المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سُنن النّسَائي المُسَمَّى ذَخِيْرَة العُقَبى في شَرْحِ المجْتَبَى   لجَامِعه الفَقير إلى مَوْلَاه - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ٢٣

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح سُنن النّسَائي

المُسَمَّى

ذَخِيْرَة العُقَبى في شَرْحِ المجْتَبَى

لجَامِعه الفَقير إلى مَوْلَاه الغَنيّ القَديْر

محمد ابن الشيخ العلامة على بن آدم بن موسى الأيتُوبي الوَلَّوِي

المُدرّس بدَار الحَديثْ الخيريَّة بمكّة المكرَّمة

عَفَا اللَّه عَنْه وَعَنْ والدَيه آمِينْ

الجزْء الثّاني والعشْرون

ص: 1

جَمِيع الحقُوق مَحفُوظة

الطبعة الأولى

1424 هـ - 2003 م

دَار آل بُروم للِنشر وَالتّوزيع

المملكة العَربيّهَ السّعوديّة - مكّة المكرّمة - المكتب الرئيسي التنعيم

صَ بْ: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوّال 055541026)

ص: 2

شرح سنن النسائي

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

‌60 - (بَابٌ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟)

2542 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ، وَأَنْتَ صَحِيحٌ، شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْعَيْشَ، وَتَخْشَى الْفَقْرَ»).

رجال هذا الإسناد: سنة:

1 -

(محمود بن غيلان) أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 33/ 37.

2 -

(وكيع) بن الجرّاح أبو سفيان الرؤاسي الكوفين ثقة حافظ [9] 23/ 25.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الكوفي الإمام الثقة الحجة [7] 33/ 37.

4 -

(عمارة بن القعقاع) بن شُبرمة الضبي الكوفي، ثقة [6] 48/ 60.

5 -

(أبو زرعة) هرم بن عمرو، وقيل: غيره البجلي الكوفيّ، ثقة [3] 43/ 50.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين غير شيخه فمروزيٌّ. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ) قال الحافظ: لم أقف على تسميته، ويحتمل أن يكون أبا ذرّ رضي الله عنه، ففي "مسند أحمد" عنه، أنه سأل أي الصدقة أفضل؟، لكن في الجواب:"جهدٌ من مقلّ، أو سرٌّ إلى فقير". وكذا رواه الطبرانيّ من حديث أبي أمامة، أنّ أبا ذرّ سأل، فأُجيب انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاحتمال فيه بُعدٌ، لاختلاف الجوابين، فالظاهر أن السائل هنا غير أبي ذرّ رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم.

(أَيُّ الصدقَةِ أَفْضَلُ؟) مبتدأٌ وخبر. وفي رواية البخاريّ، من طريق عبد الواحد بن زياد، عن عمارة بن القعقاع: "أيّ الصدقة أعظم أجرًا؟.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ تَصَدَّقَ) يحتمل أن يكون بتشديد الصاد المهملة، وأصله: تتصدّق، فأدغمت التاء بعد قلبها في الصاد. ويحتمل أن يكون بتخفيف الصاد، وحذف إحدى

ص: 5

التاءين، وأصله تتصدّق، كما قال ابن مالك -رحمه اللَّه تعالى- في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنُ الْعِبَرْ

وهو في تأويل المصدر خبر لمحذوف، أي هي صدقتك، أو مبتدأ خبره محذوفٌ: أي صدقتك، وأنت صحيح الخ أفضل أنواع الصدقة. واللَّه تعالى أعلم.

(وَأَنْتَ صَحِيحٌ) جملة من مبتدإ وخبر في محلّ نصب على الحال، أي والحال أنك صحيح. والمراد بالصحيح في هذا الحديث من لم يدخل في مرض مخوف. كذا قيل.

(شَحِيحٌ) صفة لـ "صