساعي إنما يحضر الأموال على المياه، وليس بحضرته حاكمٌ، ولا مُقَوِّمٌ يحمله وربَّ المال عند اختلافهما على قيمة يرتفع بها الخلاف، وتنقطع معها مادّة النزاع، فجُعِلت فيها قيمة شرعيّة، كالقيمة في المصرّاة، والجنين حسمًا لمادة الخلاف، مع تعذّر الوصول إلى حقيقة العدم بما يجب فيها عند التعديل انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): اختلفوا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وما من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية":
(اعلم): أن الْخُلطة -بضمّ الخاء المعجمة، وسكون اللام- على نوعين: خُلْطة اشتراك، وخُلطة جِوَار، وقد يُعبّر عن الأول بخلطة الأعيان، وخلطة الشيوع، وعن الثاني بخلطة الأوصاف.
والمراد بالأول أن لا يتميّز نصيب أحد الرجلين، أو الرجال عن نصيب غيره، كماشية ورثها قوم، أو ابتاعوها معًا. وبالثاني أن يكون مال كلّ واحد معيّنًا.
(1)
- سيأتي إن شاء اللَّه تعالى ترجيح هذا المذهب إذا رأى الساعي ذلك أنفع للفقراء، كما فعل معاذ ابن جبل رضي الله عنه مع أهل اليمن، وهو مذهب الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-، وإليه يميل شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه اللَّه تعالى-.
(2)
- "معالم السنن" ج2 ص180 - 181.
واختلف في المراد بالخليط في هذا الحديث:
فذهب أبو حنيفة إلى أنه الشريك؛ لأن الخليطين في اللغة العربيّة هما الشريكان اللذان اختلط مالهما، ولم يتميّز، كالخليطين من النبيذ، وما لم يختلط مع غيره فليسا بخليطين، وإذا يتميز مال كلّ واحد منهما من مال الآخر، فلا خُلْطة.
وذهب الجمهور إلى أن المراد بالخليط المخالط، وهو أعمّ من الشريك، وحكم الخليطين عندهم أَنْ تُصدَّق ما شيتهما كأنها لرجل واحد. والخلطة عندهم أن يجتمعا في الْمَسْرَح، والمبيت، والفحل.
واعتُرِض على أبي حنيفة بأن الشريك لا يَعرِف عين ماله، وقد قال: إنهما يتراجعان بينهما بالسويّة. ومما يدلّ على أن الخليط لا يستلزم أن يكون شريكًا قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} الآية [ص: 24]، وقد بيّنه قبل ذلك بقوله:{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} الآية. [ص: 23].
واختُلف أيضًا في أن الخلطة مؤثّرة في الزكاة أم لا؟:
فذهب الجمهور إلى كونها مؤثّرة. وقال أبو حنيفة: لا تأثير للخلطة، سواء كانت خلطة شيوع واشتراك في الأعيان، أو خلطة أوصاف وجوار في المكان، فلا يجب على أحد الشريكين، أو الشركاء إلا مثل الذي كان يجب عليه لو لم يكن خليطًا.
وتعقّبه ابن جرير بأنه لو كان تفريقها مثل جمعها في الحكم لبطلت فائدة الحديث، وإنما نُهي عن أمر لو فعله كانت فيه فائدة قبل النهي، ولو كان كما قال لما كان لتراجع الخليطين بينهما بالسويّة معنى.
واعتذر بعضهم عن الحنفيّة بأن الأصل قوله عمرو: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة"، وحكم الخلطة يغيّر هذا الأصل، فلم يقولوا به.
ورُدّ بأن ذلك مع الانفراد، وعدم الخلطة، لا إذا انضمّ ما دون الخَمْس إلى عدد الخليط يكون به الجميع نصابًا، فإنه يجب تزكية الجميع؛ لهذا الحديث، وما ورد في معناه، ولا بدّ من الجمع بهذا.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بل الأحسن الجمع بما قاله الحنفيّة، كما سيأتي قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.
قال الإمام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى- في "المغني": ما حاصله: إن الخُلْطة في السائمة تجعل مال الرجلين كمال الرجل الواحد في الزكاة، سواء كانت خلطة أعيان، وهي أن تكون الماشية مشتركة بينهما لكلّ واحد منهما نصيب مشاع، مثل أن يرثا نصابًا، أو يشترياه، أو يوهب لهما، فيُبْقِيَاه بحاله. أو خُلْطة أوصاف، وهي أن يكون
مال كل واحد منهما متميّزًا، فخلطاه، واشتركا في الْمَسرَح، والمبيت، والْمَحلَب، والْمَشْرَب، والفحل، وسواء تساويا في الشركة، أو اختلفا، مثل أن يكون لرجل شاة، ولآخر تسعة وثلاثون، أو يكون لأربعين رجلاً أربعون شاةً، لكل واحد منهم شاة. نصّ عليهما أحمد.
وهذا قول عطاء، والأوزاعيّ، والشافعيّ، والليث، وإسحاق. وقال مالك: إنما تؤثّر الخلطة إذا كان لكلّ واحد من الشركاء نصاب. وحكي ذلك عن الثوريّ، وأبي ثور، واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة: لا أثر لها بحال؛ لأن ملك كلّ واحد دون النصاب، فلم يجب عليه زكاة؛ كما لو لم يختلط بغيره.
ولأبي حنيفة فيما إذا اختلطا في نصابين أن كلّ واحد منهما يملك أربعين من الغنم، فوجبت عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"في أربعين شاة شاة".
ولنا ما روى البخاريّ في حديث أنس رضي الله عنه: "لا يُجمع بين متفرّق، ولا يُفرَّق بين مجتمع، خشية الصدقة، وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بالسويّة". ولا يجيء التراجع إلا على قولنا في خلطة الأوصاف. وقوله: "لا يُجمع بين متفرّق" إنما يكون هذا إذا كان لجماعة، فإن الواحد يضمّ ما له بعضه إلى بعض، وإن كان في أماكن، وهكذا لا يفرّق بين مجتمع. ولأن للخلطة تأثيرًا في تخفيف المؤنة، فجاز أن تؤثّر في الزكاة، كالسوم، والسقي، وقياسهم مع مخالفة النصّ غير مسموع انتهى كلام ابن قُدامة
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "قياسهم مع مخالفة النصّ الخ فيه نظر لا يخفى، وسيأتي في كلام ابن حزم ما يردّه، إن شاء اللَّه تعالى.
وقد حقّق أبو محمد ابن حزم المسألة تحقيقًا حسنًا، ورجّح ما ذهب إليه الحنفيّة، ودونك خلاصة ما قاله في كتابه "المحلّى"، قال -رحمه اللَّه تعالى-:
والخلطة في الماشية، أو غيرها لا تُحيل حكم الزكاة، ولكلّ أحد حكمه في ماله خالط، أو لم يخالط، لا فرق بين شيء من ذلك. قال: وقد اختلف الناس في تأويل خبر: "لا يجمع بين مفترق، ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسويّة".
فقالت طائفة: إذا تخالط اثنان، فأكثر في إبل، أو في بقر، أو في غنم، فإنهم تؤخذ من ماشيتهم الزكاة، كما كانت تؤخذ لو كانت لواحد، والخلطة عندهم أن تجتمع
(1)
- "المغني" ج4 ص 51 - 53.
الماشية في الراعي، والمراح، والمسرح، والمسقى، ومواضع الحلب عامًا كاملاً متصلًا، وإلا فليست خلطة؛ وسواء كانت ماشيتهم مُشاعة، لا تتميّز، أو متميّزة، وزاد بعضهم الدلو، والفحل.
قال أبو محمد: وهذا القول مملوء من الخطأ.
أول ذلك أن ذكرهم الراعي كان يُغني عن ذكر المسرح والمسقى؛ لأنه لا يمكن البتّة أن يكون الراعي واحدًا، وتختلف مسارحها، ومساقيها، فصار ذكر المسرح والمسقى فضولاً.
وأيضًا فإن ذكر الفحل خطأ؛ لأنه قد يكون لإنسان واحد فحلان، وأكثر؛ لكثرة ماشيته، وراعيان، وأكثر لكثرة ماشيته، فينبغي لهم إذا أوجب اختلاطهما في الراعي والعمل أن يزكيها زكاة المنفرد، وأن تجمع ماشية إنسان واحد إذا كان له راعيان وفحلان، وهذا لا تخلّص منه.
ونسألهم إذا اختلطا في بعض هذه الوجوه: ألهما حكم الخلطة أم لا؟ فأيّ ذلك قالوا، فلا سبيل أن يكون قولهم إلا تحكّما، فاسدًا، بلا برهان، وما كان هكذا فهو باطل بلا شكّ.
قال: وهذا قول الليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، والشافعيّ، وأبي بكر بن داود فيمن وافقه من أصحابنا. حتى إن الشافعيّ رأى حكم الخلطة جاريا كذلك في الثمار، والزروع، والدراهم، والدنانير، فرأى في جماعة بينهم خمسة أوسق فقط أن الزكاة فيها، وأن جماعة يملكون مائتي درهم فقط، أو عشرين دينارًا فقط، وهم خلطاء أن الزكاة واجبة في ذلك، ولو أنهم ألف، أو أكثر، أو أقلّ.
وقالت طائفة: إن كان يقع لكلّ واحد من الخلطاء ما فيه الزكاة زَكَّوا حينئذ زكاة المنفرد، وإن كان لا يقع لكلّ واحد منهم ما فيه الزكاة، فلا زكاة عليهم، ومن كان منهم يقع له ما فيه الزكاة، فعليه الزكاة، ومن كان غيره منهم لا يقع له ما فيه الزكاة فلا زكاة عليه. فرأى هؤلاء في اثنين فصاعدًا يملكان أربعين شاة، أو ستين، أو ما دون الثمانين، أو ثلاثين من البقر، أو ما دون الستين، وكذلك في الإبل، فلا زكاة عليهم، فإن كان ثلاثة يملكون مائة وعشرين شاة، لكلّ واحد منهم ثلثها، فليس عليهم إلا شاة واحدة فقط، وهكذا في سائر المواشي. ولم ير هؤلاء حكم الخلطة إلا في المواشي فقط.
وهو قول الأوزاعيّ، ومالك، وأبي ثور، وأبي عبيد، وأبي الحسن بن المغلس من أصحابنا
(1)
.
(1)
-يعني الظاهرية.
وقالت طائفة: لا تُحيل الخلطة حكم الزكاة أصلاً، لا في الماشية، ولا في غيرها، وكلّ خليط ليزكي ما معه كما لو لم يكن خليطًا، ولا فرق، فإن كان ثلاثة خلطاء لكلّ واحد أربعون شاةً، فعليهم ثلاث شياه، على كلّ واحد منهم شاة، وإن كان خمسة لكلّ واحد منهم خمس من الإبل، وهم خلطاء، فعلى كلّ واحد شاة، وهكذا القول في كلّ شيء. وهو قول سفيان الثوريّ، وأبي حنيفة، وشريك بن عبد اللَّه، والحسن بن حيّ. قال أبو محمد: لم نجد في هذه المسألة قولة لأحد من الصحابة، ووجدنا أقوالًا عن عطاء، وطاوس، وابن هرمز، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، والزهريّ فقط.
روينا عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس أنه كان يقول: إذا كان الخليطان يعلمان أموالهما، فلا تجمع أموالهما في الصدقة، قال ابن جريج: فذكرت هذا لعطاء من قول طاوس، فقال: ما أراه إلا حقًا. وروينا عن معمر، عن الزهريّ، قال: إذا كان راعيهما واحدًا، وكانت ترد جميعًا، وتروح جميعًا، صُدَّقَت جميعًا. ومن طريق ابن وهب، عن الليث، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ أنه قال: إن الإبل إذا جمعها الراعي، والفحل، والحوض، تصدق جميعًا، ثم يتحاصّ أصحابها على عدّة الإبل في قيمة الفريضة التي أخذت من الإبل، فإن كان استودعه إياها لا يريد مخالطته، ولا وضعها عنده يريد نتاجها، فإن تلك تُصَدّق وحدها. وعن ابن هرمز مثل قول مالك.
قال أبو محمد: احتجّت كلّ طائفة لقولها بحكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي صدّرنا به، فقال من رأى الخلطة تُحيل الصدقة، وتجعل مال الاثنين فصاعدًا بمنزلة ما لو كان لواحد أن معنى قوله عليه السلام:"لا يفرّق بين مجتمع، ولا يجتمع بين مفترق، خشية الصدقة" هو أن يكون لثلاثة مائة وعشرون شاة، لكلّ واحد منهم ثلثها، وهم خلطاء، فلا يجب عليهم إلا شاة واحدة، فنهى المصدّق أن يفترق بينها ليأخذ من كلّ واحد نصفها، فيجبَ عليهما ثلاث شياه، والرجلان يكون لهما مائتا شاة، وشاتان، لكل واحد نصفها، فيجب عليهما ثلاث شياه، فيفرّقانها، خشية الصدقة، فليزم كلّ واحد منهما شاة، فلا يأخذ المصدّق إلا شاتين.
وقالوا: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وما كان من خليطين يتراجعان بينهما بالسوية" هو أن يعرفا ما أخذ الساعي، فيقع على كلّ واحد حصّته على حسب عدد ماشيته، كاثنين لأحدهما أربعون شاة، وللآخر ثمانون، وهما خليطان، فعليهما شاة واحد، على صاحب الثمانين ثلثاها، وعلى صاحب الأربعين ثلثها.
وقال من رأى أن الخلطة لا تحيل حكم الصدقة: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يفرّق بين مجتمع، ولا يجمع بين مفترق، خشية الصدقة": هو أن يكون لثلاثة مائة وعشرون
شاة، ولكلّ واحد ثلثها، فيجب على كلّ واحد شاة، فنهوا عن جمعها، وهي متفرّقة في ملكهم تلبيسًا على الساعي أنها لواحد، فلا يأخذ إلا واحدة، والمسلم يكون له مائتا شاة وشاتان، فيجب عليه ثلاث شياه، فيفرقها قسمين، ويلبس على الساعي أنها لاثنين؛ لئلا يعطي منها إلا شاتين، وكذلك نهى المصدّق أيضًا عن أن يجمع على الاثنين، فصاعدًا مالهم ليكثر ما يأخذ، وعن أن يفرّق مال الواحد في الصدقة، وإن وجده في مكانين متباعدين ليكثر ما يأخذ.
وقالوا: معنى قوله- عليه السلام: "كلّ خليطين يترادّان بينهما بالسويّة": هو أن الخليطين في اللغة التي بها خاطبنا عليه السلام هما ما اختلط مع غيره، فلم يتميّز، ولذلك سمّي الخليطان من النبيذ بهذا الاسم، وأما ما لم يختلط مع غيره فليسا خليطين، هذا ما لا يشكّ فيه، قالوا: فليس الخليطان في المال إلا الشريكين فيه اللذين لا يتميّز مال أحدهما من الآخر، فإن يتميّز فليسا خليطين، قالوا: فإذا كان خليطان كما ذكرنا، وجاء المصدّق ففرضٌ عليه أن يأخذ من جملة المال الزكاة الواجبة على كلّ واحد منهما في ماله، وليس عليه أن ينتظر قسمتهما لمالهما، ولعلهما لا يريدان القسمة، وإن كانا حاضرين، فليس له أن يُجبرهما على القسمة، فإذا أخذ زكاتيهما، فإنهما يترادّان بالسويّة، كاثنين لأحدهما ثمانون شاة، وللآخر أربعون، وهما شريكان في جميعها، فيأخذ المصدّق شاتين، وقد كان لأحدهما ثلثا كلّ شاة منهما، وللآخر ثلثها، فيترادّان بالسويّة، فيبقى لصاحب الأربعين تسع وثلاثون، ولصاحب الثمانين تسع وسبعون. قال أبو محمد: فاستوت دعوى الطائفتين في ظاهر الخبر، ولم تكن لإحداهما مزيّةٌ على الأخرى في الخبر المذكور.
فنظرنا في ذلك، فوجدنا تأويل الطائفة التي رأت أن الخلطة لا تُحيل حكم الزكاة أصحّ؛ لأن كثيرًا من تفسيرهم المذكور متفقٌ من جميع أهل العلم على صحته، وليس شيء من تفسير الطائفة الأخرى مجمعًا عليه، فبطل تأويلهم لتعرّيه من البرهان، وصحّ تأويل الأخرى؛ لأنه لا شكّ في صحة ما اتفق عليه، ولا يجوز أن يضاف إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قول لا يدلّّ على صحته نصّ، ولا إجماع، فهذه حجة صحيحة.
ووجدنا أيضًا الثابت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قوله: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة"، وأن من لم يكن له إلا أربع من الإبل فلا صدقة عليه، "وليس فيما دون أربعين شاة شيء"، وسائر ما نصّه عنه عليه السلام في صدقة الغنم، والإبل من أن في أربعين شاة شاة، وفي خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض، وغير ذلك.
ووجدنا من لم يُحِلْ بالخلطة حكم الزكاة قد أخذ بجميع هذه النصوص، ولم
يُخالف شيئا منها. ووجدنا من أحال بالخلطة حكم الزكاة يرى في خمسة لكلّ واحد منهم خمس من الإبل أن على كلّ واحد منهم خُمُس بنت مخاض، وأن ثلاثة لهم مائة وعشرون شاة على السواء بينهم أن على كلّ امرئ منهم ثُلُث شاة، وأن عشرة رجال لهم خمس من الإبل بينهم، فإن بعضهم يوجب على كلّ واحد منهم عُشْر شاة، وهذه زكاة ما أوجبها اللَّه تعالى قط، وخلاف لحكمه تعالى، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم انتهى المقصود من كلام ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي حرّره ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى- من ترجيح تفسير الخليطين بالشريكين، هو الذي يترجّح عندي؛ لما قرّره في كلامه المذكور آنفًا.
والحاصل أن ما ذهب إليه الثوريّ، وأبو حنفية، وشريك بن عبد اللَّه، والحسن بن حيّ، أرجح المذاهب، لما ذُكر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
6 - (بَابُ مَانِعِ زَكَاة الإِبِلِ)
أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على عقاب مانع زكاة الإبل.
2448 -
(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
(1)
شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ
(2)
، مِمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ، مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يُحَدِّثُ بِهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَأْتِي الإِبِلُ عَلَى رَبِّهَا، عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا هِيَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَأْتِي الْغَنَمُ عَلَى رَبِّهَا، عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا"، قَالَ: "وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ، أَلَا لَا يَأْتِيَنَّ أَحَدُكُمْ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِبَعِيرٍ، يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، لَهُ رُغَاءٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ، أَلَا لَا يَأْتِيَنَّ أَحَدُكُمْ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ، يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ، لَهَا يُعَارٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ"، قَالَ: "وَيَكُونُ كَنْزُ أَحَدِهِمْ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، شُجَاعًا أَقْرَعَ، يَفِرُّ مِنْهُ
(1)
- وفي نسخة: "حدثني".
(2)
- وفي نسخة: "أبو الزناد في حديث عبد الرحمن الأعرج ما ذكر أنه سمع".
صَاحِبُهُ، وَيَطْلُبُهُ، أَنَا كَنْزُكَ، فَلَا يَزَالُ حَتَّى يُلْقِمَهُ أُصْبُعَهُ»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عمران بكّار) بن راشد الكَلاعيّ البرّاد الحمصيّ المؤذّن، ثقة [11] 17/ 1541.
2 -
(عليّ بن عيّاش) الألهانيّ الحمصيّ، ثقة ثبت [9] 123/ 182.
3 -
(شعيب) بن أبي حمزة دينار الحمصيّ، ثقة عابد [7] 69/ 85.
4 -
(أبو الزناد) عبد اللَّه بن ذكون القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة فقيه [5] 7/ 7.
5 -
(عبد الرحمن الأعرج) ابن هرمز، أبو داود المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 7/ 7.
6 -
(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أن النصف الأول منه حمصيون، والنصف الثاني مدنيون. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه أبا هريرة أكثر الصحابة رواية للحديث، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن شعيب بن أبي حمزة، أنه (قال: حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ، مِمَّا حدَّثهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأعْرَجُ) متعلق بـ"حدثني"، و"من" للتبعيض، أي بعض ما حدّثه عبد الرحمن بن هُرْمز الأعرج (مِمَّا ذَكَرَ)"من" متعلّق بحال مقدّر، أي حال كونه من جملة ما ذكر (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يُحَدِّثُ بِهِ) جملة في محلّ نصب على الحال من أبي هريرة (قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:("تَأْتِي الإِبِلُ) يعني يوم القيامة، كما صرّح به في رواية أخرى (عَلَى رَبِّهَا) أي صاحبها، ومالكها، والربّ هنا بمعنى المالك، وله معان أُخر، ويستعمل في غير اللَّه تعالى مضافًا، كما في هذا الحديث، ولا يستعمل مع الإطلاق إلا في حقّ اللَّه تعالى.
[فإن قلت]: كيف أطلق الربّ على المالك في هذا الحديث، وحديثِ ضالّة الإبل:"حتى يلقاها ربّها"، وحديثِ أشراط الساعة:"أن تلد الأمة ربّها"، وكلها في "الصحيحين"، مع ورود النهي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه، فقد روى الشيخان، عن محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، أنه سمع أبا هريرة، رضي الله عنه، يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "لا يقل أحدكم: أطعم
ربك، وَضِّئْ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي، مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي، وفتاتي، وغلامي". هذا لفظ البخاريّ.
ولفظ مسلم: "لا يقل أحدكم: اسق ربك، أطعم ربك، وضئ ربك، ولا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي، مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي، فتاتي، غلامي".
[قلت]: أجاب عنه العلماء، فقال ابن الأثير: إن البهائم غير متعبّدة، ولا مخاطبة، فهي بمنزلة الأموال التي يجوز إضافة مالكيها إليها، وجعلهم أربابًا لها. قال: فأما قوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]، فإنه خاطبهم على المتعارف عندهم، وعلى ما كانوا يسمونهم به، ومثله قول موسى عليه السلام للسامريّ:{وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} [طه: 97]، أي الذي اتخذته إلهًا انتهى كلام ابن الأثير بتصرّف
(1)
.
وقال في "الفتح" عند شرح حديث النهي المذكور: ما نصّه: والسبب في النهي أن حقيقة الربوبيّة للَّه تعالى؛ لأن الربّ هو المالك، والقائم بالشيء، فلا توجد حقيقة ذلك إلا للَّه تعالى.
قال الخطّابيّ: سبب المنع أن الإنسان مربوب متعبّد بإخلاص التوحيد للَّه، وترك الإشراك معه، فكره له المضاهاة في الاسم؛ لئلا يدخل في معنى الشرك، ولا فرق في ذلك بين الحرّ والعبد، فأما ما لا تعبّد عليه من سائر الحيوانات، والجمادات، فلا يكره إطلاق ذلك عليه عند الإضافة، كقوله:"ربّ الدار"، و"رب الثوب".
وقال ابن بطّال: لا يجوز أن يقال لأحد غير اللَّه ربّ، كما لا يجوز أن يقال له إله. انتهى.
والذي يختصّ باللَّه تعالى إطلاق الربّ بلا إضافة، وأما مع الإضافة، فيجوز إطلاقه، كما في قوله تعالى حكايته عن يوسف عليه السلام:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]، وقوله:{ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50]، وقوله صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة:"أن تلد الأمة ربها"، فدلّ على أن النهي في ذلك محمول على الإطلاق.
ويحتمل أن يكون النهي للتنزيه، وما ورد من ذلك فلبيان الجواز. وقيل: هو مخصوص بغير النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يرد ما في القرآن، أو المراد النهي عن الإكثار من ذلك، واتخاذ استعمال هذه اللفظة عادة، وليس المراد النهي عن ذكرها في الجملة انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أقرب الأجوبة عندي حمل النهي على التنزيه. واللَّه
(1)
- "النهاية" ج 2 ص 179.
(2)
- "فتح" ج5 ص 487 - 488. "كتاب العتق" رقم 2552.
تعالى أعلم بالصواب.
(عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ) أي من العِظَم، والسِّمَن، ومن الكثرة؛ لأنها تكون عنده على حالات مختلفة، فتأتي على أكملها ليَكون ذلك أنكى له لشدّة ثقلها (إِذَا هِيَ لَمْ يُعْطِ) بالبناء للفاعل، والضمير لـ"ربها". ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول، والنائب عن الفاعل "حقّها"، والأول أوضح (فِيهَا) أي منها، فـ"في" بمعنى "من"(حَقَّهَا) أي لم يؤدّ زكاتها، أو ما هو أعمّ، وهذا أولى بدليل قوله:"ومن حقها أن تُحلب الخ"(تَطَؤُهُ) مضارع وَطِئَهُ -بالكسر-: إذا داسه، أي تدُوسه تلك الإبل (بأَخْفَافِهَا) جمع خفّ بالضمّ: وهو مَجْمَعُ فِرْسِنِ البعير، وقد يكون للنعام، أو الخفُّ لَا يكون إلا لهما. قاله في "القاموس"(وَتَأتِي الغَنَمُ عَلَى رَبِّهَا، عَلَى خَيرِ مَا كَانَتْ، إِذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا) جمع ظِلْف -بكسر، فسكون- بمنزلة القدم للإنسان، ويكون للبقر، والشاة، والظبي، ونحوها (وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا) بكسر الطاء، وفتحها، من بابي مَنَعَ، وضَرَبَ.
(قَالَ: وَمِنْ حَقِّهَا) أي المندوب على ما قاله الجمهور، أو الواجب على ما قاله بعضهم، وهو الحقّ على ما يأتي بيانه، و"من" للتبعيض (أَنْ تُحْلَبَ) بحاء مهملة، مبنيا للمفعول، أي لمن يحضرها من المساكين. وذكره الداوديّ -بالجيم- وفسّره بالإحضار إلى المصدّق. وتعقّبه ابن دحية، وجزم بأنه تصحيف.
ولفظ مسلم: "حلبها". قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: هو بفتح اللام على اللغة المشهورة، وحكي إسكانها، وهو غريب ضعيف، وإن كان هو القياس انتهى
(1)
.
(عَلَى الْمَاءِ) أي في محلّ سقيها الماء. ولفظ مسلم: "يوم وردها" -بكسر الواو. أي إتيانها إلى الماء، أو نوبة الإتيان إلى الماء، فإن الإبل تأتي الماء في كلّ ثلاثة أيام، أو أربعة، وربما تأتي في ثمانية.
وإنما خصّ الحلب بموضع الماء ليكون أسهل على المحتاجين من قصد المنازل، وأرفق بالماشية. قاله في "الفتح".
ولأنه حالة كثرة لبنها؛ ولأن الفقراء يحضرون هناك لذلك. وفي هذا دليل لمن يرى في المال حقوقًا غير الزكاة. قاله في "طرح التثريب".
وقال الطيبيّ: معناه أن يُسقى ألبانها المارّة، ومن ينتاب المياه من أبناء السبيل. وقيل: أمران يحلبها صاحبها عند الماء ليصيب ذوو الحاجة منه، وهذا مثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن الجذاذ بالليل، أراد أن يُصرَمَ بالنهار ليحضره الفقراء انتهى.
(1)
- "شرح مسلم" ج 7 ص 67.
وقال ابن بطّال: يريد حقّ الكَرَم، والمواساة، وشريفِ الأخلاق، لا أن ذلك فرضٌ، قال: وكانت عادة العرب التصدّق باللبن على الماء، فكان الضعفاء يرصدون ذلك منهم، قال: والحقّ حقّان: فرض عين، وغيره، فالحلب من الحقوق التي هي من مكارم الأخلاق.
وقال إسماعيل القاضي: الحقّ المفترض هو الموصوف المحدّد، وقد تحدث أمورٌ لا تحُدّ، فتجب فيها المواساة للضرورة التي تنزل، من ضعيف مضطرّ، أو جائع، أو عارٍ، أو ميت ليس له من يُواريه، فيجب حينئذ على من يمكنه المواساة التى تزول بها الضرورات. وقال ابن التين: وقيل: كان هذا قبل فرض الزكاة انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث يردّ قول من قال: إنه من مكارم الأخلاق، وليس من الواجب، وقول من قال بالنسخ، ويدلّ دلالة واضحة لمن يرى في المال حقّا سوى الزكاة على ما سنبيّنه، وهو مذهب غير واحد من التابعين، وهو الحقّ، وسيأتي تحقيق الخلاف في هذا، في المسألة الثانية، إن شاء اللَّه تعالى.
(أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه (لَا يَأْتِيَنَّ أَحَدُكُمْ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِبَعِيرٍ) أي لا يجوز لأحدكم أن يمنع بعيرًا من زكاة الإبل، فيأتي به يوم القيامة (يَحْمِلُه عَلَى رَقَبَتِهِ، لَهُ رُغَاءٌ) بضم الراء، ومعجمة: صوت الإبل.
وفيه أن اللَّه تعالى يحيي البهائم ليعاقب بها مانع الزكاة، وفي ذلك معاملة له بنقيض قصده؛ لأنه قصد بمنع حقّ اللَّه منها الارتفاق، والانتفاع بما يمنعه منها، فكان ما قصد الانتفاع به أضرّ الأشياء عليه.
والحكمة في كونها تعاد كلها مع أن حقّ اللَّه فيها إنما هو في بعضها؛ لأن الحقّ في جميع المال غير متميّز؛ ولأن المال لما لم يُخرَج زكاته غيرُ مطهّر. قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ) نداء للنبي صلى الله عليه وسلم ليشفع له في تخليصه من التعذيب بالحمل المذكور (فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا) من الشفاعة حتى يعفو اللَّه تعالى عنك (قَدْ بَلَّغْتُ) هذا تعليل لعدم ملكه له شيئًا، وذلك لأنه الجاني على نفسه، حيث بلّغه النبيّ صلى الله عليه وسلم ما أوجب اللَّه تعالى عليه، وعلم ذلك، ثم فرّط فيه، فلو لم يعلم به لعُذر بالجهل (أُلَا لَا يَأْتِيَنَّ أَحَدُكُمْ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ، يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ، لَهَا يُعَارٌ) بتحتانيّة مضمومة، ثم مهملة: صوت المعز. قال في "الفتح": وفي رواية المستملي، والكشميهني هنا:"ثُغَاءٌ" بضم المثلثة، ثم معجمة، بغير راء، ورجحه ابن التين، وهو صِيَاحُ الغنم. وحكى ابن التين عن القزّاز أنه
(1)
- "فتح" ج 4 ص 13.
رواه "تعار" بمثناة، ومهملة، وليس بشيء. انتهى.
(فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيئًا، قَدْ بَلَّغْتُ") ما أُمرتُ ببيانه، وعصيتَ، فلا أشفع لك عند اللَّه تعالى.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَيَكُونُ كَنْزُ أَحَدِهِمْ) قال في "الصحاح": الكنز المال المدفون. وفي "المحكم": أنه اسم للمال، ولما يُخزن فيه. وفي "المشارق": أصله ما أُودع الأرضَ، من الأموال. وفي الحديث:"ما لم يُؤَدِّ زكاتَهُ، وغيّبه عن ذلك". وقال في "النهاية": الكنز في الأصل: المال المدفون تحت الأرض، فإذا أخرج منه الواجب لم يبق كنزًا، وإن كان مكنوزًا، قال: وهو حكم شرعيّ، تُجوّز فيه عن الأصل
(1)
.
وقال ابن عبد البرّ: الكنز في لسان العرب: هو المال المجتمع المخزون، فوق الأرض كان، أو تحتها. ذكره صاحب "العين" وغيره بمعناه. انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: سيأتي بيان اختلاف العلماء في المراد بالكنز في هذا الحديث، ونحوه، وفي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية [التوبة: 34]، في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى.
(يَوْمَ الْقِيَامَةِ) متعلّق بـ "يكون"(شُجَاعًا) منصوب على الخبرية لـ "يكون"، قال السنديّ: وكتابته بلا ألف كما في بعض النسخ مبنيّ على عادة أهل الحديث في كتابة المنصوب بلا ألف أحيانًا انتهى
(3)
.
و"الشجاع" -بضم الشين المعجمة، وتكسر، بعدها جيم-: الحيّة الذكر. وقيل: الذي يقوم على ذنبه، ويواثب الفارس، وتقدّم بأكثر من هذا في شرح حديث ابن مسعود -2/ 2441 - (أَقْرَعَ) قيل: هو الذي تقرّع رأسه، أي تمعّط لكثرة سمه. وفي "كتاب أبي عُبيد": سمي أقرع لأن شعر رأسه يتمعّط لجمعه السمّ فيه. وتعقبه القزّاز بأن الحيّة لا شعر برأسها، فلعله يذهب جلد رأسه. وفي "تهذيب الأزهريّ": سمي أقرع لأنه يَقرِي السمّ، ويجمعه في رأسه، حتى تتمعّط فروة رأسه، قال ذو الرُّمّة [من الطويل]:
قَرَى السُّمَّ حَتَّى انْمَارَ فَزوَةُ رَأْسِهِ
…
عَنِ الْعَظْمِ صَلَّ قَاتِل اللَّسْعِ مَارِدُهْ
وقال القرطبيّ: الأقرع من الحيّات الذي ابيضّ رأسه من السمّ، ومن الناس الذي لا شعر برأسه. انتهى.
(يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ، وَيَطلُبُهُ، أَنَا كَنْزُكَ) ولفظ البخاريّ: "ثم يقول: أنا مالك، أنا
(1)
- "النهاية" ج4 ص 203.
(2)
- راجع طرح التثريب ج 4 ص 7 - 9.
(3)
- "شرح السنديّ" ج 5 ص 24 - 25.
كنزك". قال في "الفتح": وفائدة هذا القول الحسرة، والزيادة في التعذيب، حيث لا ينفعه الندم، وفيه نوع من التهكّم (فَلَا يَزَالُ حَتَّى يُلْقِمَهُ أُصْبُعَهُ") بضم حرف المضارعة، من ألقمه الحجرَ: إذا أدخله في فيه.
وفي حديث ثوبان رضي الله عنه عند ابن حبّان: "يتبعه، فيقول: أنا كنزك الذي تركتَهُ بعدَك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده، فيمضغها، ثم يتبعه سائر جسده". ولمسلم في حديث جابر رضي الله عنه: "يتبع صاحبه حيث ذهب، وهو يفرّ منه، فإذا رأى أنه لا بدّ منه، أدخل يده في فيه، فجعل يَقضَمُهَا
(1)
كما يَقضَمُ الفحل". وللطبرانيّ في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "ينقر رأسه".
والحديث ظاهر في أن اللَّه تعالى يصيّر نفس المال بهذه الصفة. وفي حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم: "إلا مثل له" قال القرطبيّ: أي صُوّر، أو نُصِب، وأقيم، من قولهم: مثَلَ قائمًا: أي منتصبًا انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه، وقد تقدّم تخريجه، والكلام على مسائله في 2/ 2442 - وأتكلّم هنا على ما لم يُذكَر هناك من المسائل، فأقول:
(المسالة الأولى): قال الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى-: الظاهر أن قوله: "ومن حقها حلبها يوم وردها" مدرج من قول أبي هريرة، قال: وكأن أبا داود أشار إلى ذلك في "سننه" من غير تصريح، فإنه لما ذكر هذه الزيادة روى بعدها من حديث أبي عمر الغدانيّ، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نحو هذه القصّة، فقال له يعني لأبي هريرة: فما حقّ الإبل؟، قال: تُعطي الكريمة، وتَمنَح الغزيرة، وتُفقر الظهر، وتُطرِق الفحل، وتَسقي اللبن. قال: ففي هذه الرواية أن هذا من قول أبي هريرة رضي الله عنه.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: دعوى الإدراج المذكور غير صحيحة، فقد أخرج الحديث البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
1402 حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، حدثه أنه سمع أبا هريرة، رضي الله عنه، يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تأتي الإبل على صاحبها، على خير ما كانت، إذا هو لم يعط فيها حقها، تطؤه بأخفافها، وتأتي الغنم على صاحبها، على خير ما كانت، إذا لم يعط فيها حقها، تطؤه بأظلافها،
(1)
- يقال: قضم الشيءَ يقضمه، من بابي تَعِبَ، وضرب: إذا كسر بأطراف الأسنان. كما في "المصباح".
وتنطحه بقرونها، وقال:"ومن حقها أن تحلب على الماء"، قال:"ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة، يحملها على رقبته لها يُعَار، فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغت، ولا يأتي ببعير يحمله على رقبته، له رُغَاء، فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك من اللَّه شيئا، قد بلغت".
فهذا ظاهرٌ في كون الكلّ مرفوعًا، وأصرح من هذا أن البخاريّ روى الزيادة فقط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فقال في "كتاب المساقاة" من "صحيحه":
2378 حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا محمد بن فليح، قال: حدثني أبي، عن هلال بن عليّ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"من حق الإبل، أن تُحلَب على الماء".
فهذا صريح في رفع هذا الكلام إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بحيث لا يحتمل الإدراج.
وأخرج مسلم في "صحيحه" من حديث أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه: "ما من صاحب إبل، ولا بقر، ولا غنم، لا يؤدّي منها حقّها
…
" الحديث، وفيه: فقلنا: يا رسول اللَّه وما حقّها؟ قال: "إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل اللَّه". وذكر الحديث.
وهذا أيضًا صريح في رفع هذا الكلام إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فتنبّه.
وقد ادعى العراقيّ أيضًا هنا الانقطاع في هذه الزيادة، بأن مسلما أخرجه في بعض طرقه دون الزيادة، ثم قال أبو الزبير: سمع عبيد بن عمير يقول هذا القول، ثم سألنا جابر بن عبد اللَّه، فقال مثل قول عبيد بن عمير، قال أبو الزبير: وسمعت عبيد بن عمير يقول: قال رجل: يا رسول اللَّه، ما حقّ الإبل؟ قال: "حلبها على الماء
…
" الحديث.
قال العراقيّ: فقد تبيّن بهذا أن هذه الزيادة إنما سمعها أبو الزبير من عبيد بن عمير مرسلة، لا ذكر لجابر فيها انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الدعوى غير صحيحة أيضًا، لأن الانقطاع في طريق لا يستلزم الانقطاع في جميع الطرق، فأبو الزبير سمعه من جابر رضي الله عنه، مرفوعًا، وسمعه من عُبيد بن عمير مرسلاً، فحدث بالطريقين، وقد نبّه مسلم بإخراجه من كلا الطريقين على أن الإرسال هنا لا يضرّ الاتصال، على أن الحديث قد صحّ من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ كما قدّمته قريبًا.
والحاصل أن ادعاء الإدراج في مثل هذه الزيادة غير صحيح؛ إذ لو فتح مثل هذا الباب لارتفعت الثقة بروايات الثقات، ولا سيما ما اعتمده الشيخان، وأورداه في
"صحيحيهما"، فإن هذا هو الفساد العريض. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): اختلف أهل العلم في وجوب حقّ في المال سوى الزكاة:
قال المازريّ -رحمه اللَّه تعالى-: يحتمل أن يكون هذا الحقّ في موضع تتعيّن فيه المواساة. وقال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: هذه الألفاظ صريحة في أن هذا الحقّ غير الزكاة. قال: ولعلّ هذا كان قبل وجوب الزكاة.
وقد اختدف السلف في معنى قول اللَّه تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25]. فقال الجمهور: المراد به الزكاة، وأنه ليس في المال حقّ سوى الزكاة. وأما ما جاء غير ذلك فعلى وجه الندب، ومكارم الأخلاق، ولأن الآية إخبار عن وصف قوم أُثني عليهم بخصال كريمة، فلا يقتضي الوجوب، كما لا يقتضيه قوله تعالى:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17].
وقال بعضهم: هي منسوخة بالزكاة، وإن كان لفظه لفظ خبر، فمعناه أمر.
قال: وذهب جماعة، منهم: الشعبيّ، والحسن، وطاوسٌ، وعطاءٌ، ومسروقٌ، وغيرهم إلى أنها محكمة، وأن في المال حقّا سوى الزكاة، من فكّ الأسير، وإطعام المضطرّ، والمواساة في العسرة، وصلة القرابة انتهى
(1)
.
وقال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: إنه مذهب أبي ذرّ، وغير واحد من التابعين
(2)
.
وقال أبو محمد ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-: من قال: إنه لا حقّ في المال غير الزكاة، فقد قال الباطل، ولا برهان على صحّة قوله، لا من نصّ، ولا إجماع، وكلّ ما أوجبه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الأموال فهو واجب. ونسأل من قال هذا، هل تجب في الأموال كفارة الظهار، والأيمان، وديون الناس، أم لا؟ فمن قولهم: نعم، وهذا تناقض منهم. وأما إعارة الدلو، وإطراق الفحل، فداخل تحت قول اللَّه تعالى:{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]. انتهى
(3)
.
وهذا المذهب هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه اللَّه تعالى-، فإنه رجّح القول بأن في المال حقًّا سوى الزكاة، وذلك مثل صلة الرحم من النفقة الواجبة، وحمل العقل عن المعقول عنه، ومثل إطعام الجائع، وكسوة العاري، وكالإعطاء في النوائب، مثل
(1)
- "شرح مسلم" للنوويّ ج 7 ص 73 - 74.
(2)
- "شرح التثريب" ج 4 ص 11.
(3)
- "المحلّى" ج 6 ص 50.
النفقة في الجهاد، وكذلك قرى الضيف، فهو واجب بالسنة الصحيحة.
قال: وهو فرض كفاية، فمن غلب على ظنه أن غيره لا يقوم به تعيّن عليه انتهى كلام شيخ الإسلام بتصرّف
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وهذا القول الأخير الذي اختاره ابن حزم، وابن تيميّة هو الحقّ عندي؛ لظواهر النصوص الدالّة على أن في المال حقّا سوى الزكاة، كأحاديث الباب. وأما قولهم: إنه كان قبل الزكاة، فنسخ بها، فغير صحيح، لأن الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وهو متأخّر الإسلام عن وجوب الزكاة بيقين، فإنه أسلم عام خيبر، وفرض الزكاة كان قبل ذلك بزمان، كما تقدّم بيانه.
والحاصل أن الصواب وجوب الحقّ في المال سوى الزكاة إذا دعت الحاجة إليه، كفكّ الأسير، وإطعام المضطرّ، والمواساة في العسرة، وصلة القرابة، وتكفين الميت، وتجهيزه، ودفنه، إذا لم يوجد من يقوم به، ونحو ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: أخرج الترمذيّ في "جامعه"، وابن ماجه في "سننه" عن فاطمة بنت قيس - رضي اللَّه تعالى عنها -، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إن في المال حقّا سوى الزكاة". ولفظ ابن ماجه: "في المال حقّ سوى الزكاة"، وفي بعض نسخه:"ليس في المال حقّ سوى الزكاة".
وهو ضعيف جدًّا، لا يصلح للاحتجاج به، لأن في إسناده أبا حمزة ميمون الأعور القصّاب، قال أحمد: متروك الحديث. وقال الترمذيّ: هذا حديث إسناده ليس بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يُضعّف، ورَوَى بيانٌ، وإسماعيل بن سالم عن الشعبيّ هذا الحديث قولَهُ، وهذا أصحّ انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع
والمآب.
(المسألة الثالثة): اختُلِفَ في معنى "الكنز" في قوله صلى الله عليه وسلم: "يكون كنز أحدكم الخ"، وفي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} الآية [التوبة: 34]:
قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: ما معناه: اختلف في المراد بالكنز في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} ، وما في معناه، فالجمهور على أنه ما لم تؤدَّ زكاته، وعليه جماعة فقهاء الأمصار، ثم ذكر ذلك عن عمر،
(1)
- راجع "مختصر الفتاوى المصريّة" ص 247. وراجع "تيسير الفقه الجامع للاختيارات الفقهية" لشيخ الإسلام ابن تيمية، تأليف د/ أحمد موافي ج 1 ص 415.
(2)
- راجع "جامع الترمذيّ" ج 3 ص 326 - 327. بنسخة "تحفة الأحوذيّ".
وابنه عبد اللَّه، وجابر بن عبد اللَّه، وابن مسعود، وابن عباس، ثم استشهد لذلك بما رواه عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: كنت ألبس أوضاحًا من ذهب، فقلت: يا رسول اللَّه أكنز هو؟ قال: "ما بلغ أن تُؤَدَّى زكاتُهُ، فزُكِّيَ فليس بكنز". أخرجه أبو داود، قال الحافظ ابن عبد البرّ: وفي إسناده مقال. وقال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": إسناده جيّد، رجاله رجال الصحيح.
قال ابن عبد البرّ: ويشهد لصحّته حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أَدَّيتَ زكاة مالك، فقد قضيت ما عليك". رواه الترمذيّ، وقال حسنٌ غريب، والحاكم في "مستدركه"، وقال: صحيح من حديث المصريين، وذكر العراقيّ أنه على شرط ابن حبّان في "صحيحه".
وفي معناه أيضًا حديث جابر مرفوعًا: "إذا أدّيت زكاة مالك، فقد أذهبت عنك شرّه". رواه الحاكم في "مستدركه"، وصححه على شرط مسلم، ورجّح البيهقيّ وقفه على جابر، وكذلك ذكره ابن عبد البرّ، وكذا صحح أبو زرعة وقفه على جابر، وذكره بلفظ:"ما أدي زكاته فليس بكنز".
وروي البيهقيّ عن ابن عمر، مرفوعًا:"كلّ ما أدّي زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفونًا تحت الأرض، وكلّ ما لا يؤدى زكاته فهو كنز، وإن كان ظاهرًا". وقال البيهقيّ: ليس بمحفوظ، والمشهور وقفه.
وفي "سنن أبي داود" عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال: كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أفرّج عنكم، فانطلق، فقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا نبيّ اللَّه، إنه كبر على أصحابك هذه الآية، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه لم يَفرض الزكاة إلا لتطييب ما بقي من أموالكم
…
" الحديث. وفيه ضعف
(1)
.
قال ابن عبد البرّ: والاسم الشرعيّ قاضٍ على الاسم اللغويّ، وما أعلم مخالفًا في أن الكنز ما لم تؤدّ زكاته، إلا شيئًا عن عليّ، وأبي ذرّ، والضحّاك، ذهب إليه قوم من أهل الزهد، قالوا: إن في المال حقوقًا سوى الزكاة.
أما أبو ذرّ رضي الله عنه، فقد ذهب إلى أن كلّ مال مجموع يفضل عن القوت، وسداد العيش، فهو كنزٌ، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك. وأما عليّ رضي الله عنه، فروي أنه قال:
(1)
- هذا الحديث إسناده ثقات، إلا أن فيه انقطاعًا، فقد ثبت عن شعبة أنه قال: لم يسمع جعفر عن مجاهد شيئًا، بل من صحيفة. انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج1 ص 300 - 301 - فعلى هذا ففيه انقطاع، فتنبّه.
أربعة آلاف نفقة، فما فوقها فهو كنز. وأما الضحّاك، فقال: من ملك عشرة آلاف درهم، فهو من الأكثرين الأخسرين إلا من قال بالمال هكذا، وهكذا. وكان مسروق يقول في قوله تعالى:{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية [آل عمران: 180] هو الرجل يرزقه اللَّه المال، فيمنع قرابته الحقّ الذي فيه، فيُجعل حيّة يُطَوَّقها.
قال ابن عبد البرّ: وهذا ظاهر أنه غير الزكاة، ويحتمل أنه الزكاة.
قال: وسائر العلماء، من السلف والخلف على ما تقدّم في الكنز، قال: وما استدلّ به من الأمر بإنفاق الفضل، فمعناه أنه على الندب، أو يكون قبل نزول الزكاة، ونُسِخَ بها، كما نسخ صوم عاشوراء برمضان، وعاد فضيلةً بعد أن كان فريضةً.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدّم في المسألة السابقة أن الراجح بقاء وجوب الحقّ سوى الزكاة، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، من مواساة أصحاب الحاجة والضرورة. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
قال: على أن أبا ذرّ أكثر ما تواتر عنه في الأخبار الإنكارُ على من أخذ المال من السلاطين لنفسه، ومنع منه أهله، فهذا ما لا خلاف عنه في إنكاره، وأما إيجاب غير الزكاة، فمختلف عنه فيه.
وتأول القاضي عياض أيضًا كلام أبي ذرَ على نحو ذلك، فقال: الصحيح أن إنكاره إنما هو على السلاطين الذين يأخذون لأنفسهم من بيت المال، ولا ينفقونه في وجوهه.
قال النوويً: وهذا الذي قاله باطلٌ؛ لأن السلاطين في زمنه أبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، وتوفي في زمن عثمان سنة اثنتين وثلاثين انتهى.
قال وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: لعله أراد بالسلاطين بعض نوّاب الخلفاء، كمعاوية، وقد وقع بينه وبين أبي ذرّ بسبب هذه الآية تشاجُرٌ، أوجب انتقال أبي ذرّ إلى المدينة، كان معاوية يقول: هي في أهل الكتاب خاصّةً، وقال أبو ذرّ: هي فينا، وفيهم، على أن عبارة ابن عبد البرّ ليست صريحة في أن الإنكار على السلاطين، كعبارة القاضي عياض، بل هي محتملة لأن يكون المراد الإنكار على الآحاد الذين يأخذون الأموال من السلاطين، وهم غير محتاجين إليها، فيجمعونها عندهم، وقد يؤدّي ذلك إلى منع من هو أحقّ منهم. واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تمثيله بمعاوية رضي الله عنه لمن يأخذ من بيت المال ظلمًا، فيه سوء أدب مع صحابيّ جليل، من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فليُتنبّه، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
قال: ولما حَكَى ابن العربيّ قول الضحّاك، قال: وإنما جعله أوّل حدّ الكثرة؛ لأنه
قيمة النفس المؤمنة، وما دونه في حدّ القلّة، وهو فقه بالغ. وقد رُوي عن غيره، وإني لأستحبّه قولاً، وأصوّبه رأيًا انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحقّ أن ما أدّي زكاته فليس بكنز، لكن هذا لا ينافي ما تقدّم من ثبوت الحقّ في المال لحاجة المحتاجين، لثبوت الأدلة على ذلك، فمن أنكر ذلك فقد تناقض، فإنه قد ثبت الإجماع على وجوب أنواع الكفارات، من القتل، والظهار، واليمين، والجماع في رمضان، وكذا النذور، وأداء ديون الناس، وغير ذلك من الحقوق، وكلها سوى الزكاة، فمن أوجب هذه الأشياء في المال، وهي سوى الزكاة، فكيف ينكر وجوب صلة ذوي الأرحام، ومواساة الفقراء، وغيرهم من أصحاب الضرورة؟، إن هذا لهو العجب العجاب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
7 - (بَابُ: سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنِ الْإِبِلِ إِذَا كَانَتْ رُسُلًا لِأَهْلِهَا، وَلِحُمُولَتِهِمْ)
قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "إذا كانت رِسْلًا لأهلها" -بكسر الراء- بمعنى اللبن، وكذا ما كان في الإبل والغنم من عشر إلى خمس وعشرين. والظاهر أنه أراد المعنى الأول، أي إذا اتَّخذوها في البيت لأجل اللبن، وأخذ الترجمة من مفهوم:"في كلّ إبل سائمة". ويحتمل على بُعْد أنه أراد الثاني، أي إذا كانت دون أربعين، فأخذ من قوله:"من كلّ أربعين" أنه لا زكاة فيما دون أربعين، لكن هذا مخالف لسائر الأحاديث، وقد تقدّم حمل الحديث على ما يندفع به التنافي بين الأحاديث. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "ويحتمل أنه أراد الثاني الخ" هذا غلط، فإن ضبط الثاني إنما هو بفتحتين، لا بكسر، فسكون، راجع "النهاية" ج 2 ص 222. وكذا كتب اللغة.
وأيضًا إرادة المعنى الثاني هنا غير صحيح، لمنافاته ما ثبت في الأحاديث الصحيحة
(1)
- راجع "طرح التثريب" ج 4 ص 7 - 9.
المتقدّمة، من إيجاب الزكاة فيما دون خمس وعشرين، في كلّ خمس من الإبل شاةٌ، إلى خمس وعشرين، ففيها بنت مخاض، فلا ينبغي حمل كلام المصنّف على هذا المعنى، فتبصّر، ولا تتحيّر.
بل مراده -رحمه اللَّه تعالى- أنه لا تجب الزكاة في الإبل، إذا كانت مُعَدَّة لمهمّات أهلها، يحتاجون إلى لبنها، وإلى حمل أمتعتهم عليها.
و"الحمولة": -بفتح الحاء المهملة-: البعير، يُحمَل عليه، وقد يُستعمل في الفرس، والبغل، والحمار. وقد تطلق الْحَمُولة على جماعة الإبل. قاله في "المصباح".
وفي "القاموس": "والْحَمُولَة": ما احتَمَلَ عليه القوم من بعير، وحمارٍ، ونحوه، كانت عليه أثقالٌ، أو لم تكن، والأَحْمَال بعينها. انتهى.
والظاهر أن اللام زائدة، و"حَمُولتهم" عطف على "رِسْلاً". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2449 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ بَهْزَ بْنَ حَكِيمٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «فِي كُلِّ إِبِلٍ سَائِمَةٍ، مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ، ابْنَةُ لَبُونٍ، لَا تُفَرَّقُ
(1)
إِبِلٌ، عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أَعْطَاهَا، مُؤْتَجِرًا، لَهُ أَجْرُهَا
(2)
، وَمَنْ مَنَعَهَا، فَإِنَّا آخِذُوهَا، وَشَطْرَ إِبِلِهِ
(3)
، عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَا يَحِلُّ لآلِ مُحَمَّدٍ، صلى الله عليه وسلم مِنْهَا شَيْءٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم في -4/ 2444 - رواه هناك عن عمرو بن عليّ الفلاّس، عن يحيى القطّان، عن بهز بن حكيم، وتقدّم شرحه، والكلام على مسائله هناك، ونتكلّم هنا على ما لم يتقدّم الكلام عليه، وهما مسألتان:
(المسألة الأولى): ذهب المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- إلى عدم وجوب الزكاة في الإبل الرِّسْل، والْحَمُولة، وهو مذهب الجمهور، فقد أخرج ابن أبي شيبة -رحمه اللَّه تعالى- في "مصنّفه" عن عليّ رضي الله عنه أنه قال:"ليس في البقر العوامل صدقة". وأخرج عن معاذ رضي الله عنه أنه كان لا يأخذ من البقر العوامل صدقة. وأخرج عن جابر رضي الله عنه قال: لا صدقة في المثيرة
(4)
. وأخرج عن إبراهيم، ومجاهد أنهما قالا: ليس في البقر العوامل صدقة. وعن عمر بن عبد العزيز، قال: ليس في البقر العوامل صدقة. وعن سعيد بن جبير،
(1)
- وفي نسخة: "يفرّق".
(2)
- وفي نسخة: "فله".
(3)
- وفي نسخة: "شطر ماله".
(4)
- الذي يثير الأرض.
قال: ليس على جمل ظعينة
(1)
، ولا على ثور عامل صدقة. وعن الضحّاك قال: ليس على البقر العوامل، ولا على الإبل النواضح التي يُستقى عليها، وُيغزَى عليها في سبيل اللَّه صدقة. وعن ابن جريج، قال: قدت لعطاء: الحمولة، والمثيرة فيها صدقة؟ قال: لا
(2)
.
وقال الإمام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى- في "المغني": ما معناه: لا زكاة في المعلوفة، والعوامل عند أكثر أهل العلم، وحكي عن مالك أن في الإبل النواضح، والمعلوفة الزكاةَ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"في كلّ خمسٍ شاةٌ". قال أحمد: ليس في العوامل زكاة، وأهل المدينة يرون الزكاة، وليس عندهم في هذا أصل. ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"في كلّ سائمة، في كلّ أربعين بنت لبون" في حديث بهز بن حكيم، فيقيّده بالسائمة، فدلّ على أنه لا زكاة في غيرها، وحديثهم مطلقٌ، فيحمل على المقيّد، ولأن وصف النماء معتبر في الزكاة، والمعلوفة يَستغرق علفها نماءها، إلا أن يُعِدَّها للتجارة، فيكون فيها زكاة التجارة انتهى كلام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-
(3)
.
وقال الإمام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح المهذّب": السائمة إذا كانت عاملة، كالإبل التي يُحمل عليها، أو كانت نواضح، والبقر التي يُحرَث عليها، ففيها وجهان:
(الصحيح): -وبه قطع صاحب "المهذّب"، والجمهور- لا زكاة فيها، لأن العوامل والمعلوفة لا تُقتَنَى للنماء، فلم تجب فيها الزكاة، كثياب البدن، وأثاث الدار.
(والثاني): تجب فيها الزكاة، حكاه جماعات من الخراسانيين، وقطع به الشيخ أبو حامد في كتابه "المختصر"، لوجود السوم، وكونها عاملة زيادة انتفاع لا يمنع الزكاة، بل هي أولى بالوجوب. والمذهب الأول. واللَّه تعالى أعلم انتهى كلام النوويّ بتصرّف
(4)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الزكاة في الرِّسل، والعوامل، والحوامل هو الأرجح؛ لأن هذه الأشياء ما استَغنَى عنها صاحبها، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا صدقة إلا عن ظهر غنى". رواه أحمد بإسناد صحيح، وعلّقه البخاريّ بصيغة الجزم. ولقوله صلى الله عليه وسلم:"فأخبرهم أن اللَّه افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وتردّ على فقرائهم". متفق عليه. وروي: "ليس في العوامل
(1)
- الجمل الذي يوضع عليه الهودج.
(2)
- راجع "مصنّف أبي بكر بن أبي شيبة" ج 3 ص 130 - 131.
(3)
- "المغني" ج 4 ص 12.
(4)
- "المجموع" ج 5 ص 325.
شيء". والصحيح أنه موقوف، لكن يقويه ما قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): احتج أكثر أهل العلم بقوله صلى الله عليه وسلم: "في كلّ إبل سائمة"، وقوله:"وفي سائمة الغنم" على اشتراط السوم في وجوب الزكاة، منهم:
الأئمّة: أبو حنيفة، والشافعيّ، وأحمد -رحمهم اللَّه تعالى-، قالوا: يشترط في الماشية التي تزكَّى أن تكون سائمة، حتى لو عُلفت نصف الحول لا تجب فيها الزكاة، قال الشافعيّ: لو علفها زمنًا لا تعيش مثله بدون علف، أو تعيش لكن يلحقها الضرر البيّن، أو قصد ذلك الزمن قطع السوم لا زكاة فيها.
وذهب مالك، والليث، وربيعة إلى أن الزكاة تجب في الماشية مطلقًا، معلوفة، أم لا، عاملة، أو لا، متى بلغت النصاب، واستدلوا بالأحاديث المطلقة، كقوله في الحديث المتقدّم:"ليس فيما دون خمس ذود صدقة"، وفي الحديث الآتي في الباب التالي، أنه صلى الله عليه وسلم:"أمر معاذًا لما وجهه إلى اليمن أن يأخذ من البقر، من كلّ ثلاثين تبيعًا، أو تبيعةً، ومن كلّ أربعين مُسنّة".
وأجابوا عن حديث الباب بأن التقييد بالسائمة فيه خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، على حدّ قوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} الآية [النساء: 23]، فإن الربيبة تحرم، ولو لم تكن في الحجر.
وقال الباجيّ: يحتمل أن يكون ذكر السائمة لأنها كانت عامّة الغنم وقتئذ، ولا تكاد أن تكون فيها غير سائمة، ولذا ذكر السائمة في الغنم، ولم يذكرها في الإبل والبقر
(1)
.
ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم نصّ على السائمة ليكلّف المجتهد الاجتهاد في إلحاق المعلوفة بها، فيحصل له أجر المجتهدين انتهى.
وأجاب الجمهور عن هذا بأن الأصل في القيود في كلام الشارع اعتبارها، فلا يُترَك ظاهرها، والعمل بمفهومها إلا لدليل، ولا دليل يقتضي بعدم اعتبار القيد.
قال الحافظ ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدًا قال بقول مالك، والليث من فقهاء الأمصار انتهى.
واختلف القائلون باشتراط السوم، فقال أبو حنيفة، وأحمد متى كانت سائمة أكثر الحول وجبت فيها الزكاة، ولا عبرة بعلفها أقلّ الزمن لأن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه، إذ لا يوجد المرعى في كلّ السنّة. والصحيح عند الشافعيّة أنها إن علفت قدرًا تعيش بدونه وجبت الزكاة، وإن عُلفت قدرًا لا يبقى الحيوان بدونه لم تجب. قالوا:
(1)
- هذا فيه نظر لا يخفى، فقد تقدّم أنه ذكر في الإبل أيضًا. فتبصّر.
والماشية تصبر اليومين، ولا تصبر الثلاثة
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي ما ذهب إليه الجمهور من اشتراط السوم الذي دلّ عليه حديث الباب، والأحاديث الأخرى التي تقدّم ذكرها، ثم إن القول باعتبار أكثر الحول في السوم هو الأشبه؛ إعطاءً للأكثر حكم الكلّ، ولئلا يكون وسيلة للاحتيال في إسقاط الزكاة بأن يعلفها أيامًا، فيقول: لا تجب علي فيها الزكاة لكونها عَلُوفة، كما تقدّم بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
8 - (بَابُ زَكَاةِ الْبَقَرَ)
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على نصاب البقر. وأخّر زكاة البقر؛ لعله لكونها أقلَّ النعم عندهم وجودًا ونُصُبًا.
و"البقر": اسم جنس. قال الجوهريّ: وتطلق البقرة على الذكر والأنثى، وإنما دخلت الهاء لأنه واحد من الجنس، وجمعها بقرات. وبَقَرْتُ الشيءَ بَقْرًا، من باب قتل: شققته، وبقرتُهُ: فتحته، وهو باقرُ علمٍ، وتَبَقّر في العلم والمال، مثلُ توسّعَ وزنًا ومعنىً. قاله في "المصباح".
وقال في "الفتح": البقر اسم جنس يكون للمذكر والمؤنّث، اشتُقّ من بقرتُ الشيءَ: إذا شققته؛ لأنها تبقر الأرض بالحراثة.
وقال ابن منظور -رحمه اللَّه تعالى- في "لسان العرب": البقر اسم جنس. قال ابن سِيدَهْ: البقرة من الأهليّ والوحشيّ، يكون للمذكّر والمؤنّث. وقال غيره: وإنما دخلته الهاء على أنه واحدٌ من جنس، والجمع البَقَرَاتُ. وقال ابن سِيدَهْ: والجمع بَقَرٌ، وجمع البقر أَبْقُرٌ، كزَمَنٍ وأزمُنٍ. وأنشد لمُقبِل بن خُوَيلد الْهُذَليّ [من الطويل]:
كَأَنَّ عَرُوضَيْهِ مَحَجَّةُ أَبْقُرٍ
…
لَهُنَّ إِذَا مَا رُحْنَ فِيهَا مَذَاعِقُ
فأما بَقَرٌ، وباقِرٌ، وبَقِيرٌ، وبَيْقُورٌ، وباقُورٌ، وباقورةٌ، فأسماء للجمع؛ زاد الجوهريّ، وبَوَاقِرُ. وقال الأصمعيّ: وأنشدني ابن أبي طَرَفَة [من الطويل]:
(1)
- راجع "المنهل العذب المورود" ج 9 ص 146 - 147.
وَسَكَّنْتُهُمْ بِالْقَوْلِ حَتَّى كَأَنهُمْ
…
بَوَاقِرُ جُلْحٌ أَسْكَنَتْهَا الْمَرَاتِعُ
وأنشد غيرُ الأصمعيّ في "بَيْقُورٍ"[من الخفيف]:
سَلَعٌ مَّا وَمِثْلُهُ عُشَرٌ مَّا
…
عَائِلٌ مَّا وَعَالَتِ الْبَيْقُورَا
وأنشد الجوهريّ لِلوَرَلِ الطائيّ [من البسيط]:
لَا دَرَّ دَرُّ رِجَالٍ خَابَ سَعْيُهُمُ
…
يَسْتَمَطِرُونَ لَدَى الأَزْمَاتِ بِالْعُشَرِ
أَجَاعِلٌ أَنْتَ بَيْقُورَا مُسَلَّعَةً
…
ذَرِيعَةً لَكَ بَيْنَ اللَّهِ وَالْمَطَرِ
وإنما قال ذلك لأن العرب كانت في الجاهليّة إذا استسقَوا جعلوا السَّلَعَة والعُشَرَ في أذناب البقر، وأشعلوا فيه النار، فتضِجُّ البقرمن ذلك، ويُمطَرُون. وأهل اليمن يسمّون البقر باقورةً انتهى المقصود من كلام ابن منظور
(1)
.
وقد ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بمثل ترجمة المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، ثم أورد حديث أبي ذرّ رضي الله عنه المتقدم في -2/ 2440 - . قال الزين ابن المنيّر -رحمه اللَّه تعالى-: ولم يذكر البخاريّ في الباب شيئا مما يتعلّق بنصابها لكون ذلك لم يقع على شرطه. انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2450 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُفَضَّلٌ -وَهُوَ ابْنُ مُهَلْهَلٍ- عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ، وَمِنَ الْبَقَرِ مِنْ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا، أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمد بن رافع) القشيري النيسابوري، ثقة عابد [11] 92/ 114.
2 -
(يحى بن آدم) أبو زكريّا الكوفيّ، مولى بني أُميّة، ثقة حافظ فاضل، من كبار [9] 1/ 451.
3 -
(مفضّل بن مُهَلْهَل) السعديّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة ثبت نبيلٌ عابد [7] 25/ 1240.
4 -
(الأعمش) سليمان بن مهران الثقة الثبت لكنه يدلس [5] 17/ 18.
5 -
(شقيق) بن سلمة، المعروف بـ "أبي وائل" الكوفيّ مخضرم ثقة ثبت [2] 2/ 2.
6 -
(مسروق) بن الأجدع بن مالك الهداني، أبو عائشة الكوفيّ، ثقة فقيه عابد
(1)
- "لسان العرب" في مادّة بقر.
(2)
- "فتح" ج4 ص 83.
مخضرم [2] 90/ 112.
7 -
(معاذ) بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاريّ الخزرجي الصحابيّ الجليل - رضي اللَّه تعالى عنه - 42/ 587. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سباعيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، إلا أن فيه انقطاعًا، فإن مسروقًا لم يلق معاذًا رضي الله عنه (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين غير شيخه، فنيسابوري، ومُعَاذًا، فمدني، ثم يمني، ثم شامي. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن شقيق، عن مسروق، ورواية الأخيرين من رواية الأقران. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ مُعَاذٍ) بن جبل رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ) أي أرسله عاملاً على الزكاة وغيرها (وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا) أي من كلّ بالغ بالسنّ، أو غيره.
يقال: حَلَم الصبيُّ يَحْلُمُ، من باب قَتَلَ، حُلُمًا -بضمتين، وإسكان الثاني تخفيفًا- واحتلم: أدرك، وبلغ مبالغ الرجال، فهو حالم، ومحتلم. أفاده في "المصباح".
والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كلّ بالغ ذكر، من أهل الذمّة دينارًا جزية. وفيه دلالة على أنه لا جزية إلا على الرجال البالغين من أهل الذمّة، ولم يُصرّح في الحديث به لكونه معلومًا
(1)
.
(أَوْ عِدْلَهُ) بفتح العين المهملة، وكسرها: الْمِثْلُ. وقيل: بالفتح ما عادل الشيءَ من جنسه، وبالكسر: ما عادله مما ليس من جنسه. وقيل: بالعكس
(2)
(مَعَافِرَ) وفي نسخة: "معافريَّا". قال ابن الأثير: هي بُرُود باليمن، منسوبة إلى معافر، وهي قبيلة باليمن، والميم زائدة انتهى
(3)
.
وقال الفيّوميّ: ومعافر، قيل: هو مفرد، على غير قياس، مثلُ حَضَاجر، وبَلَاذر، فتكون الميم أصليّة. وقيل: هو جمع مَعْفَر، سُمّي به معافر بن مُرّ، فتكون الميم زائدة، وينسب إليه على لفظه، فيقال: ثوب معافريّ، ثم سميت القبيلة باسم الأب، وهي حيّ من أحياء اليمن، قالوا: ولا يقال: مُعافر، بضمّ الميم انتهى
(4)
.
(1)
- راجع "المنهل" ج 9 ص 173.
(2)
- "النهاية" ج 3 ص 191.
(3)
- "النهاية" ج 3 ص 262.
(4)
- "المصباح المنير" في مادّة عفر.
وقال ابن منظور: ومَعَافر: بلد باليمن، وثوبٌ معافريّ؛ لأنه نُسب إلى رجل، اسمه معافر، ولا يقال بضمّ، وإنما هو مَعافر غيرَ منسوب، وقد جاء في الرجز الفصيح منسوبًا. قال الأزهريّ: بُرْدٌ مَعافريّ منسوبٌ إلى مَعافر اليمن، ثم صار اسمًا لها بغير نسبة، فيقال: مَعافر. انتهى كلام ابن منظور
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أفاد كلام الأزهريّ أنه يجوز أن يقال بُرْدٌ مَعَافريٌّ، بياء النسبة، ومَعَافِرُ بدونها، وقد وقع في معظم نسخ "المجتبى" بدون ياء، ووقع في بعضها بها.
(وَمِنَ الْبَقَرِ، مِنْ ثَلَاِثِينَ) الجار والمجرور الأول معطوف على قوله: "من كلّ حالم"، والثاني بدل من الأول. وقوله (تَبِيعًا) معطوف على قوله:"دينارًا"، وفيه عطف المعمولين على معمولي عامل واحد، وهو جائز.
والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كلّ ثلاثين من البقر تبيعًا.
والتَّبِيع بفتحِ، فكسر-كما قال الفيّوميّ: ولدُ البقرة في السنة الأولى، والأنثى تبيعة، وجمع المذكّر أتْبِعَةٌ، مثلُ رغيفٍ وأرغفة، وجمع الأنثى تِبَاعٌ، مثلُ مَلِيحَة ومِلَاح، وسمي تبيعًا؛ لأنه يتبع أمه، فهو فعيلٌ بمعنى فاعل انتهى
(2)
.
وقال في "لسان العرب": قال أبو فَقْعَسٍ الأَسَديّ: ولدُ البقرة أوّلَ سنةٍ تَبيعٌ، ثم جَذَعٌ، ثم ثَنيّ، ثم رَبَاعٌ، ثم سَدَسٌ، ثم صالغٌ. وقال الليث: التبيعُ العجلُ الْمُدْرِكُ، إلا أنه يَتْبَع أمه بعدُ؛ قال الأزهريّ: قول الليث: التبيع المدرك وَهَمٌ؛ لأنه يُدركُ إذا أثنى، أي صار ثنيّا. والتبيعُ من البقر يُسمّى تبيعًا حين يستكمل الحول، ولا يُسمّى تبيعًا قبل ذلك، فإذا استكمل عامين، فهو جذَعٌ، فإذا استوفى ثلاثة أعوام، فهو ثَنيّ، وحينئذ مُسِنّ، والأنثى مُسِنّة، وهي التي تؤخذ في أربعين من البقر انتهى
(3)
.
وقال النوويّ: وسمي تبيعًا لأنه يتبع أمه. وقيل: لأن قرنيه يتبعان أذنيه، وهو ضعيف، والأنثى تبيعة، ويقال لهما: جَذَعٌ، وجَذَعَةٌ، والمسنّة لزيادة سنّها، ويقال لها: ثَنِيْة. قال: والتبيع: ما استكمل سنة، ودخل في الثانية، والمسنّة: ما استكملت سنتين، ودخلت في الثالثة. هذا هو الصواب المعروف للشافعيّ والأصحاب. وشذّ الجرجانيّ، فقال في كتابه "التحرير": التبيع: ما له دون سنة. وقيل: ما له سنة. والمسنّة: ما لها سنة، وقيل: سنتان. وكذا قول صاحب "الإبانة": التبيع ما استكمل سنة. وقيل: الذي
(1)
- لسان العرب في مادّة عفر.
(2)
- "المصباح المنير" في مادّة تبع.
(3)
- لسان العرب في مادّة تبع.
يتبع أمّه، وإن كان له دون سنة. وقال الرافعيّ: وحكى جماعة أن التبيع له ستة أشهر، والمسنّة لها سنة. وهذا كله غلطٌ، ليس معدودًا من المذهب انتهى كلام النوويّ
(1)
.
(أَوْ تَبِيعَةً) هي أنثى التَّبِيع (وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً) إعرابه كسابقه. يعني أنه أمره أن يأخذ من كلّ أربعين من البقر مسنّة، وهي من ولد البقر: ما استكملت السنتين، ودخلت في الثالثة.
وفيه دليل على أن المسنّ لا يجزىء، بخلاف التبيع، وهو الصحيح، وأما ما أخرجه الطبرانيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعًا:"في كلّ ثلاثين تبيعٌ، أو تبيعة، وفي كلّ أربعين مسنّ، أو مسنّة". ففي إسناده ليث بن أبي سُليم، قال الهيثميّ: وهو ثقة، لكنّه مدلسٌ انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بل هو متروك الحديث، قال في "التقريب": صدوق اختلط أخيرًا، ولم يتميّز حديثه، فتُرِك. انتهى.
فالحديث ضعيفٌ جدًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث معاذ رضي الله عنه هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه أن مسروقًا لم يلق معاذًا، فيكون منقطعًا؟.
[قلت]: إنما صحّ بشواهده، فإن له شواهد، من رواية إبراهيم النخعي، عن معاذ، وهي عند المصنّف، في هذا الباب، والدارميّ، والبيهقيّ. ومن رواية أبي وائل، عند المصنّف في هذا الباب أيضًا، وأحمدَ، وأبي داود. ومن رواية طاوس، عن معاذ، أخرجها مالك، في "الموطإ".
وصحح الحديث ابن حبّان، والحاكم، وأقرّه الذهبيّ، وحسّنه الترمذيّ.
وقال ابن عبد البرّ في "التمهيد"، و"الاستذكار": إسناده متّصلٌ، صحيح، ثابت. وكذا قال ابن بطّال، كما في "الفتح".
وأعلّه عبد الحقّ في "أحكامه"، فقال: مسروق لم يلق معاذًا. وقال الحافظ في "الفتح": في الحكم بصحّته نظر، لأن مسروقًا لم يلق معاذًا، وإنما حسّنه الترمذيّ لشواهده.
(1)
- "المجموع" ج 5 ص 384 - 385.
وبالغ ابن حزم في "المحلّى"
(1)
أوّلاً في تقرير كونه منقطعًا، ثم استدرك في آخر المسألة
(2)
. ورجع عن رأيه هذا، حيث قال: ثم استدركنا، فوجدنا حديث مسروق، إنما ذكر فيه فعل معاذ باليمن في زكاة البقر، وهو بلا شكّ، قد أدرك معاذًا، وشهد حكمه، وعمله المشهور المنتشر، فصار نقله لذلك، ولأنه عن عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نقلاً عن الكافّة عن معاذ بلا شكّ، فوجب القول به. انتهى.
وقال ابن القطّان: لا أقول: إن مسروقًا سمع من معاذ إنما أقول: إنه يجب على أصولهم أن يُحكم بحديثه عن معاذ بحكم حديث المتعاصرين الذين لم يُعلم انتفاء اللقاء بينهما، فإن الحكم فيه أنه له الاتصال عند الجمهور. وشرط البخاريّ، وابن المدينيّ أن يُعلم اجتماعهما، ولو مرّة واحدة، فهما إذا لم يعلما لقاء أحدهما للآخر لا يقولان في حديث أحدهما عن الآخر: منقطع، إنما يقولان: لم يثبت سماع فلان من فلان، فإذن ليس في حديث المتعاصرين إلا رأيان: أحدهما أنه محمول على الاتصال. والآخر أن يقال: لم يُعلم اتصال ما بينهما، فأما الثالث، وهو أنه منقطع فلا انتهى
(3)
.
وقال الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن حسّن الحديث: ورَوَى بعضهم هذا الحديث عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن، فأمره أن يأخذ
…
" وهذا أصحّ
(4)
انتهى.
قال العلامة الصنعاني -رحمه اللَّه تعالى-: وإنما رجّح الترمذيّ الرواية المرسلة؛ لأن رواية الاتصال اعتُرضت بأن مسروقًا لم يلق معاذًا.
وأجيب بأن مسروقًا همدانيّ النسب، من وَدَاعَةَ، يمانيّ الدار، وقد كان في أيام معاذ باليمن، فاللقاء ممكن بينهما، فهو محكوم باتصاله على رأي الجمهور. انتهى
(5)
.
وقال الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وطاوس عالم بأمر معاذ، وإن كان لم يلقه؛ لكثرة من لقيه ممن أدرك معاذًا، وهذا مما لا أعلم من أحد فيه خلافًا انتهى.
وقال البيهقيّ: طاوس، وإن لم يلق معاذًا إلا أنه يمانيّ، وسيرة معاذ بينهم مشهورة انتهى.
وللحديث شواهد من حديث ابن مسعود، عند الترمذيّ، وابن ماجه، والبيهقيّ،
(1)
- راجع "المحلّى" ج 6 ص 11.
(2)
- راجع "المحلى" ج 6 ص 16.
(3)
- راجع "المرعاة" ج 6 ص 144.
(4)
- وكذا رجّح الدارقطنيّ في "العلل" الرواية المرسلة. وهذه الرواية المرسلة أخرجها ابن أبي شيبة ج 3 ص 12، وأبو عبيد في "الأموال" ص 378 بسنديهما. قاله في "المرعاة". ج 6 ص 145.
(5)
- "سبل السلام" ج 2 ص 213.
وهو منقطع، ورواه ابن الجارود في "المنتقى" موصولًا. ومن حديث طاوس، عن ابن عبّاس، عند الدارقطنيّ، والبيهقيّ، والبزّار، وابن حزم، وهو ضعيف. ولابن عباس حديث آخر عند الطبرانيّ، والدارقطنيّ، من طريق ليث، عن مجاهد، وطاوس، عن ابن عباس. ومن حديث أنس عند البيهقيّ، واختلف في وصله، ورجّح الدارقطنيّ الإرسال. ومن حديث عمرو بن حزم الطويل عند الحاكم، والبيهقيّ، والطبرانيّ. ومن حديث علي، وهو ضعيف.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الأحاديث، وإن كانت فيها ضعف إلا أن مجموعها يصلح للاستشهاد به، فيتقوّى بها حديث معاذ رضي الله عنه.
والحاصل أن حديث معاذ رضي الله عنه المذكور في الباب صحيح. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-8/ 2450 و 2451 و 2452 و 2453 - وفي "الكبرى" 8/ 2230 و 2231 و 2232 و 2233. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1576 (ت) في "الزكاة" 623 (ق) في "الزكاة" 1803 (أحمد) في "مسند الأنصار" 21515 و 21532 و 21579 (مالك في "الموطإ") في "الزكاة" 598 "الدارميّ" في "الزكاة" 1623. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان وجوب الزكاة في البقر.
قال الإمام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: صدقة البقر واجبة بالسنة والإجماع، ثم أورد حديث أبي ذرّ رضي الله عنه المتقدّم في 2/ 2440 - وحديث معاذ رضي الله عنه المذكور في الباب، ثم قال: وأما الإجماع فلا نعلم اختلافًا في وجوب الزكاة في البقر. قال أبو عبيد: لا أعلم الناس يختلفون فيه اليوم. انتهى
(1)
.
(ومنها): أن الزكاة لا تجب في أقلّ من ثلاثين من البقر، وهو مذهب الجمهور. وقال سعيد بن المسيّب، والزهريّ: يجب في كلّ خمس شاة؛ قياسًا على الإبل. ورُدّ بأن النصاب لا يثبت بالقياس، وأنه لا قياس مع النصّ. ففي رواية المصنّف الآتية من حديث معاذ رضي الله عنه: قال: أمرني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين بعثني إلى اليمن أن لا آخذ من البقر شيئًا حتى تبلغ ثلاثين (ومنها): أن الواجب في ثلاثين تبيعٌ ذكر، أو تبيعة أنثى، وفي أربعين مسنّة أنثى (ومنها): وجوب الجزية على أهل الكتاب (ومنها): أنها لا تؤخذ إلا من الذكور البالغين، دينارًا، أو قيمته ثوبًا معافريّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
- "المغني" ج 4 ص 30 - 31.
(المسألة الرابعة): فيما قاله أهل العلم في نصاب البقر:
قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: لا خلاف بين العلماء أن السنّة في زكاة البقر ما في حديث معاذ رضي الله عنه هذا، وأنه النصاب المجمع عليه فيها. قال: وعلى ذلك جماعة الخلفاء، ولم يختلف في ذلك العلماء، إلا شيء روي عن سعيد بن المسيّب، وأبي قلابة، والزهريّ، وعمر بن عبد الرحمن بن أبي خلدة المزنيّ، وقتادة، ولا يُلتفت إليه لخلاف الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز، والعراق، والشام له، وذلك لما قدّمنا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وجمهور العلماء، وهو يردّ قولهم؛ لأنهم يرون في كلّ خمس من البقر شاةً إلى ثلاثين، واعتقوا بحديثٍ لا أصل له، وهو حديث حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن حَزْم، ذكره بإسناده أنه في كتاب عمرو بن حزم. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الصواب عندي ما ذهب إليه الجمهور من أن نصاب البقر ثلاثون، وأما ما نقل عن ابن المسيّب ومن ذُكِرَ معه فمما لا يُلْتَفَتُ إليه؛ لعدم استناده إلى دليل معتبر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم فيما زاد على الأربعين من البقر:
قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: ذهب مالك، والشافعيّ، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، والطبريّ، وجماعة أهل الفقه، من أهل الرأي والحديث إلى أن لا شيء فيما زاد على الأربعين من البقر حتى تبلغ ستّين ففيها تبيعان إلى سبعين، فإذا بلغت سبعين، ففيها تبيعٌ، ومسنّةٌ، إلى ثمانين، فيكون فيها مسنّتان إلى تسعين، فيكون فيها ثلاث تبائع، إلى مائةٍ، فيكون فيها تبيعان ومسنّة، ثم هكذا أبدًا في كلّ ثلاثين تبيعًا، وفي كلّ أربعين مسنّة.
وبهذا أيضًا كلّه قال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن.
وذهب أبو حنيفة: إلى أن ما زاد على الأربعين من البقر فبحساب ذلك. هذه هي الرواية المشهورة عن أبي حنيفة. وقد روى أسد بن عمرو عن أبي حنيفة مثل قول أبي يوسف، ومحمد، والشافعيّ، وسائر الفقهاء. وكان إبراهيم النخعيّ يقول: من ثلاثين بقرةً تبيع، وفي أربعين مسنّة، وفي خمسين مسنّةٌ، وفي ستين تبيعان. وكان الحكم وحمادٌ يقولان: إذا بلغت خمسين فبحساب ما زاد.
قال أبو عمر: لا أقول في هذا الباب إلا ما قاله مالكٌ، ومن تابعه، وهم الجمهور الذين بهم تجب الحجّة على من خالفهم، وشذّ عنهم إلى ما فيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه مما تقدّم في هذا الباب ذكره. انتهى كلام ابن عبد البرّ بتصرّف
(2)
.
(1)
- "الاستذكار" ج 9 ص 156 - 161.
(2)
- المصدر السابق.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الحافظ ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ جدًّا.
وحاصله أنه لا شيء فيما زاد على الأربعين إلى أن يبلغ ستين ففيها تبيعان إلخ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2451 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى -وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، وَالأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا:: قَالَ: مُعَاذٌ: "بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ، بَقَرَةً ثَنِيَّةً، وَمِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا، وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فهو من أفراده، وهو رُهَاويّ ثقة حافظ [11] 34/ 42. و"إبراهيم": هو ابن يزيد النخعي.
وقوله: "والأعمش" بالرفع عطفًا على "الأعمش" الأولِ، فالأعمش يروي هذا الحديث عن طريقين:
إحداهما: عن شقيق، وهو ابن سلمة أبو وائل، عن مسروق، عن معاذ، وهذه تقدّم الخلاف في اتصالها، وانقطاعها، والراجح أنها متّصلة.
والثانية: عن إبراهيم، عن معاذ، وهذه منقطعة بلا شكّ، لكنها تتقوى بالأولى.
وقوله: "بقرة ثنيّة" هي المسنّة المذكورة في الذي قبله. قال في "المصباح": و"الثّنيّ" الذي يُلقِي ثَنِيَّتَهُ يكون من ذوات الظلف والحافر في السنة الثالثة، ومن ذوات الخفّ في السنة السادسة، وهو بعد الْجَذَع، والجمعُ ثِنَاءٌ -بالكسر، والمدّ- وثُنْيَانٌ، مثلُ رَغِيف ورُغْفَان. وأَثْنَى: إذا ألقى ثنيّته، فهو فَعِيل بمعنى الفاعل انتهى.
والحديث صحيح، كما سبق بيانه، في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2452 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: "لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ، أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ، مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ، مِنَ الْبَقَرِ تَبِيعًا، أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فهو من أفراده، وهو موصليٌّ صدوق [10] 102/ 135.
والحديث صحيح، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2453 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ بَعَثَنِي إِلَى الْيَمَنِ، أَنْ لَا آخُذَ مِنَ الْبَقَرِ شَيْئًا، حَتَّى تَبْلُغَ ثَلَاثِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلَاثِينَ، فَفِيهَا عِجْلٌ، تَابِعٌ، جَذَعٌ، أَوْ جَذَعَةٌ، حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ، فَفِيهَا بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فهو من أفراده، وأفراد أبي داود، وهو أبو جعفر البغداديّ العابد، ثقة، من صغار [10] 46/ 741.
و"يعقوب": هو ابن إبراهيم الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار [9] 196/ 314.
و"أبوه": هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8] 196/ 314.
وقوله: "عِجْلٌ" -بكسر، فسكون-: ولدُ البقرة، والأنثى عِجْلَةٌ، والجمع عُجُولٌ - بالضمّ- وعِجَلَة، مثل عِنَبَة
(1)
.
وقوله: "تابعٌ" صفة لعِجْلٍ، أي تابع لأمه في المرعى، وهو المسمّى فيما تقدّم بالتبيع.
وقوله: "جَذَعْ، أو جَذَعَةٌ" -بفتحتين-: أي ذكرٌ، أو أنثى، وهو في معنى قوله فيما سبق:"تبيع أو تبيعة".
قال ابن الأعرابيّ: إذا طَلَع قرنُ العجل، وقُبِضَ عليه، فهو عَضَبٌ، ثم هو بعد ذلك جَذَعْ، وبعده ثَنيّ، وبعده رَبَاعٌ. وقيل: لا يكون الجذَعُ من البقر حتى يكون له سنتان، وأوّل يوم من الثالثة. ذكره في "اللسان".
والحديث صحيح، وتقدّم الكلام عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- راجع "المصباح المنير".
9 - (باب
(1)
مَانِعِ زَكَاةِ الْبَقَرِ)
2454 -
(أَخْبَرَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ، وَلَا بَقَرٍ، وَلَا غَنَمٍ، لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا، إِلاَّ وُقِفَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، تَطَؤُهُ ذَاتُ الأَظْلَافِ بِأَظْلَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ ذَاتُ الْقُرُونِ بِقُرُونِهَا، لَيْسَ فِيهَا يَوْمَئِذٍ جَمَّاءُ، وَلَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ» ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَاذَا حَقُّهَا؟ قَالَ: «إِطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا، وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا صَاحِبِ مَالٍ، لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ، إِلاَّ يُخَيَّلُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، شُجَاعٌ أَقْرَعُ، يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ، وَهُوَ يَتْبَعُهُ، يَقُولُ لَهُ: هَذَا كَنْزُكَ، الَّذِي كُنْتَ تَبْخَلُ بِهِ، فَإِذَا رَأَى، أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فِيهِ، فَجَعَلَ يَقْضَمُهَا، كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الحديث رجال الصحيح، وتقدّموا.
و"واصل بن عبد الأعلى" كوفيّ، ثقة [10] 39/ 831.
و"ابن فُضيل": هو محمد بن فُضيل بن غزوان الكوفيّ، صدوق عارف، رُمي بالتشيّع [9] 18/ 799.
و"عبد الملك بن أبي سليمان": هو الْعَرْزميّ الكوفيّ، صدوق له أوهامٌ [5] 7/ 406.
و"أبو الزبير": هو محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوق، يدلّس [4] 31/ 35.
[تنبيه]: هذا الحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" من طريقين:
(إحداهما): طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن أبي الزبير هذه، رواها عن محمد ابن عبد اللَّه بن نُمَير، عن أبيه، عن عبد الملك به.
(والثانية): طريق ابن جُريج، عن أبي الزبير، رواها عن إسحاق بن إبراهيم، ومحمد ابن رافع، كلاهما عن عبد الرزاق، قال أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد اللَّه الأنصاريّ، يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من صاحب إبل
…
" الحديث.
فقد تابع ابن جُريج عبدَ الملك، فتقوّى به، وصرّح ابن جريج بإخبار أبي الزبير له، وأبو الزبير بسماعه من جابر، فزال ما يُخشى من التدليس. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
- سقط لفظ "باب" من بعض النسخ.
وقوله: "جمّاء" بفتح الجيم، وتشديد الميم: هي التي لا قرن لها.
وقوله: "وماذا حقّها" قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: ظاهره الحقّ الواجب الذي فيه الكلام، لكن معلوم أن ذلك الحقّ الواجب هو الزكاة، لا المذكور في الجواب، فينبغي أن يجعل السؤال عن الحقّ المندوب، وتركوا السؤال عن الجواب الذي كان فيه الكلام؛ لظهوره عندهم انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فيما قاله السنديّ نظرٌ لا يخفى، فقد قدّمنا أن الصواب أن الواجب ليس مقصورًا على الزكاة فقط، بل ما ذُكر في الحديث من إطراق الفحل، وإعارة الدلو، والحمل في سبيل اللَّه، وحلبها يوم وردها أحيانًا تكون من حقوق المال الواجبة، وذلك عند وجود المضطرّين، والمحتاجين، وكونها فاضلة من حاجة صاحبها. فتبصّر بإنصاف، ولا تتهوَّر بتقليد ذوي الاعتساف.
وقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر، مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من كان معه فضل ظهر، فليَعُدْ به على من لا ظهر له، ومن كان له فضلٌ من زاد، فليعد به على من لا زاد له"، قال: فذكر من أصناف المال، ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.
وأما إذا كان صاب المال محتاجًا إليه، فلا يجب عليه شيء، لحديث:"لا صدقة إلا عن ظهر غنى"
(1)
.
والحاصل أن الوجوب لا يختصّ بالزكاة فقط، بل هناك واجبات تتعلّق بالمال، كما قدّمنا بيانها في شرح -6/ 244 - في المسألة الثانية، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى وليّ التوفيق.
وقوله: "إطراق فحلها": أي إعارته للضراب. وقوله: "وإعارة دلوها": أي لإخراج الماء من البئر لمن يحتاج إليه، ولا دلوَ معه.
وقوله: "يُخيَّل له" - بالبناء للمفعول: أي يُمَثَّل له.
وقوله: "يَقضِمها"-بفتح الضاد المعجمة، وكسرها- يقال: قَضِمَتِ الدّابّةُ الشعيرَ تَقضَمه، من باب تَعِبَ: كَسَرَتهُ بأطراف أسنانها، وقَضَمَتْ قَضمًا، من باب ضَرَب لغةٌ، ومنه يُقال على الاستعارة: قضمتُ يَدَه: إذا عَضَضْتَهَا. قاله في "المصباح".
و"الفَحْلُ": الذكر من الحيوان، جمعه فُحُول، وفُحُولةٌ، وفِحَال.
(1)
- رواه أحمد بإسناد صحيح، وعلّقه البخاريّ بصيغة الجزم.
وتقدّم ما تبقى من شرح الحديث مُستوفًى في-2/ 2442 وفي -6/ 2448 - وباللَّه التوفيق، وله الحمد، والمنّة.
وأخرجه المصنّف هنا -9/ 2454 - وفي "الكبرى" 9/ 2234. وأخرجه (م) في "الزكاة" 988 (أحمد) في باقي "مسند المكثرين" 14033 (الدارميّ) في "الزكاة" 1616.
وباقي مسائله تقدّمت بالرقم المذكور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
10 - (باب زَكَاةِ الْغَنَمِ)
قال المجد اللغويّ -رحمه اللَّه تعالى-: "الغَنَم": محرَّكةً: الشاءُ، لا واحد لها من لفظها، الواحدة شاةٌ، وهو اسم مؤنّثٌ للجنس يقع على الذكور والإناث، وعليهما جميعًا، جمعه أغنامٌ، وغُنُومٌ، وأغانم انتهى
(1)
.
وقال في "المصباح": "الغَنَمُ": اسم جنس، يطلق على الضأن والمعز، وقد تُجمع على أغنام، على معنى قُطَعَانات من الغنم، ولا واحد للغنم من لفظها. قاله ابن الأنباريّ. وقال الأزهريّ أيضًا: الغنمُ الشاءُ، الواحدة شاةٌ، وتقول العرب: رَاحَ على فلان غَنَمَان، أي قَطِيعَانِ من الغنم، كلّ قطيع منفردٌ بمرعى، وراعٍ. وقال الجوهريّ: الغنم اسمٌ مؤنّثٌ، موضوعٌ لجنس الشاء، يقع على الذكور والإناث، وعليهما، وُيصغّر، فتدخل الهاء، ويقال: غُنيمةٌ؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كانت لغير الآدميين، وصُغّرت، فالتأنيث لازمٌ لها انتهى
(2)
.
وقال الزين ابن المنيّر -رحمه اللَّه تعالى- عند قول البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-: "باب زكاة الغنم": حَذَفَ وصفَ الغنم بالسائمة، وهو ثابت في الخبر، إما لأنه لم يعتبر هذا المفهوم، أو لتردّده من جهة تعارض وجوه النظر فيه عنده. وهي مسألة خلافية شهيرة، والراجح في مفهوم الصفة أنها إن كانت تناسب الحكم مناسبة العلّة لمعلولها اعتُبِرت، وإلا فلا، ولا شكّ أن السوم يُشعِر بخفّة المؤونة، ودرء المشقّة، بخلاف العَلَف،
(1)
- "القاموس" في مادة غنم.
(2)
- "المصباح المنير" في مادّة غنم.
فالراجح اعتباره هنا. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدّم البحث عن اشتراط السوم وعدمه مستوفًى في شرح الحدث -7/ 2449 - في المسألة الثانية منه، ورجّحت مذهب الجمهور القائلين باشتراطه، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2455 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ النَّسَائِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه، كَتَبَ لَهُ: "أَنَّ هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ، الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى الْمُسْلِمِينَ، الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى وَجْهِهَا، فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا، فَلَا يُعْطِهِ.
فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإِبِلِ، فِي خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ ابْنَةُ مَخَاضٍ، فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونِ، إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ، فَفِيهَا حِقَّةٌ، طَرُوقَةُ الْفَحْلِ، إِلَى سِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَسِتِّينَ، فَفِيهَا جَذَعَةٌ، إِلَى خَمْسَةٍ
(2)
وَسَبْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتَّةً وَسَبْعِينَ، فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ، إِلَى تِسْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، فَفِيهَا حِقَّتَانِ، طَرُوقَتَا الْفَحْلِ، إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ، ابْنَةُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، فَإِذَا تَبَايَنَ أَسْنَانُ الإِبِلِ، فِي فَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ، فَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ، إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلاَّ جَذَعَةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَّدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ ابْنَةُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ، إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ بِنْتِ لَبُونٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلاَّ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَّدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ بِنْتِ لَبُونٍ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ، إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ ابْنَةِ مَخَاضٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلاَّ ابْنُ لَبُونٍ، ذَكَرٌ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ، وَمَنْ
(3)
لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ مِنَ الإِبِلِ، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا.
(1)
- (فتح) ج 4 ص 75.
(2)
- وفي نسخة: "خمس".
(3)
- وفي نسخة: "وإن".
وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا، إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاةٌ، إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ، فَفِيهَا شَاتَانِ، إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ، فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ، فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ.
وَلَا تُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلَا تَيْسُ الْغَنَمِ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْمُصَّدِّقُ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً، مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا.
وَفِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَالُ إِلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةً، فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير "عُبيد اللَّه بن فَضَالة بن إبراهيم": وهو أبو قُديد النسائي الثقة الثبت [11] فإنه من أفراد المصنف.
و"سُريج بن النعمان" بن مروان الجوهري اللؤلؤي، أبو الحسين، ويقال: أبو الحسن البغدادي، أصله من خراسان، ثقة يهم قليلًا، من كبار [10].
روى عن فليح بن سليمان، والحمادين، وحشرج بن نباتة، ونافع بن عمر الجمحي، ومحمد بن مسلم الطائفي، والحكم بن عبد الملك، وابن أبي الزناد، وهشيم، وغيرهم.
وعنه البخاريّ، وروى الأربعة له بواسطة محمد بن رافع، وأبي شيبة، وأحمد بن منيع، والفضل بن سهل الأعرج، ومحمد بن عامر المصّيصيّ، وأبو خيثمة، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأحمد بن حنبل، وأحمد بن سنان القطان، وعمرو الناقد، وإسماعيل سمويه، وغيرهم.
قال المفضل الغلابي عن ابن معين: ثقة، وسريج بن يونس أفضل منه. وقال العجلي: ثقة. وقال أبو داود: ثقة، حدثنا عنه أحمد بن حنبل غلط في أحاديث، وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال ابن سعد كان ثقة. وقال حنبل بن إسحاق وغيره: مات يوم الأضحى سنة سبع عشرة ومائتين. وقال الحاكم عن الدارقطنيّ: ثقة مأمون. وقال ابن حبّان في "الثقات": يكنى أبا الحارث. أخرج له البخاريّ، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث رقم (3920).
[تنبيه]: وقع في بعض النسخ "شريح بن النعمان" بالشين المعجمة، وآخره حاء مهملة، وهو تصحيف فاحش، والصواب "سريج" بالمهملة، والجيم آخره، كما في النسخة "الهندية"، فأما شريح بن النعمان، فإنه تابعيّ، وليس ممن يروي عن حماد بن
سلمة، روى عن عليّ رضي الله عنه، أخرج له أصحاب السنن، حديثًا واحدًا في الأضحية، وليس له عندهم غيره، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 2/ 162.
وأما سريج بن النعمان بالسين المهملة فإنه من شيوخ البخاريّ، وروى له أيضًا أصحاب السنن، وله أحاديث كثيرة، فتنبّه.
والحديث صحيحٌ، وقد تقدّم سندًا ومتنًا في -5/ 2447 - وتقدّم شرحه، والكلام على مسائله، وأذكر هنا ما لم يتقدّم بحثه هناك، فأقول:
(مسألة): في مذاهب أهل العلم في نصاب الغنم:
قال العلامة ابن رُشد -رحمه اللَّه تعالى-: أجمعوا من هذا الباب على أن في سائمة الغنم إذا بلغت أربعين شاةً شاةٌ، إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على العشرين ومائة، ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت على المائتين، فثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت على الثلاثمائة ففي كلّ مائة شاةٌ، وذلك عند الجمهور، إلا الحسن بن صالح، فإنه قال: إذا كانت الغنم ثلاثمائة شاةِ وشاةً واحدة أن فيها أربع شياه، وإذا كانت أربعمائة شاةٍ وشاةً، ففيها خمس شياه. ورُوِي قولُهُ هذا عن منصور، عن إبراهيم. والآثارُ المرفوعة في كتاب الصدقة على ما قال الجمهور. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أنّ ما ذهب إليه الجمهور هو الحقّ؛ لموافقته النصوص الواردة في أحاديث الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
11 - باب مَانِعِ زَكَاةِ الْغَنَمِ
أي باب ذكر الحديث الدّالّ على عقوبة مانع زكاة الغنم.
2456 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ، وَلَا بَقَرٍ، وَلَا غَنَمٍ، لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا، إِلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَعْظَمَ مَا كَانَتْ، وَأَسْمَنَهُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، كُلَّمَا نَفَذَتْ أُخْرَاهَا، أَعَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا،
(1)
- راجع "بداية المجتهد" ج 1 ص 262.
حَتَّى يُقْضَي بَيْنَ النَّاسِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. والسند مسلسل بالكوفيين غير شيخه، فبغداديّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
والحديث متفقٌ عليه، وقد تقدّم سندًا ومتنًا في -2/ 2440 - وتقدّم شرحه، والكلام على مسائله هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
وقوله: "تنطحه" بكسر الطاء، وفتحها.
وقوله: "نَفِدَت" -بفتح النون، وكسر الدال المهملة، أو بفتح النون، والذال المعجمة- قال النوويّ: ضبطناه بالدال المهملة، وبالمعجمة، وفتح الفاء، وكلاهما صحيح انتهى.
وقوله: "عادت" ووقع في بعض النسخ: "أُعيدت" بالبناء للمفعول، وهو صحيح أيضًا. ووقع في أخرى:"أعادت" بزيادة الهمزة، وهو غلط. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
12 - (بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَفَرِّقِ، وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ)
2457 -
(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، قَالَ: أَتَانَا مُصَدِّقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُهُ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ فِي عَهْدِي، أَنْ لَا نَأْخُذَ رَاضِعَ لَبَنٍ، وَلَا نَجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا نُفَرِّقَ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ كَوْمَاءَ، فَقَالَ: خُذْهَا، فَأَبَى)
رجال هذا الإسناد ستة:
1 -
(هنّاد بن السّريّ) التميمي، أبو السريّ الكوفيّ، ثقة [10] 23/ 25.
2 -
(هُشيم) بن بشير السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقة ثبت كثير الإرسال والتدليس الخفيّ [7] 88/ 109.
3 -
(هلال بن خَبّاب)، أبو العلاء البصريّ، نزيل المدائن، صدوق تغيّر بآخره [5] 81/ 1013.
4 -
(ميسرة أبو صالح) مولى كندة الكوفيّ، مقبول [3].
روى عن عليّ بن أبي طالب، وسُويد بن غَفَلة. وعنه عطاء بن السائب، وهلال بن خَبّاب، وسلمة بن كُهيل. ذكره ابن حبّان في "الثقات". انفرد به المصنّف، وأبو داود، له عندهما هذا الحديث فقط.
5 -
(سُوَيد بن غَفَلَةَ) -بفتح المعجمة والفاء- أبو أمية الجعفي مخضرم ثقة من كبار التابعين، قدم المدينة يومَ دُفِنَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان مسلمًا في حياته، ثم نزل الكوفة، ومات سنة 80 وله 130 سنة [2] 63/ 1187. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ سُوَيْدِ نجنِ غَفَلَةَ) أنه: (قَالَ: أتَانَا مُصَدِّقُ النَّبِيِّ) وفي نسخة: "رسول اللَّه" صلى الله عليه وسلم أي الذي أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم آخذًا للصدقات، والمصدّق -بتخفيف الصاد، وتشديد الدال-: اسم فاعل، من صدّق: إذا أخذ الصدقة (فَأَتَيْتُهُ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ فِي عَهْدِي) أي فيما عَهِدَ إليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمراد ما كتبه له، وفي رواية لأبي داود من طريق أبي ليلى الكِنْدِيّ، عن سُوَيدُ بن غَفَلَة: "أتانا مصدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخذت بيده، وقرأت في عهده
…
". وللدارقطنيّ: "قدم عدينا مصدّق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -قال: فقرأت في كتابه: لا يجمع بين متفرّق
…
" الحديث.
(أَنْ لَا نَأخُذَ رَاضِعَ لَبَنٍ) هكذا نسخ "المجتبى""راضع لبن". ووقع في "الكبرى": "من راضع لبن" بزيادة "من"، وهو الذي في "سنن أبي داود" فـ "من" زائدة، أي لا نأخذَ صغيرًا يَرْضَع اللبن.
ويحتمل أن يكون المعنى أنها إذا كانت كلها صغارًا لا آخذ منها شيئًا، ويؤيّده ما في رواية الدارقطنيّ:"أن لا آخذ من راضع لبن شيئًا".
وإنما نهاه صلى الله عليه وسلم عن أخذ الصغير لأنه يضرّ بمصلحة الفقراء، فإن حقّهم في الأوساط، وفي الصغار إخلال بحقّهم. أو المراد ذات لبن، بتقدير مضاف، أي ذات راضع لبن، وإنما نهاه لأنها من خيار المال، فتضرّ بالمالك. وقيل: المعنى أن ما أُعدّت للدّرّ لا يؤخذ منها شيء.
ويحتمل أن يكون المعنى أن لا نعُدّ الصغارَ في نصاب الزكاة. ويؤيد هذا المعنى ما في رواية الدارقطنيّ بلفظ: "أن لا آخذ من راضع لبن شيئًا"، كما تقدّم قريبًا.
وعليه يكون الحديث حجّة لأبي حنيفة ومحمد في أن الصغار من الإبل، والغنم، والبقر لا زكاة فيها استقلالاً، فلو ملك خمسًا وعشرين من الأبل، وقد وضعت خمسًا وعشرين فصيلاً، ومات الكبار كلها قبل تمام الحول، وتمّ الحول على الصغار، فلا
زكاة فيها. أما لو بقي من الكبار ولو واحدة، فإنها تُزكّى تبعًا للأصل، لا قصدًا. وعند أبي يوسف يجب في الصغار واحدة منها، إذا تمّ لها حول
(1)
.
(وَلَا نَجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ) وفي نسخة: "مفترق"(وَلَا نُفَرِّقَ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ) تقدّم شرحه مستوفًى في -5/ 2447 - زاد في رواية أبي داود: "وكان إنما يأتي المياه حين ترد الغنم، فيقول: أدّوا صدقات أموالكم. قال: فعمد رجل منهم إلى ناقة كوماء، قال: قلت: يا أبا صالح ما الكوماء؟ قال: عظيمة السنام
…
" الحديث (فَأَتَاهُ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ كَوْمَاءَ) -بفتح الكاف، وسكون الواو- أي مشرفة السنام، عاليته. وفي رواية ابن ماجه: 1801 "فأتاه رجل بناقة، عظيمة، مُلَمْلَمَة، فأبى أن يأخذها، فأتاه بأخرى دونها، فأخذها، وقال أيُّ أرض تُقِلُّني، وأيُّ سماء تظلني، إذا أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد أخذت خيار إبل رجل مسلم". و"الْمُلَمْلَمَةُ": هي المستديرة سِمَنًا، من اللَّمّ، بمعنى الضمّ والجمع.
(فَقَالَ) ذلك الرجل للمصدّق (خُذْهَا، فَأَبَى) أي امتنع المصدّق من قبول تلك الناقة الكَوْماء؛ لكونها من خيار ماله، وقد نهاه النبيّ صلى الله عليه وسلم من أخذ خيار المال.
وفي رواية أبي داود: "فأبى أن يقبلها، قال: إني أحبّ أن تأخذ خير إبلي، قال: فأبى أن يقبلها، قال: فخطم له أخرى، دونها، فأبى أن يقبلها، ثم خطم له أخرى
(2)
دونها، فقبلها، وقال: إني آخذها، وأخاف أن يَجِدَ عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول: عَمَدت إلى رجل، فتخيّرت عليه إبله" انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث سويد بن غَفَلَة، عن مصدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ وفيه ميسرة أبو صالح، وقال عنه في "التقريب": مقبول. يعني أنه يحتاج إلى متابع؟.
[قلت]: لم ينفرد به، بل تابعه أبو ليلى الكنديّ سلمة بن معاوية. وقيل: معاوية بن سلمة الكوفي، وهو ثقة.
فقد أخرجه أبو فى داود، وابن ماجه من طريق شريك، عن عثمان بن أبي زرعة، عن
(1)
- انظر "المنهل" ج 9 ص 176.
(2)
- أي قاد له ناقة أخرى بخطامها، وهو الحبل الذي تقاد به الدّابّة.
أبي ليلى الكنديّ، عن سُويد بن غَفَلة، قال: "أتانا مصدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
" الحديث. والحاصل أن الحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-12/ 2457 - وفي "الكبرى" 12/ 2237. وأخرجه أبو داود في "الزكاة" 1579 (ق) 1801 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 18358 (الدارميّ) في "الزكاة" 1630. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو النهي عن الجمع بين المتفرّق، والتفريق بين المجتمع، خشية الصدقة، وقد تقدّم بيانه (ومنها): النهي عن أخذ الرضيع في الزكاة (ومنها): النهي عن أخذ خيار المال (ومنها): أن الزكاة شُرعت لمواساة الفقراء، فلا ينبغي إضرار أحد الجانبين، لا المالكِ بأخذ خيار ماله، ولا الفقيرِ بأخذ أردإ المال. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2458 -
(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ زَيْدِ بْنِ يَزِيدَ -يَعْنِي ابْنَ أَبِي الزَّرْقَاءِ- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَ سَاعِيًا، فَأَتَى رَجُلاً، فَأَتَاهُ فَصِيلاً مَخْلُولاً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بَعَثْنَا مُصَدِّقَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنَّ فُلَانًا أَعْطَاهُ فَصِيلاً مَخْلُولاً، اللَّهُمَّ لَا تُبَارِكْ فِيهِ، وَلَا فِي إِبِلِهِ» ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَجَاءَ بِنَاقَةٍ حَسْنَاءَ، فَقَالَ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَإِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ، وَفِي إِبِلِهِ»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هارون بن زيد بن يزيد بن أبي الزَّرْقَاء) الموصليّ، نزيل الرَّمْلة، صدوق [10] 50/ 851.
2 -
(أبوه) زيد بن أبي الزرقاء" الموصليّ، نزيل الرملة، ثقة [9] 50/ 851.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ الإمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.
4 -
(عاصم بن كُليب) الكوفيّ، صدوق رمي بالإرجاء [5] 11/ 889.
5 -
(كُليب بن شهاب) صدوق [2] ووهم من ذكره في الصحابة.
6 -
(وائل بن حجر) -بضم المهملة، وسكون الجيم- ابن سعد بن مسروق الحضرميّ، الصحابيّ الجليل، كان من ملوك اليمن، ثم سكن الكوفة، ومات في خلافة معاوية رضي الله عنهما 4/ 879. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وشيخ شيخه، فإنهما من رجال المصنف، وأبي داود، وغير كليب، فإنه من رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين غير شيخه، وشيخ شيخه فإنهما موصليان، ثم رمليان. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي، عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَ سَاعِيًا) اسم فاعل، من سَعَى في الصدقة يَسعَى سَعْيًا: إذا عمل في أخذها من أربابها
(1)
(فَأَتَى رَجُلاً، فَآتاهُ) بالمدّ، كأعطاه وزنًا ومعنى (فَصِيلاً) -بفتح، فكسر-: ولد الناقة، سمي به لأنه يُفصَل عن أمّه، فهو فَعِيل بمعنى مفعول، والجمع فُصْلان -بضمّ الفاء، وكسرها- وقد يُجمع على فِصال -بالكسر- كأنهم توهّموا فيه الصفة، مثل كريم وكِرَام. قاله الفيّوميّ (مَخْلُولاً) قال ابن الأثير: أي مهزولاً، وهو الذي جُعِل في أنفه خِلَالٌ؛ لئلّا يرضع أمه، فَتُهْزَلَ. وقيل: المخلول: السَّمِين، ضدّ المهزول، والمهزول إنما يقال له: خَلٌّ، ومُخْتَلٌّ. والأول الأوجه. ومنه يقال لابن مخاض: خَلٌّ؛ لأنه دقيق الجسم انتهى
(2)
.
وقال ابن منظور: وأما ما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أُتي بفصيل مَخْلُول، أو مَحْلُول، فقيل: هو الْهَزِيل الذي قد خَلَّ جسمه. وبقال: أصله أنهم كانوا يَخُلُّون الفَصِيل لئلا يَرتضع، فَتُهزَلَ لذلك. وفي "التهذيب": وقيل: هو الفصيل الذي خُلَّ أنفُهُ لئلّا يَرْضَع أمه، فتُهْزَلَ. قال: وأما المهزول فلا يقال له: مخلول؛ لأن المخلول هو السَّمِين، ضدّ المهزول. والمهزول: هو الخَلُّ والْمُخْتَلُّ، والأصحّ في الحديث أنه المشقوق اللسان لئلاّ يرضع. ذكره ابن سِيدَهْ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن ذلك الفصيل مَعِيب بالْهُزَال بسبب عدم ارتضاعه لأمه. واللَّه تعالى أعلم.
(فَقَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "بَعَثنَا مُصَدِّقَ اللَّهِ" عز وجل (وَرَسُولِهِ) صلى الله عليه وسلم (وَإنَّ فُلَانًا أَعْطَاهُ فَصِيلاً مَخْلُولاً، اللَّهُمَّ لَا تُبَارِكْ فِيهِ، وَلَا فِي إِبلِهِ) إنما دعا عليه صلى الله عليه وسلم بأن لا يبارك اللَّه تعالى فيه، ولا في إبله، لبخله عن أداء ما أوجبه اللَّه تعالى عليه من الزكاة التي بسسبها يزكو المال،
(1)
- راجع "المصباح المنير" في مادّة سعى.
(2)
- "النهاية" ج 2 ص 73.
ويكثر، والتي هي سبب لتطهير صاحبها، وتزكيته، وصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه كما قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} الآية [التوبة: 103]، فلمّا أعرض عن ذلك كلّه استحقّ الدعاء عليه، كما أنه إذا أتاه شخص بصدقته عن طيب نفس، وسخاه، وآتاه من طيّبات ما آتاه اللَّه من المال صلّى عليه، ودعا له بالبركة؛ عملاً بما أمره اللَّه تعالى به في الآية.
وفيه أن من أعطى في الزكاة رديء ماله يستحقّ أن يدعو عليه الإمام بنزع البركة عنه وعن ماله. واللَّه تعالى أعلم.
(فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَجَاءَ بنَاقَةٍ حَسْنَاءَ، فَقَالَ: أَتُوبُ) وفي نسخة: "تبت"(إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَإِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَاَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ بَارِك فِيهِ، وَفِي إِبلِهِ") لأن من تاب تاب اللَّه عليه.
وفيه أن من أعطى في الصدقة النوع الطيب ينبغي للإمام أن يدعو له بأن يبارك اللَّه تعالى فيه، وفي ماله.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث وائل بن حجر به رضي الله عنه هذا صحيح الإسناد، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-12/ 2458 - وفي "الكبرى" 12/ 2238.
ثم إن إيراده في هذا الباب فيه بُعْدٌ، إذ لا مناسبة بينهما، كما لا يخفى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
13 - (بَابُ صَلَاةِ الإِمَامِ عَلَى صَاحِبِ الصَّدَقَةِ)
أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على مشروعيّة صلاة الإمام لصاحب الصدقة، أي قوله عند دفعه الصدقةَ اللَّهم صلَّ على فلان، وقدّمنا في "كتاب الصلاة" عند شرح الصلاة الإبراهيمية أن الأصحّ في معنى صلاة اللَّه على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى. وقيل: رحمته.
وقد ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بقوله: "باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، وقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} إلى قوله: {سَكَنٌ لَهُمْ} .
قال الزين ابن المنيّر -رحمه اللَّه تعالى-: عَطَفَ الدعاء على الصلاة في الترجمة ليبيّن أن لفظ الصلاة ليس مُحَتَّمًا، بل غيره من الدعاء بمنزلته انتهى.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ويؤيّد عدم الانحصار في لفظ الصلاة ما أخرجه النسائيّ من حديث وائل بن حُجر أنه صلى الله عليه وسلم قال في رجل بعث بناقة حسنة في الزكاة: "اللَّهمّ بارك فيه، وفي إبله". وأما استدلاله بالآية لذلك فكأنه فهم من سياق الحديث مُداومة النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فحمله على امتثال الأمر في قوله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} . ورَوَى ابن أبي حاتم وغيره بإسناد صحيح عن السدّيّ في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} قال: ادع لهم.
وقال ابن المنيّر في "الحاشية": عبّر المصنّف في الترجمة بالإمام ليُبطل شبهة أهل الرّدّة في قولهم للصدّيق: إنما قال اللَّه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} ، وهذا خاصّ بالرسول صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يبيّن أن كلّ إمام داخل في الخطاب انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2459 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ أَخْبَرَنِي، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ» ، فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى»).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عمرو بن يزيد) أبو بُريد الجَرْمي البصريّ، صدوق [11] 100/ 130 من أفراد المصنف.
2 -
(بهز بن أسد) العمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقة ثبت [9] 24/ 28.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.
4 -
(عمرو بن مرّة) بن عبد اللَّه بن طارق الجَمَليّ الكوفي الأعمى، ثقة عابد [5] 171/ 265.
5 -
(عبد اللَّه بن أبي أوفى) علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي، صحابيّ شهد الحُدَيبية، وعُمِّرَ بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم دهرًا، ومات سنة (87) - رضي اللَّه تعالى -، تقدّمت ترجمته
(1)
- "فتح" ج 4 ص 131.
في-3/ 402. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، والباقيان كوفيان. (ومنها): أن عمرو بن مرّة تابعي صغير، لم يرو من الصحابة إلا من عبد اللَّه بن أبي أوفى رضي الله عنه، وأنه كان لا يدلّس كما وصفه بذلك شعبة. (ومنها): أن صحابيه آخر من مات من الصحابة بالكوفة، مات سنة (87). واللَّه تعالى أعلم.
شرحِ الحديث
عن شعبة أنه (قال: عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ أخْبَرَنِي) فاعل "قال" ضمير شعبة، و"عمرو بن مرّة" مبتدأٌ، خبره جملة:"أخبرني". يعني أن شعبة قال: أخبرني عمرو (قَالَ) عمرو (سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى) - رضي اللَّه تعالى عنه - (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا أتاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ، قَالَ: "اللهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ") وفي رواية للبخاريّ: "اللهم صلّ على فلان".
قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: لما أمر اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بأخذ الصدقة من الأموال، والدعاء للمتصدّق بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
…
} الآية [التوبة: 103]، امتثل ذلك، فكان يدعو لمن أتاه بصدقته، ولذلك كان يقول لهم: اللَّهم صلّ عليهم" أي ارحمهم انتهى
(1)
.
(فَأَتَاهُ أَبِي بصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى") يريد أبا أوفى نفسَهُ؛ لأن الآل يطلق على ذات الشيء، كقوله في قصّة أبي موسى:"لقد أوتي مِزْمَارًا من مزامير آل داود". وقيل: لا يُقال ذلك إلا في حقّ الرجل الجليل القدر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-12/ 2459 - وفي "الكبرى" 14/ 2239. وأخرجه (خ) في "الزكاة"
(1)
- "المفهم" ج 3 ص 131 - 132.
1498 وفي "المغازي" 4166 وفي "الدعوات" 6332 و 6359 (م) في "الزكاة" 1078 (د) في "الزكاة" 1590 (ق) في "الزكاة" 1796 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 18632 و 18636 و 18654 و 18915 و 18924. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعية صلاة الإمام لمعطي الصدقة (ومنها): أنه لا يتعيّن لفظ الصلاة، بل لو دعا له بالبركة أصاب السنّة، كما دلّ عليه حديث وائل بن حجر رضي الله عنه المتقدّم في الباب الماضي.
قال النوويّ: وقد استحبّ الشافعيّ في صفة الدعاء أن يقول آجرك اللَّه فيما أعطيت، وجعله طهورًا لك، وبارك لك فيما أبقيت انتهى
(1)
.
(ومنها): جواز الصلاة على غير الأنبياء، وكرهه مالك والجمهور. قال ابن التين: وهذا الحديث يعكر عليه. وقد قال جماعة من العلماء: يدعو آخذ الصدقة للمتصدّق بهذا الدعاء؛ لهذا الحديث. وأجاب الخطّابيّ عنه بأن أصل الصلاة الدعاء إلا أنه يختلف بحسب المدعوّ له، فصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته دعاء لهم بالمغفرة، وصلاة أمته عليه دعاء له بزيادة القربى والزلفى؛ ولذلك كان لا يليق بغيره انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بكراهة الصلاة على غير الأنبياء مما لا يقوم عليه دليل، فالحقّ أن الصلاة على غيرهم جائزة؛ لحديث الباب وغيره، وقد قدمت تحقيق البحث في ذلك في "كتاب الصلاة" في أبواب الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في التشهّد، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): اختُلف في حكم الدعاء للمتصدّق:
ذهب الجمهور إلى أن الدعاء لدافع الزكاة سنة مستحبّة، وليس بواجب.
وذهب أهل الظاهر إلى أنه واجب. قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وبه قال بعض أصحابنا، حكاه أبو عبد اللَّه الحناطيّ -بالحاء المهملة- واعتمدوا الأمر في الآية، قال الجمهور: الأمر في حقّنا للندب؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا وغيره لأخذ الزكاة، ولم يأمرهم بالدعاء. وقد يُجيب الآخرون بأن وجوب الدعاء كان معلومًا لهم من الآية الكريمة. وأجاب الجمهور أيضًا بأن دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم وصلاته سكن لهم، بخلاف غيره
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح؛ لأن ما
(1)
- "شرح مسلم" ج 7 ص 184.
(2)
- "شرح مسلم" ج 7 ص 184.
احتجّوا به كافِ في صرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب، فتأمّل. واللَّه تعالى أعلم
بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
14 - (بَابٌ إِذَا جَاوَزَ فِي الصَّدَقَةِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر تبويب المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يدلّ على أنه إذا جاوز الْمُصَدِّق الواجب، فأخذ أكثر منه، يجب دفع ما طلبه، وإرضاؤه، لظاهر حديث الباب.
لكن الذي يظهر لي أن هذا محمول على ما إذا كان المصدّق معروفًا بالورع، لا يظلم الناس، ولكنّ صاحب المال لحرصه ظنّ أنه يظلمه، وأما إذا طلب فوق الواجب من دون تأويل، فلا يجب إرضاؤه، لحديث أنس رضي الله عنه المتقدّم:"فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعط، ومن سُئل فوق ذلك، فلا يعط".
وخلاصة القول: أنه صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أن عامليه لا يظلمون الناس، ولكنّ أرباب الأموال لشدّة محبّتهم للأموال يعدّون الأخذ ظلمًا، فقال لهم:"أرضوا مصدّقيكم"، أي وإن ظلموكم في زعمكم، فليس فيه تقرير للعاملين على الظلم، ولا تقرير للناس على الصبر عليه، وعلى إعطاء الزيادة على ما حدّه اللَّه تعالى في الزكاة.
والحاصل أن الجمع بين الحديثين بما ذكر متعيّنٌ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2460 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: قَالَ: جَرِيرٌ، أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَاسٌ، مِنَ الأَعْرَابِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَأْتِينَا نَاسٌ مِنْ مُصَدِّقِيكَ، يَظْلِمُونَ، قَالَ: «أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ» ، قَالُوا: وَإِنْ ظَلَمَ؟ قَالَ: «أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ» ، ثُمَّ قَالُوا: وَإِنْ ظَلَمَ؟ قَالَ: «أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ» ، قَالَ جَرِيرٌ: فَمَا صَدَرَ عَنِّي مُصَدِّقٌ، مُنْذُ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلاَّ وَهُوَ رَاضٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن المثنى) أبو موسى العنَزيّ البصريّ. ثقة حافظ [10] 64/ 80.
2 -
(محمد بن بشار) أبو بكر بندار البصري، ثقة [10] 24/ 27.
3 -
(يحيى) بن سعيد القطان الإمام الحجة [9] 4/ 4.
4 -
(محمد بن أبي إسماعيل) واسم أبي إسماعيل راشد الأسلميّ المدنيّ، ثقة [5].
قال ابن معين، والنسائيّ ثقة. وقال أبو حاتم: محمد بن راشد أخو عمر، وإسماعيل، ويُعرفون ببني أبي إسماعيل، محمد أحبّهم إليّ. وقال يحيى بن آدم، عن شريك: أنه سئل عن امرأة وَلَدت في بطن أربعة، فقال: قد رأيت بني أبي إسماعيل أربعة وُلِدُوا في بطن واحد، وعاشوا. قال البخاريّ: عامتهم محدّثون. وذكره ابن حبّان في "الثقات". قال البخاريّ: قال يحيى: مات سنة (242). أخرج له مسلم، وأبو داود، والمصنّف، له عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
5 -
(عبد الرحمن بن هلال) العبسيّ -بالموحّدة- الكوفيّ، ثقة [3].
قال النسائيّ: ثقة. وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وفي الطبرانيّ من طريق مُجالد عنه قال: بعثني أبي إلى جرير، فسألته. أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، سوى الترمذيّ، وله عند المصنف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
6 -
(جرير) بن عبد اللَّه بن جابر البجلي الصحابي الجليل - رضي اللَّه تعالى عنه - 43/ 51. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن عبد الرحمن، ومحمد بن أبي إسماعيل هذا أول محل ذكرهما من الكتاب. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ) العبسيّ، أنه (قَالَ: قَالَ جَرِيرٌ) بن عبد اللَّه رضي الله عنه (أَتَى النَّبِيَّ) بالنصب مفعول مقدم (صلى الله عليه وسلم نَاسٌ) بالرفع فاعل مؤخّر (مِنَ الأَعْرَابِ) بالفتح يريد أهل الباديهَ، وواحد الأعراب أعرابيّ، والفرق بين الأعرابيّ والعربيّ أن من نزل البادية، وجاور البادين، وظعن بظَعْنِهم، فهو من الأعراب، ومن نزل بلاد الرِّيفِ، واستوطن الْمُدُن، والقرى العربيّة، وغيرها ممن ينتمي إلى العرب، فهو من العرب، وإن لم يكن فصيحًا.
(فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَأْتِينَا نَاسٌ مِنْ مُصَدِّقِيكَ) وفي نسخة: "من مصدقكم"، وهو جمع مُصَدّق -بتخفيف الصاد، وتشديد الدال- أي من السُّعَاة الذين ترسلهم لأخذ
الصدقات (يَظلِمُونَ) قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: لا شكّ أن أهل البادية أهل جفاء وجهل غالبًا؛ ولذلك قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية [التوبة: 97] ولذلك نَسَبُوا الظلم إلى مصدّقي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإلى فضلاء أصحابه، فإنه صلى الله عليه وسلم ما كان يَستعمل على ذلك إلا أعلم الناس، وأعدلهم؛ لكن لجهل الأعراب بحدود اللَّه ظنّوا أن ذلك القدر الذي كانوا يأخذونه منهم هو ظلم، فقال لهم صلى الله عليه وسلم:"أرضوا مصدّقيكم، وإن ظُلِمتم" أي على زعمكم وظنّكم، لا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سوّغ للعمّال الظلم، وأمر الأعراب بالانقياد لذلك؛ لأنه كان يكون ذلك منه إقرارًا على منكرٍ، وإغراءً بالظلم، وذلك مُحالٌ قطعًا، وإنما سلك النبيّ صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء هذا الطريق، دون أن يبيّن لهم أن ذلك الذي أخذه المصدّقون ليس ظلمًا؛ لأن هذا يحتاج إلى تطويل وتقريرٍ، وقد لا يَفهَم ذلك أكثرهم. وأيضًا فَلْيَحصُل منهم الانقياد الكلّيّ بالتسليم، وترك الاعتراض الذي لا يحصل الإيمان إلا بعد حصوله، كما قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] انتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ) قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: المصدّق الساعي، ومقصود الحديث الوَصَاية بالسُّعَاة، وطاعةِ وُلاة الأمور، وملاطفتِهِم، وجمعُ كلمة المسلمين، وصلاح ذات البين. وهذا كلّه ما لم يطلب جَوْرًا، فإذا طلب جَورًا، فلا موافقة له، ولا طاعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه المتقدّم:"فمن سئلها على وجهها، فليعطها، ومن سئل فوقها، فلا يعط".
قال: واختلف أصحابنا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا يُعط" فقال أكثرهم: لا يُعطي الزيادة، بل يعطي الواجب. وقال بعضهم: لا يعطه شيئًا أصلاً؛ لأنه يفسق بطلب الزيادة، وينعزل، فلا يُعطَى شيئًا. واللَّه تعالى أعلم انتهى كلام النوويّ
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الأكثرون هو الأقرب. واللَّه تعالى أعلم. (قَالُوا: وَإِنْ ظَلَمَ؟ قَالَ: "أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ) زاد في رواية لأبي داود: "وإن ظُلمتم".
وفي حديث بشير ابن الْخَصَاصيّة رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول اللَّه إن أهل الصدقة يعتدون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا؟ فقال:"لا". رواه أبو داود، وفي إسناده مجهول.
(1)
- "المفهم" ج 3 ص 133 - 134.
(2)
- "شرح مسلم" ج 7 ص 174 - 185.
وفي حديث جابر بن عَتِيك رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "سيأتيكم ركبٌ مُبَغّضون، فإذا جاؤوكم، فرحّبوا بهم، وخلّوا بينهم، وبين ما يَبتغون، فإن عَدَلُوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم، فإن تمام زكاتكم رضاهم، وليدعوا لكم". رواه أبو داود أيضًا، وفي إسناده مجهول أيضًا
(1)
.
(ثُمَّ قَالُوا: وَإِنْ ظَلَمَ؟ قَالَ: "أَرْضُوا مُصَدِّقِيكمْ"، قَالَ: جَرِيرٌ) بن عبد اللَّه رضي الله عنه (فَمَا صَدَرَ عَنيِّ مُصَدِّقٌ) أي ما رجع من عندي سَاعٍ. يقال: صدَرَ عن الموضع صَدْرًا، من باب قتل: إذا رجع، قال الشاعر [من البسيط]:
وَلَيلَةٍ قَدْ جَعَلْتُ الصُّبْحَ مَوْعِدَهَا
…
صَدْرَ الْمَطِيَّةِ حَتَّى تَعْرِفَ السَّدَفَا
(2)
(مُنْذُ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلاَّ وَهُوَ رَاضٍ) يعني أنه ما رجع من عنده ساعٍ بعد سماعه هذا الحديث من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا وهو راضٍ عنه؛ لكونه أعطاه ما طلب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث جرير رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-14/ 2460 و 2461 - وفي "الكبرى" 15/ 2240 و 2241. وأخرجه (م) في "الزكاة" 989 (د) في "الزكاة" 1589 (ت) في "الزكاة" 647 (ق) في "الزكاة" 1802 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 18724 (الدارميّ) 1660. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم ما إذا جاوز الساعي في الصدقة القدرَ الواجبَ، وهو أنه يجب إرضاؤه، وقد تقدّم الجمع بينه وبين حديث أنس رضي الله عنه:"ومن سئل فوقها، فلا يعط" أولَ الباب، فتنبّه.
(ومنها): أن الإنسان مجبول على الحرص في ماله، ولذا يَظُنّ أحيانًا المصدّق ظالمًا له، ولهذا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإرضاء المصدّق، لأنه لا يظلم، حيث إنه صلى الله عليه وسلم لا يرسل إلا العالم الورع، ومع ذلك يوصيه بتوقّي كرائم أموال الناس، وإنما حِرْصُ صاحب المال
(1)
- راجع "المنهل" ج 9 ص 187 - 189.
(2)
- راجع "المصباح المنير" في مادة صدر. والسَّدَفُ مُحَرَّكّةٌ: الصبح، وإقباله، وسواد الليل. قاله في "القاموس".
يحمله على اتهامه بذلك (ومنها): بيان فضل جرير بن عبد اللَّه، بل وسائر الصحابة رضي الله عنهم حيث إنهم إذا سمعوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرًا بادروا إلى امتثاله، واستمرّوا عليه حتى يموتوا، وذلك لصدق إيمانهم، وكمال محبّتهم للَّه تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2461 -
(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ- قَالَ: أَنْبَأَنَا دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَالَ: جَرِيرٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَتَاكُمُ الْمُصَدِّقُ، فَلْيَصْدُرْ، وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح.
و"زياد بن أيوب": هو المعروف بدَلُّويه. و"داود": هو ابن أبي هند.
والحديث أخرجه مسلم، كما تقدّم بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
15 - (بَابُ إِعْطَاءِ السَّيِّدِ الْمَالَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْمُصَدِّقِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المراد بـ"السيّد" صاحب المال، و"المالَ" منصوب على أنه مفعول أولُ و"إعطاء"، والثاني محذوف، أي المصدّقَ"، وإضافة "إعطاء" إلى "السيّد" من إضافة المصدر إلى فاعله. وفي "الكبرى" "باب إعطاء سيّد المالِ"، وعليه فـ "المالِ" مجرور بإضافة "سيّد" إليه.
وغرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا أن المالك إذا أعطى من خيار ماله باختياره، من غير أن يَطلب المصَدِّق منه ذلك جاز؛ لأن النهي عن أخذ خيار المال كان لحقّ المالك، فإذا ترك حقّه، وآثر جزيل الأجر، وعظيم الثواب بإعطاء خيار ماله، قبل منه ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2462 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ ثَفِنَةَ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ ابْنُ عَلْقَمَةَ
أَبِي، عَلَى عِرَافَةِ قَوْمِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُمْ، فَبَعَثَنِي أَبِي، إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، لآتِيَهُ بِصَدَقَتِهِمْ، فَخَرَجْتُ، حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، يُقَالُ لَهُ: سَعْرٌ، فَقُلْتُ: إِنَّ أَبِي بَعَثَنِي إِلَيْكَ، لِتُؤَدِّيَ صَدَقَةَ غَنَمِكَ، قَالَ: ابْنَ أَخِي، وَأَيُّ نَحْوٍ تَأْخُذُونَ، قُلْتُ: نَخْتَارُ، حَتَّى إِنَّا لَنَشْبُرُ ضُرُوعَ الْغَنَمِ، قَالَ: ابْنَ أَخِي، فَإِنِّي أُحَدِّثُكَ، أَنِّي كُنْتُ فِي شِعْبٍ مِنْ هَذِهِ الشِّعَابِ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي غَنَمٍ لِي، فَجَاءَنِي رَجُلَانِ، عَلَى بَعِيرٍ، فَقَالَا: إِنَّا رَسُولَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْكَ، لِتُؤَدِّيَ صَدَقَةَ غَنَمِكَ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا عَلَيَّ فِيهَا؟ قَالَا: شَاةٌ، فَأَعْمِدُ إِلَى شَاةٍ، قَدْ عَرَفْتُ مَكَانَهَا، مُمْتَلِئَةً مَحْضًا، وَشَحْمًا، فَأَخْرَجْتُهَا إِلَيْهِمَا، فَقَالَ: هَذِهِ الشَّافِعُ - وَالشَّافِعُ الْحَائِلُ- وَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ نَأْخُذَ شَافِعًا، قَالَ
(1)
: فَأَعْمِدُ إِلَى عَنَاقٍ مُعْتَاطٍ، وَالْمُعْتَاطُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَلَدًا، وَقَدْ حَانَ وِلَادُهَا، فَأَخْرَجْتُهَا إِلَيْهِمَا، فَقَالَا: نَاوِلْنَاهَا، فَرَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا، فَجَعَلَاهَا مَعَهُمَا، عَلَى بَعِيرِهِمَا، ثُمَّ انْطَلَقَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن عبد اللَّه بن المبارك) المخرِّمي، أبو جعفر البغدادي، ثقة حافظ [11] 43/ 50.
2 -
(وكيع) بن الجزاح الحافظ الحجة الكوفي [9] 23/ 25.
3 -
(زكريا بن إسحاق) المكي، ثقة رمي بالقدر [6] 60/ 865.
4 -
(عمرو بن أبي سفيان) بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية الجمحيّ المكي، ثقة [5]. قال عبد اللَّه بن شُعيب الصابونيّ، عن يحيى بن معين: حنظلة بن أبي سفيان، وعمرو بن أبي سفيان جمحيّان ثقتان. وقال أبو حاتم: مستقيم الحديث، أُراه أخا حنظلة. وقال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات".
روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
5 -
(مسلم بن ثَفِنَة) ويقال: ابن شعبة، وهو أصحّ، البكريّ، ويقال: اليشكريّ، حجازيّ، مقبول [3].
روى عن سَعْرٍ الدُّؤَليّ. وعنه عمرو بن أبي سفيان الْجُمَحِيّ. قال وكيعٌ عن زكريّا بن إسحاق، عن عمرو بن أبي سفيان، عن ابن ثَفِنَة. وقال رَوْح بن عُبَادة، وغير واحد، عن زكريّا، عن عمرو، عن مسلم بن شعبة. قال أحمد بن حنبل: أخطأ فيه وكيعٌ، قال بشر بن السريّ، متعجّبًا من قول وكيع: هؤلاء وُلْدُهُ ههنا -يعني بمكة. وقال البخاريّ:
(1)
- سقطت لفظة "قال" من بعض النسخ.
قال وكيعٌ: مسلم بن ثَفِنة، ولا يصحّ. وقال النسائيّ
(1)
: لا أعلم أحدًا تابع وكيعًا على قوله: ابن ثفنة. وقال الدارقطنيّ: وَهِمَ وكيعٌ، والصواب مسلم بن شعبة.
قال الذهبيّ: لا يُعرف. قال الحافظ: كذا قال، وحكاية أحمد عن بشر تدلّ على شهرته، وفي سياق حديثه عند أحمد وغيره أنه كان عَريف قومه، ولفضله استعمله ابن علقمة على عِرَافة قومه؛ لِيُصَدِّقَهم، كما قال ابنه: فبعثني أبي لآتيه بصدقتهم. انتهى.
انفرد به أبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
6 -
(سَعْر) -بفتح أوله، وآخره راء- ابن سَوَادة، أو ابن دَيْسَم العامريّ الكنانيّ، ويقال: الدُّؤَليّ، قدم الشام تاجرًا في الجاهلية، وأسلم. وروى عن مصدِّقَين للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وعنه ابنه جابر، ومسلم بن شعبة، وأبو عُتْوَارة الخفاجيّ. قال الدارقطنيّ: له صحبة. وذكره ابن حبّان في "الصحابة" أيضًا
(2)
. وقال في "ت": مخضرم وقيل: له صحبة. انتهى. انفرد به أبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها) أنه مسلسل بالمكيين من زكريا. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي وصحابي عن صحابيين، إن ثبتت صحبة سعر، وإلا ففيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ مُسْلِمِ بْنِ ثَفِنَةَ) تقدّم أن الصواب: ابن شعبة (قَالَ: اسْتَعْمَلَ ابْنُ عَلْقَمَةَ) بالرفع على الفاعلية، وهو نافع ابن علقمة بن صفوان الكنانيّ، كان عبدُ الملك بن مروان أمّره على مكّة، وهو خال مروان والدِ عبد الملك، فإن أمَّ مروان هي أم عثمان آمنة بنت علقمة بن صفوان المذكور. قاله في "الإصابة"
(3)
(أَبِيِ) مفعول "استعمل"(عَلَى عِرَافَةِ قَوْمِهِ) -بكسر العين المهملة- و"العَرِيف" القائم بأمور القبيلة، أو الجماعة من الناس، يتولى أمورهم، ويتبيّن الأمير منه أحوالهم.
قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: يقال: عَرَفت على القوم أَعرُفُ، من باب قتل، عِرَافةً، فأنا عارف: أي مدبر أمرهم، وقائم بسياستهم. وعَرُفتُ عليهم بالضمّ لغة، فأنا عريفٌ، والجمع عُرَفَاء. قيل: العَريفُ يكون على نَفِير، والْمَنْكِبُ يكون على خمسة
(1)
- لم أجد هذا الكلام للمصنّف في "المجتبى"، ولا في "الكبرى"، والذي في "الكبرى": قال أبو عبد الرحمن: يقولون مسلم بن شعبة، ولكن قال: هذا ابن ثفنة، والصواب شعبة. واللَّه تعالى أعلم.
(2)
- وفي "ت": مخضرم، وقيل: له صحبة.
(3)
- "الإصابة" ج 10 ص 133.
عرفاء، ونحوها، ثم الأمير فوق هؤلاء انتهى
(1)
.
(وَأَمَرَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُمْ) أي يأخذ زكاة أموالهم. قال مسلم بن شعبة (فَبَعَثَنِي أَبِي، إِلَى طَائِفَةِ مِنْهُمْ، لِآتِيَهُ بصَدَقَتِهِمْ، فَخَرَجْتُ، حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، يُقَالُ لَهُ: سَعْرٌ) - بفتح السين، وسكَون العين المهملتين، آخره راء مهملة-كما في "الإصابة"، و"التقريب"، وضبطه بعضهم بكسر السين- ابن سَوَادة، أو ابن دَيسَم. ووقع في "شرح السنديّ""سعد" بالدال بدل الراء، وهو تصحيف، فتنبّه.
(فَقُلْتُ: إِنَّ أَبِي بَعَثَنِي إِلَيْكَ، لِتُؤَدِّيَ صَدَقَةَ غَنَمِكَ، قَالَ) سَعْرٌ (ابْنَ أَخِي) بحذف حرف النداء، أي يا ابن أخي، وسماه ابن أخيه تلطّفًا وإكرامًا (وَأَيُّ نَحْوٍ تَأْخُذُونَ) أي أيّ صنف من أصناف الغنم تأخذون؟ فـ "أيَّ" اسم استفهام بالنصب على أنه مفعول مقدم وجوبًا لـ "تأخذون"، ويحتمل الرفع على الابتداء وجملة "تأخذون" بحذف العائد خبره أي تأخذونه. واللَّه تعالى أعلم. (قُلْتُ: نَخْتَارُ) وفي رواية لأحمد: "نأخذ أفضل ما نجد"(حَتَّى إِنا لَنَشْبُرُ ضُرُوعَ الْغَنَمِ) أي نقيسها بالشبر؛ لنتبيّن حالها، فنعلمَ جيّدها من رديئها، من شَبَرْتُ الشيءَ، من باب قتل: قِسْتُه بالشَّبْر. وهو -بكسر، فسكون-: ما بين طرفي الخنصر والإبهام بالتفريج المعتاد، والجمع أشبار، مثلُ حِمْلٍ وأحمال. قاله في "المصباح". وفي بعض النسخ:"لنصبر" بالصاد بدل السين، والظاهر أنه تصحيف.
وفي "الكبرى""لنُشِير" بالياء بعد الشين، والظاهر أنه تصحيف أيضًا.
وقال في "المنهل": وفي بعض نسخ أبي داود: "نسبر" بالسين المهملة، وضمّ الباء الموحّدة: أي نختبر، ونتعرّف، فهو من باب قتل، يقال: سبرت الشيء تعرّفته انتهى.
(قَالَ) سَعْر (ابْنَ أَخِي، فَإِنِّي أُحَدِّثُكَ، أَنِّي كُنْتُ فِي شِعْبِ مِنْ هَذِهِ الشِّعَابِ)"الشعب" بكسر المعجمة، وسكون المهملة-: الطريق. وقيل: الطريق في الجبل، والَجمع شِعَاب بالكسر (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي في حياته (فِي غَنَم لِي) متعلّق بحال مقدر، أي حال كوني كائنًا في رعاية غنمي (فَجَاءَنِي رَجُلَانِ، عَلَى بَعِيرٍ) أي حال كونهما راكبين على بعير (فَقَالَا: إِنَّا رَسُولَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْكَ، لِتُؤَدِّيَ صَدَقَةَ غَنَمِكَ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا عَلَيَّ فِيهَا؟) أي أيّ شيء يجب عليّ في غنمي (قَالَا: شَاةٌ) والظاهر أن غنمه لا تزيد على مائتين (فَأَعْمِدُ إِلَى شَاةٍ) المضارع هنا بمعنى الماضي، أي فَعَمَدتُ: أي قصدت إلى شاة.
وانما عبّر بالمضارع استحضارًا للصورة الماضية. ولفظ أبي داود: "فعمدت إلى شاة".
(قَدْ عَرَفْتُ مَكَانَهَا) أي محلّها من الجودة، كما بين ذلك بقوله (مُمْتَلِئَةٍ مَحْضًا) أي
(1)
- انظر "المصباح المنير".
لبنًا خالصًا، فالمحض بالحاء المهملة، والضاد المعجمة: اللبن الخالص (وَشَحْمًا، فَأَخْرَجْتُهَا إِلَيْهِمَا، فَقَالَا) هكذا في النسخة "الهندية"، و"الكبرى" بضمير التثنية، ووقع في النسخ المطبوعة من "المجتبى":"فقال"، وله وجه صحيح، أي قال كلٌّ من الرجلين (هَذِهِ الشَّافِعُ) يعني التي معها ولدها، سميت به لأن ولدها شَفَعَها، وشَفَعَتْهُ هي، فصارت شفعًا. وقيل: الشافع هي الحامل التي يتبعها ولدها، يقال: شاة شافعٌ إذا كان في بطنها ولدها، ويتبعها ولد آخر. أفاده ابن الأثير
(1)
.
والمعنى الأول هو الذي بيّنه بعض الرواة مفسّرًا بقوله (وَالشَّافِعُ الْحَائِلُ) أي غير الحامل، وقال في "اللسان": وناقةٌ حائلٌ: حُمل عليها فلم تَلْقَحْ. وقيل: هي الناقة التي لم تحَمِل سنةً، أو سنتين، أو سنوات. وكذلك كلّ حامل ينقطع عنها الحمل سنة، أو سنوات حتى تحمل، والجمع حِيَالٌ، وحُولٌ، وحُوَّلٌ، وحُولَلٌ، والأخير اسم للجمع انتهى.
(وَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ نَأْخُذَ شَافِعًا) زاد في رواية أبي داود: "قلت: فأيَّ شيء تأخذان؟ قالا: عناقًا جَذَعَة، أو ثَنِيّةً".
و"العَنَاقُ": -بفتح المهملة، بعدها نون- هي الأنثى من ولد المعز، لم يتمّ لها سنة. و"الْجَذَعُ"-بفتحتين- ما ألقى مقدّم أسنانه، وقد يكون ذلك لسنتين، أو دونها. قال في "المصباح" نقلاً عن ابن الأعرابي: العناق تُجذِع لسنة، وربّما أجذعت قبل تمامها للخِصْب، فتَسمَن، فيُسرع إجذاعها، فهي جَذَعَة، ومن الضأن إذا كان من شابّين يُجذِع لستة أشهر إلى سبعة، وإذا كان من هَرِمَين أجذع من ثمانية إلى عشرة انتهى.
وقوله: "أو ثنيّة" عطف على "عناق". و"الثنيّ" من الضأن والمعز ما له سنة.
(قَالَ) سَعْرٌ (فَأَعْمِدُ) ولفظ أبي داود: "فعمدت"(إِلَى عَنَاقٍ، مُعْتَاطٍ) -بضم الميم، بصيغة اسم الفاعل، كالمختار، وهي التي فسّرها الراوي بقوله (وَالْمُعْتَاطُ التِي لَمْ تَلِدْ وَلَدًا، وَقَدْ حَانَ وِلَادُهَا) أي وقد قرُب أوان ولادتها.
قال ابن الأثير: "المعتاط" من الغنم التي امتنعت عن الحمل لِسِمَنها، وكثرة شحمها. وهي في الإبل التي لا تحمل سنوات من غير عُقْر، يقال للناقة إذا طرقها الفحل، فلم تحمل. وقد اعتاطت اعتياطًا، فهي مُعتاطٌ. قال: وأصلها من الياء أو الواو، والميم والتاء زائدتان.
قال: والذي في سياق الحديث أن المعتاط التي لم تلد، وقد حان ولادها. وهذا بخلاف ما تقدّم، إلا أن يريد بالولاد الحملَ، أي أنها لم تحمل، وقد حان أن تحمل، وذلك من حيث معرفةُ
(1)
- "النهاية" ج 2 ص 485.
سنّها، وأنها قد قاربت السن التي يَحمِلُ مثلُها فيها، فَسَمَّى الحملَ بالولادة. انتهى
(1)
.
(فَأَخْرَجْتُهَا إِلَيْهِمَا، فَقَالَا: نَاوِلْنَاهَا) أي ارفعها إلينا على البعير حتى نحملها (فَرَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا، فَجَعَلَاهَا مَعَهُمَا عَلَى بَعِيرِهِمَا، ثُمَّ انْطَلَقَا) غَرَض سَعْر من سوق هذه القصّة بيان أن خيار المال لا يجب دفعها في الزكاة، وإنما الواجب هو الوسط، كما أشار إليه بالعناق المعتاط. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث سعر بن سوادة، عن مُصَدِّقي النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا ضعيف؛ لجهالة مسلم بن ثَفِنَة، أو -ابن شعبة-كما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-15/ 2462 و 2463 - وفي "الكبرى" 16/ 2242 و 2243. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1581 (أحمد) في "مسند المكيين" 15000 و 15001. واللَّه تعالى أعلمِ بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2463 -
(أَخْبَرَنَا
(2)
هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ شُعْبَةَ، أَنَّ ابْنَ عَلْقَمَةَ، اسْتَعْمَلَ أَبَاهُ عَلَى صَدَقَةِ قَوْمِهِ
…
وَسَاقَ الْحَدِيثَ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن هذا الإسناد ساقه المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بعد الإسناد الأول لبيان الاختلاف في اسم أبي مسلم، فقد سماه وكيع ثَفِنَة، كما في الإسناد السابق، وهو خطأ، لمخالفته الجماعة، فقد سماه رَوْحٌ، وأبو عاصم، وبِشْرُ بن السَّرِيّ فقالوا:"مسلم بن شعبة"، وهو الصواب.
فما وقع في نسخ "المجتبى" هنا في هذا السند من قوله: "مسلم بن ثفنة" فإنه تصحيف بلا شكّ، لأن روحًا لم يقل:"ابن ثفنة" أصلاً، بل تفرّد به وكيع، فقال:"مسلم بن ثَفِنَة"، وقد تقدّم أن المصنّف قال: لا أعلم أحدًا تابع وكيعًا على قوله: "ابن ثَفِنة"، فلا يمكن أن يذكر هنا رَوْحًا ممن قال:"ابن ثَفِنَة". راجع "تهذيب الكمال" جـ10 ص 326 وج 27 ص 453 - 454. و"تهذيب التهذيب" ج 4 ص 65 - 66.
والحاصل أن رَوْح بن عُبَادة إنما قال: "مسلم بن شعبة"، لا مسلم بن ثفنة، فتنبّه.
(1)
- "النهاية" ج 4 ص 341.
(2)
- وفي نسخة: "أخبرني".
وقوله: "وساق الحديث" الضمير لروح: أي ساق روح الحديث كما ساقه وكيع.
ويحتمل أن يكون الضمير لهارون: أي ساق هارون الحديث كما ساقه محمد بن عبد اللَّه بن المبارك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2464 -
(أَخْبَرَنِي
(1)
عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي
(2)
أَبُو الزِّنَادِ، مِمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ، مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ، قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةٍ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا، فَأَغْنَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ، وَأَعْتُدَهُ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَمِثْلُهَا مَعَهَا» ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عمران بن بكّار) المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، ثقة [11] 8/ 1541. من أفراد المصنف.
2 -
(عليّ بن عياش) الألهانيّ الحمصيّ ثقة ثبت [9] 123/ 182.
3 -
(شعيب) بن أبي حمزة الحمصي، ثقة عابد [7] 69/ 85.
4 -
(أبو الزناد) عبد اللَّه بن ذكوان المدنيّ، ثقة فقيه [5] 7/ 7.
5 -
(عبد الرحمن الأعرج) ابن هرمز المدني، ثقة ثبت [3] 7/ 7.
6 -
(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنين غير علي، وشعيب، فحمصيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أكثر من روى الحديث في دهره. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن شعيب بن أبي حمزة الحمصيّ، أنه قال (حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان (مِمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ) متعلّق بحال مقدّر، أي حال كون هذا الحديث من جملة
(1)
- وفي نسخة: "أخبرنا".
(2)
- وفي نسخة: "حدثنا".
الأحاديث التي حدّثه بها عبد الرحمن بن هرمز الأعرج (مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ) أي من جملة الأحاديث التي ذكر عبد الرحمن الأعرج، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يحدّث بها (قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (وَقَالَ عُمَرُ) بن الخطاب رضي الله عنه. هكذا في رواية المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بزيادة عمر في السند.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الفتح": والمحفوظ أنه من مسند أبي هريرة، وإنما جرى لعمر فيه ذكرٌ فقط انتهى
(1)
. وسيأتي التنبيه من المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- على هذا في الرواية التالية، إن شاء اللَّه تعالى.
(أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةٍ) وفي رواية مسلم من طريق وَرْقَاء، عن أبي الزناد:"بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عُمر ساعيًا على الصدقة". وهو مشعر بأنه صدقة الفرض؛ لأن صدقة التطوّع لا يُبعَث عليها السُّعَاةُ.
وهذا هو الصحيح المشهور، نقله القرطبيّ عن الجمهور. وقال ابن القصّار المالكيّ: الأليق أنها صدقة التطوّع؛ لأنه لا يُظنّ بهؤلاء الصحابة أنهم منعوا الفرض.
وتُعُقب بأنهم ما منعوه كلهم جحدًا، ولا عنادًا، أما ابن جميل، فقد قيل: إنه كان منافقًا، ثم تاب بعد ذلك. كذا حكاه المهلّب، وجزم القاضي حسين في "تعليقه" أن فيه نزلت:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية [التوبة: 75]. انتهى. والمشهور أنها نزلت في ثعلبة. وأما خالد، فكان متأوّلًا بإجزاء ما حبسه عن الزكاة، وكذلك العبّاس؛ لاعتقاده ما سيأتي التصريح به، ولهذا عَذَر النبيّ صلى الله عليه وسلم خالدًا والعبّاس؛ ولم يعذر ابن جميل.
وقال ابن الملقّن -رحمه اللَّه تعالى-: ويبعد أن يراد بها صدقة التطوّع لوجوه:
(أحدها): أن المتبادر إلى الذهن خلافه.
(ثانيها): أنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يبعث في الزكاة المفروضة، على ما نُقل.
(ثالثها): قوله: "وأما العبّاس فهي عليّ"، و"عليّ" من ألفاظ الوجوب انتهى
(2)
.
(فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ) قائل ذلك عمر، كما سيأتي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الكلام على قصّة العباس. ووقع في رواية ابن أبي الزناد عند أبي عُبيد:"فقال بعض من يَلْمِز" أي يَعيب.
وابن جميل قال الحافظ: لم أقف على اسمه في كتب الحديث. لكن وقع في تعليق القاضي الحسين المروزيّ الشافعيّ، وتبعه الرويانيّ أن اسمه "عبد اللَّه". ووقع في شرح الشيخ سراج الدين ابن الملقّن أن ابن بزيزة سمّاه "حميدًا"، ولم أر ذلك في كتاب
(1)
- "فتح" ج 4 ص 94.
(2)
- "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" ج 5 ص 75.
ابن بزيزة. ووقع في رواية ابن جريج "أبو جهم بن حذيفة" بدل ابن جميل، وهو خطأ؛ لإطباق الجميع على "ابن جميل"، وقول الأكثر: إنه كان أنصاريًا، وأبو جهم بن حذيفة، قرشي، فافترقا. وذكر بعض المتأخرين أن أبا عبيد ذكر في "شرح الأمثال" له أنه "أبو جهم بن جميل".
(وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عُمر بن مخزوم، سيف اللَّه، يكنى أبا سليمان، من كبار الصحابة، وكان إسلامه بين الحديبية والفتح، وكان أميرًا على قتال أهل الرّدَة وغيرها من الفتوح، إلى أن مات سنة (21 هـ) أو بعدها (وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) بن هاشم، عم النبيّ صلى الله عليه وسلم توفّي سنة (32) أو بعدها، وهو ابن (88) سنة (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ) -بفتح القاف وكسرها- أي ما يعيب، أو ما يُنكر، أو ما يَكرَه. يقال: نَقَمت عليه أمره، ونَقَمتُ منه نَقْمًا، من باب ضرب، ونُقُومًا، ونَقِمْتُ أَنقَمُ، من باب تَعِبَ لغةٌ: إذا عِبْتَه، وكرِهته أشدّ الكراهة لسوء فعله، وفي التنزيل:{وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} [الأعراف: 126] على اللغة الأولى: أي ما تطعَنُ فينا، وتَقْدَحُ. وقيل: ليس لنا عندك ذنب، ولا ركِبنَا مكروهًا. قاله في "المصباح".
وفي "اللسان": نَقِمْتُ الأمرَ بالكسرِ، ونَقَمْتُهُ: إذا كِرَهْتَهُ. وقال أيضًا: معنى نقمتُ بالغتُ في كراهته. انتهى.
وقال الإمام ابن الملقّن -رحمه اللَّه تعالى-: واختُلف في معناه على ثلاثة أقوال:
(أحدها): يُنكِر. (وثانيها): يَكرَه. (وثالثها): يَعيب. وقد فُسر قوله تعالى: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} الآية [المائدة: 59] بـ"يكرهون" و"ينكرون". فإن فسّرناه بـ "ينكر" فإن معناه: أنه لا عُذر له في المنع إذ لم يكن موجبه إلا أن كان فقيرًا، فأغناه اللَّه، وذلك ليس بموجب له، فلا موجب البتّة، وهذا من وادي قوله [من الطويل]:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَن سُيُوفَهُمْ
…
بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
فيقصدون النفي على سبيل المبالغة في الإثبات، إذ المعنى أنه لم يكن لهم عيبٌ إلا هذا، وهذا ليس بعيبٍ، فلا عيب فيهم البتّة، وكذلك المعنى هنا إذا لم يُنكر ابن جميل إلا كون اللَّه أغناه بعد فقره، فلم ينكر مُنكَرًا أصلاً، فلا عذر له في المنع. وكذلك إن فسّرناه بـ "يَكره"، أي ما يكره إخراج الزكاة على ما تقدّم.
ويقال: نقم الإنسان: إذا جعله مؤديًا إلى كفره النعمة، فالمعنى أن غناه أدّاه إلى كفر نعمة اللَّه تعالى بالمنع، فما ينقم، أي ما يكره إلا أن يكفر النعمة. وأما تفسيره بـ "يَعِيبُ"
ففيه بُعْدٌ انتهى كلام ابن الملقّن
(1)
.
(إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا، فَأَغْنَاهُ اللَّهُ) زاد في رواية البخاريّ: "ورسوله". قال في "الفتح":
إنما ذكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نفسه لأنه كان سببًا لدخوله في الإسلام، فأصبح غنيا بعد فقره بما أفاء اللَّه على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأباح لأمته من الغنائم. وهذا السياق من باب تأكيد المدح بما يُشبه الذّمّ؛ لأنه إذا لم يكن له عذرٌ إلا ما ذُكر من أن اللَّه أغناه، فلا عُذر له، وفيه التعريض بكفران النعم، والتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان. انتهى
(2)
.
(وَأَمَّا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا) الخطاب للعمّال على الصدقة حيث لم يحتسبوا له بما أنفق في الجهاد من الجند والْعُدّة؛ لأنهم طلبوا منه زكاة أعتاده ظنّا منهم أنها للتجارة، وأن الزكاة فيها واجبة، فقال لهم: لا زكاة لكم عليّ، فقالوا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: إن خالدًا منع الزكاة، فقال:"إنكم تظلمون خالدًا"؛ لأنه حبسها، ووقفها في سبيل اللَّه قبل الحول عليها، ولا زكاة فيها. قاله النوويّ في "شرحه".
(3)
.
ويحتمل أن يكون المراد لو وجبت عليه زكاةٌ لأعطاها، ولم يَشحّ بها؛ لأنه قد وقف أمواله للَّه تعالى متبرّعًا، فكيف يشحّ بواجب عليه.
ويحتمل أنه لم يقفها، بل رفع يده عنها، وخلّى بينها وبين الناس في سبيل اللَّه؛ لا أنه احتبسها وقفًا على التأبيد؛ لأنه صرفها مصرفها حيث تعينّت للجهاد، وقد جعل اللَّه للجهاد حظّا من الزكاة، فرأى صرفها فيه، فاشترى بها ما يصلح له، كما يفعله الإمام، فلما تحقّق النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، قال:"إنكم تظلمون خالدًا"، فإنه صرفها مصرفها، وأجاز له ذلك. وبه جزم القرطبيّ في "شرحه"
(4)
.
وقيل: يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم أجاز لخالد أن يحتسب ما حبسه من ذلك فيما يجب عليه من الزكاة؛ لأنه في سبيل اللَّه. حكاه القاضي عياض
(5)
.
(قَدِ احْتَبَسَ) أي وقف، ويحتمل أن يكون معناه إبانة اليد عن الملك للَّه تعالى كما يفعل المهدي لبيت اللَّه تعالى فيها بالتخلية بينها وبين مستحقيها. قال الأصبهانيّ: واحتبس لغة في حبس
(6)
(أَدْرَاعَهُ) جمع درع، ويكون من الحديد وغيره (وَأَعْتُدَهُ فِي
(1)
- "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" ج 5 ص 77 - 78.
(2)
- "فتح" ج 4 ص 95.
(3)
- "شرح مسلم" ج 7 ص 59 - 60.
(4)
- ذكر القرطبي -رحمه اللَّه تعالى- معنى هذا الكلام في "المفهم" ج 3 ص 16.
(5)
- "إكمال المعلم" ج 3 ص 115.
(6)
- راجع "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" ج 5 ص 83.
سَبِيلِ اللَّهِ) "الأَعتُدُ" -بضمّ المثنّاة، جمع عَتَدَ -بفتحتين- ووقع في رواية مسلم:"أعتاده" وهو جمعه أيضًا. قيل: هو ما يُعِدُّه الرجل من الدوابّ، والسلاح. وقيل: الخيل خاصّة، يقال: فرسٌ عَتِيد، أي صَلْبٌ، أو مُعَدٌّ للركوب، أو سَريع الوثوب، أقوال. وقيل: إن لبعض رواة البخاريّ: "وأعبده" -بالموحّدة- جمع "عبد"، حكاه عياض، والأول هو المشهور. قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال الإمام ابن الملَقّن -رحمه اللَّه تعالى-: هذه اللفظة رُويت على أوجه:
(أحدها): "أعتاده"، وأنكره بعضهم، وهي ثابتة في "صحيح مسلم".
(ثانيها): "أعتُده" بالتاء المثنّاة فوق. وحكى الدارقطنيّ أن أحمد بن حنبل قال: أخطأ عليّ بن حفص في هذا، وصَحَّفَ، وإنما هو "أعبُده" يعني بالباء الموحّدة. وقال عبد الحقّ في "الجمع بين الصحيحين": وقع في رواية للبخاريّ: "وأعبده"، والصحيح "وأعتُده" بالتاء المثنّاة فوقُ.
قال ابن الملقّن: وهي "الأعتاد" جمع قلّة لعَتَد بفتح العين والتاء، وهو الفرس الصَّلْب. وقيل: الْمُعَدّ للركوب. وقيل: السريع الوَثْبِ. وقال الهرويّ والخطّابيّ: هو ما أعدّه الرجل من سلاح، وآلة، ومركوب للجهاد، وبه جزم الشيخ تقيّ الدين، وعزاه النوويّ إلى أهل اللغة، ولم يذكر غيره.
(ثالثها): "عَتَاده" ويُجمَع على "أعتد" بكسر التاء وضمّها.
(رابعها): "أعبده" بالباء الموحّدة، جمع قلّة للعبد، وهو الحيوان العاقل، هذا هو الظاهر.
قال: وروي "فقد احتبس رقيقه ودوابّه". وروي "عقاره" بالقاف والراء، وهو الأرض، والضياع، والنخل، ومتاع البيت. انتهى كلام ابن الملقّن باختصار
(2)
.
(وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِب، عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَهِيَ عَلَيْهِ) وفي نسخة: "عليّ"(صَدَقَةٌ، وَمِثلُهَا مَعَهَا") قال فيَ "الفتح": كذا في رواية شعيب، ولم يقل ورقاء، ولا موسى بن عُقبة:"صدقة". فعلى الرواية الأولى يكون صلى الله عليه وسلم ألزمه بتضعيف صدقته؛ ليكون أرفع لقدره، وأَنْبَهَ لذكره، وأنفى للذّمّ عنه. فالمعنى فهي صدقة ثابتة عليه سيتصدّق بها، ويُضيف إليها مثلها كَرَمًا. ودلّت رواية مسلم على أنه صلى الله عليه وسلم التزم بإخراج ذلك عنه لقوله:"فهي عليّ"، وفيه تنبيه على سبب ذلك، وهو قوله:"إن العمّ صنو الأب"، تفضيلاً له، وتشريفًا.
(1)
- "فتح" ج 4 ص 95.
(2)
- "الإعلام" ج 5 ص 82 - 86.
ويحتمل أن يكون تحمّل عنه بها، فيُستفاد منه أن الزكاة تتعلّق بالذمّة، كما هو أحد قولي الشافعيّ.
وجمع بعضهم بين رواية "عليّ" ورواية "عليه" بأن الأصل رواية "عليّ"، ورواية "عليه" مثلها إلا أن فيها زيادة هاء السكت. حكاه ابن الجوزيّ، عن ابن ناصر.
وقيل: معنى "عليّ" أي هي عندي قرض؛ لأنني استسلفت منه صدقة عامين. وقد ورد ذلك صريحًا فيما أخرجه الترمذيّ وغيره من حديث عليّ، وفي إسناده مقال. وفي الدارقطنيّ من طريق موسى بن طلحة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنا كنا احتجنا، فتعجّلنا من العبّاس صدقة ماله سنتين". وهذا مرسل. وروى الدارقطنيّ أيضًا موصولاً بذكر طلحة فيه، وإسناد المرسل أصحّ. وفي الدارقطنيّ أيضًا من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث عمر ساعيًا، فأتى العبّاسَ، فأغلظ له، فأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن العبّاس قد أسلَفَنا زكاة ماله العام، والعام المقبل". وفي إسناده ضعف. وأخرجه أيضًا هو، والطبرانيّ من حديث أبي رافع رضي الله عنه نحو هذا. وإسناده ضعيف أيضًا. ومن حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تعجّل من العباس صدقة سنتين". وفي إسناده محمد بن ذكوان، وهو ضعيف. ولو ثبت لكان رافعًا للإشكال، ولرجّح به سياق رواية مسلم على بقيّة الروايات، وفيه ردّ لقول من قال: إنّ قصّة التعجيل إنما وردت في وقت غير الوقت الذي بعث فيه عمر لأخذ الصدقة.
قال الحافظ: وليس ثبوت هذه القصّة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموع هذه الطرق. واللَّه أعلم.
وقيل: المعنى استسلف منه قدر صدقة عامين، فأمر أن يُقاصّ به من ذلك. واستُبعد ذلك بأنه لو كان وقع لكان صلى الله عليه وسلم أعلم عمرَ بأنه لا يطالب العباس. وليس ببعيد.
وَمَعْنَى "عليه" على التأويل الأول: أي لازمة له، وليس معناه أنه يقبضها؛ لأن الصدقة عليه حرام؛ لكونه من بني هاشم.
ومنهم من حمل رواية الباب على ظاهرها، فقال: كان ذلك قبل تحريم الصدقة على بني هاشم. ويؤيّده رواية موسى بن عُقبة، عن أبي الزناد، عند ابن خُزيمة بلفظ:"فهي له"، بدل "عليه". وقال البيهقيّ: اللام هنا بمعنى "على"؛ لتتّفق الروايات. قال الحافظ: وهذا أولى؛ لأن المخرج واحد، وإليه مال ابن حبّان. وقيل: معناها فهي له، أي القدر الذي كان يُراد منه أن يُخرجه لأنني التزمت عنه بإخراجه. وقيل: إنه أخّرها عنه ذلك العام إلى عام قابل، فيكون عليه صدقة عامين. قاله أبو عُبيد. وقيل: إنه كان استدان حين فادى عَقيلاً وغيره، فصار من جملة الغارمين، فساغ له أخذ الزكاة بهذا الاعتبار.
وأبعد الأقوال كلها قول من قال: كان هذا في الوقت الذي كان فيه التأديب بالمال، فألزم العبّاس بامتناعه من أداء الزكاة بأن يؤدّي ضعف ما وجب عليه؛ لعظمة قدره، وجلالته، كما في قوله تعالى في نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم:{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} الآية [الأحزاب:30]. وقد تقدّم بعضه في أول الكلام انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح الأقوال عندي قول من قال: إنه صلى الله عليه وسلم ألزمه بتضعيف صدقته؛ ليكون أرفع لمنزلته، وأنبه لذكره، وأنفى للذّمّ عنه، ثم إنه صلى الله عليه وسلم تحمّلها عنه؛ احترامًا له، ومبرّةً وإكراما، يؤيد ذلك رواية مسلم:"فهي عليّ، ومثلها معها"، ثم قال صلى الله عليه وسلم:"يا عُمر، أما شعرت أن عمّ الرجل صِنو أبيه"، فإن في هذه الجملة إشعارًا بما ذُكر، فإن كونه صنو أبيه يناسب تحمّل ما عليه.
(2)
.
[تنبيه]: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "عم الرجل صنو أبيه" أي يرجع مع أبيه إلى أصل واحد، فيتعين إكرامه، كما يتعيّن إكرام الأب، ومنه قوله تعالى:{صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} الآية [الرعد: 4]. وأصله في النخلتين، والثلاث، والأربع، التي ترجع إلى أصل واحد، فكلّ واحدة منهنّ صِنْوٌ، والاثنان صِنْوَانِ، والثلاث صِنْوَانٌ برفع النون، فالصنوان جمع صنو، كقنو وقنوان، وُيجمع على أصناء، كأسماء.
وعن ابن الأعرابيّ: أن الصنو المثل، أي مثل أبيه، وذكر ذلك صلى الله عليه وسلم لعمر تعظيمًا لحقّ العمّ، وهو مقتضٍ، ومناسبٌ لأن يُحمَل قوله:"هي عليّ" أنه تحمّلها عنه؛ احترامًا، ومبرّةً، وإكرامًا حتى لا يتعرّض له بطلبها أحدٌ إذا تحمّلها عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أفاده ابن الملقّن
(3)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا 15/ 2464 و 2465 - وفي "الكبرى" 16/ 2243 و 2244.
وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1468 (م) في "الزكاة" 983 (د) في "الزكاة" 1633 (ت) في "المناقب" 3761 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين"8085. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
- "فتح" ج 4 ص 95 - 96.
(2)
- "إحكام الأحكام" ج 3 ص 306.
(3)
- "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" ج 5 ص 93.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما بوّب ده المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز إعطاء سيد المال خيار ماله من غير أن يختار المصَدّق، ووجه ذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا أَخبَر أنّ العباس يدفع صدقته ومثلها معها، وتحمّل عنه ذلك، وقام بالدفع نيابةً عنه، دلّ على أن زيادة المالك في الصدقة باختياره، من غير طلب المصدّق جائز. واللَّه تعالى أعلم.
(ومنها): أنه استُدلّ بقصّة خالد على جواز إخراج مال الزكاة في شراء السلاح، وغيره، من آلات الحرب، والإعانة بها في سبيل اللَّه تعالى؛ بناءً على أنه صلى الله عليه وسلم أجاز لخالد أن يحاسب نفسه بما حبسه فيما يجب عليه، وهذه طريقة البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-.
وأجاب الجمهور عنه بأجوبة:
(أحدها): أن المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لم يقبل إخبار من أخبره بمنع خالد؛ حملاً على أنه لم يصرّح بالمنع، وإنما نقلوه عنه بناءً على ما فهموه، ويكون قوله صلى الله عليه وسلم:"تظلمونه" أي بنسبتكم إياه إلى المنع، وهو لا يمنع، وكيف يمنع الفرض، وقد تطوّع بتحبيس سلاحه، وخيله؟.
(ثانيها): أنهم ظنّوا أنها للتجارة، فطالبوه بزكاة قيمتها، فأعلمهم صلى الله عليه وسلم بأنه لا زكاة عليه فيما حبس. قال الحافظ: وهذا يحتاج لنقل خاصّ، فيكون فيه حجّة لمن أسقط الزكاة عن الأموال المحبّسة، ولمن أوجبها فى عروض التجارة.
(ثالثها): أنه كان نوى بإخراها عن ملكه الزكاة عن ماله لأن أحد الأصناف سبيلُ اللَّه، وهم المجاهدون. وهذا يقوله من يُجيز إخراج القيم في الزكاة، كالحنفيّة، ومن يُجيز التعجيل، كالشافعيّة.
(ومنها): استُدلّ بقصة خالد رضي الله عنه أيضًا على مشروعيّة تحبيس الحيوان والسلاح، وأن الوقف يجوز بقاؤه تحت يد محتبسه.
(ومنها): جواز إخراج العُرُوض في الزكاة، وهو مذهب الامام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، حيث قال في "صحيحه": وقال طاوس: قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن: ائتوني بعَرْضٍ ثيابٍ، خَمِيصٍ، أو لَبِيس، في الصدقة مكان الشعير والذُّرَة، أهون عليكم، وخيرٌ لأصحَاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدَينة. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وأما خالد احتبس أدراعه، وأعتده في سبيل اللَّه" انتهى.
قال ابن رُشيد: وافق البخاريُّ في هذه المسألة الحنفيّةَ مع كثرة مخالفته لهم، لكن قاده إلى ذلك الدليل انتهى.
قال في "الفتح": وقوله: "في الصدقة": يردّ قول من قال: إن ذلك كان في الخراج. وحكى البيهقيّ أن بعضهم قال فيه: "من الجزية" بدل الصدقة، فإن ثبت ذلك سقط الاستدلال، لكن المشهور الأول. وقد رواه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن الثوريّ، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس:"أن معاذًا كان يأخذ العَرْض في الصدقة".
وأجاب الإسماعيليّ باحتمال أن يكون المعنى ائتوني به آخذه منكم مكان الشعير والذُّرَة الذي آخذه شراءً بما آخذه، فيكون بقبضه قد بلغ محلّه، ثم يأخذ مكانه ما يشتريه مما هو أوسع عندهم، وأنفع للآخذ. قال: ويؤيّده أنها لو كانت من الزكاة لم تكن مردودة على الصحابة، وقد أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الصدقة من أغنيائهم، فيردّها على فقرائهم.
وأجيب بأنه لا مانع من أنه كان يحمل الزكاة إلى الإمام ليتولّى قسمتها.
وقد احتجّ به من يُجيز نقل الزكاة من بلد إلى بلد، وهي مسألة خلافية أيضًا. وقيل في الجواب عن قصّة معاذ: إنها اجتهاد منه، فلا حجّة فيها. وفيه نظر؛ لأنه كان أعلم الناس بالحلال والحرام، وقد بيّن له النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن ما يَصنَعُ.
وقيل: كانت تلك واقعةَ حال، لا دلالة فيها؛ لاحتمال أن يكون عَلِمَ بأهل المدينة حاجة لذلك، وقد قام الدليل على خلاف عمله ذلك.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وفي قوله: واقعة حال نظر لا يخفى، إذ الظاهر أنها تدلّ على جواز نقلها، إذا دعت الحاجة إليه، وسيأتي تمام البحث في ذلك في بابه - 46/ 2522 - إن شاء اللَّه تعالى.
وقال القاضي عبد الوهّاب المالكيّ: كانوا يُطلقون على الجزية اسمَ الصدقة، فلعلّ هذا منها.
وتُعُقّب بقوله: "مكان الشعير والذرة"، وما كانت الجزية حينئذ من أولئك من شعير، ولا ذُرَة، إلا من النقدين
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أنّ أرجح الأقوال في المسألة ما ذهب إليه البخاريّ، وهو جواز أخذ الْعَرْض بدل الصدقة إن رأى الْمُصدِّق ذلك خيرًا، وأنفعَ للفقراء، كما عَمِل به معاذ رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم.
(ومنها): جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد، وهو قول العلماء كافّة، خلافًا للشافعيّ في وجوب قسمتها على الأصناف الثمانية. وتعقّب ابن دقيق العيد بأن القصّة
(1)
- راجع "الفتح" ج 4 ص 68 - 69.
واقعة عين، محتملة لما ذُكر وغيره، فلا ينهض الاستدلال بها على ذلك. وفيه ما مرّ قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.
(ومنها): بعث الإمام العُمّالَ لجباية الزكاة، وكونهم أمناء، فقهاء، ثقات عارفين، حيث بعث صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه عليها (ومنها): تنبيه الغافل على ما أنعم اللَّه به عليه من نعمة الغنى بعد الفقر؛ ليقوم بحق اللَّه عز وجل عليه (ومنها): جواز العَتْبِ على من منع الواجب، وذِكْره في غيبته بذلك، ولا يكون من الغيبة المحرّمة (ومنها): تحمُّل الإمام عن بعض رعيّته ما يجب عليه، وجواز اعتذاره عنه بما يسوغ الاعتذار به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2465 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ
(1)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةٍ، مِثْلَهُ سَوَاءً).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا بيان الخلاف في كون الحديث من مسند عمر، أو من مسند أبي هريرة رضي الله عنهما، وقد تقدّم أن الراجح كونه من مسند أبي هريرة رضي الله عنه، وأما عمر رضي الله عنه، فله ذكر فقط. واللَّه تعالى أعلم.
و"حفص": هو ابن عبد اللَّه بن راشد قاضي نيسابور، صدوق [9] 7/ 409.
و"موسى": هو ابن عُقبة بن أبي عيّاش المدنيّ الفقيه الثقة الإمام في المغازي [5] 96/ 122. وقوله: "مثله" منصوب على الحال، أي حال كون هذه الرواية مثل الرواية السابقة. وقوله: "سواء" حال مؤكّدة للحال قبلها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2466 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلَالٍ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كِدْتُ أُقْتَلُ بَعْدَكَ، فِي عَنَاقٍ، أَوْ شَاةٍ، مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: «لَوْلَا أَنَّهَا تُعْطَى فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ، مَا أَخَذْتُهَا»).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائيّ، ثقة ثبت [11] 108/ 147.
2 -
(محمود بن غيلان) أبو أحمد المروزيّ نزيل بغداد، ثقة [10] 33/ 37.
3 -
(أبو نُعيم) الفضل بن دُكين، واسم دكين عمرو بن حماد بن زهير الملائي
(1)
- وفي نسخة: "حدثني".
الكوفي، ثقة ثبت [9] 11/ 516.
4 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ الإمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.
5 -
(إبراهيم بن ميسرة) الطائفيّ، نزيل مكة، ثقة حافظ [5] 11/ 469.
6 -
(عثمان بن عبد اللَّه بن الأسود) الطائفيّ، مقبول [5].
روى عن عبد اللَّه بن هلال. وعنه إبراهيم بن ميسرة. ذكره ابن حبّان في "الثقات". انفرد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديث الباب فقط.
7 -
(عبد اللَّه بن هلال) بن عبد اللَّه بن همّام الثقفيّ، يُعدّ في المكّيين. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الزكاة، ولم يذكر سماعًا، ولا رؤية. وعنه عثمان بن الأسود. قال ابن عبد البرّ: حديثه عندهم مرسل. وقال ابن منده: عداده في أهل الطائف. وقال العسكريّ: اختلف في صحبته. وقال ابن حبان: له صحبة. انفرد به المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه عمرو، وعثمان بن عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن هلال، فقد تفرد بهم المصنّف. (ومنها): أن صحابيه من المقلين، فليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث عند المصنّف. (ومنها): أن عثمان، وعبد اللَّه هذا محلّ ذكرهما من الكتاب. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبدِ اللَّهِ بْنِ هِلَالِ الثَّقَفِيِّ) أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كِدْتُ) أي قاربت (أُقْتَلُ بَعْدَكَ) ببناء الفعل للمفعول، أي بعد مفارقتي لك (فِي عَنَاقٍ) أي بسبب عَنَاق، فـ "في" للسببيّة، والعَنَاقُ: الأنثى من ولد المعز، قبل استكمالها الحول، وجمعها أعنُقٌ، وعُنُوقٌ (أَوْ) للشكّ من الراوي (شَاةٍ، مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَوْلَا أَنَّهَا تُعْطَى فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ، مَا أَخَذتُهَا) قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: ما حاصله: كأن الرجل شكى أن العامل شدّد عليه في الأخذ، وكاد يفضي ذلك إلى قتل رب المال بعده صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا كان الحال في وقته ذاك، فكيف بعده.
وحاصل الجواب أن الزكاة شُرعت لِتُصرَف في مصارفها، ولولا ذلك لما أخذت أصلاً، وليست مما لا فائدة في أخذها، فليس لربّ المال أن يُشدّد في الإعطاء حتى يفضي ذلك إلى تشديد العامل.
ويحتمل أن هذا الشاكي هو العامل يشكو شدّة أرباب الأموال في الإعطاء حتى يُخاف أن يؤدّي ذلك إلى القتل.
ومعنى "بعدك" أي بعد غيبتي عنك، وذهابي إلى أرباب الأموال.
وحاصل الجواب أنه لولا استحقاق المصارف لما أخذنا الزكاة، بل تركنا الأمر إلى أصحاب الأموال، والنظر للمصارف يدعو إلى تحمّل المشاق، فلا بُدّ من الصبر عليها.
وهذا الوجه أنسب بترجمة المصنّف، وموافقة لفظ الحديث للوجهين غير خفيّة انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لا يخفى بُعْدُ الاحتمال الأول من سياق الحديث، فالوجه هو الاحتمال الثاني.
وفيه دليلٌ لمن قال بجواز نقل الزكاة من بلد إلى بلد، لكن الحديث ضعيف؛ لما تقدّم من جهالة عثمان بن عبد اللَّه بن الأسود، وللاختلاف في صحبة عبد اللَّه ابن هلال الثقفيّ، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-15/ 2466 - وفي "الكبرى" 16/ 2245. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
16 - (بَابُ زَكَاةِ الْخَيْلِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الْخَيْلُ: جماعة الأفراس، لا واحد له، أو واحده خائلٌ؛ لأنه يختال، جمعه أَخْيَالٌ، وخُيُول، ويُكسرُ، والْفُرْسان، ومنه ما روي:"يا خيل اللَّه اركبي"، أي يا رُكّاب خيل اللَّه. أفاده في "القاموس".
وقال في "المصباح": الْخَيْلُ: معروفة، وهي مؤنّثةٌ، ولا واحد لها من لفظها، والجمع خُيُولٌ. قال بعضهم: وتطلق الخيل على العِرَاب، وعلى الْبَرَاذِين، وعلى الفُرْسَان، وسميت خيلاً؛ لاختيالها، وهو إعجابها بنفسها مَرَحًا، ومنه يقال: اختال الرجلُ، وبه خُيَلاءُ وهو الكبر والإعجاب. انتهى
(2)
. واللَّه تعالى اعلم بالصواب.
2467 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا
(3)
وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي
(1)
- "شرح السنديّ" ج 5 ص 34 - 35.
(2)
- راجع "القاموس"، و"المصباح المنير" في مادّة خال.
(3)
- وفي نسخة: "أخبرنا".
هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ، وَلَا فَرَسِهِ
(1)
صَدَقَةٌ».
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عبد اللَّه بن دينار) أبو عبد الرحمن المدني، مولى ابن عمر، ثقة [4] 167/ 260.
2 -
(سليمان بن يسار) الهلالي المدني، مولى ميمونة، ثقة فاضل، أحد الفقهاء، من كبار [3] 122/ 156.
3 -
(عراك بن مالك) الغفاري الكناني المدني، ثقة فاضل [3] 134/ 207 والباقون تقدموا في الباب الماضي، وقبله بباب. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد.
منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمديين من عبد اللَّه بن دينار. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: عبد اللَّه بن دينار، عن سليمان بن يسار، عن عراك بن مالك، وكلهم مدنيّون. (ومنها): أن سليمان أحد الفقهاء السبعة، وأبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ) خصّ المسلم، وإن كان الصحيح من أقوال العلماء أن الكافر مكلّف بالفروع؛ لأنه ما دام كافرًا لا تُقبل منه حتى يُسلم، وإذا أسلم سقطت منه؛ لأن الإسلام يَجُبّ ما قبله
(2)
(فِي عَبْدِهِ) أي رقيقه، ذكرًا كان أو أنثى، ونفَى الصدقة في العبد مطلقًا، لكنه مقيّدٌ بما ثبت في "مسند الإمام أحمد"، و"صحيح مسلم":"ليس في العبد صدقة، إلا صدقة الفطر". ولأبي داود: "ليس في الخيل، والرقيق زكاة، إلا زكاة الفطر".
(وَلَا فَرَسِهِ) الشامل للذكر والأنثى، وجمعه الخيل، من غير لفظه (صَدَقَةٌ) أي زكاة.
قال في "الفتح": عند قول البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-: "باب ليس على المسلم في فرسه صدقة": قال ابن رُشيد: أراد بذلك الجنس في الفرس، والعبد، لا الفرد الواحد؛ إذ لا خلاف في ذلك في العبد المتصرّف، والفرس المعدّ للركوب، ولا خلاف أيضًا أنها لا تؤخذ من الرقاب، وإنما قال بعض الكوفيين: يؤخذ منها بالقيمة.
(1)
- وفي نسخة: "ولا في فرسه".
(2)
- راجع "المرعاة" ج 6 س 90.
ولعلّ البخاريّ أشار إلى حديث عليّ رضي الله عنه مرفوعًا: "قد عفوت عن الخيل، والرقيق، فهاتوا صدقة الرقة". أخرجه أبو داود، وغيره
(1)
وإسناده حسن.
والخلاف في ذلك عن أبي حنيفة إذا كانت الخيل ذُكرانًا وإناثًا نظرًا إلى النسل، فإذا انفردت فعنه روايتان، ثمّ عنده أن المالك يتخيّر بين أن يخرج عن كلّ فرس دينارًا، أو يقوّم، ويُخرج ربع العشر.
واستُدِلّ عليه بهذا الحديث. وأُجيب بحمل النفي فيه على الرقبة، لا على القيمة.
واستَدَلّ به من قال: من أهل الظاهر بعدم وجوب الزكاة فيهما مطلقًا، ولو كانا للتجارة. وأجيبوا بأن زكاة التجارة ثابتة بالإجماع، كما نقله ابن المنذر وغيره، فيخصّ به عموم هذا الحديث. انتهى
(2)
.
وتعقّب بعضهم دعوى الإجماع المذكور، فقال: كيف الإجماع مع خلاف الظاهرية؟.
قال: وأجيبوا بأن زكاة التجارة متعلّقها القيمة، لا العين، فالحديث يدلّ على عدم التعلّق بالعين، فإنه لو تعلّقت الزكاة بالعين من العبيد والخيل لثبتت ما بقيت العين، وليس كذلك، فإنه لو نوى القنية لسقطت الزكاة، والعين باقية، وإنما الزكاة متعلّقة بالقيمة بشرط نيّة التجارة.
قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها، وأنه لا زكاة في الخيل والرقيق، إذا لم تكن للتجارة. وبهذا قال العلماء كافّة، من السلف والخلف، إلا أبا حنيفة، وشيخه حماد بن أبي سليمان، وزفر، فأوجبوا في الخيل على تفصيل سيأتي قريبًا، قال النوويّ: وليس لهم حجة في ذلك، وهذا الحديث صريحٌ في الرّدّ عليهم انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-16/ 2467 و 2468 و 2469 و 2470 و 17/ 2471 و 2472 - وفي
(1)
- سيأتي للمصنّف بعد باب 2477 و 2478.
(2)
- "فتح" ج 4 ص 87.
"الكبرى" في 17/ 2246 و 2247 و 2248 و 2249 و 18/ 2250 و 2251.
وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1463 و 1464 (م) في "الزكاة" 982 (د) في "الزكاة" 1594 و 1595 (ت) في "الزكاة" 628 (ق) في "الزكاة" 1812 (أحمد) في "مسند المكثرين" 7253 و 7349 و 740 و 7699 و 9028 و 9059 و 9159 و 9295 و 9712 (الموطأ) في "الزكاة"612. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في وجوب الزكاة في الخيل:
ذهب جمهور العلماء من السلف والخلف إلى أنه لا زكاة في الخيل إلا إذا كانت للتجارة.
وذهب أبو حنيفة، وشيخه حماد بن أبي سليمان، وزفر فأوجبو فيها الزكاة، إذا كانت إناثًا، أو ذكورًا وإناثًا، في كلّ فرس دينارًا، وإن شاء قوّمها، وأخرج عن كلّ مائتي درهم خمسة دراهم.
احتجّ الجمهور بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في الباب، وبحديث عليّ رضي الله عنه الآتي بعد باب.
قال أبو عُبيد في "كتاب الأموال" ص 465 - : إيجاب الصدقة في سائمة الخيل التي يبتغي منها النسل ليس على اتباع السنّة، ولا على طريق النظر، لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد عفا عن صدقتها، ولم يستثن سائمة، ولا غيرها، وبه عملت الأئمة، والعلماء بعده فهذه السنّة. وأما في النظر فكان يلزمه إذا رأى فيها صدقة أن يجعلها كالماشية؛ تشبيها بها؛ لأنها سائمة مثلها، ولم يَصِر إلى واحد من الأمرين، على أن تسمية سائمتها قد جاءت عن غير واحد من التابعين بإسقاط الزكاة منها. ثم روى عن إبراهيم، والحسن، وعمر ابن عبد العزيز.
وأجاب الحنفيّة عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه بأنه محمول على فرس الركوب، والحمل، والجهاد في سبيل اللَّه، لما روي أن زيد بن ثابت رضي الله عنه لما بلغه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: صدق، إنما أراد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرس الغازي. ذكره صاحب "الهداية" تبعًا لأبي زيد الدبوسيّ.
قال الحافظ في "الدراية" - ص 158 - : تبع صاحب "الهداية" في ذلك أبا زيد الدبوسيّ، فإنه نقله عن زيد بن ثابت بلا إسناد انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تبين بما ذُكر أن الصواب ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الزكاة في الخيل، والرقيق، لحديث الباب.
وقد ذكر العلاّمة عبيد اللَّه بن محمد المباركفوريّ، صاحب "مرعاة المفاتيح شرح
مشكاة المصابيح" -رحمه اللَّه تعالى- أدلة الحنفيّة وناقشها كلها، فأجاد، وأفاد، بما لا تجده في كتاب غيره، فجزاه اللَّه تعالى خيرًا، فإن شئت فراجعه في جـ 6 ص 90 - 96 - تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2468 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحْرِزُ بْنُ الْوَضَّاحِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ -وَهُوَ ابْنُ أُمَيَّةَ- عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا زَكَاةَ عَلَى الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ، وَلَا فَرَسِهِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عليّ بن حرب المروزيّ" المعروف بالتُّرْك، ثقة [11] 109/ 148. من أفراد المصنّف.
و"مُحْرِز بن الوضّاح" بن محرز المروزيّ، ثقة
(1)
[9].
روى عن أبيه، وإسماعيل بن أميّة، ومحمد بن ثابت قاضي مرو، ورَبَاح بن عُبيد اللَّه ابن عمر. وعنه محمد بن عليّ بن حرب، ومحمد بن يحيى بن أيوب، ومحمود بن غيلان، ومُصعب بن بشير المروزيّون.
قال عبد اللَّه بن محمد، عن محمود بن غيلان: حدّثنا مُحرز بن الوضاح، وقال: كان مقبول القول، ثقة. وقال مصعب بن بَشير: حدثنا مُحرز، وكان جارنا في السوق، وكان ما علمته صَدُوقًا. وذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرّد به المصنّف، له عنده في هذا الكتاب أربعة أحاديث. هذا 2468 و 2511 حديث:"فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر .. " الحديث، و 3019 حديث:"السكينة السكينة عشية عرفة"، و 4469 حديث:"المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا .. " الحديث.
[تنبيه]: وقع في نسخة: "محمد" بدل "محرز"، وهو تصحيف فاحش، فتنبّه.
و"إسماعيل بن أمية" بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أميّة بن عبد شمس الأمويّ، ابن عمّ أيوب بن موسى، ثقة ثبتٌ [6].
قال عليّ بن المدينيّ، عن ابن عيينة: لم يكن عندنا قرشيّان مثل إسماعيل بن أمية، وأيوب بن موسى. وقال عليّ أيضًا: سمعت سفيان، قال: كان إسماعيلُ حافظًا للعلم، مع ورعٍ وصدق. وقال أحمد: إسماعيل أكبر من أيوب، وأحبّ إليّ. وفي رواية أقوى وأثبت. وقال ابن معين، والنسائيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة، زاد أبو حاتم: رجل صالح. وقال العجليّ: مكيّ ثقة. وقال الزبير بن بكّار: كان فقيه أهل مكة. وقال ابن
(1)
- قال في "ت": مقبول قلت: بل هو ثقة، كما يتبيّن قول أهل العلم المذكور في ترجمته بعدُ.
سعد: كان ثقة كثير الحديث، مات سنة (144). وقال غيره: سنة (149). روى له الجماعة، وله عند المصنّف ستة عشر حديثًا.
و"مكحول" أبو عبد اللَّه الشاميّ، ثقة فقيه، كثير الإرسال [5] 4/ 630. والباقيان تقدما في السند الماضي.
والحديث متفق عليه، وقد تقدّم شرحه، والكلام على مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2469 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،، يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ، وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن منصور": هو الجوّاز المكيّ. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"أيوب بن موسى": هو أبو موسى الأمويّ المكيّ، ثقة [6] 150/ 241. وتقدم ذكره في ترجمة إسماعيل بن أمية، في الحديث السابق.
والحديث متفق عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2470 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ خُثَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمَرْءِ فِي فَرَسِهِ، وَلَا
(1)
فِي مَمْلُوكِهِ صَدَقَةٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح:
و"عبيد اللَّه بن سعيد": هو أبو قُدَامة السرخسيّ الحافظ الثبت. و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان.
و"خُثَيم" -بمثلّثة، مصغّرًا- ابن عِرَاك بن مالك الغفاريّ المدنيّ، لا بأس به [6].
قال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال العقيليّ: ليس به بأس.
وقال الأزديّ: منكر الحديث. وقال ابن حزم: لا تجوز الرواية عنه.
قال الحافظ: وهي مجازفة صعبة، ولعلّ مستند من وهّاه ما ذكره أبو عليّ الكرابيسيّ في "كتاب القضاء": حدّثنا سعيد بن زنبر، ومصعبٌ الزبيريّ، قالا: استفتى أمير المدينة مالكًا عن شيء، فلم يُفته، فأرسل إليه ما منعك من ذلك؟ فقال مالك: لأنك ولّيتَ خُثيم بن عِرَاك بن مالك على المسلمين، فلما بلغه ذلك عَزَلَه. انتهى. روى له
(1)
- سقطت كلمة "لا" من بعض النسخ.
البخاريّ، ومسلم، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث، وأعاده بعد حديث.
و"أبوه": هو عراك بن مالك الغفاريّ الكنانيّ المدنيّ، ثقة فاضل [3] 134/ 207.
والحديث متفق عليه، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
17 - (بَابَ زَكَاةِ الرَّقِيقِ)
قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: "الرِّقّ" -بالكسر-: العبوديّة، وهو مصدرُ رَقَّ الشخصُ يَرِقّ، من باب ضرب، فهو رَقِيق، ويتعدّى بالحركة، وبالهمزة، فقيال: رقَقتُه أرُقُّهُ، من باب قتل، وأرققته، فهو مَرْقُوقٌ، ومُرَقٌّ، وأمةٌ مَزقُوقةٌ، ومُرَقَّةٌ. قاله ابن السِّكِّيت. وُيطلق الرقيق على الذكر والأنثى، وجمعه أَرقّاء، مثل شَحيح وأشِحّاء، وقد يُطلق على الجمع أيضًا، فيقال: عَبِيدٌ رَقيق. "وليس في الرقيق صدقة": أي في عَبِيد الخدمة انتهى كلام الفيّوميّ. واللهَ تعالى أعلم بالصواب.
2471 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ - وَاللَّفْظُ لَهُ- عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ، فِي عَبْدِهِ، وَلَا
(1)
فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ»).
قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، وهو مصريّ ثقة، حافظ. و"ابنُ القاسم": هو عبد الرحمن الْعُتَقيّ المصريّ الفقيه، صاحب مالكٍ الإمام.
والحديث متفق عليه، كما سبق بيانه في الباب الماضي، ودلالته على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، واضحة، فإنه يدلّ على عدم وجوب الزكاة في العبيد، لكن
(1)
- سقطت كلمة "لا" من بعض النسخ.
هذا مقيّد بغير صدقة الفطر، فقد أخرج مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه"، فقال:
982 -
حدثني أبو الطاهر، وهارون بن سعيد الأيلي، وأحمد بن عيسى، قالوا: حدثنا ابن وهب، أخبرني مَخْرَمَة، عن أبيه، عن عراك بن مالك، قال: سمعت أبا هريرة، يحدث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"ليس في العبد صدقة، إلا صدقة الفطر".
قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرحه": هذا صريح في وجوب صدقة الفطر على السيّد عن عبده، سواء كان للقنية، أم للتجارة، وهو مذهب مالك، والشافعيّ، والجمهور. وقال أهل الكوفة: لا تجب في عبيد التجارة. وحكي عن داود أنه قال: لا تجب على السيّد، بل تجب على العبد، ويلزم السيّد تمكينه من الكسب ليؤدّيها، وحكاه القاضي عن أبي ثور أيضًا. ومذهب الشافعيّ، وجمهور العلماء أن المكاتب لا فطرة عليه، ولا على سيّده. وعن عطاء، ومالك، وأبي ثور وجوبها على السيّد، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعيّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم
(1)
". وفيه وجه أيضًا لبعض أصحابنا أنها تجب على المكاتب؛ لأنه كالحرّ في كثير من الأحكام انتهى كلام النوويّ
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2472 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ خُثَيْمِ بْنِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ صَدَقَةٌ، فِي غُلَامِهِ، وَلَا فِي فَرَسِهِ»).
"حماد": هو ابن زيد. والحديث متفق عليه، وقد تقدّم الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
18 - (بَابُ زَكَاةِ الْوَرِقِ)
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على وجوب الزكاة في الفضّة.
قال في "المصباح المنير": "الْوَرِقُ -بكسر الراء، والإسكان للتخفيف-: النُّقْرَةُ- أي
(1)
- حديث حسنٌ، أخرجه أبو داود، والبيهقيّ، من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما.
(2)
- "شرح مسلم" ج 7 ص 58 - 59.
الفضّة- المضروبة، ومنهم من يقول: النُّقْرة مضروبةً كانت، أو غير مضروبة. قال الفارابيّ: الْوَرِقُ: المال، من الدراهم، ويُجمع على أوراق انتهى.
وقال في "لسان العرب": والْوَرِقُ -بفتح، فكسر- والْوِرْقُ -بكسر، فسكون- والْوَرْقُ -بفتح، فسكون- والرِّقَةُ: الدراهم، مثلُ كَبِدٍ، وكِبْدٍ، وكَبْدٍ، وكَلِمَة، وكِلْمَةٍ، وكَلْمَةٍ؛ لأن منهم من ينقل كسرة الراء، إلى الواو بعد التخفيف، ومنهم من يتركها على حالها. وفي "الصحاح": الْوَرِقُ: الدراهم المضروبة، وكذلك الرقة، والهاء عوض من الواو. وحُكِي في جمع الرِّقَة رِقَات، قال ابن بَرِّيِّ: شاهد الرِّقَة قول خالد بن الوليد يوم مُسَيْلِمَة:
إِنَّ السِّهَامَ بِالرَّدَى مُفَوَّقَهْ
…
وَالْحَرْبُ وَرْهَاءُ الْعِقَالِ مُطْلَقَهْ
وَخَالِدٌ مِنْ دِينِهِ عَلَى ثِقَهْ
…
لَا ذَهَبٌ يُنْجِيكُمُ وَلَا رِقَهْ
وقال أبو عبيدة: الورق: الفضّة، كانت مضروبةً كدراهم، أو لا. وقال شَمِرٌ: الرّقَة: العين، يقال: هي من الفضّة خاصّة. وقال ابن سِيدَهْ: والرقة الفضّة، والمال (عن ابن الأعرابيّ). وقيل: الذهب والفضة (عن ثعلب). انتهى "لسان العرب" بتصرّف.
وقال النوويّ في "شرح المهذّب": و"الرقة" -بتخفيف القاف، وكسر الراء-: هي الوَرِقُ، وهو كلّ فضّة. وقيل: الدراهم خاصّة. وأما قول صاحب "البيان": الرقة هي الذهب والفضّة، فغلط فاحشٌ. ولم يقل أصحابنا، ولا أهل اللغة، ولا غيرهم: إن الرقة تطلق على الذهب، بل هي الوَرِقُ انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن يردّ قوله: "ولا أهل اللغة" ما مرّ عن ثعلب أنها تطلق على الذهب والفضّة، فتأمّل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2473 -
(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ- عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ
(2)
أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ
(3)
ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ
(4)
فِيمَا دُونَ خَمْسِةِ
(5)
أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ»).
(1)
- "المجموع" ج 5 ص 488.
(2)
- وفي بعض النسخ: "خمس" والأول أولى.
(3)
- وفي بعض النسخ: "خمسة".
(4)
- وفي بعض النسخ: "ولا" بدل "ليس".
(5)
- وفي بعض النسخ: "خمس" والأول أولى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"يحيى بن حبيب بن عربيّ" البصريّ ثقة [10] 60/ 75. و"عمرو بن يحيى" هو الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ ثقة [6] 80/ 97.
و"حمّاد": هو ابن زيد. و"يحيى بن سعيد": هو الأنصاريّ المدنيّ الفقيه الثقة [5].
و"والد عمرو": هو يحيي بن عمارة بن أبي الحسن الأنصاريّ المازنيّ، ثقة [3] 80/ 97.
والحديث متفق عليه، وقد تقدّم شرحه، والكلام على مسائله في -5/ 2445 - وبقي الكلام على ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا، وهو وجوب زكاة الورِقِ، وفيه مسائل:
(المسألة الأولى): في أقوال أهل العلم في حكم زكاة الفضّة، والذهب، والجواهر: قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: تجب الزكاة في الذهب بالإجماع، ودليل المسألة النصوص، والإجماع، وسواء فيهما المسبوك، والتبر، والحجارة منهما، والسبائك، وغيرها من جنسها، إلا الحليّ المباح، على أصحّ القولين.
قال: ولا زكاة فيما سوى الذهب، والفضّة من الجواهر، كالياقوت، والفيروز، واللؤلؤ، والمرجان، والزّمرّد، والزبرجد، والحديد، والصفر، وسائر النحاس، والزجاج، وإن حسنت صنعتها، وكثرت قيمتها، ولا زكاة أيضًا في المسك، والعنبر.
قال الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المختصر": ولا في حلية بحر. قال أصحابنا: معناه: كلّ ما يستخرج منه، فلا زكاة فيه. ولا خلاف في شيء من هذا عندنا.
وبه قال جماهير العلماء، من السلف وغيرهم. وحكى ابن المنذر وغيره عن الحسن البصريّ، وعمر بن عبد العزيز، والزهريّ، وأبي يوسف، وإسحاق بن راهويه أنهم قالوا: يجب الخمس في العنبر، قال الزهريّ: وكذلك اللؤلؤ. وحكى أصحابنا عن عبد اللَّه بن الحسن العنبريّ أنه قال: يجب الخمس في كلّ ما يخرج من البحر، سوى السمك. وحكى العنبريُّ وغيره عن أحمد روايتين: إحداهما: كمذهب الجماهير.
والثانية: أنه أوجب الزكاة في كلّ ما ذكرنا إذا بلغت قيمته نصابًا حتى في المسك والسمك
(1)
.
ودليلنا الأصل أن لا زكاة إلا فيما ثبت الشرع فيه. وصحّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ليس في العنبر زكاة، إنما هو شيء دَسَرَه البحر. وهو بدال وسين مهملتين
(1)
- القول الأول الذي عليه الجماهير هو المختار في مذهب أحمد -رحمه اللَّه تعالى-. انظر "المغني" ج 5 ص 244.
مفتوحتين: أي قذفه ودفعه. فهذا الذي ذكرناه هو المعتمد في دليل المسألة، وأما الحديث المرويّ عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا زكاة في حجر". فضعيفٌ جدًّا، رواه البيهقيّ، وبيّن ضعفه
(1)
انتهى ما قاله النوويّ
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الصواب ما قاله الجمهور من عدم وجوب الزكاة في غير الذهب والفضّة؛ لما ذكره النوويّ، ولأنه -كما قال ابن قُدامة-: قد كان يُخرَج على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، فلم تأت فيه سنّة عنه، ولا عن أحد من خلفائه من وجه يصحّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): في أقوال أهل العلم في نصاب الذهب والفضّة:
قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: أجمع أهل العلم على أن نصاب الفضّة مائتا درهم، وأن فيه خمسة دراهم، واختلفوا فيما زاد على المائتين، فقال الجمهور: يُخرج مما زاد بحسابه ربع العشر، قلّت أم كثرت.
وممن قال به عليّ بن أبي طالب، وابن عمر، والنخعيّ، ومالك، وابن أبي ليلى، والثوريّ، والشافعيّ، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وأبو ثور، وأبو عبيد.
قال: وقال سعيد بن المسيّب، وطاوس، والحسن البصريّ، والشعبيّ، ومكحول، وعمرو بن دينار، والزهريّ، وأبو حنيفة: لا شيء في الزيادة على مائتين حتى تبلغ أربعين، ففيها درهم.
قال ابن المنذر: وبالأول أقول. ودليل الوجوب في القليل والكثير قوله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر". أخرجه البخاريّ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وبما رجّحه ابن المنذر أقول؛ لوضوح دليله. واللَّه تعالى أعلم.
قال النوويّ: وأما الذهب فمذهبنا أن نصابه عشرون مثقالاً، ويجب فيما زاد بحسابه ربع العشر، قلّت الزيادة أم كثرت، وبه قال الجمهور من السلف والخلف.
وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن الذهب إذا كان عشرين مثقالاً، وقيمتها مائتا درهم وجبت فيه الزكاة، إلا ما اختلف فيه عن الحسن، فروي عنه هذا، وروي عنه أنه لا زكاة
(1)
- وسبب ضعفه كما نبّه عليه البيهقيّ أنّ الذين رووه عن عمرو بن شعيب كلهم ضعفاء. انتهى. قلت: رواه عنه عمر بن أبي عمر الكلاعيّ الدمشقيّ، وهو منكر الحديث. وعثمان بن عبد الرحمن الوقاصيّ، قال أبو حاتم: متروك الحديث ذاهب. وقال ابن معين: لا يكتب حديثه، يكذب. ومحمد بن عبيد اللَّه العرْزَميّ، متروك.
(2)
- "المجموع" ج 5 ص 489 - 490.
فيما هو دون أربعين مثقالاً، لا تساوي مائتي درهم.
واختلفوا فيما دون عشرين إذا ساوى مائتي درهم، فقال كثير منهم: لا زكاة فيما دون عشرين، وإن بلغت مائتي درهم، وتجب في عشرين، وإن لم تبلغها.
وممن قال به عليّ بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز، وابن سيرين، وعروة، والنخعيّ، والحكم، ومالك، والثوريّ، والأوزاعيّ، والليث، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد.
وقال طاوس، وعطاء، والزهريّ، وأيوب، وسليمان بن حرب: يجب ربع العشر في الذهب إذا بلغت قيمته مائتي درهم، وإن كان دون عشرين مثقالاً، ولا شيء في الزيادة حتى تبلغ أربعة دنانير.
وأما إذا كانت الفضّة تنقص عن مائتي درهم، والذهب ينقص عن عشرين مثقالاً نقصًا يسيرًا جدًّا بحيث يروج رواج الوازنة، فلا زكاة في مذهب الشافعيّ، وبه قال إسحاق، وابن المنذر، والجمهور. وقال مالك: تجب انتهى كلام النوويّ بتصرّف
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مذهب الجمهور عندي أرجح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في اختلاف العلماء في ضمّ تكميل نصاب الدراهم بالدنانير، والعكس: قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- أيضًا: مذهبنا أنه لا يكمّل نصاب الدراهم بالذهب، ولا عكسه، حتى لو ملك مائتين إلا درهما، وعشرين مثقالاً، إلا نصفًا، أو غيره فلا زكاة في واحد منهما.
وبه قال جمهور العلماء
(2)
. حكاه ابن المنذر عن ابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وشريك، وأحمد، وأبي ثور، وأبي عُبيد.
قال ابن المنذر: وقال الحسن، وقتادة، والأوزاعيّ، والثوريّ، ومالك، وأبو حنيفة، وسائر أصحاب الرأي: يضمّ أحدهما إلى الآخر. واختلفوا في كيفية الضمّ:
فقال الأوزاعيّ: يخرج ربع عشر كلّ واحد، فإذا كانت له مائة درهم، وعشرة دنانير أخرج ربع عشر كلّ واحد منهما.
وقال الثوريّ: يضمّ القليل إلى الكثير. ونقل العبدريّ عن أبي حنيفة، أنه قال: يضمّ الذهب إلى الفضّة بالقيمة، فإذا كانت له مائة درهم، وله ذهب قيمته مائة درهم وجبت الزكاة، قال: وقال مالك، وأبو يوسف، وأحمد: يضمّ أحدهما إلى الآخر بالأجزاء،
(1)
- "المجموع" ج 5 ص 503 - 504.
(2)
- فيه نظر، فإن المذهب الآخر أيضا فيه الجمهور، بل الظاهر أنهم أكثر من هؤلاء.
فإذا كان معه مائة درهم، وعشرة دنانير، أو خمسون درهمًا، وخمسة عشر دينارًا ضمّ أحدهما إلى الآخر، ولو كان له مائة درهم، وخمسة دنانير، قيمتها مائة درهم، فلا ضمّ.
قال النوويّ: دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة". انتهى كلام النوويّ
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن مذهب القائلين بعدم الضمّ أرجح؛ لأن الورق في اللغة يُطلق على الدرهم فقط، ولا يطلق على الدينار، فالحديث المذكور يدلّ على أنه لا يجب فيما دون خمس أواق من الدراهم زكاة، فلو كان الضمّ معتبرًا لبيّنه صلى الله عليه وسلم.
والحاصل أن الدراهم، والدنانير يعتبر تمام نصاب كلّ منهما بمفرده. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في ضبط: "الأواق"، ومعناها:
قال الإمام ابن الملقّن -رحمه اللَّه تعالى-: "الأواق" جمع أوقيّة -بتشديد الياء- ويقال في كلّ جمع إذا كان مفرده مشدّدًا -بتشديد الياء، وتخفيفها- كالأواقيّ، والبَخَاتيّ، والكَرَاسيّ، وما أشبه ذلك. قال ذلك ابن السّكِّيت، والجوهريّ. وقد ثبت في هذا الحديث في الجمع حذف الياء، فيصير في الجمع للأوقية ثلاث لغات: التشديد، والتخفيف، والحذف.
والأوقيّة بضمّ الهمزة. وأنكر جمهور أهل اللغة حذف الهمزة. وحكى اللحيانيّ جواز فتح الواو، وتشديد الياء، وجمعهما وَقَايَا، كضحيّة وضحايا. وفي "مجمع الغرائب": وزنها أُفعولة، والهمزة زائدة، ولكنها لما لزمت في الواحد، والجمع صارت كالأصل، وحقها أن تُذكر في فصل الواو والقاف. وقيل: اشتقاقها من الأوقة، وهو موضع منهبط، يجتمع فيه الماء. وقيل: هو من باب وقى يقي.
وأجمع العلماء، من المحدّثين، والفقهاء، واللغويين على أن المراد بالأوقيّة الشرعيّة أربعون درهما، وهي أوقيّة الحجاز.
قال القاضي عياض: ولا يصحّ أن تكون الأوقيّة، والدراهم مجهولة في زمنه صلى الله عليه وسلم، وهو يوجب الزكاة في أعداد منها، ويقع بها البياعات، والأنكحة، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، قال: وهذا يُبيّن أن قول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى
(1)
- "المجموع" ج 5 ص 504.
زمان عبد الملك بن مروان، وأنه جمعها برأي العلماء، وجعل كلّ عشرة سبعةَ مثاقيل، وزن الدرهم ستة دوانيق. قول باطل.
وإنما معنى ما نُقل في ذلك أنه لم يكن منها شيء من ضرب الإسلام، وعلى صفة لا تختلف، بل كانت مجموعات من ضرب فارس، والروم، وصغارًا، وكبارًا، وقطع فضّة غير مضروبة، ولا منقوشة، ويمنيّة، ومغربيّة، فرأوا صرفها إلى ضرب الإسلام، ونَقشِهِ، وتصييرها وزنا واحدًا، لا يختلف، وأعيانًا يُستغنى فيها عن الموازين، فجمعوا أكبرها، وأصغرها، وضربوه على وزنهم.
قال القاضي: ولا شكّ أن الدراهم كانت حينئذ معلومة، وإلا فكيف كان يتعلّق بها حقوق اللَّه تعالى، من الزكاة وغيرها، وحقوق العباد، ولهذا كانت الأوقيّة معلومة.
قال ابن الملقّن: وقال بعض أصحابنا: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن المعروف، وهو أن الدراهم ستة دوانيق، وكلّ عشرة دراهم سبعة مثاقيل، ولم يتغيّر المثقال في الجاهليّة ولا في الإسلام.
(واعلم): أن الدراهم كانت في الجاهليّة على نوعين مختلفين: بغليّة، وطبريّة، نوع عليه نقش فارس، والآخر نقش الروم. فالبغليّة نسبة إلى ملك يقال له: رأس البغل، وهي السود، كلّ درهم منها ثمانية دوانيق. والطبرية نسبة إلى طبرية الشام، وزن كلّ درهم منها أربعة دوانيق، وهي العتق، فقدّر الشرع في الإسلام الدرهم ستة دوانيق، جمعًا بينهما، ووقع الإجماع عليه من غير ضرب، وكانوا يتعاملون بهذا التقدير الشطر من هذه، والشطر من هذه عند الإطلاق، ما لم يعيّنوا بالنصّ أحد النوعين، وكذلك كانوا يؤدّون الزكاة في أول الإسلام باعتبار مائة من هذه، ومائة من هذه في النصاب. هكذا قاله أبو عُبيد وغيره. وهي الخمسة الأواقي المذكورة في الحديث، ولم يُخالف في ذلك أحدٌ إلا ابن حبيب الأندلسيّ، فإنه زعم أن كلّ بلد يتعاملون بعرفهم في الدراهم، وهو خلاف قول الجمهور، وَيعضد قولهم ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الوزن وزن مكّة
(1)
وهذا المقدار هو الذي كان أهل مكة يتعاملون به في عصره صلى الله عليه وسلم، فلما تمكّن الإسلام، واتسع، ضُربت الدراهم على ضرب الإسلام تحرجًا من تلك النقوش، وتحرّيًا لمعاملتهم الإطلاقيّة، فنُسب التقدير إلى من ضُربت في زمنه ابتداءً، وليس كذلك، بل كان ذلك إظهارًا للضرب، لا ابتداء تقدير.
واختُلف في زمن من ابتدىء إظهار ذلك: فقيل: في زمن عمر بن الخطّاب. وقيل:
(1)
- سيأتي للمصنف في -44/ 252.
في زمن بني أُميّة انتهى كلام ابن الملقّن
(1)
.
[تنبيه]: اختُلف في مقدار النصاب في الذهب والفضّة بالوزن المتعارف في الوقت الحاضر: وقد درس الدكتور يوسف القرضاوي -جزاه اللَّه خيرًا- في كتابه "فقه الزكاة" دراسة مطوّلة، قال في آخرها: ما حاصله: نصاب الفضّة بالوزن الحديث هو 975 و 2 ط 200 = 595 من الجرامات، ونصاب الذهب هو 25 و 4 ط 20 = 85 جرامًا من الذهب. فمن ملك من الفضة الخالصة -نقودًا، أو سبائك- ما يزن 595 جرامًا وجبت عليه فيه الزكاة: 5 و 2 بالمئة. انتهى
(2)
.
وكتب الشيخ أبو بكر الجزائريّ -حفظه اللَّه- في رسالته "زكاة العُمَل" أن نصاب الذهب بالجرام 70 جرامًا ونصاب الفضة به 460 جرامًا.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: والأول هو الذي عليه غير واحد من المعاصرين، وما قاله الشيخ الجزائريّ أحوط. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في زكاة الوَرَقِ الماليّ:
كتب الدكتور يوسف القرضاويّ جزاه اللَّه تعالى خيرًا في هذه المسألة أيضًا بحثًا نفيسًا، قال فيه: لم تُعرف النقود الورقيّة إلاّ في العصر الحاضر، فلا نطمع أن يكون لعلماء السلف فيها حكم، وكلّ ما هنالك أن كثيرًا من علماء العصر يحاولون أن يجعلوا فتواهم تخريجًا على أقوال السابقين، فمنهم من نظر إلى هذه النقود نظرة فيها كثير من الحرفيّة والظاهريّة، فلم ير هذه نقودًا؛ لأن النقود الشرعيّة إنما هي الفضّة والذهب، وإذًا لا زكاة فيها.
وبهذا أفتى الشيخ عليش مفتي المالكيّة في مصر في عصره، فقد استُفتِي في حكم "الكاغد" -الورق- الذي فيه ختم السلطان، ويُتعامل به كالدراهم والدنانير، فأفتى أن لا زكاة فيه.
وكذا أفتى بعض الشافعيّة بأن لا زكاة فيها، حتى تقبض قيمتها ذهبًا، أو فضّة، ويمضي على ذلك حولٌ بناءً على أن المعاملة بها حوالة غير صحيحة شرعًا؛ لعدم الإيجاب والقبول اللفظيين.
(1)
- الإعلام ج 5 ص 32 - 36.
(2)
- "فقة الزكاة" ج 1 ص 260.
وفي كتاب "الفقه على المذاهب الأربعة" الذي ألّفته لجنة تمثّل علماء هذه المذاهب في مصر نقرأ ما يأتي:
1 -
الشافعيّة قالوا: الورق النقديّ التعامل به من قبيل الحوالة على البنك بقيمته، فيملك قيمته دينًا على البنك، والبنك مليء مُقرٌّ مستعدّ للدفع حاضرٌ، ومتى كان المدين بهذه الأوصاف، وجبت زكاة الدين في الحال. وعدم الإيجاب والقبول اللفظيّين في الحوالة لا يبطلها، حيث جرى العرف بذلك. على أن بعض أئمة الشافعيّة قال: المراد بالإيجاب والقبول كلّ ما يُشعر بالرضا من قول أو فعل، والرضا محقّق.
2 -
الحنفيّة قالوا: الأوراق المالية -البنكنوت- من قبيل الدين القويّ، إلا أنها يمكن صرفها فضّة فورًا، فيجب فيها الزكاة فورًا.
3 -
المالكيّة قالوا: أوراق البنكنوت، وإن كانت سندات دين إلا أنها يمكن صرفها فضّة فورًا، وتقوم مقام الذهب في التعامل، فيجب فيها الزكاة بشروطها.
4 -
الحنابلة قالوا: لا تجب زكاة الورق النقديّ إلا إذا صُرف ذهبًا أو فضّةً، ووجدت فيه شروط الزكاة.
ومن هذه الأقوال المنسوبة إلى المذاهب، نعلم أن أساسها هو اعتبار هذه الأوراق سندات دين على بنك الإصدار، وأنها يمكن صرف قيمتها فضّة فورًا، فتجب الزكاة فيها فورًا عند المذاهب الثلاثة، وعند الصرف فعلاً على مذهب الحنابلة. ونحن نعلم أن القانون أصبح يُعفي أوراق النقد المصرفيّة "البنكنوت" من أن يلتزم البنك صرفها بالذهب والفضّة، وبهذا ينهار الأساس الذي بني عليه إيجاب الزكاة في هذه الأوراق.
هذا، مع أن هذه الأوراق أصبحت هي أساس التعامل بين الناس، ولم يعُدْ يرى الناس العملة الذهبيّة قط، ولا الفضيّة، إلا في المبالغ التافهة، أما عماد الثروات، والمبادلات، فهو هذه العملة الورقيّة.
إن هذه الأوراق أصبحت -باعتماد السلطات الشرعيّة إياها، وجريان التعامل بها- أثمان الأشياء، ورؤوس الأموال، وبها يتمّ البيع والشراء، والتعامل داخل كلّ دولة، ومنها تُصرَف الأجور، والرواتب، والمكافآت، وغيرها، وعلى قدر ما يملك المرء منها يعتبر غناه، ولها قوّة الذهب والفضّة في قضاء الحاجات، وتيسير المبادلات، وتحقيق المكاسب والأرباح، فهي بهذا الاعتبار أموال نامية، أو قابلة للنماء، شأنها شأن الذهب والفضّة.
صحيح أن الذهب والفضّة لهما قيمة مالية ذاتيّة من حيث إنهما معدنان نفيسان، حتى لو بطل التعامل بهما نقدين لبقيت قيمتهما الماليّة معدنين، نعم هذا صحيح، ولكن الذي
يفهم من روح الشريعة، ونصوصها أنها لم توجب الزكاة في الذهب والفضّة لمحض ماليّتهما، إذ لم توجب الزكاة في كلّ مال، بل في المال المعدّ للنماء، والذهب والفضّة إنما اعتبرهما الشارع مالاً معدًا للنماء من جهة أنهما ثمنان للأشياء، وقِيَمٌ لها، فالثمنيّة مراعاة مع الماليّة أيضًا، ولهذا كان عنوان زكاة الذهب والفضة في كثير من الكتب "زكاة الأثمان"، أو "زكاة النقدين".
ومن أجل هذا لا يسوغ أن يقال للناس: إن بعض المذاهب لا يرى إخراج الزكاة عن هذه الأوراق، وينسسب ذلك إلى مذهب أحمد، أو مالك، أو الشافعيّ، أو غيرهم.
فالحقّ أن هذا أمر مستحدثٌ، ليس له نظير في عصر الأئمّة المجتهدين رضي الله عنهم حتى يقاس عليه، وُيلحق به.
والواجب أن يُنظر إليه نظرة مستقلّة في ضوء واقعنا، وظروف حياتنا وعصرنا.
وإني لأسجّل بالتقدير هنا ما كتبه، وأفتى به العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف العدويّ -رحمه اللَّه تعالى-- في رسالته "التبيان في زكاة الأثمان"، إذ قال معقبًا على تخريج زكاة الأوراق الماليّة على زكاة الدين المعروف عند الفقهاء القدامى، واعتبار هذه الأوراق سند دين (صكا كالكمبيالة) لا تجب تزكيته إلا على مذهب من لا يشترط القبض في تزكية الدين إذا كان على مليء مقرّ.
قال: ولا يخفى أن تخريج زكاة الأوراق الماليّة على زكاة الدين -مع كونه مُجحِفًا بحقّ الفقراء على غير ما ذهب إليه الشافعيّة- مبنيذ على اعتبار القيمة المضمونة بهذه الأوراق كدين حقيقيّ في ذمة شخص مدين، وأن هذه الأوراق كمستندات ديون حقيقيّة.
مع أن هناك فرقًا بين هذه الأوراق، وما هو مضمون بها، وبين الدين الحقيقيّ، وسنده المعروف عند الفقهاء، فإن الدين ما دام في ذمّة المدين لا ينمو، ولا ينتفع به ربّه، ولا يجري التعامل بسنده رسمًا، ولذا قيل بعدم وجوب زكاته؛ لأنه ليس مالاً حاضرًا مُعدًّا للنماء، بحيث ينتفع به ربّه، بخلاف قيمة هذه الأوراق، فإنها نامية، منتفع بها، كما ينتفع بالأموال الحاضرة، وكيف يقال: إنّ هذه الأوراق من قبيل مستندات الديون، ومستند الدين ما أخذ على المدين للتوثّق، وخشية الضياع، لا لتنمية الدين في ذمّة المدين، ولا للتعامل به؟:: أو يقال: لا تجب الزكاة فيها حتى يقبض بدلها نقدًا ذهبًا أو فضّةً، مع أن عدم الزكاة في الدين كما علمت إنما هو لكونه ليس معدًّا للنماء، ولا محفوظًا بعينه في خزانة المدين؟. والفقهاء إنما حكموا بعدم زكاة الدين ما دام في ذمّة المدين حتى يقبضه المالك، نظرًا لهذه العلّة، واستثنى الشافعيّة دين الموسر إذا كان
حالاًّ، فإنه يزكَّى قبل قبضه كالوديعة، نظرًا إلى أنه في حكم الحاضر المعدّ للنماء. فلو فُرض نماؤه كما في بدل الأوراق الماليّة لما كان هناك وجه لتوقّف الزكاة على القبض، ولما خالف في ذلك أحدٌ من العلماء.
فالحقّ أن هذا النوع من الدين نوع آخر مُستَحدَثٌ لا ينطبق عليه حقيقة الدين، وشروطه المعروفة عند الفقهاء، ولا يجري فيه الخلاف الذي جرى في زكاة الدين، بل ينبغي أن يُتّفَق على وجوب الزكاة فيه، لما علمت أنه كالمال الحاضر
…
إلى أن قال: ولو فُرض أنه ليس في البنك شيء من النقود، ونظر إلى تلك الأوراق في ذاتها بقطع النظر عما يعادلها، وعن التزام التعهّد المرقوم بها، واعتبر وجهة إصدار الحكومة لها، واعتبار العلّة لها أثمانًا رائجةً، لكانت كالنقدين تجب زكاتها على القول بأن الزكاة في النقدين معلولة بمجرّد الثمنيّة، ولو لم تكن خلقيّة كما تقدّم في زكاة الفلوس، وقِطَع الجلود، والكواغد.
فتحصّل أن الأوراق الماليّة يصحّ أن تُزكّى باعتبارات أربعة:
(الأول): باعتبار المال المضمون بها في ذمّة البنك، وأنه كمالٍ حاضرٍ مقبوضٍ، وإن
لم يكن كالدين المعروف عند الفقهاء من كلّ وجه.
(الثاني): زكاتها باعتبار الأموال المحفوظة بخزانة البنك، وعلى هذين الاعتبارين فالزكاة واجبة فيها اتفاقًا.
(الثالث): زكاتها باعتبار قيمتها دينًا في ذمّة البنك، فتزكّى زكاة الدين الحالّ على مليء، كما ذهب إليه الشافعيّ.
(الرابع): زكاتها باعتبار قيمتها الوضعيّة عند جريان الرسم بها في المعاملات، واتفاق الملّة
(1)
على اتخاذها أثمانًا للمقوّمات، وعلى ذلك فوجوب الزكاة فيها ثابت بالقياس كزكاة الفلوس والنحاس انتهى.
قال القرضاويّ: هذا الاعتبار الأخير هو الذي يجب أن يُعوّل عليه في حكم النقود الورقية الإلزاميّة التي هي عمدة التبادل والتعامل الآن، والتي لم يعد يشترط أن يقابلها رصيد معدنيّ بالبنك، ولا يلتزم البنك صرفها بذهب أو فضّة.
وربما كان الخلاف في أمر هذه الأوراق مقبولاً في بدء استعمالها، وعدم اطمئنان الجمهور إليها شأنَ كلّ جديد، أما الآن فالوضع قد تغيّر تمامًا.
لقد أصبحت هذه الأوراق النقديّة تحقق داخل كلّ دولة ما تحقّقه النقود المعدنيّة،
(1)
- هكذا النسخة، ولعله "الأمّة".
وينظر المجتمع إليها نظرته إلى تلك.
إنها تُدفع مهرًا، فتستباح بها الفروج شرعًا دون أيّ اعتراض. وتدفع ثمنًا، فتنقل ملكيّة السلعة إلى دافعها بلا جدال. وتدفع أجرًا للجهد البشريّ، فلا يمتنع عاملٌ، أو موظّفٌ من أخذها جزاءً على عمله. وتدفع بها دية في القتل الخطأ، أو شبه العمد، فتبرىء ذمّةَ القاتل، ويرضى أولياء المقتول. وتُسْرَقُ فيستحقّ سارقها عقوبة السرقة بلا مراء من أحد. وتدّخر وتملك، فيعدّ مالكها غنيًّا بقدر ما يملك منها، فكلما كثرت في يده عظم غناه عند الناس، وعند نفسه
(1)
.
ومعنى هذا كلّه أن لها وظائف النقود الشرعيّة، وأهمّيّتها، ونظرة المجتمع إليها، فكيف يسوغ لنا أن نَحرِمَ الفقراءَ والمساكينَ، وسائرَ المستحقّين من الانتفاع بهذه النقود، ووظائفها المتعدّدة الوفيرة؟ أليس الناس كلّ الناس يسعون إلى تحصيلها جاهدين؟ أليس مُلاّكها يعُدّونها نعمة يجب شكرها؟ أليس الفقراء يتطلّعون إليها، ويسيل لعابهم شوقًا إليها؟ أليس يفرحون بها إذا أعطوا القليل منها؟ بلى واللَّه.
وأختم هذه النقطة بما قرّره أساتذة الاقتصاد أنه يمكن القول بأن النقود هي كلّ ما يُستعمل مقياسًا للقيم، وواسطة للتبادل، وأداة للادخار، فأيّ شيء يؤدّي إلى هذه الوظيفة يعتبر نقودًا، بصرف النظر عن المادّة المصنوع منها، وبصرف النظر عن الكيفيّة التي أصبح بها وسيلة التعامل في مبدإ الأمر، فما دامت هناك مادّة يقبلها كلّ المنتجين في مجتمع مّا للمبادلة نظير ما يبيعون، فهذه المادّة نقود انتهى ما كتبه الدكتور القرضاويّ شكر اللَّه سعيه، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2474 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا
(2)
ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ
(3)
أَوْسُقٍ، مِنَ التَّمْرِ، صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ، مِنَ الْوَرِقِ، صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ، مِنَ الإِبِلِ، صَدَقَةٌ»).
(1)
- كتب في الهامش: ما نصّه: لا معنى إذن لما يقوله بعض المتحذلقين في عصرنا من أن النقود الشرعيّة هي الذهب والفضّة؛ فهي التي تجب فيها الزكاة، وهي التي يجري فيها الربا.
(2)
- وفي نسخة: "أخبرنا".
(3)
- وفي نسخة: "خمس" والأول أولى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا، غير:
1 -
(محمد بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعَة) الأنصاريّ النجّاريّ، أبي عبد الرحمن المدنيّ، ومنهم من نسبه إلى جدّه، ومنهم من نسبَ عبدَ اللَّه إلى جدّه، والجميع واحد، ثقة [6].
قال مالك: كان لآل أبي صعصعة حلقة في المسجد، وكانوا أهل علم، ودراية، وكلّهم كان يفتي. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال محمد بن إسحاق: كان ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له البخاريّ، والمصنّف، وابن ماجه، وليس له عند المصنّف إلا هذا الحديث كرره ثلاث مرات 2474 و 2475 و 2476.
و"عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعة" المدنيّ، ثقة [3] 14/ 644.
والحديث متفق عليه، كما تقدّم الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2475 -
(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، وَعَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «لَا صَدَقَةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ
(1)
أَوْسَاقٍ مِنَ التَّمْرِ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ، صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ
(2)
ذَوْدٍ مِنَ الإِبِلِ، صَدَقَةٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وتقدموا. و"هارون بن عبد اللَّه": هو الحمّال البغداديّ الثقة.
و"أبو أسامة": هو حماد بن أسامة الكوفيّ الثقة الثبت. و"محمد بن عبد الرحمن": هو ابن عبد اللَّه المترجم في الحديث السابق، نَسَبَه هنا لجدّه.
و"الوليد بن كثير": هو المخزومّي المدنيّ، ثم الكوفيّ، صدوق عارف بالمغازي، رُمي برأي الخوارج [6] 44/ 52.
و"عبّاد بن تميم" بن غَزِية الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ثقة [3] 59/ 74.
والحديث متفق عليه، وقد تقدّم البحث عنه مُستَوفىً قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2476 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي،
(1)
- وفي نسخة: "خمس"، والأول أولى؛ لأن الوسق مذكر.
(2)
- وفي نسخة: "خمسة"، والأول أولى؛ لأن الذود مؤنث.
قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ -وَكَانَا ثِقَةً- عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَسَنٍ، وَعَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ -وَكَانَا ثِقَةً- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ، مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ، مِنَ الإِبِلِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، سوى شيخه "محمد بن منصور الطُّوسيّ" نزيل بغداد، فقد تفرد به هو وأبو داود، وهو ثقة، من صغار [10] 46/ 741.
و"يعقوب": هو ابن سعد بن إبراهيم الزهريّ المدنيّ الثقة الفاضل، من صغار [9].
و"أبوه": هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ، القاضي، ثقة فاضل عابد [5].
وقوله: "وكانا ثقة". إنما أخبر عن المثنّى بمفرد، وهو "ثقة"؛ لأنه يجوز إطلاقه لغةً على الواحد، وغيره، يقال: هو، وهي، وهم، وهنّ ثقة؛ لأنه في الأصل مصدرٌ، وقد يُجمع في الذكور والإناث، فيقال: ثقات، كما قيل: عِدَات. قاله في "المصباح".
والحديث متفق عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2477 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الْخَيْلِ، وَالرَّقِيقِ، فَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، مِنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمود بن غيلان) أبو أحمد المروزي، نزيل بغداد، ثقة [10] 33/ 37.
2 -
(أبو أسامة) حماد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم، ثقة ثبت، ربما دلس، من كبار [9] 44/ 52.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ الإمام الحجة المشهور [7] 33/ 37.
4 -
(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه السبيعيّ الهمداني الكوفي، ثقة عابد، اختلط بآخره [3] 38/ 42.
5 -
(عاصم بن ضمرة) السَّلوليّ الكوفيّ، صدوق [3] 65/ 874.
6 -
(عليّ رضي الله عنه) هو ابن أبي طالب 74/ 91. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين غير شيخه، فمروزي، ثم بغداديّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. (ومنها): أن صحابيه أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشرين بالجنة، وابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنهما. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَلِيِّ) بن أبي طالب رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الْخَيلِ، وَالرَّقِيقِ) أي تركت لكم أخذ زكاتها، وتجاوزت عنها، وهذا لا يقتضي سبق وجوبه، ثم نسخَهُ (فَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكمْ، مِنْ كُلِّ مِائَتَينِ خَمْسَةٌ") أي من كلّ مائتي درهم خمسة دراهم. ولفظ أبي داود: "فهاتوا صدقةَ الرِّقَةَ، من كلّ أربعين درهما درهم، وليس في تسعين ومائة شيءٌ، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم".
والحديث دليل على عدم وجوب الزكاة في الخيل والرقيق مطلقًا، لأن "ال" في كلّ من "الخيل"، و"الرقيق" للجنس، وهو مذهب الجمهور، وخالف في ذلك حماد بن أبي سليمان، وأبو حنيفة، وزفر، وروي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقالوا: تجب الزكاة في الخيل على تفصيل فيه، وقد تقدّم تحقيق ذلك، وترجيح مذهب الجمهور قبل باب، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عليّ رضي الله عنه هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-18/ 2477 و 2478 - وفي "الكبرى"-19/ 2256 و 2257.
وأخرجه (د) في "الزكاة" 1572 و 1574 (ت) في "الزكاة" 620 (ق) في "الزكاة" 1790 (أحمد) في "مسند العشرة" 713 و 915 و 1100 و 1237 و 1247 و 1270 (الدارميّ) في "الزكاة"1629. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
2478 -
(أَخْبَرَنَا حُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الْخَيْلِ، وَالرَّقِيقِ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائَتَيْنِ زَكَاةٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "حسين بن منصور": هو أبو عليّ النيسابوريّ الثقة الفقيه [10] 25/ 1664.
و"ابن نُمير": هو عبد اللَّه بن نُمير الهمدانيّ الخارفيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقة صاحب حديث، من أهل السنّة، من كبار [7] 25/ 1664.
و"الأعمش" سليمان بن مهران الثقة الثبت الحجة [5] 17/ 18. والباقون تقدّموا في السند الماضي.
والحديث صحيح، وتقدم الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
19 - (بَابُ زَكَاةِ الْحُلِيِّ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر الترجمة أنّ المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يرى ترجيح مذهب القائلين بوجوب زكاة الحليّ -وهو مذهب الحنفيّة-وهو الحقّ؛ لقوة دليله، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.
و"الْحُليّ" -بضمّ الحاء المهملة، وكسر اللام، وتشديد التحتانيّة- جمع "حَلْيٍ" -بفتح المهملة، وسكون اللام- كثَدْيِ وثُدِيٍّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2479 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ امْرَأَةً، مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِنْتٌ
(1)
لَهَا، فِي يَدِ ابْنَتِهَا
(2)
مَسَكَتَانِ، غَلِيِظَتَانِ، مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ:«أَتُؤَدِّينَ زَكَاةَ هَذَا؟» ، قَالَتْ: لَا، قَالَ:«أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ، عز وجل بِهِمَا، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟» ، قَالَ: فَخَلَعَتْهُمَا، فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: هُمَا لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إسماعيل بن مسعود) الجحدري البصري، ثقة [10] من أفراد المصنف 42/ 47.
2 -
(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.
3 -
(حسينٌ) بن ذكوان الْمُعَلِّم البصريّ، ثقة [6] 122/ 174.
4 -
(عمرو بن شعيب) المدني، أو الطائفي، صدوق [5] 105/ 140.
(1)
- وفي نسخة: "وابنة".
(2)
- وفي نسخة: "وفي يد ابنتها" بالواو، وفي أخرى:"وبيد" بالباء بدل "في".
5 -
(أبوه) شعيب بن محمد الطائفي، صدوق [3] 105/ 140.
6 -
(جده) عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - 89/ 111. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالبصرين إلى حسين، ومنه مدنيون، أو طائفيون. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن جده، وتابعي، عن تابعي. (ومنها): أن صحابيه أحد العبادلة الأربعة، وقد تقدموا غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، (عَنْ جَدِّهِ) الضمير لشعيب، أَي جدّ شعيب، وهو عبد اللَّه بن عمرو بن العاص الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما وقد ثبت سماع شعيب منه (أَنَّ امْرَأَةً، مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ) هذا يردّ قول من قال: إنها أسماء بنت يزيد بن السَّكَن، كما نقله في "المنهل"، فإنها أنصاريّة، وليست يمنيّة (أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِنْتٌ لَهَا) بالرفع عطفًا على الضمير الفاعل، لفصله بالمفعول (فِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ) جملة في محلّ نصب على الحال. و"الْمَسَكَتان": تثنية مَسَكَة -بفتح الميم، والسين المهملة- وهي في الأصل السِوَار من الذَّبْلِ، وهي قرون الأوعال، وقيل: جلود دابّة بحريّة، والجمع مَسَكٌ. وفي "تهذيب الأزهريّ": الْمَسَكُ: الذَّبْلُ من العاجِ كهيئة السِّوَار، تجعله المرأة في يديها، فذلك الْمَسَكُ، والذّبْلُ -أي بفتح، فسكون-: القُرُون، فإن كان من عاج فهو مَسَكٌ، وعاجٌ، وَوَقْفٌ، وإذا كان من ذَبْلٍ فهو مَسَكٌ لا غير. وقال أبو عمرو: الْمَسَكُ مثل الأسوِرَة، من قُرُون، أو عاج، قال [من الطويل]:
تَرَى الْعَبَسَ الْحَوْلِيَّ جَوْنًا بِكُوعِهَا
…
لَهَا مَسَكًا مِنْ غَيْرِ عَاجٍ وَلَا ذَبْلِ.
أفاده في "لسان العرب". والمراد به هنا سواران من ذهب، كما بيّنه بقوله (غَلِيظَتَانِ، مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَتُؤَدِّينَ) وفي نسخة: "أتؤديان زكاته" بضمير التثنية، للمرأة وابنتها (زَكَاةَ هَذَا؟) إنما أفرد اسم الإشارة مع أنّ المشار إليه مثنّى، بتأويله بالملبوس، أي أتؤدّين زكاة هذا الملبوس في يديك؟. (قَالَتْ: لَا) أي لا أُأدّي زكاته (قَالَ: "أَيَسُرُّكِ") - بضمّ السين المهملة- أي يُفرحك، يقال: سَرَّهُ سُرُورًا -بالضمّ- والاسم السَّرُور- بالفتح-: إذا أفرحه. قاله في "المصباح"(أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ، عز وجل) أي يُلبسك، يقال:
سَوَّرته السِّوَار: ألبسته إياه (بهِمَا) أي بسبب عدم أداء زكاتهما (يَوْمَ الْقِيَامَةِ، سِوَارَيْنِ) تثنية سِوَار -بالكسر، والضمّ- قال في "القاموس": والسّوار، ككِتَاب، وغُرَاب: الْقُلْبُ، كالأُسْوَارِ -بالضمّ- والجمع أَسْوِرَةٌ، وأَسَاورُ، وأَسَاورَةٌ، وسُوْرٌ، وسُؤْرٌ انتهى. وقال في "المصباح": وسِوَارُ المرأة: معروفٌ، والجمع أَسْوِرَةٌ، مثلُ سِلَاح وأسْلِحَة، وأسَاورةٌ أيضًا، وربّما قيل: سُورٌ، والأصل بضمّتين، مثلُ كتاب وكُتُب، لكن أُسكن للتخفيف، والسُّوَار -بالضمّ- لغةٌ فيه انتهى.
(مِنْ نَارٍ؟) متعلّق بصفة لـ"سوارين"، و"من" بيانيّة.
وفيه دلالة على وجوب الزكاة في الحليّ الذي تلبسه المرأة للزينة، وهو المذهب الراجح، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى (قَالَ) الراوي (فَخَلَعَتْهُمَا) من باب نَفَع: أي نَزَعتهما من يدي ابنتها (فَأَلْقَتْهُمَا) أي رمتهما (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: هُمَا لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم) أي هما صدقتان مدفوعاتان إلى اللَّه عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ليصرفهما في مصارفهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-19/ 2479 و 2480 - وفي "الكبرى" 20/ 2258 و 2259. وأخرجه (د) في "الزكاة" 15632 (أحمد) في "مسند المكثرين" 6629 و 6862 و 6900. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما بوّب له المصنّف، وهو وجوب زكاة الحليّ (ومنها): جواز التحلّي للنساء بحليّ الذهب، من السوار، وغيره، إذا أدّت زكاته.
قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: أجمع المسلمون على أنه يجوز للنساء لبس أنواع التحلّي من الفضّة والذهب جميعًا، كالطوق، والعِقْد، والخاتم، والسوار، والخلخال، والتعاويذ، والدَّمَالج، والمخانق، وكلّ ما يُتّخذ في العنق وغيره، وكلّ يَعْتدن لبسه، ولا خلاف في شيء من هذا. انتهى
(1)
.
(1)
- "المجموع" ج 5 ص 522 - 523.
(ومنها): تغليظ وعيد مَن منع الزكاة (ومنها): أن الجزاء يوم القيامة يكون من جنس العمل (ومنها): جواز التصدّق بالحليّ، وسيأتي للمصنّف في 82/ 2583 - حديث زينب امرأة عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر النساء تصدّقن، ولو من حليّكنّ
…
" الحديث، وهو حديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وجوب زكاة الحليّ:
ذهبت طائفة من العلماء إلى وجوب الزكاة في الحليّ.
رُوي ذلك عن عمر بن الخطّاب، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم.
وبه قال عبد اللَّه بن شدّاد، وابن المسيّب، وسعيد بن جُبير، وعطاء، وابن سيرين، وجابر بن زيد، ومجاهد، والزهريّ، وطاوس، وميمون بن مِهران، والضحّاك، وعلقمة، والأسود، وعمر بن عبد العزيز، وإبراهيم النخعيّ، وذَرّ الهمدانيّ، والأوزاعيّ، وابن شُبْرُمة، والحسن بن حيّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، والثوريّ، وعبد اللَّه بن المبارك وابن المنذر، وابن حزم، وهي رواية عن أحمد، كما في "المغني"، وهو أحد أقوال الشافعيّ.
وذهبت طائفة إلى أنه لا تجب الزكاة فيها:
روي ذلك عن ابن عمر، وجابر، وأنس، وعائشة، وأسماء رضي الله عنهم.
وبه قال القاسم بن محمد، والشعبيّ، وقتادة، ومحمد بن عليّ، وعمرة، وأبو عبيد، ومالك، وأحمد، وإسحاق، والشافعيّ في أظهر قوليه. قال ابن المنذر: وقد كان الشافعيّ قال بهذا إذ هو بالعراق، ثم وقف عنه بمصر، وقال: هذا مما أستخير اللَّه تعالى فيه. ذكره المنذريّ في "الترغيب".
وذهب الليث إلى أن ما كان من حليّ يُلبس، وُيعار، فلا زكاة فيه، وإن اتخذ للتحرّز من الزكاة.
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: يزكى عامًا واحدًا لا غير.
والحاصل أن في هذه المسألة أربعة أقوال: (أحدها): الوجوب؛ عملاً بما ورد في ذلك من الأحاديث. (والثاني): عدم الوجوب؛ لآثار وردت عن السلف قاضية بعدم وجوبها. (والثالث): أن زكاتها عاريتها. (والرابع): إنها تجب مرّة واحدة، رواه البيهقيّ عن أنس رضي الله عنه.
وأصحّ الأقوال الأول؛ لقوة أدلّته، فقد دلّت عليه دلائل واضحة، عامّة، وخاصّة:
(فمن الأدلة العامّة): قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية [التوبة: 34].
(ومنها أيضًا): عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وفي الرقة ربع العشر" رواه البخاريّ. قال ابن قُتيبة: "الرقة": الفضّة، سواء كانت الدراهم، أو غيرها. نقله ابن الجوزيّ في "التحقيق".
(ومنها): قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة". متفق عليه. والوَرِق يُطلق على الفضّة مضروبة كانت، أو غير مضروبة، يدلّ على ذلك ما جاء في الحديث: أن عرفجة رضي الله عنه اتخذ خاتما من ورِقٍ. حديث صحيح، رواه أبو داود، والمصنّف
(1)
.
قال أبو محمد ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-: لَمَّا صحّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر"، و"ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، فإذا بلغ مائتي درهم ففيها خمسة دراهم"، وكان الحليّ وَرِقًا وجب فيه الزكاة؛ لعموم هذين الأثرين الصحيحين. وأما الذهب فقد صحّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما من صاحب ذهب، لا يؤدّي ما فيها، إلا جُعل له يوم القيامة صفائح من نار، يُكوى بها". فوجبت الزكاة بالنصّ في كلّ ذهب وفضّة، ولم يجز تخصيص شيء منهما، إذ قد عمّهما النصّ، فلا يجوز أن يقال: إلا الحليّ بغير نصّ في ذلك، ولا إجماع. انتهى كلام ابن حزم باختصار
(2)
.
(ومن الأدّلّة الخاصّة): حديث الباب، وهو حديث صحيح، كما تقدّم.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود، بسند صحيح، عن عبد اللَّه بن شداد بن الهاد، أنه قال: دخلنا على عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: دخل عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرأى في يدي فَتَخَات، من وَرِقٍ، فقال:"ما هذا، يا عائشة؟ "، فقلت: صنعتهن، أَتَزَيَّن لك، يا رسول اللَّه، قال:"أتؤدين زكاتهن؟ "، قلت: لا، أو ما شاء اللَّه، قال:"هو حسبك من النار".
ثم أخرج بسنده: قيل لسفيان: كيف تزكيه؟ قال: تضمه إلى غيره.
(ومنها): حديث أم سلمة رضي الله عنها، قالت: كنت ألبس أوضاحا، من ذهب، فقلت: يا رسول اللَّه، أكنز هو؟، فقال:"ما بلغ أن تؤدى زكاته، فزُكِّيَ، فليس بكنز". أخرجه أبو داود، بإسناد صحيح أيضًا.
(ومنها): ما أخرجه أحمد عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها، قالت: دخلت أنا، وخالتي
(1)
- سيأتي للمصنّف برقم 5161 - و 5162.
(2)
- راجع المحلّى ج 6 ص 80.
على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعليها أسورة من ذهب، فقال لنا:"أتعطيان زكاته؟ "، قالت: فقلنا: لا، قال:"أما تخافان، أن يسوركما اللَّه، أسورة من نار، أديا زكاتهُ". وفي إسناده مقال.
وقد وردت أحاديث في الباب لكنها ضعاف، وفيما ذكرناه كفايةٌ.
وقد أجاب القائلون بعدم وجوب الزكاة في الحليّ عن هذه الأحاديث بأجوبة كلها مردودة:
(فمنها): أن هذه الأحاديث وردت حين كان التحلّي بالذهب حراما على النساء، فلما أبيح لهنّ سقطت منه الزكاة بالاستعمال، كما تسقط زكاة الماشية بالاستعمال. وهذا الجواب باطل. قال البيهقيّ في "المعرفة": كيف يصحّ هذا القول من حديث أم سلمة، وحديث فاطمة بنت قيس، وحديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنهن، وفيها التصريح بلبسه مع الأمر بالزكاة، وحديث عائشة رضي الله عنها دخل عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرأى في يدي فَتَخَات من ورِقٍ
…
"، إن كان الورِق فيه محفوظًا انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدّم أن حديثها المذكور صحيح. واللَّه تعالى أعلم.
(ومنها): أن الزكاة المذكورة في هذه الأحاديث إنما كانت للزيادة على قدر الحاجة، وهذا ادعاء محضٌ، لا دليل عليه، بل في بعض الروايات ما يردّه. قال الزيلعيّ بعد ذكر حديث عمرو بن شعيب المذكور في الباب من رواية أحمد، وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، بلفظ:"فأدّيا زكاة هذا الذي في أيديكما": ما نصّه: وهذا اللفظ يدفع تأويل من يحمله على أن الزكاة المذكورة فيه شُرعت للزيادة فيه على قدر الحاجة انتهى
(1)
.
(ومنها): أن المراد بالزكاة في هذه الأحاديث التطوّع، أو المراد بالزكاة العارية. قال القاري: وهما في غاية البعد، إذ لا وعيد في ترك التطوّع، والإعارة، مع أنه لا يصحّ إطلاق الزكاة على العارية، لا حقيقةً، ولا مجازًا انتهى
(2)
.
والحاصل أن الراجح قول من قال بوجوب زكاة الحليّ، للأدلّة التي ذكرناها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2480 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ حُسَيْنًا، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ، وَمَعَهَا بِنْتٌ لَهَا، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ، نَحْوَهُ مُرْسَلٌ).
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: خَالِدٌ أَثْبَتُ مِنَ الْمُعْتَمِرِ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "مُحَمَّدُ بْنُ عَبدِ الْأَعْلَى": هو الصنعاني البصري، ثقة
(1)
- "نصب الراية" ج 2 ص 374.
(2)
- راجع "المرعاة" ج 6 ص 165 - 169.
[10]
5/ 5. و"الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيمَانَ": هو أبو محمد البصري، ثقة من كبار [9] 10/ 10. والباقون تقدموا في السند الماضي.
وقوله: "مرسلٌ": خبر لمحذوف، أي هذا الحديث مرسل. ولفظ "الكبرى":"مرسلاً"، وهو منصوب على الحال.
ثم المراد بالمرسل هنا المعضل، حيث إنه سقط من الإسناد اثنان، شعيبٌ، وجدّه عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، كما تبيّن ذلك من الإسناد المتقدّم.
وإطلاق المرسل على مطلق الانقطاع الشامل للإعضال وغيره مذهب كثير من أهل الحديث، كما تقدّم غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: خَالِدٌ أَثْبَتُ مِنَ الْمُعْتَمِرِ) أشار به إلى أن رواية خالد بن الحارث الموصولة المذكورة في السند السابق، أرجح من رواية المعتمر بن سليمان المرسلة هذه؛ لأن خالدًا أثبت منه، فإن معتمرًا، وإن كان ثقة، فقد وصف بسوء الحفظ، فقد قال يحيى القطّان: إذا حدّثكم المعتمر بشيء، فاعرِضوه، فإنه سيّء الحفظ. وقال ابن خراش: صدوق يُخطىء من حفظه.
(1)
.
وأجمعوا على حفظ خالد، وإتقانه، ولم يتكلّم فيه أحد بسوء الحفظ، بل كانوا يسمّونه خالد الصِّدْق
(2)
.
وحاصل ما أشار إليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أن وصل هذا الحديث أصحّ من إرساله.
هذا هو الظاهر من كلامه المذكور، وأما ما وقع في "تحفة الأشراف" جـ6 ص 309 - من قوله:"قال النسائيّ: خالد بن الحارث أثبت عندنا من معتمر، وحديث معتمر أولى بالصواب انتهى. فالظاهر أنه تصَحّف خالد إلى معتمر، والصواب: "وحديث خالد أولى بالصواب". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 4 ص 117.
(2)
- انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 1 ص 515.
20 - (بَابُ مَانِعِ الزَّكَاةِ)
أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالين على تعذيب مانع الزكاة.
2481 -
(أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الَّذِي لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ، يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مَالُهُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، شُجَاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ"، قَالَ: "فَيَلْتَزِمُهُ"، أَوْ "يُطَوِّقُهُ" قَالَ: يَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ، أَنَا كَنْزُكَ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصجيح، وقد تقدموا غير مرة. و"الفضل بن سهل": هو البغداديّ، خراسانيّ الأصل، وثّقه النسائيّ. و"أبو النضر هاشم بن القاسم": الملقّب بـ "قيصر" البغداديّ الثبت. و"عبد العزيز بن عبد اللَّه بن أبي سلمة" الماجشون المدنيّ نزيل بغداد الفقيه الثقة. و"عبد اللَّه بن دينار" العَدَويّ مولى ابن عمر المدنيّ الثقة.
وقوله: "يُخَيَّلُ إليه ماله": بالبناء للمفعول، أي يصوّر له ماله، فالمراد بالتخييل هنا التصوير، ويؤيّد ذلك أن في رواية أحمد بلفظ: يُمثِّلُ اللَّه تعالى له مالَهُ "، وهو الذي في رواية أبي هريرة الآتية بعد هذا.
وقوله: "له زَبِيبتان": تثنية زَبِيبة -بفتح الزاي، وموحّدتين- وهما الزَّبَدَتَان اللتان في الشِّدقين. وقيل: النكتتان السوداوان، فوق عينيه. وقيل: نقطتان يكتنفان فاه. وقيل: هما في حلقه بمنزلة زَنَمَتي الْعَنْزِ. وقيل: لحمتان على رأسه، مثل القرنين. وقيل: نابان يَخرُجان من فيه.
وقوله: "فليتزمه"، ولفظ "الكبرى":"فيُلَفُّ به".
وقوله: "أو يَطَّوَّقُهُ": "أو" للشكّ من الراوي. و"يُطَوَّقُهُ"-بضمّ أوّله، وفتح الطاء، وتشديد الواو-: أي يُجعل ذلك الشجاع كالطَّوْق له. وضبطه السنديّ -بفتح أوله، وتشديد الطاء، والواو المفتوحتين-: أي يصير له ذلك الشجاع طوقًا انتهى. ونحوه في شرح السيوطيّ
(1)
.
وقوله: "قال: يقول الخ": فاعل "قال" ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم، وفاعل "يقول" ضمير المال، أي قال صلى الله عليه وسلم: يقول ذلك المال لصاحبه: أنا كنزك، أنا كنزك، توبيخًا وتقريعًا له.
(1)
- انظر شرحي السنديّ، والسيوطيّ ج 5 ص 39.
والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-20/ 2481 - وفي "الكبرى" 21/ 2260. وأخرجه (أحمد) في "مسند المكثرين" 6412، وقد تقدّم تمام شرحه في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم 6/ 2448. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2482 -
(أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى الأَشْيَبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، الْمَدَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ آتَاهُ اللَّهُ عز وجل، مَالاً، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، شُجَاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ، يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ» ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآيَةَ [آل عمران: 180] ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح.
و"حسن بن موسى": هو الأشيب البغداديّ، الثقة [9].
و"عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن دينار" العَدَويّ، مولى ابن عمر المدنيّ" صدوق يُخطىء [7].
قال الدُّوريّ، عن ابن معين: في حديثه عندي ضَعْفٌ، وقد حدّث عنه يحيى القطّان، وحسبه أن يحدّث عنه يحيى. وقال عمرو بن عليّ: لم أسمع عبد الرحمن يُحدّث عنه بشيء قط. وقال أبو حاتم: فيه لينٌ، يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به. وقال ابن عديّ: وبعض ما يرويه منكر، لا يُتابع عليه، وهو في جملة من يُكتب حديثه من الضعفاء. وقال السُّلَميّ، عن الدارقطنيّ: خالف فيه البخاريُّ الناس، وليس بمتروك.
وقال الحاكم، عن الدارقطنيّ: إنما حدّث بأحاديث يَسيرة. وقال أبو القاسم البغويّ: هو صالح الحديث. وقال الحربيّ: غيره أوثق. وقال ابن خلفون: سئل عنه عليّ بن المدينيّ؟ فقال: صدوق.
أخرج له البخاريّ، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا 2482 و 5245 حديث ابن عمر:"رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يصفّر لحيته".
وقوله: "بلِهْزِمَتَيه": -بكسر اللام، والزاي، بينهما هاء ساكنة-: في "صحيح البخاريّ": يعني شِدْقَيه. وقال في "الصحاح": هما العظمان الناتئان في اللَّحْيين، تحت الأذنين. وفي "الجامع": هما لحم الخدّين الذي يتحرّك إذا أَكَل الإنسان. انتهى
(1)
.
(1)
- انظر شرح السيوطيّ ج 5 ص 39 - 40.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفقٌ عليه، وقد تقدّم للمصنّف في - 6/ 2448 - وتقدّم شرحه، والكلام على مسائله هناك، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
21 - (زَكَاةُ التَّمْرِ)
2483 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ
(1)
، مِنْ حَبٍّ، أَوْ تَمْرٍ صَدَقَةٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الحديث كلهم رجال الصحيح.
وتقدّموا غير مرّة. و "مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ": هو المخرِّمي البغدادي الثقة الحافظ [11]. و"وكيع": هو ابن الجرّاح الكوفي الثقة الثبت [9]. و"سفيان": هو الثوريّ الإمام [7]. و"إسماعيل بن أمية": هو الأمويّ الثقة الثبت [6]. و"محمد بن يحيى": هو ابن حبّان بن منقذ الأنصاريّ المدنيّ الثقة الفقيه [4]. و"يحيى بن عمارة": هو ابن أبي حسن الأنصاري المدني الثقة [3].
ودلالة الحديث على الترجمة واضحة، فإنه يدلّ على وجوب الزكاة في التمر.
[فإن قيل]: إنه إخبار عن عدم الصدقة فيما دون خمسة أوسق، من حبّ، أو تمر، فكيف يدلّ على الوجوب؟.
[قلت]: المراد به الإخبار بوجوب الزكاة فيما كان خمسة أوسق، فما فوقها، بدليل الأدلّة الأخرى، كقوله تعالى:{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 267]، وقوله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} الآية [الأنعام: 141]، وكحديث:"فيما سقت السماء العشر"، وحديث معاذ رضي الله عنه "أمرني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن آخذ مما سقت السماء العشر
…
"، وغير ذلك.
(1)
- وفي نسخة: "أوسُق".
وقوله: "أو تمر" يحتمل أن تكون "أو" للشكّ من الراوي، ويحتمل أن تكون بمعنى الواو، وهذا الاحتمال أولى للروايةِ الآتية من طريق عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان بلفظ:"ليس في حبّ، ولا تمر"، فيكون من عطف الخاصّ على العامّ.
ثم رأيت في هامش "النسخة الهندية" أشار إلى أن في بعض النسخ "وتمر" بالواو. [تنبيه]: ذكر الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفته" جـ 3 ص 481 بعد ذكر سند المصنّف هذا: ما نصّه: وقال -يعني النسائيّ-: لا نعلم أحدًا تابع إسماعيل بن أُميّة على قوله: "من حبّ"، وهو ثقة انتهى.
وغرضه بهذا أن تفرّد إسماعيل بن أُميّة عن سائر الرواة بزيادة: "من حبّ"، لا يضرّه، لأنه ثقة ثبت، فتكون زيادته مقبولة. واللَّه تعالى أعلم.
ثم إن الكلام الذي نقله الحافظ المزيّ عن المصنّف لم أره، لا في "المجتبى"، ولا في "الكبرى"، ولعله لاختلاف النسخ، واللَّه تعالى أعلم.
والحديث متفق عليه، وقد تقدّم للمصنّف في-5/ 2445 - وتقدّم شرحه هناك، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
22 - (بَابُ زَكَاةِ الْحِنْطَةِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الحِنْطَة" -بكسر المهملة، وسكون النون، بعدها طاء مهملة- والقَمْح -بفتح، فسكون- والبرّ، والطعام واحد، وبائع الحنطة حَنّاطٌ، مثلُ البزّاز، والعطّار، والنسبة إليه على لفظه حَنّاطيّ. أفاده في "المصباح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2484 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي
(1)
عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا يَحِلُّ فِي الْبُرِّ، وَالتَّمْرِ زَكَاةٌ، حَتَّى تَبْلُغَ
(2)
خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَلَا يَحِلُّ فِي الْوَرِقِ زَكَاةٌ، حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوَاقٍ، وَلَا يَحِلُّ فِي إِبِلٍ زَكَاةٌ، حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَ ذَوْدٍ»).
(1)
- وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
- وفي نسخة: "يبلغ".
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه "إسماعيل بن مسعود" الْجَحْدَريّ البصريّ الثقة، فإنه من أفراده. و"يزيد بن زُريع" الحجة الثبت، رَيحانة البصرة.
و"رَوْح بن القاسم" التميمي العنبريّ البصريّ الحافظ الثقة.
وقوله: "لا يحل" بكسر الحاء المهملة: أي لا يجب، ومنه قوله تعالى:{أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية [طه: 86]. أي يجب عليكم، على قراءة الكسر، ومنه حَلَّ الدين حُلُولاً. وأما الذي بمعنى النزول، فبضمّ الحاء، ومنه قوله تعالى:{أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} الآية [الرعد: 31]. قاله السنديّ
(1)
.
قلت: الذي في "المصباح المنير" أن مضارع حلّ العذابُ يَحلّ حُلُولاً بالوجهين، ومضارع حلّ الشيُ حِلاَّ: ضدّ حرُم، وحَلّ الدينُ حُلُولاً: بمعنى انتهى أجله، وحَلّ الحقّ حِلاًّ، وحُلُولاً: بمعنى وجبَ، وحَلّ المحرمُ بمعنى خرج من إحرامه، وحَلّ الهديُ بمعنى وصل الموضع الذي يُنحَر فيه، وحَلّت اليمين بمعنى بَرَّتْ، كله بالكسر فقط، وكلها أفعالٌ لازمة.
وأما حَلّ البلدَ: إذا نزل به، وحَلّ العُقْدَة، وحَلّ اليمينَ: إذا فَعَل ما يخرُجُ عن الْحِنْثِ، فإن مضارعها بالضمّ لأنها متعدّية.
والحديث صحيح، وقد تقدّم الكلام عليه في الذي قبله، ودلالته على الترجمة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
23 - (بَابُ زَكَاةَ الْحُبُوبِ)
جمع حَبّ بالفتح، سيأتي الكلام عليه بعد باب، إن شاء اللَّه تعالى.
2485 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَيْسَ فِي حَبٍّ، وَلَا تَمْرٍ صَدَقَةٌ، حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ»).
(1)
- "شرح السنديّ" ج 5 ص 40 - 41.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح.
وتقدموا غير مرّة. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ.
والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم الكلام عليه قبل حديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
24 - (الْقَدْرُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ)
أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على بيان القدر الذي تجب فيه الزكاة.
والظاهر أنه أراد بيان أقلّ النصاب في الأشياء المذكورة في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، أما نصاب الذهب، والفضّة، والإبل، فقد سبق تمام البحث فيها فيما مضى من الأبواب، وأما نصاب الحبوب فسيأتي الكلام عليه في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2486 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِدْرِيسُ الأَوْدِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ»).
قال الجامع عفا اللَّه تعالى: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وتقدّموا غير:
1 -
(إدريس) بن يزيد بن عبد الرحمن الأوديّ الزَّعَافريّ، وهو أخو داود، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة [7].
قال ابن معين، وأبو داود، والنسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا 2486 و 3002 حديث: عمر رضي الله عنه في آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3].
و"أبي الْبَختَريّ"-بفتح الموحّدة، والمثنّاة، بينهما معجمة- اسمه: سعيد بن فَيروز، وهو ابن أبي عمران الطائيّ مولاهم، الكوفيّ، ثقة ثبت، فيه تشيّعٌ قليل، كثير الإرسال [3].
وثّقه ابن معين، وأبو زرعة، وفي رواية عن ابن معين، قال: ثبت، ولم يسمع من عليّ شيئًا. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. وقال أبو داود: لم يسمع من أبي سعيد. وقال
فِطر بن خليفة، عن حبيب بن أبي ثابت: اجتمعت أنا، وسعيد بن جبير، وأبو البَخْتَريّ، فكان الطائيّ أعلمنا، وأفقهنا. وقال هلال بن خبّاب: كان من أفاضل أهل الكوفة. وقال ابن سعد: قُتل بدُجَيل مع ابن الأشعث سنة (83)، وكان كثير الحديث، يُرسل حديثه،، ويروي عن الصحابة، ولم يسمع من كثير أحد، فما كان من حديثه سماعًا، فهو حسنٌ، وما كان غيره فهو ضعيف. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل"، عن أبيه: لم يُدرك أبا ذرّ، ولا أبا سعيد، ولا زيد بن ثابت، ولا رافع بن خَدِيج، وهو عن عائشة مُرسل. وقال أبو زرعة: هو عن عمر مرسل. وقال العجليّ: تابعيّ، ثقة، فيه تشيّع. ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نُمير. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، فقال: سعيد بن فَيروز، ويقال: سعيد بن عمران، وقيل: غير ذلك.
روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب خمسة أحاديث.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: إسناد هذا الحديث فيه انقطاع، كما تبيّن من ترجمة أبي البَخْتَريّ المذكور آنفًا، فإنه لم يُدرك أبا سعيد رضي الله عنه، لكن الحديث صحيح، فقد تقدّم ويأتي من رواية يحيى بن عمارة، عن أبي سعيد رضي الله عنه، ومن طريقه أخرجه الشيخان، وغيرهما، كما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2487 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"أحمد بن عبدة": هو الضبيّ البصريّ، ثقة رمي بالنصب [10]. و"حمّاد": هو ابن زيد. و"يحيى بن سعيد": هو القطّان. و"عبيد اللَّه بن عمر": هو العمريّ الفقيه الحجة المدنيّ.
والحديث متفق عليه، وقد مرّ الكلام عليه غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
25 - (بَابُ مَا يُوجِبُ الْعُشْرَ، وَمَا يُوجِبُ نِصْفَ الْعُشْرِ)
2488 -
(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْهَيْثَمِ، أَبُو جَعْفَرٍ الأَيْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
(1)
يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ، وَالأَنْهَارُ، وَالْعُيُونُ، أَوْ كَانَ بَعْلاً، الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي، وَالنَّضْحِ، نِصْفُ الْعُشْرِ» ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هارون بن سعيد بن الْهَيْثَمِ) بن محمّد بن الهيثم بن فَيْرُوز التميميّ السعْديّ مولاهم، أبي جعفر الأَيْلِيّ
(2)
، نزيل مصر، ثقة فاضل [10].
قال أبو حاتم: شيخٌ. وقال النسائيّ: لا باس به. وقال في موضع آخر: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال أبو عمر الكِنْديّ: كان فقيهًا، من أصحاب ابن وهب.
وقال مَسلَمة بن قاسم: كان مقدّمًا في الحديث فاضلاً. وقال ابن يونس: توفّي في ربيع الأول سنة (253)، وكان مولده سنة (170) وكان ثقة، وكان قد ضَعُفَ، ولزم بيته.
روى عنه مسلم، وأبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، روى عنه المصنف في هذا الكتاب أربعة أحاديث برقم 2488 و 2557 و 3087 و 4917.
2 -
(ابن وهب) عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصري، ثقة حافظ عابد [9] 9/ 9.
3 -
(يونس) بن يزيد الأيلي، أبو يزيد، ثقة، من كبار [7] 9/ 9.
4 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ المدني الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.
5 -
(سالم) بن عبد اللَّه بن عمر العدوي المدني الفقيه الثقة الثبت [3] 32/ 490.
6 -
(أبوه) عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال
(1)
- وفي نسخة: "أخبرنا".
(2)
-بفتح الهمزة، وسكون الياء التحتانيّة، آخره لام: نسبة إلى أَيْلَةَ بلد بساحل بحر القلزم، مما يلي ديار مصر. قاله في "اللباب" ج 1 ص 98.
الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمصرييّن إلى ابن شهاب، ومنه مدنيّون. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ابن شهاب، عن سالم، ورواية الابن، عن أبيه، وفيه أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو سالم، وفيه أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وهو عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ سَالِمٍ) بن عبد اللَّه (عَنْ أَبِيهِ) عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ) أي المطِر، أو الثلج، أو البرد، أو الطلّ، من باب ذكر المحلّ، وإرادة الحالّ (وَالْأَنْهَارُ) جمع نَهر -بفتحين- قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: النَّهْرُ: الماء الجاري المتّسِعُ، والجمع نهُرٌ -بضمّتين- وأنُهرْ، والنَّهَر -بفتحتين- لغةٌ، والجمع أنهارٌ، مثلُ سَبَبٍ وأسباب، ثم أطلق النهْرُ على الأُخْدُود مجازًا للمجاورة، فيقال: جرى النهرٌ، وجَفّ النهر، كما يقال: جَرَى الميزابُ، والأصل جَرَى ماء النّهر انتهى
(1)
(وَالْعُيُونُ) جمع عين، وهي يَنبُوعُ الماء، وتُجمع أيضًا على أعيُنٍ (أَوْ كَانَ بَعْلَا) - بفتح الموحّدة، وسكون المهملة، آخره لام-: النخل يَشرب بعروقه، فيَستغني عن السقي. وقال أبو عمر: البَعْلُ، والْعِذْيُ -بالكسر- واحدٌ، وهو ما سقته السماء. وقال الأصمعيّ: البَعْلُ ما يشرب بعروقه، من غير سقيٍ، ولا سماءٍ، والْعِذْيُ ما سقته السماء. قاله في "المصباح".
ولفظ البخاريّ: "أو كان عَثَرِيّا". قال في "الفتح": -بفتح المهملة، والمثلّثة، وكسر الراء، وتشديد التحتانيّة، وحُكِي عن ابن الأعرابيّ تشديد المثلّثة، وردّه ثعلبٌ. وحكى ابن عديس في المثلّث فيه ضمّ أوله، وإسكان ثانيه. قال الخطّابيّ: هو الذي يشرب بعروقه، من غير سقي. وقال ابن قُدَامة، عن القاضي أبي يعلى: هو الماء الْمُستَنقِعُ في بِرْكَة أو نحوها، يَصُبُّ إليه ماء المطر في سَوَاقٍ، تُشَقُّ له، فإذا اجتمع سُقي منه، واشتقاقه من العاثُور، وهي الساقية التي يَجري فيها الماء؛ لأنها يَعْثُر بها من يَمُرّ بها.
قال: ومنه الذي يَشرَب من الأنهار بغير مؤونة، أو يَشرب بعروقه، كأن يُغرَس في أرض يكون الماء قريبًا من وجهها، فيصل إليه عروق الشجر، فيستغني عن السقي.
قال الحافظ: وهذا التفسير أولى من إطلاق أبي عُبيد أن العثريّ ما تسقيه السماء؛ لأن سياق الحديث يَدُلّ على المغايرة. وكذا من فسّر الْعَثَريّ بأنه الذي لا حِمْلَ له؛ لأنه
(1)
- "المصباح المنير" في مادّة نهر.
لا زكاة فيه. قال ابن قُدَامة: لا نعلم في هذه التفرقة التي ذكرناها خلافًا انتهى
(1)
.
وقوله (الْعُشْرُ) مبتدأ مؤخّر، خبره الجارّ والمجرور قبله، أي العشر واجب فيما سقته السماء، والعيون، أو كان بَعْلاً، والمراد ما لا يحتاج في سقيه إلى مؤونة، أو فاعل لفعل محذوف، أي يجب العشر فيما ذُكر (وَمَا سُقِيَ) بالبناء للمجهول، وهو مجرور عطفًا على قوله:"ما سقت السماء"(بِالسَّوَانِي) جمع سانية، وهي بعير، يُستَقَى عليه من البئر، ومثله في الحكم البقر، ونحوها، فإن المراد به ما يحتاج في سقيه إلى مؤونة (وَالنَّضْحِ) -بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة، بعدها حاء مهملة- هو السقي بالرشا، والغَرْب، والدالية. وفي نسخة:"أو النواضح" بـ "أو" وصيغةِ الجمع، فـ"أو" للشكّ من الرواي، و"النواضح": جمع ناضح، يقال: نَضَحَ البعيرُ الماء: حَمَلَه من نهر، أو بئر، لسقي الزرع، فهو ناضح، والأنثى ناضحة بالهاء، سُمّي ناضحًا؛ لأنه يَنضَحُ العطش: أي يبُلُّه بالماء الذي يَحمله. هذا أصله، ثم استُعمل الناضح في كلّ بعير، وإن لم يحمل الماء. وفي الحديث:"أطعمه ناضحك": أي بعيرك. أفاده في "المصباح" وقوله: ("نِصْفُ الْعُشْرِ") بالرفع عطفًا على قوله: "العشرُ" ففيه عطف المعمولين على معمولي عاملين مختلفين، وفيه خلاف بين النحاة. ويحتمل أن يكون مبتدأ مؤخرًا، خبره قوله:"وما سُقِي" بتقدير حرف جرّ لدلالة ما قبله عليه، أي فيما سُقِي بالسواني نصفُ العشر، فيه دليلٌ على التفرقة بين ما سُقي بالسواني، ونحوها، وبين ما سقته السماء، ونحوها، وقد أجمع العلماء على ذلك.
قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إنما كان وجوب الصدقة مختلف المقادير في النوعين؛ لأنّ ما عمّت منفعته، وخفّت مُؤْنته كان أحمل للمواساة، فأُوجِب فيه العشرُ، توسعةً على الفقراء، وجُعل فيما كثُرت مؤونته نصف العشر؛ رِفْقًا بأرباب الأموال انتهى.
وقال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: ما حاصله: كلّ ما سُقي بكُلْفة ومُؤنة، من دالية، أو سانية، أو دُولاب، أو ناعورة
(2)
، أو غير ذلك، ففيه نصف العشر، وما سُقي بغير مُؤْنة ففيه العشر، لا نعلم في هذا خلافًا، وهو قول مالك، والثوريّ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، وغيرهم؛ لما روينا من الخبر، ولأن للكُلْفة تأثيرًا في إسقاط الزكاة جُملةٌ؛ بدليل المعلوفة، فبأن يؤثّر في تخفيفها أولى؛ ولأن الزكاة إنما تجب في المال النامي، وللكلفة تأثيرٌ في تقليل النماء، فأثّرت في تقليل الواجب فيها، ولا يؤثّر حفر الأنهار، والسواقي في نقصان الزكاة؛ لأن المؤنة تقلّ؛ لأنها تكون من جملة إحياء الاْرض، ولا تتكرّر كلّ عام، وكذلك لا يؤثّر احتياجها إلى ساق يَسقيها، وُيحوّل الماء
(1)
- "فتح" ج 4 ص 114 - 115.
(2)
- هي المنجنون التي يُديرها الماء، والجمع نواعير. سمّيت بذلك لنعيرها، أي تصويتها. أفاده في "المصباح".
في نواحيها؛ لأن ذلك لا بدّ منه في كلّ سقي بكلفة، فهو زيادة على المؤنة في التنقيص، فجرى مجرى حرث الأرض، وتحسينها، وإن كان الماء يجري من النهر في ساقية إلى الأرض، ويستقرّ في مكان قريب من وجهها، لا يَصْعَدُ إلا بغَرْف، أو دُولاب، فهو من الكلفة المسقطة لنصف الزكاة، على ما مرّ؛ لأن مقدار الكلفة، وقُرب الماء، وبعده لا يُعتبر، والضابط لذلك هو أن يَحتاج في ترقية الماء إلى الأرض بآلة، من غَرْفٍ، أو نَضْحٍ، أو دالية، وقد وُجد انتهى كلام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
وهو بحث نفيس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما ما أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-25/ 2488 - وفي "الكبرى" 26/ 2267. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1483 (د) في "الزكاة" 1596 (ت) في "الزكاة" 640 (ق) في "الزكاة" 1817. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: ذكر الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ - رحمه اللَّه تعالى - في "تحفته" بعد عزوه الحديث إلى المصنّف: ما نصّه: قال النسائيّ: رواه نافع عن ابن عمر قولَهُ. واختَلَف سالم، ونافعٌ عن ابن عُمر في ثلاثة أحاديث، هذا أحدها. والثاني:"من باع عبدًا، وله مالٌ". قال سالمٌ، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال نافع، عن ابن عمر، عن عمر قولَه. وقال سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"تخَرُج نارٌ من قِبَل اليمن"، وقال نافع، عن ابن عمر، عن كعب قَوْلَه. وسالم أجلّ من نافع، وأحاديث نافع الثلاثة أولى بالصواب انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الكلام الذي عزاه الحافظ المزّيّ إلى المصنّف لم أره، لا في "المجتبى"، ولا في "الكبرى"، ولعلّه لاختلاف النسخ، واللَّه تعالى أعلم.
وقد عزا هذا الكلام إلى المصنّف أيضًا الحافظُ ابن رجب -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح علل الترمذيّ": ونصّه:
ورجّح النسائيّ، والدارقطنيّ قول نافع في وقف ثلاثة أحاديث: "فيما سقت السماء
(1)
- "المغني" ج 5 ص 165 - 166.
(2)
- "تحفة الأشراف" ج 5 ص 402 - 403.
العشر"، وحديث: "من باع عبدًا، له مالٌ"
(1)
، وحديث تخرج نار من قبل اليمن
(2)
. وحكى الأثرم عن غير أحمد أنه رجّح قول نافع في هذه الأحاديث، وفي حديث:"الناس كإبل مائة"
(3)
أيضًا. وذكر ابن عبد البرّ أن الناس رجّحوا قول سالم في رفعها. قال: وسُئل أحمد إذا اختلفا -أي سالمٌ ونافع- فلأيّهما تقضي؟ فقال: كلاهما ثبتٌ، ولم يُرد أن يقضي لأحدهما على الآخر. نقله عنه المرُّوذيّ. ونقل عثمان الدارميّ عن ابن معين نحوه. مع أنّ المرّوذيّ نقل عن أحمد أنه مال إلى قول نافع في حديث:"من باع عبدًا، وله مالٌ"، وهو وقفه. وكذلك نقل غيره عن أحمد أنه رجّح قول نافع في وقف حديث:"فيما سقت السماء العشر". انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى بتصرّف
(4)
.
وقد نظمت في "ألفيّة العلل" ما ذُكر، فقلت:
أَشْهَرُ مَنْ رَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرِ
…
ابْنُهُ سَالِمٌ وَنَافِعٌ دُرِي
وَاخْتَلَفَا فِي عَدَدٍ مِنَ الْخَبَرْ
…
فِي الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ أَحَارَ مَنْ نَظَرْ
سُئِلَ أَحْمَدُ فَلَمْ يَقْضِ بِشَيْ
…
كَذَاكَ عَنْ يَحْيَى أَتَاكَ يَا أُخَيْ
وَمَالَ أَحْمَدُ لِوَقْفِ نَافِعِ
…
"فِيمَا سَقَتْ""مَنْ بَاعَ عَبْدًا" فَاسْمَعِ
وَالنَّسِئِي وَالدَّارَقُطنِي رَجَّحَا
…
وَقْفَهُ فِي ثَلَاثةٍ وَأَفْصَحَا
(1)
- أخرجه الشيخان، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وأحمد، وغيرهم، بألفاظ متقاربة. ولفظ الترمذيّ 3/ 538 - من رواية نافع، عن ابن عمر، أنه قال:"من باع عبدًا، وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع". قال الترمذيّ: هكذا رواه عُبيد اللَّه بن عمر، وغيره، عن نافع. وقد روى بعضهم عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أيضًا. وأخرجه الترمذيّ ج 3 ص 537 أيضًا من طريق الزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من باع نخلاً بعد أن تؤبّر، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، ومن باع عبدًا، وله مال، فماله للذي باعه، إلا أن يشترط المبتاع". وأخرجه مسلم 3/ 1173 من طريق الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع نخلاً
…
وكذلك أخرجه أحمد 2/ 9 والنسائيّ 7/ 261 والدارميّ 2/ 169.
(2)
- أخرجه الترمذيّ 3/ 498 - من طريق أبي قلابة، عن سالم، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تخرُجُ نارٌ من حضرموت"، أو "من نحو حضرموت قبل يوم القيامة، تحشر الناس". انتهى. وأخرجه مسلم 4/ 2225. وأحمد 4/ 6. وأبو داود 2/ 429.
(3)
- أخرجه الشيخان، والترمذيّ، ما وأحمد، ولفظ البخاريّ في "كتاب الرقاق":"إنما الناس، كالإبل المائة، لا تجد فيها راحلة". ولفظ أحمد: "إنما الناس كإبل مائة، لا تكاد ترى فيها راحلة، أو متى ترى فيها راحلة".
(4)
- شرح علل الترمذيّ ج 2 ص 259 - 260 تحقيق صبحي السامرّائيّ.
"فِيمَا سَقَتْ""مَنْ بَاعَ" ثُمَّ "تَخْرُجُ"
…
مِنْ نَحْوِ حَضْرَمَوْتَ نَاْرٌ تُزْعِجُ
وَبَعْضُهُمْ زَادَ حَدِيثَ "النَّاسُ"
…
كَالإِبِلِ الْمِائَةِ بِئْسَ الْقَاسُ
(1)
وَبَعْضُهُمْ رَجَّحَ قَوْلَ سَالِمِ
…
فِي رَفْعِهَا فَاحْفَظْهُ حِفْظَ فَاهِمِ
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما يوجب عشر ما خرج من الأرض، وهو كونه مما سقته السماء، والأنهار، والعيون، أو كان بَعْلاً، وهو ما يشرب بعروقه من الأرض، وما يوجب نصف العشر، وهو كونه مما سُقي بكُلْفة، كالسواني.
(ومنها): وجوب زكاة الخارج من الأرض (ومنها): رأفة اللَّه تعالى بعباده، حيث خفّف عنهم في محلّ الكلفة، فأوجب عليهم النصف.
(ومنها): أن فيه بيان الحكمة البالغة في الشريعة السمحة، حيث راعت حقوق جميع المسلمين، أغنيائِهم، وفقرائِهم، فأوجبت على الأغنياء القليل من الكثير مما يمتلكونه، لئلا يتضرّروا، وأوجبت للفقراء، في أموال الأغنياء ما يواسونهم به، لئلا تنكسر قلوبهم، ويحملوا على الأغنياء، حقدًا، وحسدًا، فبهذا تجتمع قلوب الجميع، وتتآلف، ولا يحصل بينهم تحاسدٌ، ولا تباغضٌ، ولا تدابرٌ، ولا تقاطع، بل يكونون إخوانًا متحابيّن، فيتحقق فيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"مثلُ المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهَر والحمّى". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): دلّت أحاديث الباب على وجوب الزكاة في الزروع والثمار. قال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: والأصل في ذلك الكتاب، والسنّة، والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 267] والزكاة تُسمّى نفقةً، بدليل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [التوبة: 34]. وقال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: حقّه الزكاة المفروضة. وقال مرّةً: العشر، ونصف العشر. ثم ذكر ابن قدامة الأحاديث التي أوردها المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في هذا الباب، ثم قال: وأجمع أهل العلم على أن الصدقة واجبة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب. قاله ابن المنذر، وابن عبد البرّ انتهى كلام ابن قُدامة
(1)
- القاس: القدر، أي بئس هذا المثال.
-رحمه اللَّه تعالى-
(1)
وهو بحث نفيس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط النصاب لوجوب زكاة الزروع والثمار:
ذهب الجمهور إلى أنه لا تجب الزكاة في شيء من الزروع والثمار حتى تبلغ خمسة أوسق. وممن قال به عبد اللَّه بن عمر، وجابرٌ، وأبو أمامة بن سهل، وعمر بن عبد العزيز، وجابر بن زيد، والحسن، وعطاء، ومكحول، والحكم، والنخعيّ، ومالك، وأهل المدينة، والثوريّ، والأوزاعيّ، وابن أبي ليلى، والشافعيّ، وأبو يوسف، ومحمد، وجمهور أهل العلم
(2)
.
وذهب وأبو حنيفة إلى أنه لا يُشترط النصاب لوجوب الزكاة فيما يَخرُج من الأرض، فيجب عنده العشر، أو نصف العشر في كثير الخارج، وقليله، وهو مرويّ عن إبراهيم النخعيّ، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز
(3)
، أخرج ذلك عنهم عبد الرزاق، وابن أبي شيبة في "مصنفيهما"؛ لعموم قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 267]، وقوله: صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر"، قالوا: إن الآية، والحديث عامان، فإن "ما" من ألفاظ العموم، فتشمل ما كان خمسة أوسق، أو أقلّ، أو أكثر، ولأنه لا يُعتبر له حولٌ، فلا يُعتبر له نصابٌ.
واحتجّ الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة". متفقٌ عليه. قالوا: هذا خاصّ يجب تقديمه على العامّ، فيخصص به عموم ما أوردوه، كما خصصنا بلا خلاف قولَه صلى الله عليه وسلم:"في سائمة الإبل الزكاة" بقوله: "ليس فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقة"، وقولَه صلى الله عليه وسلم:"في الرقة ربع العشر" بقوله: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة".
ولأنه مالٌ تجب فيه الصدقة، فلم تجب في يسيره، كسائر الأموال الزكوية، وإنما لم يُعتبر فيه الحول؛ لأنه يكمل نماؤه باستحصاده لا ببقائه، واعتُبر الحول في غيره؛ لأنه مظنّة لكمال النماء في سائر الأموال، والنصابُ اعتُبر ليبلغ حدًّا يحتمل المواساة منه، فلهذا اعتبر فيه. قاله ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-
(4)
.
وقال الإمام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- في "إعلام الموقّعين" جـ1 ص 283: لا تعارض بين الحديثين بوجه من الوجوه، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"فيما سقت السماء العشر" إنما
(1)
- "المغني" ج 5 ص 154.
(2)
- ذكر ذلك ابن قدامة في "مغنيه" ج 5 ص 161 - 162.
(3)
- تقدم عن إبراهيم، وعمر بن عبد العزيز مثل قول الجمهور أيضًا.
(4)
- "المغني" ج 5 ص 161 - 162.
أُريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر، وبين ما يجب فيه نصفه، فذَكَرَ النوعين مُفرِّقًا بينهما في مقدار الواجب، وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث، وبيّنه نصًّا في الحديث الآخر، فكيف يجوز العدول عن النّصّ الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير ما دلّ عليه البتّة إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يُتعلّق فيه بعمومٍ لم يُقصد، وبيانه بالخاصّ المحكم المبيّن، كبيان سائر العمومات بما يخصّصها من النصوص انتهى.
قال صاحب "المرعاة": ذهب جمهور الأصوليين، وعامّتهم إلى جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد الصحيح، وهو الحقّ، واحتجّ لذلك في "المحصول" بأن العموم، وخبر الواحد دليلان متعارضان، وخبر الواحد أخصّ من العموم، فوجب تقديمه على العموم.
قال الشوكانيّ: وأيضًا يدلّ على جواز التخصيص دلالة بينة واضحة ما وقع من أوامر اللَّه عز وجل باتباع نبيّه صلى الله عليه وسلم من غير تقييد، فإذا جاء عنه الدليل كان اتباعه واجبًا، وإذا عارضه عموم قرآنيّ كان سلوك طريقة الجمع ببناء العامّ على الخاصّ متحتّمًا، ودلالة العامّ على أفراده ظنيّةٌ، لا قطعيّة، فلا وجه لمنع تخصيصه بالأخبار الصحيحة الآحادية انتهى.
ثم قال ابن القيّم: ويا للَّه العجب، كيف يخصّون عموم القرآن والسنّة بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون مختلفًا في الاحتجاج به، وهو محلّ اشتباه، واضطرابٍ، إذ ما من قياس، إلا وتمكن معارضته بقياس مثله، أو دونه، أو أقوى منه، بخلاف السنّة الصحيحة الصريحة، فإنها لا يُعارضها إلا سنّةٌ ناسخةٌ معلومة التأخّر والمخالفة.
ثم يقال: إذا خصّصتم عموم قوله: "فيما سقت السماء العشر" بالقصب والحشيش، ولا ذكر لهما في النصّ، فهلاّ خصصتموه بقوله:"لا زكاة في حبّ، ولا ثمر حتى يبلغ خمسة أوسق"، وإذا كنتم تخصّون العموم بالقياس، فهلاّ خصّصتم هذا العامّ بالقياس الجليّ الذي هو من أجلى القياس، وأصحّه على سائر أنواع المال الذي تجب فيه الزكاة، فإن الزكاة الخاصّة لم يشرعها اللَّه عز وجل، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم في مال إلا وجعل له نصابًا، كالمواشي، والذهب، والفضّة. ويقال: أيضًا: هلاّ أوجبتم الزكاة في قليل مال، وكثيره؛ عملاً بقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية [التوبة: 103]، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب إبل، ولا بقرٍ، لا يؤدّي زكاتها، إلا بُطح له بقاعٍ قَرْقَرٍ
…
"، وبقوله: "ما من صاحب ذهب، ولا فضّة، لا يؤدّي زكاتها إلا صُفّحتَ له يوم القيامة صفائح من نار
…
"، وهلاّ كان هذا العموم عندكم مقدّمًا على أحاديث النصب
الخاصّة، وهلاّ قلتم هناك تعارض مسقطٌ، وموجبٌ، فقدّمنا الموجب احتياطًا، وهذا في غاية الوضوح انتهى.
وقد اتضح بهذا كلّه كلّ الاتضاح أنه يجب تخصيص عموم قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الآية، وحديث ابن عمر المذكور في الباب بحديث الأوساق الذي تقدّم في الأبواب السابقة، كما خُصّص قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} بالأخبار التي دلّت على كون الزكاة منحصرة في أشياء مخصوصة، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بأحاديث النُّصُب الخاصّة، وقوله صلى الله عليه وسلم:"في سائمة الإبل الزكاة" بقوله: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة"، وقوله:"في الرّقَة ربع العشر" بقوله: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة".
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن ما ذهب إليه الجمهور من اشتراط النصاب، في زكاة الزروع والثمار، وهو خمسة أوسق، هو الحقّ؛ لوضوح أدلّته، كما تقدّم بيانها.
وقد بالغ صاحب "المرعاة" في تتبّع متمسّكات الحنفيّة في عدم وجوب النصاب، والإجابة عليها بما لا تجده مجموعًا في كتاب غيره، فراجعه في جـ6 ص 68 - 75 تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): قال الإمام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: ما حاصله: لا نعلم خلافًا أن العشر يجب فيما سُقي بغير مؤنة، ونصف العشر فيما سُقي بالْمُؤنة.
هذا إذا كان السقي المذكور بنوعيه كلّ السّنة، وأما إذا سُقي نصف السنة بكُلفة، ونصفها بغير كلفة، ففيه ثلاثة أرباع العشر.
وهذا قول مالك، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفًا؛ لأن كلّ واحد منهما لو وجد في جميع السنة لأوجب مقتضاه، فإذا وُجد في نصفها أوجب نصفه، وإن سُقي بأحدهما أكثر من الآخر اعتُبر أكثرهما، فوجب مقتضاه، وسقط حكم الآخر، أي كان حكم الأقلّ تبعًا للأكثر، نصّ عليه أحمد، وهو قول عطاء، والثوريّ، وأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعيّ. وقال ابن حامد: يؤخذ بالقِسْط، وهو القول الثاني للشافعيّ؛ لأنهما لو كانا نصفين أُخذا بالحصّة، فكذلك إذا كان أحدهما أكثر، كما لو كانت الثمرة نوعين.
ووجه الأول أن اعتبار مقدار السقي، وعدد مراته، وقدر ما يُشرَب في كلّ سَقْيَة يَشُقّ، وَيَتَعَذّر، فكان الحكم للأغلب منهما كالسوم في الماشية.
وإن جُهل المقدار غلّبنا إيجاب العشر احتياطًا، نصّ عليه أحمد، في رواية ابنه
عبد اللَّه؛ لأن الأصل وجوب العشر، وإنما يَسقط بوجود الكُلْفة، فما لم يتحقّق المسقط يَبقى على الأصل؛ ولأن الأصل عدم الكلفة في الأكثر، فلا يثبت وجودها مع الشكّ فيه، وإن اختلف الساعي، وربّ المال في أيهما سُقي به أكثر، فالقول قول ربّ المال بغير يمين، فإن الناس لا يُستحلفون على صدقاتهم انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي حقّقه ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم فيما تجب فيه الزكاة من الثمار والحبوب: قال أبو إسحاق الشيرازيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المهذّب": تجب الزكاة في كلّ ما تُخرجه الأرض، مما يُقتات، ويُدَّخَر، ويُنبته الآدميّون، كالحنطة، والشعير، والدُّخْن، والذُّرَة، والْجَاوَرْس، والأرز، وما أشبه ذلك.
(2)
.
وقال ابن قدامة في "المغني": وقال مالك، والشافعيّ: لا زكاة في ثمر إلا التمر، والزبيب، ولا في حبّ، إلا ما كان قوتًا في حال الاختيار، إلا في الزيتون على اختلاف
(3)
.
وذهب أبو حنيفة أنها تجب في كلّ ما يُقصد بزراعته نماء الأرض، إلا الحطب، والقصب الفارسيّ، والحشيش، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وأبي بردة بن أبي موسى، وحمّاد، وإبراهيم. واحتجّوا بعموم قوله تعالى:{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 267]، وبعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"فيما سقت السماء العشر".
وتُعُقّب بأن عموم ما ذُكر يُخصّ بحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه المتقدّم: "ليس في حبّ، وتمر صدقة
…
"، فيقيّد عموم "ما أخرجنا لكم"، و"ما سقت السماء" بالحبوب التي يَقتات بها الآدميون على ما فسّره به أهل اللغة كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.
وإلى قول أبي حنيفة، ومن معه ذهب داود الظاهريّ، إلا أنه قال: إن كلّ ما يدخل فيه الكيل يُراعى فيه النصاب، وما لا يدخل، ففي قليله وكثيره الزكاة. قال الحافظ: وهذا نوع من الجمع بين الحديثين.
وذهب أحمد إلى أنها تجب فيما جمع الكيل، والبقاء، واليبس، من الحبوب، والثمار، مما يُنبته الآدميّون، إذا نبت في أرضه، سواء كان قوتًا، كالحنطة، والشعير،
(1)
- المغني ج 5 ص 166 - 167.
(2)
- "المهذب" ج 5 ص 468 بشرح "المجموع".
(3)
- "المغني" ج 4 ص 156.
والسُّلْت، والأرز، والذّرة، والدُّخْن، أو من الْقِطْنيّات
(1)
، كالباقلّا، والعَدَس، والماش، ونحوها، أو البزور، كبِزْر الكتّان، والقثّاء، والخيار، ونحوها، أو حبّ البقول، كالفُجْل، والسمسم، وسائر الحبوب.
وحكي عنه لا زكاة إلا في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، وهو قول موسى بن طلحة، والحسن البصريّ، وابن سيرين، والشعبيّ، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، وابن المبارك، وأبي عُبيد، ورجحه الصنعانيّ، والشوكانيّ.
واستُدلّ لهذا القول بأن ما عدا هذه لا نصّ فيها، ولا إجماع، ولا هو في معناها في غلبة الاقتيات بها، وكثرة نفعها، ووجودها، فلم يصحّ قياسه عليها، ولا إلحاقه بها، فيبقى على النفي الأصليّ.
وأما عموم الآية، والحديث فهو مخصوص بأحاديث الخضروات، وبالأحاديث الواردة بصيغة الحصر في الأقوات الأربعة. قالوا: وهي مرويّةٌ بطرق متعدّدة يقوّي بعضها بعضًا، فتنتهض لتخصيص هذه العمومات.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وتعقّب بأن أحاديث الخضروات، وأحاديث الحصر في الأربعة، لا تصحّ أصلاً، ولا تتقوّى، فلا تُعارض عموم الآية، والحديث المذكور، فقد احتجّوا بأحاديث كثيرة على الحصر في الأشياء الأربعة، ولكنّها كلّها لا تثبت:
(فمنها): ما روى الدارقطنيّ (ص 201) والحاكم (جـ 1 ص 401) والبيهقيّ 4/ 125 والطبرانيّ من طريق طلحة بن يحيى، عن أبي بردة، عن أبي موسى، ومعاذ بن جبل أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن، فأمرهما أن يُعَلِّمَا الناس أمر دينهم، وقال:"لا تأخذوا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر". قال الحاكم: إسناد صحيح، ووافقه الذهبيّ. وقال البيهقيّ: رجاله رجال الصحيح. ونقل الحافظ في "التلخيص" 2/ 322 - عن البيهقيّ، أنه قال: رواته ثقات، وهو متّصل. وقال في "الدراية" ص 164: في الإسناد طلحة بن يحيى مختلف فيه، وهو أمثل ما في الباب انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تصحيح الحاكم، وموافقة الذهبيّ له، غير صحيح، لأن الحديث فيه ثلاث علل:
(أحدها): عنعنة سفيان الثوريّ، فإنه معروف بالتدليس، وهذه العلّة بمفردها تكفي
(1)
-بالكسر، حكاه ابن قتيبة بالتخفيف، وأبو حنيفة بالتشديد: الحبوب التي تدّخر. وذكره في "اللسان" بضم القاف ضبط قلم، وقال: ما كان سوى الحنطة، والشعير، والزبيب، والتمر. أو هو اسم جامع للحبوب التي تُطبخ. أفاده في هامش "المغني" ج 4 ص 155.
في ردّ مثل هذا الحديث الذي ذكروه لمعارضة عموم الأدلّة الصحيحة.
(ثانيها): أن طلحة بن يحيى مختلف فيه، فهو وإن وثّقه جماعة، فقد تكلّم فيه آخرون، قال يحيى القطّان: لم يكن بالقويّ. وقال البخاريّ: منكر الحديث. وقال يعقوب بن شيبة: لا بأس به، في حديثه لين. وقال ابن حبّان: كان يخطىء. وقال الساجيّ: صدوق لم يكن بالقويّ
(1)
فتفرُّد مثله بمثل هذا الحديث الذي يعارض الأحاديث الصحيحة محلّ نظر.
(ثالثها): أنه اختُلف في رفعه، ووقفه، فقد رواه البيهقيّ، كما سبق، ورواه (4/ 125) من طريق الثوريّ أيضًا، عن طلحة بن يحيى، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعريّ، ومعاذ رضي الله عنهما أنهما حين بُعثا إلى اليمن لم يأخذا إلا من الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب. قال الإمام ابن دقيق العيد في "الإمام": وهذا غير صريح في الرفع انتهى
(2)
. والحاصل أن هذا الحديث لا يصحّ، فلا تُعارَض به الأدلّة السابقة.
(ومنها): ما روى ابن أبي شيبة، وأبو عُبيد في "الأموال"(ص 468) ويحيى بن آدم في "الخراج"(ص 148) عن موسى بن طلحة، أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معاذًا حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ الصدقة من الحنطة، والشعير، والنخل، والعنب". وهذا منقطع؛ لأنّ موسى بن طلحة لم يُدرك معاذًا، كما قاله ابن حزم (5/ 222) وقال الحافظ في "التلخيص": فيه انقطاع. وقال أبو زرعة: موسى بن طلحة بن عُبيد اللَّه، عن عمر مرسلة، ومعاذٌ توفّي في خلافة عمر، فرواية موسى بن طلحة عنه أولى بالإرسال. وقال تقيّ الدين في "الإمام": وفي الاتصال بين موسى بن طلحة ومعاذ نظر، فقد ذكروا أن وفاة موسى سنة ثلاث ومائة، وقيل: سنة أربع ومائة. ذكره الزيلعيّ (2/ 387). وقال ابن عبد البرّ: لم يلق موسى معاذًا، ولا أدركه انتهى.
والمشهور في ذلك ما رُوي عن عمرو بن عثمان، عن موسى بن طلحة، قال: عندنا كتاب معاذ بن جبل، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه إنما أخذ الصدقة من الحنطة، والشعير، والزبيب، والتمر. أخرجه أحمد (5/ 228) والدارقطنيّ (2/ 96) والبيهقيّ (4/ 129) وابن حزم في "المحلّى"(5/ 222) وأبو يوسف في "الخراج"(ص 64).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وهذا وجادة والوجادة عند المحدّثين منقطعة، فلذا تعقّب صاحب "التنقيح" تصحيح الحاكم، والذهبيّ للحديث بالانقطاع، وقد أصاب في هذا التعقّب.
(1)
- راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 2 ص 244 - 245.
(2)
- نصب الراية ج 2 ص 389.
فاعتراض الشيخ الألباني على صاحب "التنقيح" وتعقّبه، بأن الوجادة حجة على الراجح فيه نظر؛ لأنها وإن كانت حجة للعمل بها إذا صحّت النسخة، لكن الرواية بها منقطعة، كما حرره علماء أصول الحديث، ودونك ما قاله صاحب "التقريب" مع شرحه "التدريب" جـ 2 ص 63: وهي -يعني الوجادة- أن يَقِف على أحاديث بخطّ راويها غير المعاصر له، أو المعاصر، ولم يسمع منه، أو سمع منه ولكن لا يروي تلك الأحاديث
الخاصّة عنه بسماع، ولا إجازة، فله أن يقول: وجدت بخط فلان، أو في كتابه .... إلى أن قال: وهو من باب المنقطع. فقد صرّح بأن الوجادة منقطعة.
والحاصل أن تقوية الحديث بهذه الوجادة حتى يكون متّصلاً غير صحيح. واللَّه تعالى أعلم.
(ومنها): ما روى الدارقطنيّ (2/ 97) والحاكم (1/ 401) والبيهقيّ (4/ 129) والطبرانيّّ من طريق إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عمّه موسى بن طلحة، عن معاذ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"فيما سقت السماء، والْبَعْل، والسيل العشرُ، وفيما سُقي بالنضح نصفُ العشر، وإنما يكون ذلك في التمر، والحنطة، والحبوب، فأما القثّاء، والبطّيخ، والرمّان، والقصب، فقد عفا عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، لم يُخرجاه، ووافقه الذهبيّ.
قلت: هذا التصحيح منهما غير صحيح، فإن إسحاق بن يحيى متروك، تركه أحمد، والنسائيّ، وقال ابن معين: لا يُكتب حديثه،. وقال البخاريّ: يتكلّمون في حفظه.
وقال يحيى بن سعيد القطّان: شبه لا شيء. وقال أبو زرعة: واهي الحديث
(1)
. وفيه أيضًا الانقطاع المذكور بين موسى ومعاذ بن جبل.
(ومنها): ما روى الدارقطنيّ (2/ 96) وأبو يوسف في "الخراج"(ص 65) من طريق محمد بن عبيد اللَّه العرزميّ، عن الحكم، عن موسى بن طلحة، عن عمر بن الخطّاب، قال: إنما سنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الزكاة في الأربعة: الحنطة، والشعير، والزبيب، والتمر. وفيه أن العرزميّ متروك أيضًا، وفيه أيضًا الانقطاع المتقدّم.
(ومنها): ما روى ابن ماجه رقم (1815) من طريق العزرميّ، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: إنما سنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الخمسة: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والذرة". والعرزميّ هو محمد بن عبيد اللَّه المتروك المتقدّم.
(1)
- انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 1 ص 129 - 130.
ورواه يحيى بن آدم في "الخراج"(ص 150) من طريق يحيى بن أبي أُنسية، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، مرفوعًا، بلفظ:"أربع ليس فيما سواها شيء: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب". وفيه يحيى بن أبي أُنيسة، قال أحمد، والنسائيّ، والدارقطنيّ: متروك الحديث. وقال عمرو الفلاّس: صدوق كان يَهِم في الحديث، وقد اجتمع أصحاب الحديث على تركه إلا من لا يعلم. وقال أخوه زيد بن أبي أُنيسة: إنه كذّاب
(1)
.
(ومنها): ما روى الدارقطنيّ (2/ 100) من حديث جابر رضي الله عنه قال: لم تكن المقاثي
(2)
فيما جاء به معاذ، إنما أخذ الصدقة من البرّ، والشعير، والتمر، والزبيب، وليس في المقاثي شيء. وفي سنده عديّ بن الفضل متروك الحديث.
(ومنها): ما روى يحيى بن آدم في "الخراج" عن أبي حمّاد الحنفيّ، عن أبان، عن أنس، قال: لم يَفرِض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصدقة إلا من الحنطة، والشعير، والتمر، والأعناب. وفيه أبو حماد، مفضّل بن صدقة الحنفيّ الكوفيّ، قال ابن معين: ليس بشيء. وقال النسائيّ: متروك.
(ومنها): ما روى يحيى بن آدم في "الخراج" أيضًا، والبيهقيّ من طريقه (4/ 129) عن عتاب ابن بشير، عن خُصيف، عن مجاهد، قال:"لم تكن الصدقة في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا في خمسة أشياء: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والذرة". وهذا مرسل، وفيه خُصيف، صدوق سيء الحفظ، خلط بآخره، أنكروا عليه أحاديث رواها عنه عتّاب بن بشير. وعتاب أيضًا متكلّم فيه.
(ومنها): ما روى يحيى بن آدم أيضًا (ص 149) والبيهقيّ من طريقه (4/ 129) عن ابن عُيينة، عن عمرو بن عُبيد، عن الحسن البصريّ، قال:"لم يَفرِض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصدقة، إلا في عشرة أشياء: الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضّة، والحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب،". قال ابن عُيينة: أُراه قال: "والذُّرَة". وذكر في رواية للبيهقيّ: "السُّلْت" مكان "الذرة".
وهذا أيضًا مرسل. وقال أحمد: ليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن، وعطاء بن أبي رباح.
وفيه عمرو بن عُبيد قدريّ داعية، متروك الحديث، وكان يَكذِب على الحسن في الحديث.
(1)
- انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 4 ص 341 - 342.
(2)
- "المقاثي" جمع مقثأة، وهي موضع القثّاء.
(ومنها): ما رواه يحيى بن آدم أيضًا (ص 149) والبيهقيّ من طريقه (4/ 129) عن أبي بكر بن عيّاش، عن الأجلح، عن الشعبيّ، قال:"كتب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن، إنما الصدقة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب". وهذا أيضا مرسل، وأبو بكر بن عيّاش ثقة إلا أنه لَمّا كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح. والأجلح متكلّم فيه.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن أحاديث حصر وجوب الصدقة في الأربعة المذكورة كلها ضعافٌ جدًّا، لا تصلح لمعارضة الأحاديث الصحيحة المتقدّمة، وأَمثَلُها حديث يحيى بن طلحة المتقدّم، وقد عرفت ما فيه من العلل، وتصحيح الحاكم لها من تساهلاته، وأما غيره كالذهبيّ، وغيره فقد تابعوه في تساهله.
فالأرجح عندي قول من قال بوجوب الزكاة في كلّ ما أخرجت الأرض من الحبوب الذي يَقتات به الآدميّون، وهذا معنى الحبّ المذكور في الحديث الصحيح:"ليس في حبّ، ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق"، على ما قاله أهل اللغة، وهو المخصّص لعموم آية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 267]، ولعموم حديث: "فيما سقت السماء العشر
…
" الحديث.
وأما ما قاله ابن حزم في "المحلّى" جـ 5 ص 220 - 221 من أن الحبّ المذكور في الحديث هو الحنطة والشعير، ولا يطلق في لغة العرب على غيرهما، ونقل ذلك عن بعض أهل اللغة، ففيه تقصير، ومن غريب ما اتفق له في ذلك أن بعض ما نقله يردّ عليه، فإنه قد نقل عن أبي حنيفة الدِّينوريّ، عن الكسائيّ، قال: واحد الْحِبّة حَبّة -بفتح الحاء، فأما الْحَبّ، فليس إلا الحنطة والشعير، واحدها حَبّة -بفتح الحاء-، وإنما افترقتا في الجمع، ثم ذكر أبو حنيفة بعد هذا الفصل إثر كلام ذكره لأبي نصر، صاحب الأصمعيّ كلاما نصّه: وكذلك غيره من الحبوب، كالأرز، والدخن.
قال ابن حزم: فهذه ثلاثة جموع: الحبّ للحنطة، والشعير خاصّة، والحبّة -بكسر الحاء، وزيادة الهاء في آخرها- لكلّ ما عداهما من البزور خاصّة، والحبوب للحنطة، والشعير، وسائر البزور. انتهى كلامه.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كلام أبي حنيفة المذكور يدلّ على أن الحبّ يطلق على جميع الحبوب، لأن الحبوب جمع للْحَبّ، فتفطّن.
ودونك ما قاله أهل اللغة في هذا الباب:
قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المصباح المنير": والْحبّ -أي بالفتح-: اسمُ جنس للحنطة، وغيرها، مما يكون في السُّنْبُل، والأَكْمَام، والجمع حُبوب، مثلُ فَلْس وفُلُوس، الواحدة حَبَّةٌ، وتجمع على حبّات على لفظها، وعلى حِبَابٍ، مثل كلبة
وكِلاب، والحِبُّ -بالكسر-: ما لا يُقتات، مثل بُزُور الرياحين، الواحدة حِبّةٌ انتهى
(1)
.
وقال ابن منظور -رحمه اللَّه تعالى- في "لسان العرب": والْحَبُّ: الزرعُ، صغيرًا كان أو كبيرًا، واحدته حبّةٌ، والحَبُّ معروف، مستعملٌ في أشياء جَمَّةٍ: حَبّةٌ من بُرّ، وحَبّةٌ من شعيرٍ، حتى يقولوا: حَبّةٌ من عِنَب. قال: وقال الجوهريّ: الْحَبّةُ واحدة حَبّ الحنطة، ونحوها، من الحبوب، والْحِبّةُ: بَزْرُ كلّ نبات، ينبت وحده من غير أن يُبْذَر، وكلُّ ما بُذِرَ، فبَزرُهُ حَبَّةٌ بالفتح. قال: وقال الأزهريّ: ويقال لِحَبَ الرَّيَاحين: حِبَّةٌ، وللواحدة منها حَبَّةٌ -بالفتح-، والحِبَّةُ حَبُّ الْبَقْلِ الذي يَنتثِرُ، والْحَبّةُ: حَبَّةُ الطعَام، حَبَّةٌ من بُرّ، وشَعيرِ، وعَدَسٍ، وأَرُزٍّ، وكلُّ ما يأكله الناس. انتهى المقصود من كلام ابن منظور
(2)
.
فظهر بهذا ردّ ما ادعاه ابن حزم من أن الحبّ مقصور في لغة العرب على الحنطة، والشعير، فلا تجب الزكاة فيما عدا البرّ، والشعير، والتمر عنده، متمسّكًا بما ذكره.
فالحقّ أن الحبّ كلّ ما يقتات به الناس، من البرّ، والشعير، والتمر، والزبيب، والدُّخْن، والأرز، وغيرها من الحبوب. فثبت بالنّصّ وجوب الزكاة في جميع أنواع الحبوب التي يقتات به الآدميّون، وما عدا ذلك، فالأصل عدم وجوب الزكاة فيه، لعدم وجود نصّ صحيح في ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في اجتماع العشر والخراج في أرض واحدة:
ذهب جمهور العلماء إلى أنه يجب العشر، أو نصفه إذا بلغ الخارج النصاب، سواء زرعه في أرض له، أو في أرض غيره، عشريّة كانت، أو خراجيّة، سقي بماء العشر، أو بماء الخراج. قال ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: هو قول أكثر العلماء، وممن قال به عمر ابن عبد العزيز، وربيعة، والزهريّ، ويحى الأنصاريّ، ومالك، والأوزاعيّ، والثوريّ، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، والليث، وابن المبارك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وداود
(3)
.
فيجتمع عندهم العشر والخراج في أرض واحدة، ولا يمنع أحدهما وجوب الآخر.
وقال أبو حنيفة: لا عشر فيما أُصيب في أرض الخراج، فاشترط لوجوب العشر أن تكون الأرض عشريّة، فلا يجتمع عنده العشر والخراج في أرض واحدة.
(1)
- "المصباح المنير" في مادّة حبّ.
(2)
- "لسان العرب" في مادّة حبّ.
(3)
- "المجموع" ج 5 ص 479. ببعض تصرّف.
واحتجّ الجمهور بقوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر
…
" الحديث، متّفق عليه، وغيرها من عمومات الأخبار.
قال ابن الجوزيّ في "التحقيق" بعد ذكر هذا الخبر: هذا عامّ في الأرض الخراجيّة وغيرها. وقال ابن المبارك: يقول اللَّه تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} ، ثم يقول: نترك القرآن لقول أبي حنيفة.
واستدلّ الشيخ ابن دقيق العيد في الإمام" للجمهور بما روى يحيى بن آدم في "الخراج" (ص 165) والبيهقيّ من طريقه (4/ 131) عن سفيان بن سعيد، عن عمرو بن ميمون بن مِهْرَان، قال: سألت عمر بن عبد العزيز عن مسلم يكون في يده أرض خراج، فَيُسألُ الزكاة، فيقول: عليّ الخراجُ؟ قال: فقال: الخراج على الأرض، وفي الحبّ الزكاة، قال: ثمّ سألته مرّة أخرى، فقال: مثل ذلك. ورواه أبو عبيد في "الأموال" (ص 88) عن قبيصة، عن سفيان. قال الحافظ في "الدراية" (ص 268):
وصحّ عن عمر بن عبدالعزيز أنه قال لمن قال: إنما عليّ الخراجُ: الخراج على الأرض، والعشر على الحبّ. أخرجه البيهقيّ من طريق يحيى بن آدم. وأخرج أيضًا عن يحيى، ثنا ابن المبارك، عن يونس -وفي "الخراج" ليحيى (ص 166) "عن معمر" مكان "عن يونس"- قال: سألت الزهريّ عن زكاة الأرض التي عليها الجزية؟ فقال: لم يزل المسدمون على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبعده يُعاملون على الأرض، ويستكرونها، ويؤدّون الزكاة مما خرج منها، فنرى هذه الأرض على نحو ذلك انتهى. وهذا فيه إرسال.
وروى يحيى بن آدم في "الخراج"(ص 165)، وأبو عبيد في "الأموال"(ص 88) عن إبراهيم ابن أبي عَبْلَة، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد اللَّه بن أبي عوف، عاملِهِ على فلسطين، فيمن كانت في يده أرض يحرثها من المسلمين أن يقبض منها جزيتها، ثم يأخذ منها زكاة ما بقي بعد الجزية، قال ابن أبي عبلة: أنا ابتليت بذلك، ومنّي أخذوا الجزية -يعني خراج الأرض-.
واستدلّ الحنفيّة بما رواه ابن عديّ في "الكامل"، والبيهقيّ من طريقه عن يحيى بن عنبسة، ثنا أبو حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم".
وبأن أحدًا من أئمّة العدل وولاة الْجَوْر لم يأخذ من أرض السواد عشرًا إلى يومنا هذا، فالقول بوجوب العشر فيها يخالف الإجماع، فيكون باطلاً. قال صاحب "الهداية":
لم يجمع أحدٌ من أئمة العدل والجور بينهما، وكفى بإجماعهم حجة. انتهى.
وأجيب عن الحديث بأنه باطلٌ، لا أصل له. قال البيهقيّ: هذا حديثٌ باطلٌ وَصْلُه، ورَفْعُه، ويحيى بن عنبسة متّهمٌ بالوضع، وقال ابن عديّ: يحيى بن عنبسة منكر الحديث، وإنما يُروَى هذا من قول إبراهيم. وقد رواه أبو حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم قولَهُ، فجاء يحيى بن عبسة، فأبطل فيه، ووصله إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويحيى مكشوف الأمر في ضعفه؛ لروايته عن الثقات الموضوعات انتهى. وقال ابن حبّان: ليس هذا من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويحيى بن عنبسة دجّالٌ يضع الحديث، لا تحلّ الرواية عنه. وقال الدارقطنيّ: يحيى هذا دجّال يضع الحديث، وهو كذب على أبي حنيفة، ومن بعده إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وذكره ابن الجوزيّ في "الموضوعات". كذا في "نصب الراية" ج 3/ ص 442.
وأجيب عن دعوى الإجماع بأنها باطلة جدًّا. قال الحافظ في "الدراية" رادًّا على صاحب "الهداية": ولا إجماعَ مع خلاف عمر بن عبد العزيز، والزهريّ، بل لم يثبت عن غيرهما التصريح بخلافهما انتهى. وقال أبو عبيد في "الأموال" (ص 90): لا نعلم أحدًا من الصحابة قال: لا يجتمع عليه العشر والخراج، ولا نعلمه من التابعين إلا شيء يُروى عن عكرمة، رواه عنه رجل من أهل خراسان، يُكنى أبا المنيب، سمعه يقول ذلك انتهى.
وقال صاحب "المرعاة"(6/ 79) بعد ذكر ما تقدّم: وقد ظهر بما ذكرنا أنه لم يقم دليل صحيح، أو سقيم على أن الخراج والعشر لا يجتمعان على مسلم، بل الآية المذكورة، وحديث:"فيما سقت السماء العشر"، وما في معناه يدلّان بعمومهما على الجمع بينهما، وأثر عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وأثر الزهريّ يدلّان على أن العمل كان ذلك في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبعده، فالحقّ، والصواب في ذلك ما ذهب إليه الجمهور انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله صاحب "المرعاة" -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ جدًا. واللَّه تعالِى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2489 -
(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ سَوَّادِ
(1)
بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو
(2)
، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:
(1)
- بتشديد الواو.
(2)
- هو ابن السرح المصريّ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح:
وقد تقدّموا غير مرّة. و"عمرو بن سوّاد" -بتشديد الواو-: هو أبو محمد المصريّ، ثقة [11]. و"أحمد بن عمرو": هو ابن السرح المصريّ، ثقة [10]. و"عمرو بن الحارث": هو المصريّ الثقة الثبت [7]. و"أبو الزبير": هو محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوق [4].
والحديث أخرجه المصنّف هنا -25/ 2489 - وفي "الكبرى" 26/ 2268. وأخرجه (م) في "الزكاة" 981 (د) في "الزكاة" 1597 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 14256 و 14389، وشرحه يُعلم من شرح الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2490 -
(أَخْبَرَنَا
(1)
هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ -وَهُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ- عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: "بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَى الْيَمَنِ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِمَّا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرَ، وَفِيمَا سُقِيَ
(2)
بِالدَّوَالِي نِصْفَ الْعُشْرِ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عاصم": هو ابن أبي النَّجُود المقرىء. و"أبو وائل": هو شقيق بن سلمة.
والحديث صحيح، أخرجه المصنّف هنا -25/ 2490 - وفي "الكبرى" 26/ 2269.
وأخرجه (ق) في "الزكاة" 1818 (أحمد) في "مسند الأنصار" 2153 (الدارميّ) في "الزكاة"1667. وفي إسناده اختلاف، فمنهم من أدخل بين أبي وائل وبين معاذ مسروقًا، لكن يشهد له ما قبله.
وقوله: "بالدوالي" جمع دالية: آلةٌ لإخراج الماء. قال في "المصباح": الدالية: دَلْوٌ، ونحوُها، وخشبٌ يُصنَع كهيئة الصليب، وُيشدّ برأس الدَّلْو، ثمّ يُؤخذ حَبْلٌ يُربَط طَرَفه بذلك، وطرَفه بِجِذْعٍ قائمٍ على رأس البئر، ويُسقى بها. فهي فاعلةٌ بمعنى مفعولة، والجمع الدَّوالي، وشَذّ الفارابيُّ، وتبعه الجوهريّ، ففسّرها بالْمَنْجَنُونِ. انتهى
(3)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
(1)
- وفي نسخة: "أخبرني".
(2)
- وفي نسخة "وما سُقِي".
(3)
- "المصباح المنير".
26 - (كَمْ يَتْرُكُ الْخَارِصُ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الخارص": اسم فاعل من "الْخَرْصِ" -بفتح المعجمة، وحكي كسرها، وبسكون الراء، بعدها مهملة-: وهو حَزْرُ ما على النخل من الرُّطَب تمرًا. وحكى الترمذيّ عن بعض أهل العلم أن تفسيره أن الثمار إذا أدركت من الرطب، والعنب، مما تجب فيه الزكاة بعث السلطان خارصًا ينظر، فيقول: يخرج من هذا كذا وكذا زبيبًا، وكذا وكذا تمرًا، فيُحصيه، وينظر مبلغ العشر، فيثبته عليهم، ويخلِّي بينهم وبين الثمار، فإذا جاء وقت الجذاذ أخذ منهم العشر انتهى.
وفائدة الخرص التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها، والبيع من زهوها، وإيثار الأهل والجيران والفقراء؛ لأن في منعهم تضييقًا لا يخفى.
وقال الخطّابيّ: أنكر أصحاب الرأي الخرص، وقال بعضهم: إنما كان يُفعل تخويفًا للمزارعين؛ لئلا يخونوا، لا ليلزم به الحكم؛ لأنه تخمين وغُرور، أو كان يجوز قبل تحريم الربا والقمار.
وتعقّبه الخطّابيّ بأن تحريم الربا والميسر متقدّم، والخرص عُمِل به في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم أبو بكر، وعمر، فمن بعدهم، ولم يُنقل عن أحد منهم، ولا من التابعين تركه إلا عن الشعبيّ. قال: وأما قولهم: إنه تخمين وغُرور، فليس كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار التمر، وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير.
وحكى أبو عُبيد عن قوم منهم أنّ الخرص كان خاصًّا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يُوفَّق من الصواب ما لا يوفّق له غيره. وتعقّبه بأنه لا يلزم من كون غيره لا يُسدّد لما كان يُسدّد له سواه أن تثبت بذلك الخصوصيّة، ولو كان المرء لا يجب عليه الاتباع إلا فيما يعلم أنه يسدّد فيه كتسديد الأنبياء لسقط الاتباع.
وتردّ هذه الحجّة أيضًا بإرسال النبيّ صلى الله عليه وسلم الخرّاص في زمانه. واللَّه تعالى أعلم.
واعتلّ الطحاويّ بأنه يجوز أن يحصل للثمرة آفةٌ فتتلفها، فيكون ما يؤخذ من صاحبها مأخوذًا بدلاً مما لم يَسلَم له.
وأجيب بأن القائلين به لا يضمّنون أرباب الأموال ما تلف بعد الخرص. قال ابن المنذر: أجمع من يُحفظ عنه العلم أن المخروص إذا أصابته جاثحة قبل الجذاذ فلا ضمان. ذكره فى "الفتح"
(1)
. وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(1)
- "فتح" ج 4 ص 108 - 109.
2491 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ خُبَيْبَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ نِيَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثَمَةَ، قَالَ: أَتَانَا وَنَحْنُ فِي السُّوقِ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا، وَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَأْخُذُوا" أَوْ "تَدَعُوا الثُّلُثَ" -شَكَّ شُعْبَةُ- "فَدَعُوا الرُّبُعَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمد بن بشار) بندر البصريّ، ثقة حافظ [10] 24/ 27.
2 -
(يحيى بن سعيد) القطان الإمام الحجة الثبت البصري [9] 4/ 4.
3 -
(محمد بن جعفر) غندر البصري، ثقة [9] 21/ 22.
4 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.
5 -
(خُبيب بن عبد الرحمن) أبو الحارث المدنيّ، ثقة [4] 10/ 640.
6 -
(عبد الرحمن بن مسعود بن نِيَار) -بكسر النون، بعدها تحتانيّة- الأنصاريّ المدنيّ، مقبول [4].
روى عن سهل بن أبي حَثْمة. وعنه خُبيب بن عبد الرحمن. ذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال البزّار: معروف. وقال ابن القطّان: لكنّه لا يُعرف حاله.
أخرج له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عندهم حديث الباب فقط.
7 -
(سهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ) -بفتح المهملة، وسكون المثلّثة- ابن ساعدة بن عامر الأنصاريّ الخزرجيّ المدنيّ، صحابيٌّ صغيرٌ، وُلد سنة ثلاث من الهجرة، وله أحاديث، مات في خلافة معاوية رضي الله عنهما، تقدّم في 5/ 748. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الاسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى عبد الرحمن بن مسعود كما سبق آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، والباقون مدنيون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ سهْلِ بْنِ أَيِي حَثْمَةَ) الأنصاري الصحابي الصغير - رضي اللَّه تعالى عنه - (قَالَ) الضمير لعبد الرحمن، أي قال: عبد الرحمن بن مسعود (أَتَانَا) الضمير لسهل بن أبي حثمة، وقوله:(وَنَحْنُ فِي السُّوقِ) جملة في محلّ نصب على الحال، يعني أنه أَتَي سهلُ ابن أبي حثمة عبد الرحمن بنَ مسعود، ومن معه، والحال أنّهم كائنون في السوق،
والظاهر أنه أراد سوق المدينة. وفي رواية أبي داود: " جاء سهل بن أبي حثْمَة إلى مجلسنا، فقال: أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذا خرصتم، فَجَذُّوا
…
(فَقَالَ:) سهل رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا خَرَصْتُمْ) من باب قَتَلَ: أي قدّرتم، وحَزَرْتم أيّها السُّعَاة، والْمُصدِّقُون (فَخُذُوا) أمر من الأخذ -بالخاء، والذال المعجمتين-: أي خُذُوا زكاة المخروص، إن سَلِمَ من الآفة.
والخرص: تقدير ما على النخل من الرُّطَب تمرًا، وما على الكرم من العنب زبيبًا؛ ليُعرَف مقدار عُشره، ثّم يُخلَّى بينه وبين مالكه، ويؤخذ ذلك المقدار وقت قطع الثمار.
وفائدته التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها، وهو جائز عند الجمهور، خلافًا للحنفيّة؛ لإفضائه إلى الربا، وحملوا أحاديث الخرص على أنها كانت قبل تحريم الربا. وسيأتي تحقيق القول في ذلك في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.
ووقِع في بعض نسخ أبي داود "فَجَذُّو" -بالجيم، والذال المعجمة بصيغة الماضي-: أي فقَطَعُوا، وفي بعضها "فَجَدُّوا" -بالدّال المهملة-وهو القطع أيضًا، وعلى هاتين النسختين جزاء الشرط محذوف: أي إذا خَرَصتم، ثم قَطَع أرباب النخل ثمرها، فخذوا زكاة المخروص. وقيل:" جُذُّوا" -بضمّ الجيم، بصيغة الأمر، وهو جزاء الشرط، ويكون أمرًا لأرباب النخل: أي إذا قدّر العامل الثمارَ، وعرفتم حقّ الفقراء، فاقطعوا ما شئتم، وهو أمر إباحة.
(وَدَعُوا) أي اتركوا (الثُّلُثَ) -بضمّ اللام، وسكونها- يحتمل أن يكون المراد: اتركوا ثلث الزكاة ليتصدّق به ربّ المال بنفسه على أقاربه، وجيرانه، فلا يَغرَم لهم من ماله شيئًا.
ويحتمل أن يكون المراد: اتركوا الثلث من نفس الثمرة، فلا يؤخذ عليه زكاة، رأفةً بأرباب الأموال، فإنه يكون منه الساقطة، والهالكة، وما يأكله الطير والناس، فلو أخذت الزكاة على جميع المال أضرّ بربّه. وكان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يأمر الخرّاص بذلك.
قال في "الفتح": وقال بظاهره الليث، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم. وفَهِمَ أبو عُبيدة في "كتاب الأموال" أنه القدر الذي يأكلونه بحسب احتياجهم إليه، فقال: يُترك قدرُ احتياجهم. وقال مالك، وسفيان: لا يُترك لهم شيء، وهو المشهور عن الشافعيّ. قال ابن العربي: والمتحصّل من صحيح النظر أن يُعمل بالحديث، وهو قدر المؤونة، ولقد جرّبناه، فوجدناه كذلك في الأغلب مما يؤكل رُطَبًا انتهى
(1)
.
وقال ابن قُدامة في "المغني": على الخارص أن يترك في الخرص الثلث، أو الربع؛ توسعةً على أرباب الأموال؛ لأنهم يحتاجون إلى الأكل هم وأضيافهم، وُيطعمون
(1)
- "فتح" ج 4 ص 112.
جيرانهم، وأهلَهم، وأصدقاءَهم، وسُؤَّالَهُم، ويكون في الثمرة الساقطة، وينتابها الطير، وتأكل منها المارّة، فلو استوفى الكلّ منهم أضرّ بهم.
وبهذا قال إسحاق، ونحوه قال الليث، وأبو عُبيد. والمرجع في تقدير المتروك إلى الساعي باجتهاده، فإن رأى في الأَكَلَة كثرةً ترك الثلث، وإن كانوا فيهم قلْةٌ ترك الربع، وذكر حديث الباب. وقال: وروى أبو عُبيد بإسناده عن مكحول قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخرّاص قال: "خفّفوا على الناس، فإن في المال العَرِيّة، والواطئة، والأكلة".
و"العريّة" نخَلَاتٌ يَهبها ربّ المال لشخص يَجني ثمارها. و"الواطئة": المارّة في الطريق، سُمُّوا بذلك لوطئهم بلاد الثمار مُجتازين. و"الأكلة": أرباب الثمار، وأقاربهم، وجيرانهم. انتهى كلام ابن قُدامة بتصرّف
(1)
.
(فَإِنْ لَمْ تَأْخُذُوا" (أَوْ) للشكّ (تَدَعُوا) أي تتركوا. وقوله (الثُّلُثَ) بالنصب تنازعه الفعلان قبله (شَكَّ شُعْبَةُ) بن الحجّاج في لفظ خُبيب شيخِهِ، هل هو "تأخذوا"، أو هو "تدعوا"، ومعنى "فإن لم تأخذوا" -واللَّه أعلم-: أي إن لم تأخذوا ثلث الثمار في الاستثناء، بمعنى أنهم لم يروا استثناء الثلث مناسبًا؛ لكثرته حيث كانت حاجة صاحب الثمار قليلةً، فيكون بمعنى "تَدَعُوا الثلث"("فَدَعُوا الرُّبُعَ") أي اتركوا لهم ربع الزكاة؛ ليتصدّقوا بأنفسهم، أو ربع الثمار، فلا يؤخذ عليه زكاة، على ما تقدّم من الاحتمالين.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل ..
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث سهل بن أبي حثْمَة رضي الله عنه هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه عبد الرحمن بن مسعود بن نيار، وقد قال ابن القطّان لا يُعرف؟.
[قلت]: إنما حكمت بصحّته لأمرين:
(أحدهما): أن عبد الرحمن قال فيه البزّار: إنه معروف، ووثقه ابن حبّان.
(الثاني): أن له شواهد يصحّ بها:
(فمنها): ما أخرجه الشيخان، وغيرهما عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، قال: غزونا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، غزوة تبوك، فلما جاء وادي القرى، إذا امرأة في حديقة لها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"اخرُصُوا"، وخَرَصَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، عشرة أوسق، فقال لها:
(1)
- "المغني" ج 4 ص 177 - 178.
"أحصي ما يخرج منها"
…
وفيه: فلما أتى وادي القرى، قال للمرأة:"كم جاء حديقتك؟ "، قالت: عشرة أوسق، خَرْصَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
…
الحديث بطوله.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود، والترمذيّ، ويأتي للمصنّف برقم 100/ 2618 عن سعيد بن المسيّب، عن عتّاب بن أَسيّد رضي الله عنه: أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُخرص العنب، كما يُخرص النخل، وتؤخذ زكاته زَبيبًا، كما تؤخذ صدقة النخل تمرًا".
[فإن قلت]: هذا غير صحيح، لأنه منقطعٌ، فقد قيل: إن عتابًا لم يسمع منه ابن المسيّب، فإنه مات يوم مات أبو بكر الصديق رضي الله عنهما، على ما قاله الواقديّ، وسعيد إنما وُلد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه.
[قلت]: دعوى عدم الصحة فيه غير صحيحة؛ لأمرين:
(الأول): أن دعوى الانقطاع فيه مبنيّ على قول الواقديّ: إنه مات يوم مات أبو بكر، والواقديّ ضعيف، والراجح أن عتابًا كان من عمّال عمر رضي الله عنه، وإنما توفّي في أواخر حياته.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في ترجمة عتّاب رضي الله عنه: روى الطيالسيّ، والبخاريّ في "تاريخه" من طريق أيوب بن عبد اللَّه بن يسار
(1)
، عن عمرو بن أبي عقرب
(2)
، سمعت عتّابًا، فذكر حديثًا، وإسناده حسنٌ، ومقتضاه أن عتّابًا تأخّرت وفاته عما قال الواقديّ؛ لأن عمرو بن أبي عقرب ذكره البخاريّ في التابعين، وقال: سمع عتّابًا. ويؤيّد ذلك أن الطبريّ ذكر عتّابًا فيمن لا يُعرف تاريخ وفاته، وقال في "تاريخه": إنه كان والي عمر سنة عشرين، وذكره قبل ذلك في سني عمر، ثم ذكره في سنة (22) ثمّ قال في مقتل عمر سنة (23) قتل، وعامله على مكّة نافع بن عبد الحارث انتهى. فهذا يُشعر بأن موت عتّاب كان في أواخر سنة (22) أو أوائل سنة (23)، فعلى هذا فيصحّ سماع سعيد بن المسيّب منه انتهى كلام الحافظ
(3)
.
(الثاني): أن مرسلات سعيد بن المسيّب من أصحّ المراسيل، كما نُقِل عن الشافعيّ، وأحمد، وابن معين، وابن المدينيّ، وغيرهم من أئمة كبار المحدثين، انظر "شرح علل الترمذيّ" للحافظ ابن رجب في بحث المرسل ص 179 - 186. بتحقيق صبحي السامرّائيّ.
(1)
- ترجمه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" ج 2 ص 252، وقال: روى عنه عبد اللَّه وخالد ابنا أبي عثمان، يعدّ في البصريين انتهى. ووثقه ابن حبّان.
(2)
- ترجمه البخاريّ في "التاريخ الكبير" ج 6 ص 356.
(3)
- "تهذيب التهذيب" ج 3 ص 48.
فظهر بهذا أن الحديث أقلّ أحواله أن يكون حسنًا. واللَّه تعالى أعلم.
(ومنها): حديث ابن عمر رضي الله عنهما في "صحيح ابن حبّان": أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غلب أهل خيبر على الأرض، والزرع، والنخل، فصالحوه، وفيه: فكان ابن رواحة يأتيهم، فيخرصها عليهم، ثم يضمّنهم الشطر".
(ومنها): حديث جابر رضي الله عنه قال: أفاء اللَّه على رسوله صلى الله عليه وسلم بني النضير، فأقرّهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد اللَّه بن رواحة، فخرصها عليهم، ثم قال: يا معشر اليهود أنتم أبغض الناس إليّ، قتلتم أنبياء اللَّه، وكَذَبتم على اللَّه، وليس شيء يحملني بغضي إياكم على أن أَحيف عليكم، قد خرصت عليكم عشرين ألف وسق من تمر، إن شئتم فلكم، وإن أبيتم فلي، قالوا: بهذا قامت السموات والأرض، قالوا: قد أخذنا، فاخرجوا عنّا. رواه البيهقيّ بسند رجاله ثقات
(1)
.
فثبت بما ذُكر أن حديث الباب صحيح. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-26/ 2491 - وفي "الكبرى" 27/ 2270. وأخرجه (ت) في "الزكاة" 643 (أحمد) في "مسند المكيين"، و"مسند المدنيين" 15662 (الدارميّ) في "البيوع" 2619. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما بوّب له المصنّف، وهو بيان ما يتركه الخارص، وهو الثلث، أو الربع على حسب ما يراه (ومنها): مشروعية الخرص، خلافًا لمن نفاه، كما سيأتي في المسألة التالية (ومنها): سماحة الشريعة، وسهولتها على المكلّفين، حيث تراعي أحوال الجميع، وتدفع عنهم الحرج، فلَمّا كان بعض أرباب الثمار يتحرّجون عن التصرف في ثمارهم حيث تعلّقت به حقوق الفقراء، ويتساهل بعضهم، فيتصرّف بغير حدّ، ويُضَيّق على الفقراء حقوقهم شُرع الخرص رعايةً لمصلحة الجانبين، وهذا من فضل اللَّه تعالى (ومنها): أن الخارص عليه أن يراعي حاجة أرباب الثمار، فمن كانت حاجته أكثر من غيره، يترك له الثلث، ومن كان أقلّ يترك له الربع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الخرص:
ذهب أكثر أهل العلم إلى مشروعيّة الخرص في العنب والنخل، منهم عمر بن
(1)
- "السنن الكبرى" ج 4 ص 123.
الخطّاب، وسهل بن أبي حثمة، ومروان، والقاسم بن محمد، وعطاء، والزهريّ، وعمرو بن دينار، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، وأبو عبيد، وأبو ثور.
ثم اختلفوا، هل هو واجبٌ، أو مستحبٌ؟ فقال الشافعيّ في أحد قوليه بوجوبه، مستدلا بما في حديث عتّاب بن أَسيد: أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُخرص العنب، كما يُخرص النخل، ويؤخذ زكاته زبيبًا". رواه أحمد، وأصحاب السنن. قال الصنعانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: والحديث دليلٌ على وجوب خرص التمر والعنب؛ لأن قول الراوي: "أمر" يُفهم منه أنه أتى صلى الله عليه وسلم بصيغة تفيد الأمر، والأصل فيه الوجوب انتهى.
وقال الجمهور: هو مستحبّ، وهي رواية عن الشافعيّ، إلا إن تعلّق به حقٌّ لمحجور مثلاً، أو كان شُركاؤه غير مؤتمنين، فيجب لحفظ مال الغير. وروي عن الشافعيّ أنه جائز فقط.
وقال الشعبيّ، والثوريّ، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: الخرص مكروه.
وقال الشعبيّ: الخرص بدعة. وقال الثوريّ: خرص الثمار لا يجوز. وقال ابن رُشد: قال أبو حنيفة، وصاحباه: الخرص باطلٌ، وعلى ربّ المال أن يؤدّي عشر ما تحصّل بيده، زاد على الخرص، أو نقص منه.
واستدلّ الجمهور لمشروعيّة الخرص بالأحاديث المتقدّمة في المسألة الأولى.
وأجاب الحنفيّة عنها بوجوه:
(الأول): الكلام في أسانيدها. قال ابن العربيّ: ليس في الخرص حديث صحيح، إلا حديث أبي حميد الساعديّ عند الشيخين، ويليه ما روي في خرص ابن رواحة على أهل خيبر.
وتُعقّب بأن حديث سهل بن أبي حثمة صحيح، وحديث عتّاب حسنٌ، كما تقدّم البحث عنهما مستوفىً.
(الثاني): أنه منسوخ بنسخ الربا. قال الخطابيّ: قال بعض أصحاب الرأي إنما كان جوازه قبل تحريم الربا والقمار.
وتعقبه في "المعالم "(2/ 44) بأن تحريم الربا والقمار والميسر متقدّم، والخرص عُمل به في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم أبو بكر، وعمر، فمن بعدهم، ولم يُنقل عن أحد منهم، ولا عن التابعين خلاف فيه، إلا عن الشعبيّ انتهى.
وقال الإمام ابن القيّم في "إعلام الموقّعين": "المثال التاسع والعشرون" ردّ السنّة الصحيحة الصريحة المحكمة في خرص الثمار في الزكاة، والعرايا، وغيرها، إذا بدا صلاحها، ثم ذكر أحاديث الخرص، ثم قال: فردّت هذه السنن كلها بقوله تعالى: {إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الآية [المائدة: 90]، قالوا: والخرص من القمار والميسر، فيكون تحريمه ناسخًا لهذه الآثار.
وهذا من أبطل الباطل، فإن الفرق بين القمار والميسر، والخرص المشروع كالفرق بين البيع والربا، والميتة والمذكّى، وقد نزّه اللَّه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه عن تعاطي القمار، وعن شرعه، وإدخاله في الدين، ويا للَّه العجب أكان المسلمون يُقامرون إلى زمن خيبر، ثم استمرّوا على ذلك إلى عهد الخلفاء الراشدين، ثم انقضى عصر الصحابة، وعصر التابعين على القمار، ولا يعرفون أنّ الخرص قمار حتى بيّنه بعض فقهاء الكوفة، هذا واللَّه الباطل حقًّا. انتهى كلام ابن القيم.
وقد ذكر صاحب "المرعاة" ما تعلّق به الحنفيّة في ردّ أدلّة الخرص كلها وناقشها كلّها، فأجاد، وأفاد، فراجعه في جـ 6 ص 151 - 154. تستفد. وباللَّه تعالى التوفيق.
[تنبيهان]:
(الأول): اختلف القائلون بالْخَرْص، هل يختصّ بالنخل، أو يُلحق به العنب، أو يعمّ كلّ ما ينتفع به رطبًا وجافًّا؟ وبالأول قال شُريح القاضي، وبعض أهل الظاهر. وبالثاني قال الجمهور. وإلى الثالث نحا البخاريّ.
قال الجامع: مذهب الجمهور عندي أرجح، لصحة الأدلّة به. واللَّه تعالى أعلم.
وهل يمضي قول الخارص، أو يرجع إلى ما آل إليه الحال بعد الجفاف؟ الأول قول مالك، وطائفة. والثاني قول الشافعيّ، ومن تبعه.
قال الجامع: قول مالك عندي أظهر. واللَّه تعالى أعلم.
وهل يكفي خارصٌ واحد عارف ثقةٌ، أو لابدّ من اثنين؟ وهما قولان للشافعيّ، والجمهور على الأول.
قال الجامع: قول الجمهور هو الموافق ظاهر أحاديث الخرص. واللَّه تعالى أعلم.
واختُلف أيضًا، هل هو اعتبار، أو تضمينٌ؟ وهما قولان للشافعيّ، أظهرهما الثاني.
وفائدته جواز التصرّف في جميع الثمرة، ولو أتلف المالك الثمرة بعد الخرص أُخذت منه الزكاة بحساب ما خُرص.
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- راجع "الفتح" ج 4 ص 112.
27 - (قَوْلُهُ عز وجل: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} الآية
[البقرة:267]
2492 -
(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَلِيلِ بْنُ حُمَيْدٍ، الْيَحْصَبِيُّ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، فِي الآيَةِ الَّتِي، قَالَ: اللَّهُ عز وجل: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] قَالَ: هُوَ الْجُعْرُورُ، وَلَوْنُ حُبَيْقٍ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ تُؤْخَذَ فِي الصَّدَقَةِ الرُّذَالَةُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يونس بن عبد الأعلى) بن ميسرة الصدفي، أبو موسى المصري، ثقة، من صغار [10] 1/ 449.
2 -
(الحارث بن مسكين) بن محمد، أبو عمرو المصري القاضي، ثقة فقيه [10] 9/ 9.
3 -
(ابن وهب) عبد اللَّه، أبو محمد المصري، ثقة حافظ عابد [9] 9/ 9.
4 -
(عبد الجليل بن حُميد الْيَحْصَبيّ) أبي مالك المصريّ، لا بأس به [7].
قال النسائيّ: ليس به بأس. وقال أحمد بن رِشْدِين، عن أحمد بن صالح: ثقة.
وذكره ابن حبّان في "الثقات". انفرد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث رقم (2620)"إن اللَّه تعالى كتب عليكم الحج .. " الحديث.
[تنبيه]: "اليحصبيّ" -بفتح الياء، وسكون الحاء المهملة، وكسر الصاد المهملة، وموحّدة-: نسبة إلى قبيلة من حمير. هكذا ذكر نحو هذا الضبط في "لبّ اللباب" ج 2 ص 338. والذي في "القاموس" أنه مثلّث الصاد، والنسبة مثلّثة أيضًا، لا بالفتح فقط، كما زعم الجوهريّ انتهى.
5 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري الإمام الحجة [4] 1/ 1.
6 -
(أبو أمامة بن سهل بن حُنيف) اسمه أسعد الأنصاري، مشهور بكنيته، له رؤية، ولم يسمع، مات سنة مائة، وله (92) سنة 8/ 509. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال
الصحيح، غير الحارث، فإنه من أفراد المصنف، وأبي داود، وغير عبد الجليل، فإنه من أفراد المصنف. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين إلى عبد الجليل، والباقون مدنيون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي: ابن شهاب، عن أبي أمامة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن ابن شهاب الزهريّ -رحمه اللَّه تعالى-، أنه قال (حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ) أسعد (بْنُ سَهْلِ ابْنِ حُنَيفٍ) له رؤية، ولم يسمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتقدم في -8/ 509. وأبوه صحابيّ مشهور رضي الله عنهما.
هكذا في رواية المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- مرسلاً، وقد صحّ متّصلاً بذكر أبيه، كما سنذكره في المسألة الأولى، إن شاء اللَّه تعالى.
(فِي الْآيَةِ الَّتِي) متعلّق بـ "حدثني"، أي حدثني فيما يتعلّق بمعنى هذه الآية (قَالَ: اللَّهُ عز وجل) جملة القول صلة الموصول بتقدير عائد، أي قال اللَّه عز وجل فيها (وَلَا تَيَمَّمُوا) بحذف إحدى التاءين، والأصل تتيمّموا، فحذفت إحدى التاءين، تخفيفًا، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ
…
فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنُ الْعِبَرْ
واختُلف، هل المحذوفة هي الأولى؛ وعليه الكوفيّون؛ لأن الثانية لمعنى المطاوعة، وحذفها يُخلّ به، أو الثانية وعليه البصريون؛ لحصول الثقل بها.
وحكى الطبريّ، والنّحّاس أن في قراءة عبد اللَّه:"ولا تَأَمَّمُوا"، وهما لغتان. وقرأ مسلم بن جندب:"ولا تُيَمِّمُوا" بضمّ التاء، وكسر الميم. وقرأ ابن كثير "ولا تَّيَمَّمُوا" بتشديد التاء. وفي اللفظة لغات: منها "أَمَمْتُ الشيءَ" مخففة الميم الأولى، و"أَمَّمْتُه" بتشديدها، و"يَمَّمته، وتَيَمَّمْتُه". وحكى أبو عمر أن ابن مسعود قرأ "ولا تُؤَمِّمُوا" بهمزة بعد التاء المضمومة. ذكره القرطبيّ
(1)
.
أي لا تقصدوا (الْخَبِيثَ) أي الرديء (مِنْهُ) أي من المذكور، في قوله:{مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} ، فإفراد الضمير باعتبار المذكور، فالجارّ والمجرور نعت للخبيث، أو حال منه. ويحتمل أن يكون متعلّقا بقوله (تُنْفِقُونَ) والجملة حال من ضمير "تيمّموا".
وتمام الآية: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
(1)
- تفسير القرطبيّ ج 3 ص 326.
[البقرة: 267] ومعنى قوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي لستم بآخذيه في ديونكم، وحقوقكم من الناس إلا أن تتساهلوا في ذلك، وتتركوا من حقوقكم، وتكرهونه، ولا ترضونه. أي فلا تفعلوا مع اللَّه تعالى ما لا ترضونه لأنفسكم. قال معناه البراء بن عازب، وابن عبّاس، والضحّاك رضي الله عنهم. وقال الحسن: معنى الآية: ولستم بآخذيه، ولو وجدتموه في السوق يُباع إلا أن يُهْضَم لكم من ثمنه. وروي نحوه عن عليّ رضي الله عنه. قال ابن عطية: وهذان القولان يُشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة.
قال ابن العربيّ: لو كانت في الفرض لما قال: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} ، لأن الرديء والمعيب لا يجوز أخذه في الفرض بحال، لا مع تقدير الإغماض، ولا مع عدمه، وإنما يؤخذ مع عدم الإغماض في النفل. وقال البراء بن عازب أيضًا: معناه: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} أي لو أُهدي لكم {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي تستحيي من المهدي، فتقبل منه ما لا حاجة له به، ولا قدر له في نفسه. قال ابن عطيّة: وهذا يُشبه كون الآية في التطوّع. وقال ابن زيد: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تُغمضوا في مكروهه.
ومعنى قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} : أي إن اللَّه عز وجل غنيّ عن صدقاتكم، لا حاجة به إليها، فمن تقرّب، وطلب مثوبة، فليفعل ذلك بما له قَدْرٌ، وبَالٌ، فإنما يُقدّم لنفسه. ومعنى "حميد": محمود في كلّ حال. أفاده القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
(قَالَ: هُوَ الْجُعْرُورُ) -بضمّ الجيم، وسكون العين المهملة، بوزن عُصْفُور-: ضربٌ من التمر صِغَارٌ، لا يُنتفع به. وقال الأصمعيّ: الْجُعْرُورُ ضرب من الدَّقَلِ يَحْمِلُ رُطَبًا صِغَارًا، لا خير فيه. ذكره في "اللسان"(وَلَوْنُ حُبَيْقٍ) -بضمّ الحاء المهملة، وفتح الموحّدة-: تمر صغير، رديء، أغبر، فيه طولٌ، منسوبٌ إلى ابن حُبيق، اسم رجل.
وقال في "اللسان": وعِذْقُ الْحُبيق - مصغّرٌ-: نوع من التمر رديء، منسوب إلى ابن حُبيق، وهو تمر أغبر، صغيرٌ، مع طول فيه. يقال: حُبيقٌ، ونُبَيقٌ، وذوات الْعُنَيق لأنواع من التمر، والنُّبَيق أغبر مُدوّرٌ، وذوات العُنَيق لها أعناقٌ، مع طول، وغُبْرَة، وربّما اجتمع ذلك كلّه في عِذْقٍ واحدٍ انتهى بتصرّف.
والمعنى أن المراد بقوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} هذان الصنفان من التمر. واللَّه تعالى أعلم.
(فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ تُؤْخَذَ) بالبناء للمفعول. وفي نسخة: "يأخذ"(فِي الصَّدَقَةِ)
(1)
- "تفسير القرطبيّ" ج 3 ص 326 - 328.
نتعلّق بما قبله (الرُّذَالَةُ) نائب فاعل "تُؤخذ". وهو بضمّ الراء، بعدها ذال معجمة: الرديء. يعني أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أخذ الرديء في الزكاة مطلقًا، سواء كان في التمر، أو في غيره.
ووقع في النسخة "الهنديّة": "الرزالة" بالزاي المعجمة، بدل الذال المعجمة، وهو تصحيف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي أمامة بن سهل رضي الله عنهما هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وهو مرسل؟
[قلت]: قد رُوي متّصلاً بذكر أبيه، فقد أخرجه أبو داود في "سننه"، فقال: 1607 حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل، عن أبيه، قال:"نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، عن الْجُعْرُور، ولون الْحُبَيق، أن يؤخذا في الصدقة". قال الزهريّ: لونين من تمر المدينة.
وقد أخرجه الحاكم، والدارقطنيّ بأتمّ من هذا، ولفظه: قال: أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بصدقة، فجاء رجلٌ من هذا السُّخَّل بكَبَائس -قال سفيان: يعني الشِّيصَ- فقال: "من جاء بهذا؟ "، وكان لا يجيء أحدٌ بشيء إلا نُسِب إلى الذي جاء به، فنزلت:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} ، قال: ونهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الْجُعْرُور، ولون الْحُبَيق أن يؤخذا في الصدقة". قال الزهريّ: لونين من تمر المدينة.
و"السُّخَّل" -بضمّ السين المهملة، وتشديد الخاء المعجمة المفتوحة-: الشِّيص، كما قال سفيان. و"الكبائس" جمع كِبَاسة -بكسر الكاف-: الْعِذْق، وهو من التمر كالعُنقُود من العنب.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في إسناده سُفيان بن حُسين، قد ضعّفُوه في الزهريّ، لكن تابعه سليمان بن كثير، كما أشار إليه أبو داود بعد أن أخرجه من طريقه، فقال: وأسنده أيضًا أبو الوليد، عن سليمان بن كثير، عن الزهريّ، انتهى.
ورواية سليمان أخرجها الدارقطنيّ في "سننه"، فقال: حدّثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا يوسف بن موسى، ثنا أبو الوليد، ثنا سليمان بن كثير، ثنا الزهريّ، عن أبي أُمامة بن سَهْل بن حُنيف، عن أبيه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن لونين من التمر: الْجُعْرُور،
ولون الْحُبَيق، وكان الناس يتيمّمون شرّ ثمارهم، فيُخرجونها في الصدقة، فنُهوا عن لونين من التمر، ونزلت:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} . انتهى. وإسناده صحيح.
وروي أيضًا من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، فقد أخرجه الترمذيّ في "جامعه"، فقال:
2987 حدثنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن، أخبرنا عبيد اللَّه بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي
(1)
، عن أبي مالك، عن البراء:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} ، قال: نزلت فينا معشرَ الأنصار، كنّا أصحابَ نخل، فكان الرجل يأتي من نخله، على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو، والقنوين، فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصُّفَّة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع، أتى القنو، فضربه بعصاه، فيسقط من البسر والتمر، فيأكل، وكان ناس، ممن لا يرغب في الخير، يأتي الرجلُ بالقنو، فيه الشِّيصُ، والْحَشَفُ، وبالقنو قد انكسر، فيعلقه، فأنزل اللَّه وتبارك تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} قال: لو أن أحدكم أُهدِيَ إليه مثلُ ما أعطاه، لم يأخذه إلا على إغماض، أو حياء، قال: فكنا بعد ذلك، يأتي أحدنا بصالح ما عنده.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح، وأبو مالك هو الغفاري، ويقال: اسمه غَزْوَان. وقد روى سفيان الثوري، عن السدي شيئا من هذا.
وأخرجه ابن ماجه، وابن جرير، وابن مردويه، والحاكم في "المستدرك" من طريق السدّيّ، عن عديّ بن ثابت، عن البراء رضي الله عنه بنحوه. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وفيه نظر فإن السدّيّ ما أخرج له البخاريّ.
والحاصل أن حديث الباب صحيح بهذه الشواهد. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -28/ 2492 - وفي "الكبرى" 28/ 2271. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1607. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان معنى الآية المذكورة،
(1)
- هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السُّدّيّ، أبو محمد الكوفيّ، صدوق يَهم، ورمي بالتشيّع، من الطبقة الرابعة، مات 127، من رجال مسلم، والأربعة. اهـ "ت".
وسبب نزولها (ومنها): أنه لا يجوز للمالك أن يدفع في الزكاة رديء ما عنده، بل يدفع أطيب ما يجده؛ لينال بذلك الأجر العظيم، وقد تقدّم في 5/ 2447 - قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يؤخذ في الصدقة هَرِمةٌ، ولا ذات عَوَارٍ
…
" الحديث (ومنها): أن اللَّه تعالى غنيّ عن الصدقات، وإنما يأمر الأغنياء لأجل مواساة الفقراء، فتحصلَ المساواة بين المجتمع، ويسود الودّ والإخاء، ويزول الحسد والبغضاء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2493 -
(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ أَبِي عَرِيبٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِيَدِهِ عَصًا، وَقَدْ عَلَّقَ رَجُلٌ قِنْوَ حَشَفٍ، فَجَعَلَ يَطْعَنُ فِي ذَلِكَ الْقِنْوِ، فَقَالَ: «لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ، تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْ هَذَا، إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ، يَأْكُلُ حَشَفًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»).
رجال هذا الاسناد: ستة:
1 -
(يعقوب بن إبراهيم) الدورقي البغدادي الحافظ الثبت [10] 21/ 22.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان المذكور قبل باب.
3 -
(عبد الحميد بن جعفر) الأنصاريّ المدنيّ، صدوق رمي بالقدر، وربما وهم [6] 26/ 914.
4 -
(صالح بن أبي عَرِيب) -بفتح المهملة، وكسر الراء، آخره موحّدةٌ- اسمه قُلَيب - بالقاف، والموحّدة، مصغرًا- ابن حَرْمل بن كُلَيب الحضرميّ، مقبول [6].
روى عن كثير بن مرّة، وخلاّد بن السائب، ومختار الحِمْيريّ. وعنه الليث، وحَيْوة ابن شُرَيح، وابن لَهِيعة، وعبد الحميد بن جعفر الأنصاريّ، وغيرهم. ذكره ابن حبّان في "الثقات". أخرج له أبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله عندهم هذا الحديث، وله عند أبي داود حديث آخر أيضًا:"من كان آخر كلامه لا إله إلا اللَّه دخل الجنة".
5 -
(كثير بن مرّة الْحَضْرميّ) أبو شَجَرَة الحمصيّ، ثقة [2] 1/ 188.
6 -
(عوف بن مالك) الأشجعيّ، أبو حمّاد، ويقال: غير ذلك الصحابيّ المشهور، من مسلمة الفتح، وسكن دمشق، ومات سنة (73) تقدمت ترجمته في -50/ 62 - واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات.
(ومنها): أن شيخه هو أحد مشايخ الستة الذين رووا عنهم بلا واسطة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ) الأشجعيّ، - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي من بيته إلى المسجد. ولفظ أبي داود: "دخل علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسجد
…
" (وَبيَدِهِ عَصًا) جملة اسمية في محلّ نصب على الحال من الفاعل (وَقَدْ عَلَّقَ رَجُلٌ) جملة فعليةَ في محلّ نصب على الحال أيضًا عطف على الحال الأولى (قِنْوَ حَشَفٍ) بالنصب مفعول "علّق"، والإضافة بمعنى "من". وفي نسخة: قَناَ حَشَفٍ" بالإضافة أيضا. ولفظ أبي داود: وقد علّق رجلٌ منّا قنًا حَشَفًا".
و"القِنْو" -بالكسر، والضمّ- و"القِنَا " -بالكسر، والفتح، مقصورًا-: الْكِبَاسة، والجمع أقناء، وقِنْوَان، وقِنْيَان، قُلبت الواو ياء. أفاده في "اللسان".
وقال في "المصباح": و"القِنْو" -بالكسر- وزان حِمْل: الْكِبَاسَة
(1)
، هذه لغة الحجاز، وبالضمّ في لغة قيس، والجمع قِنْوَان -بالكسر، فيمن كَسَرَ الواحد، وبالضمّ، فيمن ضمّ الواحد، ومثله فى الجمع صِنْوَانٌ جمع صِنْوٍ، وهو فَرْخُ الشّجَرة، ورِئْدٌ ورِئْدَان، وهو التِّرْبُ، وحُشٌّ، وحُشّان، ولفظ المثنّى في الرفع، والوقف كلفظ المجموع في الوقف انتهى.
و"الْحَشَفُ" -بفتح الحاء المهملة، والشين المعجمة-: أردءُ التمر، وهو الذي يَجِفُّ من غير نُضْجٍ، ولا إدراكٍ، فلا يكون له لحم، الواحدة حَشَفَة، وأحشفت النخلة بالألف: صارَت ذات حَشَفٍ. قاله في "المصباح".
وإنما علّق الرجل ذلك الحَشَفَ المذكور؛ لأنهم كانوا يعلّقون القِنْوَ في المسجد؛ ليأكل منه من يحتاج إليه، من فقراء المهاجرين، كما تقدّم في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما.
(فَجَعَلَ يَطْعَنُ) قال في "القاموس": طَعَنَه بالرمح، كمنعَهُ، ونَصَرَه طَعْنًا: ضربه، ووَخَزَه، فهو مطعونٌ، وطَعِينٌ انتهى (فِي ذَلِكَ الْقِنْوِ) يعني أنه صلى الله عليه وسلم شَرَعَ يطعُن بعصاه في ذلك القنو المعلّق؛ إشارةً إلى حَقَارة ذلك القنو المعلّق، وأنّ صاحبه لم يؤدّ ما طُلِب منه على الوجه الأكمل (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ، تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْ هَذَا) يعني لو كان صاحب هذه الصدقة مريدًا من اللَّه تعالى الثواب العظيم الذي وعده اللَّه تعالى لمن تصدّق لتصدّق بغير هذا الْحَشَف، من أطيب ما لديه من خيار المال (إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ، يَأْكُلُ حَشَفًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ") يعني يُجازى على فعله السيّء هذا، بأن يكون أكله
(1)
- الْكِبَاسة -بالكسر-: عنقود النخل، والجمع كبائس. اهـ المصباح.
يوم القيامة من الحشَفِ.
وقال السنديّ في "شرحه": "يأكل حَشَفًا" أي جزاء حَشَف، فسمّي الجزاء باسم الأصل. ويحتمل أن يُجعل الجزاء من جنس الأصل، ويخلق اللَّه تعالى في هذا الرجل اشتهاء الْحَشَف، فيأكله، فلا ينافي ذلك قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} الآية [فصلت: 31]. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الصواب عندي هو الاحتمال الثاني؛ لأنه لا مانع من حمله على ظاهره، فلا يُعدل عنه إلى المجاز. واللَّه تعالى أعلم.
وزاد في رواية أحمد من طريق أبي بكر الحنفيّ، عن عبد الحميد بن جعفر: قال: ثم أقبل علينا، فقال:"أما واللَّه، يا أهل المدينة، لَتَدَعُنَّها أربعين عاما للعَوَافي"، قال: فقلت: اللَّه أعلم، قال: -يعني الطير، والسباع- قال: وكنا نقول: إن هذا لَلَّذِي تسميه العجم هي الكَرَاكِي انتهى.
والحديث دليل على ذمّ إخراج الرديء في الزكاة، وتقدّم بيانه في الحديث السابق.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عوف بن مالك رضي الله عنه هذا حسن.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -27/ 2493 - وفي "الكبرى" 28/ 2272. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1608 (ق) في "الزكاة" 1821 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23456. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
28 - (بَابُ الْمَعْدِنِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "المعدن" -بفتح الميم، وكسر الدال- كمَجلِسٍ: مَنْبِتُ الجواهر، من ذهب ونحوه، سمّي به لإقامة أهله فيه دائمًا، أو لإنبات اللَّه تعالى
(1)
- "شرح السنديّ" ج 5 ص 44.
إياه فيه، ومكان كلّ شيء فيه أصله. أفاده في "القاموس".
وفي "المصباح": عَدَنَ بالمكان عَدْنًا، وعُدُونًا، من بابي ضرب، وقَعَد: أقام، ومنه:{جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي جنّات إقامة، واسم المكان مَعْدِنٌ، مثالُ مَجْلِسٍ؛ لأن أهله يُقيمون عليه الصيف والشتاء، أو لأن الجوهر الذي خلقه اللَّه فيه عَدَنَ به. قال في "مختصر العين": مَعْدِنُ كلّ شيء حيث يكون أصله. وعَدَنت الإبل تَعْدِنُ، وتَعْدُنُ: أقامت ترعى الْحَمْضَ، وعَدَن -بفتحتين: بلدٌ باليمن، مشتقّ من ذلك، وأُضيف إلى بانيه، فقيل: عدنُ أبين انتهى.
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2494 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الأَخْنَسِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ: «مَا كَانَ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ، فَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلاَّ فَلَكَ، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ، وَلَا فِي قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ، فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقة الثبت [10] 1/ 1.
2 -
(أبو عوانة) الوَضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطي، الثقة الثبت [7] 41/ 46.
3 -
(عُبيد اللَّه بن الأخنس) أبو مالك الْخَرّاز النخعيّ، صدوق يخطىء [7] 32/ 1686.
4 -
(عمرو بن شعيب) المدني، أو الطائفي، صدوق [5] 105/ 140.
5 -
(أبوه) شعيب بن محمد بن عبد اللَّه الطائي، صدوق [3] 1105/ 140.
6 -
(جده) عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - 89/ 111. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم موثقون. (ومنها): أن فيه رواية الراوي، عن أبيه، عن جده، وتابعي، عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبِ، عَنْ أَبِيهِ) شُعيب بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو (عَنْ جَدِّهِ)
(1)
- "المصباح المنير" في مادّة عدن.
عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ اللُّقَطَةِ؟) أي عن حكم الشيء الذي يُلْتَقَط. قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: لَقَطْتُ الشيءَ لَقْطًا، من باب قَتَلَ: أخذته، وأصله الأخذ من حيث لا يُحسّ، فهو مَلْقُوطٌ، ولَقِيطٌ، فَعِيلٌ بمعنى مفعولٍ، والتقطته كذلك، ومن هنا قيل: لقطتُ أصابعه: إذا أخذتها بالقطع، دون الكفّ، والتقطت الشيءَ: جمعتُهُ، ولَقَطتُ العلمَ من الكُتُب لَقْطًا: أخذتُهُ من هذا الكتاب، ومن هذا الكتاب، وقد غلب اللقيط على المولود المنبوذ، واللُّقَاطة - بالضمّ-: ما التقطتَ من مال ضائع، واللُّقَاط بحذف الهاء، واللُّقَطةُ وزان رُطبة كذلك. قال الأزهريّ: اللُّقَطَةُ -بفتح القاف-: اسم الشيء الذي تجَده مُلْقًى، فتأخذه. قال: وهذا قول جميع أهل اللغة، وحُذّاق النحويين. وقال الليث: هي بالسكون، ولم أسمعه لغيره. واقتصر ابن فارسٍ، والفارابيّ، وجماعةٌ على الفتح، ومنهم من يَعُدّ السكون من لَحْن العوامّ.
ووجه ذلك أن الأصل لُقَاطةٌ، فثقُلَت عليهم؛ لكثرة ما يلتقطون في النهب، والغارات، وغير ذلك، فتلعّبت بها ألسنتهم؛ اهتمامًا بالتخفيف، فحذفوا الهاء مرّةً، وقالوا:"لُقَاط"، والألفَ أُخرى، وقالوا:"لُقَطَة"، فلو أُسكن اجتمع على الكلمة إعلالان، وهو مفقود في فصيح الكلام، وهذا، وإن لم يذكروه، فإنه لا خفاء به عند التأمّل؛ لأنهم فسَّروا الثلاثة بتفسير واحد. انتهى كلام الفيّوميّ
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فظهر بما تقدّم أن "الُّلقَطَةَ" بفتح القاف أفصح من سكونها، بل جعله بعضهم من لحن العوامّ. واللَّه تعالى أعلم.
وهذا الحديث مختصرٌ، وقد ساقه أبو داود في "سننه" مطوّلاً، فقال:
1710 -
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عن الثمر المعلق؟، فقال:"من أصاب بفيه، من ذي حاجة، غير متخذ خُبْنَة، فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه، فعليه غرامة مثليه، والعقوبة، ومن سرق منه شيئا، بعد أن يُؤويه الْجَرِين، فبلغ ثمن الْمِجَنِّ، فعليه القطع، وذكر في ضالة الإبل والغنم، كما ذكره غيره، قال: وسئل عن اللقطة؟، فقال: "ما كان منها في طريق الْمِيتَاء، أو القرية الجامعة، فعَرِّفها سنة، فإن جاء طالبها، فادفعها إليه، وإن لم يأت، فهي لك، وما كان في الخراب -يعني ففيها، وفي الركاز الخمس". انتهى.
(1)
- "المصباح المنير".
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا كَانَ فِي طَرِيقِ مَأْتِيِّ) اسم مفعول، من أتى، وأصله مَأتُويٌ، اجتمعت الواو، والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأُدغمت في الياء، فصار مَأْتِيَّا، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاو وَيَا
…
وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا
فَيَاء الْوَاوَ اقْلِبَنْ مُدْغِمَا
…
وَشَذَّ مُعْطًى غَيْرَ مَا قَدْ رُسِمَا
ومعنى "مأتيّ": أي طريق مسلوك، يسلكه الناس كثيرًا، ولفظ أبي داود:"في طريق الميتاء" -بكسر الميم، مِفعالٌ، من الإتيان، والميم زائدة، وبابه الهمزة، أي طريقة مسلوكة، يأتيها الناس. قاله الخطّابيّ، وابن الأثير (أَوْ فِي قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ) يقال: عَمَرَ المنزلُ بأهله عَمْرًا، من باب قَتَلَ، فهو عامر، وعَمَرَه أهلُهُ: سَكَنوه، وأقاموا به، يتعدّى، ولا يتعدّى. قاله في "المصباح". والمناسب هنا هو اللازم. ولفظ أبي داود:"أو القرية الجامعة"(فَعَرِّفهَا) أمرٌ من التعريف، وهو أن يُنادِي في الموضع الذي لقيها فيه، وفي الأسواق، وأبواب المساجد، فيقول: من ضاع له شيء، فليأتني (سَنَةً) منصوب على الظرفيّة، متعلّق بما قبله.
وفيه أنّ تعريف اللقطة يكون سنة واحدة فقط، ويعارضه حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه، عند الشيخين، حيث إنّ فيه أن التعريف ثلاث سنين، وسيأتي الجمع بينهما في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.
(فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا) في خلال مدّة التعريف، فأدها إليه، فجواب الشرط محذوف؛ لدلالة السياق عليه. ولفظ أبي داود:"فإن جاء طالبها، فادفها إليه"(وِإلاَّ) هي "إن" الشرطيّة، و"لا" النافية، وفعل الشرط مقدّر بدلالة ما قبله عليه، أي وإن لم يجىء صاحبها، وجواب الشرط قوله (فَلَكَ) بتقدير مبتدإ، أي فهي لك. ولفظ أبي داود:"وإن لم يات، فهي لك".
وذكر الحافظ السيوطيّ، عن ابن مالك -رحمهما اللَّه تعالى- أن في هذا الكلام حذفَ جواب الشرط، وحذفَ فعلِ الشرط بعد "إلا"، والمبتدإ من جملة الجواب الاسميّة، والتقدَير: فإن جاء صاحبها أخذها، وإن لا يجىء، فهي لك انتهى
(1)
.
ومعنى "فهي لك" أي فهي مباحة الاستعمال لك، فيجوز أن تصرفها إلى ما تصرف فيه مال نفسك، فالمراد جواز التصرّف فيها، ولا يلزم من ذلك أنه مَلَكَها، بل هي على ملك صاحبها، بدليل أنه لو جاء صاحبها بعد ذلك لزمه أداء بدلها، لحديث زيد بن خالد
(1)
- "زهر الربى" ج 5 ص 44.
الجهنّي رضي الله عنه المتّفق عليه:، قال: عرّفها سنةً، ثمّ اعرف وكاءها، وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربّها فأدّها إليه
…
" الحديث. فقد صرّح بالردّ إلى صاحبها بعد التصرّف فيها.
وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: وظاهر الحديث أنه يملكها الواجد مطلقًا. وقد يقال: لعلّ السائل كان فقيرًا، فأجابه على حسَبِ حاله، فلا يدلّ أنّ الغنّي يملك. وفيه أنه كم من فقير يصير غنيًّا، فالإطلاق في الجوَاب لا يحسن إلا عند إطلاق الحكم. فليُتَأَمَّلْ انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما دلّ عليه ظاهر الحديث هو الصواب، لكن بمعنى أنه يملك التصرّف فيها، لا أنه يزول ملك مالكها بالكلّيّة، وإن قال به بعضهم. وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة السادسة، إن شاء اللَّه تعالى.
(وَمَا) موصولة، أي والذي (لَمْ يَكُنْ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ) أي مسلوك (وَلَا فِي قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ) ولفظ أبي داود:"وما كان في الْخَرَاب".
قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يريد الخراب العاديّ الذي لا يُعرف له مالك، وسبيلُهُ سبيلُ الركاز، وفيه الخمس، وسائر المال لواجده، فأما الخراب الذي كان عامرًا، مِلْكًا لمالك، ثم خرب، فإن المال الموجود فيه ملك لصاحب الخراب، ليس لواجده منه شيء، وإن لم يُعرَف صاحبه، فهو لقطة انتهى (فَفِيهِ) أي في الذي لم يكن في الطريق المأتيّ (وَفِي الرِّكَازِ) -بكسر الراء، وتخفيف الكاف، وآخره زايٌ-: المال المدفون في الجاهليّة، فِعَالٌ بمعنى مفعولٍ، كالبساط بمعنى المبسوط، والكتاب بمعنى المكتوب، وهو مأخوذ من الرِّكْز -بفتح الراء- يقال: رَكَزَ الرمحَ رَكْزًا، من باب قتل: أثبته في الأرض، فارتكز، والْمَرْكِزُ وزان مسجد: موضع الثبوت. أي كنوز الجاهليّة المدفونة في الأرض. أفاده في "المصباح".
وقال في "الصحاح": دَفِين أهل الجاهلية، كأنه رُكز في الأرض، أي غُرِز. وقال في "المحكم": قِطَعُ ذهب وفضّة، تُخرَج من الأرض، أو المعدن. وقال في "المشارق": وهو عند أهل الحجاز من الفقهاء، واللغويين الكنوز، وعند أهل العراق المعادن؛ لأنها رُكزت في الأرض، أي ثَبَتت.
وقال الإمام الهرويّ في "غريبه": اختَلَف أهل العراق، وأهل الحجاز في تفسير الركاز، قال أهل العراق: هو المعادن، وقال أهل الحجاز: هو كنوز أهل الجاهليّة،
(1)
- "شرح السنديّ" ج 5 ص 44.
وكلّ محتمل في اللغة انتهى.
وقال في "النهاية": الركاز عند أهل الحجاز كنوز الجاهليّة المدفونة في الأرض، وعند أهل العراق المعادن، والقولان تحتملهما اللغة؛ لأن كلا منهما مركوز في الأرض، أي ثابت، يقال: ركزه يَرْكُزُه رَكْزًا: إذا دفنه، والحديث إنما جاء في التفسير الأول، وهو الكنز الجاهليّ، وإنما كان فيه الخمس؛ لكثرة نفعه، وسهولة أخذه انتهى.
وقال ابن العربيّ: حقيقة الركز الإثبات، والمعدن ثابت خلقةً، وما يُدفن ثابتٌ بتكلّف مُتَكَلِّف.
وقال الحافظ وليّ الدين: هذا الحديث -يعني حديث أبي هريرة الآتي- يدلّ على إرادة دَفِين الجاهليّة أيضًا؛ لكونه صلى الله عليه وسلم عطف الركاز على المعدن، وفرق بينهما، وجعل لكلّ منهما حكمًا، ولو كانا بمعنى واحد لجمع بينهما، وقال: والمعدن جُبار، وفيه الخمس، وقال: والركاز جبار، وفيه الخمس، فلما فرق بينهما دلّ على تغايرهما. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن جمهور أهل العلم على أن الركاز هو دِفنُ
(2)
الجاهليّة، وفيه الخمس، وأما المعدن ففيه الزكاة إذا بلغ نصابًا، وسيأتي البحث عنه في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي، إن شاء اللَّه تعالى.
وقوله (الْخُمْسُ) مبتدأ مؤخّر، خبره الجارّ والمجرور قبله. أي الخمس واجب في الموجود في القرية الغير العامرة، وفي الكنوز التي دفنها أهل الجاهليّة، وإنما وجب الخمس فيهما لكثرة نفعهما، وسُهولة أخذهما.
قال الإمام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: والأصل في صدقة الركاز ما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"العجماء جُبَارٌ، وفي الركاز الخمس". متّفقٌ عليه. يعني الحديث الآتي.
وهو أيضًا مجمع عليه. قال ابن المنذر: لا نعلم أحدًا خالف هذا الحديث، إلا الحسن، فإنه فرق بين ما يوجد في أرض الحرب، وأرض العرب، فقال: فيما يوجد في أرض الحرب الخمس، وفيما يوجد في أرض العرب الزكاة، وأو جب الخمس في الجميع الزهريّ، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأبو ثور، وابن المنذر، وغيرهم. انتهى
(3)
. وسيأتي تمام البحث في الركاز في المسألة السابعة، إن شاء اللَّه
(1)
- "طرح التثريب" ج 4 ص 20 - 21.
(2)
- "الدِّفْنُ" -بكسر، فسكون-: بمعنى المدفون، وأما الدِّفْن -بفتح، فسكون- فمصدر، ولا يناسب هنا.
(3)
- "المغني" ج 5 ص 231 - 232.
تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما هذا صحيح، وقد تابع عُبَيدَ اللَّه بنَ الأخنس محمدُ ابنُ عجلان، والوليد بن كثير، ومحمد بن إسحاق، كلهم عن عمرو بن شعيب به، أخرج أحاديثهم أبو داود في "سننه" في "كتاب اللقطة". واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-28/ 2493 - وفي "الكبرى" 30/ 2273. وأخرجه (د) في "اللقطة" 1710. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): بيان حكم اللقطة، وأنه مُختَلِفٌ، فمنها ما يجب تعريفه، وهو ما وُجد في الطريق المسلوك، والقرية الجامعة، ومنها ما لا يجب، وهو ما كان في موات الأرض التي لم يسكنها مسلم قطّ (ومنها): أن تعريف اللقطة سنةً كاملةً واجبٌ (ومنها): أن الملتقط يملك التصرّف باللقطة بعد التعريف المشروع (ومنها): أنه يجب الخمس فيما وجد من اللقطة في الخراب العاديّ الذي لم يسكنه المسلمون (ومنها): وجوب الخمس في الركاز، وهو دِفْنُ الجاهليّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): هذا الحديث يدلّ على أن اللقطة تُعَرَّف سنة واحدةً فقط، لكن يعارضه ما أخرجه الشيخان، وغيرهما من حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يعرّفها ثلاثة أعوام، ولفظ البخاريّ من طريق شعبة، عن سَلَمة بن كُهيل، عن سُوَيد ابن غَفَلَة، قال: لقيت أُبي بن كعب، رضي الله عنه، فقال: أخذت صُرَّة، فيها مائةُ دينار، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"عَرِّفْها حَوْلاً"، فعرّفتها حولا، فلم أجد من يَعرِفها، ثم أتيته، فقال:"عرّفها حولا"، فعرفتها، فلم أجد، ثم أتيته ثلاثا، فقال:"احفظ وعاءها، وعددها، ووكاءها، فإن جاء صاحبها، وإلا فاستمتع بها"، فاستمتعت، فلقيته بعدُ بمكة، فقال: لا أدري ثلاثة أحوال، أو حولا واحدا
(1)
. انتهى.
(والجواب): أن التعريف سنةً واحدة هو الأرجح، لأن سلمة بن كُهيل شكّ في التعريف ثلاثة أعوام، بدليل أن شعبة قال: فلقيته بعدُ بمكة، فقال: لا أدري ثلاثة
(1)
- والقائل: لا أدري هو سلمة بن كهيل.
أحوال، أو حولا واحدًا، بخلاف رواية، "عَرِّفها سنة" فقد صحّت في حديث عبد اللَّه بن عمرو المذكور في الباب، وفي حديث زيد بن خالد الجهنيّ عند الشيخين، وغيرهما، لم يَختلف الرواة فيها، فوجب تقديمها.
وجزم ابن حزم، وابن الجوزيّ بأن هذه الزيادة غَلَطٌ، والذي يظهر أن سلمة أخطأ فيها، ثم تثبّت، واستذكر، واستمرّ على عام واحد، ولا يؤخذ إلا بما لم يشكّ فيه راويه.
ومن العلماء من حمل حديث أُبيّ بن كعب على مزيد الوَرَع عن التصرّف في اللقطة، والمبالغة في التعفّف عنها، وحديثَ عبد اللَّه وزيد على ما لا بدّ منه، أو لاحتياج الأعرابيّ في حديث زيد، واستغناء أُبيّ. والوجه الأول أولى.
قال المنذريّ لم يقل أحد من أئمّة الفتوى أن اللقطة تُعرَّف ثلاثة أعوام، إلا شيء جاء عن عمر انتهى. وقد حكاه الماورديّ عن شواذّ من الفقهاء. وحكى ابن المنذر عن عمر أربعة أقوال: يُعرّفها ثلاثة أحوال، عامًا واحدًا، ثلاثة أشهر، ثلاثة أيام. ويُحمَل ذلك على عظم اللقطة، وحقارتها. وزاد ابن حزم عن عمر قولاً خامسًا، وهو أربعة أشهر.
والحاصل أن التعريف سنة واحدة هو الحقّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): اختُلف في وجوب دفع اللقطة إذا جاء صاحبها، وذَكَرَ علامتها:
ذهب مالك، وأحمد -رحمهما اللَّه تعالى- إلى وجوب الدفع، وقال أبو حنيفة، والشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إن وقع في نفسه صدقه جاز أن يدفع إليه، ولا يُجبر على ذلك إلا ببيّنة؛ لأنه قد يُصيب الصفة.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي مذهب الأوَّلَين هو الأرجح؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن جاء صاحبها، وإلا فلك"، وعند البخاريّ في حديث زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه:"فإن جاء صاحبها، وإلا فاستمتع بها"، ولمسلم في حديثه أيضًا:"فإن جاء أحدٌ يُخبرك بعددها، ووعائها، ووكائها، فأعطها إيّاه" انتهى.
فقد أمر صلى الله عليه وسلم بالدفع لمن أصاب العلامة، ولم يشترط بينة، والأَمرُ للوجوب، فالحقّ وجوب الدفع بغير بيّنة، إذا أصاب الوصف. واللَّه تعالى أعلم.
وقد ادّعى أبو داود -رحمه اللَّه تعالى- في "سننه" أن حمّاد بن سلمة زاد: "إن جاء صاحبها، فعَرَفَ عِفَاصها، ووِكَاءها، فادفها إليه" قال: وهي زيادة ليست بمحفوظة.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الدعوى غير صحيحة، فإن حمّاد بن سلمة لم ينفرد بها، بل تابعه سفيان الثوريّ، وزيد بن أبي أُنيسة، عند مسلم في "صحيحه"،
فليست شاذّة، بل هي زيادة صحيحة، يجب قبولها، والعمل بها.
قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إن صحّت هذه اللفظة لم يجز مخالفتها، وهي فائدةُ قولِهِ:"اعرف عفاصها الخ"، وإلا فالاحتياط مع من لم ير الرّدّ إلا بالبيّنة. قال: وُيتَأوّل قوله: "اعرف عفاصها" على أنه أمره بذلك لئلا تختلط بماله. أو لتكون الدعوى فيها معلومة.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: قد صحّت هذه الزيادة، فتعيّن المصير إليها. قال: وما اعتلّ به بعضهم من أنه إذا وصفها، فأصاب، فدفعها إليه، فجاء شخصٌ آخر، فوصفها، فأصاب، لا يقتضي الطعن في الزيادة، فإنه يصير الحكم حينئذ كما لو دفعها إليه بالبيّنة، فجاء آخر، فأقام بيّنة أخرى أنها له، وفي ذلك تفاصيل للمالكيّة وغيرهم.
وقال بعض متأخري الشافعيّة: يمكن أن يحمل وجوب الدفع لمن أصاب الوصف على ما إذا كان ذلك قبل التملّك؛ لأنه حينئذ مال ضائعٌ، لم يتعلّق به حقّ ثان، بخلاف ما بعد التملّك، فإنه حينئذ يحتاج المدّعي إلى البيّنة؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"البيّنة على المدّعِي". ثم قال: أما إذا صحّت الزيادة فَتُخَصُّ صورة الملتقط من عموم "البيّنة على المدّعِي". انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد عرفت أن هذه الزياة قد صحت، فالحقّ وجوب الدفع لمن أصاب وصفها بدون بيّنة، مطلقًا، سواء كان بعد التملّك، أو قبلها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فهي لك" أن اللقطة للملتقط بعد تعريفها سنةٌ، وهل يملك التصرّف فقط، أو تكون ملكا له كسائر أمواله، بحيث إنه إن جاء صاحبها لا يُضَمِّنُهُ، قولان:
والأول قول الجمهور، وهو الحقّ، لصحّة قوله صلى الله عليه وسلم بعد أمره بالاستنفاق بها:"فإن جاء صاحبها، فأدِّها إليه".
قال في "الفتح": واختلف العلماء فيما إذا تصرّف في اللقطة بعد تعريفها سنة، ثم جاء صاحبها، هل يضمنها، أم لا؟:
فالجمهور على وجوب الرّدّ، إن كانت العين موجودة، أو البدلِ، إن كانت استُهلِكت.
وخالف في ذلك الكرابيسيّ، صاحب الشافعيّ، ووافقه صاحباه البخاريّ، وداود بن
(1)
- راجع "الفتح" ج 5 ص 362 "كتاب اللقطة".
عليّ إمام الظاهرية، لكن وافق داود الجمهور إذا كانت العين قائمة.
ومن حجة الجمهور قوله في حديث زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه عند مسلم من طريق بُسْر بن سعيد، عن زيد بن خالد:"فاعرف عفاصها، ووكاءها، ثمّ كُلْها، فإن جاء صاحبها، فأدّها إليه"، وفي رواية له من طريق يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد:"ثم عرّفها سنةً، فإن لم تُعرَف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر، فأدّها إليه".
فإن ظاهر قوله: "فإن جاء صاحبها الخ" بعد قوله: "كُلْها" يقتضي وجوب ردّها بعد أكلها، فيُحملُ على ردّ البدل.
ويحتمل أن يكون في الكلام حذفٌ يدلّ عليه بقيّة الروايات، والتقدير: فاعرف عفاصها، ووكاءها، ثم كُلْها، إن لم يجىء صاحبها، فإن جاء صاحبها، فأدّها إليه.
وأصرح من ذلك رواية أبي داود من هذا الوجه بلفظ: "فإن جاء باغيها فأدّها إليه، وإلا فاعرف عفاصها، ووكاءها، ثم كُلْها، فإن جاء باغيها، فأدّها إليه". فأمره بأدائها إليه قبل الإذن في أكلها وبعده، وهي أقوى حجة للجمهور.
وروى أبو داود أيضًا من طريق عبد اللَّه بن يزيد مولى المنبعث، عن أبيه، عن زيد بن خالد في هذا الحديث:"فإن جاء صاحبها دفعتها إليه، وإلا عرفت وكاءها، وعفاصها، ثم اقبضها في مالك، فإن جاء صاحبها، فادفعها إليه".
وإذا تقرّر هذا أمكن حمل قول البخاريّ: "باب إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة، فهي لمن وجدها" أي في إباحة التصرّف فيها حينئذ، وأما أمر ضمانها بعد ذلك، فهو ساكت عنه. أي فيكون موافقًا للجمهور.
وقال النوويّ: إن جاء صاحبها قبل أن يتملّكها الملتقط أخذها بزوائدها المتّصلة، والمنفصلة، وأما بعد التملّك، فإن لم يجىء صاحبها فهي لمن وجدها، ولا مطالبة عليه في الآخرة، وإن جاء صاحبها، فإن كانت موجودة بعينها استحقّها بزوائدها المتّصلة، ومهما تلف منها لزم الملتقط غرامته للمالك، وهو قول الجمهور. وقال بعض السلف: لا يلزمه، وهو ظاهر اختيار البخاريّ. واللَّه أعلم انتهى ما في "الفتح" ببعض تصرّف
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور، من وجوب أداء بدلها لصاحبها، إن جاء بعد إنفاق الملتقط إياها على نفسه هو الحقّ؛ لظهور دليله، كما
(1)
- "فتح" ج 5 ص 369 - 370.
عرفت. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): فيما يتعلّق بالركاز، وفيها مباحث:
(الأول): أن الركاز الذي يتعلّق به وجوب الخمس هو ما كان من دِفْن الجاهليّة، هذا قول الحسن، والشعبيّ، ومالك، والشافعيّ، وأبي ثور، ويعتبر ذلك بأن تُرى عليه علاماتهم، كأسماء ملوكهم، وصُوَرهم، وصُلُبهم، وصور أصنامهم، ونحو ذلك، فإن كان عليه علامات الإسلام، أو اسم النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو أحدٌ من خلفاء المسلمين، أو وَالٍ لهم، أو آية من القرآن، ونحو ذلك، فهو لقطة؛ لأنه ملك مسلم، لم يُعلَم زواله عنه، وإن كان على بعضه علامة الإسلام، وعلى بعضه علامة الكفر، فكذلك. كما نَصّ عليه أحمد في رواية عنه؛ لأن الظاهر أنه صار إلى مسلم، ولم يُعلم زواله عن ملك المسلمين، فأشبه ما على جميعه علامة المسلمين. ذكره ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم.
(الثاني): الكلام في موضع الركاز: وذلك أن موضعه لا يخلو من أربعة أقسام:
(أحدها): أن يجده في موات، أو ما لا يُعلم له مالك، مثل الأرض التي يوجد فيها آثار المُلْكِ، كالأبنية القديمة، والتُّلُول، وجُدْران الجاهليّة، وقبورهم. فهذا فيه الخمس بغير خلاف، سوى ما سبق عن الحسن.
(ثانيها): أن يجده في ملكه المنتَقِلِ إليه، فهو له في إحدى الروايتين عن أحمد، لأنه مال كافر مظهورٌ عليه في الإسلام، فكان لمن ظهر عليه كالغنائم. والرواية الثانية أنه للمالك قبله، إن اعترف به، وإن لم يعترف به فللذي قبله، إلى أول مالك، وهو مذهب الشافعيّ؛ لأن يده كانت على الدار، فكانت على ما فيها.
(ثالثها): أن يجده في ملك آدميّ مسلم معصوم، أو ذميّ. فعن أحمد ما يدلّ على أنه لصاحب الدار، وهو قول أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن. ونُقل عن أحمد ما يدلّ على أنه لواجده، وهو قول الحسن بن صالح، وأبي ثور، واستحسنه أبو يوسف. وقال الشافعيّ: هو لمالك الدار، إن اعترف به، وإلا فلأول مالك؛ لأنه في يده.
(رابعها): أن يجده في أرض الحرب، فإن لم يقدر عليه إلا بجماعة من المسلمين، فهو غنيمة لهم، وإن قدر عليه بنفسه، فهو لواجده، وهذا مذهب أحمد؛ لأنه ليس لموضعه مالك محترم، فأشبه ما لو لم يُعرَف مالكه. وقال أبو حنيفة، والشافعيّ: إن عُرف مالك الأرض، وكان حربيًّا، فهو غنيمة أيضًا؛ لأنه في حرز مالك معيّن، فأشبه ما لو أخذه من بيت، أو خزانة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(الثالث): في صفة الركاز الذي فيه الخمس:
هو كلّ ما كان مالاً على اختلاف أنواعه، من الذهب، والفضّة، والحديد، والرصاص، والصفر، والنحاس، والآنية، وغير ذلك. وهو قول إسحاق، وأبي عُبيد، وابن المنذر، وأصحاب الرأي، وإحدى الروايتين عن مالك، وأحد قولي الشافعيّ، والقول الآخر: لا تجب إلا في الأثمان.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الجمهور هو الأرجح؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(الرابع): في حكم الخمس المتعلّق به:
(اعلم): أنه يخمس قليل الركاز، وكثيره. وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وهو قول قديم للشافعيّ، ومن أصحابه من لم يُثبته. وحكاه ابن المنذر عن إسحاق، وأبي عبيد، وأصحاب الرأي. وقال الشافعيّ في الجديد: يعتبر فيه النصاب، فلا تجب الزكاة فيما دونه، إلا إذا كان في ملكه ما يكمله من جنس النقود الموجود. قال ابن المنذر القول الأول أولى بظاهر الحديث، وبه قال جلّ أهل العلم
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله ابن المنذر حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(الخامس): في قدر الواجب في الركاز، ومصرفه:
أما قدره فهو الخمس؛ للحديث السابق، وللإجماع، وأما مصرفه، فقيل: هم مصارف الزكاة، وبه قال أحمد، والشافعيّ. وقيل: مصرفه مصرف الفيء، وهي رواية عن أحمد، قال ابن قُدامة: وهذه الرواية أصحّ، وأقيس على مذهبه.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وهو الذي يترجّح عندي؛ لإطلاق اسم الخمس عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(السادس): فيمن يجب عليه الخمس:
هو كلّ من وجده من مسلم، وذميّ، وحرّ، وعبد، ومكاتب، وكبير، وصغير، وعاقل، ومجنون. وهو قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع كلّ من نحفظ عنه العلم على أنّ على الذميّ في الركاز يجده الخمسَ.
قاله مالكٌ، وأهل المدينه، والثوريّ، والأوزاعيّ، وأهل العراق، من أصحاب الرأي، وغيرهم. وقال الشافعيّ: لا يجب الخمس إلا على من تجب عليه الزكاة؛ لأنه زكاة. وحُكي عنه في الصبيّ، والمرأة أنهما لا يملكان الركاز. وقال الثوريّ،
(1)
- انظر "طرح التثريب" ج 4 ص 23.
والأوزاعيّ، وأبو عبيد: إذا كان الواجد له عبدًا يُرضَخ له منه، ولا يعطاه كلّه
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المذهب الأول هو الأرجح عندي؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس"، فإنه يدلّ بعمومه على وجوب الخمس في كلّ ركاز، وأن باقيه لواجده، أيًّا كان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2495 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
(2)
سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ح وَأَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ» ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الحنظلي المروزيّ ابن راهويه، الثقة الحجة [10] 2/ 2.
2 -
(سفيان) بن عيينة المكي، الثقة الحجة [8] 1/ 1.
3 -
(عبد الرزاق) بن همام الصنعاني الثقة الحافظ [9] 61/ 77.
4 -
(معمر) بن راشد، أبو عروة الصنعاني الثقة الثبت [7] 10/ 10.
5 -
(الزهري) محمد بن مسلم أبو بكر الإمام الحجة [4] 1/ 1.
6 -
(سعيد) بن المسيب الإمام الفقيه الحجة، من كبار [3] 9/ 9.
7 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني الفقيه الحجة [3] 1/ 1.
8 -
(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بالنسبة للسند الأول، ومن سداسياته بالنسبة للثاني. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعيين. (ومنها): أن سعيدًا، وأبا سلمة من الفقهاء السبعة، وأن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
- لخّصت هذه المسألة السابعة من كتاب "المغني" للإمام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى- ج 4 ص 231 - 238 تحقيق د/ عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي، ود/ عبد الفتاح محمد الحلو.
(2)
- وفي نسخة "أنا".
شرح الحديث
(عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ) كذا جمعهما معمر هنا، والليث، عند البخاريّ. قال في "الفتح": كذا جمعهما الليث، ووافقه الأكثر، واقتصر بعضهم على أبي سلمة، وللبخاريّ في "الزكاة" من رواية مالك، عن ابن شهاب، فقال:"عن سعيد بن المسيّب، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن". وهذا قد يُظنّ أنه عن سعيد مرسلٌ، وعن أبي سلمة موصول.
وقد أخرجه مسلم، والنسائيّ من رواية يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سعيد ابن المسيّب، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن أبي هريرة.
قال الدارقطنيّ: المحفوظ: عن ابن شهاب، عن سعيد، وأبي سلمة، وليس قول يونس بمدفوع.
قال الحافظ: قد تابعه الأوزاعيّ عن الزهريّ في قوله: "عن عبيد اللَّه"، لكن قال:"عن ابن عباس"، بدل أبي هريرة، وهو وَهَمٌ من الراوي عنه، يوسف بن خالد، كما نبّه عليه ابن عديّ. وقد روى سفيان بن حسين، عن الزهريّ، عن سعيد وحده، عن أبي هريرة شيئًا منه.
وروى بعض الضعفاء عن عبد الرزّاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن أنس بعضه.
ذكره ابن عديّ، وهو غلط. وأخرج مسلم الحديث بتمامه من رواية الأسود بن العلاء، عن العلاء، عن أبي سلمة. وقد رواه عن أبي هريرة جماعة غير من ذكرنا، منهم محمد ابن زياد، عند البخاريّ، وهمّام بن منبّه، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ. انتهى ما في "الفتح" ببعض تصرف
(1)
.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "الْعَجْمَاءُ) -بفتح المهملة، وسكون الجيم، وبالمدّ، تأنيث أعجم، وهي البهيمة، ويقال أيضًا لكلّ حيوان غير الإنسان، ويقال لمن لا يُفصِح، والمراد هنا الأول (جَرْحُهَا) قال صاحب "النهاية": هو هنا بفتح الجيم على المصدر، لا غير. قاله الأزهريّ، فأما الْجُرْح بالضمّ فهو الاسم انتهى
(2)
.
وقال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: يجوز في إعراب هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أن يكون قوله: "جَرْحُها جُبَار" جملةٌ من مبتدإ وخبر، وهي خبر عن المبتدإ الذي هو "العجماءُ". والثاني: أن يكون قوله: "جَرْحُها" بدلاً من "المعجماء"، وهو بدل
(1)
- "فتح" ج 12 ص 265 - 266. طبعة دار الريّان.
(2)
- "النهاية" ج 1 ص 255.
اشتمال، والخبر قوله:"جُبَار"، والكلام جملة واحدة، والمصدر في قوله:"جَرْجها" مضاف للفاعل، أي كون العجماء تجرح غير مضمون انتهى
(1)
.
(جُبَارٌ) -بضمّ الجيم، وتخفيف الموحّدة- هو الْهَدَرُ الذي لا شيء فيه. كذا أسنده ابن وهب، عن ابن شهاب، وعن مالك: ما لا دية فيه. أخرجه، الترمذيّ.
وأصله أن العرب تُسَمِّي السيلَ جُبَارًا، أي لا شيء فيه. وقال الترمذيّ: فسر بعض أهل العلم، قالوا: العجماء الدّابّة المنفلتة من صاحبها، فما أصابت من انفلاتها، فلا غُرم على صاحبها.
وقال أبو داود بعد تخريجه: العجماءُ التي تكون منفلتة، لا يكون معها أحد، وقد تكون بالنهار، ولا تكون بالليل. ووقع عند ابن ماجه في آخر حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه:"والعجماء: البهيمة من الأنعام وغيرها، والْجُبَار: هو الهدر الذي لا يُغرَم". كذا وقع التفسير مدرجًا، وكأنه من رواية موسى بن عُقبة.
قال الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح الترمذيّ": وليس ذكر الجرح قيدًا، وإنما المراد به إتلافها بأيّ وجه، سواء كان بجرح، أو غيره.
وفي رواية البخاريّ من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "العجماء عَقْلُها جُبار
…
" الحديث. والمراد بالعقل الدية، أي لا دية فيما تُتْلِفُه
(2)
.
وذكر ابن العربيّ أن بناء (ج ب ر) للرفع، والإهدار، من باب السلب، وهو كثير في العربية، يأتي اسم الفعل، والفاعل لسلب معناه، كما يأتي لإثبات معناه.
وتعقّبه الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ" بأنه لا حاجة لجعله من السلب، بل هو للرفع على بابه؛ لأن إتلافات الآدميّين مضمونة مقهور مُتْلِفُها على ضمانها، وهذا إتلاف قد ارتفع عن أن يؤخذ به أحد انتهى
(3)
.
(وَالْبئْرُ جُبَارٌ) في رواية الأسود بن العلاء عند مسلم: "والبئر جَرحها جُبار". أما البئر فهي بكَسر الموحّدة، ثم ياء ساكنة، مهموزة، ويجوز تسهيلها، وهي مؤنّثة، وقد تذكّر على معنى القَلِيب، والطُّوَى، والجمع أَبْؤُر، وآبار بالمدّ، والتخفيف، بهمزتين بينهما موحّدة ساكنة.
قال أبو عُبيد: المراد بالبئر هنا العاديّة القديمة التي لا يُعلَم لها مالك، تكون في
(1)
- "طرح التثريب" ج 4 ص 17.
(2)
- "فتح" ج 12 ص 269.
(3)
- راجع "طرح التثريب" ج 4 ص 17.
البادية، فيقع فيها إنسانٌ، أو دابّةٌ، فلا شيء في ذلك على أحد. وكذلك لو حفر بئرًا في ملكه، أو في موات، فوقع فيها إنسانٌ، أو غيره، فَتَلِف، فلا ضمان إذا لم يكن منه تسبّبٌ إلى ذلك، ولا تغرير. وكذا لو استأجر إنسانًا ليحفر له البئر، فانهارت عليه، فلا ضمان، وأما من حفر بئرًا في طريق المسلمين، وكذا في ملك غيره بغير إذنٍ، فتلف بها إنسان، فإنه يجب ضمانه على عاقلة الحافر، والكفّارة في ماله، وإن تَلِفَ بها غير آدميّ وجب ضمانه في مال الحافر، ويلتحق بالبئر كلّ حفرة على التفصيل المذكور. قاله في "الفتح". وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة السادسة، إن شاء اللَّه تعالى.
(وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ) وقع في رواية الأسود بن العلاء عند مسلم: "والمعدن جرحها جُبَار". والحكم فيه ما تقدّم في البئر، لكن البئر مؤنثةٌ، والمعدن مذكّر، فكأنه ذَكَرَهُ بالتأنيث للمؤاخاة، أو لملاحظة أرض المعدن. فلو حفر معدنًا في ملكه، أو في موات، فوقع فيه شخصٌ، فمات، فدمه هدَرٌ، وكذا لو استأجر أجيرًا، يَعمل له، فانهار عليه، فمات، ويلتحق بالبئر، والمعدن في ذلك كلّ أجير على عمل، كمن استؤجر على صعود نخلة، فسقط منها، فمات. قاله في "الفتح".
وقال ابن قُدامة: اشتقاق المعدن، من عَدَن بالمكان يَعدِنُ: إذا أقام به، ومنه سميت الجنّة جنّة عدن؛ لأنها دار إقامة، وخلود. قال أحمد: المعادن: هي التي تُستَنبَط، ليس هو شيء دُفِن. وقال أيضًا: هو كلّ ما خرج من الأرض، مما يُخلق فيها، مما له قيمة، كالذهب، والفضّة، والرصاص، والصفر، والحديد، والياقوت، والزبرجد، والْبِلَّوْر، والعقيق، ونحو ها، وكذلك المعادن الجارية، كالقار، والنفط، والكبريت، ونحو ذلك.
فمن أخرج شيئًا من ذلك فعليه الزكاة من وقته، عند أحمد، وقال مالك، والشافعيّ: لا تتعلّق الزكاة إلا بالذهب والفضّة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في حَجَر".
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه أحمد هو الأرجح عندي؛ لعموم قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الآية. والحديث الذي احتجّ به مالكٌ، والشافعيّ ضعيف، لا يصلح للاحتجاج به؛ لأنه رواه عن عمرو بن شعيب، كلٌّ من عُمَر بن أبي عمر الكَلَاعِيّ، وعثمان بن عبد الرحمن الوقّاصيّ، ومحمد بن عبيد اللَّه العَرْزَميّ، وكلهم ضعفاء.
وأوجب الحنفيّة في المعدن الخمس؛ لأنه عندهم ركاز، والصحيح أن الواجب فيه الزكاة، كما هو قول الجمهور؛ لأن الحديث فرق بينهما، فجعل لكلّ منهما حكما ليس للآخر، فلا يكون أحدهما بمعنى الآخر، كما تقدّم بيان ذلك في شرح الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم.
(وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ) تقدّم الكلام عليه في شرح الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-28/ 2495 و 2496 و 2497 و 2498 - وفي "الكبرى" 30/ 2274 و 2275 و 2276 و 2277. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1499 و"المساقاة" 2355 و"الديات" 2912 و 6913 (م) في "الحدود" 1710 (د) في "الخراج، و"الإمارة، والفيء" 3085 و"الديات" 4593 (ت) في "الزكاة" 642 و"الأحكام" 1377 (ق) في "الأحكام" 2509 و"الديات" 2673 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7407 و 7667 و 7769 و 27472 و 8779 و 9013 و 9572 و 27263 و 10044 و 1016 و 10137 و 10209 (مالك) في "الزكاة" 583 و"العقول" 1622 (الدارميّ) في "الزكاة" 1668 و"الديات" 2377 و 2378 و 2379. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): أن ما أتلفته البهائم لا شيء فيه، على تفصيل للعلماء فيه، سيأتي (ومنها): أن من حفر بئرًا في ملكه، أو في محلّ مباح، كالموات، فتلفط إنسان، أو نحوه، فلا ضمان عليه (ومنها): أن من استخرج معدنًا من محلّ يباح له، فتلف بسببه إنسان، أو نحوه فلا ضمان عليه (ومنها): أن من وجد ركازًا وجب عليه أداء خمسه، ثم الباقي له. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): ظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن تكون البهيمة منفردةً، أو معها صاحبها، وبهذا أخذ أهل الظاهر، فلم يُضمِّنوا صاحبها ولو كان معها، إلا إن كان الفعل منسوبًا إليه بأن حملها على ذلك الفعل فيما إذا كان راكبًا، أو قادها حتى أتلفت ما مشت عليه فيما إذا كان قائدًا، أو حملها عليه بضرب، أو نخس، أو زجر فيما إذا كان سائقًا، فإن أتلفت شيئًا برأسها، أو بعَضِّها، أو ذنبها، أو نفحتها بالرجل، أو ضربت بيدها في غير المشي، فليس من فعله، فلا ضمان عليه.
وقال الشافعية: متى كان مع البهيمة شخصٌ، فعليه ضمان ما أتلفته، من نفس، أو مالي، سواء أتلفت ليلاً أو نهارًا، وسواء كان سائقها، أو قائدها، أو راكبها، وسواء كان مالكها، أو أجيره، أو مستأجرًا، أو مستعيرًا، أو غاصبًا، وسواء أتلفت بيدها، أو
برجلها، أو عَضِّها، أو ذنبها.
وقال مالك: القائد، والسائق، والراكب، كلهم ضامنون لما أصابت الدّابّة إلا أن تَرْمَحَ الدابّة
(1)
من غير أن يفعل بها شيء ترمح له. وحكاه ابن عبد البرّ عن جمهور العلماء.
وقال الحنفيّة: إن الراكب، والقائد لا يضمنان ما نفحت الدابّة برجلها، أو ذنبها، إلا إن أوقفها في الطريق، واختلفوا في السائق، فقال القُدُوريّ، وآخرون: إنه ضامن لما أصابت بيدها، أو رجلها؛ لأن النفحة بمرأى عينه، فأمكنه الاحتراز عنها. وقال أكثرهم: لا يضمن النفحة أيضًا، وإن كان يراها؛ إذ ليس على رجلها ما يمنعها به، فلا يمكنه التحرّز عنه، بخلاف الْكَدْم؛ لإمكان كبحِهَا بلجامها. وصححه صاحب "الهداية". وكذا قال الحنابلة: إن الراكب لا يضمن ما تُتلفه البهيمة برجلها.
وحكى ابن حزم نفي الضمان من النفحة عن شُريح القاضي، والحسن البصريّ، وإبراهيم النخعيّ، ومحمد بن سيرين، وعطاء بن أبي رَبَاح، وعن الحَكَم، والشعبيّ: يضمن، لا يبطل دم المسلم.
وتمسّك من نَفَى الضمان من النفحة بعموم هذا الحديث، مع الرواية التي فيها:
"الرِّجْلُ جُبار". لكنه ضعيف لتفرّد سفيان بن حسين، عن الزهريّ، وهو ضعيف في الزهريّ، ولا سيّما مع مخالفته للحفاظ، فقد خالف أبا صالح، السمّان، وعبد الرحمن الأعرج، وابن سيرين، ومحمد بن زياد، وغيرهم، فإنهم لم يذكروا الرِّجْل.
وذكروا أيضًا من حيث المعنى أنه لا اطلاع له على رَمْحِها، ولا قدرة له على دفعه.
ومن أوجب الضمان قال: باب الإتلاف لا فرق فيه بين العمد وغيره، ومن هو مع البهيمة حاكم لها، فهي كالآلة بيده، ففعلها منسوب إليه، حَمَلَها عليه، أم لا، عَلِمَ به، أم لم يعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه الظاهرية أرجح؛ لظهور حديث الباب في الدلالة عليه.
وحاصله أن ما أتلفته البهيمة لا يُضمَن، سواء كان صاحبها معها، أم لا، إلا إذا كان الفعل منسوبًا إليه، بأن حملها على ذلك الفعل بضرب، أو نَخْسٍ، أو زَجْر، أو نحو ذلك، فأما إذا أتلفت شيئًا برأسها، أو بعَضِّها، أو ذنبها، أو نَفْحَتها بالرجل، أو ضربت بيدها في غير المشي، فليس من فعله، فلا ضمان عليه؛ لكونه جُبَارًا بنصّ الشارع.
(1)
- قال في "المصباح": رَمَحَ ذو الحافر رَمْحًا، من باب نَفَعَ: ضرب برجله اهـ.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): استُدِلّ بهذا الحديث على أنه لا فرق في إتلاف البهيمة للزروع، وغيرها من الأموال بين أن يكون ذلك ليلًا أو نهارًا، وهو قول الحنفيّة، والظاهريّة.
وقال الجمهور: إنما يسقط الضمان إذا كان ذلك نهارًا، وأما بالليل، فإن عليه حفظها، فإذا أتلفت بتقصير منه وجب عليه ضمان ما أتلفت.
ودليل هذا التخصيص ما أخرجه الشافعيّ، وأبو داود، والنسائيّ
(1)
، وابن ماجه كلهم من رواية الأوزاعيّ، والنسائيُّ أيضًا، وابن ماجه من رواية عبد اللَّه بن عيسى، والنسائيُّ أيضًا من رواية محمد بن ميسرة، وإسماعيل بن أميّة، كلهم عن الزهريّ، عن حرام بن مُحَيِّصة الأنصاريّ، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: كانت له ناقةٌ ضارية، فدخلت حائطًا، فأفسدت فيه، فقضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل".
وأخرج ابن ماجه أيضًا من رواية الليث، عن الزهريّ، عن ابن محيصة: أن ناقة للبراء، ولم يسمّ حرامًا. وأخرج أبو داود من رواية معمر، عن الزهريّ، فزاد فيه رجلاً، قال:"عن حرام بن محيّصة، عن أبيه". وكذا أخرجه مالكٌ، والشافعيّ عنه، عن الزهريّ، عن حرام بن سَعْد بن محيّصة أن ناقة.
وأخرجه الشافعيّ في رواية المزنيّ، في "المختصر" عنه، عن سفيان، عن الزهريّ، فزاد مع حرام سعيدَ بنَ المسيّب، قالا:"إن ناقة للبراء". وفيه اختلاف آخر أخرجه البيهقيّ من رواية ابن جُريج، عن الزهريّ، عن أبي أمامة بن سهل، فاختُلِفَ فيه على الزهريّ على ألوان، والْمُسنَد منها طريق حرام، عن البراء.
وحرام- بمهملتين- اختُلِف، هل هو ابن محيصة نفسه، أو ابن سَعْد بن محيّصة.
قال ابن حزم: وهو مع ذلك مجهول، لم يرو عنه إلا الزهريّ، ولم يوثَّق.
قال الحافظ: قلت: قد وثّقه ابن سعد، وابن حبّان، لكن قال: إنه لم يسمع من البراء انتهى.
وعلى هذا فيحتمل أن يكون قول من قال فيه: "عن البراء" أي عن قصّة ناقة البراء، فتجتمع الروايات. ولا يمتنع أن يكون للزهريّ فيه ثلاثة أشياخ.
وقد قال ابن عبد البرّ: هذا الحديث، وإن كان مرسلاً، فهو مشهور، حدّث به
(1)
- أي في "السنن الكبرى""كتاب العادية" باب تضمين أهل الماشية ما أفسدت مواشيهم بالليل 3/ 411 رقم 5784.
الثقات، وتلقّاه فقهاء الحجاز بالقبول. وأما إشارة الطحاويّ إلى أنه منسوخ بحديث الباب، فقد تعقّبوه بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، مع الجهل بالتاريخ.
وأقوى من ذلك قول الشافعيّ: أخذنا بحديث البراء لثبوته، ومعرفة رجاله، ولا يخالفه حديث "العجماءُ جرحها جُبَار"؛ لأنه من العامّ المراد به الخاصّ، فلما قال:"العجماء جبار"، وقضى فيما أفسدت العجماء بشيء في حال دون حال دلّ ذلك على أن ما أصابت العجماء من جرح وغيره في حالٍ جُبَار، وفي حال غير جُبار.
ثم نقض على الحنفيّة أنهم لم يستمرّوا على الأخذ بعمومه في تضمين الراكب بحديث "الرِّجْلُ جبار" مع ضعف راوبه، كما تقدّم.
وتَعَقَّب بعضهم على الشافعيّة قولَهُم: إنه لو جرت عادة قوم بإرسال المواشي ليلاً، وحبسها نهارًا انعكس الحكم على الأصحّ.
وأجابوا بأنهم اتبعوا المعنى في ذلك، ونظيره القسم الواجب للمرأة لو كان يكتسب ليلاً، ويأوي إلى أهله نهارًا لانعكس الحكم في حقّه، مع أن عماد القسم بالليل. نعم لو اضطربت العادة في بعض البلاد، فكان بعضهم يرسلها ليلاً، وبعضهم يرسلها نهارًا، فالظاهر أنه يقضى بما دلّ عليه الحديث. ذكره في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح عملاً بالحديثين، وحديث البراء، وإن كان الأصحّ أنه مرسل، إلا أنه اعتضد بتلقّي الناس له بالقبول -كما تقدّم عن الحافظ ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى- فتقوّى بذلك، ألا ترى أن الإمام الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-، مع كونه لا يرى الاحتجاج بالمرسل، احتجّ به لاعتضاده بما ذُكر، فَيُخَصّ به عموم حديث الباب "العجماء جرحها جبار".
والحاصل أن البهائم إذا أفسدت بالليل، فإن أصحابها يضمنون، وإذا أفسدت بالنهار لا يضمنون، لحديث البراء رضي الله عنه المذكور، وهذا الجمع أولى من إلغاء أحد الحديثين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في قوله: "البئر جُبار"، وفي رواية الأسود بن العلاء عند مسلم:"والبئر جرحها جُبار". والمراد بجَرْحها -وهي بفتح الجيم، لا غير، كما نقله في "النهاية"، عن الأزهريّ- ما يحصل بالواقع فيها من الجراحة، وليست الجراحة مخصوصةٌ بذلك، بل كلّ الإتلافات ملحقةٌ بها.
قال عياضٌ، وجماعة: إنما عبّر بالجرح لأنه الأغلب، أو هو مثالٌ نبّه به على ما
(1)
- "فتح" ج 12 ص 269 - 270. طبعة دار الريّان.
عداه، والحكم في جميع الإتلافات بها سواء، أكان على نفس، أو مال؟. ورواية الأكثر تتناول ذلك على بعض الآراء، ولكن الراجح أنّ الذي يحتاج لتقدير، لا عموم فيه.
قال ابن بطّال: وخالف الحنفيّة في ذلك، فضمّنوا حافر البئر مطلقًا، قياسًا على راكب الدّابّة، ولا قياس مع النصّ.
قال ابن العربيّ: اتفقت الروايات المشهورة على التلفّظ بالبئر، وجاءت رواية شاذّة بلفظ:"النار جُبار" -بنون، وألف ساكنة قبل الراء- ومعناه عندهم: أن من استوقد نارًا مما يجوز له، فتعدّت حتى أتلفت شيئًا، فلا ضمان عليه. قال: وقال بعضهم: صحّفها بعضهم؛ لأن أهل اليمن يكتبون النار بالياء، لا بالألف، فظنّ بعضهم البئر بالموحّدة النار بالنون، فرواها كذلك.
قال الحافظ: هذا التأويل نقله ابن عبد البرّ وغيره عن يحيى بن معين، وجزم بأنّ معمرًا صحّفه، حيث رواه عن همّام، عن أبي هريرة. قال ابن عبد البرّ: ولم يأت ابن معين على قوله بدليل، وليس بهذا تُردّ أحاديث الثقات.
قال الحافظ: ولا يعترض على الحفّاظ الثقات بالاحتمالات. ويؤيّد ما قاله ابن معين اتفاق الحفاظ من أصحاب أبي هريرة على ذكر البئر، دون النار. وقد ذكر مسلم أنَّ علامةَ المنكر في حديث المحدّث أن يَعمِدَ إلى مشهور بكثرة الحديث، والأصحاب، فيأتي عنه بما ليس عندهم، وهذا من ذاك. ويؤيّده أيضًا أنه وقع عند أحمد من حديث جابر بلفظ "والجُبّ جبار" -بجيم مضمومة، وموحّدة ثقيلة، وهي البئر.
وقد اتفق الحفّاظ على تغليط سفيان بن حسين، حيث رَوَى عن الزهريّ في حديث الباب:"الرِّجْلُ جُبَارٌ" -بكسر الراء، وسكون الجيم- وما ذاك إلا أن الزهريّ مكثر من الحديث، والأصحاب، فتفرّد سفيان عنه بهذا اللفظ، فعدّ منكرًا، وقال الشافعيّ: لا يصحّ هذا. وقال الدارقطنيّ: رواه عن أبي هريرة سعيدُ بن المسيّب، وأبو سلمة، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه، والأعرج، وأبو صالح، ومحمد بن زياد، ومحمد بن سيرين، فلم يذكروها، وكذلك رواه أصحاب الزهريّ، وهو المعروف.
نعم الحكم الذي نقله ابن العربيّ صحيح، ويمكن أن يتلقى من حيث المعنى من الإلحاق بالعجماء، ويلتحق به كلّ جماد، فلو أنّ شخصًا عَثَرَ، فوقع رأسه في جدار، فمات، أو انكسر، لم يجب على صاحب الجدار شيء انتهى كلام الحافظ
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي في اعتراض الحافظ على الإمام ابن عبد البرّ
(1)
- "فتح" ج 12 ص 266 - 267.
في تعقّبه ابنَ معين، بما نقله عن الإمام مسلم نظرٌ، وذلك لأنه لم يَنقُل كلام الإمام مسلم -رحمه اللَّه تعالى- على وجهه، فوقع على غير ما أراده مسلم، ودونك ملخّص عبارته في "صحيحه"، قال:
"وعلامة المنكر في حديث المحدّث إذا ما عُرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا، خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث، غير مقبوله، ولا مُستَعمَلِهِ، إلى أن قال: لأن حكم أهل العلم، والذي نَعرِف من مذهبهم في قبول ما يتفرّد به المحدّث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم، والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وُجد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئًا ليس عند أصحابه، قُبلت زيادته، فأما من تراه يَعمِد لمثل الزهريّ في جلالته، وكثرة أصحابه الحفّاظ المتقنين لحديثه، وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثُهما عند أهل العلم مبسوطٌ، مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما، أو عن أحدهما العدَدَ من الحديث، مما لا يعرفه أحدٌ من أصحابه، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح، مما عندهم فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس" انتهى كلام مسلم -رحمه اللَّه تعالى- باختصار
(1)
.
فأنت ترى أن مسلمًا شرط ليكون ما يتفرّد به الراوي منكرًا أن يكون المتفرّد ممن ليس يشارك الثقات في روايات ما يروونه من الصحيح، فهذا هو الذي يكون منكرًا، وأما إذا كان يشارك الثقات فيما يروونه، أو في بعضه، فإن ما يتفرّد به على أصحابه يكون مقبولاً، ومعلوم أن معمرًا أحد الأثبات المتقنين الذين رووا عن الزهريّ، ويشارك أصحابه الأثبات في رواياتهم عنه، فإذا انفرد عن أصحابه بشيء، فإنه يكون مقبولاً، عِلى ما أوضحه الإمام مسلم، في كلامه المذكور.
والحاصل أنّ معمرًا من الصنف الثاني، لا من الأول، فلا يكون ما تفرّد به منكرًا.
ومن الغريب تشبيهه مخالفةَ معمر بمخالفة سفيان حسين، فإن معمرًا من الحفّاظ المتقنين من أصحاب الزهريّ، كما بيّناه آنفًا، وسفيان من ضعفاء أصحابه، فكيف يُشبّه أحدهما بالآخر، إن هذا لشيء عجيبٌ.
والحاصل أن ما قاله الحافظ ابن عبد البرّ له وجه وجيه فيما أراه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(1)
- "صحيح مسلم" ج 1 ص 5 - 6.
2496 -
(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،،، عَنْ سَعِيدٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،،، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِهِ).
"يونس": هو ابن يزيد الأيليّ. والحديث تقدّم الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2497 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،،، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،،، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،،، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "سعيد": هو ابن المسيّب، والكلام على الحديث كسابقه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
29 - (بَابُ زَكَاةِ النَّحْلِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "النحل" -بفتح النون، وسكون الحاء المهملة-: ذُباب العسل، للذكر والأنثى، واحدتها نَحْلَةٌ، بهاء. أفاده في "القاموس".
والمراد بزكاة النحل، زكاة عسلها، كما يتبيّن من سياق الحديث؛ لأنه لا قائل بتعلّق الزكاة بنفسها، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2499 -
(أَخْبَرَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: جَاءَ هِلَالٌ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِيَ لَهُ وَادِيًا، يُقَالُ لَهُ: سَلَبَةُ، فَحَمَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ذَلِكَ الْوَادِيَ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، كَتَبَ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ، إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، يَسْأَلُهُ، فَكَتَبَ عُمَرُ، إِنْ أَدَّى إِلَيَّ، مَا كَانَ يُؤَدِّي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ عُشْرِ نَحْلِهِ، فَاحْمِ لَهُ سَلَبَةَ ذَلِكَ، وَإِلاَّ فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ، يَأْكُلُهُ مَنْ شَاءَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(المغيرة بن عبد الرحمن) بن عون بن حبيب الأسديّ الحرّانيّ، أبو أحمد، ثقة،
من صغار [10] 94/ 2025.
2 -
(أحمد بن أبي شعيب) هو: أحمد بن عبد اللَّه بن أبي شعيب مسلم، نُسب لجدّه، القرشيُّ مولاهم، أبو الحسن الحرّانيّ، ثقة [10]
قال أبو حاتم: ثقة صدوق. وذكره ابن حبّان في "الثقات". مات سنة (233) وقيل: (231) وقيل: غير ذلك. روى عنه البخاريّ، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف بواسطة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا و 4268 حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه: "إذا أرسلت كلبك المعلّم
…
" الحديث، وأعاده برقم 4275 و 4299.
3 -
(موسى بن أعين) القرشيّ مولاهم، أبو سعيد الْجَزَرِيّ، ثقة عابد [8] 11/ 415.
4 -
(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقة فقيه حافظ [7] 63/ 79.
5 -
(عمرو بن شعيب) المدنيّ، ويقال: الطائفيّ، صدوق [5] 105/ 140.
6 -
(أبوه) شعيب بن محمد بن عبد اللَّه الطائفيّ، صدوق [3] 105/ 140.
7 -
(جدّه) عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - 89/ 111. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم موثقون. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه، عن جدّه، وتابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبيهِ) شعيب بن محمد (عَنْ جدِّهِ) عبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: جَاءَ هِلَالٌ) وفي رواية أبي داود: "هلالٌ أحد بني مُتْعَان". وهو غير هلال بن سعد، كما استظهره الحافظ في "الإصابة". وقيل: هما واحد. وبنو مُتْعان -بضمّ الميم، وسكون المثنّاة الفوقيّة-: قبيلة (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُ) أي بعشر عسل نحله، وليس المراد أنه أتى بعشر النحل نفسها، كما قدّمناه (وَسَألَهُ) أي سأل هلالٌ النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَنْ يَحْمِيَ لَه وَادِيًا) أي يحفظ واديًا، له خاصّةَ، ويمنع غيرَه من الرعي فيه. يقال: حَمَيتُ المكان من الناس حَمْيًا، من باب رَمَى، وحِمْيَةً -بالكسر-: منعته عنهم، والْحِمَاية اسم منه، وأحميته بالألف: جعلته حِمًى، لا يُقرَب، ولا يُجترأ عليه، قال الشاعر [من الطويل]:
وَنَرْعَى حِمَى الأَقْوَامِ غيرَ مُحَرَّمٍ
…
عَلَيْنَا وَلَا يُرْعَى حِمَانَا الَّذِي نَحْمِي
(1)
وأصل الحمى عند العرب أن الرئيس منهم إذا نزل منزلًا مُخْصِبًا استعوى كلبًا على مكان عالٍ، فإلى حيث انتهى صوته حماه من كلّ جانب، فلا يَرعى فيه غيره، وَيرعى هو مع غيره فيما سواه. والحمى هو المكان الْمَحْمِيّ، وهو خلاف المباح، ومعناه أن يمنع من الإحياء من ذلك الموات؛ ليتوفّر فيه الكلأ، فترعاه مواشٍ مخصوصة، ويمنع غيرها. قاله في "الفتح"
(2)
.
(يُقَالُ لَهُ: سَلَبَةُ) أي يسمّى ذلك الوادي سَلَبَةَ -بفتح السين المهملة، واللام: هو واد لبني مُتْعان. قاله البكريّ في "معجم البلدان"
(3)
(فَحَمَى لَهُ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ذَلِكَ الْوَادِيَ) أي جعله له صلى الله عليه وسلم سَلَبَة حِمًى مختصًّا بأنعامه، لا يرعى فيه أنعام غيره من أهل بلده. وفيه جواز أن يحمي الإمام لبعض الناس بعض الأراضي، إذا كان فيه مصلحة.
(فَلَمَّا وَلِيَ) بفتح الواو، وكسر اللام، من باب عَلِمَ: أي تولّى الخلافة. ويحتمل أن يكون بضمّ الواو، وتشديد اللام، مبنيًّا للمفعول: أي جُعِل واليًا. فعلى الأول يكون قوله (عُمَرُ بْنُ الْخطَّابِ) رضي الله عنه فاعلاً، وعلى الثاني نائب فاعل (كَتَبَ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ) هكذا في رواية عمرو بن الحارث عند المصنّف، وأبي داود "سفيان بن وهب".
ووقع في رواية عبد الرحمن بن الحارث المخزوميّ، وأسامة بن زيد الليثيّ، كلاهما عن عمرو بن شعيب "سفيان بن عبد اللَّه الثقفيّ" بدل "سفيان بن وهب"، والظاهر أنه الصواب.
فأما رواية عبد الرحمن، فساقها أبو داود في "سننه" عن أحمد بن عبدة الضبّيّ، أخبرنا المغيرة -ونسبه إلى عبد الرحمن بن الحارث المخزومّي- حدّثني أبي، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، أن شَبَابةَ، بطنٌ من فَهْم، فذكر نحوه، قال:"من كلّ عشر قِرَبٍ قِربة"، وقال: "سفيان بن عبد اللَّه الثقفيّ، قال: وكان يحمي لهم واديين، زاد: فأدَّوَا إليه ما كانوا يؤدّونه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وحَمَى دهم وادييهم.
وأما رواية أسامة بن زيد، فأخرجها أبو داود مختصرًا، وأخرجها الطبرانيّ في "معجمه" مطوّلاً، من طريق أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه: أن بني شبابة، بطن من فَهْم، كانوا يؤدّون إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن نحل، كان لهم العشرَ، من كلّ عَشْرِ قِرَبٍ قربةً، وكان يحمي
(1)
- "المصباح المنير" في مادّة حمى.
(2)
- "فتح" ج 5 ص 320.
(3)
- انظر "نيل الأوطار" 4 ص 158.
واديين دهم، فدما كان عمر استعمل على ما هناك سفيان بن عبد اللَّه الثقفيّ، فأَبَوا أن يؤدُّوا إليه شيئًا، وقالوا: إنما كنّا نؤدّيه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكتب سفيان إلى عمر، فكتب إليه عمر، إنما النحل ذباب غيث، يسوقه اللَّه عز وجل رزقًا إلى من يشاء، فإن أدّوا إليك ما كانوا يؤدّون إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فاحم لهم أوديتهم، وإلا فخَلّ بينه وبين الناس، فأدَّوا إليه ما كانوا يؤدُّون إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وحمى لهم أوديتهم. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن سفيان بن عبد اللَّه هو الصواب؛ لأمرين:
(أحدهما): اتفاق عبد الرحمن بن الحارث، وأسامة بن زيد عليه.
(الثاني): أن سفيان بن عبد اللَّه هو المعروف بأنه كان عامل عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما على الطائف، وهو صحابيّ معدود في أهل الطائف، ولاّه عمر على الطائف، لَمّا عزل عثمان بن أبي العاص عنها، ونقله إلى البحرين. انظر ترجمته في "الاستيعاب" جـ4 ص 213. و"الإصابة" جـ4 ص 208 - 209.
وأما سفيان بن وهب الخولانيّ، فهو أيضًا صحابيّ يُعدّ في أهل مصر، وولي إمرة إفريقية زمن عبد العزيز بن مروان، ومات سنة (82) ولم يعدّه أحدٌ فيمن ولاّه عمر رضي الله عنهما، انظر ترجمته في "الإصابة" جـ 4 ص 214. و"الاستيعاب" في هامشه.
وعمرو بن الحارث، وإن كان مقدّما في الحفظ على المغيرة، وأسامة، إلا أن اتفاقهما يقوّي روايتهما، ويؤيّد ذلك الأمر الثاني الذي ذكرته آنفًا.
والحاصل أن سفيان بن عبد اللَّه هو الصواب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (يَسْاَلُهُ) عن أخذ عشور هلال (فَكَتَبَ عُمَرُ) رضي الله عنه (إِنْ أَدَّى إِلَيْكَ) هكذا في النسخة "الهنديّة"، و"الكبرى""إليك"، ووقع في النسختين المطبوعتين:"إليّ" بياء المتكلّم، والظاهر أنه تصحيف (مَا كَانَ يُؤَدِّي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ عُشْرِ نَحْلِهِ) أي من نحل ذلك الوادي (فَاحْمِ لَهُ سَلَبَةَ ذَلِكَ) اسم الإشارة بدل من سلبة، وإنما ذكره باعتبار المكان (وَإِلاَّ فَإنَّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ) أي وإن لم يؤدّ إليك ما كان يؤدّيه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلا تحم له ذلك الوادي، ويكون عسله مباحًا لمن شاء.
والمراد بالذباب النحل، وأضافه إلى الغيث الذي هو المطر؛ لأن النحل يَرْعَى الأزهار، والأعشاب التي تنشأ عن المطر. وسمَّى النحل ذبابًا؛ لأنه يقع على الأزهار كما يقع الذباب على الأشياء الدَّسِمَة، والحلواء (يَأْكُلُهُ مَنْ شَاءَ) يعني العسل، فالضمير المنصوب راجع إلى النحل على حذف مضاف، أي يأكل عسله. وفيه دليلٌ على أن العسل الذي يوجد في الجبل مباحٌ، فمن سبق إليه يكون أحقّ به من غيره.
وقال السنديّ في "شرحه": قوله: "وإلا فإنما هو ذباب غيث" أي وإلا فلا يلزم عليك حفظه؛ لأن الذباب غير مملوك، فيحلّ لمن يأخذه. وعُلِم أن الزكاة فيه غير واجبة على وجه يُجبر صاحبه على الدفع، لكن لا يلزم الإمام حمايته إلا بأداء الزكاة انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-29/ 2499 - وفي "الكبرى" 31/ 2278. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1600. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): مشروعية الزكاة في العسل، كما هو ظاهر ترجمة المصنّف، وظاهر سياق الحديث يدلّ على أن عشر العسل مقابَلٌ بحماية واديه، لا أنه زكاة تؤخذ كسائر الزكوات، وسيأتي بيان الخلاف بين الأئمة في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى (ومنها): جواز أكل العسل، وأنه من الأشياء المباحة (ومنها): أن مِنْ أَدَبِ الوالي أن لا يعمل شيئًا حتى يستأذن الخليفة، أو الأمير الذي فوقه (ومنها): أن النحل لمن سبقت يده إليه؛ لأنه من الأشياء المباحة.
(ومنها): مشروعيّة الحمى إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك. وقد أخرج البخاري -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن الصَّعْبَ بن جَثّامة رضي الله عنه قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا حِمَى إلا للَّه، ولرسوله"، وقال: بلغنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حَمَى النَّقِيع، وأن عمر رضي الله عنه حَمَى الشَّرَف، والرَّبّذَةَ. انتهى.
قال في "الفتح": قال الشافعيّ: يحتمل معنى الحديث شيئن: أحدهما ليس لأحد أن يحمي للمسلمين إلا ما حماه النبيّ صلى الله عليه وسلم. والآخر معناه إلا على مثل ما حماه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعلى الأول ليس لأحد من الولاة بعده أن يحمي. وعلى الثاني يختصّ الحمى بمن قام مقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو الخليفة خاصّة. وأخذ أصحاب الشافعيّ من هذا أن له في المسألة قولين، والراجح عندهم الثاني، والأول أقرب إلى ظاهر اللفظ، لكن رجحوا
(1)
- "شرح السنديّ" ج 5 ص 46 - 47.
الثاني بما تقدّم أن عمر رضي الله عنه بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال في موضع آخر: والأرجح عند الشافعيّة أن الحمى يختصّ بالخليفة، ومنهم من ألحق به وُلاة الأقاليم. ومحلّ الجواز مطلقًا أن لا يضرّ بكافّة المسلمين. قال: وقال الْجُوريّ
(1)
من الشافعيّة: ليس بين الحديثين معارضة، فالحمى المنهيّ ما يُحمَى من الموات الكثير العُشب لنفسه خاصّة، كفعل الجاهليّة. والمباح ما لا منفعة للمسلمين فيه شاملة، فافترقا.
وإنما تُعدّ أرض الحمى مواتًا لكونها لم يتقدّم فيها ملك لأحد، لكنها تشبه العامر؛ لما فيها من المنفعة العامّة انتهى.
(2)
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم زكاة العسل:
ذهب مالك، والشافعيّ، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وابن المنذر إلى أنه لا زكاة في العسل.
قال ابن المنذر: ليس في وجوب الصدقة في العسل خبر يثبت، ولا إجماع، فلا زكاة فيه.
وذهب أحمد إلى أن في العسل العشرَ. وُيروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز، ومكحول، والزهريّ، وسليمان بن موسى، والأوزاعيّ، وإسحاق.
وذهب أبو حنيفة إلى أن العسل إن كان في أرض العشر، ففيه الزكاة، وإلا فلا زكاة فيه، وهذ ابن اء على مذهبه في أن العشر والخراج لا يجتمعان، وقد تقدّم الردّ عليه في ذلك.
احتجّ الموجبون بأحاديث كثيرة:
(فمنها): حديث الباب، وهو صحيح، لكنّه ليس نصًّا، في وجوب الزكاة، بل هو ظاهر في كونه مقابلاً بحماية الوادي الذي طلب أن يُحمَى له.
(ومنها): ما رواه الترمذيّ في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال في العسل: "في كلّ عشرة أزقاق زِقٌّ". وفي إسناده صدقة السمين، وهو ضعيف الحفظ، وقد خولف، وقال النسائيّ: هذا حديث منكر. ورواه البيهقيّ، وقال: تفرّد به صدقة، وهو ضعيف، وقد تابعه طلحة بن زيد، عن موسى بن يسار. ذكره المروزيّ، ونقل عن
(1)
-بضم الجيم آخره راء: نسبة إلى بلد بفارس، ومحلّة بنيسابور. أفاده في "اللباب" ج 1 ص 307 - 308.
(2)
- "فتح" باختصار ج 5 ص 320.
أحمد تضعيفه. وذكر الترمذيّ أنه سأل البخاريّ عنه؟ فقال: هو عن نافع، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسل.
(ومنها): ما أخرجه ابن ماجه، والبيهقيّ من حديث سليمان بن موسى، عن أبي سيّارة الْمُتَعِيّ، قال: قلت: يا رسول اللَّه، إن لي نَحْلاً، قال:"أدّ العشور"، قال: قلت: يا رسول اللَّه، احمها لي، فحماها لي. وهو منقطع؛ قال البخاريّ: لم يدرك سليمان أحدًا من الصحابة، وليس في زكاة العسل شيء يصحّ. وقال أبو عمر: لا يقوم بهذا حجة.
(ومنها): ما أخرجه البيهقيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"كتب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن أن يؤخذ من العسل العشر". وفي إسناده عبد اللَّه بن مُحَرَّر، وهو متروك.
(ومنها): ما رواه البيهقيّ أيضًا من حديث سعد بن أبي ذُبَاب: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استعمله على قومه، وقال لهم: "أدّوا العشر في العسل"، وأتى به عمر، فقبضه، فباعه، ثم جعده في صدقات المسلمين". وفي إسناده مُنير بن عبد اللَّه، ضعّفه البخاريّ، والأزديّ، وغيرهما.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بهذا أن ما احتجّ به الموجبون لزكاة العسل معظمها ضعاف، لا تصلح للاحتجاج بها، وما صحّ منها، كحديث الباب ليس صريحًا في الإيجاب، بل هو ظاهر في كونه مقابلا لحماية واديه، فالصواب عندي مذهب من قال بعدم وجوب الزكاة فيه؛ لعدم ثبوت أدلّة الوجوب، كما عرفت. قال الزعفرانيّ، عن الشافعيّ: الحديث "في العسل العشر" ضعيف، واختياري أنه لا يؤخذ منه. وقال البخاريّ: لا يصحّ فيه شيء. وقال ابن المنذر: ليس فيه شيء ثابت.
ويؤيّد ذلك حديث معاذ رضي الله عنه أنه لم يأخذ زكاة العسل، وقال: لم يأمرني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيه بشيء. رواه أبو داود في "المراسيل"، والحميديّ في "مسنده"، وابن أبي شيبة، والبيهقي من طريق طاوس عنه.
وهذا وإن كان مرسلاً؛ لأن طاوسًا لم يلق معاذًا، إلا أنه قويٌّ؛ لأنه كان عارفًا بقضايا معاذ رضي الله عنه، كما قال البيهقيّ
(1)
.
والحاصل أن عدم وجوب الزكاة في العسل هو الأرجح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
- انظر "التلخيص الحبير" ج 2 ص 324.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
30 - (بَابُ فَرْضِ زَكَاةِ رَمَضَانَ)
أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على فرضيّة زكاة رمضان، أي الزكاة التي تجب بالفطر من صوم رمضان. وأضيفت الزكاة لـ "رمضان" لكونها تجب بالفطر من صومه، فيكون من إضافة الشيء إلى سببه. وقيل: من إضافة الشيء إلى شرطه، كحجة الإسلام
(1)
.
وقد ترجم البخاريّ، وغيره بـ "باب صدقة الفطر". قال في "الفتح": وَأُضِيفَتِ الصدقة للفطر؛ لكونها تجب بالفطر من رمضان. وقال ابن قُتيبة: المراد بصدقة الفطر صدقة النفوس، مأخوذة من الفطرة التي هي أصل الخلقة. والأول أظهر، ويؤيّده قوله في بعض طرق الحديث:"زكاة الفطر من رمضان" انتهى
(2)
.
وقال ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: قال ابن قُتيبة: وقيل لها فطرة؛ لأن الفطرة الخِلْقةُ، قال اللَّه تعالى {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية [الروم: 30]، أي جِبلّته التي جبل الناس عليها، وهذه يُراد بها الصدقة عن البدن والنفس، كما كانت الأولى صدقة عن المال انتهى
(3)
.
وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح المهذّب": يقال: زكاة الفطر، وصدقة الفطر، ويقال للمُخرَج: فِطْرة -بكسر الفاء- لا غير، وهي لفظة مولّدة، لا عربيّةٌ، ولا مُعَرَّبة، بل اصطلاحيّة للفقهاء، وكأنها من الفطرة التي هي الخلقة، أي زكاة الخلقة. وممن ذكر هذا صاحب "الحاوي". انتهى
(4)
.
وفي "المنهل": وتسمية أوّل يوم من شوّال بيوم الفطر تسمية شرعيّة، لم تُعرَف قبل الإسلام. وفُرضت صدقة الفطر في السنة الثانية من الهجرة. وهي في الشرع اسم لما يُعطَى من المال لمن يستحقّ الزكاة على وجه مخصوص يأتي بيانه انتهى
(5)
. واللَّه تعالى
(1)
- راجع "المرعاة" ج 6 ص 185.
(2)
- "فتح" ج 4 ص 139.
(3)
- "المغني" ج 4 ص 282 - 283.
(4)
- "المجموع" ج6 ص 91.
(5)
- "المنهل العذب المورود" ج 9 ص 218.
أعلم بالصواب.
2500 -
(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، زَكَاةَ رَمَضَانَ عَلَى الْحُرِّ، وَالْعَبْدِ، وَالذَّكَرِ، وَالأُنْثَى، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ، نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عمران بن موسى) القزّاز الليثيّ، أبو عمرو البصريّ، صدوق [10] 6/ 6.
2 -
(عبد الوارث) بن سعيد بن ذكران العنبريّ مولاهم، أبو عبيدة البصريّ التّنّوريّ، ثقة ثبت [8] 6/ 6.
3 -
(أيوب) بن أبي تميمة كيسان البصريّ الفقيه، ثقة ثبت عابد [5] 42/ 48.
4 -
(نافع) مولى ابن عمر العدويّ المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.
5 -
(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، والترمذيُّ، وابنُ ماجه. (ومنها): أن الثلاثة الأولين بصريون، والباقيان مدنيّان، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة من الصحابة، روى (2630) من الأحاديث، وهو أحد العبادلة الأربعة: وهم، ابن عمر، وابن عبّاس، وابن الزبير، وابن عمرو بن العاص رضي الله عنهم. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ:"فَرَضَ") أي أوجب، وألزم (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وما فرضه صلى الله عليه وسلم إلا عن أمر من اللَّه عز وجل، قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]. قال الطيبيّ: دلّ قوله: "فَرَض" على أن صدقة الفطر فريضة. والحنفيّة على أنها واجبة. قال القاري: لعدم ثبوتها بدليل قطعيّ، فهو فرض عمليٌّ، لا اعتقاديّ. وقال السنديّ: الحديث من أخبار الآحاد، فمؤدّاه الظن، فلذلك قال بوجوبه دون افتراضه من خصّ الفرض بالقطع، والواجب بالظنّ انتهى.
وقال ابن حجر الهيتميّ: في الحديث دليلٌ لمذهبنا، ولَمّا رأى الحنفيّة الفرق بين الفرض والواجب بأنّ الأول ما ثبت بدليل قطعيّ، والثاني ما ثبت بدليل ظنّيّ، قالوا: إن المراد بالفرض هنا الواجب. وفيه نظر؛ لأنّ هذا قطعيّ؛ لما علمت أنه مجمع عليه،
فالفرض فيه باق على حاله، حتى على قواعدهم، فلا يحتاج لتأويلهم الفرض بالواجب انتهى.
قال القاري: وفيه أن الإجماع على تقدير ثبوته إنما هو في لزوم هذا الفعل، وأما أنه على طريق الفرض، أو الواجب بناءً على اصطلاح الفقهاء المتأخّرين، فغير مسلّم، وأما قوله: ووجوبها مجمع عليه، كما حكاه المنذريّ، والبيهقيّ، فمنقوض بأن جمعًا حكوا الخلاف فيها.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حمل كلام الشارع على الحقيقة الشرعيّة ما أمكن هو المتعيّن، وأما حمله على المصطلح الحادث فغير صحيح، فإن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يعرفون هذا الاصطلاح الحادث في الفرق بين الفرض والواجب، كما يقول به الحنفيّة، فعبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما حين قال: فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر ما كان يقصد أنه دون فرض زكاة المال، وفرض صوم رمضان، بل كان يعتقد أنه من الفروض التي كلف اللَّه تعالى بها المكلّفين، من غير فرق بين فرض، وفرض، فمن فرض صوم رمضان، هو الذي فرض زكاة رمضان.
والحاصل أن ما ذهب إليه الأئمّة الثلاثة من أن صدقة الفطر فريضة هو الحقّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(زَكَاةَ رَمَضَانَ) أي الزكاة الواجبة عند الفطر من صوم رمضان، فإضافة الزكاة إلى "رمضان" من إضافة الشيء إلى سببه، كما سبق أوّل الباب.
فـ"زكاة" منصوب على المفعولية (عَلَى الْحُرِّ) متعلّق بـ "فرَضَ". قال السنديّ: "على" بمعنى "عن"، إذ لا وجوب على العبد، والصغير، كما في بعض الروايات؛ إذ لا مال للعبد، ولا تكليف على الصغير، نعم يجب على العبد عند بعض، والمولى نائبٌ عنه انتهى.
(وَالْعَبْدِ) ظاهره إخراج العبد عن نفسه، ولم يقل به إلا داود، فقال: يجب على السيّد أن يمكّن العبد من الاكتساب لها، كما يجب عليه أن يمكّنه من الصلاة. وخالفه أصحابه، والناس. واحتجّوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"ليس على المسلم في عبده صدقة، إلا صدقة الفطر". رواه مسلم. وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسائل، إن شاء اللَّه تعالى.
(وَالذَّكَرِ، وَالأُنْثَى، صَاعًا) منصوب على البدليّة من "زكاةَ رمضان"، أو حال منه، أو "زكاة" منصوب على نزع الخافض، أي في زكاة رمضان، والمفعول "صاعًا". أفاده السنديّ. وقال الحافظ السيوطيّ في "شرحه": قيل: إن "صاعًا" منصوب على أنه
مفعول ثان. وقيل: على التمييز. وقيل: خبر "كان" محذوفًا. وقيل: على سبيل الحكاية انتهى
(1)
(مِنْ تَمْرٍ) متعلّق بصفة لـ"صاعًا"(أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرِ)"أو" هنا للتخيير، فيُخيّر بين أن يخرج صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير (فَعَدَلَ النَّاسُ) أي جعلوه مثله، يقال: عَدَلْتُ هذا بهذا عدْلاً، من باب ضرب: إذا جعلته مثله، قائمًا مقامه، قال اللَّه تعالى:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]. ذكره في "المصباح".
والمراد بالناس معاويةُ رضي الله عنه، ومن تبعه، فقد وقع التصريح به في حديث أيوب، عن نافع، أخرجه الحميديّ، في "مسنده"، عن سفيان بن عُيينة: حدّثنا أيوب، ولفظه:"صدقة الفطر صاعٌ من شعير، أو صاع من تمر، قال ابن عمر: فلما كان معاوية عدل الناس نصف صاع برّ بصاع من شعير". وهكذا أخرجه ابن خُزيمة في "صحيحه" من وجه آخر عن سفيان، وهو المعتمد، وهو موافق لقول أبي سعيد الآتي في 38/ 2513 - وهو أصرح منه.
وأما ما وقع عند أبي داود من طريق عبد العزيز بن أبي روّاد، عن نافع، قال فيه:"فلما كان عمر كثرت الحنطة، فجعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الأشياء. فقد حكم مسلم في "كتاب التمييز" على عبد العزيز فيه بالوَهَم، وأوضح الردّ عليه. وقال ابن عبد البرّ: قول ابن عُيينة عندي أولى. وزعم الطحاويّ أن الذي عدل عن ذلك عمر، ثم عثمان، وغيرهما، فأخرج عن يسار بن نُمير أن عمر قال له: "إني أحلف لا أعطي قومًا، ثم يبدو لي، فأفعل، فإذا رأيتني فعلت ذلك، فأطعم عنّي عشرة مساكين، لكلّ مسكين نصف صاع من حنطة، أو صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعير".
ومن طريق أبي الأشعث، قال: خطبنا عثمان، فقال: أدّوا زكاة الفطر مدّين من حنطة.
وسيأتي الكلام على ذلك، إن شاء اللَّه تعالى (بِهِ) أي بما ذُكر من صاع تمر، أو صاع من شعير (نِصْفَ صَاعٍ من بُرٍّ") يعني أنهم جعلوا نصف صاع من برّ يقوم مقام صاع من تمر، أو شعير، فيجزىء أداؤه عن صدقة الفطر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
(1)
- "شرح السندي" ج 5 ص 47. و"شرح السيوطيّ" ج 5 ص 47 - 48.
أخرجه هنا-30/ 2500 و 31/ 2501 و 32/ 2502 و 33/ 2503 و 2504 و 34/ 2505 و 41/ 2516 و 45/ 2521 - وفي "الكبرى" 32/ 2279 و 33/ 2280 و 34/ 2281 و 35/ 2282 و 2283 و 36/ 2284 و 43/ 2295 و 47/ 2300. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1503 و 1504 و 1507 و 1509 و 1511 و 1512 (م) في "الزكاة" 984 و 986 (د) في "الزكاة" 1611 و 1613 و 1614 (ت) في "الزكاة" 675 و 676 و 677 (ق) في "الزكاة" 1826 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4472 و 5152 و 5281 و 5317 و 5323 و 5747 و 5906 و 6179 و 6353 و 6393 و 6431 و (مالك) في "الزكاة" 627 (الدارميّ) في "الزكاة" 1661 و 1662. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في حكم صدقة الفطر:
قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: أجمع عوامّ أهل العلم على وجوب زكاة الفطر. وقال إسحاق -يعني ابن راهويه- هو كالإجماع من أهل العلم. وقال الخطّابيّ: قال به عامّة أهل العلم.
وقال الحافظ ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: فأما قوله في حديث ابن عمر: "فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
…
" فمعناه عند أكثر أهل العلم: أوجب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما أوجبه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فبأمر اللَّه أوجبه، وما كان لينطق عن الهوى، فأجمعوا على أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر، ثم اختلفوا في نسخها:
فقالت فرقةٌ: هي منسوخة بالزكاة، ورووا عن قيس بن سعد بن عُبَادة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بها قبل نزول الزكاة، فلما نزلت آية الزكاة لم يأمرنا بها، ولم ينهنا عنها، ونحن نفعله
(1)
.
وقال جمهور من أهل العلم من التابعين، ومن بعدهم: هي فرضٌ واجبٌ على حسب ما فرضها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لم ينسخها شيء.
وممن قال بهذا: مالك بن أنس، وسفيان الثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه. قال إسحاق: هو الإجماعُ.
وقال أشهب: سألت مالكًا عن زكاة الفطر، أواجبة هي؟ قال: نعم. وذكر أبو التَّمَّام، قال: قال مالك: زكاة الفطر واجبة. قال: وبه قال أهل العلم كلّهم إلا بعض أهل العراق، فإنه قال: هي سنّة مؤكّدةٌ.
(1)
- سيأتي للمصنّف برقم 2507. وأخرجه ابن ماجه برقم 1828.
قال أبو عمر: اختلف المتأخّرون من أصحاب مالك في وجوبها، فقال بعضهم: هي سنّةٌ مؤكّدة. وقال بعضهم: هي فرضٌ واجبٌ. وممن ذهب إلى هذا أصبغ بن الفَرَج.
واختلف أصحاب داود في ذلك على قولين أيضًا: أحدهما: أنها فرض واجبٌ.
والآخر أنها سنّةٌ مؤكّدةٌ. وسائر العلماء على أنها واجبةٌ. انتهى كلام ابن عبد البرّ في "الاستذكار"
(1)
.
وقال في "التمهيد": وأما قول ابن عمر في هذا الحديث: "فرضَ الخ" فإنه يحتمل وجهين: أحدهما -وهو الأظهر- فرض بمعنى أوجب، والآخر فرض بمعنى قدّر من المقدار، كما تقول: فرض القاضي نفقة اليتيم: أي قدّرها، وعرف مقدارها.
والذي أذهبُ إليه أن لا يزال قوله: فَرَضَ على
(2)
معنى الإيجاب، إلا بدليل الإجماع، وذلك معدوم في هذا الموضع. وقد فَهِمَ المسلمون من قوله عز وجل:{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 11].، ونحو ذلك أنه شيء أوجبه، وقدّره، وقضى به، وقال الجميع للشيء الذي أوجبه اللَّه هذا فرض، وما أوجبه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فعن اللَّه أوجبه، وقد فرض اللَّه طاعته، وحذّر مخالفته، ففَرْضُ اللَّه، وفَرْضُ رسوله سواء، إلا أن يقوم الدليل على الفرق بين شيء من ذلك، فيسلّم للدليل الذي لا مدفع فيه.
قال: والقول بوجوبها من جهة اتباع سبيل المؤمنين واجبٌ أيضًا؛ لأن القول بأنها غير واجبة شذوذ، أو ضرب من الشذوذ.
قال: ولعلّ جاهلاً يقول: إن زكاة الفطر لو كانت فريضة، لكُفِّرَ من قال: إنها ليست بفرض، كما لو قال في زكاة المال المفروضة، أو في الصلاة المفروضة: إنها ليست بفرض، كُفِّرَ.
فالجواب عن هذا ومثله أنّ ما ثبت فرضه من جهة الإجماع الذي يَقطَعُ العذر، كُفِّرَ دافعه؛ لأنه لا عذر له فيه. وكلّ فرض ثبت بدليل، لم يُكَفَّر صاحبه، ولكنه يُجَهَّل، ويُخطَّأُ، فإن تمادى بعد البيان له هُجِر، وإن لم يُبيّن له عُذِر بالتأويل، ألا ترى أنه قد قام الدليل الواضح على تحريم المسكر، ولسنا نُكَفِّر من قال بتحليله، وقد قام الدليل على تحريم نكاح المتعة، ونكاح السّرّ، والصلاة بغير قراءة، وبيع الدرهم بالدرهمين يدًا بيد
…
إلى أشياء يطول ذكرها من فرائض الصلاة، والزكاة، والحجّ، وسائر الأحكام، ولسنا نُكَفِّر من قال بتحليل شيء من ذلك؛ لأن الدليل في ذلك يوجب العمل، ولا يَقطع العذر، والأمر في هذا واضح لمن فهم. انتهى كلام ابن عبد البرّ
(3)
.
(1)
- "الاستذكار" ج 9 ص 348 - 350.
(2)
- هكذا في نسخة "التمهيد": "على، والظاهر أنها "عن".
(3)
- "التمهيد" ج 14 ص 323 - 324.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الحافظ ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى- كلام نفيسٌ جدًّا.
والحاصل أن الحقّ ما عليه جمهور أهل العلم، من أن صدقة الفطر فريضة، كفرض زكاة المال، وغيرها من فرائض اللَّه تعالى، ولا ينافي هذا تفاوت درجات فرضيّتها فيما بينها، فإن الفرائض تختلف، فمنها ما يُكفّر جاحده، ومنها ما ليس كذلك، كما بينه -رحمه اللَّه تعالى- آنفًا، ولكن يجمع الكلّ كونها مما فرضه اللَّه تعالى، يجب اعتقاده، والعمل به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): لم يُقَيَّد في الحديث افتراض زكاة الفطر باليسار، لكن لا بدّ من القدرة على ذلك؛ لما عُلِم من القواعد العامّة، وقد قال ابن المنذر: أجمعوا على أن لا شيء على من لا شيء له. انتهى.
واختلف العلماء في ضابط ذلك، فذكر الشافعيّة، والحنابلة أنّ ضابط ذلك أن يملك فاضلاً عن قوته، وقوت من تلزمه نفقته ليلة العيد، ويومه ما يؤدي في زكاة الفطر.
وحكاه العبدريّ عن أبي هريرة، وعطاء، والشعبيّ، وابن سيرين، وأبي العالية، والزهريّ، ومالك، وابن المبارك، وأحمد، وأبي ثور. انتهى.
وغاير ابن المنذر في ذلك بين مذهبي مالك، والشافعيّ، فقال: كان أبو هريرة يراه على الغنيّ، والفقير، وبه قال أبو العالية، والشعبيّ، وعطاء، وابن سيرين، ومالك، وأبو ثور. وقال ابن المبارك، والشافعيّ، وأحمد: إذا فضل عن قوت المرء، وقوت من يجب عليه أن يقوته مقدارُ زكاة الفطر، فعليه أن يؤدّي انتهى.
قال وليّ الدين: وما حكاه ابن المنذر أقرب إلى مذهب مالك، فإن ابن شاس قال في "الجواهر": لا زكاة على معسر، وهو الذي لا يفضل له عن قوت يومه صاع، ولا وجد من يُسلفه إيّاه. انتهى.
فقوله: ولا من يُسلفه إياه لا يُوافق عليه الشافعيّ، وأحمد، ثم قال ابن شاس: وقيل: هو الذي يُجحِف به في معاشه إخراجها. وقيل: من يَحلّ له أخذها، ثم قيل فيمن يحلّ له أخذها: إنه الذي يحلّ له أخذ الزكاة. وقيل: الفقير الذي لم يأخذ منها في يومه ذلك انتهى.
وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا على من ملك نصابًا من الذهب أو الفضّة، أو ما قيمته قيمة نصاب، فاضلاً عن مسكنه، وأثاثه الذي لا بد منه. قال العبدريّ: ولا يُحفَظ هذا عن أحد غير أبي حنيفة. وحكى ابن حزم عن سفيان الثوريّ أنه قال: من كان له خمسون درهمًا فهو غنيّ، وإلا فهو فقير. قال: وقال غيره: أربعون درهمًا انتهى.
وفي "مسند أحمد" عن أبي هريرة رضي الله عنه في زكاة الفطر: "على كلّ حرّ، وعبد، ذكرِ، وأنثى، صغير، أو كبير، فقير، أو غنيّ، صاع من تمر، أو نصف صاع من قَمْحٍ"
(1)
. قال معمر: وبلغني أن الزهريّ كان يرويه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وروى الدارقطنيّ عن عبد اللَّه بن ثعلبة بن أبي صُعَير، عن أبيه أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أدّوا صاعًا من قَمح، أو قال: برّ، عن الصغير، والكبير، والذكر والأنثى، والحرّ والمملوك، والغنيّ والفقير، أما غنيّكم، فيزكّيه اللَّه، وأما فقيركم، فيردّ عليه أكثر مما أعطى"
(2)
.
ومال ابن العربيّ المالكيّ إلى مقالة أبي حنيفة في ذلك، فقال: والمسألة له قويّة، فإن الفقير لا زكاة عليه، ولا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأخذها منه، وإنما أمر بإعطائها له، وحديث ثعلبة لا يُعارض الأحاديث الصحاح، ولا الأصول القويّة، وقد قال:"لا صدقة إلا عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول"، وإذا لم يكن هذا غنيًّا، فلا تلزمه الصدقة انتهى.
قال الحافظ وليّ الدين: وهو ضعيف، وليس التمسك في ذلك بحديث ثعلبة، وإنما التمسّك بالعموم الذي في قوله:"فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على الناس". وقد ذكر هو في أول كلامه: إلا أنا اعتبرنا القدرة على الصاع؛ لما عُلِم من القواعد العامّة، فأخرجنا عن ذلك العاجز عنه. واللَّه أعلم انتهى كلام وليّ الدين
(3)
.
وقال الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "النيل": قد اختُلف في القدر الذي يُعتبر ملكه لمن تلزمه الفطرة، فقال أبو حنيفة، وأصحابه: إنه يُعتبر أن يكون المخرج غنيًّا غنى شرعيًّا. واستُدلّ لهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الصدقة ما كان عن ظهر غنى". أخرجه أحمد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا. وبالقياس على زكاة المال. ويجاب بأن الحديث لا يفيد المطلوب؛ لأنه بلفظ:"خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى". كما أخرجه أبو داود انتهى.
وأخرجه البخاريّ أيضًا بهذا اللفظ، وهو مشعر بأن النفي في رواية أحمد للكمال، لا للحقيقة، فالمعنى: لا صدقة كاملة إلا عن ظهر غنى.
قال الشوكانيّ: وأما الاستدلال بالقياس، فغير صحيح؛ لأنه قياس مع الفارق؛ إذ وجوب الفطرة متعلّق بالأبدان، والزكاة بالأموال.
وقال مالكٌ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق: إنه يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكًا
(1)
- هو موقوف رجاله ثقات.
(2)
- ضعيف؛ لكثرة اضطرابه سندًا، ومتنًا. انظر "نصب الراية" ج 2 ص 406 - 410.
(3)
- "طرح التثريب" ج 4 ص 65 - 66.
لقوت يوم وليلة؛ لما روي أنه طهرة للصائم، ولا فرق بين الغنيّ، والفقير في ذلك.
ويؤيّد ذلك ما روي من تفسيره صلى الله عليه وسلم من لا يحلّ له السؤال بمن يملك ما يُغدّيه، ويعشّيه، وهذا هو الحقّ؛ لأن النصوص أطلقت، ولم تخصّ غنيًّا، ولا فقيرًا، ولا مجالَ للاجتهاد في تعيين المقدار الذي يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكًا له، ولا سيّما والعلّة التي شُرعت لها الفطرة موجودةٌ في الغنيّ والفقير، وهي التطهّر من اللغو، والرفث، واعتبار كونه واجدًا لقوت يوم وليلة أمرٌ لا بدّ منه؛ لأن المقصود من شرع الفطرة إغناء الفقراء في ذلك اليوم، كما أخرجه البيهقيّ، والدارقطنيّ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعًا، وفيه:"أغنوهم في هذا اليوم". وفي رواية للبيهقيّ: "أغنوهم عن طواف هذا اليوم". وأخرجه أيضًا ابن سعد في "الطبقات" من حديث عائشة، وأبي سعيد رضي الله عنهما، فلو لم يُعتبر في حقّ المخرِج ذلك لكان ممن أُمرنا بإغنائه في ذلك اليوم، لا من المأمورين بإخراج الفطرة، وإغناء غيره. انتهى كلام الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى- كلام حسنٌ جدًّا.
والحاصل أنّ ما ذهب إليه الجمهور من وجوبها على الفقير، إذا كان له ما يفضل عن قوته، وقوت من تلزمه نفقته في ذلك اليوم هو الصواب؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"على كلّ حرّ، أو عبد، ذكر، أو أنثى، صغير، أو كبير". فالفقير داخل في جملة هؤلاء، فيلزمه ما يلزمهم، إلا إذا أتى نصّ صريحٌ يُخرجه من العموم، ولم يوجد ذلك، وأما كونه لا يلزمه شيء إذا لم يفضل عن قوت يومه شيء، فبالإجماع، وبقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} الآية [البقرة: 286]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
31 - (بَابُ فَرْضِ زَكَاةِ رَمَضَانَ عَلَى الْمَمْلُوكِ)
2501 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَدَقَةَ الْفِطْرِ، عَلَى الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ"، قَالَ: فَعَدَلَ النَّاسُ إِلَى نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "حمّاد": هو ابن زيد. و"أيوب": هو السختيانيّ.
والحديث متفق عليه وقد تقدم شرحه، وبيان مسائله في الباب الماضي، فما بقي هنا إلا ذكر ثلاث مسائل، مما لم يُذكَر هناك:
(المسألة الأولى): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو إيجاب زكاة رمضان على المملوك:
استدلّ بظاهر حديث الباب داود بن عليّ الظاهريّ على وجوب إخراج العبد صدقة الفطر عن نفسه. قال وليّ الدين العراقيّ: لا نعلم أحدًا قال به سواه، ولم يتابعه على ذلك ابن حزم، ولا أحد من أصحابه، ويبطله قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس على المسلم في عبده، ولا في فرسه صدقةٌ، إلا صدقة الفطر في الرقيق". والاستثناء في "صحيح مسلم" بلفظ: "إلا صدقة الفطر". وذلك يقتضي أن زكاة الفطر ليست على العبد نفسِهِ، وإنما هي على سيّده.
قال ابن المنذر: أجمع عوامّ أهل العلم على أن على المرإ أداء زكاة الفطر عن مملوكه الحاضر، غير المكاتب، والعبد المغصوب، والآبق، والعبد المشترى للتجارة. وقال ابن قُدامة: لا نعلم فيه خلافًا انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور هو الصواب، فتجب زكاة الفطر على السيّد عن عبده؛ لصحّة الحديث المتقدّم، وما استدلّ به داود من عموم حديث الباب يقدّم عليه خصوص هذا الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): أنهم اختلفوا في أشياء، من مسألة وجوب زكاة الفطر على السيّد عن عبده، أشار ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- في عبارته السابقة إلى بعضها، فلنذكرها:
(فمنها): العبد الغائب، فمذهب الشافعيّ وجوب فطرته، وإن لم تُعلم حياته، بل انقطع خبره، ولم يكن في طاعته، بل كان آبقًا، ولم يكن في يده، بل كان مغصوبًا، ولم يعرف موضعه، بل كان ضالاًّ، ويجب إخراجها عن هؤلاء في الحال، وفي هذه الصور خلاف ضعيف عندهم. وكذلك مذهب أحمد، إلا في منقطع الخبر، فإنه لم يوجب فطرته، لكنه قال: لو علم بذلك حياته لزمه الإخراج لما مضى. ولم يوجب أبو حنيفة زكاة الآبق، والأسير، والمغصوب المجحود. وعنه رواية بوجوب زكاة الآبق.
وفصّل مالك، فأوجب في كلّ من المغصوب، والآبق الزكاة، إذا كانت غيبته قريبة، وهو يُرجَى حياته، ورجعته، فإن بعدت غيبته، وأُيس منه سقطت الزكاة عن سيّده.
قال ابن المنذر: أكثر من يُحفظ عنه من أهل العلم يرون أن تؤدّى زكاة الفطر عن
الرقيق غائبهم، وحاضرهم، وهو مذهب مالك، والشافعيّ، والكوفيين، وكان ابن عمر يُخرج عن غلمانه الذين بوادي القرى وخيبر. قلت: وهو الحقّ عندي.
ثم حكى ابن المنذر الخلاف عن الآبق، فحكى عن الشافعيّ، وأبي ثور وجوبها، وإن لم يعلم مكانه. وعن الزهريّ، وأحمد، وإسحاق وجوبها إذا عُلم مكانه. وعن الأوزاعيّ وجوبها إذا كان في دار الإسلام. وعن عطاء، والثوريّ، وأصحاب الرأي عدم وجوبها. وعن مالك وجوبها إذا كانت غيبة قريبة ترجى رجعته. فهذه خمسة أقوال.
(ومنها): المكاتب، فذهب عطاء، ومالك في المشهور عنه، والشافعيّ في قول، وأبو ثور، وابن المنذر إلى أنها تجب على سيّده. قلت: وهو الحقّ عندي؛ لعموم النصّ. واللَّه تعالى أعلم.
وذهب أبو حنيفة، والشافعيّ في أصحّ الأقوال عنه، إلى أنها لا تجب عليه، ولا على سيّده. وذهب أحمد، وهو أحد الأقوال للشافعيّ إلى أنها تجب عليه في كسبه، كنفقته.
وذهب إسحاق بن راهويه إلى أن سيّده يعطي عنه إن كان في عياله، وإلا فلا. حكاه ابن المنذر عن إسحاق.
وذهب ابن حزم إلى أنّ السيّد يخرج عنه إن لم يؤدّ شيئًا من كتابته، فإن أدّى شيئًا من كتابته، وإن قلّ فهي عليه.
(ومنها): العبد المشترى للتجارة، فالجمهور على أنّه يجب على السيّد فطرته كغيره؛ لعموم الحديث، وبه قال مالك، والشافعيّ، وأحمد، والليث بن سعد، والأوزاعيّ، وإسحاق بن راهويه، وابن المنذر، وأهل الظاهر. قلت: وهو الحقّ عندي؛ لعموم النصّ.
وقال أبو حنيفة: لا تجب فطرته؛ لوجوب زكاة التجارة فيه. وحكي عن عطاء، والنخعيّ، والثوريّ. واللَّه تعالى أعلم.
(ومنها): العبد المشترك بين اثنين، والجمهو أن الفطرة عليهما، قلت: وهو الحقّ عندي. والعبد المرهون، والجمهور على أن الزكاة على مولاه، قلت: وهو الحقّ عندي أيضًا.
وقد اختلفوا في أنواع من العبيد غير هؤلاء، كالعبد الموصى برقبته لشخص، وبمنفعته لآخر. وعبد بيت المال، والموقوف على مسجد. والعبد العامل في ماشية، أو حائط. وقد فصّل الأقوال في الجميع الحافظُ وليّ الدين العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "طرح التثريب"، فراجعه تستفد
(1)
.
(1)
- راجع "طرح التثريب" ج 4 ص 55 - 58.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في أنّ إخراج زكاة الفطر عن الأنثى على من هو؟:
ذهب أبو حنيفة، وسفيان الثوريّ، وابن المنذر، وداود، وابن حزم، وابن الأشرس من المالكيّة إلى أن على المرأة إخراجَ زكاة الفطر من مال نفسها، سواء كانت متزوّجة، أم غير متزوّجة؛ عملاً بظاهر النصّ.
وذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، والليث بن سعد إلى أن المتزوّجة تجب فطرتها على زوجها، وفي معناها الرجعيّة، والبائن، إن كانت حاملاً، دون ما إذا كانت حائلًا، فلو نشزت وقت الوجوب سقطت فطرتها عن الزوج. وقال أبو الخطّاب الحنبليّ: لا تسقط. فلو كان الزوج معسرًا، فالأصحّ في مذهب الشافعيّ أنه إن كانت الزوجة أمة وجبت فطرتها على سيّدها، وإن كانت حرّة لم يجب عليها شيء، وهو الذي نصّ عليه الشافعيّ. وفرّقوا بينهما بكمال تسليم الحرّة نفسها، بخلاف الأمة. وأوجبت الحنابلة على الحرّة فطرة نفسها في هذه الصورة.
وتمسّك هؤلاء الذين أوجبوها على الزوج بالقياس على النفقة، واستأنسوا بما رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر عن الصغير" والكبير، والحرّ، والعبد، ممن تمونون". روه الدارقطنيّ، والبيهقيّ، وقال: إسناده غير قويّ. ورواه البيهقيّ أيضًا من رواية جعفر بن محمد، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلاً، وفي رواية عن عليّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلاً أيضًا. قال النوويّ في "شرح المهذّب": الحاصل أن هذه اللفظة: "ممن تمونون" ليست بثابتة انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه الأولون من أن إخراج زكاة الفطر على المرأة في مالها، لا على الزوج، هو الصواب؛ لأن الوجوب عليها بنصّ الحديث، فلا يجب الإخراج على غيرها، وهو الزوج، وحجة من أوجب على الزوج هو القياس على النفقة، والقياس في مقابلة النصّ غير صحيح، ومن حجتهم أيضًا الحديث المذكور، وقد عرفت أنه لا يثبت، فلا يصلح للاحتجاج به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
32 - (بَابُ فَرْضِ زَكَاةِ رَمَضَانَ عَلَى الصَّغِيرِ)
2502 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، زَكَاةَ رَمَضَانَ، عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، حُرٍّ وَعَبْدٍ، ذَكَرٍ
(1)
وَأُنْثَى، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح:
وتقدّموا غير مرّة. والسند من رباعيات المصنّف، وهو (128) من رباعيات الكتاب، وهو أصح الأسانيد مطلقًا، على ما نقل عن الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-، وهم مدنيون، إلا شيخه، فبغلانيّ.
والحديث متفق عليه، وقد تقدّم الكلام عليه، وعلى مسائله مُستوفًى فيما مضى، وأذكر هنا ما يتعلق بما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان اختلاف أهل العلم في إخراج زكاة الفطر عن الصغير، فأقول:
(مسألة): اختلفوا في إخراج زكاة الفطر عن الصغير الذي لم يبلغ، هل هي في ماله، إن كان له مالٌ، أو هي على أبيه؟:
فذهب مالكٌ، والشافعيّ، وأحمد، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، والجمهور إلى أنها في ماله، إن كان له مالٌ، فإن لم يكن له مالٌ، فعلى من عليه نفقته، من أبٍ وغيره.
وقال محمد بن الحسن: هي على الأب مطلقًا، ولو كان للصغير مالٌ. وقال ابن حزم: هي في مال الصغير، إن كان له مالٌ، فإن لم يكن له شيء سقطت عنه، ولا تجب على أبيه. وقد حكى ابن المنذر الإجماع على خلافه. وقال ابن العربيّ: لا خلاف بين الناس أن الابن الصغير إذا كان له مالٌ أن زكاة الفطر تُخرج من ماله انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الأولون من أنها تجب في مال الصبيّ، إن كان له مالٌ، وإلا فعلى من تلزمه نفقته هو الأرجح عندي. واللَّه تعالى أعلم.
وقال الشافعيّة: لا يختصّ ذلك بالصغير، بل متى وجبت نفقة الكبير بزمانة، ونحوها، وجبت فطرته، فلو كان الابن الكبير في نفقة أبيه، فوجد قوته ليلة العيد ويومه لم تجب فطرته على الأب؛ لسقوط نفقته عنه في وقت الوجوب، ولا على الابن؛
(1)
- وفي نسخة: "وذكر".
لإعساره، وكذا الابن الصغير، إذا كان كذلك في الأصحّ.
وحكوا عن سعيد بن المسيّب، والحسن البصريّ أنها لا تجب إلا على من صلّى، وصام. وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنها لا تجب إلا على من أطاق الصوم والصلاة.
قال الماورديّ: وبمذهبنا قال سائر الصحابة، والتابعين، وجميع الفقهاء انتهى. ذكره وليّ الدين
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحكاية المذكورة عن عليّ، وابن المسيّب، والحسن ما أظنها تصحّ، وإن صحّت فلا يُلتفت إليها؛ حيث إنها تصادم صريح النصّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بقوله:"على الكبير والصغير" من غير فرق بين من أطاق الصوم والصلاة، ومن لم يطق. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: من أغرب ما ذكره ابن حزم في هذه المسألة أنه قال: تجب زكاة الفطر على الجنين، مستدلاً بذكر الصغير في هذا الحديث، وقال: الجنين يقع عليه اسم صغير، ثم استدلّ بحديث ابن مسعود رضي الله عنه في "الصحيحين": يُجمَع خلق أحكم في بطن أربعين يومًا، ثم يكون عَلَقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث اللَّه إليه ملكًا
…
وفيه: "ثم ينفخ فيه الروح"
…
الحديث". ثم قال: هو قبل ما ذكرنا موات، فلا حكم على ميت، وأما إذا كان حيًّا، فكلّ حكم وجب على الصغير، فهو واجب عليه، ثم ذكر من رواية بكر بن عبد اللَّه المزنيّ، وقتادة أن عثمان رضي الله عنه كان يُعطي صدقة الفطر عن الصغير، والكبير، حتى عن الحمل في بطن أُمّه. وعن أبي قلابة، قال: كان يعجبهم أن يُعطوا زكاة الفطر عن الصغير، والكبير، حتى عن الحمل في بطن أمّه. قال: وأبو قلابة أدرك الصحابة، وصحبهم، ورَوَى عنهم. وعن سليمان بن يسار أنه سئل عن الحمل، أيُزكَّى عنه؟ قال: نعم. قال: ولا يُعرف لعثمان في هذا مخالف من الصحابة انتهى.
فتعقّبه الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح الترمذيّ" -وأصاب في ذلك- فقال: إنّ استدلاله بما استدلّ به على وجوب زكاة الفطر على الجنين في بطن أُمّه في غاية العجب:
أما قوله: "على الصغير، والكبير"، فلا يَفهَم عاقلٌ منه إلا الموجودين في الدنيا، أما المعدوم، فلا نعلم أحدًا أوجب عليه.
وأما حديث ابن مسعود، فلا يَطّلع على ما في الرحم إلا اللَّه، كما قال:{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34]، وربما يُظنّ حملها، وليس يحمل، وقد قال إمام
(1)
- "طرح التثريب" ج 4 ص 59 - 60.
الحرمين: لا خلاف في أنّ الحمل لا يُعلم، وإنما الخلاف في أنه يعامل معاملة المعلوم، بمعنى أنه يؤخّر له ميراث؛ لاحتمال وجوده، ولم يختلف العلماء في أنّ العمل لا يملك شيئًا في بطن أمّه، ولا يُحكم على المعدوم حتى يظهر وجوده.
قال: وأما استدلاله بما ذكر عن عثمان وغيره، فلا حجّة فيه؛ لأن أثر عثمان منقطع، فإن بكرًا، وقتادة روايتهما عن عثمان مرسلةٌ، والعجب أنه لا يحتجّ بالموقوفات، ولو كانت صحيحة متّصلة.
وأما أثر أبي قلابة فَمَنِ الذين يُعجبهم ذلك؟، وهو لو سمّى جمعًا من الصحابة لما كان ذلك حجّة. وأما سليمان بن يسار، فلم يثبت عنه، فإنه من رواية رجل لم يُسمّ، عنه، فلم يثبت فيه خلاف لأحد من أهل العلم، بل قول أبي قلابة: كان يُعجبهم ظاهر في عدم وجوبه، ومن تبرّع بصدقة عن حمل، رجاء حفظه، وسلامته، فليس عليه فيه بأس.
وقد نُقِلَ الاتفاقُ على عدم الوجوب قبل مخالفة ابن حزم، فقال ابن المنذر: ذَكَرَ كلُّ من يُحفظ عنه العلم، من علماء الأمصار أنه لا يجب على الرجل إخراج زكاة الفطر عن الجنين في بطن أمّة، وممن حُفظ ذلك عنه: عطاء بن أبي رباحٍ، ومالكٌ، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وكان أحمد بن حنبل يستحبّ ذلك، ولا يوجبه، ولا يصحّ عن عثمان خلاف ما قلناه انتهى.
وعن أحمد بن حنبل رواية أخرى بوجوب إخراجها عن الجنين
(1)
. وقال ابن عبد البرّ: فيمن وُلد له مولود بعد يوم الفطر لم يختلف قول مالك أنه لا يلزم فيه شيء، قال: وهذا إجماع منه، ومن سائر العلماء، ثم أشار إلى أن ما ذُكر عن مالك، وغيره من الإخراج عمن وُلد في بقيّة يوم الفطر محمول على الاستحباب. وكذا ما حكاه عن الليث فيمن وُلد له مولود بعد صلاة الفطر أن على أبيه زكاة الفطر عنه، قال: وأُحِبّ ذلك للنصرانيّ يُسلم ذلك الوقت، ولا أراه واجبًا عليه.
قال الحافظ العراقيّ: فقد صرّح الليث فيه بعدم الوجوب، ولو قيل بوجوبه لم يكن بعيدًا؛ لأنه يمتدّ وقت إخراجها إلى آخر يوم الفطر، قياسًا على الصلاة، يُدرَك وقت أدائها.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في قوله: يمتدّ وقت إخراجها قياسًا الخ نظر لا يخفى؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من أدّاها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد
(1)
- إن صحّت هذه الرواية عن أحمد تنقض دعوى الإجماع. فتنبّه.
الصلاة، فهي صدقة من الصدقات" رواه أبو داود وابن ماجه بإسناد حسن. وهو ظاهر في كون ما بعد الصلاة ليس وقتًا لها، والقياس في مقابلة النصّ فاسد الاعتبار. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
قال: ومع كون ابن حزم قد خالف الإجماع في وجوبها على الجنين، فقد تناقض كلامه، فقال: إن الصغير لا يجب على أبيه زكاة الفطر عنه، إلا أن يكون له مالٌ، فيُخرج عنه من ماله، فإن لم يكن له مالٌ لم يجب عليه حينئذ، ولا بعد ذلك، فكيف لا يوجب زكاته على أبيه، والولد حيّ موجود، ويوجبها، وهو معدوم، لم يوجد؟.
فإن قلت: يُحمل كلامه على ما إذا كان للحمل مالٌ. قلت: كيف يمكن أن يكون له مالٌ، وهو لا يصحّ تمليكه، ولو مات من يرثه العمل لم نملّكه، وهو جنين، فلا يوسف بالملك إلا بعد أن يولد، وكذلك النفقة الصحيح أنها تجب للأمّ الحامل، لا للحمل، ولو كانت للحمل لسقطت بمضيّ الزمان، كنفقة القريب، وهي لا تسقط انتهى كلام الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
وهو بحث نفيس في الجملة. واللَّه تعالى أعلم
بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
33 - (فَرْضُ زَكَاةِ رَمَضَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، دُونَ الْمُعَاهِدِينَ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "دون المعاهدين": أي دون الذّمّيّين. ويجوز ضبط "المعاهدين" بصيغة اسم الفاعل، وبصيغة اسم المفعول. قال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: والعَهْدُ: الأَمَانُ، والْمَوْثِقُ، والذّمّةُ، ومنه قيل للحربيّ يدخُلُ بالأمان: ذو عهد، ومُعاهد أيضًا بالبناء للفاعل، والمفعول؛ لأن الفعل من اثنين، فكلّ واحد يفعل بصاحبه، مثل ما يفعله صاحبه به، فكلّ واحد في المعنى فاعلٌ، ومفعولٌ، وهذا كما يُقالُ: مكاتِبٌ، ومكاتَبٌ، ومضارِبٌ، ومضارَبٌ، وما أشبه ذلك. والمعاهَدَةُ: المعاقَدَةُ، والمحالَفَةُ انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(1)
- راجع "طرح التثريب" ج 4 ص 60 - 61.
(2)
- "المصباح المنير" في مادّة عهد.
2503 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، عَلَى النَّاسِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، سوى شيخه الحارث، وهو ثقة حافظ.
والحديث متفق عليه، وقد تقدّم الكلام عليه مستوفًى، وإنما أتكلّم هنا في زيادة لفظة:"من المسلمين"، وفيما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو عدم وجوب زكاة الفطر على الذّمّيّ، فيكون البحث في مسألتين فقط:
(المسألة الأولى): في الكلام على زيادة "من المسلمين" في هذا الحديث:
(اعلم): أنه ذَكَرَ غير واحد أن مالكًا تفرّد بها من بين الثقات، فقال الترمذيّ في "العلل" التي في آخر "الجامع": وربّ حديث إنما يُستغرب لزيادة تكون في الحديث، وإنما يصحّ إذا كانت الزيادة ممن يُعتمد على حفظه، مثل ما رَوَى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، فذكر هذا الحديث، قال: وزاد مالكٌ في هذا الحديث "من المسلمين". قال: وقد رَوَى أيوب السختيانيّ، وعُبيد اللَّه بن عُمر، وغير واحد من الأئمّة هذا الحديث، عن نافع، عن ابن عُمر، ولم يذكروا فيه "من المسلمين". وقد روى بعضهم عن نافع مثل رواية مالك، ممن لا يُعتمد على حفظه. وتبعه على ذلك ابن الصلاح في "علوم الحديث".
قال الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح الترمذيّ": ولم ينفرد مالك بقوله: "من المسلمين"، بل قد رواه جماعة ممن يُعتمد على حفظهم، واختُلف على بعضهم في زيادتها، وهم عشرة، أو أكثر
(1)
، منهم:
عمر بن نافع، والضحّاك بن عثمان، وكَثِير بن فَرْقَد، والمعلّى بن إسماعيل، ويونس ابن يزيد، وابن أبي ليلى، وعبد اللَّه بن عمر العمريّ، وأخوه عُبيد اللَّه بن عمر، وأيوب السختيانيّ، على اختلاف عنهما في زيادتها.
فأما رواية عمر بن نافع، عن أبيه، فأخرجها البخاريّ في "صحيحه". وأما رواية الضحّاك بن عثمان، فأخرجها مسلم في "صحيحه". وأما رواية كثير بن فَرْقَد، فرواها الدارقطنيّ في "سننه"، والحاكم في "المستدرك"، وقال: إنه صحيح على شرطهما.
(1)
- لكن الذين ذكرهم هنا لا يتجاوزن تسعة، فليحرّر. واللَّه تعالى أعلم.
وأما رواية المعلّى بن إسماعيل، فرواها ابن حبّان في "صحيحه"، والدارقطنيّ في "سننه". وأما رواية يونس بن يزيد، فرواها الطحاويّ في "بيان المشكل". وأما رواية ابن أبي ليلى، وعبد اللَّه بن عمر العمريّ، وأخيه عبيد اللَّه بن عمر التي أتى فيها بزيادة قوله:"من المسلمين"، فرواها الدارقطنيّ في "سننه". وأما رواية أيوب السختيانيّ، فذكرها الدارقطنيّ في "سننه"، وأنها رُويت عن ابن شَوْذَب، عن أيوب، عن نافع انتهى كلام الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى-.
وقال الحافظ في "الفتح": قال ابن عبد البرّ: لم يَختلف الرواة عن مالك في هذه الزيادة، إلا أنّ قتيبة بن سعيد، رواه عن مالك بدونها، وأطلق أبو قلابة الرقَاشِيّ، ومحمد بن وضّاح، وابن الصلاح، ومن تبعه أن مالكًا تفرّد بها، دون أصحاب نافع.
وهو متعقّبٌ برواية عمر بن نافع المذكورة في "صحيح البخاريّ". وكذا أخرجه مسلمٌ من طريق الضحّاك بن عثمان، عن نافع بهذه الزيادة. وقال أبو عوانة في "صحيحه": لم يقل فيه: "من المسلمين" غير مالك، والضحّاك. ورواية عمر بن نافع تردّ عليه أيضًا.
وقال أبو داود بعد أن أخرجه من طريق مالك، وعمر بن نافع: رواه عبد اللَّه العمريّ، عن نافع، فقال:"على كلّ مسلم". ورواه سعيد بن عبد الرحمن الْجُمَحِيّ، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، فقال فيه:"من المسلمين". والمشهور عن عبيد اللَّه، ليس فيه "من المسلمين" انتهى.
وقد أخرجه الحاكم في "المستدرك" من طريق سعيد بن عبد الرحمن المذكورة. وأخرجه الدارقطنيّ، وابن الجارود من طريق عبد اللَّه العمريّ.
وقال الترمذيّ في "الجامع" بعد رواية مالك: رواه غير واحد عن نافع، ولم يذكروا فيه "من المسلمين". وقال في "العلل" التي في آخر "الجامع": روى أيوب، وعُبيد اللَّه ابن عمر، وغير واحد من الأئمّة هذا الحديث عن نافع، ولم يذكروا فيه "من المسلمين". وروى بعضهم عن نافع مثل رواية مالك، ممن لا يُعتمد على حفظه انتهى.
وهذه العبارة أولى من عبارته الأولى، ولكن لا يُدرى مَن عَنَى بذلك.
وقال النوويّ في "شرح مسلم": رواه ثقتان غير مالك: عمر بن نافع، والضحّاك انتهى.
قال الحافظ: وقد وقع لنا من رواية جماعة غيرهما، منهم: كثير بن فَرْقَد، عند الطحاويّ، والدارقطنيّ، والحاكم. ويونسُ بن يزيد عند الطحاويّ. والْمُعَلَّى بن إسماعيل عند ابن حبّان في "صحيحه". وابنُ أبي ليلى عند الدارقطنيّ، أخرجه من طريق عبد الرزاق، عن الثوريّ، عن ابن أبي ليلى، وعبيدِ اللَّه بنِ عمر، كلاهما عن
نافع. وهذه الطريق تردّ على أبي داود في إشارته إلى أنّ سعيد بن عبد الرحمن تفرّد بها عن عبيد اللَّه بن عمر، لكن يحتمل أن يكون بعض رواته حمل لفظ ابن أبي ليلى على لفظ عبيد اللَّه.
وقد اختُلف فيه على أيوب أيضًا، كما اختُلف على عبيد اللَّه بن عمر، فذكر ابن عبد البرّ أن أحمد بن خالد ذكر عن بعض شيوخه، عن يوسف القاضي، عن سليمان بن حرب، عن حمّاد، عن أيوب، فذكر فيه "من المسلمين". قال ابن عبد البرّ: وهو خطأٌ، والمحفوظ فيه عن أيوب ليس فيه "من المسلمين" انتهى.
وقد أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" من طريق عبد اللَّه بن شَوْذَب، عن أيوب، وقال فيه أيضًا:"من المسلمين".
قال الحافظ: وذكر شيخنا سراج الدين ابن الملَقّن في "شرحه" تبعًا لمغلطاي أن البيهقيّ أخرجه من طريق أيوب بن موسى، وموسى بن عقبة، ويحيى بن سعيد، ثلاثتهم، عن نافع، وفيه الزيادة. وقد تتبعّتُ تصانيف البيهقيّ، فلم أجد فيها هذه الزيادة من رواية أحد من هؤلاء الثلاثة.
وفي الجملة ليس فيمن رَوَى هذه الزيادة أحدٌ مثلُ مالك؛ لأنه لم يُتّفق على أيوب، وعبيد اللَّه في زيادتها، وليس في الباقين مثل يونس، لكن في الراوي عنه، وهو يحيى بن أيوب مقال. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن القول بأن مالكًا -رحمه اللَّه تعالى- تفرّد بزيادة "من المسلمين" غير صحيح، فقد تابعه جماعة من الرواة الذين تقدّم ذكرهم آنفًا، إلا إذا أراد من قال ذلك أن هؤلاء الذين تابعوا مالكًا ليسوا مثله، أو لم يُتَّفقْ عليهم كما اتُّفِقَ عليه، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في وجوب زكاة الفطر على الكافر:
(اعلم): أن زيادة "من المسلمين" في حديث الباب تدلّ على اشتراط الإسلام في وجوب زكاة الفطر، ومقتضاه أنها لا تجب على الكافر، عن نفسه، وهو متّفقٌ عليه، وهل يُخرجها عن غيره، كمستولدته المسلمة مثلاً؟ نقل ابن المنذر فيه الإجماع على عدم الوجوب، لكن فيه وجه للشافعيّة، ورواية عن أحمد، وهل يُخرجها المسلم عن عبده الكافر؟ قال الجمهور: لا، خلافًا لعطاء، والنخعيّ، والثوريّ، والحنفيّة، وإسحاق، واستدلُّوا بعموم قوله:"ليس على المسلم في عبده صدقةٌ، إلا صدقة الفطر".
وأجاب الآخرون بأن الخاصّ يقضي على العامّ، فعموم قوله:"في عبده" مخصوصٌ بقوله: "من المسلمين".
وقال الطحاويّ: قوله: "من المسلمين" صفةٌ للمخرجِين، لا للمخرَجِ عنهم. وظاهر الحديث يأباه؛ لأن فيه العبد، والصغير في رواية عمر بن نافع، وهما ممن يُخرَجُ عنه، فدلّ على أنّ صفة الإسلام لا تختصّ بالمخرِجِين. ويؤيّده رواية الضّحّاك عند مسلم، بلفظ: "على كلّ نفسٍ، من المسلمين، حرٍّ، أو عبدٍ
…
" الحديث.
وقال القرطبيّ: ظاهر الحديث أنه قصد بيان مقدار الصدقة، ومن تجب عليه، ولم يقصد فيه بيان من يُخرجها عن نفسه، ممن يُخرجها عن غيره، بل شمل الجميع.
ويؤيّده حديث أبي سعيد الآتي
(1)
، فإنه دالّ على أنهم كانوا يُخرجون عن أنفسهم، وعن غيرهم؛ لقوله فيه:"عن كلّ صغير، وكبير". لكن لا بدّ من أن يكون بين المخرِج، وبين الغير ملابسةٌ، كما بين الصغير ووليّه، والعبد وسيّده، والمرأة وزوجها.
وقال الطيبيّ: قوله: "من المسلمين" حال من العبد، وما عُطف عليه، وتنزيلها على المعاني المذكورة أنها جاءت مزدوجة على التضادّ؛ للاستيعاب، لا للتخصيص، فيكون المعنى: فرض على جميع الناس، من المسلمين. وأما كونها فيم وجبت، وعلى من وجبت؟ فيُعلم من نصوص أخرى انتهى.
ونقل ابن المنذر أن بعضهم احتجّ بما أخرجه من حديث ابن إسحاق، "حدثني نافع أن ابن عمر كان يُخرج عن أهل بيته، حرِّهم، وعبدِهم، صغيرِهم، وكبيرهم، مسلمهم، وكافرهم، من الرقيق". قال: وابن عمر راوي الحديث، وقد كان يخرج عن عبده الكافر، وهو أعرف بمراد الحديث. وتعقّب بأنه لو صحّ حُمِل على أنه كان يخرج عنهم تطوّعًا، ولا مانع منه.
واستُدلّ بعموم قوله: "من المسلمين" على تناولها لأهل البادية -وهو الحقّ-، خلافًا للزهريّ، وربيعة، والليث في قولهم: إنّ زكاة الفطر تختصّ بالحاضرة. ذكره في "الفتح"
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب إخراج زكاة
(1)
-يعني ما أخرجه مسلم في "صحيحه"، ونصّه: 985 حدثنا عبد اللَّه بن مسلمة بن قعنب، حدثنا داود -يعني ابن قيس- عن عياض بن عبد اللَّه، عن أبي سعيد الخدريّ، قال:"كنا نخرج، إذ كان فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، زكاة الفطر، عن كل صغير وكبير، حر أو مملوك، صاعا من طعام، أو صاعا من أقط، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من زبيب، فلم نزل نخرجه، حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان، حاجا أو معتمرا، فكلم الناس على المنبر، فكان فيما كلم به الناس، أن قال: إني أرى، أن مدين من سمراء الشام، تعدل صاعا من تمر، فأخذ الناس بذلك، قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه، كما كنت أخرجه، أبدا ما عشت" انتهى.
(2)
- "فتح" ج 142 - 143.
الفطر عن العبد الكافر هو الأرجح عندي؛ عملاً بالحديثين، فيُخصَّصُ عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس على المسلم في عبده صدقة، إلا صدقة الفطر بقوله صلى الله عليه وسلم: "من المسلمين" في حديث الباب، فالعمل بهما متعيّنٌ بالوجه المذكور، وإلا أدّى إلى إلغاء أحد النصّين، مع إمكان العمل بهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2504 أ- (أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى، قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"يحيى بن محمد بن السكن" البصريّ، نزيل بغداد، صدوق [11] 60/ 1770.
و"محمد بن جَهْضَم" البصريّ خراسانيّ الأصل، صدوق [10] 60/ 1770.
و"إسماعيل بن جعفر" بن أبي كثير المدنيّ، ثقة ثبت [8] 16/ 17.
والحديث متفق عليه، وقد تقدّم الكلام عليه في الذي قبله، وسيأتي الكلام على قوله:"وأمر بها أن تُؤَدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة" في -45/ 2521 - إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
34 - (كَمْ فُرِضَ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: و"فرض" يحتمل أن يكون مبنيًّا للمفعول، ونائب فاعله ضمير "زكاة الفطر"، وذكّره بتأيله بالْمُؤَدَّى. ويحتمل أن يكون مبنيًّا للفاعل، وفاعله ضمير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2505 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَدَقَةَ الْفِطْرِ، عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح: وقد تقدّموا غير مرّة. و"عيسى": هو ابن يونس ابن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ. و"عبيد اللَّه": هو
ابن عمر العمريّ المدنيّ الفقيه الحجة الثبت. والحديث متفق عليه، وقد تقدّم الكلام عليه مستوفًى قريبًا، وإنما أذكر هنا ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مقدار زكاة الفطر، فأقول:
(مسألة): اختَلَفَ أهلُ العلم في مقدار المخرَج في زكاة الفطر، فذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وجمهور العلماء، من السلف، والخلف إلى أن الواجب إخراجه في زكاة الفطر صاع، من أيّ جنس أُخرج. وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصريّ، وأبي العالية، وجابر بن زيد، وإسحاق بن راهويه. قال ابن قُدامة: وروي عن أبي سعيد الخدريّ انتهى.
وقال أبو حنيفة: إنما يُخرِج صاعًا، إذا أَخرج تمرًا، أو شعيرًا، فأما إذا أخرج قَمْحًا، أو دقيقه، أو سويقه، فالواجب نصف صاع، وعنه في الزبيب روايتان: أشهرهما عنه أنه مثل القَمْح، فيُخرج منه نصف صاع. والثانية: أنه كالشعير، فيخرج منه صاعًا، وبه قال أبو يوسف، ومحمد. وحكاه ابن المنذر عن سفيان الثوريّ، وأكثر أهل الكوفة، غير أبي حنيفة. قال: وروينا عن جماعة من الصحابة، والتابعين أنه يجزئ نصف صاع من البرّ، روينا ذلك عن أبي بكر، وعثمان، وليس يثبت ذلك عنهما، وعن عليّ، وابن مسعود، وجابر بن عبد اللَّه، وأبي هريرة، وابن الزبير، ومعاوية، وأسماء. وبه قال سعيد بن المسيّب، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز، ورُوي ذلك عن سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبي قلابة، وعبد اللَّه ابن شدّاد، ومصعب بن سعد. واختُلف فيه عن عليّ، وابن عبّاس، والشعبيّ، فروي عن كلّ منهم القولان جميعًا انتهى.
قال وليّ الدين: وهو قول في مذهب مالك أنه يُجزىء من القمح نصف صاع.
واحتجّ هؤلاء بما في "سنن أبي داود" عن ثعلبة بن أبي صُعير، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"صاع من قَمْح، على كلّ اثنين"
(1)
. وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما: "فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الصدقة، صاعًا من تمر، أو شعير، أو نصف صاع قَمْح".
(1)
- هذا الحديث ضعيف، وله طرق عند أحمد، وأبي داود، والدارقطنيّ، وغيرهم، إلا أن مدار الجميع على الزهريّ، عن عبد اللَّه بن ثعلبة، وقد اختلف عليه في إسناده ومتنه، وقد أوضح هذا الاختلاف الدارقطنيّ في "علله"، ونقله الزيلعيّ في "نصب الراية"، وقال ابن التركمانيّ في "الجوهر النقيّ": هو حديث اضطرب إسنادًا ومتنًا، وقد بين البيهقيّ بعض ذلك. وقال ابن عبد البرّ: هذا حديث مضطرب لا يثبت، وليس دون الزهريّ في هذا الحديث من تقوم به حجة، واختلف عليه فيه أيضًا انتهى. انظر "المرعاة" ج 6 ص 211 - 212.
وروى الترمذيّ عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث مناديًا في فِجاج مكّة: ألا إن صدقة الفطر واجبة على كلّ مسلم، ذكر، أو أنثى، حرّ، أو عبد، صغير، أو كبير، مدّان من قَمْحٍ، أو سواه صاعٌ من طعام". قال الترمذيّ: حسنٌ غريبٌ
(1)
.
واحتجّ الأوّلون بأن في بعض طرُق حديث ابن عمر "صاعًا من بُرّ"، وهذه زيادة يجب الأخذ بها. وروي أيضًا من حديث عليّ، وزيد بن ثابت. وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: كنّا نعطيها في زمان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، فلما جاء معاوية، وجاءت السَّمْرَاء، قال: أرى مدًّا من هذا يعدل مدّين". قال ابن عبد البرّ: ولم يختلف مَن ذكر الطعام في هذا الحديث أنه أراد به الحنطة. وثبت في "الصحيحين" في حديث ابن عمر: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، فعجل الناس عدله مدّين من حنطة". وهذا صريح في أن إخراج نصف صاع من القَمح لم يكن في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما حدث بعده. وأجابوا عن أحاديث نصف الصاع من القمح بأنها لا تثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قاله ابن المنذر
(2)
.
وقال في "الفتح": وقال ابن المنذر أيضًا: لا نعلم في القَمْح خبرًا ثابتًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، يُعتَمد عليه، ولم يكن البرّ بالمدينة ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه، فلما كثر في زمن الصحابة رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من شعير، وهم الأئمّة، فغير جائز أن يُعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم، ثم أسند عن عثمان، وعليّ، وأبي هريرة، وجابر، وابن عبّاس، وابن الزبير، وأمّه أسماء بنت أبي بكر بأسانيد صحيحة أنهم رأوا أن في زكاة الفطر نصف صاع من قمح انتهى. وهذا مصيرٌ منه إلى اختيار ما ذهب إليه الحنفيّة. لكن حديث أبي سعيد دالّ على أنه لم يوافق على ذلك، وكذلك ابن عمر، فلا إجماع في المسألة، خلافًا للطحاويّ. وكان الأشياء التي ثبت ذكرها في حديث أبي سعيد لَمّا كانت متساويةً في مقدار ما يخرج منها مع ما يُخالفها في القيمة دلّ على أنّ إخراج هذا المقدار من أيّ جنس كان، فلا فرق بين الحنطة وغيرها. هذه حجّة الشافعيّ. وأما من جعله نصف صاع منها بدل صاع من شعير، فقد فعل ذلك بالاجتهاد بناءً منه على أن
(1)
- بل هو ضعيف؛ لأن فيه عنعنعة ابن جريج، وهو مشهور بالتدليس، قال الدارقطنيّ: تجنّب تدليس ابن جريج، فإنه قبيح التدليس، لا يدلّس إلا فيما سمعه من مجروح. وقال الترمذيّ: سألت محمدًا -يعني البخاريّ- عن هذا الحديث؟ فقال: ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب انتهى. انظر "المرعاة" ج 6 ص 209.
(2)
- "طرح التثريب" ج 4 ص 52 - 53.
قيم ما عدا الحنطة متساوية، وكانت الحنطة إذ ذاك غالية الثمن، لكن يلزم على قولهم أن تعتبر القيمة في كلّ زمان، فيختلف الحال، ولا ينضبط، وربّما لزم في بعض الأحيان إخراج آصُعٍ من حنطة، ويدلّ على أنهم لحظوا ذلك ما رَوَى جعفر الفريابيّ في "كتاب صدقة الفطر" أن ابن عبّاس لما كان أمير البصرة أمرهم بإخراج زكاة الفطر، وبيّن لهم أنها صاع من تمر، إلى أن قال: أو نصف صاع من برّ. قال: فلما جاء عليّ، ورأى رخص أسعارهم، قال: اجعلوها صاعًا من كلّ. فدلّ على أنه كان ينظر إلى القيمة في ذلك، ونظر أبو سعيد إلى الكيل. انتهى
(1)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الأحوط أن يُخرح من الحنطة صاعًا، وإن أخرج نصف صاع تبعًا لما نُقل عن جلّ الصحابة، كما تقدّم، فلا مانع؛ لأنه اجتهاد منهم لم يصادم نصًّا صحيحًا، إذ لم يصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في صاع البرّ، ولا نصفه شيء يُعتمد عليه.
وأما دعوى الإجماع من الصحابة على نصف صاع من برّ، كما زعمه الزيلعيّ وغيره فغير صحيح؛ لصحة مخالفة أبى سعيد الخدريّ، وابن عمر رضي الله عنهم. فلا إجماع مع مخالفتهما. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
35 - (بَابُ فَرْضِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ نُزُولِ الزَّكَاةِ)
2506 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ
(2)
، قَالَ:"كُنَّا نَصُومُ عَاشُورَاءَ، وَنُؤَدِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ، وَنَزَلَتِ الزَّكَاةُ، لَمْ نُؤْمَرْ بِهِ، وَلَمْ نُنْهَ عَنْهُ، وَكُنَّا نَفْعَلُهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إسماعيل بن مسعود) الجَحْدَرِيُّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.
(1)
- "فتح" ج 4 ص 146 - 147.
(2)
- وفي نسخة "عن قيس بن سعد" بدون "ابن عبادة".
2 -
(يزيد بن زريع) أبو معاوية البصري، ثقة ثبت [8] 5/ 5.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.
4 -
(الحكم بن عتيبة) الكندي، أبو محمد الكوفي، ثقة ثبت، ربما دلس [5] 86/ 104.
5 -
(القاسم بن مخيمرة) الهمداني الكوفي، نزيل الشام، ثقة فاضل [3] 99/ 128.
6 -
(عمرو بن شُرَحبيل) الهمداني، أبو ميسرة الكوفي، ثقة عابد مخضرم [2] 180/ 285.
7 -
(قيس بن سعد) بن عُبادة الخزرجي الأنصاري الصحابي ابن الصحابي، مات سنة ستين تقريبًا، وقيل: بعد ذلك، وتقدَّم في 46/ 1921. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو ثقة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين غير شيخه. (ومنها): أنَّ فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الحَكَم، عن القاسم، عن عمرو. (ومنها): أن الثلاثة الأولين بصريون، والباقون كوفيّون، إلا الصحابيّ، فمدنيٌّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: "كُنَّا نَصُومُ عَاشُورَاءَ) أي اليوم العاشر من المحرم (وَنُؤَدِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ) أي نزل وجوب صومه، وكان وجوبه في شعبان من السنة الثانية من الهجرة، فقد أخرج ابن سعد في "الطبقات" بسنده عن عائشة، وابن عمر، وأبي سعيد الخدريّ رضي الله عنهم، قالوا: فُرض صوم رمضان بعد ما حُوّلت القبلة إلى الكعبة بشهر، في شعبان، على رأس ثمانية عشر شهرًا، من مُهاجَر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمر عليه عليه السلام في هذه السنة بزكاة الفطر، وذلك قبل أن يُفرض الزكاة في الأموال، وأن يُخرَج عن الصغير، والكبير، والذكر والأنثى، والحرّ والعبد، صاع من تمر، أو صاع من زبيب، أو مدّان من بُرّ، وأمر بإخراجها قبل الغدوّ إلى الصلاة، وقال:"أغنُوهم -يعني المساكين- عن الطواف هذا اليوم" انتهى
(1)
. وفي إسناده الواقديّ، وهو متروك.
(وَنَزَلَتِ الزَّكَاةُ) أي نزل وجوب أداء زكاة المال (لَمْ نُؤْمَرْ بِهِ) الظاهر أن الضمير راجع
(1)
- "الطبقات" لابن سعد ج 3 ص 8. وانظر نصب الراية ج 2 ص 432.
إلى المذكور، من كلِّ من عاشوراء، والزكاة، أي لم نؤمر بصوم عاشوراء، وأداء زكاة الفطر (وَلَمْ نُنْهَ عَنْهُ) أي عن كلّ مما ذُكر (وَكُنَّا نَفْعَلُهُ) وفي الرواية التالية:"أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تَنزل الزكاة، فلمّا نزلت الزكاة، لم يأمرنا، ولم ينهنا، ونحن نفعله". وأخرجه أحمد في "مسنده"، فقال:
23328 -
حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبي عمار، قال: سألت قيس بن سعد، عن صدقة الفطر؟ فقال:"أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت الزكاة، فلم ننه عنها، ولم نؤمر بها، ونحن نفعله". وسألته عن صوم عاشوراء؟ فقال: "أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قبل أن ينزل رمضان، ثم نزل رمضان، فلم نؤمر به، ولم ننه عنه، ونحن نفعله".
وقد استدلّ به من قال: إن وجوب زكاة الفطر نُسخ، وهو إبراهيم ابن عُليّة، وأبو بكر بن كيسان الأصمّ، وأشهب من المالكيّة، وابن اللبّان، من الشافعيّة. قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وتُعُقّب بأن في إسناده راويًا مجهولًا.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا قال الحافظ في "الفتح" جـ4 ص 139 - : ولا أدري مَن هو الراوي المجهول في هذا السند، والسند الذي بعده؟، فإنهم كلّهم ثقات مشهورن، من رجال الصحيح، غير أبي عمّار، وهو عَرِيب بن حميد، وهو كوفيّ ثقة، فلتُراجَع تراجمهم من "تهذيب الكمال"، و"تهذيب التهذيب"، و"التقريب".
قال: وعلى تقدير الصّحّة، فلا دليل فيه على النسخ؛ لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأول؛ لأن نزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر انتهى.
والحاصل أن فرض الزكاة لا يستلزم نسخ فرض صدقة الفطر، لأن النسخ إنما يثبت ببيان الشارع أن هذا الأمر بدل عن هذا الأمر، كما بَيّن صلى الله عليه وسلم حينما فُرض رمضان أن وجوب صوم عاشوراء نُسخ، ففي حديث عائشة رضي الله عنها عند الشيخين: أن قريشا كانت تصوم عاشوراء، في الجاهلية، ثم أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بصيامه، حتى فُرض رمضان، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من شاء فليصمه، ومن شاء فليفطره".
فقد صرّح النبيّ صلى الله عليه وسلم بنسخ وجوب صوم عاشوراء، وأما إذا أمر بشيء، ثم أمر بعده بشيء آخر، كما نحن فيه، فهيهات أن يُفهَم منه أن الأول منسوخ بالثاني، ولذا قال الصحابيّ هنا: وكنّا نفعله، أي لأن الأمر الأول باق، ولم يقل: فمنا من فعله، ومنا من تركه، كما صحّ ذلك في عاشوراء، ففي "الصحيحين": من حديث عائشة رضي الله عنها أيضًا: "فلما فُرض رمضان، تُرك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه".
فقد اتضح الفرق بين فرض صوم عاشوراء، حيثُ نُسخ، وفرض زكاة الفطر، حيث لم يُنسخ، وكان فعلُ الصحابة له بالأمر السابق، إذ هو باق لم يتغيّر عن صفته.
فقول السنديّ: قوله: "لم نؤمر به، ولم ننهه عنه الخ": الظاهر أن المراد سقط الأمر به، لا إلى نهي، بل إلى إباحة الخ غير صحيح، فبأي دليل سقط الأمر، وأين ذلك، فهل أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم به، أو هل ترك الصحابة أداء زكاة الفطر؟ كلّا.
وكذا قوله: وبالجملة، فهذا الحديث يضعّف كون الافتراض قطعيا، ويؤيّد القول بأنه ظنيّ الخ غير صحيح أيضًا، فأين محلّ تضعيفه؟، وأيّ حجة على ذلك؟ هيهات هيهات.
والحاصل أن حديث الباب لا يدلّ على النسخ أصلًا، ولا على ما زعمه السنديّ من أنه يؤيّد رأي الحنفيّة بأن صدقة الفطر واجبة، وليست فرضًا، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوّر بتقديد ذوي الاعتساف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث قيس بن سعد رضي الله عنهما هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-35/ 2506 و 2507 - وفي "الكبرى" 37/ 2285 و 2286 وفي "الصوم" 105/ 2842 و 2286 بتمامه، وفي 105/ 2841 بقصّة الصوم فقط. وأخرجه (ق) في "الزكاة"1828. (أحمد) في "مسند المكيين" 15051 و"مسند الأنصار" 22331 و 23328. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2507 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ، قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ، لَمْ يَأْمُرْنَا، وَلَمْ يَنْهَنَا، وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَبُو عَمَّارٍ: اسْمُهُ عَرِيبُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ، يُكَنَّى أَبَا مَيْسَرَةَ، وَسَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، خَالَفَ الْحَكَمَ فِي إِسْنَادِهِ، وَالْحَكَمُ أَثْبَتُ مِنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"سفيان": هو الثوريّ. و"أبو عمّار الْهَمْدَاني": عَرِيب بن حُميد -بفتح أوله، وكسر الراء- كوفيّ، ثقة [3] 75/ 2385.
[تنبيه]: قوله: "الهمدانيّ" -بفتح الهاء، وسكون الميم، بعدها دالٌ مهملة- ونسبه في "تهذيب الكمال" إلى "دُهْن" أيضًا، فقال جـ 20 ص 46 - : عَرِيب بن حُمَيد،
أبو عَمَّار الهمدانيّ الدُّهْنِيّ الكوفي. انتهى.
ونسبه في "تهذيب التهذيب" جـ 3 ص 87 - ، و"التقريب" ص 238: إلى "دُهْنٍ"، فقط. و"الهمدانيّ" -بفتح الهاء، وسكون الميم، فدال مهملة-: نسبة إلى شَعْب عظيم، من قَحْطَان. و"الدهنيّ": -بضمّ الدال المهملة، وسكون الهاء، بعدها نون-: نسبة إلى دُهْن- بضم، فسكون- بطن من بَجِلية. قاله في "لبّ اللباب" ج 1 ص 330 وج 2 ص 329.
وقوله: (عَرِيبُ بْنُ حُمَيْدٍ) بفتح العين المهملة، وكسر الراء، بعدها تحتانيّة، ثمّ موحّدة، و"حميد" بضم المهملة، مصغّرًا.
وقوله (شُرحبيل) بضم المعجمة، وفتح الراء، وسكون المهملة، وكسر الموحّدة.
وقوله: (وَالْحَكَمُ أَثْبَتُ مِنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ) يعني أن رواية الحكم، عن القاسم بن مُخيمِرة، عن عمرو بن شُرَحبيل، عن قيس بن سعد، أصحّ، من رواية سلمة بن كُهيل عن القاسم، عن أبي عمار، عن قيس؛ لكون الحكم أثبت من سلمة.
وهذا الذي قاله المصنف، من تقديم الحكم على سلمة يخالفه فيه ما نُقل عن عبد الرحمن بن مهديّ، فإنه يرى كون سلمة أثبت من الحكم، لأنه قال: لم يكن بالكوفة أثبت من أربعة: منصورٍ، وسلمة، وعمرِو بن مرّة، وأبي حصين. وقال أيضًا: أربعة في الكوفة لا يُختلف في حديثهم، فمن اختلف عليهم، فهو مخطئ، فذكره منهم. انتهى "تهذيب التهذيب" جـ 2 ص 77.
وقال في الحكم: الحكم بن عُتيبة ثقة ثبت، ولكن يُختَلف -يعني في حديثه انتهى "تهذيب التهذيب" جـ 1 ص 467.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنف يرى ترجيح رواية الحكم على رواية سلمة؛ لكونه أثبت عنده، لكن الذي يبدو لي أن الروايتين صحيحتان؛ لأن سلمة حافظ ثبت، كما سبق في كلام ابن مهدي، فيكون القاسم رواه عن كلٍّ من عمرو بن شُرَحِبيل وأبي عمار الهمداني، كلاهما عن قيس رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
36 - (مِكْيَلَةُ زَكَاةِ الْفِطْرِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الْمِكيَلَة" -بكسر الميم، وسكون الكاف، وفتح التحتانيّة، بعدها لام: اسم لما يُكال به. قال في "القاموس": و"الكَيْلُ"، و"الْمِكْيَل"،
و"الْمِكيَال"، و"الْمِكْيَلَةُ": ما كِيل به. انتهى. وجعل في "اللسان""الْمِكْيَلَةَ" نادرةً.
وقال: الْمِكْيَالُ: ما يُكَالُ به، حَدِيدًا كان، أو خَشَبًا. انتهى.
وظاهر تصرف المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أنه يرى أن المكيال الواجب في دفع جميع أنواع زكاة الفطر هو الصاع؛ لأنه أورد حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما من ثلاثة طرق، ورجّح الطريق الثالث، الذي فيه:"صاعٌ من طعام". ففيه دلالة على أن الأرجح عنده هو الصالح، لا نصفه، وقد تقدّم أن هذا هو قول الجمهور، وأنه هو الأرجح؛ إذ لم يثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نصف صاع، وإنما الثابت في ذلك هو رأي معاوية رضي الله عنه، وتابعه عليه أكثر الناس، فالاحتياط كونه صاعًا، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2508 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ، فِي آخِرِ الشَّهْرِ-: أَخْرِجُوا زَكَاةَ صَوْمِكُمْ، فَنَظَرَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: مَنْ هَا هُنَا، مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؟ قُومُوا، فَعَلِّمُوا إِخْوَانَكُمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّ هَذِهِ الزَّكَاةَ، "فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى كُلِّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، حُرٍّ وَمَمْلُوكٍ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ تَمْرٍ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ، مِنْ قَمْحٍ، فَقَامُوا". خَالَفَهُ هِشَامٌ، فَقَالَ: "عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن المثنى) أبو موسى الْعَنَزِيُّ البصري، ثقة ثبت [10] 64/ 80.
2 -
(خالد بن الحارث) الهجممي البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.
3 -
(حميد) بن أبي حميد الطويل البصري، ثقة عابد [5] 87/ 108.
4 -
(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصري، ثقة ثبت فقيه فاضل [3] 32/ 36.
5 -
(ابن عباس) البحر الحبر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، إلا أن فيه انقطاعًا بين الحسن وابن عباس، فإنه لم يلقه، كما سيأتي بيانه.
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. (ومنها): أن شيخه هو أحد مشايخ الستة بلا واسطة. (ومنها) أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد المكثرين السبعة، والعباددة الأربعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَن الْحَسَنِ) البصريّ، أنه (قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسِ) رضي الله عنهما (وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ) جملة في محلّ نصب على الحال. و"البصرة" مثلثة الباء، وليس في النسبة إلا الفتح والكسر.
وقال الفيّوميّ: هي وزانُ تَمْرَة: أصله الحجارة الرِّخوة، وقد تحذف الهاء، مع فتح الباء، وكسرها، وبها سمّيت البلدة المعروفة، وأنكر الزّجّاج فتح الباء مع الحذف، ويقال في النسبة بصريّ بالوجهين، وهي محدثةٌ إسلاميّة، بُنيت في خلافة عمر رضي الله عنهما سنة ثماني عشرة من الهجرة بعد وقف السواد، ولهذا دخلت في حدّه، دون حكمه انتهى (فِي آخِرِ الشَّهْرِ) أي آخر شهر رمضان، ففي رواية أبي داود: "خطب ابن عبّاس في آخر رمضان، على منبر البصرة، فقال: أخرجوا صدقة صومكم
…
ورواه البيهقيّ في "السنن الكبرى" جـ 4 ص 168 - بلفظ: قال: خطبنا ابن عباس بالبصرة في آخر رمضان، فقال: أدّوا صدقة صومكم
…
وسيأتي معنى قوله: خطبنا ابن عبّاس قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى (أَخْرِجُوا زَكَاةَ صَوْمِكُمْ، فَنَظَرَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) إنما نظر بعضهم إلى بعض استغرابًا لما قاله، حيث لم يعلموا كيفيّة إخراج صدقة الفطر التي أمرهم بها. ففي رواية أبي في داود:"فكأن الناس لم يعلموا (فَقَالَ) ابن عباس رضي الله عنهما (مَنْ هَهُنَا) "من" اسم استفهام مبتدأ، خبرها الظرف بعدها (مِنْ أَهلِ الْمَدِينَةِ؟) النبويّة على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحيّة. وإنما سأل عن أهل المدينة؛ لكونهم أعلم بالسنّة من غيرهم، فلذا قال لهم (قُومُوا، فَعَلِّمُوا إِخْوَانَكُمْ) أي أهل البصرة (فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّ هَذِهِ الزَّكَاةَ) بكسر همزة "إنّ"؛ لكون الجملة مستأنفة، ويحتمل أن تكون بالفتح، فتكون الجملة في تأويل المصدر سدّت مسدّ مفعولي "يعلمون"، أي لأنهم لا يعلمون فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إياها على كلّ ذكر
…
الخ (فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى كُلِّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، حُرٍّ وَمَمْلُوكٍ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ تَمْرٍ) هذا محلّ الترجمة، حيث دلّ على أن الْمِكْيَلَة، أي التي تؤدى بها زكاة الفطر صاع، وهذا لا خلاف فيه في التمر والشعير (أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ) فيه دليل على أن نصف الصاع يكفي في القمح، وهذا مختلف فيه، وقد تقدّم أنه لم يثبت حديث مرفوع في نصف صاع، وهذا الحديث فيه انقطاع؛ لأن الحسن لم يسمع من ابن عبّاس، على ما قاله جمهور المحدّثين، فلا يصلح للاحتجاج به.
و"القَمْح" -بفتح القاف، وسكون الميم، آخره حاء مهملة-: الْبُرّ (فَقَامُوا) أي قام أهل المدينة ليعلّموا أهل البصرة كيفيّة زكاة الفطر. وزاد في رواية أبي داود من طريق سهل بن يوسف، عن حُميد:"فلمّا قدم عليّ، رأى رُخْصَ السّعر، قال: "قد أوسع اللَّه عليكم، فلو جعلتموه صاعًا من كلّ شيء". قال حميد: وكان الحسن يرى صدقة رمضان على من صام انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا ضعيف؛ للانقطاع بينه، وبين الحسن، فإنه لم يسمع منه، فقد نقل الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف" جـ 4 ص 377 - بعد إيراد الحديث عن المصنّف: ما نصّه: وقال -يعني المصنّف-: الحسن لم يسمع من ابن عبّاس انتهى
(1)
.
وقال في "تهذيب التهذيب" في ترجمة الحسن البصريّ جـ 1 ص 388 - 391: قال ابن المدينيّ: لم يسمع من ابن عبّاس، وما رآه قط، كان الحسن بالمدينة أيام كان ابن عبّاس بالبصرة. وقال أيضًا في قول الحسن:"خطبنا ابن عبّاس بالبصرة"، قال: إنما أراد خطب أهل البصرة، كقول ثابت: قدم علينا عمران بن حُصين. وكذا قال أبو حاتم.
وقال بهز بن أسد: لم يسمع الحسن من ابن عباس. وقال أحمد: لم يسمع من ابن عباس، إنما كان ابن عبّاس بالبصرة واليًا عليها أيام عليّ. انتهى.
وقال في "التنقيح": الحديث رواته مشهورون، لكن فيه إرسال؛ فإن الحسن لم يسمع من ابن عبّاس رضي الله عنهما على ما قيل، وقد جاء في "مسند أبي يعلى" في حديث عن الحسن، قال: أخبرني ابن عبّاس
…
وهذا إن ثبت دلّ على سماعه منه انتهى
(2)
.
وقال البزّار في "مسنده" بعد أن رواه -يعني حديث الباب-: لا يُعلم روى الحسن عن ابن عباس غير هذا الحديث، ولم يسمع الحسن من ابن عباس. وقوله:"خطبنا" أي خطب أهل البصرة، ولم يكن الحسن شاهدًا لخطبته، ولا دخل البصرة بعدُ؛ لأن ابن عبّاس خطب يوم الجمل، والحسن دخل أيام صِفِّين انتهى.
وقال البزّار أيضًا في "مسنده" في آخر ترجمة ابن المسيّب: أما قول الحسن: خطبنا ابن عباس بالبصرة، فقد أُنكر عليه؛ لأن ابن عباس كان بالبصرة أيام الجمل، وقدم الحسن أيام صفّين، فلم يدركه بالبصرة، وتأول قوله: خطبنا: أي خطب أهل البصرة انتهى.
وقال ابن القيّم في "تهذيب السنن": قال الترمذيّ: سألت البخاريّ عن حديث الحسن، خطبنا ابن عباس، فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فرض صدقة الفطر؟. فقال: رَوَى غير يزيد بن هارون، عن حميد، عن الحسن: خطب ابن عبّاس. فكأنه رأى هذا
(1)
- لم أر هذا الكلام في "المجتبى"، ولا في "الكبرى"، ولعله من اختلاف النسخ. واللَّه تعالى أعلم.
(2)
- راجع "المنهل العذب المورود" ج 9 ص 241.
أصحّ. قال الترمذيّ: وإنما قال البخاريّ هذا؛ لأن ابن عباس كان بالبصرة في أيام عليّ، والحسن البصريّ في أيام عثمان، وعليّ كان بالمدينة انتهى.
وخالفهم الشيخ أحمد شاكر، حيث قال: القول بعدم سماع الحسن من ابن عبّاس، وعدم رؤيته إياه وَهَمٌ؛ فإن الحسن عاصر ابن عبّاس يَقِينًا، ولا يَمنَع كونُهُ بالمدينة أيام ابن عبّاس على البصرة سَماعَهُ من ابن عبّاس قبل ذلك، أو بعده، وقطع بسماعه منه، ولقائه إياه ما رواه أحمد في "مسنده" بإسناد صحيح جـ 1 ص 337 عن ابن سيرين أن جنازة مرّت بالحسن، وابنِ عبّاس، فقام الحسن، ولم يقم ابن عبّاس، فقال الحسن لابن عباس: أقام لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: قام، وقعد. وقال في شرح هذا الحديث جـ5 ص 49 - 50 - : إسناده صحيح، وهو قاطع في صحة سماع الحسن من ابن عبّاس، فإنه صريحٌ في أنه لقي ابن عباس، وسأله، وسمع منه انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الشيخ أحمد شاكر غلطٌ عجيبٌ منه، فإنه ظنّ أنَّ الحسن المذكور هو الحسنَ البصريّ، وليس كذلك، وإنما هو الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقد تقدّم هذا للنسائيّ في "كتاب الجنائز" برقم 1924 و 1925 و 1926 - وقد صرح في كلّها عن ابن سيرين أن جنازة مرّت بالحسن بن عليّ، وابنِ عبّاس، فقام الحسن، ولم يقم ابن عبّاس
…
الحديث. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
وقال صاحب "المرعاة": طرق ابن عبّاس تدلّ على أن ابن عبّاس إنما بيّن حكم صدقة الفطر حين ما كان أميرًا على البصرة من جهة عليّ، وكان الحسن إذ ذاك بالمدينة، لا بالبصرة، كما تقدّم عن ابن المدينيّ: إن الحسن كان المدينة أيام كان ابن عبّاس بالبصرة. وهذا ظاهر في أن الحسن لم يسمع هذا الحديث من ابن عباس، وثبوت سماعه منه في الجملة لا يستلزم سماع هذا الحديث منه، وإليه أشار الشيخ أحمد شاكر في "شرحه للمسند" جـ 3 ص 318: بقوله: نعم قد يمنع الرواية التي يعللونها في قوله: خطبنا ابن عبّاس بالبصرة انتهى.
فالراجح عندي أن هذا الحديث مرسل. وقد اعترف بذلك ابن التركماني جـ 4 ص 169 - والقاري، وغيرهما من الحنفيّة. انتهى ما قاله صاحب "المرعاة". جـ 6 ص 204 - 205. وهو كلام نفيس جدًّا.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: وثبوت سماعه منه الخ هكذا قال صاحب "المرعاة" تقليدًا للشيخ أحمد شاكر في غلطه المتقدّم أن الحسن هو البصريّ، وقد تقدم أنه الحسن السبط رضي الله عنه، فالحقّ أنه لم يثبت سماع الحسن من ابن عبّاس بطريق صحيح، فافهمه.
والحاصل أن جمهور أهل الحديث نفوا سماع الحسن البصريّ -رحمه اللَّه تعالى- من ابن عبّاس رضي الله عنهما وهم القُدْوَةُ في هذا الفنّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-36/ 2508 و 2509 و2510 و 23/ 1580 و 40/ 2515 - وفي "الكبرى" 38/ 2287 و 2288 و 2289 و 33/ 1801 و 42/ 2294. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1622 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 2019. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله (خَالَفَهُ هِشَامٌ) أي خالف حميدًا الطويلَ هشامُ بن حسّان القُردُوسيّ البصريّ في إسناد هذا الحديث (فَقَالَ: "عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ") يعني أن هشام بن حسّان جعل بدل الحسن محمدَ بنَ سيرين، كما بيّنه بقوله:
2509 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ مَخْلَدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ذَكَرَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، قَالَ
(1)
: "صَاعًا مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ سُلْتٍ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه "عليّ بن ميمون" وهو الرّقّيّ العطّار، الثقة [10] 28/ 435 فإنه من أفراد المصنّف، وابن ماجه.
و"مَخلَدٌ": هو ابن يزيد القرشيّ الحرّانيّ، صدوق له أوهام، من كبار [9] 141/ 222. و"هشام": هو ابن حسّان الْقُرْدوسيّ البصريّ، ثقة، من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن، وعطاء مقال؛ لأنه قيل: كان يرسل عنهما [6] 37/ 936. و"ابن سيرين": هو محمد الإمام المشهور.
وقوله: "من سُلْت":-بضم السين المهملة، وسكون اللام، آخره مثنّاة فوقية- قال الفيّوميّ: قيل: ضرب من الشعير، ليس له قشرٌ، ويكون في الْغَوْر، والحجاز. قاله الجوهريّ. وقال ابن فارس: ضرب منه رقيق القشر، صغار الحبّ. وقال الأزهريّ: حبٌّ بين الحنطة والشعير، ولا قشر له، كقشر الشعير، فهو كالحنطة في مَلَاسَتِهِ، وكالشعير في طبعه، وبُرُودته. قال ابن الصلاح: وقال الصَّيْدَلانيّ: هو كالشعير في صورته، وكالقَمْح في طبعه، وهو خطأ انتهى كلام الفيّوميّ
(2)
.
والحديث أيضًا فيه انقطاع؛ لأن ابن سيرين لم يسمع من ابن عبّاس رضي الله عنهما، فقد ذكر في "تهذيب التهذيب" جـ 4 ص 586 - : عن عبد اللَّه بن أحمد -يعني ابن حنبل- عن
(1)
- وفي نسخة: "فقال".
(2)
- "المصباح المنير".
أبيه، أنه قال: لم يسمع ابن سيرين من ابن عبّاس شيئًا، كلّها يقول: نُبّئت عن ابن عباس. وقال شعبة، عن خالد الحذّاء: كلّ شيء قال محمد: نُبّئت عن ابن عبّاس، إنما سمعه من عكرمة، لقيه أيّام المختار. وقال عليّ ابن المدينيّ، وابن معين: لم يسمع ابن سيرين من ابن عبّاس شيئًا انتهى.
وقد تعقّب العلامة أحمد محمد شاكر هذا -في "شرحه للمسند" جـ 3 ص 257 - فقال: وهذا ليس بتعليل، ولا دليل على الجزم به، فابن سيرين عاصر ابن عبّاس طويلًا، فهو على السماع حتى يتبيّن خلافه، وقد صحّح الأئمة روايته عن ابن عباس انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ردّ أحمد شاكر على كلام أحمد، وابن المدينيّ، وابن معين بمثل قوله هذا عجيبٌ منه؛ لأن هؤلاء الأئمة هم أعلم بهذا الشأن، وهم القدوة فيه، فكيف يُردّ عليهم دون حجة نيّرة تُثبِت عكس ما قالوه، وأما تصحيح أحاديثه، فإنه لا يستلزم ثبوت سماعه، لاحتمال أن يكون للمتابعات، ونحوها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2510 -
(أَخْبَرَنَا
(2)
قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِكُمْ -يَعْنِي مِنْبَرَ الْبَصْرَةِ- يَقُولُ" "صَدَقَةُ الْفِطْرِ صَاعٌ، مِنْ طَعَامٍ". قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا أَثْبَتُ الثَّلَاثَةِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، و"حماد": هو ابن زيد. و"أيوب": هو السختيانيّ. و"أبو رجاء": هو عمران بن مِلْحان، أو ابن تَيْم العطارديّ البصريّ، مخضرم، ثقة، مُعَمَّرٌ، مات سنة (105) وله (120)[2] 202/ 321.
وقوله: "هذا أثبت الثلاثة" يعني أن حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما من رواية أبي رجاء العُطارديّ أصحّ من حديثه من رواية الحسن، وابن سيرين؛ لما تقدّم أنهما لم يسمعا منه.
وقوله: "من طعام" سيأتي بعد باب بيانُ اختلاف أهل العلم في المراد به، إن شاء اللَّه تعالى، والحديث بهذا الإسناد صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- انظر ما كتبه على "المسند" ج 3 ص 257.
(2)
- وفي نسخة: "أخبرني".
37 - (بَابُ التَّمْرِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ)
2511 -
(أَخْبَرَنِي
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحْرِزُ بْنُ الْوَضَّاحِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ -وَهُوَ ابْنُ أُمَيَّةَ- عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ:"فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَدَقَةَ الْفِطْرِ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن عليّ بن حَرْب) المروزيّ المعروف بـ "التُّرْك"، ثقة [11] 109/ 148. من أفراد المصنّف.
2 -
(محرز بن الوضّاح) المروزيّ، مقبول [9] 16/ 2468 من أفراد المصنّف أيضًا.
3 -
(إسماعيل بن أُميّة) الأمويّ، ثقة ثبت [6] من رجال الجماعة.
4 -
(الحارث بن عبد الرحمن بن أي ذُبَاب) هو: الحارث بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن سَعْد، وقيل: ابن المغيرة بن أبي ذُباب -بضمّ المعجمة، وبموحّدتين- الدَّوْسيّ -بفتح الدال المهملة، وسكون الواو- المدنيّ، صدوق يَهِم [5].
قال ابن مَعين: مشهور. وقال أبو حاتم: يروي عنه الدَّرَاوَرْديّ أحاديث منكرة، ليس بالقويّ. وقال أبو زرعة: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان من المتقنين، مات سنة (146) وكذا قال ابن قانع في تاريخ وفاته. وقال الساجيّ: حدّث عنه أهل المدينة، ولم يُحدّث عنه مالك. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. وذكر ابن المدينيّ في "العلل" حديثًا عن عاصم بن عبد العزيز الأشجعيّ، عن الحارث، عن سليمان بن يسار، وغيره، قال عاصم: حدّثنيه مالك، قال: أُخبرت عن سليمان بن يسار، فذكره. قال ابن المدينيّ: أرى مالكًا سمعه من الحارث، ولم يُسمّه، وما رأيت في كتب مالك عنه شيئًا.
قال الحافظ: وهذه عادة مالك فيمن لا يَعتمد عليه لا يسمّيه انتهى. روى له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، ومسلم، وأبو داود في "المراسيل"، والترمذيّ، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
5 -
(عياض بن عبد اللَّه بن أبي سَرْح) هو: عياض بن عبد اللَّه بن سَعْد بن أبي سَرْحٍ
(1)
- وفي نسخة: "أخبرنا".
القرشيّ العامريّ المكيّ، ثقة [3] 26/ 1408.
6 -
(أبو سعد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي - رضي اللَّه تعالى عنهما -. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "من أقط" -بفتح الهمزة، مع كسر القاف، أو ضمّها، أو فتحها، أو إسكانها، وبكسر الهمزة، مع كسر القاف، وإسكانها، وبضمّ الهمزة، مع إسكان القاف فقط: وهو شيء يُتّخَذ من اللبن الْمَخيض، كأنه نوع من اللبن الجافّ. وقيل: هو لبنٌ، مجفّفٌ، يابس، جامد، مستحجرٌ، غير منزوع الزُّبْد، يُطبخ به. وسيأتي الكلام عليه مُستوفًى في -43/ 2518 - إن شاء اللَّه تعالى.
ودلالة الحديث على الترجمة واضحة، وهو أنه يدلّ على أن زكاة الفطر من التمر صاع، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم.
والحديث أخرجه مسلم، وسيأتي تمام شرحه، والكلام على مسائله في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
38 - (الزَّبِيبُ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الزبيب": معروف، وهو اسم جمع يُذكّر وُيؤنّث، فيقال: هو الزبيب، وهي الزبيب، والواحدة زبيبة بالهاء، وزَبّبتُ العِنَبَ جعلته زَبيبًا. قاله في "المصباح". وفي "القاموس": الزّبيب ذَاوِي
(1)
العنب والتين انتهى. يعني يابس العنب والتين. وفي "اللسان": الزبيب ذَاوِي العنب، معروفٌ، واحدته زبيبة، وقد أَزَبَّ العنب، وزَبَّبَ فلانٌ عنبه تزبيبًا. قال أبو حنيفة -يعني الدينوريّ-: واستَعْمَل أعرابيّ من أعراب السَّرَاة الزبيب في التين، فقال: الْفَيلَحَانيٌّ تِينٌ شديد السواد، جيّد الزبيب -يعني يابسه. انتهى.
والمراد هنا زبيب العنب. ثمّ ظاهر تصرف المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بتعداد التراجم أنه يرى أن "أو" في الحديث للتخيير، وهو الراجح، وسيأتي بيان اختلاف أهل العلم فيه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.
(1)
- يقال: ذَوَى البقلُ، كرمى، ورضي ذُوِيًّا، كصُلِيّ: ذَبَلَ، وأذواه الحرّ. انتهى "ق".
وقد ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بقوله: "بابُ صاعٍ من زبيب". قال في "الفتح": أي إجزائه، وكأن البخاريّ أراد بتفريق هذه التراجم الإشارة إلى ترجيح التخيير في هذه الأنواع، إلا أنه لم يَذكُر الأقط، وهو ثابت في حديث أبي سعيد، وكأنه لا يراه مجزئًا في حال وجدان غيره، وظاهر الحديث يخالفه. وعند الشافعيّة فيه خلاف، وزعم الماورديّ أنه يختصّ بأهل البادية، وأما الحاضرة فلا يجزئ عنهم بلا خلاف. وتعقّبه النوويّ في "شرح المهذّب"، وقال: قطع الجمهور بأن الخلاف في الجميع انتهى ما في "الفتح"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2512 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ، إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ) الْمُخَرِّمي، أبو جعفر البغدادي، ثقة حافظ [11] 43/ 50.
2 -
(وكيع) بن الجرّاح الرؤاسي الكوفي، ثقة ثبت [9] 23/ 25.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوري الإمام الحجة [7] 33/ 37.
4 -
(زيد بن أسلم) العدويّ المدنيّ، ثقة عالم، يرسل [3] 64/ 80. والباقيان تقدما في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من زيد، وشيخه، بغدادي، ووكيع، وسفيان كوفيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. (ومنها): أن فيه أبا سعيد من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبي سَعِيدٍ) الخدري رضي الله عنه. وفي رواية مالك عند البخاريّ تصريح عياض بن عبد اللَّه بالسماع من أبي سعيد، ولفظه: عن عياض بن عبد اللَّه بن سعد بن أبي سَرْح
(1)
- راجع "الفتح" ج 4 ص 145.
العامريّ، أنه سمع أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه
…
الحديث (قَالَ: "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ، إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)"إذ" ظرفيّة، أي وقت كون النبيّ صلى الله عليه وسلم فينا. وفي رواية للبخاريّ:"كنّا نعطيها في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وفي أخرى له أيضًا:"كنّا نُخرج في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم".
قال الحافظ: هذا حكمه الرفع؛ لإضافته إلى زمنه صلى الله عليه وسلم، ففيه إشعار باطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتقريرِهِ له، ولا سيّما في هذه الصورة التي توضع عنده، وتُجمع بأمره، وهو الآمر بقبضها، وتفرقتها انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وإلى كون هذا ونحوه من المرفوع حكمًا أشار الحافظ السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "ألفية الحديث" حيث قال:
وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ
…
نَحْوُ مِنَ السُّنَّةِ مِنْ صَحَابِي
كَذَا أُمِرْنَا وَكَذَا كُنَّا نَرَى
…
فِي عَهْدِهِ أَوْ عَنْ إِضَافَةٍ عَرَى
ثَالِثُهَا إِكَانَ لَا يَخفَى وَفِي
…
تَصْرِيحِهِ بِعِلْمِهِ الْخُلْفُ نُفِي
وفيه ردٌّ على ابن حزم في زعمه أن حديث أبي سعيد ليس مسندًا؛ لأنه ليس فيه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عَلِم بذلك، وأقرّه. ووجه الردّ أن ألفاظ الحديث تدلّ على أنّ ذلك كان معلومًا معروفًا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى مثلُ ذلك على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1)
.
(صَاعًا مِنْ طَعَامٍ) قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- في "حاشية ابن ماجه": يحتمل أن صاعًا من طعام أريد به صاع من الحنطة، فإن الطعام، وإن كان يعمّ الحنطة وغيرها لغةً، لكن اشتهر في العرف إطلاقه على الحنطة، ويؤيّده المقابلة بما بعده. ويحتمل أن يكون صاعًا من طعام مجمَلًا، ويكون ما بعده بيانًا له، كأنه بيّن أن الطعام الذي كانوا يعطون منه الصالح كان تمرًا، وشعيرًا، وأقطًا، لا حنطةً، ويؤيّده ما رواه البخاريّ عن أبي سعيد رضي الله عنه:"كنّا نُخرج في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الفطر، صاعًا من طعام، وكان طعامنا يومئذ الشعير، والزبيب، والأقط، والتمر". وكذا ما رواه ابن خُزيمة عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"لم تكن الصدقة على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا التمر، والزبيب، والشعير، ولم تكن الحنطة". فينبغي أن يتعيّن الحمل على هذا المعنى، بل يُستبعد أن يكون المعلوم فيما بينهم صاعًا من الحنطة، فيتركونه إلى نصفه بكلام معاوية رضي الله عنه، بل لا يبقى لقول معاوية: إن النصف يعدل الصاع حينئذ وجهٌ، إلا بتكلّف.
وبالجملة فمعنى هذا الحديث أنه ما كان عندهم نصّ منه صلى الله عليه وسلم في البرّ بصاعٍ، أو
(1)
- راجع "المرعاة" ج 6 ص 194.
بنصفه، وإلا فلو كان عندهم حديث بالصاع لما خالفوه، أو بنصفه لما احتاجوا إلى القياس، بل حكموا بذلك، ويدلّ على هذا حديث ابن عمر رضي الله عنهما في هذا الباب المرويّ في الصحاح انتهى كلام السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ جدًّا، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.
(أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ) اختُلف في أنّ "أو" في هذا الحديث لتخيير المؤدَّى من هذه الأشياء، أو لتعيين واحد منها، وهو الغالب، فقيل: إنها للتخيير، وبه قال أبو حنيفة.
وقيل: إنها لتعيين أحد هذه الأشياء بالغلبة، وهو غالب قوت البلد، وبه قال الأكثرون. فمعنى الحديث على هذا: كنا نخرج هذه الأنواع بحسب أقواتنا، ومقتضى أحوالنا.
أفاده بعضهم
(1)
. وسيأتى تمام البحث في ذلك في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.
(أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أُوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ) هذا محلّ الترجمة، حيث إنه يدلّ على أن زكاة الفطر من الزبيب صاع. وفيه، وفي الأقط خلاف الظاهريّة، حيث لا يجوز عندهم إلا من التمر والشعير، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى.
(أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ") تقدّم ضبطه في الباب الماضي، وسيأتي تمام البحث فيه في 43/ 2518 - إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه في 37/ 2511 و-38/ 2512 و 2513 و 39/ 2514 و 40/ 2515و 42/ 2517 و 43/ 2518 - و 39/ وفي "الكبرى" 39/ 2290 و 40/ 2291 و 2292 و 41/ 2293 و 45/ 2297. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1505 و 1506 (م) في "الزكاة" 985 (د) في "الزكاة" 1616 و 1618 (ت) في "الزكاة" 673 (ق) في "الزكاة" 1829 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 10798 و 11301 و 11522 (مالك) في "الزكاة" 628 (الدارميّ) في "الزكاة" 1663 و 1664. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم زكاة الفطر من الزبيب:
(1)
- ذكره القاري، قائلاً: قال ميرك، نقلًا عن "الأزهار". انظر "المرعاة". ج 6 ص 197.
ذهب الجمهور إلى إجزائه، إلا أن الأئمة الثلاثة قالوا: إن الواجب منه صاع، وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمد، وهي رواية عن أبي حنيفة، وهو الحقّ، لحديث الباب. وفي رواية عنه نصف صاع، كالقَمْح، وهي رواية ضعيفة، لمخالفتها النصوص الصحيحة.
وذهب الظاهرية إلى أن الزبيب لا يجزئ، بل الواجب هو التمر أو الشعير، وأجاب ابن حزم عن حديث الباب بوجهين:
أحدهما أنه غير مسند -أي مرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه ليس في شيء من طرقه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علم بذلك، فأقرّه.
والثاني: أنه مُضطرَب فيه، فإن في بعض طرقه إثبات الزبيب، وفي بعضها نفيه، وفي بعضها ذكر الدقيق، والسُّلْت. وقد تقدّم الجواب عن الوجه الأول. وأما الثاني، فقد أجاب عنه العلاّمة أحمد محمد شاكر -رحمه اللَّه تعالى- في تعليقه على "المحلّى" جـ 6 ص 125 - بأن هذا ليس من الاضطراب في شيء، بل إن بعض الرواة يُطيل، وبعضهم يختصر، ومنهم من يذكر شيئًا، ويسهو عن غيره، وزيادة الثقة مقبولة، فالواجب جمع كلّ ما ورد في الروايات "الصحيحة" إذ لا تعارض بينها أصلًا انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله العلاّمة أحمد شاكر -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ جدًّا.
والحاصل أن الحديث صحيح، وأن الأرجح ما قاله الجمهور، من إجزاء الزبيب في صدقة الفطر، وأن مقداره صاع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في تعيين المراد بـ "الطعام" في هذا الحديث:
قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المعالم" جـ 2 ص 50 - 51 - : زعم بعض أهل العلم أن المراد بالطعام هنا الحنطة، وأنه عندهم اسمٌ خاصٌ للبرّ. قال: ويدلّ على صحة ذلك أنه ذكَرَ في الخبر الشعيرَ، والأقطَ، والتمر، والزبيب، وهي أقواتهم التي كانوا يقتاتونها في الحضر والبدو، ولم يَذكُر الحنطةَ، وكانت أغلاها، وأفضلها كلّها، فلولا أنه أرادها بقوله:"صاعا من طعام" لكان يجري ذكرها عند التفصيل، كما جرى ذكر غيرها من سائر الأقوات، ولا سيّما حيث عُطفت عليها بحرف "أو" الفاصلة
(1)
.
وقال ابن دقيق العيد في "شرح العمدة": وقد كانت لفظة "الطعام" تستعمل في البرّ عند الإطلاق حتى إذا قيل: اذهب إلى سوق الطعام، فُهِم منه سوق البرّ، وإذا غلب
(1)
- راجع "المعالم" ج 2 ص 218 وهو منقول ببعض تصرّف.
العرف بذلك نُزِّل اللفظ عليه؛ لأن الغالب أن الإطلاق في الألفاظ على حسب ما يخطر في البال من المعاني، والمدلولات، وما غلب استعمال اللفظ عليه فخطوره عند الإطلاق أقرب، فيُنَزَّل اللفظ عليه، وهذ ابن اء على أن يكون هذا العرف موجودًا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
قال الخطّابيّ: وزعم آخرون أن هذا جملةٌ قد فُصِّلَت، والتفصيل لا يخالف الجملة، وإنما قال في أول الحديث صاعًا من طعام، ثمّ فصّله، فقال: صاعًا من أقط، أو صاعًا من شعير، أو كذا، أو كذا، واسم الطعام شاملٌ لجميع ذلك انتهى
(2)
.
وقال القاري: قال علماؤنا: إن المراد بالطعام المعنى الأعمّ، لا الحنطة بخصوصها، فيكون عطف ما بعده عليه من باب عطف الخاصّ على العامّ.
قال الحافظ: وقد ردّ ذلك -أي حمل الطعام على البرّ- ابنُ المنذر، وقال: ظنّ بعض أصحابنا أن قوله في حديث أبي سعيد: "صاعًا من طعام" حجة لمن قال: صاعًا من حنطة، وهذا غلطٌ منه، وذلك أن أبا سعيد أجمل الطعام، ثمّ فسّره، ثم أورد طريق حفص بن ميسرة عند البخاريّ وغيره: أن أبا سعيد قال: "كنّا نُخرج في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعًا من طعام، قال أبو سعيد: وكان طعامنا الشعير، والزبيب، والأقط، والتمر". وهي ظاهرة فيما قال.
وأخرج الطحاويّ نحوه من طريق أخرى، وقال فيه:"ولا يُخرَج غيره". قال: وفي قوله: "فلمّا جاء معاوية، وجاءت السمراء" دليلٌ على أنها لم تكن قوتًا لهم قبل هذا، فدلّ على أنها لم تكن كثيرة، ولا قوتًا، فكيف يُتوهّم أنهم أخرجوا ما لم يكن موجودًا؟ انتهى كلامه.
وأخرج ابن خزيمة، والحاكم في "صحيحيهما" من طريق ابن إسحاق، عن عبد اللَّه ابن عبد اللَّه بن عثمان بن حكيم، عن عياض بن عبد اللَّه، قال: قال أبو سعيد، وذكروا عنده صدقة رمضان، فقال:"لا أُخرج إلا ما كنت أُخرج في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: صاع من تمر، أو صاع حنطة، أو صاع شعير، أو صاع أقط، فقال له رجلٌ من القوم: أو مدّين من قَمْح، فقال: لا، تلك قيمة معاوية مطويّة، لا أقبلها، ولا أعمل بها". قال ابن خزيمة: ذكر الحنطة في خبر أبي سعيد غير محفوظ، ولا أدري ممن الوَهَمُ؟.
وقوله: "فقال له رجلٌ الخ" دالٌّ على أن ذكر الحنطة في أول القصّة خطأٌ، إذ لو كان أبو سعيد أخبر أنهم كانوا يخرجون منها في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صاعًا لَمَا كان الرجل
(1)
- إحكام الأحكام ج 3 ص 320 - 321. بنسخة الحاشية.
(2)
- "المعالم" ج 2 ص 218.
يقول له: أو مدّين من قَمْح. وقد أشار أبو داود إلى رواية ابن إسحاق هذه، وقال: إن ذكر الحنطة فيه غير محفوظ. وذكر أن معاوية بن هشام رَوَى في هذا الحديث عن سفيان: "نصف صاع من برّ" وهو وَهَمٌ، وأن ابن عيينة حدّث به عن ابن عجلان، عن عياض، فزاد فيه:"أو صاعًا من دقيق"، وأنهم أنكروا عليه، فتركه. قال أبو داود: وذِكْرُ الدقيق وَهَمٌ من ابن عيينة. وأخرج ابن خزيمة أيضًا من طريق فُضيل بن غَزْوَان، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"لم تكن الصدقة على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا التمر، والزبيب، والشعير، ولم تكن الحنطة". ولمسلم من وجه آخر، عن عياض، عن أبي سعيد:"كنّا نخرج من ثلاثة أصناف: صاعًا من تمر، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من شعير". وكأنه سكت عن الزبيب في هذه الرواية لقلّته بالنسبة إلى الثلاثة المذكورة.
وهذه الطرق كلّها تدلّ على أن المراد بالطعام في حديث أبي سعيد غير الحنطة، فيحتمل أن تكون الذُّرَةَ، فإنه المعروف عند أهل الحجاز الآن، وهي قوت غالبٌ لهم.
وقد روى الجوزقيّ من طريق ابن عجلان، عن عياض في حديث أبي سعيد:"صاعًا من تمر، صاعًا من سُلْت، أو ذُرَة" انتهى كلام الحافظ
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "فيحتمل أن تكون الذرة الخ" فيه نظر، بل الصواب أن الطعام مجملٌ، فسره ما بعده، كما سبق. واللَّه تعالى أعلم.
وأجاب البرماويّ عن رواية حفص بن ميسرة بأن الطعام فيها محمول على معناه اللغويّ الشامل لكلّ مطعوم، قال: فلا ينافي تخصيص الطعام فيما سبق بالبرّ؛ لأنه قد عطف عليه الشعير، وغيره، فدلّ على التغاير، وهذا كالوعد، فإنه عامّ في الخير والشرّ، وإذا عطف عليه الوعيد خُصّ بالخير، وليس هو من عطف الخاصّ على العامّ، نحو {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} ، {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} ، فإن ذلك إنما هو فيما إذا كان الخاصّ أشرف، وهنا بالعكس.
وقال الكرمانيّ: فإن قلت: قوله: قال أبو سعيد: "وكان طعامنا الخ" مناف لما تقدّم من قولك: ذإن الطعام هو الحنطة. ثمّ أجاب بقوله: لا نزاع في أنّ الطعام بحسب اللغة عامّ لكلّ مطعوم، إنما البحث فيما يعطف عليه الشعير، وسائر الأطعمة، فإن العطف قرينة لإرادة المعنى العرفيّ منه، وهو البرّ بخصوصه انتهى.
قال صاحب "المرعاة": ولا يخفى ما فيه من التكلّف. والظاهر عندي هو قول من قال: إن الطعام في قوله: "صاعًا من طعام" مجملٌ، وما ذُكر بعده بيان له، كما يدلّ
(1)
- راجع "الفتح" ج 4 ص 145 - 146.
عليه طريق حفص بن ميسرة، وحديث ابن عمر عند ابن خزيمة، وأن الصحابة ما كانوا يُخرجون البرّ في عهده صلى الله عليه وسلم، كما يدلّ عليه رواية النسائيّ، والطحاويّ:"كنا نخرج في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط، لا نخرج غيره"، وأنّ أبا سعيد ما أخرج البرّ في صدقة الفطر قطّ، لا في زمانه صلى الله عليه وسلم، ولا فيما بعده، لا صاعًا، ولا نصفه، كما يدلّ عليه رواية مسلم: إن معاوية لَمّا جعل نصف الصالح من الحنطة عَدْلَ صاع من تمر، أنكر ذلك أبو سعيد، وقال:"لا أخرج فيها إلا الذي كنت أخرج في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط". وفي رواية: قال أبو سعيد: "فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبدًا ما عِشْتُ"، وأن أبا سعيد لَمّا تحقق عنده أن الصحابة أخرجوا في زمنه صلى الله عليه وسلم صاعًا من جميع ما أخرجوا من الشعير، والأقط، والتمر، والزبيب، وغيرها، ذهب إلى أن المقدار الواجب من كلّ شيء صاع، أو لَمّا رأى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم شرع لهم صاعًا من غير البرّ، ولم يبيّن لهم حال البرّ، فقاس عليه أبو سعيد حال البرّ، ورأى أن الواجب في البرّ أيضًا صاعٌ. وقد روى أبو داود عن عياض، قال: سمعت أبا سعيد يقول: "لا أخرج أبدًا إلا صاعًا -أي من كلّ شيء- إنا كنّا نخرج على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صاع تمر، أو شعير، أو أقط، أو زبيب". وأخرج الطحاويّ في "شرح معاني الآثار" جـ 2 ص 42 - عن عياض، قال: سمعت أبا سعيد، وهو يُسأل عن صدقة الفطر؟ قال:"لا أخرج إلا ما كنت أخرج على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط، فقال له رجلٌ: أو مدّين من قَمْحٍ، فقال: لا، تلك قيمة معاوية، لا أقبلها، ولا أعمل بها". وأخرجه أيضًا الدارقطنيّ في "سننه" جـ 2 ص 145 - 146 - ، والحاكم في "المستدرك" جـ 1 ص 411 - وابن خزيمة في "صحيحه" جـ 4 ص 89 - 90، والبيهقيّ جـ 4 ص 166، وزادوا فيه:"أو صاعًا من حنطة" بعد قوله: "صاعًا من تمر". وقد صرّح ابن خزيمة، وأبو داود أن ذكر الحنطة فيه غير محفوظ.
وأما ما أخرجه الطحاويّ بسنده ج 2 ص 44 عن أبي سعيد أنه قال: "إنما علينا أن نعطي لكلّ رأس عند كلّ فطر صاعًا من تمر، أو نصف صاع من برّ". فلا يوازي الروايات المتقدّمة، فلا يُلتفت إليه.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أي لأنه ضعيف، لأن في سنده الحسن البصريّ، عن أبي سعيد الخدريّ، والحسن لم يسمع من أبي سعيد الخدريّ
(1)
، وقد عنعنه، وهو
(1)
- انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 1 ص 388 - 391 - فقد عدّ بهز بن أسد أبا سعيد الخدريّ من جملة من لم يسمع منهم الحسن، من الصحابة.
مدلّس. واللَّه تعالى أعلم.
قال: والقول بأن حديث الباب يدلّ على أنهم كانوا يُعطون من البرّ صاعًا، لكن على سبيل التبرّع -يعني أن أبا سعيد، وغيره من الصحابة إنما كانوا يخرجون النصف الآخر تطوّعًا، واختيارًا، وفضلًا، تأويلٌ بعيد، لا يخفى تكلّفه.
وأما ما يُذكر من الأحاديث المرفوعة في الصالح من القمح، أو في نصفه، فكلّها مدخولة.
قال البيهقيّ جـ4 ص 170 بعد إيراد أحاديث نصف الصالح من القمح: وقد وردت أخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في صاع من برّ، ووردت أخبار في نصف صاع، ولا يصحّ شيء من ذلك، قد بيّنت علّة كلّ واحد منها في "الخلافيّات" انتهى كلام صاحب "المرعاة" -رحمه اللَّه تعالى- باختصار
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذكره صاحب "المرعاة" -رحمه اللَّه تعالى- كلام نفيسٌ جدًّا، وقد اتّضح بهذا كله أن الصواب كون الطعام في قوله:"صاعًا من طعام" مجملًا، والمعطوفات عليه تفصيلٌ له، وتوضيح للمراد منه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في النوع الذي يُجزىء في صدقة الفطر: ذهب الشافعيّة إلى أن جنس الفطرة كلّ ما يجب فيه العشر. وعن الشافعيّ قولٌ قديم أنه لا يجزئ فيها الحمّص، والعدَسُ، والمذهب المشهور الأول، والصحيح عندهم إجزاء الأقط أيضًا؛ لصحّة الحديث به، قال وليّ الدين: فإن جوّزناه فالأصحّ أن اللبن، والجبن الذي ليس منزوع الزّبد في معناه، والخلاف في إخراج مَنْ قوته الأقط، واللبن، والجبن، ولا يجزئ الدقيق، ولا السويق، ولا الخبز، كما لا تُجزىء القيمة. وقال الأنماطيّ: يجزئ الدقيق، قال ابن عبدان: يقتضي قوله إجزاء السويق، والخبز، وصححه.
وفي الواجب من الأجناس المجزئة ثلاثة أوجه لأصحاب الشافعيّ: أصحها عند الجمهور غالب قوت البلد. والثاني: قوت نفسه، وصححه ابن عبدان. والثالث: يتخيّر بين الأجناس، وهو الأصحّ عند القاضي أبي الطيب. ثم إذا كان الواجب قوت نفسه، أو البلد، فعدل إلى ما هو دونه لم يجز، وإن عدل إلى أعلى منه جاز. وفيما يعتبر به الأعلى والأدنى وجهان: أصحّهما الاعتبار بزيادة صلاحية الاقتيات. والثاني بالقيمة.
(1)
- انظر "المرعاة" ج 6 ص 194 - 196.
وقالت الحنابلة: هو مخيّر بين الخمسة المنصوص عليها، وهي التمر، والشعير، والبرّ، والزبيب، والأقط، قالوا: والسلت نوع من الشعير، فيجوز إخراجه لدخوله في المنصوص عليه، وهو في بعض طرق حديث ابن عمر. ونصّ أحمد على جواز إخراج الدقيق، وكذلك السويق، ولا يجزئ عندهم الخبز، قالوا: فيتخيّر بين هذه، فيخرج ما شاء منها، وإن لم يكن قوتًا له، إلا الأقط، فإنما يخرجه من هو قوته، أو لم يجد من المنصوص عليه سواه، فإن وجد سواه، ففي إجزائه عندهم روايتان، منشؤهما ورود النصّ به، وكونه غير زكويّ، قالوا: وأفضلها التمر، وبعده البرّ، وقال بعضهم: الزبيب. قالوا: ولا يجوز العدول عن هذه الأشياء مع القدرة على أحدها، ولو كان المعدول إليه قوت بلده، فإن عجز عنها أجزأه كلّ مقتات، من كلّ حبّة وثمرة. قاله الخرقيّ.
قال ابن قُدامة: وظاهره أنه لا يجزئه المقتات من غيرها، كاللحم واللبن. وقال أبو بكر: يُعطي ما قام مقام الأجناس المنصوص عليها عند عدمها. وقال ابن حامد: يجزئه عند عدمها الإخراج مما يُقتات به، كالذُّرَة، والدُّخْن، ولحوم الحيتان، والأنعام، ولا يُرَدّون إلى أقرب قوت الأمصار.
وأما المالكيّة فإن المشهور عندهم أنه جنسيّة المقتات في زمنه صلى الله عليه وسلم، من القَمْح، والشعير، والسُّلْت، والزبيب، والتمر، والأقط، والذُّرَة، والأرز، والدُّخْن، وزاد ابن حبيب العلس
(1)
، وقال أشهب: من الستّ الأُوَلِ خاصّة، فلو اقتِيتَ غيره، كالقَطَانيّ
(2)
، والتين، والسويق، واللحم، واللبن، فالمشهور الإجزاء، وفي الدقيق قولان، ويخرج من غالب قوت البلد، فإن كان قوته دونه لا لشحّ، فقولان.
وقال الحنفيّة: يتخيّر بين البرّ، والدقيق، والسويق، والزبيب، والتمر، والشعير، والدقيقُ أولى من البرّ، والدراهم أولى من الدقيق، فيما يُروى عن أبي يوسف، وهو اختيار الفقيه أبي جعفر؛ لأنه أدفع للحاجة. وعن أبي بكر الأعمش: تفضيل القمح؛
(1)
- "العلس" -بفتحتين-: ضرب من الحنطة، يكون في القشرة منه حبتان، وقد تكون واحدة، أو ثلاث. وقال بعضهم: هو حبة سوداء تؤكل في الجدب. وقيل: مثل البرّ، إلا أنه عَسِرُ الاستنقاء. وقيل: هو العدَس. قاله في "المصباح".
(2)
- القَطَانيّ بـ "الفتح" جمع قِطْنيّة، وهي العَدَسُ، والخُلَّرُ، والفول، والدُّجْرُ، والحمّص. اهـ "القاموس". وفي "المصباح": قيل لما يُدّخر في البيت من الحيوب، ويقيم زمانًا قِطْنيّة -بكسر القاف- على النسبة، وضمُّ القاف لغة. وفي "التهذيب": القِطْنِيّةُ: اسم جامع للحبوب التي تطبخ، وذلك مثل العدس، والباقلَاء، واللُّوبِيَاءِ، والحمّص، والأرز، والسمسم، وليس القمح، والشعير من الْقَطَانيّ. انتهى.
لأنه أبعد من الخلاف.
قال وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: من قال بالتخيير فقد أخذ بظاهر الحديث، وأما من قال بتعيين غالب قوت البلد، أو قوت نفسه، فإنه حمل الحديث على ذلك، ولم يجعله على ظاهره من التخيير، واقتصر في المشهور من روايات ابن عمر على التمر، والشعير؛ لأنهما غالب ما يُقتات بالمدينة في ذلك الوقت، فإما أن يكون محمولاً على إيجاب التمر على من يقتاته، والشعير على من يقتاته، وإما أن يكون مخيّرًا بينهما؛ لاستوائهما في الغلبة، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر، فالمخرِج مخيّرٌ بينهما انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي حمل "أو" على معنى التخيير، وأن المؤدّي لصدقة الفطر مخيّرٌ في إخراج أيّ نوع شاء، مما صحّ ذكره في الحديث، لا من سائر أنواع الحبوب، فإنها لا تجزئ مع وجود المنصوص عليه، وإن لم يوجد شيء من المنصوص عليه أجزأ كلُّ ما كان قوتَ أهل البلد غالبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في الأفضل من الأجناس المنصوص عليها:
ذهب الإمامان: مالك، وأحمد إلى اختيار إخراج التمر، قال ابن المنذر: واستحبّ مالك إخراج العجوة منه.
وذهب الشافعيّ، وأبو عبيد إلى اختيار إخراج البرّ. وقال بعض أصحاب الشافعيّ: يحتمل أن يكون الشافعيّ قال ذلك؛ لأن البرّ كان أعلى في وقته، ومكانه؛ لأن المستحبّ أن يخرج أغلاها ثمنًا، وأنفسها؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن أفضل الرقاب؟ قال:"أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها". متّفق عليه.
وإنما اختار أحمد إخراج التمر اقتداءً بأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واتباعًا لهم. وروى بإسناده عن أبي مِجْلَزٍ، قال: قلت لابن عمر إن اللَّه قد أوسع، والبرّ أفضل من التمر، قال: إن أصحابي سلكوا طريقًا، وأنا أُحبّ أن أسلكه. وظاهر هذا أن جماعة من الصحابة كانوا يخرجون التمر، فأحبّ ابن عمر موافقتهم، وسلوك طريقتهم، وأحبّ أحمد أيضًا الاقتداء بهم، واتِّبَاعهم.
وروى البخاريّ عن ابن عمر، قال: "فرض النبيّ صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر
…
" الحديث.
(1)
- راجع "طرح التثريب" ج 4 ص 50 - 52.
وفيه كان ابن عمر يُعطي التمر، فأعوز أهلُ المدينة من التمر، فأعطى شعيرًا. قال الحافظ: فيه دلالة على أن التمر أفضل ما يُخرج في صدقة الفطر. وقد روى جعفر الفريابيّ من طريق أبي مِجْلَزٍ، قال: قلت لابن عمر: قد أوسع اللَّه، والبرّ أفضل من التمر، أفلا تُعطي البرّ؟، قال: لا أُعطي إلا كما كان يعطي أصحابي. وُيستَنبَطُ من ذلك أنهم كانوا يخرجون من أعلى الأصناف التي يُقتات بها؛ لأن التمر أعلى من غيره، مما ذُكر في حديث أبي سعيد، وإن كان ابن عمر فَهِمَ منه خصوصيّة التمر بذلك. واللَّه أعلم انتهى كلام الحافظ
(1)
.
قال ابن قُدامة: والأفضل بعد التمر البرّ، وقال بعض أصحابنا: الأفضل بعده الزبيب؛ لأنه أقرب تناولًا، وأقلّ كلفة، فأشبه التمر. ولنا أن البرّ أنفع في الاقتيات، وأبلغ في دفع حاجة الفقير. انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي قول من فضّل الزبيب على البرّ أرجح؛ لصحّة الحديث به، دون البرّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في إخراج القيمة في صدقة الفطر:
ذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعيّ، وأحمد -رحمهم اللَّه تعالى- إلى أنه لا يجوز دفع القيمة في صدقة الفطر.
وذهب الإمام أبو حنيفة، وأصحابه -رحمهم اللَّه تعالى- إلى جواز ذلك.
قال ابن قدامة: قال أبو داود: قيل لأحمد، وأنا أسمع: أَعطَى دراهم -يعني في صدقة الفطر- قال: أخاف أن لا يجزئه خلاف سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وقال أبو طالب: قال أحمد: لا يعطي قيمته، قيل له: قوم يقولون: عمر بن عبد العزيز كان يأخذ القيمة، قال: يدعون قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويقولون قال فلان، قال ابن عمر:"فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وقال اللَّه تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92]. وقال قوم يردّون السنن: قال فلان، قال فلان.
وظاهر مذهبه أنه لا يجزئه إخراج القيمة في شيء من الزكوات، وبه قال مالك، والشافعيّ.
وقال الثوريّ، وأبو حنيفة: يجوز. وقد روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، والحسن، وروي عن أحمد مثل قولهم فيما عدا صدقةَ الفطر، وقال أبو داود: سئل أحمد عن رجل باع ثمر نخلته؟، قال: عشره على الذي باعه، قيل له: فيخرج ثمرًا، أو
(1)
- راجع "الفتح" ج 4 ص 148 - 150.
(2)
- راجع "المغني" ج 4 ص 291 - 292.
ثمنه؟ قال: إن شاء أخرج ثمرًا، وإن شاء أخرج من الثمن. وهذا دليل على جواز إخراج القيم. ووجهه قول معاذ لأهل اليمن:"ايتوني بخميس، أو لبيس، آخذه منكم، فإنه أيسر عليكم، وأنفع للمهاجرين بالمدينة". وقال سعيد: حدّثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، قال: لَمّا قدم معاذ اليمن، قال:"ائتوني بعرض ثياب، آخذه منكم مكان الذرة، والشعير، فإنه أهون عليكم، وخير للمهاجرين بالمدينة". قال: وحدّثنا جرير، عن ليث، عن عطاء، قال: كان عمر بن الخطّاب يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم؛ ولأن المقصود دفع الحاجة، ولا يختلف ذلك بعد اتحاد قدر الماليّة باختلاف صور المال.
قال ابن قدامة: ولنا قول ابن عمر: "فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر، صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، فإذا عدل عن ذلك، فقد ترك المفروض. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاةً شاةٌ، وفي مائتي درهم خمسة دراهم". وهو وارد لبيان مجمل قوله تعالى:{وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، فتكون الشاة المذكورة هي الزكاة المأمور بها، والأمر للوجوب انتهى.
وقد وافق الإمام البخاريّ في ذلك الحنفيّةَ، فقال بجواز إخراج العروض في الزكاة، إذا كانت بقيمتها، إذ ترجم بقوله:"باب الْعَرْضِ في الزكاة"، وذكر فيه أثر طاوس المتقدّم، وغيره من الأحاديث. وقد أجاب الجمهور عن جميع ذلك. وقد تقدّم البحث عن ذلك.
وقال الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "السيل الجرّار" في شرح قول صاحب "حدائق الأزهار": "إنما تجزئ القيمة للعذر": أقول هذا صحيح؛ لأن ظاهر الأحاديث الواردة بتعيين قدر الفطرة من الأطعمة أنّ إخراج ذلك مما سمّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم متعيّنٌ، وإذا عرض مانع من إخراج العين، كانت القيمة مجزئة؛ لأن ذلك هو الذي يمكن مَنْ عليه الفطرة، ولا يجب عليه ما لا يدخل تحت إمكانه انتهى كلام الشوكانيّ
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى- هو الأرجح عندي.
والحاصل أن دفع عين ما وجب في زكاة الفطر، أو زكاة المال هو المتعيّن، فإن لم يتيسّر جازت القيمة؛ لقول اللَّه تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} الآية، وقوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بشيء، فائتوا منه ما
(1)
- راجع "السيل الجرّار" ج 2 ص 86.
استطعتم
…
" الحديث متفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2513 -
(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: "كُنَّا نُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، فَلَمْ نَزَلْ كَذَلِكَ، حَتَّى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ مِنَ الشَّامِ، وَكَانَ فِيمَا عَلَّمَ النَّاسَ، أَنَّهُ قَالَ: مَا أَرَى مُدَّيْنِ، مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ، إِلاَّ تَعْدِلُ
(1)
صَاعًا مِنْ هَذَا، قَالَ: فَأَخَذَ
(2)
النَّاسُ بِذَلِكَ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهمَ رجال الصحيح، و"هنّاد بن السّريّ" هو: الكوفيّ الثقة [10] 23/ 25. و"داود بن قيس": هو الفرّاء الدّبّاغ، أبو سليمان القرشيّ المدنيّ، ثقة فاضل [5] 96/ 120.
وقوله: "فيما علّم الناس" بتشديد اللام، من التعليم.
والحديث صحيحٌ، وقد مضى شرحه، والكلام على مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
39 - (الدَّقِيقُ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الدّقيق" -بالفتح- فَعيل بمعنى مفعول. قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: دققتُ الشيءَ دَقًّا، من باب قتل، فهو مَدْقُوقٌ، ودَقيقُ الحنطة، وغيرها، وهو الطَّحِينُ أيضًا، فعيل بمعنى مفعول، ويجمع على أَدِقَّةٍ، مثلُ جَنِينٍ وأجِنّة، ودَليل وأدلّة. انتهى
(3)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2514 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عِيَاضَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يُخْبِرُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: "لَمْ نُخْرِجْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلاَّ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا
(1)
- وفي نسخة: "يعدل".
(2)
- وفي نسخة: "وأخذ".
(3)
- "المصباح المنير".
مِنْ دَقِيقٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ سُلْتٍ". ثُمَّ شَكَّ سُفْيَانُ، فَقَالَ: "دَقِيقٍ، أَوْ سُلْتٍ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخ "محمد بن منصور" وهو الجوّاز المكيّ فإنه من أفراده. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"ابن عجلان": هو محمد، مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، أبو عبد اللَّه أحد العلماء العاملين المدنيّ، صدوق، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة [5] 36/ 40.
وقوله: "ثمّ شكّ سفيان" يعني أن سفيان بن عيينة -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن كان يحدّث "أو صاعًا من دقيق" وقع عليه شكّ في ذلك، فقال:"من دقيق، أو سُلْت".
وقال أبو داود بعد أن أخرجه من طريق يحيى القطّان، عن ابن عجلان: ما نصّه: هذا حديث يحيى، زاد سفيان "أو صاعًا من دقيق". قال حامد -يعني شيخه حامد بن يحيى -: فأنكروا عليه، فتركه سفيان. قال أبو داود: فهذه الزيادة وَهَمٌ من ابن عيينة انتهى.
وقال البيهقيّ -رحمه اللَّه تعالى-: رواه جماعة عن ابن عجلان، منهم: حاتم بن إسماعيل، ومن ذلك الوجه أخرجه مسلم في "الصحيح"، ويحيى القطّان، وأبو خالد الأحمر، وحماد بن مسعدة، وغيرهم، فلم يذكر أحد منهم الدقيق غير سفيان، وقد أنكروا عليه، فتركه. وروي عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس، مرسلًا موقوفًا على طريق التوهّم، وليس بثابت، وروي من أوجه ضعيفة، لا تسوى ذكرها. انتهى كلام البيهقيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
وقال الدارقطنيّ بعد إخراجه من طريق العباس بن يزيد، عن ابن عيينة بلفظ:"ما أخرجنا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا صاعًا من دقيق، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من سُلْت، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط". قال أبو الفضل: فقال له -أي لسفيان- عليّ بن المدينيّ، وهو معنا: يا أبا محمّد أحدٌ لا يذكر في هذا الدقيقَ، فقال: بل هو فيه انتهى
(2)
. وأبو الفضل هو العباس بن يزيد المذكور.
وأخرج ابن خزيمة، والدارقطنيّ من طريق محمد بن سيرين، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال:"أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أن نؤدّي زكاة رمضان صاعًا من طعام، عن الصغير والكبير، والحرّ، والمملوك، من أدّى سُلتًا قُبل منه"، وأحسبه قال:"ومن أدّى دقيقًا قُبل منه، ومن أدّى سويقًا قُبل منه".
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا؟ -يعني هذا الحديث- فقال: مُنكَرٌ؛ لأن ابن
(1)
- "السنن الكبرى" ج 4 ص 127.
(2)
- راجع "سنن الدارقطنيّ" ج 2 ص 146.
سيرين لم يسمع من ابن عبّاس في قول الأكثر
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن زيادة الدقيق في حديث أبي سعيد رضي الله عنه لا تصحّ، وأن سفيان بن عيينة كان يرويه في الأصناف التي تخرج منها زكاة الفطر، فلما أُنكر عليه تركه. واللَّه تعالى أعلم.
وقد استَدَلّ به أبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وقالوا أيضًا: يجوز إخراج السويق، ثم قال الحنفيّة: نصف صاع من دقيقِ القَمْحِ، وسويقه، وصاع من دقيق الشعير، وسويقه، وقال أحمد: صاع من الجميع.
واحتجّوا للجواز بحديث الباب، وبحديث ابن خزيمة، والدارقطنيّ المذكور، وغيرهما، وقد عرفت أنها كلها ضعيفة.
وفي "المنهل": وقال مالك، وأصحابه، والشافعيّة، وأكثر العلماء: لا يجوز إخراج الدقيق، والسويق؛ لأنهما لم يذكرا في الأحاديث "الصحيحة" والأحاديثُ التي فيها ذكر الدقيق والسويق لا تصلح للاحتجاج بها انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه أكثر العلماء، من عدم إجزاء الدقيق، والسويق في زكاة الفطر هو الصواب عندي؛ لعدم صحّة الدليل عليه، إلا إذا كان هناك عذرٌ، كعدم وجود الأشياء المنصوص عليها، فيجوز إخراجهما، للضرورة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
40 - (الْحِنْطَةُ)
2515 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
(3)
حُمَيْدٌ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، خَطَبَ بِالْبَصْرَةِ، فَقَالَ:"أَدُّوا زَكَاةَ صَوْمِكُمْ"، فَجَعَلَ النَّاسُ، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ:"مَنْ هَاهُنَا، مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؟ ، قُومُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ، فَعَلِّمُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، عَلَى الصَّغِيرِ
(1)
- راجع "التلخيص الحبير" ج 2 ص 355 - 356.
(2)
- راجع "المنهل العذب المورود" ج 9 ص 234 - 235.
(3)
- وفي نسخة: "أخبرنا".
وَالْكَبِيرِ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ، قَالَ: الْحَسَنُ: فَقَالَ: عَلِيٌّ: أَمَّا إِذَا أَوْسَعَ اللَّهُ، فَأَوْسِعُوا، أَعْطُوا صَاعًا مِنْ بُرٍّ، أَوْ غَيْرِهِ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، وتقدموا غير مرّة. و"حميد": هو الطويل. و"الحسن": هو البصريّ.
والحديث تقدّم سندًا ومتنًا في 36/ 2508 - وتقدّم شرحه، والكلام على مسائله هناك، وهو حديث ضعيف للانقطاع بين الحسن البصريّ، وابن عبّاس رضي الله عنهما، فلا يصلح للاحتجاج به، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
41 - (السُّلْتُ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "السُّلْتَ" -بضمّ، فسكون-: قال في "اللسان": ضربٌ من الشعير، وقيل: هو الشعير بعينه. وقيل: هو الشعير الحامض. وقال الليث: السُّلْتُ شعيرٌ لا قشر له أجرد، زاد الجوهريّ: كأنه الحنطة، يكون بالْغَوْر، والحجاز، يتبرّدون بسويقه في الصيف. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2516 -
(أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "كَانَ النَّاسُ يُخْرِجُونَ عَنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ تَمْرٍ، أَوْ سُلْتٍ، أَوْ زَبِيبٍ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "موسى بن عبد الرحمن": هو الكنديّ المسَرَوقيّ، أبو عيسى الكوفيّ، ثقة، من كبار [11] 74/ 91.
و"حسين": هو ابن عليّ الجعفيّ الكوفيّ الثقة المقرئ العابد [9] 74/ 91.
و"زائدة": هو ابن قُدَامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقة ثبت [7] 74/ 91.
و"عبد العزيز بن أبي رَوَّاد" المكيّ، واسم أبيه ميمون، وقيل: غيره، صدوق عابد، ربما وَهِمَ، ورُمي بالإرجاء [7] 93/ 1351.
والحديث صحيح، إلا أن زيادة "السلت" فيها نظر؛ لأنها من رواية ابن أبي رَوَّاد، وهو متكلم فيه، وقد روى الحديث الثقاةُ من أصحاب نافع، وليست عندهم هذه الزيادة، فالظاهر عدم قبولها، فتأمل. وقد تقدّم تمام البحث في الحديث مُستَوفًى في 31/ 2501 فراجعه تستفد.
ودلالته على الترجمة واضحة، حيث إنه يدلّ على إجزاء صاع من السّلت في صدقة الفطر، إلا أن الظاهر أن زيادة "السلت" في الحديث لا تصح، كما نبهت عليه آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
42 - (الشَّعِيرُ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الشَّعِير" -بالفتح-: جنس من الحبوب معروفٌ، واحدته شَعيرةٌ، وبائعه شَعِيريٌّ. قال سيبويه: وليس مما بُني على فاعل، ولا فَعّالٍ، كما يغلب في هذا النحو، وأما قول بعضهم: شِعِيرٌ، وبعِيرٌ، ورِغِيفٌ، وما أشبه ذلك -أي بكسر أوله، وثانيه- لتقريب الصوت من الصوت، فَلا يكون هذا إلا مع حروف الحلق. ذكره في "اللسان".
وفي "المصباح": الشَّعِير: حَبّ معروفٌ، قال الزّجّاج: أهل نجد تؤنّثه، وغيرهم يُذكّره، فيقال: هي الشعير، وهو الشعير انتهى.
فأفاد ما تقدّم عن سيبويه أن الشَّعِير بفتح أوّله، وكسر ثانيه، ويجوز كسر أوله أيضًا تبعًا لحركة العين، وهكذا كلّ ما أتي على فَعِيل، وكان عينه حرف حلق، كبَعِير، ورَغِيفٍ، ونحو ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2517 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيَاضٌ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: "كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ تَمْرٍ، أَوْ زَبِيبٍ، أَوْ أَقِطٍ، فَلَمْ نَزَلْ كَذَلِكَ، حَتَّى كَانَ فِي عَهْدِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: مَا أَرَى مُدَّيْنِ، مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ، إِلاَّ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح و"عمرو": هو الفلّاس. و"يحيى": هو القطّان.
وقوله: "من سمراء الشام" أي الْقَمْح الشاميّ. قيل: هو الحنطة الجيّدة المعروفة بالشام بالجبليّ.
والحديث صحيح، تقدم الكلام عليه في 37/ 2511، ودلالته على الترجمة واضحة، حيث إنه يدلّ على أن إخراج صاع من الشعير في صدقة الفطر مجزىء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
43 - (الأَقِطُ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الأقط" كما قال الأزهريّ -رحمه اللَّه تعالى-: يُتّخذ من اللبن الْمَخِيض، يُطبخ، ثمّ يُترك حتّى يَمْصُلَ
(1)
، وهو -بفتح الهمزة، وكسر القاف، وقد تُسكّن القاف للتخفيف، مع فتح الهمزة، وكسرها، مثل تخفيف كَبِدٍ، نقله الصغانيّ عن الفَرَّاء ذكره في "المصباح".
وقال في "اللسان": "الأَقِط" -أي بفتح، فكسر- و"الإِقْطُ" -أي بكسر، فسكون- و"الأَقْطُ" -أي بفتح، فسكون- و"الأُقْطُ -أي بضمّ، فسكون-: شيءٌ يُتّخذ من اللبن الْمَخِيض، يُطبخ، ثمّ يُترك حتىّ يَمْصُل، والقِطْعة منه أَقِطَةٌ. قال ابن الأعرابيّ: هو من ألبان الإبل خاصّة. وقال الجوهريّ: الأقط معروف، قال: وربّما سُكّن في الشعر، وتُنقل حركة القاف إلى ما قبلها، قال الشاعر [من الطويل]:
رُوَيْدَكَ حَتَّى يَنْبُتَ البَقْلُ وَالْغَضَا
…
فَيَكْثُرَ إِقْطٌ عِنْدَهُمْ وَحَلِيبُ
قال: وَأْتَقَطْتُ: اتّخذتُ الأقِطَ، وهو افتَعَلْتُ، وأَقَطَ الطّعَامَ يَأْقِطُهُ أَقْطًا: عَمِلَهُ بالأَقِطِ، فهو مأْقُوطٌ، وأنشد الأَصْمَعِيُّ [من الرجز]:
وَيَأْكُلُ الْحَيَّةَ وَالْحَيُّوتَا
…
وَيَدْمُقُ
(2)
الأقَفَالَ وَالتَّابُوتَا
وَيَخْنُقُ الْعَجُوزَ أَوْ تَمُوتَا
…
أَوْ تُخرِجُ الْمَأقُوطَ وَالْمَلْتُوتَا
انتهى عبارة "لسان العرب" باختصار. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2518 -
(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ
(3)
، أَنَّ عِيَاضَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، قَالَ:"كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، لَا نُخْرِجُ غَيْرَهُ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح غير عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عثمان، كما سيأتي، و"عيسى بن حمّاد": هو المصريّ المعروف بـ "زُغْبَةَ" ثقة
(1)
- الْمَصْلُ عُصارةُ الأقط، وهو ماؤه الذي يُعصر منه حين يطبخ. قاله ابن السِّكِّيت. نقله في "المصباح المنير".
(2)
- يقال: دَمَقَ يدمُقُ دُمُوقًا، من باب قعد: دخل بغير إذن، والدَّمْقُ -بفتح، فسكون-: السرقة. أفاده في "القاموس".
(3)
- ووقع في نسخة: "ابن عمر"، وهو غلطٌ.
[10]
135/ 211. و"الليث": هو ابن سعد الإمام الثبت الفقيه الحجة المصريّ [7] 31/ 35. و"يزيد": هو ابن أبي حبيب، أبو رجاء المصريّ الفقيه الثقة [5] 134/ 207.
و"عبد اللَّه- ويقال: عبيد اللَّه، مصغّرًا- ابن عبد اللَّه بن عثمان" بن حَكيم بن حِزَام ابن خُوَيلد الأسديّ الحزاميّ- بالحاء المهملة، والزاي- مقبول [6].
روى عن عياض بن عبد اللَّه بن أبي سَرْحٍ، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول. وعنه يزيد بن أبي حبيب، ومحمد بن إسحاق، وعَبد اللَّه بن عامر الأسلميّ، وحُنين بن أبي حكيم. تفرّد به أبو داود، والمصنّف، وله عندهما حديث الباب فقط.
والحديث حسنٌ، وتقدّم البحث عنه فيما سبق، فراجعه، تستفد.
ودلالة الحديث على الترجمة واضحة، حيث يدلّ على أنّه يجوز دفع صاعٍ من الأقط في صدقة الفطر، كغيره مما ذُكر في الحديث، وقد اختلف فيه العلماء، فقال مالك بالإجزاء، إذا كان من أغلب القوت، وللشافعيّ فيه قولان: أحدهما كقول مالك. والثاني: أنه لا يجزئ، قال الحافظ: وعند الشافعيّة فيه خلاف، وزعم الماورديّ أنه يختصّ بأهل البادية، وأما الحاضرة، فلا يجزئ عنهم بلا خلاف، وتعقبه النوويّ في "شرح المهذّب"، وقال: قطع الجمهور بأن الخلاف في الجميع انتهى. والمذكور في فروع الشافعيّة الإجزاء إذا كان غالب أقوات المخرج. قال النوويّ في "شرح مسلم": يجزئ الأقط على المذهب انتهى. وقال الحنفيّة: لا يُجزىء إلا بدلًا عن القيمة. قال الكاسانيّ في "البدائع": أما الأقط، فتعتبر فيه القيمة لا يجزئ إلا باعتبار القيمة؛ لأنه غير منصوص عليه من وجه يوثق به، وجواز ما ليس بمنصوص عليه لا يكون إلا بالقيمة انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا عجيب من الكاسانيّ، فإن حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا أخرجه الشيخان، وغيرهما، فقوله: غير منصوص عليه من وجه يوثق به. ينادي عليه بأنه بعيد كلّ البعد عن مراجعة مشاهير الكتب الحديثية، كالصحيحين، فضلًا عن غيرها، مع أنه يعدّ من كبار الفقهاء الحنفية، إن هذا لهو العجب العُجاب. وقال ابن قدامة: يجزئ أهل البادية إخراج الأقط إذا كان قوتهم، وكذلك من لم يجد من الأصناف المنصوص عليها سواه، فأما من وجد سواه، فهل يجزئ على روايتين: إحداهما: يجزئه أيضًا؛ لحديث أبي سعيد المذكور في الباب.
والثانية: لا يجزئه؛ لأنه جنس لا تجب فيه الزكاة، فلا يجزئ إخراجه لمن يقدر على غيره من الأجناس المنصوص عليها، كاللحم، ويُحمل الحديث على من هو قوت له، أو لم يقدر على غيره. انتهى كلام ابن قدامة باختصار.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول الأول هو الحقّ، وأما القول الثاني، فمخالف للنصوص "الصحيحة" فلا يلتفت إليه. فالحقّ أنه يجزئ إخراج الأقط، مطلقًا، سواء
كانوا من أهل الأمصار، أو من غيرهم، قادرين على غيره، من التمر، وغيره، أو لا، وسواء كان قوتًا له، أو لا؛ لأن الحديث لم يفرّق، ولم يفصّل شيئًا من ذلك.
والحاصل أن الأقط مجزىء مطلقًا، لحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه المذكور في الباب، حيث قال: "كنّا نخرج في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
…
" الحديث، فأطلق، ولم يقيّده بشيء، مما ذكروه، فدلّ على أنه يجزئ مطلقًا، كالتمر، والشعير المذكورين معه، حيث لا خلاف في إجزائهما، فكذلك هو. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
44 - (كَمِ الصَّاعُ)
2519 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْقَاسِمُ -وَهُوَ ابْنُ مَالِكٍ- عَنِ الْجُعَيْدِ، سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ، قَالَ: "كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مُدًّا وَثُلُثًا، بِمُدِّكُمُ الْيَوْمَ، وَقَدْ زِيدَ فِيهِ". قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَحَدَّثَنِيهِ زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عمرو بن زُرارة) أبو محمد النيسابوريّ، ثقة ثبت [10] 7/ 368.
2 -
(القاسم بن مالك) المزنيّ، أبو جعفر الكوفيّ، صدوق فيه لين، من صغار [8] 1/ 1442.
3 -
(الْجُعَيدِ) -مصغرًا- ويقال: الجعد -مكبّرًا- ابن عبد الرحمن بن أوس، وقد ينسب إلى جدّه، ثقة [5] 83/ 100.
4 -
(السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ) بن سعيد بن ثُمامة الكنديّ، وقيل: غير ذلك في نسبه، ويعرف بابن أخت النمر، صحابيّ صغير، له أحاديث قليلة، وحُجّ به في حجة الوداع، وهو ابن سبع سنين، وولاّه عمر سوق المدينة، آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم، مات سنة (91) وقيل: قبل ذلك، تقدّم في 15/ 1392. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (129) من رباعيات
الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن صحابيه آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم -كما سبق آنفًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنِ الْجُعَيْدِ) أو الجعد بن عبد الرحمن، أنه قال (سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ) بن سعيد ابن ثُمامة الكنديّ رضي الله عنه أنه (قَالَ:"كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مُدًّا وَثُلُثًا، بِمُدِّكُمُ الْيَوْمَ) "أل" للعهد الحضوريّ، أي بمدّكم المستعمل في اليوم الحاضر الذي هو يوم تحديث السائب للجعد بن عبد الرحمن، ومن معه (وَقَدْ زِيدَ فِيهِ) أي زيد في مقدار الصالح بعد عهده صلى الله عليه وسلم. وللبخاريّ: "فزيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز".
قال ابن بطّال -رحمه اللَّه تعالى-: هذا يدلّ على أن مدّهم حين حدّث به السائب كان أربعة أرطال، فإذا زيد عليه ثلثه، وهو رطلٌ وثلثٌ، قام منه خمسة أرطال، وثلثٌ، وهو الصالح بدليل أن مدّه صلى الله عليه وسلم رطلٌ وثلثٌ، وصاعه أربعة أمداد، ثمّ قال: مقدار ما زيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز لا نعلمه، وإنما الحديث يدلّ على أن مدّهم ثلاثة أمداد بمدّه انتهى.
قال الحافظ: ومن لازم ما قال أن يكون صاعهم ستة عشر رطلًا، لكن لعلّه لم يعلم مقدار الرطل عندهم إذ ذاك. انتهى
(1)
.
(قَالَ: أَبُو عَبد الرَّحْمَنِ) النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- (وحَدَّثَنِيهِ) أي هذا الحديث (زِيَادُ بْنُ أَيوبَ) البغداديّ، أبو هاشم الطوسيّ الأصل، الحافظ الثبت، الملقّب بـ "دَلُّويَهْ"، وكان يغضب منها، ولقّبه أحمد شعبةَ الصغير، مات سنة (252) وله (86) سنة، وتقدّم في 101/ 132. زاد في "الكبرى":"عن القاسم".
والمعنى: أن زياد بن أيوب حدث المصنّف بهذا الحديث عن القاسم بن مالك، كما حدّثه به عمرو بن زُرارة، ورواية زياد أخرجها الإسماعيلي، كما أشار إليه في "الفتح" جـ 15 ص 246 حيث قال: ووقع في رواية زياد بن أيوب، عن القاسم بن مالك، قال: أنبأنا الجعيد، أخرجه الإسماعيلي انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه هذا أخرجه البخاريّ.
(1)
- راجع "الفتح" ج 13 ص 460.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-44/ 2519 - وفي "الكبرى" 46/ 2298 - وأخرجه (خ) في "كتاب كفّارات الأيمان" 6712 وفي "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة"7330. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في مقدار الصاع:
ذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وعلماء الحجاز إلى أنه خمسة أرطال، وثلث بالرطل البغداديّ.
وذهب أبو حنيفة، وصاحبه محمد بن الحسن إلى أنه ثمانية أرطال بالرطل المذكور.
وكان أبو يوسف يقول كقولهما، ثم رجع إلى قول مالك، والجمهور لَمّا تناظر مع مالك بالمدينة، فأراه الصيعان التي توارثها أهل المدينة عن أسلافهم إلى زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد بسط البيهقيّ في "السنن الكبرى" الدلائل في كون الصاع المجزىء في الفطرة خمسة أرطال وثلثًا بسطاَ حسنًا. قال: وأما ما رواه صالح بن موسى الطلحيّ، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها:"جرت السنة من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الغسل من الجنابة صاع، والوضوء برطلين، والصاع ثمانية أرطال". فإن صالحًا تفرّد به، وهو ضعيف. قاله يحيى بن معين، وغيره، من المحدثين. قال: وكذا ما روي عن جرير بن يزيد، عن أنس رضي الله عنه، وما روى عن ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم، عن أنس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ برطلين، ويغتسل بالصاع، ثمانية أرطال". إسنادهما ضعيف، وإنما الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتوضّأ بالمدّ، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد". قال البيهقيّ: فلا معنى لترك الأحاديث الصحيحة في قدر الصاع المعدّ لزكاة الفطر بمثل هذا. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ وليّ الدين: وإطلاق الصالح في الحديث يدلّ على أنه مكيال معروفٌ عندهم. وقال ابن الصبّاغ وغيره من الشافعيّة: الأصل فيه الكيل، وإنما قدّره العلماء بالوزن استظهارًا. وقال النوويّ: قد يُستشكل ضبط الصاع بالأرطال، فإن الصاع المخرج به في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم مكيال معروف، ويختلف قدره وزنا باختلاف جنس ما يخرج، كالذرة، والحمّص، وغيرهما، والصواب ما قاله أبو الفرج الدارميّ من أصحابنا أن الاعتماد في ذلك على الكيل دون الوزن، وأن الواجب أن تخرج بصاع معاير بالصاع الذي كان يخرج به في عصر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وذلك الصاع موجود، ومن لم يجده
(1)
- راجع "السنن الكبرى" ج 4 ص 169 - 170.
وجب عليه إخراج قدر يتيقّن أنه لا ينقص عنه، وعلى هذا فالتقدير بخمسة أرطال، وثلث تقريب، وقال جماعة من العلماء: الصاع أربع حفنات بكفّي رجل معتدل الكفين انتهى كلام النوويّ
(1)
.
وقال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى- في "المغني": ما حاصله: الصاعُ خمسة أرطال وثلثٌ بالعراقيّ. والأصل فيه الكيل، وإنما قدّره العلماء بالوزن ليُحفَظ، ويُنقَل. وقد روى جماعة عن أحمد أنه قال: الصاع وزنته، فوجدته خمسة أرطال وثلثًا حنطةً. وقال حنبلٌ: قال أحمد: أخذت الصاع من أبي النضر، وقال أبو النضر: أخذته عن ابن أبي ذئب، وقال: هذا صاع النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي يُعرف بالمدينة، قال أبو عبد اللَّه: فأخذنا العَدَسَ، فعيّرنا به، وهو أصلح ما يُكال به؛ لأنه لا يتجافى عن موضعه، فَكِلْنا به، ثمّ وزنّاه، فهذا هو خمسة أرطال وثلثٌ، وقال: هذا أصلح ما وقفنا عليه، وما تبيّن لنا من صاع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الصاع خمسة أرطال وثلثًا من الحنطة، والعدَسِ، وهما من أثقل الحبوب، فما عداهما من أجناس الفطرة أخفّ منهما، فإذا أخرج منها خمسة أرطال وثلثًا، فهي أكثر من صاع. وقال محمد بن الحسن: إن أخرج خمسة أرطال وثلثًا بُرًّا لم يُجزه؛ لأن البرّ يختلف، فيكون فيه الثقيل والخفيف. وقال الطحاويّ: يُخرج ثمانية أرطال مما يستوي كيله ووزنه، وهو الزبيب والماشُ. ومقتضى كلامه أنه إذا أخرج ثمانية أرطال مما هو أثقل منهما لم يجزئه حتى يزيد شيئًا يعلم أنه قد بلغ صاعًا، والأولى لمن أخرج من الثقيل بالوزن أن يحتاط، فيزيد شيئًا يعلم به أنه قد بلغ صاعًا. انتهى كلام ابن قدامة
(2)
.
وقد ردّ الإمام أبو محمد ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى- على القائلين: إن الصاع ثمانية أرطال ردًّا عَنيفًا، ثم أورد حديثَ:"المكيالُ مكيالُ أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكّة" الحديث الآتي للمصنّف بعد هذا، وقال: فلم يَسَعْ أحدًا الخروج عن مكيال أهل المدينة، ومقداره عندهم، ولا عن موازين أهل مكّة، ووجدنا أهل المدينة لا يختلف منهم اثنان في أنّ مدّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي تؤدّى به الصدقات ليست أكثر من رطل ونصف، ولا أقلّ من رطل وربع، وقال بعضهم: رطل وثلث، وليس هذا اختلافًا، لكنه على حسب رزانة المكيل من البرّ، والتمر، والشعير. ثم أخرج بسنده عن هشام بن عروة:"أن مدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي كان يأخذ به الصدقات رطل ونصف". وأخرج أيضًا من طريق أبي داود، عن أحمد بن حنبل، قال: صاع ابن أبي ذئب خمسة أرطال وثلث.
(1)
- راجع "طرح التثريب" ج 4 ص 53 - 54.
(2)
- "المغني" ج 4 ص 287 - 288.
قال أبو داود: وهو صاع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وأخرج من طريق عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، قال: ذكر أبي أنه عير مدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحنطة، فوجدها رطلا وثلثًا في البرّ. قال: ولا يبلغ من التمر هذا المقدار. وأخرج من طريق إسماعيل بن إسحاق، قال: دفع إلينا إسماعيل ابن أبي أويس المدَّ، وقال: هذا مدّ مالك، وهو على مثال مدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذهبت به إلى السوق، وخُرِط لي
(1)
عليه مُدٌّ، وحملته معي إلى البصرة، فوجدته نصف كَيلَجة
(2)
بكَيلَجة البصرة، يزيد على كيلجة البصرة شيئًا يسيرًا خفيفًا، إنما هو شبيه بالرجحان الذي لا يقع عليه جزء من الأجزاء، ونصف كيلجة البصرة هو ربع كيلجة بغداد، فالمدّ ربع الصاع، والصاع مقدار كيلجة بغداديّة يزيد الصاع عليها شيئًا يسيرًا.
قال أبو محمد: وخُرِط لي مدّ على تحقيق المد المتوارث عند آل عبد اللَّه بن علي الباجيّ، وهو عند أكبرهم، لا يفارق داره، أخرجه إليّ ثقتي الذي كلّفته ذلك علي بن عبد اللَّه بن أحمد بن عبد اللَّه بن عليّ المذكور، وذكر أنه مدّ أبيه وجدّه، وأبي جدّه، أخذه، وخرطه على مدّ أحمد بن خالد، وأخبره أحمد بن خالد أنه خرطه على مدّ يحيى ابن يحيى الذي أعطاه إياه ابنه عبيد اللَّه بن يحيى، وخرطه يحيى على مدّ مالك، ولا أشكّ أن أحمد بن خالد صححه أيضًا على مدّ محمد بن وضاح الذي صححه ابن وضاح بالمدينة.
قال أبو محمد: ثم كلته بالقمح الطيب، ثم وزنته، فوجدته رطلًا واحدًا ونصف رطل بالفلفليّ، لا يزيد حبّة، وكلته بالشعير، إلا أنه لم يكن بالطيب، فوجدته رطلًا واحدًا ونصف أوقيّة. وهذا أمر مشهور بالمدينة، منقول نقل الكافّة، صغيرهم وكبيرهم، وصالحهم وطالحهم، وعالمهم وجاهلهم، وحرائرهم، وإمائهم، كما نقل أهل مكة موضع الصفا والمروة، والاعتراض على أهل المدينة في صاعهم ومدّهم كالمعترض على أهل مكة في موضع الصفا والمروة، ولا فرق، وكمن يعترض على أهل المدينة في القبر والمنبر والبقيع، وهذا خروج عن الديانة والمعقول.
قال: وقد رجع أبو يوسف إلى الحقّ في هذه المسألة، إذ دخل المدينة، ووقف على أمداد أهلها انتهى كلام ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-
(3)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح في مقدار الصاع هو ما
(1)
- يقال: خرطتُ العودَ: إذا قَشَرته، وسوّيته. أفاده في "القاموس".
(2)
- الكَيلَجة -بفتح الكاف، وضبطه بعضهم بفتحها وفتح اللام، والجيم: وهو كيل معروف لأهل العراق. انظر "المصباح"، و"القاموس".
(3)
- راجع "المحلى" ج 5 ص 245 - 246.
ذهب إليه الجمهور، وهو أنه خمسة أرطال وثلث، لا ثمانية أرطال، كما يقول بعضهم.
وأما تقديره بالموازير المعاصرة، كـ "الجرامات"، فلم أجد من حقق ذلك تحقيقًا يُعتمد عليه، فقد كتب الدكتور يوسف القرضاويّ في كتابه "فقه الزكاة" ما خلاصته: الصاع يساوي بالوزن بالجرامات (2176) وذلك حسب الوزن بالقمح. انتهى كلامه
(1)
.
وكتب الشيخ عبد اللَّه بن عبد الرحمن البسّام في كتابه "توضيح الأحكام": ما نصّه: وقد بحث مجلس هيئة كبار العلماء في قدر الصاع النبويّ بالنسبة للمكاييل الحديثة، فلم يصلوا إلى تحديد متيقّن حاسم، وذلك لعدم وجود صاع نبويّ متيقّن، فكان رأي غالب الأعضاء تقديره بثلاثة آلاف غرام، وهذا احتياط لصدقة الفطر، ونحوها انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بين هذين التقديرين بَوْن شاسع، فلا اعتماد على مثل هذا، بل لا بدّ من بذل الجهد في التحقيق، والتدقيق في ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2520 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ»).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أحمد بن سليمان) بن عبد الملك، أبو الحسين الرُّهاوي، ثقة حافظ [11] 38/ 41.
2 -
(أبو نعيم) الفضل بن دُكين الملائي الكوفي، ثقة ثبت [9] 11/ 516.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوري الإمام الحجة [7] 33/ 37.
4 -
(حنظلة) بن أبي سفيان الجمحي المكي، ثقة حجة [6] 12/ 12.
5 -
(طاوس) بن كيسان اليماني الثقة الثبت الحجة [3] 27/ 31.
6 -
(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أن فيه ابن عمر من المكثرين السبعة،
(1)
- راجع "فقه الزكاة" للدكتور يوسف القرضاوي ج 2 ص 942.
(2)
- راجع "توضيح الأحكام في شرح بلوغ المرام" ج 3 ص 46.
ومن العبادلة الأربعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "الْمِكيَال مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) أي الصاع الذي يتعلّق به وجوب الكفّارات، ويجب إخراج صدقة الفطر به صاع المدينة، وكانت الصيعان مختلفة في البلاد، وصاع أهل المدينة خمسة أرطال وثلث، كما تقدّم تحقيقه، وقد ذكرت ما حققه أبو محمد ابن حزم في ذلك في المسألة الثالثة في الحديث الماضي.
(وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ") أي وزن الذهب والفضّة فقط، والمراد أن الوزن المعتبر في باب الزكاة وزنُ أهل مكة، وهي الدراهم التي العشرة منها بسبعة مثاقيل، وكانت الدراهم مختلفة الأوزان في البلاد، وكانت دراهم أهل مكة هي الدراهم المعتبرة في باب الزكاة، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بهذا الكلام.
وقيل: إن أهل المدينة أهل زراعات، فهم أعلم بأحوال المكاييل، وأهل مكة أصحاب تجارات، فعهدهم بالموازين، وعلهم بالأوزان أكثر. قاله القاضي.
وفي "شرح السنّة": الحديث فيما يتعلّق بالكيل والوزن من حقوق اللَّه تعالى، كالزكوات، والكفّارات، ونحوها، حتى لا تجب الزكاة في الدراهم حتى تبلغ مائتي درهم بوزن مكّة، والصاع في صدقة الفطر صاع أهل المدينة، كلّ صاع خمسة أرطال وثلث رطل. كذا في "المرقاة".
وقال أبو محمد ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-: وبحثت أنا غاية البحث عند كلّ من وثقت بتمييزه، فكلّ اتفق لي على أن دينار الذهب بمكة وزنه اثنان وثمانون حبّة، وثلاثة أعشار حبّة بالحبّ من الشعير المطلق، والدرهم سبعة أعشار المثقال، فوزن الدرهم المكيّ سبع وخمسون حبّة، وستة أعشار حبّة، وعشر حبّة، فالرطل مائة درهم وثمانية وعشرون درهما بالدرهم المذكور انتهى
(1)
.
والحديث فيه دليلٌ على أنه يُرجع عند الاختلاف في الكيل إلى مكيال المدينة، وعند الاختلاف في الوزن إلى ميزان مكة.
قال الإمام أبو جعفر الطحاويّ -رحمه اللَّه تعالى-: تأملنا هذا الحديث، فوجدنا مكة لم يكن بها ثمرة، ولا زرعٌ حينئذ، وكذلك كانت قبل ذلك الزمان، ألا ترى إلى قول إبراهيم عليه السلام:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ} ، وإنما كانت بلد
(1)
- راجع "المحلى" ج 5 ص 246.
متجر، يوافي الحاجّ إليها بتجارات، فيبيعونها هناك، وكانت المدينة بخلاف ذلك؛ لأنها دار النخل، ومن ثمارها حياتهم، وكانت الصدقات تدخلها، فيكون الواجب فيها من صدقة تؤخذ كيلًا، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم الأمصار كلها لهذين المصرين أتباعًا، وكان الناس يحتاجون إلى الوزن في أثمان ما يبتاعون، وفيما سواها مما يتصرّفون فيه من العروض، ومن أداء الزكوات، وما سوى ذلك مما يستعملونه، فيما يُسلمونه فيه من غيره من الأشياء التي يكيلونها، وكانت السنّة قد منعت من إسلام موزون في موزون، ومن إسلام مكيل في مكيل، وأجازت إسلام المكيل في موزون، والموزون في مكيل، ومنعت من بيع الموزون بالموزون، إلا مثلًا بمثل، ومن بيع المكيل بالمكيل إلا مثلًا بمثل، وكان الوزن في ذلك أصله ما كان عليه بمكة، والمكيال مكيال أهل المدينة، لا يتغيّر عن ذلك، وإن غيّره الناس عما كان عليه إلى ما سواه من ضدّه، فيرحبون بذلك إلى معرفة الأشياء المكيلات التي لها حكم المكيال إلى ما كان عليه أهل المكاييل فيها يومئذ، وفي الأشياء الموزونات إلى ما كان عليه أهل الميزان يومئذ، وأن أحكامها لا تتغيّر عن ذلك، ولا تنقلب عنها إلى أضدادها انتهى كلام الطحاويّ -رحمه اللَّه تعالى-.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد أرشد الشارع الحكيم في هذا الحديث الأمّة إلى توحيد معاملاتها في الموزونات، والمكيلات، لئلا يقع فيها التخالف، ويكثر فيها الخصام، والنزاع، ولا سيما فيما يتعلق بأمر الدين، كالزكوات، والفطرات، ونحوها، فلو أحيَتْ هذه السنّةَ، واتبَعَتْ إرشاده صلى الله عليه وسلم لسَعِدَت في أمر معاشها، ومعادها، كما قال اللَّه تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} ، وقال:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . ولكن الداهية العظمى أن الشيطان سوّل لها التقليد للكفرة في مثل هذه المعاملات، فاستحسنت ذلك، وفضّلته على اتباع السنّة، فلا حول، ولا قوّة إلا باللَّه العزيز الحكيم.
وَإذَا ضَلَّتِ الْعُقُولُ عَلَى عِلْمٍ
…
فَمَاذَا تَقُولُهُ النُّصَحَاءُ
اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، اللهم آمين آمين آمين.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا 44/ 2520 - وفي "الكبرى" 46/ 2299. وأخرجه (د) في "البيوع" 3340 (ابن حبان) 1105 (الطبراني) 3/ 202/ 1 (الطحاويّ في مشكل الآثار) 2/ 99
(البيهقيّ) 6/ 31 وغيرهم.
[تنبيه]: أشار أبو داود -رحمه اللَّه تعالى- في "سننه" إلى أنه وقع اضطراب في هذا الحديث، فقال بعد أن رواه عن عثمان بن أبي شيبة، عن أبي نعيم، بسند المصنّف: ما نصّه: وكذا رواه الفريابيّ، وأبو أحمد عن سفيان، وافقهما في المتن، وقال أبو أحمد:"عن ابن عباس" مكان "ابن عمر". ورواه الوليد بن مسلم، عن حنظلة، فقال:"وزن المدينة، ومكيال مكة". قال: واختلف في المتن في حديث مالك بن دينار، عن عطاء، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا انتهى كلام أبي داود -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حاصل ما أشار إليه أبو داود -رحمه اللَّه تعالى- أن أبا أحمد الزبيريّ خالف أبا نعيم، ومحمد بن يوسف الفريابيّ، فجعله من مسند ابن عباس، لا من مسند ابن عمر رضي الله عنهم، لكن الصحيح روايتهما، لأنهما يقدّمان عليه في سفيان الثوريّ. وكذلك خالف الوليد بن مسلم سفيان الثوريّ، في المتن، فقال:"وزن المدينة، ومكيال مكة"، وهذا خطأ منه، فالصواب رواية سفيان، وكذلك اختُلف في متن مرسلٍ عطاء، لكن الصواب ما تقدّم من رواية سفيان.
والحاصل أن الحديث صحيح، بسند المصنّف، ومتنه، فافهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
45 - (بَابُ الْوَقْتِ الذِي يُسْتَحَبُّ أَنْ تُؤَدَّى صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِيهِ)
2521 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْدَانَ بْنِ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى ح قَالَ: وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ، أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ". قَالَ ابْنُ بَزِيعٍ: "بِزَكَاةِ الْفِطْرِ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح غير شيخ المصنف (محمد بن مَعْدان بن عيسى" الحرّانيّ الثقة [12] 16/ 649 فإنه من أفراده.
و"الحسن": هو ابن محمد بن أعين، أبو عليّ الحرّانيّ، صدوق [9] 16/ 649.
(1)
- "سنن أبي داود" ج 9 ص 188 - 190 رقم 3324. بنسخة "عون المعبود".
و"محمد بن عبد اللَّه بن بَزيع" -بالباء الموحّدة، والزاي، والعين المهملة- البصريّ، ثقة [10] 43/ 588.
و"الفُضيل" بن سليمان النُّمَيريّ -بالنون مصغرًا-، أبو سليمان البصريّ، صدوق، له خطأ كثير [8].
قال عبّاس الدُّوريّ، عن ابن معين: ليس بثقة. وقال أبو زُرعة: ليّن الحديث، روى عنه ابن المدينيّ، وكان من المتشدّدين. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ليس بالقوي.
وقال الآجريّ، عن أبي داود: كان عبد الرحمن لا يُحدّث عنه. قال: وسمعت أبا داود يقول: ذهب فُضيل بن سليمان، والسَّمْتيّ إلى موسى بن عقبة، فاستعارا منه كتابًا، فلم يردّاه. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وقال صالح بن محمد جَزَرَة: منكر الحديث، روى عن موسى بن عقبة مناكير. وقال الساجيّ، عن ابن معين: ليس هو بشيء، ولا يكتب حديثه. وقال الساجيّ: وكان صدوقًا، وعنده مناكير. وقال الآجريّ: سألت أبا داود عن حديث فُضيل بن سُليمان، عن عبد الرحمن ابن إسحاق، عن الزهريّ؟ فقال: ليس بشيء، إنما هو حديث ابن المنكدر. وذكره ابن عدي، وأورد له أحاديث، ولم يقل فيه شيئًا. وقال ابن قانع: ضعيف، توفي سنة (183). وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (186). وقال ابن أبي عاصم، عن أبي المغلّس النُّميريّ: مات سنة (185). روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا 2521 و 3908 حديث النهي عن كراء المزارع.
و"زهير": هو ابن معاوية بن حُدَيج، أبو خيثمة الكبير الجعفيّ الكوفيّ الثقة الثبت [7] 38/ 42.
و"موسى": هو ابن عقبة الثقة الفقيه الإمام في المغازي [5] 96/ 122.
وقوله: قال ابن بَزِيع: "بزكاة الفطر" يعني أن شيخه محمد بن عبد اللَّه بن بَزِيع قال في روايته: "بزكاة الفطر" بدل قول محمد بن معدان: "بصدقة الفطر". والمعنى واحد، وإنما ذكره لبيان اختلاف شيخيه في لفظ الحديث. واللَّه تعالى أعلم.
والحديث متفق عليه، وقد تقدّم الكلام عليه مُستوفًى في 30/ 2500، وبقى الكلام هنا فيما لم يتقدّم بيانه هناك، وهو بيان وقت صدقة الفطر، وفيه ثلاث مسائل:
(المسألة الأولى): في اختلاف أهل العلم في وقت وجوبها:
قال الإمام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: فأما وقت وجوبها، فهو وقت غروب الشمس من آخر يوم من رمضان، فإنها تجب بغروب الشمس من آخر شهر رمضان، فمن تزوّج، أو مَلَك عبدًا، أو وُلِد له ولدٌ، أو أسلم قبل غروب الشمس، فعليه الفطرة، وإن كان
بعد الغروب، لم تلزمه، ولو كان حين الوجوب معسرًا، ثمّ أيسر في ليلته تلك، أو في يومه، لم يجب عليه شيء، ولو كان في وقت الوجوب موسرًا، ثمّ أعسر، لم تسقط عنه؛ اعتبارًا بحالة الوجوب، ومن مات بعد غروب الشمس ليلة الفطر، فعليه صدقة الفطر، نصّ عليه أحمد.
وبما ذكرنا في وقت الوجوب قال الثوريّ، وإسحاق، ومالكٌ، في إحدى الروايتين عنه، والشافعيّ في أحد قوليه
(1)
.
واحتجّ هؤلاء بما أخرجه أبو داود من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: "فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث
…
" الحديث، وهو حديث حسن.
قالوا: لأنها أضيفت إلى الفطر، فكانت واجبة به، كزكاة المال، وذلك لأن الإضافة دليل الاختصاص، والسبب أخصّ بحكمه من غيره. ووجه ذلك أن الفطر من صوم رمضان، والخروج عنه جملةً يكون بغروب شمس آخر يوم من رمضان.
وقال الليث، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: تجب بطلوع الفجر يوم العيد، وهو رواية عن مالك؛ لأنها قربة تتعلق بالعيد، فلم يتقدّم وقتها يوم العيد، كالأضحيّة: ولأن هذا وقت الفطر، لا ما قبله؛ لأنه في كلّ ليلة كان يفطر كذلك، ثم يصبح صائمًا، فإنما أفطر من صومه جملةً صبيحةً يوم الفطر.
وقال ابن حزم: وقت زكاة الفطر الذي لا تجب قبله، وإنما تجب بدخوله، ثم لا تجب بخروجه، فهو إثر طلوع الفجر الثاني، من يوم الفطر ممتدًا إلى أن تبيضّ الشمس، وتحلّ الصلاة من ذلك اليوم نفسه. ثم استدلّ بحديث الباب. وقال: فهذا وقت أدائها بالنصّ، ثم ذكر في وقت الوجوب مثل المذهب الثاني.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن المذهب الأول هو الأرجح؛ لأنه أقرب إلى المعنى؛ لأن الصدقة مضافة إلى الفطر من رمضان، كما تقدّم، والفطر من رمضان يتحقّق بانسلاخ آخر يوم منه وذلك بغروب شمسه، فليلة العيد ليست منه، بل هي متابعة لما بعدها وهو يوم العيد، وهي وقت الفطر من رمضان، وأولها من غروب الشمس، فيتعلّق الوجوب به، وهذا ظاهر لمن تأمّل بإنصاف، فالحقّ أن الوجوب يتعلّق بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، فمن كان من أهل وجوب الفطر حينئذ لزمته، ومن لا فلا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في جواز تأخيرها عن وقتها:
(1)
- "المغني" ج 4 ص 298 - 299.
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز تأخير إخراجها عن يوم الفطر، وبه قال الشافعيّة، والحنفيّة، والمالكيّة، وهو المشهور عند الحنابلة. قاله وليّ الدين.
وقال ابن قدامة: المستحبّ إخراجها يوم الفطر قبل الصلاة؛ لحديث الباب، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعًا:"من أدّاها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات". رواه أبو داود، وتقدّم أنه حديث حسنٌ.
قال: فإن أخرها عن الصلاة ترك الأفضل؛ لما ذكرنا من السنّة، ولأن المقصود منها الإغناء عن الطواف والطلب في هذا اليوم، فمتى أخّرها لم يحصل إغناؤهم في جميعه، لا سيما وقت الصلاة، ومال إلى هذا القول عطاءٌ ومالك، وموسى بن وَرْدَان، وإسحاق، وأصحاب الرأي. قال: فإن أخّرها عن يوم العيد أثم، ولزمه القضاء.
وحكى ابن المنذر عن ابن سيرين، والنخعيّ أنهما كانا يرخّصان في تأخيرها عن يوم الفطر. قال: وقال أحمد: أرجوا أن لا يكون بذلك بأس
(1)
.
وذكر ابن قُدامة أن محمد بن يحيى ى الكَحّال قال: قلت لأبي عبد اللَّه: فإن أخرج الزكاة، ولم يعطها، قال: نعم، إذا أعدّها لقوم. قال ابن قُدامة: واتباع السنّة أولى انتهى
(2)
.
ومما استُدلّ به على أنه لا يجوز تأخير إخراجها عن يوم العيد ما رواه البيهقيّ في "سننه" جـ4 ص 175 - من طريق أبي معشر السِّنْدِيّ، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"أغنوهم عن طواف هذا اليوم". وفيه أبو معشر نَجِيح السِّنْديّ المدينيّ، ضعيف.
وقال ابن حزم: إذا تمّ الخروج إلى صلاة الفطر بدخول وقت دخولهم في الصلاة، فقد خرج وقتها، فمن لم يؤدّها حتى خرج وقتها، فقد وجبت في ذمّته وماله لمن هي له، فهي دين لهم، وحقّ من حقوقهم، قد وجب إخراجها من ماله، وحَرُم عليه إمساكها في ماله، فوجب عليه أداؤها أبدًا، فإذا أداها سقط بذلك حقهم، ويبقى حقّ اللَّه تعالى في تضييعه الوقت، لا يَقدِر على جبره إلا بالاستغفار، والندامة. انتهى كلامه بتصرّف
(3)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه ابن حزم في هذه المسألة أرجح المذاهب، لحديث الباب، حيث أَمَرَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تُؤَدَّى قبل خروج الناس
(1)
- "طرح التثريب" ج 4 ص 64.
(2)
- راجع "طرح التثريب" ج 4 ص 64.
(3)
- راجع "المحلّى" ج 6 ص 143.
إلى الصلاة"، وقد قال اللَّه تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، ولا يتوعّد اللَّه عز وجل بمثل هذا التوعّد إلا على ترك واجب، فثبت بذلك وجوب أدائها قبل الصلاة، فإذا وجب حرم تأخيرها، ويؤيّد ذلك الحديثُ المتقدّمُ: "من أدّاها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات". وهو حديث حسن.
والحاصل أنه لا يجوز تأخيرها عن الصلاة؛ لما ذكر، ولكن لا تسقط بالتأخير، بل تكون دينا عليه يجب أداؤها أبدًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في جواز تقديمها عن وقتها:
ذهب الجمهور إلى أنه يجوز تقديم إخراج صدقة الفطر قبل ليلة الفطر، ثم اختلفوا في مقدار التقديم:
فاشتهر عن الحنفيّة جواز تعجيلها من أول الحول، وعندهم في ذلك خلافٌ، فحكى الطحاويّ عن أصحابهم جواز تعجيلها من غير تفصيل، وذكر أبو الحسن الكرخيّ جوازها يومًا أو يومين، وروى الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة أنه يجوز تعجليها سنة، وسنتين، وروى هشام عن الحسن بن زياد أنه لا يجوز تعجيلها.
وعند المالكية في تقديمها بيوم إلى ثلاثة قولان.
وقال الشافعيّة: يجوز من أول شهر رمضان؛ لأنها حقّ ماليّ وجب بسببين، وهما رمضان، والفطر منه، فيجوز تقديمها على أحدهما، وهو الفطر، ولا يجوز تقديمها عليهما.
وعنهم وجهان آخران: أحدهما: يجوز إخراجها بعد طلوع الفجر الأول من رمضان، وبعده إلى آخر الشهر، ولا يجوز في الليلة الأولى؛ لأنه لم يَشرَع بعدُ في الصوم. والثاني: أنه يجوز في جميع السنة، حكاهما النوويّ في "شرح المهذّب".
وذهب أكثر الحنابلة إلى أنه لا يجوز تقديمها بأكثر من يومين. وقال بعض الحنابلة يجوز تعجيلها فن بعد نصف الشهر، كما يجوز تعجيل أذان الفجر، والدفع من مزدلفة بعد نصف الليل.
وذهب ابن حزم إلى أنه لا يجوز تقديمها قبل وقتها أصلًا. ذكر هذا كلّه الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-، ونقلته بتصرّف
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الأرجح قول من قال بجواز تقديمها يومًا، أو
(1)
- راجع "طرح التثريب" ج 4 ص 64 - 65.
يومين، ولا بأس بثلاثة أيام؛ لما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"وكانوا يُعطون قبل الفطر بيوم، أو يومين". وأخرج ابن خزيمة في "صحيحه" من طريق عبد الوارث، عن أيوب، قلت:"متى كان ابن عمر يُعطي؟ قال: إذا قعد العامل، قلت: متى يقعد العامل؟ قال: قبل الفطر بيوم، أو يومين". ولمالك في "الموطإ" عن نافع: "أن ابن عمر كان يبعث زكاة الفطر إلى الذي يُجمَع عنده قبل الفطر بيومين، أو ثلاث". وأخرجه الشافعيّ، عنه، وقال: هذا حسنٌ، وأنا أستحبّه - يعني تعجيلها قبل يوم الفطر- انتهى
(1)
.
فقوله: "وكانوا يعطون" دليل على أن هذا عمل الصحابة جميعًا؛ لما تقرّر في علمي الحديث، والأصول، أن قول الصحابيّ: كنا نفعل كذا وكذا حكمه الرفع، وإن لم يقيّد بعصر النبيّ صلى الله عليه وسلم على المرجح المختار، قاله الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-.
ويدلّ على ذلك أيضًا -كما قال الحافظ- ما أخرجه البخاريّ في "كتاب الوكالة"، وغيره، من "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: وكّلني رسول اللَّه رضي الله عنه بحفظ زكاة رمضان
…
" الحديث، وفيه أنه أمسك الشيطان ثلاث ليالٍ، وهو يأخذ من التمر، فإنه يدلّ على أنهم كانوا يعجّلونها. وعكس الجوزقيّ، فاستدلّ به على جواز تأخيرها عن يوم الفطر. قال الحافظ: وهو محتملٌ للأمرين انتهى
(2)
.
والحاصل أن الحقّ هو جواز تقديمها على يوم العيد بيوم، أو يومين، كما صحّ ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم، مع أن الظاهر اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتقريره لهم، وهذا هو الدليل الصحيح الواضح، وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور، فدلالته على مسألتنا محلّ نظر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- راجع "الفتح" ج 4 ص 150.
(2)
- المصدر المذكور.
46 - (إِخْرَاجُ الزكاةِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر تبويب المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يدلّ على أنه يرى جواز نقلها، وهو أيضًا ظاهر مذهب الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-، كما يأتي بيانه، وهو الحقّ، لكن إذا كان نقلها لمصلحة راجحة، بأن لم يوجد هناك من يستحقّها، أو رأى الإمام، أو المزكّي نفسه ذلك أصلح، بأن كان المنقول إليهم أحوج من المنقول عنهم، أو كانوا أقرباء للمزكّي، أو نحو ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2522 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ -وَكَانَ ثِقَةً- عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا، أَهْلَ كِتَابٍ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ، فَأَعْلِمْهُمْ، أَنَّ اللَّهَ عز وجل افْتَرَضَ
(1)
عَلَيْهِمْ، خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ، فَأَعْلِمْهُمْ، أَنَّ اللَّهَ عز وجل، قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ، صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُوضَعُ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل حِجَابٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
والحديث متفق عليه، وقد تقدّم سندًا ومتنًا في أول "كتاب الزكاة" -1/ 2435 - وتقدّم هناك شرحه مُستَوفًى، وكذا الكلام على مسائله، ولم يبق إلا الكلام على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو حكم نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر، فأقول مستعينًا باللَّه تعالى:
(مسألة): في اختلاف أهل العلم في جواز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر:
ذهب الليث بن سعد، وأبو حنيفة، وأصحابهما، إلى جواز ذلك، ونقله ابن المنذر عن الشافعيّ، واختاره.
وذهب الجمهور، ومنهم الشافعيّة، والمالكية، والحنبلية، إلى عدم جواز نقلها، فلو خالف، ونقل أجزأ على الأصحّ عند المالكيّة، والحنبليّة، ولا يجزئ على الأصحّ عند
(1)
- وفي نسخة: "قد افترض".
الشافعية، إلا إذا فُقد المستحقّون لها.
وقال الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه": "باب أخذ الصدقة من الأغنياء، وتردّ في الفقراء، حيث كانوا". قال الإسماعيليّ: ظاهر حديث الباب أن الصدقة تردّ على فقراء من أُخذت من أغنيائهم. وقال ابن المنيّر: اختار البخاريّ جواز نقل الزكاة من بلد المال؛ لعموم قوله: "فترد في فقرائهم"؛ لأن الضمير يعود على المسلمين، فأي فقير رُدّت فيه الصدقة، في أيّ جهة كان، فقد وافق عموم الحديث انتهى.
قال الحافظ: والذي يتبادر إلى الذهن من هذا الحديث عدم النقل، وأن الضمير يعود على المخاطبين، فيختصّ بذلك فقراؤهم، لكن رجّح ابن دقيق العيد الأول، وقال: إنه، وإن لم يكن الأظهر إلا أنه يقوّيه أن أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكلّيّة لا تُعتبر، فلا تُعتبر في الزكاة، كما لا تعتبر في الصلاة، فلا يختصّ بهم الحكم، وإن اختصّ بهم خطاب المواجهة انتهى.
وقال الحافظ بعد ذكر قول الشافعية بعدم جواز النقل، إلا إذا فقد المستحقّون لها: ما نصّه: ولا يبعد أنه اختيار البخاريّ؛ لأن قوله: "حيث كانوا" يشعر بأنه لا ينقلها عن بلد، وفيه من هو متّصف بصفة الاستحقاق انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن عدم نقل الزكاة هو الأصل، لكن إذا كانت هناك مصلحة راجحة، جاز نقلها، وذلك بأن فُقِد المستحقّون لها في ذلك البلد، أو لمصلحة تترجّح، كأن يكون المنقول إليهم أشدّ حاجة من فقراء بلد المال، أو كانوا أقرباء للمزكّي، أو نحو ذلك، فإن كان كذلك، فلا بأس بنقلها؛ لأن الصدقات كانت تنقل إلى المدينة في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كما دلّت عليه أحاديث كثيرةٌ:
(منها): ما أخرجه الشيخان، وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما جاءت صدقات بني تميم: "هذه صدقات قومنا
…
" الحديث. فبنو تميم من أهل نجد، فنقلت صدقاتهم إلى المدينة.
(ومنها): ما أخرجه الشيخان، وغيرهما أيضًا من حديث قبيصة بن مُخَارِق رضي الله عنه، أنه تحمّل حمالة، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: "أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها
…
" الحديث بطوله، ومعلوم أن قبيصة رضي الله عنه أيضًا ليس من أهل المدينة
(2)
، ووعده صلى الله عليه وسلم ليدفع له الصدقة حتى يذهب بها من المدينة إلى بلده.
(1)
- راجع "الفتح" ج 4 ص 126.
(2)
- يقال: إنه من أهل نجد، واللَّه تعالى أعلم.
(ومنها): ما أخرجه الشيخان، وغيرهما أيضًا عن أبي حميد الساعديّ رضي الله عنه، قال: "استعمل النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد، يقال له: ابن الأُتْبِيّة، أو اللُّتْبيّة، على صدقات بني سُليم، فلما جاء حاسبه
…
" الحديث. فقد نقلت صدقات بني سُليم إليه صلى الله عليه وسلم، ولم يأمره بقسمتها هناك.
(ومنها): ما ذكره البخاريّ في "صحيحه" تعليقًا، وأخرجه يحيى بن آدم في "كتاب الخراج" له، عن طاوس قال: قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن: ائتوني بعَرْضٍ ثيابٍ، خميصٍ، أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذُّرَة، أهون عليكم، وخير لأصحاَب النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة،. وهذا، وإن كان فيه انقطاعٌ، بين طاوس، وبين معاذ، لكن تقوّيه الأحاديث المذكورة، ولذا أروده البخاريّ في معرض الاحتجاج على جواز أخذ العرض في الزكاة. وغير ذلك من الأحاديث الصحاح التي هي واضحة في نقل الصدقات إلى البلدان الأخرى، ووجه ذلك أن الاجتهاد في ذلك إلى الإمام، أو المزكّي، فإذا كان في نقلها مصلحة راجحة جاز، وإلا فلا، وبهذا تجتمع الأدلة، ويحصل العمل بكلّها.
والحاصل أن عدم نقل الزكاة، وإن كان هو الأصلَ، لكن إذا كان هناك ما يدعو إلى النقل جاز. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
47 - (بَابٌ إِذَا أَعْطَاهَا غَنِيًّا، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا أن المزكّي إذا دفع زكاته إلى من لا يستحقّها، كالغنيّ مثلًا على ظنّ أنه مستحقّ، قُبِلَت صدقته، وسقطت عنه الزكاة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2523 -
(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ، مِمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ، مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يُحَدِّثُ بِهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ
(1)
: «قَالَ رَجُلٌ: لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ،
(1)
- وفي نسخة: "فقال".
فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ
(1)
عَلَى سَارِقٍ
(2)
، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، عَلَى سَارِقٍ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ، تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ، عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، عَلَى زَانِيَةٍ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ، تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، قَالَ
(3)
: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، عَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى سَارِقٍ، وَعَلَى غَنِيٍّ، فَأُتِيَ، فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ، فَقَدْ تُقُبِّلَتْ
(4)
، أَمَّا الزَّانِيَةُ، فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ بِهِ مِنْ زِنَاهَا، وَلَعَلَّ السَّارِقَ أَنْ يَسْتَعِفَّ بِهِ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ أَنْ يَعْتَبِرَ، فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عز وجل»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عِمْرَانُ بْنُ بَكَّار) بن راشد الكَلَاعِيّ البَرَّاد الحمصيّ المؤذّن، ثقة [11] من أفراد المصنف.
2 -
(عَليٌّ بْنُ عَيَّاشٍ) - بتحتانيّة، فمعجمة-: هو الأَلْهانيّ الحمصيّ ثقة ثبت [9] 123/ 182.
3 -
(شُعَيْبٌ) بن أبي حمزة دينار الحمصيّ ثقة ثبت [7] 69/ 85.
4 -
(أبو الزناد) عبد اللَّه بن ذكوان المدني، ثقة ثبت [5] 7/ 7.
5 -
(عبد الرحمن الأعرج) ابن هرمز المدني، ثقة ثبت [3] 7/ 7
6 (أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير شيخه كما سبق آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالحمصيين إلى شعيب، والباقون مدنيون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن شعيب بن أبي حمزة، أنه قال:(حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان المدنيّ الثقة الفقيه (مِمَّا)"من" للتبعيض، متعلّقة بـ "حدّثني"، أي بعضَ الأحاديث التي (حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) ابن هُرْمز (الأَعْرَجُ) المدنيّ الثقة الفقيه (مِمَّا ذَكَر) إعرابه كسابقه (أنَّهُ سَمِعَ
(1)
- وفي نسخة: "قد تصدق".
(2)
- وفي نسخة: "على السارق".
(3)
- وفي نسخة: "فقال".
(4)
- وفي نسخة: "قُبِلَت".
أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يُحَدِّثُ بِهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ) أي الرسول صلى الله عليه وسلم (قَالَ: رَجُلٌ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ووقع عند أحمد من طريق ابن لهيعة، عن الأعرج في هذا الحديث أنه كان من بني إسرائيل انتهى (لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ) في رواية أبي عوانة، عن أبي أمية، عن أبي اليمان، بهذا الإسناد:"لأتصدّقنّ الليلة"، وكرّر كذلك في المواضع الثلاثة. وكذا أخرجه أحمد، من طريق ورقاء، ومسلم من طريق موسى بن عقبة، والدارقطنيّ في "غرائب مالك"، كلهم عن أبي الزناد.
وقوله: "لأتصدّقنّ" اللام فيه هي الموطّئة للقسم، والقسم فيه مقدر، أي واللَّه لأتصدّقنّ، وهو من باب الالتزام كالنذر، فصارت الصدقة واجبة، فصحّ الاستدلال به في صدقة الفرض، وهذا الاستدلال مبنيّ على أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يظهر نسخه، وإنكاره في شرعنا، وهو المذهب الحقّ، وهو مذهب البخاريّ، والمصنّف -رحمهما اللَّه تعالى-، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الخامسة، إن شاء اللَّه تعالى.
(فَخَرَجَ) من بيته (بِصَدَقَتِهِ) أي التي نوى أن يضعها في يد مستحقّها (فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ) أي وهو لا يعلم أنه سارق (فَأَصْبَحُوا) أي القوم الذين كان فيهم ذلك المتصدّق (يَتَحَدَّثُونَ) في موضع نصب خبر "أصبحوا"، أي يُحدّث بعضهم بعضًا (تُصُدَّقَ عَلَى سَارِقِ) ببناء الفعل للمفعول، وهو إخبارٌ بمعنى التعجّب، أو الإنكار. قاله السنديّ.
وفي رواية أبي أُمية: "تصدّق الليلةَ على سارق". وفي رواية ابن لهيعة: "تُصُدّق الليلة على فلان السارق". قال الحافظ: ولم أر في شيء من الطرق تسمية أحد من الثلاثة المتصَدَّق عليهم
(1)
(فَقَالَ:) المتصدّق (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ) أي على تصدّقي على سارق، لا لي؛ لأنّ صدقتي وقعت بيد من لا يستحقّها، فلك الحمد، حيث كان ذلك بإرادتك، لا بإرادتي، فإن إرادتك كلها جميلة، ولا يُحمَد على المكروه سواك. وقدّم الخبر على المبتدإ في قوله:"لك الحمد" لإفادة الحصر.
وقال الطيبيّ: لما جزم بوضعها في موضعها بدلالة التنكير في "بصدقةٍ"، وأبرز كلامه في معرض القسم تأكيدًا، أو قطعًا للقبول بها، جُوزي بوضعها في يد سارق، فحمد اللَّه، وشكره على أنه لم يقدر أن يتصدق على من هو أسوأ حالًا منه، أي لك الحمد لأجل وقوع الصدقة في يده دون من هو أشدّ حالًا منه، أو أجرى الحمد مجرى التسبيح في استعماله عند مشاهدة ما يُتعجّب منه تعظيمًا للَّه، يعني أنه ذَكَرَ الحمد في موضع التعجّب، كما يُذكر التسبيح في موضعه، فلما تعجّبوا من فعله تعجّب هو أيضًا،
(1)
- راجع "الفتح" ج 4 ص 40.
فقال: اللَّهم لك الحمد على سارق انتهى.
قال الحافظ: لا يخفى بعد هذا الوجه، وأما الذي قبله، فأبعد منه، والذي يظهر الأول، وأنه سَلّم، وفوّض، ورضي بقضاء اللَّه، فحمد اللَّه على تلك الحال؛ لأنه المحمود على جميع الحال، لا يُحمد على المكروه سواه. وقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما لا يُعجبه، قال:"اللَّهمّ لك الحمد على كلّ حال" انتهى.
(1)
(لَأَتَصَدَّقَنَّ) في رواية مسلم: "لأتصدَّقَن الليلة"، وفيه فضل صدقة السرّ، وفضل الإخلاص (بِصَدَقَةٍ) أي صدقة أخرى على مستحقها (فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ) ليضعها في يد مستحقها (فَوَضَعَهَا فِي يَدِ) امرأة (زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ) تعجّبًا، وإنكارًا (تُصُدِّقَ) بالبناء للمفعول أيضًا (اللَّيْلَةَ) منصوب على الظرفية، متعلق بما قبله (عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ) المتصدّق (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، عَلَى زَانِيَةٍ) على تصدّقي على امرأة زانية، حيث كان بإرادتك، لا بإرادتي. ثم قال (لَأَتَصَدَّقَنَّ بصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ) رجل (غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يتَحَدّثُونَ، تُصُدِّقَ) بالبنَاء للمفعول أيضًا (عَلَى غَنِيٍّ، قَالَ) المتصدّق (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، عَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى سَارِقٍ، وَعَلَى غَنِيٍّ) أي حيث كان كله بإرادتك، فأنت المحمود في جميع أفعالك؛ حيث كان كلّها جميلًا.
وقال القرطبيّ: وقول المتصدّق: "اللهم لك الحمد على زانية" إشعار بألم قلبه، إذ ظنّ أن صدقته لم توافق محلّها، وأن ذلك لم ينفعه، ولذلك كرّر الصدقة، فلما علم اللَّه صحة نيته تقبّلها منه، وأعلمه بفوائد صدقاته انتهى (فَأُتِيَ) بالبناء للمفعول، أي أتاه آت في منامه، ففي رواية الطبرانيّ في "مسند الشاميين" عن أحمد بن عبد الوهّاب، عن أبي اليمان بهذا الإسناد:"فساءه ذلك، فأُتي في منامه". وأخرجه أبو نُعيم في "المستخرج" عنه، وكذا الإسماعيليّ من طريق عليّ بن عيّاش، عن شعيب، وفيه تعيين أحد الاحتمالات التي ذكرها ابن التين وغيره، قال الكرمانيّ: قوله: "أُتي" أي أري في المنام، أو سمع هاتفًا، أو غيره، أو أخبره نبيّ، أو أفتاه عالم. وقال غيره: أو أتاه ملك، فكلّمه، فقد كانت الملائكة تكلّم بعضهم في بعض الأمور.
قال الحافظ: وقد ظهر بالنقل الصحيح أنها كلّها لم تقع، إلا النقل الأول انتهى.
وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: ورؤيا غير الأنبياء، وان كان لا حجة فيها، لكن هذه الرؤيا قد قرّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحصل الاحتجاج بتقريره صلى الله عليه وسلم انتهى
(2)
.
(فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ، فَقَدْ تُقُبِّلَتْ) وفي رواية الطبرانيّ: "إن اللَّه قد قبل صدقتك"
(1)
- "الفتح" ج 4 ص 41.
(2)
- "شرح السنديّ" ج 5 ص 56.
(أَمَّا الزَّانِيَةُ، فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ بِهِ) ووقع في النسخة التي شرحها السنديّ "فلعلّ" بإسقاط الضمير، فقال السنديّ:"ظاهره أنه أُعطي "لعلّ" حكم "عسى"، فأقيم "أن" مع المضارع موضع الاسم والخبر جميعًا ها هنا، وأُدخل "أن" في الخبر فيما بعدُ، ويمكن أن يُجعل "أن" مع المضارع اسم "لعلّ"، ويكون الخبر محذوفًا، أي يحصل، ونحوه انتهى
(1)
(مِنْ زِنَاهَا) بالقصر، ويجوز مدّه عند بعضهم. قال في "المصباح": زَنَى يَزْنِي زِنًا، مقصورٌ، فهو زانٍ، والجمع زُناةٌ، مثل قاض وقضاة، وزاناها مُزاناةً، وزِناءً، مثلُ قاتل مُقاتلةً، وقتالًا، ومنهم من يَجعل المقصور والممدود لغتين في الثلاثي، ويقول: المقصور لغة الحجاز، والممدود لغة نجد انتهى (وَلَعَلَّ السَّارِقَ أن يَسْتَعِفَّ بهِ عَنْ سَرِقَتِهِ) فيه إيماء إلى أنّ الغالب في السارق، والزانية أنهما يرتكبان المعصية للحاجة (وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ أَنَّ يَعْتَبِرَ) أي يتّعظ، ويتذكّر (فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عز وجل") فيه أن بعض الناس يترك فعل الخير غفلةً، وذهولًا، فينبغي أن يُذَكَّر بذلك، كي يتنبّه، ويفعله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -47/ 2523 - وفي "الكبرى" 49/ 2302. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1421 (م) في "الزكاة" 1022 (أحمد) في "مسند المكثرين" 8083. (البيهقيّ) جـ 4/ 192 وجـ 7/ 34. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أنه إذا دفع الزكاة إلى غير مستحقّها، ظانًّا استحقاقه سقطت عنه. قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يستفاد من الحديث صحّة الصدقة، وان لم توافق محلًّا، مرضيّا، إذا حسنت نيّة المتصدّق، فأما لو علم المتصدّق أن المتصدَّق عليه يستعين بتلك الصدقة على معصية اللَّه لحرم عليه ذلك، فإنه من باب التعاون على الإثم والعدوان انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": ولا دلالة في الحديث على الإجزاء، ولا على المنع، ومن ثمّ
(1)
- المصدر السابق.
(2)
- راجع "المفهم" ج 3 ص 67.
ترجم البخاريّ على هذا الحديث بلفظ الاستفهام، فقال:"باب إذا تصدق على غنيّ، وهو لا يعلم"، ولم يجزم بالحكم انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فيما قاله نظر من وجهين:
(الأول): أن قوله: "بلفظ الاستفهام" غير صحيح، بل إنما هو بلفظ الشكّ، ولم يذكر جوابه اتكالًا على كونه معلوما من نصّ الحديث، حيث قال:"أما صدقتك، فقد تقبّلت"، كما في رواية مسلم، والمصنّف، وغيرهما.
(الثاني): قد تقدّم أن وجه الاستدلال به على الإجزاء في الصدقة الواجبة أن قوله: "لأتصدّقنّ" من باب الالتزام، كالنذر، فصارت الصدقة واجبة عليه، وقد قرّر النبيّ صلى الله عليه وسلم رؤيا المتصدّق في قبول صدقته، فصحّ الاستدلال به في إجزاء زكاة الفرض. واللَّه تعالى أعلم.
قال في "الفتح": [فإن قيل]: إن الخبر إنما تضمن قصّة خاصّة، وقع الاطلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقيّة، فمن أين يقع تعميم الحكم؟ [فالجواب]: أن التنصيص في هذا الخبر على رجاء الاستعفاف، هو الدّالّ على تعدية الحكم، فيقتضي ارتباط القبول بهذه الأسباب انتهى
(1)
:
(ومنها): أن شريعة من قبلنا شريعة لنا، إذا لم يأت في شرعنا ما يخالفه، وهذا هو القول الحقّ، وهو مذهب البخاريّ، ومسلم، والمصنّف، حيث أوردوا حديث الباب للاحتجاج على إجزاء الزكاة إذا دُفعت لغير مستحقّها جهلًا. وسيأتي تمام البحث في المسألة الخامسة، إن شاء اللَّه تعالى.
(ومنها): استحباب إعادة الصدقة إذا لم يقع موقعها، وإن أجزأت (ومنها): أن الحكم للظاهر حتى يتبيّن سواه (ومنها): بركة التسليم والرضا، وذمّ التضجّر والتسخط بالقضاء، كما قال بعض السلف: لا تقطع الخدمة، ولو ظهر لك عدم القبول (ومنها): فضل صدقة السرّ، وفضل الإخلاص. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم دفع الزكاة لغنيّ، أو نحوه، ممن لا يستحقّها على ظنّ أنه يستحقّها:
قال العلاّمة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: إذا أعطى من يظنّه فقيرًا، فبان غنيًّا، فعن أحمد فيه روايتان: إحداهما: يجزئه، أي تسقط عنه الزكاة، ولا تجب عليه الإعادة،
(1)
-"فتح" ج 4 ص 41.
واختارها أبو بكر. وهذا قول الحسن، وأبي عُبيد، وأبي حنيفة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى الرجلين الْجَلْدَين، وقال:"إن شئتما أعطيتكما، ولا حظّ فيها لغنيّ، ولا لقويّ مكتسب". وقال للرجل الذي سأله الصدقة: "إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك". ولو اعتَبَر حقيقةً لما اكتفى لقولهم. ثم ذكر ابن قُدامة حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في هذا الباب.
قال: والرواية الثانية: لا يجزئه، وعليه الإعادة؛ لأنه دفع الواجب إلى غير مستحقّه، فلم يخرج من عهدته، كما لو دفعها إلى كافر. وهذا قول الثوريّ، والحسن بن صالح، وأبي يوسف، وابن المنذر، وللشافعيّ قولان كالروايتين انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول الأول من قولي الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- هو الحقّ عندي؛ لظهور أدلته التي تقدمت آنفًا.
والحاصل أن من دفع زكاته إلى غنيّ، أو نحوه ممن لا يستحقّها، ظانًّا أنه مستحقّها، ثم ظهر بخلافه، سقطت عنه، ولا يلزمه إعادتها، ولكن لو أعادها، كما أعاد الرجل المذكور في حديث الباب، كان حسنًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في بيان مسألة مهمّة تُستفاد من حديث الباب، وهي مسألة "هل شرع مَن قبلنا شرع لنا، أم لا؟ "، وقد اختلف أهل العلم في ذلك، والحقّ -وهو الذي عليه الجمهور، ومنهم الإمام البخاريّ، والمصنّف حيث استدلّا بحديث الباب على ما ترجما له- أنه شرع لنا بشرط أن يُنصّ عليه في شرعنا، وأن لا يأتي في شرعنا ما يخالفه.
وقد ذكر الإمام الزركشيّ -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "البحر المحيط " في أصول الفقه، الخلاف في ذلك، وهاك ملخّصه:
قال -رحمه اللَّه تعالى-: ما مختصره: هل تُعُبّد النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد النبوّة بشرع من قبله، أم كان منهيًّا عنه؟ فيه أربعة مذاهب:
(الأول): أنه لم يكن متعبَّدًا، بل كان منهيًّا عنها، وعليه أكثر المتكلّمين، وجماعة من الشافعيّة، والحنفيّة، واختاره الغزاليّ، وصححه ابن السمعانيّ، والنوويّ، وابن حزم، وغيرهم.
(الثاني): أنه كان مُتعبّدًا باتباعها، إلا ما نُسخ منها، ونقله ابن السمعانيّ عن أكثر الشافعيّة، والحنفيّة، وطائفة من المتكلّمين. وقال ابن القشيريّ: هو الذي صار إليه الفقهاء. وقال سُليم: إنه قول أكثر أصحابنا -الشافعيّة-، واختاره الشيخ أبو إسحاق أوّلًا في "التبصرة"، واختاره ابن بَرْهان، وقال: إنه قول أصحابنا، وحكاه الأستاذ أبو
منصور عن محمد بن الحسن، قال: ولذلك استدل بقصّة صالح النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقومه في شِرْب الناقة على إجازة المهايأة. وقال الخفاف في "شرح الخصال": شرائع من قبلنا واجبة علينا إلا في خصلتين: أن يكون شرعنا ناسخًا لها، أو يكون في شرعنا ذكر لها، فعلينا اتباع ما كان من شرعنا، وإن كان في شرعهم مقدّمًا. واختاره ابن الحاجب. وقال ابن الرفعة في "المطلب": إن الشافعيّ نصّ عليه في "الأمّ" في "كتاب الإجارة"، وأنه أظهر القولين في "الحاوي". وقال إمام الحرمين: للشافعيّ ميلٌ إلى هذا، وبنى عليه أصلًا من أصوله في "كتاب الأطعمة"، وتابعه معظم الأصحاب. وقال في "النهاية": وقد استأنس الشافعيّ لصحّة الضمان بقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] فكان الحِمْلُ في معنى الجعالة لمن ينادي في العير بالصواع، ولعله كان معلومًا عندهم، وتعلّق الضمان به. وقال أيضًا في "كتاب الضمان" فيمن حلف لَيَضربنّ عبده مائة سوط، فضربه بالْعِثْكَال
(1)
: إنه يبرأ؛ لقصّة أيوب رضي الله عنه، واتفق العلماء على أن هذه الآية معمول بها في ملّتنا، والسبب فيه أن الملل لا تختلف في موجب الألفاظ، وفيما يقع بِرًّا وحنثًا. وثبت عن بِن عبّاس رضي الله عنهما أنه سجد في "سورة ص"، وقرأ قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فاستنبط التشريع من هذه الآية. رواه البخاريّ، وأحمد، وسعيد بن منصور
(2)
.
وقال أبو بكر عبد الوهاب: إنه الذي تقتضيه أصول مالك. وكذا قال القرطبيّ: ذهب إليه معظم أصحابنا. وقال ابن العربيّ في "القبس": نصّ عليه مالك في "كتاب الديات" من "الموطأ"، ولا خلاف عنده فيه.
(الثالث): أنه لم يتعبّد فيها بأمر، ولا نهي. حكاه ابن السمعانيّ.
(الرابع): الوقف. حكاه ابن القشيريّ. انتهى كلام الزركشيّ باختصار
(3)
.
وقد ذكر الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطيّ -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "نثر الورود، شرح مراقي السعود" عند قول الناظم:
وَلَمْ يَكُنْ مُكَلّفًا بِشَرْعِ
…
صَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ قَبْلَ الْوَضْعِ
(4)
وَهُوَ وَالأُمَّةُ بَعْدُ كُلِّفَا
…
إلَّا إِذَا التكْلِيفُ بِالنَّصِّ انْتَفَى
وَقِيلَ لَا وَالْخُلْفُ فِيمَا شُرِعَا
…
وَلَمْ يَكُنْ دَاعٍ إِلَيْهِ سُمِعَا
(1)
-بالكسر، كقرطاس: الْعِذق. اهـ ق.
(2)
- أخرجه البخاريّ في "الصحيح" في "الجمعة"، و"الأنبياء"، و"التفسير".
(3)
- "البحر المحيط" ج 6 ص 41 - 44.
(4)
-أي قبل نزول الوحي عليه.
ما حاصله: يعني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمته بعد نزول الوحي مكلّفون بشرع من قبلهم، خلافًا للشافعيّ، ومحلّ الخلاف فيما ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا، ولم يثبت في شرعنا أنه شرع لنا.
قال: وهذه المسألة هي مسألة: هل شرعُ من قبلنا شرعٌ لنا؟. وتحقيق المقام فيها أن لها ثلاث حالات:
(الأولى): يكون شرع من قبلنا فيها شرعًا لنا بلا خلاف، وهي ما إذا ثبت في شرعنا أنه كان شرعًا لمن كان قبلنا، ثمّ نصّ لنا في شرعنا أنه شرع لنا، كالقصاص؛ لأن اللَّه بَيّن أنه كان شرعًا لمن قبلنا بقوله:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [المائدة: 45] ونصّ على أنه شرع لنا أيضًا في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} الآية [البقرة: 178].
(الثانية): ليس شرعًا لنا فيها بلا خلاف، وهي في صورتين:
(إحداهما): ما لم يثبت بشرعنا أصلًا، ولو زعموا أنه من شرعهم.
(والأخرى): ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لهم، ونُصّ لنا على أنه ليس شرعًا لنا، كالآصار، والأثقال التي شُرعت على من قبلنا، كإيجابه عليّ بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم توبةً من عبادة العجل المنصوص في قوله:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية [البقرة: 54]، فإن هذه الآصار رُفعت عنّا، كما قال تعالى:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وثبت في "صحيح مسلم" أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قرأ:{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال اللَّه: قد فعلت".
(الثالثة): هي محلّ الخلاف، وهي ما إذا ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا، ولم ينصّ في شرعنا على أنه مشروع لنا، ولا غير مشروع، والجمهور على أنه شرعٌ لنا؛ خلافًا للشافعيّ
(1)
.
وحجة الجمهور أنه ما ذُكر لنا في شرعنا إلا للاعتبار، كما قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] وثمرة الاعتبار العمل، وقد حضّ تعالى في آيات كثيرة على الاعتبار بأحوال الأمم الماضية.
ومما استدلّ به الجمهور أن اللَّه لما ذكر الأنبياء في سورة الأنعام، قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، والأصحّ أن الأمر للوجوب،
(1)
- وقد تقدّم في كلام الزركشيّ أن الشافعيّ نصّ في "كتابه الأمّ" بما قال الجمهور، فالظاهر أَنَّ له قولين في المسألة، فتنبّه.
وأن الأمّة تدخل تحت الخطاب الخاصّ به صلى الله عليه وسلم.
واستدلّوا أيضًا بقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية [الشورى: 13] وبقوله: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية [النساء: 26].
واحتجّ الإمام الشافعيّ على أن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} الآية [المائدة: 48]، وقال: إن الْهُدَى في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، والدينَ في قوله:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} المراد بهما العقائد، دون الفروع العملية، بدليل الآية المذكورة.
والحقّ أنه لا يختص بذلك؛ لما في "صحيح البخاريّ" عن مجاهد أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما من أين سجدتَّ؟ -يعني في {ص} - فقال: أو ما تقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ}
…
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، فكان داود ممن أُمر نبيّكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
فهذا نصّ صريحٌ مرفوعٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ثابت في "صحيح البخاريّ" على أنّ سجود التلاوة داخل في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، وهو ليس من العقائد بالإجماع، فظهر عدم الاختصاص بالعقائد.
وأجاب الجمهور عن احتجاج الشافعيّ بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} بأن المراد بها نسخ بعض ما كان مشروعًا، أو زيادةُ ما لم يكن مشروعًا، وكلاهما ليس من محلّ النزاع.
ولم يزل العلماء يستدلّون على الأحكام بالقصص الماضية، كاستدلال المالكيّة، وغيرهم على أن القرينة الجازمة ربما تكفي عن البينة بجعل شاهد يوسف قرينةَ شقّ القميص من دبر مقتضية صدقَ يوسف عليه السلام، وكذب امرأة العزيز المنصوص في قوله:
{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} إلى قوله: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} [يوسف: 28]، ولذا صارت القرينة تكفي عن البيّنة في أمور كثيرة، كقول مالك: إن مَن استُنكِهَ، فَشُمّ من نكهته رائحة الخمر أنه يُجلد جلدَ شارب الخمر.
وكمسيس الزوجة التي زُفّت إليه مع نساء لا تُثبت شهادتهنّ عينَ الزوجة؛ اعتمادًا على القرينة. وكالضيف يأتيه الصبيّ، أو الوليدة بالطعام، فيباح له أكله من غير بيّنة؛ اعتمادًا على القرينة. وكأخذ المالكيّة، وغيرهم أيضًا أن القرينة تُبطلها قرينة أقوى منها، من قصّة يعقوب، وأولاده حيث جعلوا دم السخلة على قميص يوسف؛ ليكون الدم قرينة لهم على صدقهم في أنّ يوسف أكله الذئب، فأبطلها يعقوب بقرينة أقوى منها، وهي عدم شقّ القميص، فقال: سبحان اللَّه، متى كان الذئب حليمًا كيّسًا، يقتل يوسف، ولا
يشقّ قميصه
(1)
. كما ذكر اللَّه عنهم في قوله: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} الآية [يوسف: 18].
وكأخذ المالكيّة وغيرهم جوازَ ضمان الغُرْمَ من قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} .
وكأخذ بعض الشافعية ضمان الوجه المعروف عندهم بالكفالة، من قصّة يعقوب وأولاده المنصوص في قوله:{قَالَ: لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} الآية [يوسف: 66].
وكأخذ الحنابلة جواز طول مدّة الإجارة من قوله في قصّة موسى وشُعيب: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ} الآية إلى قوله: {ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27].
وكأخذ المالكيّة وجوب الإعذار للخصم بـ "أَبَقِيَ لَكَ حُجّةٌ؟ " من قوله في قصّة سليمان في الهدهد: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21]. وكأخذهم أيضًا أن التلوّم للخصم بعد انقضاء الآجال ثلاثةُ أيام، من قوله تعالى في قصّة صالح عليه السلام وقومه:{فَقَالَ: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} الآية [هود: 65].
وكأخذ العلماء جواز وقوع كرامات الأولياء من قوله تعالى في قصّة مريم: {قَالَ: يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الآية [آل عمران: 37]. وأمثال هذا كثيرة جدًّا. انتهى ما كتبه الشيخ الشنقيطيّ -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه المذكور
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فقد أجاد الشيخ الشنقيطي -رحمه اللَّه تعالى- فيما ساقه من الآيات، وبَيَّن ما فيها من الدلالات.
والحاصل أنه قد تبيّن مما تقدّم أن الأرجح هو ما ذهب إليه الجمهور، وهو أيضًا منصوص للإمام الشافعيّ، من أن شرع من قبلنا، إذا قصّه اللَّه تعالى في كتابه، أو قصّه النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما صحّ عنه، ولم يَرِد في شرعنا ما يخالفه، فإنه يكون شرعًا لنا.
ومن الأدلة القوية لذلك ما أخرجه البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرا، فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يَلْهَث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبَ من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر اللَّه له فغفر له"، قالوا: يا رسول اللَّه، وإن لنا في البهائم أجرا؟ فقال:"نعم في كل ذات كبد رطبة أجر".
(1)
- ذكره القرطبيّ في تفسيره هذه الآية.
(2)
- نثر الورود في شرح مراقي السعود ج 1 ص 373 - 376.
ومحل الشاهد قول الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم -: "وإن لنا الخ" حيث فهموا من ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه القصّة أنهم لو عملوا بمثل عمله يؤجرون مثل أجره، فاستثبتوا ذلك منه صلى الله عليه وسلم، فأقرّهم على فهمهم، وأوضح لهم بأن لهم في كلّ حيون ذات كبد رطبة أجرًا، وإلا لقال لهم: إن هذه الحكاية ليست لكم، وإنما هي لمن كان قبلكم فقط، فليُتنبه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
48 - (بَابَ الصَّدَقَةِ مِنْ غُلُولٍ)
2524 -
(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الذَّارِعُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
…
قَالَ: وَأَنْبَأَنَا
(1)
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ -وَهُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ- قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، -وَاللَّفْظُ لِبِشْرٍ- عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«إِنَّ اللَّهَ عز وجل، لَا يَقْبَلُ صَلَاةً، بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ» ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، سوى شيخيه، وهما ثقتان. و"أبو الْمَلِيح" -بفتح الميم-: اسمه عامر، وقيل: زيد، وقيل: زياد الهذليّ، ثقة [3] 104/ 139. و"أبوه": هو أسامة بن عُمير، أو عامر بن حُنيف بن ناجية صحابي تفرد ابنه بالروية عنه، تقدم في 104/ 139.
والحديث صحيح، وقد تقدّم للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "أبواب الطهارة، في- "باب فرض الوضوء" -104/ 139 - رواه عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن قتادة به، وتقدّم هناك شرحه مستوفًى، وكذا الكلام على مسائله، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
فقوله: "الذرّاع" بصيغة المبالغة، وفي "التهذيبين"، و"الخلاصة"، و"التقريب" نسخةِ أبي الأشبال "الذارع" بصيغة اسم الفاعل، وهو اسم لمن يَذرَع الثياب والأرض، كما في "لبّ اللباب" ج1 ص 335. فما وقع في النسخة الهندية من قوله:"الزّرّاع" بالزاي بدل الذالّ المعجمة، فتصحيف. فتنبّه.
(1)
- وفي نسخة: "وأخبرنا"، وفي أخرى:"حدثنا".
وقوله: "قال: وأنبأنا إسماعيل بن مسعود" هذا إسناد آخر للمصنّف، والواو فيه واو التحويل، أي هي الواو التي تأتي بعد حاء التحويل، ففاعل "قال" ضمير يعود إلى تلميذ المصنّف، وقائل:"وأنبأنا" هو المصنّف.
وقوله: "بغير طهور" قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: "الطهور" هنا -بضمّ الطاء- على الأشهر؛ لأن المراد به المصدر انتهى.
وقوله: "من غُلُولٍ" -بضم الغين المعجمة- مصدر غَلّ يَغُلُّ غُلُولًا، من باب قعد: إذا سرق من مال الغنيمة قبل القسمة، ويطلق أيضًا على أخذ مال غيره خفية مطلقًا، غنيمة، أو غيرها، والمراد به هنا مطلق المال الحرام، أُخذ خفيةً، أم لا، وسمي غلولًا؛ لأن الأيدي يُجعل فيها الغُلّ بسببه، والغلّ: هي الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه.
والحاصل أن كلّ مال يأخذه الشخص من غير حلّ، ثم يتصدّق به لا يقبل منه، وكذا لو نوى التصدّق به عن صاحبه، ولا تسقط عنه تبعته، إلا إذا رضي عنه صاحبه، وجعله في حلّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2537 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ، مِنْ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ عز وجل، إِلاَّ الطَّيِّبَ، إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ عز وجل بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ، حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ، كَمَا يُرَبِّى أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ"، أَوْ "فَصِيلَهُ»).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد البغلاني الثقة الثبت [10] 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد الإمام الحجة الثبت المصريّ [7].
3 -
(سعيد بن أبي سعيد) كيسان المقبريّ المدني الثقة الفقيه [3].
4 -
(سعيد بن يسار) أبو الْحُبَاب المدنيّ، ثقة [3].
5 -
(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه فبغلاني، والليث فمصري.
(ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين من
الرواية روى (5374). واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ سَعِيدِ بن يَسَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا") نافية (تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ) الباء يكثر زيادتها بعد "ما" النافية، و"ليس"، و"كان المنفيّة بـ "لم"، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
وَبَعْدَ "مَا" و"لَيْسَ" جّرَّ الْبَا الْخَبَرْ وَبَعْدَ "لَا" وَنَفْيِ "كَانَ" قَدْ يُجَرُّ
(مِنْ طَيِّبٍ) أي حلالٍ، وقد يطلق الطيّب على المستلذّ بالطبع، والمراد هنا هو الحلال.
وفي رواية الشيخين: "مَن تصدّق بِعَدْل تمرة من كسب طيّب": أي بقيمتها؛ لأنه بالفتح: المثل، وبالكسر: الِحْمل بكسر المهملة، هذا قول الجمهور، وقال الفرّاء: بالفتح: المثل من غير جنسه، وبالكسر من جنسه، وقيل: بالفتح مثله في القيمة، وبالكسر في النظر. وأنكر البصريّون هذه التفرقة. وقال الكسائيّ: هما بمعنى، كما أنّ لفظ المثل لا يختلف. وضُبط في هذه الرواية للأكثر بالفتح انتهى
(1)
.
وقوله: "من كسب طيّب" أي صناعة، أو تجارة، أو زراعة، أو غيرها، ولو إرثًا، أو هبة. قال الحافظ: معنى الكسب: المكسوبُ، والمراد به ما هو أعمّ من تعاطي التكسّب، أو حصول المكسوب بغير تعاط، كالميراث، وكأنه ذكر الكسب لكونه الغالب في تحصيل المال، والمراد بالطيّب الحلال؛ لأنه صفة الكسب.
وقال القرطبيّ: والكسب الطيّب في هذا الحديث الحلال، وهذا كقوله تعالى:{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] وغيره، وأصل الطيّب المستلذّ بالطبع، ثمّ أُطلق على المطلق بالشرع انتهى
(2)
.
(وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ عز وجل، إِلَّا الطَّيِّبَ) جملة معترضةٌ بين الشرط والجزاء لتقرير ما قبله، وفيه دليل على أن الحلال مقبول. قال السنديّ: هذه الجملة معترضة لبيان أنه لا ثواب في غير الطيّب، لا أن ثوابه دون هذا الثواب، إذ قد يتوهّم من التقييد أنه شرط لهذا الثواب بخصوصه، لا لمطلق الثواب، فمطلق الثواب يكون بدونه أيضًا، فذُكِرَت هذه الجملة دفعًا لهذا التوهّم. ومعنى عَدَم قبوله أنه لا يُثيب عليه، ولا يرضى به. انتهى
(3)
.
(1)
- "فتح" ج 4 ص 26.
(2)
- "المفهم" ج 3 ص 58 - 59.
(3)
- "شرح السنديّ" ج 5 ص 57.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "ومعنى عدم القبول الخ" فيه نظر؛ لأن هذا لازم لمعنى القبول، لا مَعنًى للقبول، والصواب أن القبول على ظاهر معناه على الوجه اللائق به عز وجل، كما يدلّ عليه قوله:"إلا أخذها الرحمن الخ"، كما سيأتي بيانه قريبًا.
وقال القرطبيّ: وإنما لا يقبل اللَّه الصدقة من المال الحرام؛ لأنه غير مملوك للمتصدّق، وهو ممنوعٌ من التصرّف فيه، والتصدّق به تصرّف فيه، فلو قُبلت منه لزم أن يكون مأمورًا به منهيًّا عنه من وجه واحد، وهو محال، ولأن أكل الحرام يفسد القلوب، فتُحرَم الرّقّة، والإخلاص، فلا تقبل الأعمال، وإشارة الحديث إلى أنه لم يُقبل؛ لأنه ليس بطيّب، فانتفت المناسبة بينه وبين الطيّب بذاته انتهى.
(إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ عز وجل بِيَمِينِهِ) فيه إثبات اليمين للَّه عز وجل، على ما يليق بجلاله، وهذا المذهب الحقّ الذي عليه سلف هذه الأمة، وسيأتي تمام الكلام عليه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.
(وَإنْ كَانَتْ تَمْرَةً) قال السنديّ: و"إن" وصليّةٌ، أي ولو كانت الصدقة شيئًا حقيرًا انتهى (فَتَرْبُو) أي تزيد تلك الصدقة (فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ) فيه إثبات الكفّ للَّه تعالى أيضًا على ما يليق بجلاله عز وجل (حَتَّى تَكُونَ) تلك الصدقة (أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ) أي في الثقل. وفي رواية البخاريّ:"حتى تكون مثل الجبل". وفي رواية ابن جرير: "حتى يوافَى بها يوم القيامة، وهي أعظم من أحد". يعني التمرة. ولفظ الترمذيّ: "حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد"، وتصديق ذلك في كتاب اللَّه عز وجل:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} الآية [التوبة: 104]، وقوله:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} الآية [البقرة: 276]، وفي رواية ابن جرير التصريح بأن تلاوة الآية من كلام أبي هريرة. وزاد في رواية عبد الرزّاق:"فتصدّقوا".
قال الحافظ: والظاهر أن المراد بعِظَمِها أن عينها تعظم لتَثقُلَ في الميزان. ويحتمل أن يكون ذلك معبّرًا به عن ثوابها انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الأول هو الصواب، وأما الثاني، فيُبعِده سياق الحديث. واللَّه تعالى أعلم (كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ) هذا التشبيه متعلّق بمحذوف: أي يربيها الرحمن تربية، مثل تربية أحدكم الخ، ويدلّ عليه رواية الشيخين، وغيرهما بلفظ:"ثم يُربيّها لصاحبها، كما يربّي أحدكم الخ"(فَلُوَّهُ") بفتح الفاء، وضمّ اللام،
(1)
-"فتح" ج 4 ص 27 - 28.
وفتح الواو المشدّدة: أي مُهره. وهو بضمّ، فسكون: ولد الفرس، حين يُفلَى، أي يُفطم. وقيل: هو كلّ فَطِيم، من ذوات حافر، والجمع أفلاء، كعدُوّ وأعداء، والأنثى فَلُوّةٌ بالهاء، والْفِلْوُ وزان حِمْل لغة فيه. وقال أبو زيد: إذا فتحت الفاء شدّدت الواو، وإذا كسرتها سكّنت اللام، كجِرْوٍ.
وضُرِب به المثلُ؛ لأنه يزيد زيادة بينة، فإن صاحب النتاج لا يزال يتعاهده، ويتولّى تربيته، ولأن الصدقة نتاج عمله، وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيمًا، فإذا أحسن القيام، والعناية به انتهى إلى حدّ الكمال، وكذلك عمل ابن آدم، لا سيّما الصدقة التي يُجاذبها الشحّ، ويتشبّث بها الهوى، ويقتفيها الرياء، ويكدّرها الطبع، فلا تكاد تخلص إلى اللَّه تعالى إلا موسومة بنقائص، لا يجبرها إلا نظر الرحمن سبحانه وتعالى، فإذا تصدق العبد من كسب طيّب، مستعدًّا للقبول، فتح دونها باب الرحمة، فلا يزال نظر اللَّه يُكسبها نعت الكمال، ويوفيها حصّة الثواب حتى ينتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع المناسبةُ بينه وبين ما قَدّم من العمل وقوعَ المناسبة بين التمرة والجبل. كذا قال التوربشتيّ
(1)
.
(أَوْ فَصِيلَهُ)"أو" للشكّ من الراوي. و"الفصيل" -بالفتح-: ولد الناقة؛ لأنه يُفصَل عن أمّه، فهو فعيل بمعنى مفعول، والجمع فُصلان، بضمّ الفاء، وكسرها، وقد يُجمع على فِصال، بالكسر. قاله في "المصباح".
ووقع عند الترمذيّ: "فلوّه، أو مُهْره". ولعبد الرزّاق: "مُهره، أو فَصيله". وفي رواية البزّار: "مهره، أو رَضيعه، أو فَصيله". ولابن خزيمة: "فلوّه، أو قال: فصيله".
وهذا يشعر بأن "أو" للشكّ. قاله في "الفتح"
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-48/ 2525 - وفي "الكبرى" 50/ 2304. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1410 (م) في "الزكاة" 1014 (ت) في "الزكاة" 661 و 662 (ق) في "الزكاة" 1842
(1)
- "المرعاة" ج 6 ص 321.
(2)
-"فتح" ج4 ص 27.
(أحمد) في باقي مسند المكثرين" 7578 و 8181 و 8738 و 8992 و 9142 و 9149 و 9281 و 3897 و 10562 و 10596 (الدارميّ) في "الزكاة" 1675. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها):- ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو تحريم الصدقة من غلول؛ لأنها خبيثة، واللَّه تعالى طيّب، لا يتقبل إلا طيّبًا (ومنها): جواز الوصف للَّه تعالى بأنه طيّب. قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: أي منَزّه عن النقائص، والخبائث، فيكون بمعنى القدّوس. وقيل: طيّب الثناء، ومُستَلَذّ الأسماء عند العارفين بها، وعلى هذا فطيّبٌ من أسمائه الحسنى، ومعدود في جملتها المأخوذة من السنّة، كالجميل، والنظيف، على قول من رواه، ورآه انتهى
(1)
.
(ومنها): فضل الصدقة من المال الحلال، حيث إن الرحمن يتقبّلها بقبول حسنٍ (ومنها): إثبات صفة القبول للَّه تعالى على ما يليق بجلاله عز وجل، ولا يقال: إنه بمعنى الرضا والمثوبة؛ لإن هذا تفسير باللازم، ولا حاجة إلى العدول إلى التأويل؛ إذ ليس نصّ يدلّ عليه، بل القبول على ظاهره، ولا يلزم من إثباته تشبيه بالمخلوق، إذ القبول الثابت له تعالى غير القبول الثابت للمخلوق، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (ومنها): إثبات اليمين للَّه عز وجل على ما يليق بجلاله أيضًا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (ومنها): إثبات الكف للَّه عز وجل كذلك (ومنها): بيان فضل اللَّه تعالى للمتصدّق من مال طيّب، حيث يربّيها له حتى تكون التمرة الواحدة من عظمها مثل الجبل، كما قال تعالى:{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في آيات الصفات، وآحاديثها:
(اعلم): أن الحق الذي درج عليه الصحابة رضي الله عنهم، والتابعون، ومن تبعهم بإحسان هو إثبات ما دلّت عليه آيات الصفات، وأحاديثها الصحيحة الثابتة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ظاهرها من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، ولا تأويل، بل على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، كما قال اللَّه تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
قال الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "جامعه" بعد أن أورد حديث الباب: ما
(1)
- "المفهم" ج 3 ص 58.
نصّه: وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث، وما يشبه هذا من الروايات من الصفات، ونزول الربّ تبارك وتعالى، كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا، قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا، ويُؤمَن بها، ولا يُتَوَهَّم، ولا يقال: كيفَ. هكذا رُوي عن مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وعبد اللَّه بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أَمِرُّوها بلا "كيف". وهكذا قول أهل العلم من أهل السنّة والجماعة.
وأما الجهميّة، فأنكرت هذه الرويات، وقالوا: هذا تشبيه. وقد ذكر اللَّه تبارك تعالى في غير موضع من كتابه اليد، والسمع، والبصر، فتأولت الجهميّة هذه الآيات، وفعمروها على غير ما فسّر به أهلُ العلم، وقالوا: إن اللَّه لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إنما معنى اليد القوّة.
وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه، إذا قال: يدٌ كيدٍ، أو مثلُ يدٍ، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمعٌ كسمع، أو مثلُ سمعٍ، فهذا تشبيه، وأما إذا قال كما قال اللَّه: يدٌ، وسمعٌ، وبصرٌ، ولا يقول: كيفَ، ولا يقول: مثلُ سمع ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهًا، وهو كما قال تبارك وتعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} انتهى كلام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
وأخرج الإمام البيهقيّ -رحمه اللَّه تعالى-: في "السنن الكبرى" - بعد أن أخرج حديث: "ينزل ربنا عز وجل كلّ ليلة إلى سماء الدنيا
…
" الحديث- عن الوليد بن مسلم، أنه قال: سئل الأوزاعيّ، ومالكٌ، وسفيان الثوريّ، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث التي جاءت في التشبيه؟ فقالوا: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيفيّة.
وأخرج أيضًا عن أبي داود الطيالسيّ، أنه قال: كان سفيان الثوريّ، وشعبة، وحماد ابن زيد، وحماد بن سلمة، وشريك، وأبو عوانة لا يَحِدُون، ولا يُشبّهون، ولا يمثلون، يَرْوُون الحديث، ولا يقولون: كيفَ، وإذا سئلوا أجابوا بالأثر.
قال: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، قال: سمعت أبا محمد أحمد بن عبد اللَّه المزنيّ، يقول: حديث النزول قد ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من وجوه صحيحة، وورد في التنزيل ما يصدّقه، وهو قوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} ، والنزول، والمجيء صفتان منفيّتان عن اللَّه تعالى من طريق الحركة، والانتقال من حال إلى حال، بل هما صفتان من صفات اللَّه تعالى، بلا تشبيه، جلّ اللَّه تعالى عما تقول المعطّلة لصفاته، والمشبّهة بها علوًّا كبيرًا انتهى كلام البيهقيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
.
(1)
- "الجامع" ج 3 ص 331 - 332.
(2)
- "السنن الكبرى" ج 2 - 3 ص 3.
وقال الإمام المفسّر المحدّث البغويّ في "شرح السنّة" بعد أن أخرج حديث النار، وفيه:"حتى يضع ربّ العزة قدمه"، وفي لفظ:"رجله": ما نصّه: قلت: والقدم، والرجل المذكوران في هذا الحديث من صفات اللَّه عز وجل المنزّه عن التكييف والتشبيه، وكذلك كلّ ما جاء من هذا القبيل في الكتاب والسنّة، كاليد، والإصبع، والعين، والمجيء، والإتيان، فالإيمان بها فرض، والامتناع عن الخوض فيها واجبٌ، فالمهتدي من سلك فيها طريق التسليم، والخائض فيها زائغٌ، والمنكر معطلٌ، والمكيّفُ مشبِّهٌ، تعالى اللَّه عمّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} انتهى كلام البغويّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
وقال الحافظ الذهبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "العلوّ للعليّ الغفّار" بعد أن ذكر عدّة آيات من آيات الاستواء والعلوّ: ما نصّه: فإن أحببت يا عبد اللَّه الإنصاف، فقف مع نصوص القرآن والسنّة، ثم انظر ما قاله الصحابة، والتابعون، وأئمّة التفسير في هذه الآيات، وما حكوه من مذاهب السلف
…
إلى أن قال: فإننا على اعتقادٍ صحيحٍ، وعقدٍ متينٍ من أن اللَّه تعالى، تقدس اسمه، لا مثل له، وأن إيماننا بما ثبت من نعوته كإيماننا بذاته المقدّسة، إذ الصفات متابعة للموصوف، فنعقل وجود الباري، ونميّز ذاته المقدسة عن الأشباه، من غير أن نعقل الماهيّة، فكذلك القول في صفاته، نؤمن بها، ونتعقل وجودها، ونعلمها في الجملة من غير أن نتعقلها، أو نكيّفها، أو نمثّلها بصفات خلقه، تعالى اللَّه عن ذلك علوًّا كبيرًا انتهى المقصود من كلام الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى
(2)
.
وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الفتح": قال شهاب الدين السهرورديّ في كتاب العقيدة له: أخبر اللَّه في كتابه، وثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم الاستواء، والنزول، والنفس، واليد، والعين، فلا يُتصرّف فيها بتشبيه، ولا تعطيل، إذ لولا إخبار اللَّه، ورسوله ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى.
قال الطيبيّ: هذا هو المذهب المعتمد، وبه يقول السلف الصالح.
وقال غيره: لم ينقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، من طريق صحيح التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك، ولا المنع من ذكره، ومن المحال أن يأمر اللَّه نبيّه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أُنزل إليه من ربّه، وُينْزِل عليه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3]، ثم يترك هذا الباب، فلا يميّز ما يجوز نسبته إليه مما لا يجوز، مع حضّه
(1)
- "شرح السنّة" ج 16 ص 257 - 258.
(2)
- راجع "تحفة الأحوذيّ" ج 3 ص 331.
على التبليغ عنه بقوله: "ليبلّغ الشاهد الغائب"، حتى نقلوا أقواله، وأفعاله، وأحواله، وصفاته، وما فُعل بحضرته، فدل على أنهم اتفقوا على الإيمان بها على الوجه الذي أراده اللَّه منها، ووجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات بقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ،فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم، فقد خالف سبيلهم، وباللَّه تعالى التوفيق انتهى ما ذكره الحافظ في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر من نصوص هؤلاء الأئمة الأعلام أن الحقّ هو إثبات صفات اللَّه عز وجل على ما جاءت به نصوص الكتاب، والسنّة "الصحيحة" من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تأويل، ولا تعطيل، بل على ما يليق بجلاله عز وجل، وهذا هو الذي أجمع عليه السلف، ومن سار على طريقتهم، وسلك سبيلهم، من أهل العلم بالكتاب والسنّة في جميع الأعصار والأمصار.
وأما ما نقله في "الفتح" عن المازريّ، والقاضي عياض، والزين ابن المنيّر، وغيرهم من تأويلهم حديث الباب بالتأويلات التي يأباها ظاهر النص، وتخالف ما عليه السلف، مما تقدّم من إثباتهم الصفات كما وردت على المعنى اللائق به عز وجل، وعدم الخوض بالتأويل فأقوال لا يُلْتَفَتُ إليها؛ لكونها مما أحدثه المتأخّرون، مخالفين لهدي سلفهم الذي هو الحقّ الحقيق بالقبول والاتباع {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} ، ولقد أحسن من قال:
وَكُلُّ خَيْرٍ فِي اتِّبَاعِ مَنْ سَلَفْ
…
وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَن خَلَفْ
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ، اللَّهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، اللَّهمّ فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم اللهم آمين، آمين، آمين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- "الفتح" ج 4 ص 345.
49 - (جُهْدُ الْمُقِلِّ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على فضل الصدقة مع قلّة المال، فـ "الجهد" بالفتح، والضمّ: الطاقة، تقول اجهد جَهْدك، وقيل: بالفتح: المشقّة، وبالضمّ: الطاقة، وقال الليث: الجَهْد -بالفتح-: ما جَهَدَ الإنسانَ من مرضٍ، أو أمر شاقّ، فهو مجهودٌ، قال: والْجُهْد -بالضمّ- لغةٌ بهذا المعنى. وقال ابن الأثير: قد تكرّر لفظ الْجَهْد -بالفتح، والضمّ- في الحديث، وهو -بالفتح- المشقّة، وقيل: المبالغة والغاية، و- بالضمّ-: الوُسع والطاقة، وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة، فأما في المشقّة والغاية فالفتح لا غير، قال: ومن المضموم حديث الصدقةِ، أيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ قال:" جُهْد المقلّ": أي قدر ما يحتمله حال القليل المال. ذكره في "لسان العرب". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2526 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ حَجَّاجٍ
(1)
، قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَلِيٍّ الأَزْدِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبْشِيٍّ الْخَثْعَمِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ:«إِيمَانٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَجِهَادٌ لَا غُلُولَ فِيهِ، وَحَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ» ، قِيلَ: فَأَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «طُولُ الْقُنُوتِ» ، قِيلَ: "فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «جَهْدُ الْمُقِلِّ» ، قِيلَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عز وجل» ، قِيلَ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ جَاهَدَ الْمُشْرِكِينَ بِمَالِهِ، وَنَفْسِهِ» ، قِيلَ: فَأَيُّ الْقَتْلِ أَشْرَفُ؟ قَالَ: «مَنْ أُهْرِيقَ دَمُهُ، وَعُقِرَ جَوَادُهُ» ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ) أبو الحسن الورّاق البغداديّ، ويقال له: ابن الحكم، ثقة [11] 42/ 1282 من رجال أبي داود، والترمذيّ، والمصنّف.
2 -
(حَجَّاج) بن محمد الأعور المصّيصيّ الحافظ الثبت، وهو أثبت مَن روى عن ابن جُريج [9] 28/ 32.
3 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الفقيه الثقة الفاضل المكيّ [6] 28/ 32.
4 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيمَانَ) بن جُبير بن مطعم القرشيّ النوفليّ المكيّ، قاضيها، ثقة
(1)
- وفي نسخة: "الحجّاج".
[6]
13/ 1205.
5 -
(عَلِيِّ الْأَزْدِيّ) بن عبد اللَّه البارقيّ أبو عبد اللَّه بن أبي الوليد، صدوق [3] 26/ 1666.
6 -
(عُبَيد بْن عُمَيْرٍ) بن قتادة الليثيّ، أبو عاصم المكيّ، ولد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، من كبار التابعيين، وكان قاصّ أهل مكة، مجمع على ثقته، مات قبل ابن عمر [2] 12/ 416.
7 -
(عبد اللَّه بن حُبْشيّ الْخَثْعَميّ) -بضمّ المهملة، وسكون الموحّدة، بعدها معجمة، ثم ياء ثقيلة- أبو قُتيلة. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعنه عُبيد بن عُمير، وسعيد بن محمد بن جُبير ابن مُطعم، إن كان محفوظًا. قال ابن سعد: نزل مكة. انفرد به أبو داود، والمصنّف، وله عندهما حديث الباب، وحديث النهي عن قطع السدر فقط. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، والصحابيّ كما سبق آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين من ابن جريج، إلى آخره،. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. (ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فإنه ليس له في الكتب الستّة، بل ولا في غيرها غير هذين الحديثين عند أبي داود، والمصنف. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبد اللَّهِ بْن حُبْشِيٍّ الْخَثْعَمِيِّ) -بفتح الخاء المعجمة، وسكون الثاء المثلّثة، بعدها عين مهملة، فميم-: نسبة إلى خَثْعَم بوزن جَعْفر، اسم قبيلة، سمّيت باسم أبيها خثعم بن أنمار (أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟) أي أيّ أعمال العباد أكثر ثوابًا؟ (قَالَ: "إِيمَانٌ لًا شَكَّ فِيهِ") قال السنديّ: أي في مُتعلّقه، والمراد تصديقٌ بلغ حدّ اليقين، بحيث لا يبقى معه أدنى توهّم لخلافه، وإلا فمع بقاء الشكّ لا يحصل الإيمان، أو إيمان لا يشكّ المرء في حصوله له، بأن يتردّد هل حصل له الإيمان، أم لا. والوجه الأول أولى، واللَّه تعالى أعلم انتهى
(1)
(وجهادٌ لَا غُلُولَ فِيهِ) بضمّ الغين، أي لا خيانة منه في غنائمه (وَحَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ) قال ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى-: الحجّ المبرور: هو الذي لا يخالطه شيءٌ من المآثم. وقيل: هو المقبولُ الْمُقابَلُ بالبرّ، وهو الثواب، يقال: بَرَّ حَجُّهُ، وبُرَّ حجُّهُ، وبرَّ اللَّهُ حجَّهُ، وأبرَّه بِرًّا -بالكسر- وإبرارًا انتهى
(2)
(قِيلَ: فَأَيُّ الصَّلاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "طُولُ الْقُنُوتِ") أي القيام، وفيه أن طول القيام أفضل من كثرة
(1)
- "شرح السنديّ" ج 5 ص 58.
(2)
- "النهاية" ج 1 ص 117.
الركوع والسجود، وبه قالت الشافعيّة، والحنفيّة، وهو الحقّ، لهذا الحديث، ولما رواه مسلم في "صحيحه"، من حديث جابر رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصلاة طول القنوت". يعني القيام. وقد تقدّم تمام البحث في هذا في "كتاب الصلاة" - في باب "أقربُ ما يكون العبد من اللَّه صلى الله عليه وسلم"، فراجعه تستفد.
(قِيلَ: "فَأَيُّ الصدقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " جُهْدُ الْمُقِلِّ")"الجهد" -بالضمّ-: الوسع والطاقة، - وبالفتح-: المشقة والغاية، والمراد هنا الأول. و"المقلّ" -بضمّ الميم، وكسر القاف، وتشديد اللام-: الفقير الذي معه شيء قليل من المال: أي إن أفضل الصدقة هو الذي يتصدّق به قليل المال على قدر طاقته، ووسعه. وإنما كانت صدقة المقلّ أفضل من صدقة الغنيّ؛ لأن الفقير يتصدّق بما هو محتاجٌ إليه، بخلاف الغنيّ، فإنه يتصدّق بفضول ماله. وهذا نظير الحديث التالي: "سبق درهم مائة ألف درهم
…
" الحديث.
ولا تنافي بينه وبين حديث أبي هريرة الآتي في-53/ 2534 - مرفوعًا: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى
…
" الحديث. فإن حديث الباب محمول على قويّ الإيمان الذي يصبر على الفاقة، ويكتفي بأقلّ الكفاية. والحديث الآتي محمول على ضعيف الإيمان.
ويحتمل أن يكون المراد بالغنى غنى القلب الذي يصبر صاحبه على الجوع، والشدّة، وهو المراد بالمقلّ في حديث الباب، فيكون المعنى: أن تصدق الفقير الغنيّ القلب، ولو كان قليلًا، أفضل من تصدّق الغنيّ بكثير من ماله، فهو يدلّ على أن الفقير الصابر أفضل من الغنيّ الشاكر، وأنّ عبادة الأول مع قلّتها أفضل من عبادة الثاني، مع كثرتها
(1)
. وسيأتي تمام البحث في هذا في الباب المذكور، إن شاء اللَّه تعالى.
(قِيلَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟) أي أيّ أنواع الهجرة أفضل. و"الهجرة" في الأصل مأخوذة من الْهَجْر -بفتح، فسكون- ضدِّ الوصل، ثمّ غلبت على الخروج من أرض إلى أرض، فإن كان خرج للَّه، فهي الهجرة الشرعيّة، وتطلق أيضًا على ترك المحرّمات، وهي المرادة هنا، كما أشار إليها
بقوله (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَن هَجَرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عز وجل") الكلام على حذف مضاف، أي هجرة من هجر الخ، يعني أن ترك الشخص الأمر الذي حرّمه اللَّه عز وجل هو أفضل أنواع الهجرة.
وقال في "الفتح" عند شرح حديث عبد اللَّه بن عَمْرو رضي الله عنهما، مرفوعًا:"والمهاجر من هجر ما نهى اللَّه عنه": ما نصّه: وهذه الهجرة ضربان، ظاهرة، وباطنة، فالباطنة ترك ما
(1)
- راجع "المنهل" ج 8 ص 95 - 96.
تدعو إليه النفس الأمّارة بالسوء، والشيطانُ، والظاهرة الفرار بالدين من الفتن، وكأنّ المهاجرين خوطبوا بذلك لئلّا يتكلوا على مجرّد التحوّل من دارهم، حتى يمتثلوا أوامر الشرع، ونواهيه.
وَيحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة، لَمّا فُتحت مكّة؛ تطييبًا لقلوب من لم يدرك ذلك، بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى اللَّه عنه انتهى
(1)
.
(قِيلَ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟) أي أيّ أنواع الجهاد أفضل؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَنْ جَاهَدَ الْمُشْرِكِينَ بِمَالِهِ، وَنَفْسِهِ) هو على حذف مضاف أيضًا، أي جهادُ مَن جاهد الخ. يعني أن جهاد من جاهد المشركين بماله ونفسه أفضل من غيره.
ولا تنافي بينه وبين حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر". رواه أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه. وهو حديث حسنٌ بشواهده؛ لأن الأفضلية نسبيّةٌ، أي بالنسبة للكلام، فإن المؤمن يجاهد بلسانه، كما يجاهد بيده، فتكون كلمة الحقّ عند سلطان جائر أفضل جهاد المؤمن المتعلّق بلسانه. ويحتمل أن تكون "من" مقدّرة، أي من أفضل الجهاد.
والحاصل أن جهاد المؤمن للمشركين بنفسه وماله أفضل أنواع الجهاد على الإطلاق. واللَّه تعالى أعلم.
(قِيلَ: فَأَيُّ القَتْلِ أَشْرَفُ؟) أي أيّ أنواع القتل أشرف؟. وفي نسخة: "فأيّ القتل أفضل؟ "(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَن أُهَرِيقَ دَمُهُ) هو على حذف مضاف أيضًا، أي قتل من أهريق الخ. و"أهريق" بالبناء للمفعول، بمعنى "أُريق"، أي صَبّ. قال الفيّوميّ: راق الماءُ والدمُ رَيقًا، من باب باع: انصبّ، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أراقه صاحبه، والفاعل مُرِيقٌ، والمفعولُ مُراقٌ، وتبدل الهمزة هاءً، فيقال: هراقه، والأصل هَرْيَقَه، وزان دحرجه، ولهذا تفتح الهاء من المضارع، فيقال: يُهَريقه، كما تُفتح الدّالّ من يُدَحرجه، وتفتح من الفاعل، والمفعول أيضًا، فيقال: مُهَرِيقٌ، ومُهَراقٌ، قال امرؤ القيس [من الطويل]:
وِإنَّ شِفَائِي عَبرَةٌ مُهَرَاقَةٌ
…
فَهَلْ عِنْدَ رَسْمِ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
والأمرُ هَرِقْ ماءَكَ، والأصل هَرْيِقْ، وزان دَحْرِجْ. وقد يُجمع بين الهاء والهمزة، فيقال: أهراقه يُهرِيقه، ساكن الهاء، تشبيهًا له بـ "أسطاع يُسْطِيع"، كأنّ الهمزة زيدت عوضًا عن حركة الياء في الأصل، ولهذا لا يصير الفعل بهذه الزيادة خماسيًّا. انتهى
(1)
- "فتح" ج 1 ص 78.
كلام الفيّومي
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فعلى هذا يحتمل "أُهريق" هنا أن يُضبط بفتح الهاء، وهو الأصل، وسكونِهَا. واللَّه تعالى أعلم.
(وَعُقِرَ جَوَادُهُ) بالبناء للمفعول أيضًا: أي ضُربت قوائم جواده بالسيف، يقال: عَقَرَ البعيرَ بالسيف عَقْرًا، من باب ضرب: إذا ضرب قوائمه به، ولا يطلق العَقْرُ في غير القوائم، وربّما قيل: عقره: إذا نحره، فهو عَقِيرٌ. أفاده في "المصباح". و"الجواد" - بفتح الجيم، وتخفيف الواو- الخيل، يُطلق على الذكر والأنثى. قال في "اللسان": وجاد الفرسُ: أي صار رائعًا، يَجُود جُودَةً -بالضمّ-، فهو جَوَادٌ للذكر والأنثى، والجمع جِيَاد، وأَجْيَادٌ، وأجاويد انتهى بتصرّف يسير.
والمراد قتلُ مَن صَرَفَ نفسه وماله في سبيل اللَّه تعالى، وقتل فرسه معه، وإنما كان هذا أشرف أنواع القتل؛ لأنه بذل أنفس ما عنده للَّه تعالى، وهما نفسه، وماله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عبد اللَّه بن حُبْشيّ رضي الله عنه هذا صحيح.
[تنبيه]: قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الإصابة" بعد أن ذكر أن إسناد هذا الحديث قويٌّ: ما نصّه: لكن ذكر البخاريّ في "التاريخ"
(2)
له علّة، وهي الاختلاف على عُبيد بن عُمير في سنده، فقال عليٌّ الأزديّ عنه هكذا، وقال عبد اللَّه بن عُبيد بن عمير، عن أبيه عن جدّه، واسم جدّه قتادة بن النعمان الليثيّ، ولكن لفظ المتن قال:"السماحة والصبر". فمن هنا يمكن أن يقال: ليست العلّة بقادحة. وقد أخرجه هكذا موصولا، من وجهين، في كلّ منهما مقال، ثم أورده من طريق الزهريّ، عن عبد اللَّه ابن عبيد، عن أبيه، مرسلًا، وهذا أقوى انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-
(3)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن هذه العلّة غير قادحة في صحة الحديث، كما أشار إليه الحافظ في كلامه المذكور آنفًا، بدليل اختلاف متني الحديثين، فيحمل على أن عبيد بن عُمير روى الحديثين جميعًا، روى عن عبد اللَّه بن حبشيّ حديث الباب، وعن أبيه عن جدّه الحديث المذكور، فلا يُعَلّ أحدهما بالآخر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(1)
- "المصباح المنير".
(2)
- انظر "التاريخ الكبير" ج 5 ص 25 - 26.
(3)
- "الإصابة في تمييز الصحابة" ج 6 ص 50.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-49/ 2526 - و"كتاب الإيمان" 1/ 4986 - وفي "الكبرى" 51/ 2305 وفي "كتاب الإيمان" 1/ 11717. وأخرجه (د) في "الصلاة" 1449 (أحمد) في "مسند المكيين" 14975 (الدارميّ) في "الصلاة" 1424. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل صدقة قليل المال بقدر طاقته (ومنها): أن الأعمال تتفاوت ثوابًا، فيكون بعضها مع قلّته يفضل على بعض مع كثرته، وذلك فضل اللَّه تعالى يعطي الكثير على القليل لمن يشاء {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (ومنها): أن طول القيام في الصلاة أفضل من كثرة الركوع والسجود، وهذا هو المذهب الراجح، وقد خالف فيه بعض أهل العلم، كما أشرت إليه قريبًا، وتقدّم تحقيق ذلك في "كتاب الصلاة" (ومنها): أن هَجْر المعاصي أفضل أنواع الهجرة (ومنها): أن جهاد المشركين بالمال والنفس أفضل الجهاد (ومنها): أن أشرف أنواع القتل في سبيل اللَّه تعالى أن يُقتل الشخص، ويُعقر فرسه معه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2527 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، وَالْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ» ، قَالُوا: وَكَيْفَ
(1)
رجال هذا الإسناد: ستة: وقد تقدموا في الباب الماضي غير:
1 -
(ابن عجلان) محمد المدني، مولى فاطمة بنت الوليد، صدوقٌ، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه[5] 36/ 40.
2 -
(القعقاع) بن حكيم الكنانيّ المدنيّ ثقة [4] 36/ 40. واللَّه تعالى أعلم.
3 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه -1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمديين غير شيخه فبغلاني، والليث، فمصري.
(ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.
(1)
- وفي نسخة: "كيف" بدون الواو.
[تنبيه]: قوله: "والقعقاع" بالجرّ عطفًا على "سعيد"، فمحمد بن عجلان يروي عنهما جميعًا، وكلاهما يرويان عن أبي هريرة رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ) أي تقدّمها في الأجر والثواب (قَالُوا: وَكَيْفَ؟) أي قال الصحابة الحاضرون مجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حينما حَدَّث بهذا الحديث: وكيف يسبق درهم واحد مع قلّته مائةَ ألف درهم مع كثرتها؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم مبيّنًا وجه أسبقية الدرهم الواحد على هذه الدراهم الكثيرة (كَانَ لِرَجُلِ دِرْهَمَانِ، تَصَدَّقَ بأَحَدِهِمَا) أي وأبقى الآخر لأهله، حتى لا يقِع في إضاعة نفسه، وإضاعة من تجب عليه نفَقته، أو لئلّا يقع في ذل مسألة الناس (وَانْطَلقَ) أي ذهب (رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ) بضمّ العين المهملة، وسكون الراء: أي جانبه، وفيه إشارة إلى كثرة ماله، بحيث إن الذي تصدّق به من المبلغ المذكور لم يكن إلا جانبًا من جوانبه (فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَتَصَدَّقَ بِهَا) قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: ظاهر الحديث أن الأجر على قدر حال المعطي، لا على قدر المال الْمُعْطَى، فصاحب الدرهمين حيث أعطَى نصف ماله، في حال لا يُعطِي فيها إلا الأقوياء، يكون أجره على قدر همّته، بخلاف الغنيّ، فإنه ما أعطى نصف ماله، ولا في حال لا يُعطَى فيها عادةً.
ويحتمل أن يقال: لعلّ الكلام فيما إذا صار إعطاء الفقيرِ الدرهمَ سببًا لإعطاء الغنيّ تلك الدراهم، وحينئذ يزيد أجر الفقير، فإن له مثل أجر الغنيّ، وأجر زيادة درهم. لكن لفظ الحديث لا يدلّ على هذا المعنى، ولا يناسبه. انتهى كلام السنديّ
(1)
. واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ وفيه ابن عجلان، وقد اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه؟.
[قلت]: إن الاختلاطه خاص بما رواه عن سعيد المقبري
(2)
، وهذا مما رواه أيضًا عن القعقاع عن أبي هريرة، وعن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وهذان الطريقان ليس فيهما كلام، فتنبّه.
والحديث من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا -49/ 2527 و 2528 - وفي "الكبرى" 51/ 2306 و 2307. وأخرجه (أحمد) في "مسند المكثرين" 8710 (وابن خزيمة) في "صحيحه" جـ 4 ص 99 رقم 2443. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(1)
- راجع "شرح السنديّ" ج 5 ص 59 - 60.
(2)
راجع "تهذيب التهذيب" جـ 3 ص 646 - 647.
2528 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ؟ ، قَالَ: «رَجُلٌ لَهُ دِرْهَمَانِ، فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا، فَتَصَدَّقَ بِهِ، وَرَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَأَخَذَ مِنْ عُرْضِ مَالِهِ، مِائَةَ أَلْفٍ، فَتَصَدَّقَ بِهَا»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"عبيد اللَّه بن سعيد": هو أبو قُدامة السرخسيّ الحافظ الثبت [10].
و"صفوان بن عيسى": هو أبو محمد القَسّام البصريّ الثقة [9]. و"أبو صالح": هو ذكران السمّان الزيات المدنيّ ثقة ثبت [3].
والحديث صحيح، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2529 -
(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ
(1)
مَنْصُورٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَأْمُرُنَا بِالصَّدَقَةِ، فَمَا يَجِدُ أَحَدُنَا شَيْئًا، يَتَصَدَّقُ بِهِ، حَتَّى يَنْطَلِقَ إِلَى السُّوقِ، فَيَحْمِلَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَجِيءَ بِالْمُدِّ، فَيُعْطِيَهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِنِّي لأَعْرِفُ الْيَوْمَ، رَجُلاً لَهُ مِائَةُ أَلْفٍ، مَا كَانَ لَهُ يَوْمَئِذٍ دِرْهَمٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الحسين بن حريث) أبو عمار المروزين ثقة [10] 44/ 52.
2 -
(الفضل بن موسى) السينانيّ، أبو عبد اللَّه المروزيّ، ثقة ثبت ربما أغرب، من كبار [9] 83/ 100.
3 -
(الحسين) بن واقد المروزيّ، أبو عبد اللَّه القاضي، ثقة له أوهام [7] 5/ 463.
4 -
(منصور) بن المعتمر، أبو عتاب الكوفي، ثقة ثبت [6] 2/ 2.
5 -
(شقيق) بن سلمة المشهور بـ "أبي وائل" الأسدي الكوفي، مخضرم ثقة [2] 2/ 2.
6 -
(أبو مسعود) عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاريّ البدري الصحابي الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه -، تقدّم في 6/ 494. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمروزيين إلى الحسين، والباقون كوفيون. (ومنها):
(1)
- ووقع في نسخة "بن" بدل "عن"، أي عن الحسن بن منصور"، وهو غلطٌ، فاحش، فإن الحسين هذا ليس ابن منصور، بل هو حسين بن واقد، فينبغي التنبّه له.
أن فيه رواية تابعي، عن تابعي عند من قال: إن منصورًا من صغار التابعين. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) عقبة بن عمرو رضي الله عنه أنه (قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَأْمُرُنَا بِالصَّدَقَةِ) أي بعد أن نزل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} الآية؛ لما في رواية البخاريّ من طريق سليمان الأعمش، عن أبي وائل، عن أبي مسعود رضي الله عنه، قال: لما نزلت آية الصدقة، كنّا نُحامل
…
" الحديث (فَمَا يَجِدُ أَحَدُنَا شَيْئًا، يَتَصَدَّقُ بِهِ) أي لفقره (حَتَّى يَنْطَلِقَ إِلَى السُّوقِ، فَيَحْمِلَ عَلَى ظَهْرِهِ) أي يحمل أمتعة الناس بالأَجرة؛ لأجل أن يتصدّق، فينال الأجر الموعود للمتصدّقين من أموالهم القليلة، حيث إن أجرها أعظم من أجر صدقة كثير المال، كما سبق في الأحاديث الماضية (فَيَجِيءَ بِالْمُدِّ) أي مما أصابه من أجرة حمله (فَيُعْطِيَهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي ليتصدّق به على المستحقّين (إِنِّي لَأَعْرِفُ الْيَوْمَ، رَجُلًا لَهُ مِائَةُ أَلْفٍ) قال في "الفتح": ولم يذكر مميّز مائة ألف، فيحتمل أن يريد الدراهم، أو الدنانير، أو الأمداد انتهى
(1)
(مَا كَانَ لَهُ يَوْمَئِذٍ) أي في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم (دِرْهَمٌ) زاد في رواية البخاريّ في "التفسير": "كأنه يُعرِّض بنفسه". وأخرجه ابن مردويه، من وجه آخر، فقال في آخره:"وإن لأحدهم اليوم لمائة ألف، قال شقيق: كأنه يعرّض بنفسه". وأخرجه الإسماعيلي، من وجه آخر، وزاد في آخر الحديث:"قال الأعمش: وكان أبو مسعود قد كثر ماله".
قال ابن بطّال: يريد أنهم كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم يتصدّقون بما يجدون، وهؤلاء مكثرون، ولا يتصدّقون. قال الحافظ: كذا قال، وهو بعيد. وقال الزين ابن المنيّر: مراده أنهم كانوا يتصدّقون مع قلّة الشيء، ويتكلفون ذلك، ثم وسّع اللَّه عليهم، فصاروا يتصدّقون من يسر، ومع عدم خشية عسر.
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون مراده أن الحرص على الصدقة الآن لسهولة مأخذها بالتوسّع الذي وُسّع عليهم أولى من الحرص عليها مع تكلّفهم، أو أراد الإشارة إلى ضيق العيش في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لقلّة ما وقع من الفتوح والغنائم في زمانه، وإلى سعة عيشهم بعده؛ لكثرة الفتوح والغنائم انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
- "فتح" ج 9 ص 231.
(2)
- المصدر السابق.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-49/ 2529 و 2530 - وفي "الكبرى" 51/ 2308 و 2309. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1415 و 1416 و"الإجارة" 2273 و"التفسير" 4668 و 4669 (م) ي في "الزكاة" 1018 (ق) في "الزهد" 4155. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): الأمر بالصدقة، والحثّ عليها بما تيسّر (ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الحرص على فعل الخير، حتى يؤاجرون أنفسهم (ومنها): جواز إيجار الحرّ نفسه لحمل شيء على ظهره حتى يتصدّق من أجرته (ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من قلّة العيش، وصبرهم على ذلك (ومنها): بيان ما فتح اللَّه على المؤمنين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يملك بعضهم مائة ألف؛ وفاء بما وعدهم اللَّه تعالى بقوله:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} الآية [النور: 55]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2530 -
(أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: "لَمَّا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّدَقَةِ، فَتَصَدَّقَ أَبُو عَقِيلٍ، بِنِصْفِ صَاعٍ، وَجَاءَ إِنْسَانٌ بِشَيْءٍ، أَكْثَرَ مِنْهُ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا، وَمَا فَعَلَ هَذَا الآخَرُ إِلاَّ رِيَاءً، فَنَزَلَتِ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} الآية [التوبة: 79]).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(بشر بن خالد) العسكريّ، أبو محمد الفرائضي، نزيل البصرة، ثقة يُغرب [10] 26/ 812.
2 -
(غندر) محمد بن جعفر، أبو عبد اللَّه البصري، ربيب شعبة، ثقة، صحيح الكتاب [9] 21/ 22.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 24/ 27.
4 -
(سليمان) بن مِهران الأعمش الكوفي، ثقة ثبت يدلس [5] 17/ 18. والباقيان
تقدما في السند الماضي. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أن الثلاثة الأولين بصريّون، والباقون كوفيّون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي مخضرم. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) عقبة بن عمرو رضي الله عنه، أنه (قَالَ:"لَمَّا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّدَقَةِ) ولفظ البخاريّ في "الزكاة": "لما نزلت آية الصدقة، كنّا نُحامل
…
". قال في "الفتح": كأنه يشير إلى قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية (فَتَصَدَّقَ أَبُو عَقِيلٍ، بِنِصْفِ صَاعٍ) اسم أبي عَقيل هذا -وهو بفتح أوّله- حَبْحَاب- بمهملتين، بينهما موحّدة ساكنة، وآخره مثلها-. ذكر عبد بن حُميد، والطبريّ، وابن منده من طريق أبي عروبة، عن قتادة، قال في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} قال: "جاء رجل من الأنصار، يقال له: الحبحاب، أبو عَقِيلٍ، فقال: يا نبيّ اللَّه بِتُّ أجُرُّ الجرير
(1)
على صاعين من تمر، فأما صاعٌ، فأمسكته لأهلي، وأما صاع فها هو ذا، فقال المنافقون: إن كان اللَّه ورسوله لغنيين عن صاع أبي عَقيل، فنزلت". وهذا مرسل.
ووصله الطبرانيّّ، والباورديّ، والطبريّ من طريق موسى بن عُبيدة، عن خالد بن يسار، عن ابن أبي عَقيل، عن أبيه بهذا، ولكن لم يسمّوه. وذكر السهيليّ أنه رآه بخطّ بعض الحفّاظ مضبوطًا بجيمين. وروى الطبرانيّ في "الأوسط"، وابن منده من طريق سعيد بن عثمان البلويّ، عن جدّته بنت عديّ، أن أمها عميرة بنت سهل بن رافع، صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون خرج بزكاته، صاع تمر، وبابنته عميرة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعا لهما بالبركة. وكذا ذكر ابن الكلبيّ أن سهل بن رافع، هو صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون. وروى عبد بن حميد من طريق عكرمة، قال في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} هو رفاعة بن سهل. ووقع عند ابن أبي حاتم رفاعة بن سعد، فيحتمل أن يكون تصحيفًا. ويحتمل أن يكون اسم أبي عَقيل سهل، ولقبه حبحاب، أو هما اثنان. وفي الصحابة أبو عقيل بن عبد اللَّه بن ثعلبة البلويّ بدريّ، لم يسمّه موسى ابن عقبة، ولا ابن إسحاق، وسماه الواقديّ عبد الرحمن، قال: واستُشهِد باليمامة.
وكلام الطبريّ يدلّ على أنه هو صاحب الصاع عنده، وتبعه بعض المتأخّرين. قال
(1)
- الجرير بالفتح: حبل يُجعل في عنق الناقة. قاله في "المصباح".
الحافظ: والأول أولى.
وقيل: هو عبد الرحمن بن سمحان
(1)
، وقد ثبت في حديث كعب بن مالك في قصّة توبته، قال:"وجاء رجل يزول به السراب، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "كن أبا خيثمة"، فإذا هو أبو خيثمة"، وهو صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون، واسم أبي خيثمة هذا عبد اللَّه بن خيثمة، من بني سالم، من الأنصار.
قال الحافظ: فهذا يدلّ على تعدد من جاء بالصاع، ويؤيّد ذلك أن أكثر الرويات فيها أنه جاء بصاع. وكذا وقع عند البخاريّ في "الزكاة":"فجاء رجل، فتصدّق بصاع"، وفي حديث الباب:"فجاء أبو عقيل بنصف صاع".
وجزم الواقديّ بأن الذي جاء بصدقة ماله هو زيد بن أسلم العجلانيّ، والذي جاء بالصاع هو علية بن زيد المحاربيّ.
وسمّي من الذين قالوا: إن هذا مُرَاءٍ، وإن اللَّه غني عن صدقة هذا معتّب بن قشير، وعبد اللَّه بن نبتل. وأورده الخطيب في "المبهمات" من طريق الواقديّ، وفيه: عبد الرحمن بن نبتل -وهو بنون، ثمّ موحّدة، ثمّ مثنّاة، ثم لام بوزن جعفر- وسيأتي أيضًا ما يدلّ على تعدّد من جاء بأكثر من ذلك.
(وَجَاءَ إِنْسَانٌ بشَيْءِ أَكْثَرَ مِنْهُ) أي مما جاء به أبو عقيل. وفي رواية البخاريّ في "الزكاة": "وجاءَ رجل بشيء كثير". وروى البزار من طريق عُمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تصدّقوا، فإني أريد أن أبعث بعثًا". فجاء عبد الرحمن بن عوف، فقال: يا رسول اللَّه عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما ربّي، وألفين أمسكهما لعيالي، فقال:"بارك اللَّه لك فيما أعطيت، وفيما أمسكت". قال: وبات رجلٌ من الأنصار، فأصاب صاعين من تمر
…
" الحديث. قال البزّار: لم يسنده إلا طالوت بن عبّاد، عن أبي عوانة، عن عمر. قال: وحدّثناه أبو كامل، عن أبي عوانة، فلم يذكر أبا هريرة فيه، وكذلك أخرجه عبد بن حُميد، عن يونس بن محمد، عن أبي عوانة. وأخرجه ابن أبي حاتم، والطبري، وابن مردويه من طرق أخرى، عن أبي عوانة، مرسلًا. وذكره ابن إسحاق في "المغازي" بغير إسناد. وأخرجه الطبريّ من طريق يحيى بن أبي كثير، ومن طريق سعيد، عن قتادة، وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، والمعنى واحد، قال: "وحث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الصدقة -يعني في غزوة تبوك- فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف، فقال: يا رسول اللَّه مالي ثمانية آلاف، جئتك
(1)
- في هامش طبعة بولاق: كذا في بعض النسخ، وفي بعضها "سحان" بغير ميم.
بنصفها، فقال:"بارك اللَّه لك فيما أمسكت، وفيما أعطيت". وتصدّق يومئذ عاصم بن عديّ بمائة وسقِ من تمر. وجاء أبو عقيل بصاع من تمر
…
" الحديث. وكذا أخرجه الطبريّ من طريق الْعَوْفيّ، عن ابن عباس نحوه، ومن طريق عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس، قال: " جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب" بمعناه. وعند عبد بن حميد، وابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس، قال: " جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعمائة أوقية من ذهب، فقال: إن لي ثمانمائة أوقيّة من ذهب
…
" الحديث. وأخرجه عبد الرزّاق، عن معمر، عن قتادة، فقال: "ثمانية آلاف دينار"، ومثله لابن أبي حاتم من طريق مجاهد. وحكى عياض في "الشفا" أنه جاء يومئذ بتسعمائة بعير.
وهذا اختلاف شديدٌ في القدر الذي أحضره عبد الرحمن بن عوف، وأصحّ الطرق فيه ثمانية آلاف درهم. وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم من طريق حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أو غيره. واللَّه أعلم.
ووقع في "معاني القرآن" للفرّاء أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حثّ على الصدقة، فجاء عمر بصدقة، وعثمان بصدقة عظيمة، وبعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يعني عبد الرحمن بن عوف، ثم جاء أبو عَقيل بصاع من تمر، فقال المنافقون: ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء، وأما أبو عقيل، فإنما جاء بصاعه ليذكّر بنفسه، فنزلت. ولابن مردويه من طريق أبي سعيد: "فجاء عبد الرحمن بن عوف بصدقته، وجاء المطّوّعون من المؤمنين
…
" الحديث. ذكر هذا كله في "الفتح"
(1)
.
(فَقَالَ: الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ اللَّه عز وجل لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا) أي عن صدقة أبي عقيل (وَمَا فَعَلَ هَذَا الآخَرُ) بالرفع بدلًا من اسم الإشارة، وعنوا به الإنسان الذي جاء بمال كثير، وقد تقدّم الخلاف فيه آنفًا (إِلَّا ريَاءً) أي إلا إظهارًا لصدقته للناس، ليروه، ويظنّوا به خيرًا، ويحمدوه عليها (فَنَزَلَتْ: الذِينَ يَلْمِزُونَ) أي يَعيبونهم (الْمُطَّوِّعِينَ) قرأ الجمهور بتشديد الطاء، والواو، وأصله المتطوّعين، فأُدغمت التاء في الطاء، وهم الذين يغزون بغير استعانة برزق من سلطان، أو غيره
(2)
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بيان لـ "لمطوّعين"(فِي الصَّدَقَاتِ) متعلّق بـ "يلمزون"(والَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) معطوف على "المطّوّعي"، وأخطأ من قال: إنه معطوف على {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} ؛ لإستلزامه فساد المعنى، وكذا من قال: معطوف على {الْمُؤْمِنِينَ} ؛ لأنه يفهم منه أن {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} ليسوا بمؤمنين؛ لأن الأصل في العطف المغايرة، فكأنه قيل: الذين يلزون المطّوّعين من هذين الصنفين: المؤمنين، والذين لا يجدون إلا جهدهم، فكأن الأولين مُطّوّعون مؤمنون،
(1)
- "فتح" ج 9 ص 230 - 231.
(2)
هذا أصل معناه، وأما في الآية هنا فالمراد المتطوع بصدقته. واللَّه تعالى أعلم.
والثاني مطوّعون غير مؤمنين، وليس بصحيح، فالحق أنه معطوف على {الْمُطَّوِّعِينَ} ، ويكون من عطف الخاصّ على العامّ، والنكتة فيه التنويه بالخاصّ؛ لأن السخريّة من المقلّ أشدّ من المكثر غالبًا. واللَّه أعلم. قاله في "الفتح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-49/ 2530 - وفي "الكبرى" 51/ 2309. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1415 و 1416 و"الإجارة" 2273 و"التفسير" 4668 و 4669 (م) في "الزكاة" 1018 (ق) في "الزهد" 4155. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل صدقة قليل المال (ومنها): مشروعيّة حثّ الإمام الناسَ على الصدقة لإزالة فاقة المحتاجين (ومنها): ما كان عليه الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم -، من المسارعة إلى الخيرات، كلٌّ على حسب حاله، فالغنيّ يجود بالكثير، والفقير بقدر استطاعته (ومنها): بيان أخلاق المنافقين، وسوء طويّتهم، وأنهم لا يَسْلَم منهم أحدٌ من المؤمنين، لا الأغنياء، ولا المقلّون، فيتّهمون كلًّا منهم بما هم بريؤون منه، بل هو من صفات المنافقين أنفسِهِم، فإن الرياء والسمعة، وحبّ المحمدة بما لم يفعلوا، ونحوها من الأخلاق المذمومة هي بضاعتهم، وفيها تجارتهم، ولقد جازاهم اللَّه تعالى على هذا الخلُق الذميم، كما أخبر بذلك في قوله:{سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79]. "واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب".
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
50 - (الْيَدُ الْعُلْيَا)
أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على فضل اليد العليا، وهي المنفقة، وهي يد المعطي، كما سيأتي تفسيرها بعد باب، إن شاء اللَّه تعالى.
2531 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ، وَعُرْوَةُ، سَمِعَا حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، يَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ، حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ، بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ، لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ، وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا، خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد المذكور في الباب الماضي.
2 -
(سفيان) بن عيينة المكي الثقة الثبت الحجة [8] 1/ 1.
3 -
(الزهري) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت المدني [4] 1/ 1.
4 -
(سعيد) بن المسيب الحجة الثبت الفقيه المدني، من كبار [3] 9/ 9.
5 -
(عروة) بن الزبير بن العوّام المدني الثقة الثبت الفقيه [3] 40/ 44.
6 -
(حَكِيمْ بْن حِزَامٍ) بن خويلد بن أسد بن عبد العزَّي الأسديّ، أبو خالد المكيّ، ابن أخي خديجة الكبرى، أم المؤمنين رضي الله عنها، أسلم يوم الفتح، وصحب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وله أربع وسبعون سنة، ثم عاش- إلى سنة أربع وخمسين، أو بعدها، وكان عالمًا بالنسب، تقدّمت ترجمته رضي الله عنه في 125/ 1084. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه، فبغلاني، وسفيان فمكي. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعيين. (ومنها): أن فيه اثنين من الفقهاء السبعة: سعيد، وعروة. (ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من الصحابة الذين عاشوا (120) سنة، نصفها في الجاهلية، ونصفها في الإسلام، وقد ذكرهم السيوطي في "ألفية الحديث" فقال:
وَعِدَّةٌ مِنَ الصِّحَاب وَصَلُوا
…
عِشْرِينَ بعد مائَةٍ تُكَمَّلُ
سِتُونَ فِي الإِسْلامِ حَسَّانٌ يَلي
…
حُوَيْطِبٌ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفِلِ
ثُمَّ حَكِيمٌ حَمْنَنٌ سَعَيدُ
…
وَآخَرُونَ مُطلَقا لَبِيدُ
عَاصمُ سَعْدٌ نَوْفَلٌ مُنْتَجِعُ
…
لَجْلَاجُ أَوْسٌ وَعَدِيُّ نَافِعُ
نَابغَةٌ ثُمَّتَ حَسَّانُ انْفَرَدْ
…
أَنْ عاشَ ذا أَبٌ وَجَدُّهُ وَجَدُّ
(ومنها): أنه ولد في جوف الكعبة، ولا يُعرف هذا لغيره، كما قال الحافظ السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "ألفيّة المصطلح":
ثُمَّ حَكِيمٌ مُفْرَدٌ بِأَنْ وُلِدْ
…
بِكَعْبَةٍ وَمَا لِغَيْرِهِ عُهِدْ
وهذا كله قد سبق، وإنما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَن الزُّهْرِيِّ) وفي رواية للبخاريّ في "كتاب الرِّقَاق": "سمعت الزهريّ يقول
…
" (قَالَ: أَخْبَرَني سَعيدٌ) هو ابن المسيّب الفقيه الحجة المدنيّ (وَعُرْوَةُ) بن الزبير بن العوّام الفقيه الحجة المدنيّ أيضًا (سَمِعَا) يقدّر قبله "أنّ" واسمها: أي أنهما سمعا (حَكِيمَ بْنَ حِزَام) رضي الله عنه (يَقُولُ: سأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي المالَ (فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِي، ثُمّ سَأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ) وفي الرواية الآتية-93/ 2603 - : ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا حكيم
…
" ("إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ) بفتح الخاء المعجمة، وكسر الضاد المعجمة، قال في "القاموس": والْخَضِرُ، كَكَتِفٍ: الْغُصن، والزرع، والْبَقْلَةُ الْخَضْرَاء، كالْخَضِرَة، والْخَضِيرِ انتهى (حُلْوَةٌ) بضمّ، فسكون: ضدّ الْمُرّة.
قال الزركشيّ -رحمه اللَّه تعالى-: تأنيث الخبر تنبيهٌ على أن المبتدأ مؤنّثٌ، والتقدير: أن صورة هذا المال، أو يكون التأنيث للمعنى؛ لأنه اسمٌ جامعٌ لأشياء كثيرة، والمراد بالخَضِرَة الروضة الخضراء، أو الشجرة الناعمة، والحلوة المستحلاة الطعم. انتهى
(1)
.
وقال العينيّ -رحمه اللَّه تعالى-: التأنيث: إما باعتبار الأنواع، أو الصورة، أو تقديرُهُ: كالفاكهة الخَضرَة الحُلْوَة، شبّهَ المالَ في الرغبة فيه بها، فإن الأخضر مرغوب من حيث النظر، والحلو من حيث الذّوقُ، فإذا اجتمعا زادا في الرغبة.
حاصله أن التشبيه في الرغبة فيه، والميل إليه، وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء المستلذّة، فإن الأخضر مرغوب فيه على انفراده، والحلو كذلك على انفراده، فاجتماعهما أشدّ، وفيه إشارة إلى عدم بقائه؛ لأن الخضروات لا تبقى، ولا تراد للبقاء.
قاله في "عمدة القاري"
(2)
. (فَمَنْ أَخَذَهُ) أي من أخذ المال الذي يُبذل له (بطِيبِ نَفْسٍ) أي مع طيّب نفس، فالباء للمصاحبة، يعني أنه أخذه من غير شَرَهٍ، ولا إلحاح. وفي الرواية الآتية في 93/ 2603 - :"بسخاوة نفس". قال القاضي: فيه احتمالان: أظهرهما أنه عائدٌ إلى الآخذ، أي من أخذه بغير حرصٍ، وطمع، وإشراف عليه.
والثاني: إلى الدافع، أي من أخذه ممن يدفعه منشرحًا بدفعه، طيّب النفس انتهى
(3)
(بُورِكَ لَهُ فِيهِ) أي جعل اللَّه تعالى البركة له في ذلك المال (وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشرَافِ نَفْسٍ)
(1)
- ذكره في "زهر الربى" ج 5 ص 60.
(2)
- "عمدة القاري" ج 9 ص 52.
(3)
- "عمدة القاري" ج 9 ص 52.
"الإشراف" على الشيء: الاطلاع عليه، والتعرّض له. وقيل: معنى إشراف النفس أن المسؤول يُعطيه عن تكرّه. وقيل: يريد به شدّة حرص السائل، وإشرافه على المسألة (لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ) الضمير في "له" يرجع إلى الآخذ، وفي "فيه" إلى المال المأخوذ، وإنما لم يبارك له فيه؛ لأنه لم يمنع نفسه عن المسألة التي هي مذمومة شرعًا، ولم يصُنْ ماء وجهه، فعوقب بعدم البركة فيما أخذ (وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ، وَلَا يَشْبَعُ) أي لا ينقطع اشتهاؤه، فيبقى في حيرة الطلب على الدوام، ولا يقضي شهواته التي لأجلها طلبُهُ، فكان كمن به الجوع الكاذب، المسمَّى بجوع الكلب، كلما ازداد أكلًا ازداد جوعًا؛ لأنه يأكل من سقم، وكلما أكل زاد سقمًا، ولا يجد شبعًا، ويزعم أهل الطبّ أن ذلك من غلبة السوداء، ويسمّونها الشهوة الكلبية، وهي صفة لمن يأكل، ولا يشبع
(1)
.
(وَالْيَدُ الْعُلْيَا) هي المنفقة على الصواب، كما صحّ تفسيره بذلك في الحديث الآتي قريبًا (خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) هي السائلة على الصواب أيضًا، وسيأتي بيان اختلاف أهل العلم في تفسير هذه الجملة بعد باب، إن شاء اللَّه تعالى.
وزاد في الرواية الآتيةِ في -93/ 2603 - : "قال حكيمٌ: فقلت: يا رسول اللَّه، والذي بعثك بالحقّ، لا أَرْزَأ أحدًا بعدك حتى أفارق الدنيا بشيء". ونحوه في رواية للبخاري، وزاد:"فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا إلى العطاء، فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه، فأبى أن يقبل منه شيئًا، فقال عمر: إني أُشهدكم يا معشر المسلمين على حكيمِ، أنّي أَعرِضُ عليه حقّه من هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيمٌ أحدًا من الناس بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى توفّي". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-50/ 1253 و 93/ 2601 و 2602 و 2603 - وفي "الكبرى" 52/ 2310 و 95/ 2382 و 2383 و 2384. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1428 و 1472 و "الوصايا" 2750 و"فرض الخمس" 3143 و"الرقاق" 6441 (م) في "الزكاة" 1034 و 1035 (د) في "الزكاة" 1676 (ت) في "صفة القيامة" 2463 (أحمد) في "مسند المكّيّين" 14893 و 14902 و 15146 (الدارميّ) في "الزكّاة" 1650 و"الرقاق" 2750. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
- راجع "عمدة القاري" ج 9 ص 52.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو كون اليد العليا -وهي المنفقة خيرًا من اليد السفلى -وهي السائلة-كما سيأتي تمام البحث فيه بعد باب، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): ما قاله المهلّب: إن سؤال السلطان الأكبر ليس بعار (ومنها): أن السائل إذا ألحف لا بأس بردّه، وموعظته، وأمره بالتعفف، وترك الحرص (ومنها): أن الإنسان لا يسأل إلا عند الحاجة والضرورة؛ لأنه إذا كانت يده السفلى مع إباحة المسألة، فهو أحرى أن يمتنع من ذلك عند غير الحاجة (ومنها): أن من كان له حقّ عند أحد، فإنه يأخذه إذا أتى، فإن كان مما لا يستحقه إلا ببسط اليد فلا يجبر على أخذه (ومنها): ما قاله ابن أبي جمرة: قد يقع الزهد مع الأخذ، فإن سخاوة النفس هو زهدها، تقول: سَخَتْ بكذا: أي جادت، وسخت عن كذا: أي لم تلتفت إليه (ومنها): أن الأخذ مع سخاوة النفس يُحصِّل أجر الزهد، والبركة في الرزق، فظهر أن الزهد يُحَصِّل خيري الدنيا والآخرة (ومنها): ضرب المثل لما لا يعقله السامع من الأمثلة؛ لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير، فبيّن بالمثال المذكور أن البركة هي خلق من خلق اللَّه تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون، فالآكل إنما يأكل ليشبع، فإذا أكل، ولم يشبع، كان عَناءً في حقّه بغير فائدة، وكذلك المال، ليست الفائدة في عينه، وإنما هي لما يتحصّل به من المنافع، فإذا كثر المال عند المرء بغير تحصيل منفعة، كان وجوده كالعدم (ومنها): أنه ينبغي للإمام أن لا يبيّن للطالب ما في مسألته من المفسدة إلا بعد قضاء حاجته؛ لتقع موعظته له الموقع؛ لئلا يتخيّل أن ذلك سبب لمنعه حاجته (ومنها): جواز تكرار السؤال ثلاثًا، وجواز المنع في الرابعة (ومنها): أن ردّ السائل بعد ثلاث ليس بمكروه (ومنها): أن الإجمال في الطلب مقرون بالبركة.
وزاد إسحاق بن راهويه في "مسنده" من طريق معمر، عن الزهريّ في آخره:"فمات حين مات، وإنه لمن أكثر قريش مالًا". وفيه أيضًا سبب ذلك، وهو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى حكيم بن حزام دون ما أعطى أصحابه، فقال: يا رسول اللَّه، ما كنت أظنّ أن تُقَصِّرَ بي، دون أحد من الناس، فزاده، ثم استزاده حتى رضي"، فذكر نحو الحديث. قاله في "الفتح"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- "فتح" ج 4 ص 99 - 100. "عمدة القاري" ج 9 ص 53.
51 - (بَابٌ أَيَّتُهُمَا الْيَدُ الْعُلْيَا؟)
2532 -
(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زِيَادِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ- عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، يَخْطُبُ النَّاسَ، وَهُوَ يَقُولُ: «يَدُ الْمُعْطِى الْعُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، أُمَّكَ، وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ، وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ، أَدْنَاكَ». مُخْتَصَرٌ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يوسف بن عيسى) بن دينار الزهريّ، أبو يعقوب المروزيّ ثقة فاضل [10] 32/ 924.
2 -
(الفضل بن موسى) السيناني المذكور قبل باب.
3 -
(يزيد بن زياد بن أبي الجعد) الأشجعيّ الغَطَفَانيّ الكوفيّ، صدوق [7].
قال أبو زرعة: شيخٌ. وقال أبو حاتم: ما بحديثه بأس، صالح الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف أربعة أحاديث برقم 2532 و 3734 و 4435 و 4148.
4 -
(جامع بن شدّاد) المحاربيّ، أبو صخّرة الكوفيّ ثقة [5] 108/ 145.
5 -
(طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ) هو: طارق بن عبد اللَّه المحاربيّ، من مُحارب خَصَفَة، صحابيٌّ نزل الكوفة، وله عند المصنّف ثلاثة أحاديث، تقدّم أحدها في -33/ 726 - :"إذا كنت تصلّي، فلا تبزقنّ بين يديك، ولا عن يمينك، وابصُق خلفك، أو تلقاء شمالك، إن كان فارغًا، وإلا فهكذا، وبزق تحت رجله، ودلكه". والثاني: حديث الباب. والثالث
(1)
: سيأتي في 42/ 4839: أن رجلًا قال: يا رسول اللَّه، هؤلاء بنو ثعلبة الذين قتلوا فلانًا في الجاهلية، فخذ لنا بثأرنا، فرفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، وهو يقول:"لا تجني أمٌّ على ولد" مرَّتين. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير يزيد كما مرّ آنفًا، وطارق، فإنه من رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين غير شيخه، وشيخ شيخه، فمروزيان. (ومنها): أن صحابيه من المقلين،
(1)
سيأتي قريبًا أن الثاني والثالث حديث واحد، وإنما فرق بينهما الرواد بالاختصار.
فليس له إلا الأحاديث، الثلاثة المذكورة آنفًا، الأول عند المصنف، وأبي داود، وابن ماجه، والثاني عند المصنف فقط، والثالث عنده، وعند ابن ماجه. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَدِمْنَا) بكسر الدال المهملة (الْمَدِينَةَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، يَخْطُبُ النَّاسَ، وَهُوَ يَقُولُ: "يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا") هذا نصّ واضح في أن معنى الحديث السابق: "واليد العليا خير من اليد السفلى"، وسيأتي تمام الكلام عليه في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى (وَابدَأْ) أي في العطاء (بِمَق تَعُولُ) أي بمن تجب عليك نفقته، يقال: عال الرجل أهله عَوْلًا، من باب قال: إذا مانهم، أي قام بما يحتاجون إليه، من قوت، وكسوة. وفيه تقديم نفقة نفسه وعياله؛ لأنها منحصرة فيه، بخلاف نفقة غيرهم (أُمَّكَ) يحتمل أن يكون منصوبًا بفعل محذوف، أي أعني أمّك الخ. أو منصوبًا على نزع الخافض، أي بأمّك الخ. ويحتمل أن يكون مجرورًا بدلًا من قوله:"من تعول". ويحتمل أن يكون مرفوعًا بتقدير: وهم أمكّ الخ، فعلى الوجهين الأخيرين يكون قوله (وَأَبَاكَ) - ومثلها "أخاك" - مقصورًا معربًا على الألف، على حدّ قول الشاعر:
إِن أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا
…
قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا
وهي لغة مشهورة، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
.............
…
وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ
(وَأُخْتَكَ، وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ) أي الأقرب إليك نسبًا (أَدْنَاكَ) الظاهر أنه معطوف بحرف الترتيب مقدّرًا، أي فأدناك (مُخْتَصَرٌ) خبر لمحذوف، أي هذا الحديث مختصر من حديث طارق المحاربيّ - رضي اللَّه تعالى عنه - المطوّل.
وقد ساقه الإمام الدارقطنيّ -رحمه اللَّه تعالى- بطوله في "سننه" جـ 3 ص 44 - 45، فقال: حدثنا أبو عبيد القاسم بن إسماعيل، نا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطّان، نا ابن نُمير، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، نا أبو صخّرة، جامع بن شدّاد، عن طارق ابن عبد اللَّه المحاربيّ، قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرّتين، مرّة بسوق ذي المجاز، وأنا في تباعة لي هكذا، قال: أبيعها، فمرّ، وعليه حلّة حمراء، وهو ينادي بأعلى صوته:"يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا اللَّه تفلحوا"، ورجلٌ يتبعه بالحجارة، وقد أدمى كعبيه، وعرقوبيه، وهو يقول: يا أيها الناس لا تطيعوه، فإنه كذّابٌ، قلت: من هذا؟ فقالوا: هذا غلام بني عبد المطّلب، قلت: من هذا الذي يتبعه، يرميه؟ قالوا: هذا عمه عبد العزّى، وهو أبو لهب، فلما ظهر الإسلام، وقدم المدينة أقبلنا في ركبٍ من الرَّبَذَة،
وجنوب الربذة، حتى نزلنا قريبًا من المدينة، ومعنا ظعينة لنا، قال: فبينا نحن قُعُودٌ، إذ أتانا رجلٌ عليه ثوبان أبيضان، فسلم علينا، فرددنا عليه، فقال:"من أين أقبل القوم؟ "، قلنا: من الرَّبَذَة، وجنوب الربذة، قال: ومعنا جمل أحمر، قال:"تبيعوني جملكم؟ "، قلنا: نعم، قال:"بكم؟ "، قلنا: بكذا وكذا صاعًا من تمر، قال: فما استوضعنا شيئًا، وقال:"قد أخذته"، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة، فتوارى عنّا، فتلاومنا بيننا، وقلنا: أعطيتم جملكم من لا تعرفونه، فقالت الظعينة: لا تَلَاوَمُوا، فقد رأيت وجه رجل ما كان ليَحقِركم، ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه، فلما كان العشاء أتانا رجلٌ، فقال: السلام عليكم، أنا رسول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إليكم، وأنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا، وتكتالوا، حتى تستوفوا، قال: فأكلنا حتى شبعنا، واكتلنا حتى استوفينا، فدما كان من الغد دخلنا المدينة، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، يخطب الناس، وهو يقول:، "يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمّك، وأباك، وأختك، وأخاك، وأدناك، أدناك"، فقام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول اللَّه، هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع الذين قتلوا فلانًا في الجاهليّة، فخذ لنا بثأرنا، فرفع يديه حتى رأينا بياض إبطيه، فقال:"ألا لا يجني والد على ولده". انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث طارق المحاربيّ رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا- 51/ 2532 - وفي "الكبرى" 53/ 2311.
وأخرجه (الداقطنيّ) في "سننه" 3/ 44 - 45 و (الطبراني) برقم 8175. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
52 - (الْيَدُ السُّفْلَى)
2533 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ، وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ-: «الْيَدُ الْعُلْيَا، خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ
(1)
- "سنن الدارقطنيّ" ج 3 ص 44 - 45.
السُّفْلَى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ، وَالْيَدُ السُّفْلَى السَّائِلَةُ»).
رجال هذا الإسناد: أربعة، وكلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (130) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك. (ومنها): أن هذا السند أصحّ الأسانيد على الإطلاق، على ما نقل عن الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة المشهورين بالفتوى، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ -وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ) جملة حاليّة، أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم يذكر فضل الصدقة، ويحضّ الغنيّ عليها (وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ-) ولفظ البخاريّ من طريق أيوب، عن نافع:"قال -وهو على المنبر، وذكر الصدقة، والتعفّف، والمسألة". والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم يحضّ الغنيّ على الصدقة، والفقير على التعفّف عن المسألة، أو يحضّه على التعفّف، ويذمّ المسألة.
(الْيَدُ الْعُلْيَا، خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) هذه الجملة هي مقول "قال". أي قال صلى الله عليه وسلم، والحال أنه يذكر الصدقة، والتعفّف:"اليدُ العليا خير من اليد السفلى"، ثم فسّر ذلك بقوله (وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ، وَالْيَدُ السُّفْلَى السَّائِلَةُ) قال أبو داود: قال الأكثر عن حماد بن زيد: "المنفقة"، وقال واحد عنه:"المتعفّفة"، وكذا قال عبد الوارث، عن أيوب انتهى.
قال الحافظ: فأما الذي قال عن حماد: "المتعفّفة" -بالعين، وفاءين- فهو مسدّدٌ، كذلك رويناه في "مسنده"، رواية معاذ بن المثنّى عنه، ومن طريقه أخرجه ابن عبد البرّ في "التمهيد"، وقد تابعه على ذلك أبو الربيع الزَّهْرانيّ، كما رويناه في "كتاب الزكاة" ليوسف بن يعقوب القاضي، حدثنا أبو الربيع.
وأما رواية عبد الوارث، فلم أقف عليها موصولة، وقد أخرجه أبو نُعيم في "المستخرج" من طريق سليمان بن حرب، عن حماد بلفظ:"واليد العليا يد المعطي". وهذا يدلّ على أن من رواه عن نافع بلفظ "المتعفّفة" فقد صحّف. قال ابن عبد البرّ: ورواه موسى بن عقبة، عن نافع، فاختلف عليه أيضًا، فقال حفص بن ميسرة، عنه:"المنفقة"، كما قال مالك. قال الحافظ: وكذا قال فضيل بن سليمان، عنه، أخرجه ابن حبّان من طريقه، قال: ورواه إبراهيم بن طهمان، عن موسى، فقال:"المنفقة"، قال
ابن عبد البرّ: رواية مالك أولى، وأشبه بالأصول، ويؤيده حديث طارق المحاربيّ، عند النسائيّ، قال: قدمنا المدينة، فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، يخطب الناس، وهو يقول:"يد المعطي العليا" انتهى. ولابن أبي شيبة، والبزّار، من طريق ثعلبة بن زهدم مثله. وللطبرانيّ بإسناد صحيح، عن حكيم بن حزام، مرفوعًا:"يد اللَّه فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد المعطَى، ويد المعطَى أسفل الأيدي". وللطبرانيّ من حديث الجذاميّ، مرفوعًا مثله. ولأبي داود، وابن خزيمة، من حديث أبي الأحوص عوف بن مالك، عن أبيه، مرفوعًا:"الأيدي ثلاثة: فيد اللَّه العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى". ولأحمد، والبزّار، من حديث عطية السعديّ:"اليد المعطية هي العليا، والسائلة هي السفلى".
[تنبيه]: هذه الأحاديث كلها واضحة في أن التفسير المذكور مرفوع، قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وقع تفسير اليد العليا والسفلى في حديث ابن عمر هذا، وهو نصّ يرفع الخلاف، ويدفع تعسّف من تعسّف في تأويله انتهى.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: لكن ادعى أبو العبّاس الدانيّ في "أطراف الموطإ" أن التفسير المذكور مدرجٌ في الحديث، ولم يذكر مستنده لذلك، ثم وجدت في "كتاب العسكري في الصحابة" بإسناد له، فيه انقطاعٌ، عن ابن عمر أنه كتب إلى بشر بن مروان أني سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اليد العليا خير من اليد السفلى، ولا أحسب اليد السفلى إلا السائلة، ولا العليا إلا المعطية". فهذا يشعر بأن التفسير من كلام ابن عمر، ويؤيّده ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر، قال:"كنا نتحدّث أن العليا هي المنفقة" انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن دعوى الإدراج المذكور غير صحيحة؛ لأن الحديث اتفق عليه الشيخان، مرفوعًا، وما ذكره الحافظ مما يؤيّد الدعوى المذكورة، فغير مقبول؛ لأن ما نقله من كتاب العسكري منقطع، كما اعترف هو به، وكذا ما نقله عن ابن أبي شيبة، ففي سنده سفيان الثوريّ، وهو وإن كان إمامًا، إلا أنه مدلّسٌ، وقد رواه بالعنعنة
(2)
، فكيف يُعارَض بمثل هذا ما اتفق الشيخان على صحته مرفوعًا؟، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
- "فتح" ج 4 ص 49.
(2)
- انظر "مصنّف ابن أبي شيبة" ج 3 ص 211.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-52/ 2533 - وفي "الكبرى" 54/ 2312. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1429 (م) في "الزكاة" 1033 (د) في "الزكاة" 1648 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4460 و 5322 و 5695 و 6003 و 6366 (الموطأ) 1881. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان أن اليد السفلى هي السائلة، كما أن الباب السابق فيه بيان أن اليد العليا هي المعطية، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى (ومنها): إباحة الكلام للخطيب أثناء خطبته بكلّ ما يصلح من موعظة، وعلم، وقُرَبٍ (ومنها): الحثّ على الإنفاق في وجوه الطاعة (ومنها): تفضيل الغِنَى مع القيام بحقوقه على الفقر؛ لأن العطاء إنما يكون مع الغنى (ومنها): كراهة السؤال، والتنفير عنه، ومحلّه إذا لم تدع إليه ضرورةٌ، من خوف هلاك ونحوه. وقد روى الطبرانيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بإسناد فيه مقالٌ، مرفوعًا:"ما المعطي من سَعَة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجًا. قاله في "الفتح"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): دلّت الأحاديث المتقدّمة المتضافرةُ على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية، وأن السفلى هي السائلة، وهذا هو المعتمد، وهو قول الجمهور.
وقيل: اليد السفلى الآخذة، سواء كان بسؤال، أم بغير سؤال. وهذا أباه قومٌ، واستندوا إلى أن الصدقة تقع في يد اللَّه قبل يد المتصَدَّق عليه. قال ابن العربيّ: التحقيق أن السفلى يد السائل، وأما يد الآخذ فلا؛ لأن يد اللَّه هي المعطية، ويد اللَّه هي الآخذة، وكلتاهما يمين انتهى.
قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن البحث إنما هو في أيدي الآدميين، وأما يد اللَّه تعالى، فباعتبار كونه مالك كلّ شيء نسبت يده إلى الإعطاء، وباعتبار قبوله للصدقة، ورضاه بها نسبت يده إلى الأخذ، ويده العليا على كلّ حال، وأما يد الآدميّ، فهي أربعة:
(أحدها): يد المعطي، وقد تضافرت الأخبار بأنها عليا.
(1)
- "فتح" ج 4 ص 51.
ثانيها: يد السائل، وقد تضافرت الأخبار أيضًا بأنها سفلى، سواء أخذت، أم لا، وهذا موافق لكيفيّة الإعطاء والأخذ غالبًا، وللمقابلة بين العلو والسفل المشتقّ منهما.
(ثالثها): يد المتعفّف عن الأخذ، ولو بعد أن تَمُدّ إليه يد المعطي مثلًا، وهذه توصف بكونها عُلْيا علوًّا معنويًّا.
(رابعها): يد الآخذ بغير سؤال، وهذه قد اختلف فيها، فذهب جمع إلى أنها سفلى، وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، وأما المعنويّ فلا يطّرد، فقد تكون عليا في بعض الصور، وعليه يُحمل كلام من أطلق كونها عليا.
قال ابن حبّان في "صحيحه": عندي أن اليد المتصدّقة أفضل من السائلة، لا الآخذة دون السؤال؛ إذ محالٌ أن تكون اليد التي أبيح لها استعمال فعل باستعماله، دون
(1)
من فرض عليه إتيان شيء، فأتى به، أو تقرّب إلى بارئه متنفّلًا فيه، وربما كان المعطي في إتيأنه ذلك أقلّ تحصيلًا في الأسباب من الذي أتى بما أبيح له، وربما كان هذا الآخذ لِمَا أُبيح له أفضل، وأورع من الذي يعطي، فلما استحال هذا على الإطلاق دون التحصيل بالتفضيل، صحّ أن معناه أن المتصدّق أفضل من الذي يسألها انتهى
(2)
.
وعن الحسن البصريّ: اليد العليا المعطية، والسفلى المانعة، ولم يوافق عليه.
وأطلق آخرون من المتصوّفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقًا. ونقل ابن قتيبة في "غريب الحديث" ذلك عن قوم، ثم قال: وما أرى هؤلاء إلا قومًا استطابوا السؤال، فهم يحتجّون للدناءة، ولو جاز هذا لكان المولى مِن فوقُ هو الذي كان رقيقًا، فأُعتق، والمولى من أسفلُ هو السيّد الذي أعتقه انتهى.
قال الحافظ: وقرأت في "مطلع الفوائد" للعلّامة جمال الدين ابن نُباتة في تأويل الحديث المذكور معنى آخر، فقال: اليد هنا هي النعمة، وكأنّ المعنى أن العطيّة الجزيلة خيرٌ من العطيّة القليلة. قال: وهذا حثّ على المكارم بأوجز لفظٍ، ويشهد له أحد التأويلين في قوله:"ما أبقت غنى"، أي ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله، كمن أراد أن يتصدّق بألف، فلو أعطاها لمائة إنسان لم يظهر عليهم الغنى، بخلاف ما لو أعطاها لرجل واحد، قال: وهو أولى من حمل اليد على الجارحة؛ لأن ذلك لا يستمرّ؛ إذ فيمن يأخذ من هو خيرٌ عند اللَّه ممن يعطي.
قال الحافظ: التفاضل هنا يرجع إلى الإعطاء والأخذ، ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الآخذ على الإطلاق. وقد روى إسحاق في "مسنده" من طريق عمر بن
(1)
- عبارة ابن حبان "أحسن" وما هنا من "الفتح"، وهو الظاهر.
(2)
- "صحيح ابن حبّان" ج 8 ص 150 - 151 بتحقيق شعيب الأرنؤوط.
عبد اللَّه بن عروة بن الزبير: أن حكيم بن حزام، قال: يا رسول اللَّه، ما اليد العليا؟ قال:"التي تعطي، ولا تأخذ". فقوله: "ولا تأخذ" صريح في أن الآخذة ليست بعليا. واللَّه أعلم.
قال: وكلّ هذه التأويلات المتعسّفة تَضمَحِلّ عند الأحاديث المتقدّمة المصرّحة بالمراد، فأولى ما فُسّر الحديث بالحديث.
ومُحصّل ما في الآثار المتقدّمة أن أعلى الأيدي المنفقة، ثم المتعفّفة عن الأخذ، ثم الآخذة بغير سؤال، وأسفل الأيدي السائلة، والمانعة. واللَّه أعلم انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- كلام حسنٌ جدًّا. والحاصل أن المذهب الحقّ في المسألة هو ما ذهب إليه الجمهور من أن اليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة؛ لوضوح دليله، وأما العكس فلا يؤيّده النقل، بل يدفعه، ويبطله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
53 - (الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنَى)
2534 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرٌ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ، مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا، خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ»).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
قتيبة المذكور في الباب الماضي.
2 -
(بكرٌ) بن مضر، أبو محمد المصريّ ثقة ثبت [8] 122/ 173.
3 -
(ابن عجلان) محمد المدني، صدوق اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة [5] 36/ 40.
4 -
(أبوه) عجلان مولى فاطمة بنت عتبة بن ربيعة المدنيّ، لا بأس به [4].
روى عن مولاته،، وأبي هريرة، وزيد بن ثابت. وعنه ابنه محمد، وبُكير بن
(1)
- "فتح" ج 4 ص 49 - 50.
عبد اللَّه بن الأشجّ، وإسماعيل بن أبي حبيبة، إن كان محفوظًا. قال النسائيّ: لا بأس به. وقال الآجرّي، عن أبي داود: لم يرو عنه غير ابنه محمد. وذكره ابن حبّان في "الثقات". علّق له البخاريّ، وأخرج له الباقون، وله عند المصنف حديثان، هذا 2534 و 2575 حديث:"ثلاثة لا يكلهم اللَّه عز وجل .. " الحديث.
5 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه -1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه فبغلاني، وشيخ شيخه، فمصري. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي، عن تابعي، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ، مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى) جملة من مبتدإ وخبر. أي إن أفضل الصدقة ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدّق به لنفسه، أو لمن تلزمه نفقته، وسيأتي اختلاف أهل العلم في تفسير المراد بقوله:"عن ظهر غنًى" في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى.
وقوله: (وَالْيَدُ الْعُلْيَا، خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ) قد تقدّم شرحه في الأبواب الماضية، فليُراجَع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -53/ 2534 و 60/ 2544 - وفي "الكبرى" 55/ 2313 و 62/ 2322. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1426 و"النفقات" 5355 و 5356 (د) في "الزكاة" 1676 (أحمد) في باقي مسند المكثرين" 7115 و 7301 و 7381 و 7683 و 7807 و 8878 و 8970 و 9330 و 9816 و 27278 و 10406 و 10437 (الدارميّ) في "الزكاة" 1651. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في معنى قوله: "ما كان عن ظهر غنًى":
قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: لفظ "الظهر" يَرِد في مثل هذا إشباعًا للكلام، والمعنى أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية، ولذلك قال بعده:"وابدأ بمن تعول".
وقال البغوي -رحمه اللَّه تعالى-: المراد غِنًى يَستظهِر به على النوائب التي تنوبه، ونحوه قولهم: ركب متن السلامة. والتنكير في قوله: "غنى" للتعظيم، هذا هو المعتمد في معنى الحديث. وقيل: المراد خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة.
وقيل: "عن" للسببية، و"الظهر" زائد، أي خير الصدقة ما كان سببها غنى في المتصدِّقِ.
وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: مذهبنا أن التصدّق بجميع المال مستحبّ لمن لا دين عليه، ولا له عيالٌ لا يصبرون، ويكون هو ممن يصبر على الإضاقة والفقر، فإن لم يجمع هذه الشروط فهو مكروه
(1)
.
وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المفهم": قوله: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى": أي ما كان من الصدقة بعد القيام بحقوق النفس، وحقوق العيال. وقال الخطّابيّ: أي متبرّعًا، أو عن غنًى يعتمده، ويستظهر به على النوائب. والتأويل الأول أولى، غير أنه يبقى علينا النظر في درجة الإيثار التي أثنى اللَّه بها على الأنصار، إذ قال:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الآية [الحشر: 9]. وقد روي أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من الأنصار ضافه ضيفٌ، فنَوّمَ صبيانه، وأطفا السّراج، وآثر الضيف بقوتهم
(2)
. وكذلك قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} الآية [الإنسان: 8]. أي على شدّة الحاجة إليه، والشهوة له، ولا شكّ أن صدقةَ مَن هذه حاله أفضل. وفي حديث أبي ذرّ رضي الله عنه:"أفضل الصدقة جهد مقلّ"
(3)
. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "سبق درهم مائة ألف
…
"
(4)
.
فقد أفاد مجموع ما ذكرنا أن صدقة المؤثر، والمقلّ أفضل، وحينئذ يثبت التعارض بين هذا المعنى، وبين قوله:"خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" على تأويل الخطّابيّ، فأما على ما أولنا به الغنى، فيرتفع التعارض.
وبيأنه أن الغِنَى يُعنى به في الحديث حصول ما تُدفع به الحاجة الضروريّة، كالأكل
(1)
- "فتح" ج4 ص 47 - 48.
(2)
- أخرجه البخاريّ في "صحيحه" في تفسير "سورة الحشر".
(3)
- صحيح تقدّم للمصنّف قبل ثلاثة أبواب، بلفظ "فأي الصدقة أفضل؟ قال:" جهد المقلّ".
(4)
- صحيح، تقدم في الباب المذكور أيضًا.
عند الجوع المشوّش، الذي لا صبر عليه، وستر العورة، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله، فهذا ونحوه مما لا يجوز الإيثار به، ولا التصدّق، بل يحرم، وذلك أنه إذا آثر غيره بذلك أدّى إلى هلاك نفسه، أو الإضرار بها، أو كشف عورته، فمراعاة حقّه أولى على كلّ حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صحّ الإيثار، وكانت صدقته هي الأفضلَ؛ لأجل ما يتحمّل من مضض الفقر، وشدّة مشقّته. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي وجّه به القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- هذا الحديث حسنٌ جدًّا، حيث تجتمع به الأدلّة، ويندفع به التعارض بينها.
وحاصله أن المراد بالغنى في قوله: "ما كان عن ظهر غنى" الغنى الذي يقوم معه على حقوق نفسه، وحقوق العيال، من دفع الحاجات الضروريّة التي لا بدّ للإنسان، كالأكل من جوع، واللبس من عري، ونحوهما، فما كان بعد ذلك من الصدقة، فهو أفضل؛ للنصوص التي وردت في مدح الإيثار، وإن كان معه نوع احتياج. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
54 - (تَفْسِيرُ ذَلِكَ)
أي هذا باب في ذكر الحديث الدّالّ على تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صدقة إلا عن ظهر غِنًى"، ووجه ذلك أن المراد بالغنى هو أن يستغني المتصدّق عما يتصدّق به، فلا يحتاجه لنفقة نفسه، ولا لنفقة من تلزمه نفقته، من زوجة، وولد، وخادم، ولا يراد الغنى المعروف عند الناس، وهو أن يكون كثير المال. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2535 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَصَدَّقُوا» ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي دِينَارٌ، قَالَ:«تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ» ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ:«تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ» ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ:«تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ» ، قَالَ: عِنْدِي
(1)
- "المفهم" ج 3 ص 80 - 81.
آخَرُ، قَالَ:"تَصَدَّق بِهِ عَلَى خَادِمِكَ"، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ:"أَنْتَ أَبْصَرُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عمرو بن علي) الفلاس البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.
2 -
(محمد بن المثنى) العنزي البصريّ، الثقة الثبت [10].
3 -
(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ الحجة الثبت [9] 4/ 4. والباقون تقدموا قريبًا، وسعيد هو المقبريّ. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من ابن عجلان، والباقون بصريون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِيِ هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَصَدَّقُوا، فَقَالَ: رَجُلٌ) لم أر من سمّاه (يا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي دِينَارٌ) أي وأريد أن أتصدّق به (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("تَصَدَّقْ بهِ عَلَى نَفْسِكَ) أي اقض به حوائج نفسك، وإنما قدّم النفس؛ لأنها أقرب قريب للإنسان، فتكون حقوقها مقدّمة على غيرها (قَال عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: "تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ) اختلفت الرواية في تقديم الولد على الزوجة، فقدّمها عليه في رواية المصنّف، وأحمد، وابن حبَّان، وابن حزم. وقدّمه عليها في رواية الشافعيّ، وأبي داود، والحاكم.
قال ابن حزم: اختلف يحيى القطّان، والثوريّ، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، فقدّم يحيى الزوجة على الولد، وقدّم سفيان الولد على الزوجة، فينبغي أن لا يقدّم أحدهما على الآخر، بل يكونان سواءً؛ لأنه صحّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلّم تكلّم ثلاثًا، فيحتمل أن يكون في إعادته إياه مرّة قدّم الولد، ومرّة قدّم الزوجة، فصارا سواءً.
قال الحافظ في "التلخيص" بعد ذكر كلام ابن حزم: ما نصّه: قلت: وفي "صحيح مسلم" من رواية جابر تقديم الأهل على الولد، من غير تردّد، فيمكن أن تُرجّح به إحدى الروايتين انتهى.
ولفظ حديث جابر عند مسلم، قال:"ابدأ بنفسك، فتصدّق عليها، فإن فَضَل شيء، فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء، فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا، وهكذا، يقول: فبين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك".
قال الشوكانيّ: يمكن ترجيح تقديم الزوجة على الولد بما وقع من تقديمها في حديث جابر رضي الله عنه انتهى.
وقال الطيبيّ: إنما قدّم الولد على الزوجة -أي في رواية الشافعيّ، وأبي داود، والحاكم- لشدّة افتقاره إلى النفقة، بخلافها، فإنه لو طلّقها، لأمكنها أن تتزوّج بآخر.
وقال الخطّابيّ في "المعالم": هذا الترتيب إذا تأملته علمت أنه صلى الله عليه وسلم قدّم الأولى، فالأولى، والأقرب، وهو أنه أمره بأن يبدأ بنفسه، ثمّ بولده لأن ولده كبعضه، فإذا ضيّعه هلك، ولم يجد من ينوب عنه في الإنفاق عليه، ثم ثلّث بالزوجة، وأخّرها عن درجة الولد لأنه إذا لم يجد ما يُنفق عليها فرّق بينهما، وكان لها من يمونها، من زوج، أو ذي رحم، تجب نفقتها عليه، ثم ذكر الخادم؛ لأنه يباع عليه إذا عجز عن نفقته، فتكون النفقة على من يبتاعه، ويملكه انتهى
(1)
.
(قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: "تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ") فيه دليلٌ على أن الأب يلزمه نفقة ولده المعسر، فإن كان صغيرًا، فذلك بالإجماع، وإن كان كبيرًا ففيه اختلاف.
قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: اختُلف في نفقة من بلغ من الأولاد، ولا مال له، ولا كسب، فأوجبت طائفة النفقة لجميع الأولاد، أطفالًا كانوا، أو بالغين، إناثًا، وذكرانًا، إذا لم يكن لهم أموال، يستغنون بها. وذهب الجمهور إلى أن الواجب أن ينفق عليهم حتى يبلغ الذكر، أو تتزوّج الأنثى، ثم لا نفقة على الأب إلا إن كانوا زمنى، فإن كانت لهم أموالٌ، فلا وجوب على الأب. وألحق الشافعيّ ولد الولد، وإن سفل بالولد في ذلك انتهى
(2)
.
(قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: "تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ) أي لأن نفقته واجبة على السيّد، حيث إنه يباع عليه إذا عجز عن نفقته، فتقدّم على الصدقة على سائر الأقرباء (قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ:"أَنْتَ أَبْصَرُ") أي أعلم بشأنه، فإن شئت تصدّقت به، وإن شئت أمسكته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح.
[فإن قيل]: في إسناده محمد بن عجلان، وقد اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة
(1)
- راجع "المرعاة" ج 6 ص 376.
(2)
- راجع "المرعاة" ج 6 ص 366.
- رضي الله عنه، فكيف يصحّ؟
[قلت]: يصحّ بشواهده، فقد تقدّم قريبًا حديث جابر رضي الله عنه، وغيره، وصححه ابن حبّان، والحاكم، وقال: على شرط مسلم
(1)
، ووافقه الذهبيّ، وصححه أيضا الشيخ أحمد شاكر، والشيخ الألباني. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا -54/ 2535 - وفي "الكبرى" 56/ 2314. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1691 (الشافعيّ) في "مسنده" 209 (أحمد) 7413 و 10088 (ابن حبّان) في "صحيحه" 4219 (الحاكم) في "المستدرك" ج 1 ص 415 .. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان معنى "الصدقة عن ظهر غنى".
(ومنها): أن الواجب على الشخص في النفقة أن يقدم نفسه، ثم الأقرب، فالأقرب (ومنها): وجوب نفقة الزوجة، وهو مجمع عليه (ومنها): وجوب نفقة الأولاد، وقد تقدّم قريبًا اختلاف أهل العلم فيه (ومنها): وجوب نفقة الخادم (ومنها): أن المتطوّع بالصدقة غير بين أن يتصدّق، وبين أن يترك، فلا تجب عليه الصدقة، إلا الزكاة، وصدقة الفطر، أو ما يكون لعارض، كما إذا وجد مضطرًّا، على ما قدّمنا تفصيله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
55 - (بَابٌ إِذَا تَصَدَّقَ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، هَلْ يُرَدُ عَلَيْهِ)
أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على أن من تصدق بما يحتاج إليه هل تبطل صدقته، وتردّ عليه، والجواب نعم، كما هو القول الراجح، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(1)
- لكن فيه نظر، فإن محمد بن عجلان لم يخرج له مسلم، إلا في المتابعات، لا محتجًّا به، انظر "تهذيب التهذيب" ج 3 ص 647.
2536 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ عِيَاضٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَقَالَ:«صَلِّ رَكْعَتَيْنِ» ، ثُمَّ جَاءَ الْجُمُعَةَ الثَّانِيَةَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَقَالَ:«صَلِّ رَكْعَتَيْنِ» ، ثُمَّ جَاءَ الْجُمُعَةَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ:«صَلِّ رَكْعَتَيْنِ» ، ثُمَّ قَالَ:«تَصَدَّقُوا» ، فَتَصَدَّقُوا، فَأَعْطَاهُ ثَوْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ:«تَصَدَّقُوا» ، فَطَرَحَ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَمْ تَرَوْا إِلَى هَذَا، إِنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ بِهَيْئَةٍ بَذَّةٍ، فَرَجَوْتُ، أَنْ تَفْطُنُوا لَهُ، فَتَصَدَّقُوا
(1)
عَلَيْهِ، فَلَمْ تَفْعَلُوا، فَقُلْتُ: تَصَدَّقُوا، فَتَصَدَّقْتُمْ، فَأَعْطَيْتُهُ ثَوْبَيْنِ، ثُمَّ قُلْتُ: تَصَدَّقُوا، فَطَرَحَ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ، خُذْ ثَوْبَكَ» ، وَانْتَهَرَهُ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد: خمسة: وقد تقدّموا في الباب الماضي، سوى:
1 -
(عياض) بن عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري المكي، ثقة [3] 26/ 1408.
2 -
(أبو سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخدري - رضي اللَّه تعالى عنهما - 169/ 262.
والحديث صحيح، وقد تقدّم في 26/ 1408 - رواه عن محمد بن عبد اللَّه بن يزيد، عن سفيان، عن ابن عجلان به، وتقدّم شرحه، والكلام على مسائله، وبقي الكلام على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، فأقول:
(مسألة): في حكم التصدّق مع الحاجة إلى المال:
قال الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه": ومن تصدّق، وهو محتاجٌ، أو أهله محتاجٌ، أو عليه دين، فالدين أحقّ أن يُقضَى من الصدقة، والعتق، والهبة، وهو ردٌّ عليه، ليس له أن يُتلِفَ أموال الناس، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من أخذ أموال الناس يُريد إتلافها أتلفه اللَّه"، إلا أن يكون معروفًا بالصبر، فيؤثر على نفسه، ولو كان به خصاصةٌ، كفعل أبي بكر رضي الله عنه حين تصدّق بماله. وكذلك آثر الأنصار المهاجرين. ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، فليس له أن يضيّع أموال الناس بعلّة الصدقة. وقال كعب بن مالك رضي الله عنه: قلت: يا رسول اللَّه، إن من تمام توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى اللَّه، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قال:"أمسك عليك بعض مالك، فهو خيرٌ لك"، قلت: أُمسِك
سهمي الذي بخيبر. انتهى كلام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
.
وقال الطبريّ وغيره: قال الجمهور: من تصدّق بماله كلّه في صحّة بدنه وعقله،
(1)
- وفي نسخة: "فتصدقوا" بتاء واحدة.
(2)
- راجع "صحيح البخاريّ" ج 4 ص 45 بنسخة "الفتح".
حيث لا دينَ عليه، وكان صبورًا على الإضاقة، ولا عيال له، أو له عيالٌ يصبرون أيضًا، فهو جائزٌ، فإن فُقد شيء من هذه الشروط كُرِه. وقال بعضهم: هو مردودٌ. ورُوي عن عمر رضي الله عنه، حيث رَدّ على غيلان الثقفيّ قسمة ماله.
ويمكن أن يُحتجّ له بقصّة المدبّر، الذي سيأتي للمصنّف برقم -60/ 2556 - وأخرجه الشيخان، عن جابر رضي الله عنه، قال: أعتق رجل من بني عُذْرَة، عبدا له، عن دبر، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"ألك مال غيره؟ "، فقال: لا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من يشتريه مني؟ "، فاشتراه نعيم بن عبد اللَّه العدويّ، بثمان مائة درهم، فجاء بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فدفعها إليه، ثم قال: "ابدأ بنفسك، فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك، فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا، وهكذا، يقول: بين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك. وفي لفظ للبخاريّ أن رجلًا أعتق غلاما له عن دبر، فاحتاج
…
" الحديث.
فهذا الحديث يدلّ على أن من تصدّق، وهو محتاجٌ يردّ عليه، ولا تنفذ صدقته.
وقال آخرون: يجوز من الثلث، ويُردّ عليه الثلثان. وهو قول الأوزاعيّ، ومكحول.
وعن مكحول أيضًا يُردّ ما زاد على النصف.
قال الطبريّ -رحمه اللَّه تعالى-: والصواب عندنا الأول، من حيث الجواز، والمختار من حيث الاستحباب أن يجعل ذلك من الثلث، جمعًا بين قصّة أبى بكر، وحديث كعب. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما قال الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- هو الأرجح، وحاصله أن من تصدق بماله، وهو محتاجٌ، أو أهله، أو عليه دينٌ، بطلت صدقته، إلا أن يكون معروفًا بالصبر، كفعل أبي بكر رضي الله عنه، وبهذا تجتمع الأدلّة، من غير تعارض. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- راجع "الفتح" ج 4 ص 45 - 47.
56 - (صَدَقَةِ الْعَبْدِ)
أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالّين على جواز صدقة العبد.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أما الحديث الأول فدلالته على الترجمة واضحة، وأما الحديث الثاني، فمحلّ الاستدلال منه قوله:"على كلّ مسلم الخ"، حيث إن العبد داخل في جملة "كلّ مسلم"، فعليه ما عليهم، ومنه الصدقة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
2537 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَيْرًا، مَوْلَى آبِى اللَّحْمِ، قَالَ: أَمَرَنِي مَوْلَايَ، أَنْ أُقَدِّدَ لَحْمًا، فَجَاءَ مِسْكِينٌ، فَأَطْعَمْتُهُ مِنْهُ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ مَوْلَايَ، فَضَرَبَنِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَاهُ، فَقَالَ: «لِمَ ضَرَبْتَهُ؟» ، فَقَالَ: يُطْعِمُ طَعَامِي، بِغَيْرِ أَنْ آمُرَهُ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: بِغَيْرِ أَمْرِي، قَالَ: «الأَجْرُ بَيْنَكُمَا»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد المذكور قبل بابين.
2 -
(حاتم) بن إسماعيل الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوق يَهم، صحيح الكتاب [8] 24/ 543.
3 -
(يزيد بن أبي عبيد) الأسلميّ مولى سلمة بن الأكوع، ثقة [4] تقدم في 67/ 191.
4 -
(عمير مَوْلَى آبِي اللَّحْم) الغفاريّ، صحابي شهد خيبر، وعاش إلى آخر السبعين، وتقدّمت ترجمته في 9/ 1514. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (131) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن صحابيه من المقلين من الرواية، فليس له في الكتب الستة، إلا ثلاثة أحاديث، حديث الباب عند مسلم، والمصنف، وابن ماجه، وحديث: "شهدتُ خيبر مع سادتي، فكلموا فيّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
…
" الحديث عند أبي داود، والترمذي، والمصنف في "الكبرى"، وابن ماجه، وحديث "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي عند أحجار الزيت
…
" الحديث عند أبي داود، والمصنف تقدم في 9/ 1514. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ) الأسلمي مولى سلمة بن الأكوع أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عُمَيْرًا)
بالتصغير (مَوْلَى آبِي اللَّحْم) الغفاريّ رضي الله عنه (قَالَ: أَمَرَنِي مَوْلَايَ أَنْ أُقَدِّدَ لَحْمًا) بضم الهمرّة، وكسر الدال المشدَّدة، من القَدّ، وهو الشقّ طولًا (فَجَاءَ مِسْكِينٌ، فَأَطْعَمْتُهُ مِنْهُ) أي أعطيته من ذلك اللحم (فَعَلِمَ بِذَلِكَ مَوْلَايَ، فَضَرَبَنِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَاهُ، فَقَالَ: "لِمَ ضَرَبْتَهُ؟ "، فَقَالَ) وفي نسخة: "قال"(يُطْعِمُ طَعَامِي، بغَيْرِ أَنْ آمُرَهُ) أي بغير إذني (وَقَال مَرَّةً أُخْرَى: بغَيْرِ أَمْرِي) الظاهر أنّ ضمير "قال" لعمير، أي أنه حدّثه بهذا الحديث مرّتين، فمرّة قال:"بغير أن آمره"، ومرّة قال:"بغير أمري"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الْأَجْرُ بَيْنَكُمَا") أي إن رضيت بذلك يحلّ له إعطاء مثل هذا، مما يجري فيه المسامحة، وتؤجران معًا. قال الطيبيّ أخذًا عن التوربشتيّ: لم يرد به إطلاق يد العبد، بل كره صنيع مولاه في ضربه على أمر تبيّن رشده فيه، فحثّ السيّد على اغتنام الأجر، والصفح عنه، فهذا تعليم، وإرشاد لآبي اللحم، لا تقرير لفعل العبد انتهى.
وقال النوويّ: هذا محمول على أن عميرًا تصدق بشيء ظن أن مولاه يرضى به، ولم يرض به مولاه، فلعمير أجرٌ؛ لأنه فعل شيئًا يعتقده طاعة بنيّة الطاعة، ولمولاه أجرٌ؛ لأن ماله أُتلف عليه، وقوله:"الأجر بينكما": أي لكلّ منكما أجرٌ، وليس المراد أنّ أجر نفس المال يتقاسمانه. فهذا الذي ذكرته من تأويله هو المعتمد، وقد وقع في كلام بعضهم ما لا يُرتضى من تفسيره.
وقال قبل ذلك: وقوله صلى الله عليه وسلم: "الأجر بينكما": ليس معناه أن الأجر الذي لأحدهما يزدحمان فيه، بل معناه أن هذه الصدقة التي أخرجها الخازن، أو المرأة، أو المملوك، ونحوهم بإذن المالك يترتّب على جملتها ثوابٌ على قدر المال والعمل، فيكون ذلك مقسومًا بينهما، لهذا نصيبٌ بماله، ولهذا نصيبٌ بعمله، فلا يزاحم صاحب المال العامل في نصيب عمله، ولا يزاحم العامل صاحب المال في نصيب ماله.
(واعلم): أنه لا بد للعامل، وهو الخازن، وللزوجة، والمملوك من إذن المالك في ذلك، فإن لم يكن أذن أصلًا، فلا أجر لأحد من هؤلاء الثلاثة، بل عليهم وزرٌ بتصرّفهم في مال غيرهم بغير إذنه، والإذن ضربان: أحدهما: الإذن الصريح في النفقة، والصدقة. والثاني: الإذن المفهوم من اطّراد العرف والعادة، كإعطاء السائل كسرةً ونحوها، مما جرت العادة به، واطّرد العرف فيه، وعُلم رضاء الزوج، والمالك به، فإذنه في ذلك حاصلٌ، وإن لم يتكلّم، وهذا إذا عُلم رضاه لاطراد العرف، وعُلم أن نفسه كنفوس غالب الناس في السماحة بذلك، والرضا به، فإن اضطرب العرف، وشُكّ في رضاه، أو كان شخصًا يشحّ بذلك، وعُلم من حاله ذلك، أو شكّ فيه، لم يجز للمرأة، وغيرها التصدّق مما ماله إلا بصريح إذنه. انتهى
(1)
.
(1)
- "شرح مسلم" ج 7 ص 114.
وفي رواية لمسلم، من طريق محمد بن زيد، عن عمير، قال: كنت مملوكًا، فسألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أتصدّق من مال مواليّ بشيء؟، قال:"نعم، والأجر بينكما نصفان".
قال النوويّ: معنى قوله: "نصفان": قسمان، وإن كان أحدهما أكثر، كما قال الشاعر:
إِذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ نِصْفَانِ شَامِتٌ
…
وَآخَرُ مُثْنٍ بِالَّذي كُنْتُ أَصْنَعُ
وأشار القاضي إلى أنه يحتمل أيضًا أن يكون سواء؛ لأن الأجر فضلٌ من اللَّه تعالى، يؤتيه من يشاء، ولا يُدرك بقياس، ولا هو بحسب الأعمال، بل ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء. والمختار الأول انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما قاله القاضي هو المختار. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عمير رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-56/ 2537 - وفي "الكبرى" 58/ 2317. وأخرجه (م) في "الزكاة" 1025 (ق) في "الزكاة" 2297. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز تصدّق العبد من مال سيّده بغير إذنه، وهذا كما تقدّم، محمول على ما جرى به العرف، من الطعام، ونحوه (ومنها): أن العبد والسيّد يؤجران به، السيّد بماله، والعبد بعمله (ومنها): جواز تأديب السيّد عبده إذا أساء، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما لام مولى عُمير على ضربه مطلقًا، وإنما أرشده أن فعله هذا لا يستحقّ الضرب، حيث إنه ماذون له شرعًا، نظرًا لما جرى به العرف، وأنه يؤجر عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
2538 -
(أَخْبَرَنِي
(2)
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،
(1)
- "شرح مسلم" ج 7 ص 113.
(2)
- وفي نسخة: "أخبرنا".
قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ» ، قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْهَا؟ ، قَالَ:«يَعْتَمِلُ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَيَتَصَدَّقُ» ، قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ ، قَالَ:«يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ» ، قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: «يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ» ، قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ ، قَالَ:«يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ» ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة [10] 5/ 5.
2 -
(خالد) بن الحارث الْهُجَيمي البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.
4 -
(ابن أبي بردة) هو: سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقة ثبت [5].
قال الميمونيّ عن أحمد بن حنبل: بَخٍ، ثبتٌ في الحديث. وقال ابن معين، والنسائيّ، والعجليّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات".
وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": لم يسمع ابن أبي بردة من ابن عمر شيئًا، إنما يروي عن أبيه عنه، وروايته عن جدّه منقطعة، لم يسمع منه شيئًا. وقال الصريفينيّ: مات سنة (168) قال الحافظ: كذا بخطّ مغلطاي، ولعلّه "وثلاثين" بدل "وستين" انتهى. روى له الجماعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب أربعة أحاديث برقم 2538 و 5384 و 5426 و 5597.
5 -
(أبوه) أبو بردة عامر، وقيل: الحارث، ابن أبي موسى الأشعريّ الكوفي، ثقة [3] 3/ 3.
6 -
(أبو مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس الأشعريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدم في 3/ 3. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه عن جدّه، وتابعي، عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه، (عَنِ النَّيِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ
صَدَقَةٌ") أي على سبيل الاستحباب المتأكّد، أو على ما هو أعم من ذلك، والعبارة صالحة للإيجاب، والاستحباب، كقوله صلى الله عليه وسلم: "على المسلم ستّ خصال
…
"، فذكر منها ما هو مستحبّ اتفاقًا. وزاد أبو هريرة رضي الله عنه في حديثه تقييد ذلك بكلّ يوم.
ولمسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"يُصبح على كل سُلامَى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان، يركعهما من الضحى".
و"السُّلَامى" بضمّ المهملة، وتخفيف اللام: المفصل.
وله من حديث عائشة رضي الله عنها، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"إنه خلق كل إنسان، من بني آدم، على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر اللَّه، وحمد اللَّه، وهلل اللَّه، وسبح اللَّه، واستغفر اللَّه، وعزل حجرا عن طريق الناس، أو شوكة، أو عظما، عن طريق الناس، وأَمَر بمعروف، أو نهى عن منكر، عَدَدَ تلك الستين والثلاثمائة السُّلامَى، فإنه يمشي يومئذ، وقد زحزح نفسه عن النار"
(1)
.
(قِيلَ) وفي نسخة": "فقيل"، وفي رواية البخاريّ: "قالوا: يا نبيّ اللَّه، فمن لم يجد" (أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْهَا؟) أي إن لم يجد الصدقة. قال في "الفتح": كأنهم فهموا من لفظ الصدقة العطيّة، فسألوا عمن ليس عنده شيء من المال، فبيّن لهم أن المراد بالصدقة ما هو أعمّ من ذلك، ولو بإغاثة الملهوف، والأمر بالمعروف. وهل تلتحق هذه الصدقة بصدقة التطوّع التي تحسب يوم القيامة من الفرائض الذي أخلّ به؟ فيه نظر، الذي يظهر أنها غيرها؛ لما تبيّن من حديث عائشة رضي الله عنها المذكور أنها شُرعت بسبب عتق المفاصل، حيث قال في آخر هذا الحديث:"فإنه يُمسي يومئذ، وقد زَحْزَح نفسه عن النار". انتهى
(2)
.
(قَالَ: "يَعْتَمِلُ") افتعال من العمل، للمبالغة، وفي رواية البخاريّ:"فيعمل"(بِيَدِهِ) وفي نسخة: "بيديه"(فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ) بما يكتسبه من صناعة، وتجارة، ونحوهما بإنفاقه عليها، ومن تلزمه نفقته، ويستغني بذلك عن ذلّ السؤال لغيره (وَيَتَصَدَّقُ) وفي نسخة:"فيتصدّق"، أي ينفع غيره بإعطاء الصدقة، ويكتسب الأجر.
قال القسطلاّنيّ: وقوله: "فيعمل، وينفع، ويتصدّق" بالرفع في الثلاثة خبر بمعنى الأمر. قاله ابن مالك.
(1)
- راجع "صحيح مسلم" ج 7 ص 93 - 94.
(2)
- راجع "الفتح" ج 4 ص 63.
(قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟) ذلك عجزًا، أو كسلًا. وفي رواية البخاريّ:"فإن لم يجد". وفي رواية مسلم: "أرأيت إن لم يستطع"(قَالَ: "يُعِينُ") أي بالفعل، أو بالقول، أو بهما (ذَا الْحَاجَةِ) أي صاحب الاحتياج إلى المعونة (الْمَلْهُوفَ) بالنصب نعت لـ "ذا الملهوف". أي المستغيث، وهو أعمّ من أن يكون مظلومًا، أو عاجزًا. قاله في "الفتح".
وقال النوويّ: الملهوف عند أهل اللغة يُطلق على المتحسّر، وعلى المضطرّ، وعلى المظلوم، وقولهم: يا لهفَ نفسي على كذا كلمة يُتحسّر بها على ما فات، ويقال: لَهِفَ -بكسر الهاء- يَلْهَفُ -بفتحها- لَهْفًا،-بإسكانها-: أي حزن، وتحسّر، وكذلك التلهّف انتهى
(1)
.
(قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟) ولمسلم: "أرأيت إن لم يستطع"(قَالَ: "يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ) يشمل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإفادة العلميّة، والإفادة العمليّة، والنصيحة العمليّة. وللبخاري:"فليعمل بالمعروف". ولمسلم: "يأمر بالمعروف، أو الخير"(قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟) أي لم يتيسّر له ذلك (قَالَ: "يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ) قال في "الفتح": كذا وقع بضمير المؤنّث، وهو باعتبار الخصلة من الخير، وهو الإمساك، ووقع في رواية "الأدب":"فإنه" أي الإمساك "له" أي للممسك. قال الزين ابن المنيّر: إنما يحصل ذلك للممسك عن الشرّ، إذا نوى بالإمساك القربة، بخلاف محض الترك، والإمساك أعمّ من أن يكون عن غيره، فكأنه تصدّق عليه بالسلامة منه، فإن كان شرّه لا يتعدّى نفسه، فقد تصدّق على نفسه بأن منعها من الإثم، قال. وليس ما تضمّنه الخبر من قوله:"فإن لم يجد" ترتيبًا، وإنما هو للإيضاح لما يفعله مَنْ عجز عن خصلة من الخصال المذكورة، فإنه يمكنه خصلة أخرى، فمن أمكنه أن يعمل بيده، فيتصدّق، وأن يُغيث الملهوف، وأن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويمسك عن الشرّ، فليفعل الجميع.
ومحصّل ما ذُكر في حديث الباب أنه لا بدّ من الشفقة على خلق اللَّه تعالى، وهي إما بالمال، أو غيره، والمال إما حاصلٌ، أو مكتسبٌ، وغير المال إما فعلٌ، وهو الإغاثة، وإما تركٌ، وهو الإمساك.
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة -رحمه اللَّه تعالى-: ترتيب هذا الحديث أنه نَدَبَ إلى الصدقة، وعند العجز عنها ندب إلى ما يقرُب منها، أو يقوم مقامها، وهو العمل،
(1)
- "شرح مسلم" ج 7 ص 95 - 96.
والانتفاع، وعند العجز عن ذلك ندب إلى ما يقوم مقامه، وهو الإغاثة، وعند عدم ذلك ندب إلى فعل المعروف، أي مِن سوى ما تقدّم كإماطة الأذى، وعند عدم ذلك ندب إلى الصلاة، فإن لم يُطق، فترك الشرّ، وذلك آخر المراتب. قال: ومعنى الشرّ هنا ما منعه الشرع، ففيه تسلية للعاجز عن فعل المندوبات، إذا كان عجزه عن ذلك من غير اختيار انتهى.
قال الحافظ: وأشار بالصلاة إلى ما وقع في آخر حديث أبي ذرّ رضي الله عنه عند مسلم: "وُيجزىء عن ذلك كلّه ركعتا الضّحى". وهو يؤيّد ما قدّمناه أن هذه الصدقة لا يكمّل منها ما يختلّ من الفرض؛ لأن الزكاة لا تكمّل بالصلاة، ولا العكس، فدلّ على افتراق الصدقتين.
واستشكل الحديث مع تقدّم ذكر الأمر بالمعروف، وهو من فروض الكفاية، فكيف تجزئ عنه صلاة الضّحى، وهي من التطوّعات؟.
وأجيب يحمل الأمر هنا على ما إذا حصل من غيره، فسقط به الفرض، وكان في كلامه هو زيادة في تأكيد ذلك، فلو تركه أجزأت عنه صلاة الضّحى. قال الحافظ: كذا قيل. وفيه نظرٌ، والذي يظهر أن المراد أن صلاة الضحى تقوم مقام الثلاثمائة وستّين حسنةً التي يُستحبّ للمرء أن يسعى في تحصيلها كلّ يوم؛ لِيُعتق مفاصله التي هي بعددها، لا أن المراد أن صلاة الضحى تغني عن الأمر بالمعروف، وما ذُكر معه، وإنما كان كذلك؛ لأن الصلاة عملٌ بجميع الجسد، فتتحرّك المفاصل كلّها فيها بالعبادة.
ويحتمل أن يكون ذلك لكون الركعتين تشتملان على ثلاثمائة وستين ما بين قول وفعل، إذا جعلت كلّ حرف من القراءة مثلًا صدقةً، وكأنّ صلاة الضحى خُصّت بالذكر؛ لكونها أوّل تطوّعات النهار بعد الفرض، وراتبته. وقد أشار في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه إلى أن صدقة السّلامَى نهاريّة؛ لقوله:"يصبح على كلّ سُلامَى من أحدكم". وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "كلّ يوم تطلع فيه الشمس". وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "فيمسي، وقد زحزح نفسه عن النار". انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
وهو بحث نفيس جدًّا.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
- راجع "الفتح" ج 4 ص 64.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-56/ 2538 - وفي "الكبرى" 58/ 2318. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1445 (م) فيها 1008 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 19027 و 19187 (الدارميّ) في "الرقاق" 2747. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز صدقة العبد، ومحلّ الاستدلال من حديث أبي موسى رضي الله عنه هذا قوله:"على كلّ مسلم صدقة"، ووجه ذلك أن العبد داخلٌ في عموم "كلّ مسلم"، فهو مأمور بأن يتصدّق، كما أُمر غيره من عموم المسلمين.
(ومنها): أن أنواع الصدقة لا يُقتصر فيها على الأموال فقط، بل كلّ ما كان فيه نفعٌ يُعَدّ صدقة (ومنها): أن الأحكام تجري على الغالب؛ لأن في المسلمين من يأخذ الصدقة المأمور بصرفها، وقد قال:"على كلّ مسلم صدقة"(ومنها): أن فيه مراجعة العالم في تفسير المجمل، وتخصيص العامّ (ومنها): أن فيه فضل التكسب؛ لما فيه من الإعانة (ومنها): أن فيه التنبيهَ على العمل، والتكسّب؛ ليجد المرء ما ينفق على نفسه، ويتصدّق به، ويُغنيه عن ذل السؤال (ومنها): أن فيه الحثَّ على فعل الخير، مهما أمكن، وأنّ من قصد شيئًا منها، فتعسّر عليه، انتقل إلى غيره، مما يسهل عليه (ومنها):
أن فيه تقديم النفس على الغير في "الإحسان" والمراد بالنفس ذات الشخص، وما يلزمه.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
57 - (صَدَقةُ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا)
2539 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِذَا تَصَدَّقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، كَانَ لَهَا أَجْرٌ، وَلِلزَّوْجِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَا يَنْقُصُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مِنْ أَجْرِ صَاحِبِهِ شَيْئًا، لِلزَّوْجِ بِمَا
كَسَبَ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ»).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(محمد بن المثنى) المذكور قبل بابين 64/ 80.
2 -
(محمد بن بشار) أبو بكر بُندار البصري، ثقة حافظ [10] 24/ 27.
3 -
(محمد بن جعفر) غندر البصري، ثقة [9] 21/ 22.
4 -
(شعبة) المذكور في الباب الماضي 24/ 47.
5 -
(عمرو بن مرّة) بن عبد اللَّه بن طارق الجملي الكوفي الأعمى، ثقة عابد، رمي بالإرجاء [5] 171/ 265.
6 -
(أبو وائل) شقيق بن سلمة الكوفي، ثقة مضرم [2] 2/ 2.
7 -
(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنه - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وبالكوفيين بعده. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيٍّ، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِذَا تَصَدَّقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا) أي بشرط عدم إسرافها، كما هو مقيّد به في روايات أُخْرَى، ففي رواية للشيخين:"إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها، غيرَ مفسدة". وفي رواية للبخاريّ: "إذا تصدّقت المرأة من طعام زوجها، غير مفسدة". وفي رواية له: "إذا أطعمت المرأة من بيت زوجها، غير مفسدة". فقوله: "غير مفسدة" بالنصب على الحال، أي غير مسرفة في التصدّق بأن لا تتعدّى إلى الكثرة المؤدّية إلى النقص الظاهر.
وهذا محمولٌ على إذن الزوج لها بذلك صريحًا، أو دلالةً، كعادة أهل الحجاز، ومن كان مثلهم في الكرم، فإن عادتهم أنهم يأذنون لزوجاتهم، وخَدَمهم بأن يضيفوا الأضياف، ويُطعموا السائل، والمسكين، والجيران، فحرّض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمته على هذه العادة الحسنة، والخصال المستحسنة.
قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المعالم": هذا الكلام خارج على عادة الناس بالحجاز، وبغيرها من البلدان في أنّ ربّ البيت قد يأذن لأهله، ولعياله، وللخادم، مما
يكون في البيت، من طعام، وإدام، ونحوه، ويطلق أمرهم في الصدقة منه، إذا حضرهم السائل، ونزل بهم الضيف، فحضّهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على لزوم هذه العادة، واستدامة ذلك الصنيع، ووعدهم الأجر والثواب عليه، وأفرد كلّ واحد منهم باسمه، ليتسارعوا إليه، ولا يتقاعدوا عنه انتهى كلام الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
(كَانَ لَهَا أَجْرٌ، وَللزَّوْجِ مِثْلُ ذَلِكَ) الأجرِ (وَلِلْخَازِنِ) هو الذي يكون بيده حفظ الطعام والمأكول، من خادم، وقَهْرَمان، وَقَيِّمٍ لأهل المنزل ونحو ذلك، من أمر الناس، وعاداتهم في كلّ أرض، وبلد، وليس ذلك بأن تفتات المرأة، أو الخازن على ربّ البيت بشيء، لم يؤْذَنْ لهما فيه، ولم يُطلق لهما الإنفاق منه، بل يُخاف أن يكونا آثمين إن فعلا ذلك. قاله الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى- (مِثْلُ ذَلِكَ) الأجر (وَلَا يَنْقُصُ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمَا) أي من الزوج والزوجة، وهما الأصل، والخادم تابعٌ لهما، فلذا ترك ذكره (مِنْ أَجْرِ صَاحِبِهِ شَيْئًا، لِلزَّوْجِ بِمَا كَسَبَ) أي بسبب كسبه المال الذي منه تلك الصدقة (وَلَهَا) أي للزوجة ("بِمَا أَنْفَقَتْ") أي بسبب إنفاقها.
قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: معنى هذه الأحاديث -يعني حديث عائشة هذا، وحديث أبي هريرة عند الشيخين، بلفظ: "إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره
(2)
، فلها نصف أجره"، وحديث أبي موسى عندهما، بلفظ: "الخازنُ المسلمُ الأمين الذي يُنَفِّذُ ما أُمر به كاملًا موفّرًا، طيّبٌ به نفسه، فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدّقين"-: أن المشارك في الطاعة، مشارك في الأجر، ومعنى المشاركة أن له أجرًا كما لصاحبه أجرٌ، وليس معناه أن يزاحمه في أجره، والمراد المشاركة في أصل الثواب، فيكون لهذا ثوابٌ، ولهذا ثوابٌ، وإن كان أحدهما أكثر، ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواءً، بل قد يكون هذا أكثر، وقد يكون عكسه، فإذا أعطى المالك لخازنه، أو امرأته، أو غيرهما مائة درهم، أو نحوها ليوصلها إلى مستحقّ الصدقة على باب داره، أو نحوه، فأجر المالك أكثر، وإن أعطاه رُمّانة، أو رغيفًا، ونحوهما مما ليس له كثير قيمة، ليذهب به إلى محتاج في مسافة بعيدة، بحيث يقابل مشي الذاهب إليه بأجرة تزيد على الرمّانة والرغيف، فأجر الوكيل أكثر، وقد يكون عمله قدر الرغيف
(1)
- راجع "معالم السنن" ج 2 ص 256 - 257.
(2)
- قال النوويّ: معناه من غير أمره الصريح في ذلك المقدار المعيّن، ويكون معها إذن عامّ سابقٌ، متناولٌ لهذا القدر وغيره، وذلك الإذن قد بيّنّاه سابقًا، إما بالصريح، هأما بالعرف، ولا بدّ من هذا التأويل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الأجر مناصفةً، وفي رواية أبي داود:"فلها نصف أجره"، ومعلومٌ أنها إذا أنفقت من غير إذن صريح، ولا معروف من العرف، فلا أجر لها، بل عليها وزرٌ، فتعيّن تأويله انتهى "شرح مسلم" ج 7 ص 114 - 115.
مثلًا، فيكون مقدار الأجر سواء. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيحٌ، وهو متّفقٌ عليه، لكن بذكر مسروق بين أبي وائل، وعائشة رضي الله عنها.
[تنبيه]: أخرج المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- حديث عائشة رضي الله عنها هذا هنا من طريق شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أبي وائل، عنها. وأخرجه في "عشرة النساء" من طريق منصور، عن أبي وائل، عن مسروق، عنها. وأخرجه الشيخان من طريق الأعمش، ومنصور، عن أبي وائل، عن مسروق، عنها. وأخرجه الترمذيّ بالإسنادين، وقال: إن رواية منصور والأعمش بذكر مسروق فيه أصحّ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن طريق رواية منصور، والأعمش، أصحّ من طريق عمرو بن مرّة؛ لكونهما أرجح منه، لكن هذا الاختلاف لا يضرّ بصحة متن الحديث، فليُتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-57/ 2539 - وفي "الكبرى" 59/ 2319. وأخرجه (ت) في "الزكاة" 671 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 24159. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز صدقة المرأة من بيت زوجها، وهذا محمول على ما إذا أذن لها الزوج، إما صريحًا، أو دلالة، كما تقدّم، بدليل حديث الباب التالي (ومنها): ترغيب المرأة في التصدّق مما في بيتها، إذا أذن لها الزوج أو بما جرى به العرف (ومنها): تركيب الخادم في التصدّق من مال سيّده إذا أذن له، أو بما جرى به العرف (ومنها): حث الرجل على أن يسمح لأهل بيته بالتصدّق على الفقراء والمساكين، وأن له بذلك الأجر والثواب. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في صدقة المرأة من بيت زوجها:
قال الإمام البغويّ -رحمه اللَّه تعالى-: العمل على هذا عند عامّة العلماء أن المرأة ليس لها أن تتصدّق بشيء من مال الزوج دون إذنه، وكذلك الخادم، ويأثمان، إن فعلا
(1)
- "شرح صحيح مسلم" ج 7 ص 113.
ذلك، وحديث عائشة رضي الله عنها خارج على عادة أهل الحجاز أنهم يُطلقون الأمر للأهل، والخادم في الإنفاق، والتصدّق، مما يكون في البيت إذا حضرهم السائل، أونزل بهم الضيف، فحضّهم على لزوم تلك العادة، كما قال صلى الله عليه وسلم لأسماء رضي الله عنه:"لا توعي، فيوعي عليك"، وعلى هذا يخرّج ما روي عن عُمير مولى آبي اللحم، قال: كنت مملوكًا، فسألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أتصدّق من مال مواليّ بشيء؟، قال:"نعم، والأجر بينهما نصفان". انتهى
(1)
.
وقال الحافظ في "الفتح": قال ابن العربيّ: اختلف السلف فيما إذا تصدّقت المرأة من بيت زوجها، فمنهم من أجازه، لكن في الشيء اليسير الذي لا يؤبه له، ولا يظهر به النقصان. ومنهم من حمله على ما إذا أذن الزوج، ولو بطريق الإجمال، وهو اختيار البخاريّ، ولذا قيّد الترجمة بالأمر به، حيث قال:"باب أجر الخادم، إذا تصدّق بأمر صاحبه، غير مفسد". ويحتمل أن يكون ذلك محمولًا على العادة، وأما التقييد بغير الإفساد فمتّفقٌ عليه. ومنهم من قال: المراد بنفقة المرأة، والعبد، والخازن النفقة على عيال صاحب المال في مصالحه، وليس ذلك بأن يفتئتوا على ربّ البيت بالإنفاق على الفقراء بغير إذن. ومنهم من فرق بين المرأة والخادم، فقال: المرأة لها حقّ في مال الزوج، والنظرِ في بيتها، فجاز لها أن تتصدّق، بخلاف الخادم، فليس له تصرّف في متاع مولاه، فيشترط الإذن فيه. وهو متعقّبٌ بأن المرأة إذا استوفت حقّها، فتصدّقت منه، فقد تخصّصت به، وإن تصدّقت من غير حقّها رجعت المسألة كما كانت، واللَّه أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجّح عندي أن تصدّق المرأة، والخادم من مال الرجل جائز بشرطين:(أحدهما): الإذن صريحًا، أو دلالةً، وذلك بأن يجري العرف في التصدّق بمثله، فيجري ذلك مجرى الإذن الصريح. (والثاني): عدم الإفساد، وهذا مجمعٌ عليه، كما سبق قريبًا، وما عدا ذلك، لا يجوز؛ لحديث الباب الآتي؛ وبهذا تجتمع الأدلة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- راجع "شرح السنّة" ج 6 ص 205.
(2)
- راجع "الفتح" ج 4 ص 56.
58 - (عَطِيَّةُ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا)
2540 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، أَنَّ أَبَاهُ، حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «لَا يَجُوزُ لاِمْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ، إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا
…
». مُخْتَصَرٌ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إسماعيل بن مسعود) الجحدري البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.
2 -
(خالد بن الحارث) الْهُجيمي المذكور قبل باب.
3 -
(حسين المعلم) ابن ذكون المكتب البصري، ثقة ربما وهم [6] 122/ 174.
4 -
(عمرو بن شعيب) بن محمد المدني، أو الطائفي، صدوق [5] 105/ 140.
5 -
(أبوه) شعيب بن محمد بن عبد اللَّه الطائفي، صدوق [3] 105/ 140.
6 -
(جدّه) عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - 89/ 111. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم موثقون. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى حسين، والباقون طائفيون. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه عن جده، وتابعي عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو) بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ) في العام الثامن من الهجرة (قَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "لَا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ) يعني أنه لا يجوز أن تتصدّق من مال زوجها، وهو الظاهر من تصرّف المصنّف، حيث أورده بعد حديث الباب السابق الذي هو نصّ في التصدق من ماله، ويحتمل أن يكون المراد من مال نفسها، وهذا الاحتمال هو الذي تدلّ عليه الرواية الآتية في "كتاب الْعُمْرَى" 5/ 3756 بلفظ:"لا يجوز لامرأة هبة في مالها، إذا ملك زوجها عصمتها"، فإنها صريحة في كون النهي في التصدّق من مالها.
وعلى هذا فلا بدّ من تأويله بحمله على الأدب، وحسن العشرة، أو على من كانت
غير رشيدة في مالها، وإنما تأوّلنا بذلك؛ لثبوت جواز التصدّق للمرأة من مالها من دون إذن الزوج في نصوص كثيرة، كما سنذكر بعضها قريبًا.
وقال الخطّابيّ: أخذ به مالك. قال السنديّ: ما أخذ بإطلاقه، ولكن أخذ به فيما زاد على الثلث. وهو عند أكثر العلماء على معنى حسن العشرة، واستطابة نفس الزوج. ونُقل عن الشافعيّ أن الحديث ليس بثابت، وكيف نقول به، والقرآن يدلّ على خلافه، ثمّ السنّة، ثم الأثر، ثم المعقول. ويمكن أن يكون هذا في غير الاختيار، مثلَ لَيْسَ لها أن تصوم، وزوجُها حاضر، إلا بإذنه، فإن فعلت جاز صومها، وإن خرجت بغير إذنه، فباعت جاز بيعها، وقد أعتقت ميمونة رضي الله عنها قبل أن يعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يَعب ذلك عليها، فدلّ هذا مع غيره على أن هذا الحديث، إن ثبت، فهو محمول على الأدب والاختيار. وقال البيهقيّ: إسناد هذا الحديث إلى عمرو بن شُعيب صحيح، فمن أثبت عمرو بن شعيب، لزمه إثبات هذا، إلا أن الأحاديث المعارضة له أصحّ إسنادًا، وفيها، وفي الآيات التي احتجّ بها الشافعيّ دلالة على نفوذ تصرّفها في مالها، دون الزوج، فيكون حديث عمرو بن شُعيب محمولًا على الأدب والاختيار، كما أشار إليه الشافعيّ
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عمرو بن شُعيب الصحيح أنه صحيح، فلا بُدّ من حمله على الأدب، وحسن العشرة، لما ثبت من النصوص الصحيحة الكثيرة الصريحة في جواز تصدّق المرأة، من مالها بغير إذنه:
(فمنها): حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنه- صلى الله عليه وسلم صلى العيد، ثم خطب، ثم أتى النساء، ومعه بلال، فوعظهن، وذَكَّرَهن، وأمرهن بالصدقة، فرأيتهن يهوين بأيديهن، يَقْذِفنَه في ثوب بلال، ثم انطلق هو، وبلال إلى بيته". وفي رواية: "فجعلت المرأة تُلقي القُرْط، والخاتم في ثوب بلال
…
" متفق عليه.
فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما أمرهنّ بالصدقة، وهو في المسجد، تصدّقن، من دون استئذان أزواجهنّ، وقَبِلَ ذلك صلى الله عليه وسلم منهنّ، ولم يستفسرهنّ، عن إذن أزواجهنّ لهنّ.
(ومنها): قصّة عتق ميمونة رضي الله عنها جاريتها، فقد أخرج الشيخان، وغيرهما، عن كريب، مولى ابن عباس، أن ميمونة بنت الحارث، رضي الله عنها أخبرته، أنها أعتقت وليدة، ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومها، الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرت يا رسول اللَّه، أني أعتقت وليدتي، قال:"أَوَفعلتِ؟، قالت: نعم، قال: "أَمَا إنك لو أعطيتها
(1)
- راجع "شرح السنديّ" ج 6 ص 279.
أخوالك، كان أعظم لأجرك".
ففيه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها ما فعلته، بل أرشدها إلى ما كان أولى من ذلك. (ومنها): قصّة عائشة رضي الله عنها، حين أرادت أن تشتري بَرِيرة، وتُعتقها، فلما اشترط مواليها الولاء لهم، ذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "خذيها، وأعتقيها، واشترطي لهم الولاء
…
". أخرجه الشيخان، وغيرهما، فقد أقرّها صلى الله عليه وسلم على شرائها من دون استئذانه، وغير ذلك من النصوص الدالّة على أن المرأة كانت في عهده صلى الله عليه وسلم تتصدّق، وتتبرّع من دون علم زوجها.
والحاصل أن حديث الباب محمولٌ على حسن العشرة، وتطييب قلب الزوج، لا على التحريم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(إِلَّا بِإِذنِ زَوْجِهَا) قال النوويّ: الإذن ضربان: أحدهما الإذن الصريح في النفقة، والصدقة. والثاني: الإذن المفهوم من اطراد العرف، كإعطاء السائل كسرةً، ونحوها، مما جرت العادة به، واطراد العرف فيه، وعُلم رضا الزوج به، فإنه في ذلك حاصلٌ، وإن لم يتكلّم، وهذا إذا عُلم رضاه بالعرف، وعُلِم أن نفسه كنفوس غالب الناس في السماحة بذلك، والرضا به، فإن اضطرب العرف، وشُكّ في رضاه، أو عُلم شُحّه بذلك، لم يَجُز للمرأة، وغيرها التصدّق من ماله، إلا بصريح إذنه، قال: وهذا كلّه مفروضٌ في قدر يسيرٍ، يُعلم رضا المالك به في العادة، فإن زاد على المتعارف لم يجز انتهى
(1)
.
وقوله (مُخْتَصَرٌ) أي هذا الحديث مختصرٌ من حديث طويل لعبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، وقد ساقه الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- بطوله في "مسنده"، فقال:
حدثنا يحيى، عن حسين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: لَمَّا فُتِحَت مكةُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"كُفُّوا السلاحَ، إلا خزاعة، عن بني بكر"، فأذن لهم، حتى صلى العصر، ثم قال:"كفوا السلاحَ"، فلقي رجل من خزاعة، رجلا من بني بكر، من غد، بالمزدلفة، فقتله، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقام خطيبا، فقال، ورأيته، وهو مسند ظهره إلى الكعبة، قال: "إن أعدى الناس على اللَّه، مَنْ قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذُحُول
(2)
الجاهلية"، فقام إليه رجل، فقال: إن فلانا
(1)
- راجع "زهر الربى" ج 5 ص 66.
(2)
- الذُّحُول -بضمّ الذالّ المعجمة، بعدها حاء مهملة- جمع ذَحْل -بفتح، فسكون-: الثأر، أو طلب مكفأة بجناية جُنِيت عليك، أو عداوةٍ أُتيت إليك، أو هو العداوة والْحِقْد، ويجمع أيضًا على أَذْحال. أفاده في "القاموس المحيط".
ابني، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا دِعْوَة في الإسلام"، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش، وللعاهر الأثلب"، قالوا: وما الأثلب؟ قال: "الْحَجَرُ" قال: "وفي الأصابع عشر عشر"، وفي المواضع، خمس خمس"، قال: وقال: "لا صلاة بعد الغداة، حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر، حتى تغرب الشمس"، قال:"ولا تُنكَحُ المرأة، على عمتها، ولا على خالتها، ولا يجوز لامرأة عطية، إلا بإذن زوجها".
وفي رواية يزيد بن هارون، عن حسين المعلّم:"فقال رجل يا رسول اللَّه إن ابني فلانا عاهرت بأمه في الجاهلية"، وزاد في روايته في آخر الحديث:"وأوفوا بحِلْفِ الجاهلية، فإن الإسلام لم يزده إلا شِدَّةً، ولا تُحدِثُوا حِلْفًا في الإسلام". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان، تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكره، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-58/ 2540، وفي "كتاب العمرى" 5/ 3756 و 3757 - وفي "الكبرى" 60/ 2320 و"كتاب العمرى" 5/ 6590 و 6591 و 6592. وأخرجه (د) في "البيوع" 3546 و 3547 (أحمد) في "مسند المكثرين" 6643 و 7018. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
59 - (فَضْلُ الصَّدّقَةِ)
2541 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها أَنَّ
(1)
أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، اجْتَمَعْنَ عِنْدَهُ، فَقُلْنَ
(2)
: أَيَّتُنَا بِكَ أَسْرَعُ لُحُوقًا؟ ، فَقَالَ:«أَطْوَلُكُنَّ يَدًا» ، فَأَخَذْنَ قَصَبَةً، فَجَعَلْنَ يَذْرَعْنَهَا، فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَسْرَعَهُنَّ بِهِ
(3)
لُحُوقًا، فَكَانَتْ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ كَثْرَةِ
(1)
- وفي نسخة: "قالت: إن".
(2)
- وفي نسخة: "فقلنا".
(3)
- سقطت لفظة "به" من بعض النسخ.
الصَّدقَةِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أبو داود) سليمان بن سَيف الحرّانيّ ثقة حافظ [11] 103/ 136 من أفراد المصنّف.
2 -
(يحيى بن حمّاد) بن أبي زياد الشيبانيّ مولاهم البصريّ، خَتَنُ أبي عَوَانة ثقة عابد، من صغار [9] 43/ 2225.
3 -
(أبو عوانة) الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ ثقة ثبت [7] 41/ 46.
4 -
(فِرَاس) -بكسر الفاء، بعدها راء مهملة- ابن يحيى الْهَمْدَانيّ الْخَارفيّ - بمعجمة، وفاء- أبو يحيى الكوفيّ الْمُكتِبُ، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ [6].
قال أحمد، وابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: شيخٌ، ما بحديثه بأسٌ.
وقال ابن المدينيّ، عن يحيى بن سعيد: ما بلغني عنه شيءٌ، وما أنكرتُ من حديثه، إلا حديث الاستبراء. وقال العجليّ: كوفيّ ثقةٌ، من أصحاب الشعبيّ، في عداد الشيوخ، ليس بكثير الحديث. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن عمّار: ثقة. وقال عثمان -يعني ابن أبي شيبة-: صدوقٌ، وقيل له: ثَبْتٌ؟ قال: لا. وقال يعقوب بن سفيان: كان مُكْتِبًا، وفي حديثه لِينٌ، وهو ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (129)، وكان متقنًا. روى له الجماعة، وله عند المصنّف ستة أحاديث برقم 2541 و 3356 و 3636 و 4013 و 4396 و 4870.
5 -
(عامرٌ) بن شَرّاحيل الشعبيّ الإمام الشهير الثقة الفقيه [3] 66/ 82.
6 -
(مسروق) بن الأجدع بن مالك الهمداني، أبو عائشة الكوفي، مخضرم ثقة فقيه عابد [2] 90/ 112.
7 -
(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - المذكورة في الباب السابق. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من فراس، غير عائشة فمدنية. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي مخضرم. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، اجْتَمَعْنَ عِنْدَهُ) زاد في رواية ابن حبّان: "لم تغادر منهنّ واحدة"(فَقُلْنَ) بصيغة جمع المؤنّث، ووقع عند ابن حبّان، من الوجه
الذي أخرجه المصنّف، بلفظ:"فقلت" بتاء المتكلّم، وعليه فالسائلة هي عائشة رضي الله عنها (أَيَّتُنَا) مؤنّثُ "أيٍّ"، وهو قليلٌ في اللغة، ولفظ البخاريّ:"أيّنا" بالتذكير، وهو الموافق لأكثر الاستعمال، لكونها اسمًا جامدًا، والاسم لا تلحقه تاء التأنيث الفارقة بين المذكر والمؤنث، وعليه قوله تعالى:{فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} [غافر: 81]، وقوله:{بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]. وقد تُطابق في التذكير والتأنيث، كما قُرىء في الشاذّ:"بأيّة أرض تموت". وكقول الشاعر [من الطويل]:
بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةِ
…
تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحْسَبُ
(بِكَ) متعلّق بـ "لُحُوقًا"(أَسْرَعُ) خبر "أيّتنا"(لُحُوقًا) منصوب على التمييز، أي من حيث اللحوق بك (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَطْوَلُكُنَّ يَدًا) خبر لمبتدإ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف، أي أسرعكنّ لحوقًا بي أطولكن يدًا، أو أطولكنّ يدًا أسرعكنّ لحوقًا بي، و"يدًا" منصوب على التمييز.
[تنبيه]: إنما لم يقل: "طُولاكنّ"، و"سُرْعاكنّ" بلفظ التأنيث؛ لأن أفعل التفضيل إذا أريد به التفضيل، وكان مضافًا إلى معرفة، جاز فيه وجهان: المطابقة، وعدمها، بخلاف، المضاف إلى نكرة، والمجرّد، فيذكّران، ويفردان، وبخلاف المحلّى بـ "ال"، فإنه تلزم مطابقته، كما أشار ابن مالك -رحمه اللَّه تعالى- في "الخلاصة" بقوله:
وَإنْ لِمَنْكُورٍ يُضَفْ أَوْ جُرِّدَا
…
أُلْزِمَ تَذْكِيرًا وَأَنْ يُوَحَّدَا
وَتِلْوَ "أَلْ" طِبْقٌ وَمَا لِمَعْرِفَه
…
أُضِيفَ ذُو وَجْهَيْنِ عَنْ ذِي مَعْرِفَهْ
هَذَا إِذَا نَوَيْتَ مَعْنَى "مِنْ" وَإِنْ
…
لَمْ تَنْوِ فَهْوَ طِبْقُ مَا بِهِ قُرِنْ
(فَأَخَذنَ قَصَبَةً، فَجَعَلْنَ يَذْرَعْنَهَا) أي يقدّرنها بذراع كلّ واحدة منهن. ولفظ البخاريّ: "يذرعونها" بلفظ جمع المذكر، نظرًا لمعنى الجمع، أو عدل إليه تعظيمًا، كقول الشاعر:
وَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النَّسَاءَ سِوَاكُمُ
(1)
(فَكَانَتْ سَوْدَةُ) زاد ابن سعد، عن عفان، عن أبي عوانة بهذا الإسناد:"بنت زمعة بن قيس"(أَسْرَعَهُنَّ بِهِ لُحُوقًا) أي ماتت بعده صلى الله عليه وسلم، ولحِقَت به قبل بقيّة أزواجه رضي الله عنهن.
[تنبيه]: رواية المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هذه ظاهرة في كون سودة هي التي لحقت به صلى الله عليه وسلم قبل بقية زوجاته، لكن المشهور -وهو الصواب- أن زينب بنت جحش رضي الله عنهما
(1)
- راجع "عمدة القاري" ج 8 ص 282.
هي التي لحِقَت به صلى الله عليه وسلم قبلهنّ، لا سودة - رضي اللَّه تعالى عنها -، ففي هذه الرواية وَهَمٌ من بعض الرواة، وأصل الكلام:"فكانت سودة أطولهنّ يدًا، وكانت زينب أسرعهنّ به لحوقًا، وكان ذلك من كثرة الصدقة"، ففيه تقديمٌ، وتأخير، وحذفٌ، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.
(فَكَانَتْ أَطوَلَهُنَّ يَدًا، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ كَثْرَةِ الصَّدقَةِ) يعني أن مراد النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "أطولكنّ يدًا" كثرة الصدقة، لا طول الجارحة.
قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: معناه: فهِمن ابتداءً ظاهره، فلما ماتت زينب، علمن أنه لم يُرد باليد العضو، وبالطول طولها، بل أراد العطاء، وكثرته، فاليد هنا استعارة للصدقة، والطولُ ترشيح انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها -كما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-59/ 2541 - وفي "الكبرى" 61/ 2321. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1420 (م) في "فضائل الصحابة" 2452 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 24378.
واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل الصدقة (ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأوّل من يموت من أزواجه رضي الله عنهن، فكان كما قال (ومنها): أن فيه جوازَ إطلاق اللفظ المشترك بين الحقيقة والمجاز بغير قرينة، وهو لفظ "أطولكنّ"، إذا لم يكن هناك محذور. قال الزين ابن المنيّر: لما كان السؤال عن آجال مقدّرة، لا تُعلم إلا بالوحي، أجابهنّ بلفظ غير صريحٍ، وأحالهنّ على ما لا يتبيّن إلا بآخره، وساغ ذلك؛ لكونه ليس من الأحكام التكليفيّة انتهى (ومنها): ما ذكره في "الفتح" من أنّ من حَمَلَ الكلام على ظاهره، وحقيقته، لم يُلَمْ، وإن كان مراد المتكلّم مجازه؛ لأنّ نسوة النبيّ صلى الله عليه وسلم حملن طول اليد على الحقيقة، فلم ينكر عليهنّ. هكذا قال في "الفتح". قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "فلم ينكر عليهنّ" فيه نظر؛ إذ لا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم اطلع على ذرعهنّ للقصبة، حتّى يُنكر عليهنّ، فليُتأمّل. واللَّه تعالى أعلم.
قال: وأما ما رواه الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق يزيد بن الأصمّ، عن ميمونة رضي الله عنها، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهن:"ليس ذلك أعني، إنما أعني أصنعكنّ يدًا". فهو ضعيف جدًّا، ولو كان ثابتًا، لم يحتجن بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذرع أيديهنّ، كما يأتي في رواية عمرة، عن عائشة (ومنها): ما قاله المهلّب: فيه دلالة على أن الحكم للمعاني، لا للألفاظ؛ لأن النسوة فَهِمنَ من طول اليد الجارحة، وإنما المراد بالطول كثرة الصدقة. قال الحافظ: وما قاله لا يمكن اطراده في جميع الأحوال انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قد تقدّم أن رواية المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- فيها وَهَمٌ، ومثلها رواية البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-، ولفظه:
1420 حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، رضي الله عنها، أن بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، قُلن للنبي صلى الله عليه وسلم: أينا لأسرع بك لحوقا؟، قال:"أطولكن يدا"، فأخذوا قصبة، يذرعونها، فكانت سودة أطولهن يدا، فعلمنا بعدُ، أنما كانت طول يدها الصدقة، وكانت أسرعنا لحوقا به، وكانت تحب الصدقة".
قال في الفتح": "وكانت أسرعنا" كذا وقع في "الصحيح" بغير تعيين، ووقع في "التاريخ الصغير" للبخاريّ، عن موسى بن إسماعيل بهذا الإسناد: "فكانت سودة أسرعنا الخ"، وكذا أخرجه البيهقيّ في "الدلائل"، وابن حبّان في "صحيحه" من طريق العبّاس الدُّوريّ، عن موسى. وكذا وقع في رواية عفّان عند أحمد، وابن سعد، قال ابن سعد: قال لنا محمد بن عمر -يعني الواقديّ-: هذا الحديث وَهَلَ في سودة، وإنما هو في زينب بنت جحش، فهي أول نسائه به لُحوقًا، وتوفّيت في خلافة عمر، وبقيت سودة إلى أن توفّيت في خلافة معاوية، في شوّال سنة أربع وخمسين.
وقال ابن بطّال: هذا الحديث سقط منه ذكر زينب؛ لاتفاق أهل السير على أن زينب أوّل من ماتت من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم يعني أن الصواب: وكانت زينب أسرعنا الخ.
قال الحافظ: ولكن يعكر على هذا التأويل تلك الروايات المتقدّمة المصرّح فيها بأن الضمير لسودة.
وقرأت بخطّ الحافظ أبي عليّ الصدفيّ: ظاهر هذا اللفظ أن سودة كانت أسرع، وهو خلاف المعروف عند أهل العلم أن زينب أوّل من مات من الأزواج، ثم نقله عن مالك،
(1)
- راجع "الفتج" ج 4 ص 38.
من روايته عن الواقديّ، قال: ويقوّيه رواية عائشة بنت طلحة.
وقال ابن الجوزيّ: هذا الحديث غلطٌ من بعض الرواة، والعجب من البخاريّ، كيف لم يُنبّه عليه، ولا أصحاب التعاليق، ولا عَلِمَ بفساد ذلك الخطّابيّ، فإنه فسّره، وقال: لُحُوق سودة به من أعلام النبوّة. وكلّ هذا وَهَمٌ، وإنما هي زينب، فإنها كانت أطولهنّ يدًا بالعطاء، كما رواه مسلم، من طريق عائشة بنت طلحة، عن عائشة، بلفظ:"فكانت أطولنا يدًا زينب؛ لأنها كانت تعمل، وتتصدّق" انتهى. وتلقّى مغلطاي كلام ابن الجوزيّ، فجزم به، ولم ينسبه له.
وقد جمع بعضهم بين الروايتين، فقال الطيبيّ: يمكن أن يقال فيما رواه البخاريّ: المراد الحاضرات من أزواجه، دون زينب، وكانت سودة أوّلهنّ موتًا.
قال الحافظ: وقد وقع نحوه في كلام مغلطاي، لكن يعكر على هذا أن في رواية يحيى بن حماد، عند ابن حبّان "أن نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم اجتمعن عنده، لم تغادر منهن واحدة". ثمّ هو مع ذلك إنما يتأتّى على أحد القولين في وفاة سودة، فقد روى البخاريّ في "تاريخه" بإسناد صحيح إلى سعيد بن هلال، أنه قال: ماتت سودة في خلافة عمر رضي الله عنه. وجزم الذهبيّ في "التاريخ الكبير" بأنها ماتت في آخر خلافة عمر رضي الله عنه. وقال ابن سيّد الناس: إنه المشهور. وهذا يخالف ما أطلقه الشيخ محيي الدين -يعني النوويّ- حيث قال: أجمع أهل السير على أن زينب أوّل من مات من أزواجه. وسبقه إلى نقل الاتفاق ابن بطّال، كما تقدّم.
ويمكن الجواب بأن النقل مقيّدٌ بأهل السير، فلا يرد نقل قول من خالفهم من أهل النقل، ممن لا يدخل في زمرة أهل السير. وأما قول الواقديّ الذي تقدّم، فلا يصحّ، وقد تقدّم عن ابن بطّال أن الضمير في قوله:"فكانت" لزينب، وذكرتُ ما يعكر عليه. لكن يمكن أن يكون تفسيره بسودة من بعض الرواة؛ لكون غيرها لم يتقدّم له ذكرٌ، فلما لم يطلع على قصّة زينب، وكونها أوّل الأزواج لحوقًا به، جعل الضمائر كلها لسودة، وهذا عندي من أبي عوانة، فقد خالفه في ذلك ابن عُيينة، عن فِرَاس، كما قرأت بخطّ ابن رشيد أنه قرأه بخطّ أبي القاسم بن الورد، ولم أقف إلى الآن على رواية ابن عُيينة هذه، لكن روى يونس بن بُكير في "زيادات المغازي"، والبيهقيّ في "الدلائل" بإسناده عنه، عن زكريّا بن أبي زائدة، عن الشعبيّ التصريح بأن ذلك لزينب، لكن قصر زكريّا في إسناده، فلم يذكر مسروقًا، ولا عائشة، ولفظه:"قُلن النسوة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أيّنا أسرع بك لحوقًا؟ قال: أطولكنّ يدًا، فأخذن يتذارعن أيتهنّ أطول يدًا، فلما توفّيت زينب عَلِمنَ أنها كانت أطولهنّ يدًا في الخير والصدقة". ويؤيّده أيضًا ما روى الحاكم في
"المناقب" من "مستدركه" من طريق يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأزواجه: "أسرعكنّ لُحوقًا بي أطولكنّ يدًا"، قالت عائشة: فكنّا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نمدّ أيدينا في الجدار، نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفّيت زينب بنت جحش، وكانت امرأة قصيرة، ولم تكن أطولنا، فعرفنا حينئذ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما أراد بطول اليد الصدقةَ، وكانت زينب امرأةً صناعة باليد، وكانت تدبغ، وتخرز، وتصدّق في سبيل اللَّه. قال الحاكم: على شرط مسلم انتهى.
وهي رواية مفسّرةٌ، مبيّنةٌ، مرجِّحةٌ لرواية عائشة بنت طلحة في أمر زينب. قال ابن رُشيد: والدليل على أنّ عائشة لا تعني سودة قولها: "فعلمنا بعدُ"، إذ قد أخبرت عن سودة بالطول الحقيقيّ، ولم تذكر سبب الرجوع عن الحقيقة إلى المجاز إلا الموت، فإذا طلب السامع سبب العدول لم يجد إلا الإضمار، مع أنه يصلح أن يكون المعنى، فعلمنا بعدُ أن الْمُخْبَرَ عنها إنما هي الموصوفة بالصدقة لموتها قبل الباقيات، فينظر السامع، ويبحث فلا يجد إلا زينب، فيتعيّن الحمل عليه، وهو من باب إضمار ما لا يصلح غيره، كقوله تعالى:{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32].
وقال الزين ابن الْمُنَيِّر -رحمه اللَّه تعالى-: وجه الجمع أنّ قولها: "فعلمنا بعدُ" يُشعر إشعارًا قويًّا أنّهنّ حملن طول اليد على ظاهره، ثمّ علمن بعد ذلك خلافه، وأنه كناية عن كثرة الصدقة، والذي علمنه آخرًا خلاف ما اعتقدنه أوّلًا، وقد انحصر الثاني في زينب؛ للاتفاق على أنها أوّلهنّ موتًا، فتعيّن أن تكون هي المرادة، وكذلك بقيّة الضمائر بعد قوله:"فكانت"، واستغنى عن تسميتها لشهرتها بذلك انتهى.
وقال الكرمانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يحتمل أن يقال: إن في الحديث اختصارًا، أو اكتفاءً بشهرة القصّة لزينب، ويؤول الكلام بأن الضمير رجع إلى المرأة التي علم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنها أوّل من يلحق به، وكانت كثيرة الصدقة.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: الأوّل هو المعتمد، وكأنّ هذا هو السرّ في كون البخاريّ حذف لفظ سودة من سياق الحديث لَمَّا أخرجه في "الصحيح"؛ لعلمه بالوَهَم فيه، وأنه لَمَّا ساقه في "التاريخ" بإثبات ذكرها ذكر ما يرُدّ عليه من طريق الشعبيّ أيضًا عن عبد الرحمن بن أبزى، قال:"صلّيت مع عمر على أم المؤمنين زينب بنت جحش، وكانت أوّل نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم لحوقًا به". وقد تقدّم الكلام على تاريخ وفاتها في "كتاب الجنائز"، وأنّه سنة عشرين. وروى ابن سعد من طريق بزرة بنت رافع، قالت: "لَمّا خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها، فتعجّبت، وسترته بثوب، وأمرت بتفرقته، إلى أن كشفت الثوب، فوجدت تحته خمسة وثمانين درهمًا، ثمّ قالت:
اللَّهمّ لا يُدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا، فماتت، فكانت أوّل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم لحوقًا به". وروى ابن أبي خيثمة من طريق القاسم بن معن، قال: "كانت زينب أوّل نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم لحوقًا به".
فهذه رواياتٌ يعضد بعضها بعضا، ويحصُلُ من مجموعها أنّ في رواية أبي عوانة وَهَمًا.
وقد ساقه يحيى بن حمّاد عنه، مختصرًا، ولفظه:"فأخذن قصبةً يتذارعنها، فماتت سودة بنت زمعة، وكانت كثيرة الصدقة، فعلمنا أنه قال: أطولكنّ يدًا بالصدقة"، هذا لفظه عند ابن حبّان، من طريق الحسن بن مدركٍ عنه. ولفظه عند النسائيّ، عن أبي داود، وهو الحرّانيّ، عنه:"فأخذن قصبةً، فجعلن يذرعنها، فكانت سودة أسرعهنّ به لحوقًا، وكانت أطولهنّ يدًا، فكان ذلك من كثرة الصدقة". وهذا السياق لا يحتمل التأويل، إلا أنه محمولٌ على ما تقدّم ذكره من دخول الوهم على الراوي في التسمية خاصّة. واللَّه أعلم انتهى ما ذكره الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تَبَيَّنَ بما ذُكر أنّ في رواية أبي عوانة المذكورة في هذا الباب وَهَمًا، وأن الصواب أن التي لحقت بالنبيّ صلى الله عليه وسلم من أزواجه هي زينب بنت جحش - رضي اللَّه تعالى عنها -، وأما سودة - رضي اللَّه تعالى عنها - فإنما ذُكرت لطول يدها عند ذرع القصبة، وهو المعنى الحقيقي لطول اليد، لا لكونها أول من لحقت به صلى الله عليه وسلم، لكثرة صدقتها، وهو المعنى المجازيّ لطول اليد المقصود هنا.
قال الحافظ السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وعندي أنه وقع في رواية المصنّف تقديمٌ وتأخيرٌ، وسَقَطَ لفظة "زينب"، وأنّ أصل الكلام:"فأخذن قَصَبَة، فجعلن يذرعنها، فكانت سودة أطولهنّ يدًا -أي حقيقة- "وكانت أسرعهنّ لحوقًا به زينب، وكان ذلك من كثرة الصدقة"، فأسقط الراوي لفظة "زينب"، وقدّم الجملة الثانية على الجملة الأولى. انتهى كلام الحافظ السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرحه"
(2)
. وهو كلام حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".
…
(1)
- راجع "الفتح" ج 4 ص 36 - 38.
(2)
- راجع "زهر الربى" ج 5 ص 68.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإِتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، - عفا اللَّه تعالى عنه - وعن والديه ومشايخه آمين: قد انتهيت من كتابة الجزء الثاني والعشرون من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى-، المسمّى "ذخيرةَ العُقْبَى في شرح المجتبى"، أو "غاية المنى في شرح المجتنى".
وذلك بحيّ الزهراء، مخطط الأمير طلال، في مكة المكرمة زادها اللَّه تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني من خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأعْظِمْ به تكريمًا.
وأخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين.
وأخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة اللَّه، وبركاته".
ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الثالث والعشرون مفتتحًا بالباب 60 "بابٌ أيُّ الصدقة أفضل؟ " الحديث رقم 2542.
"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".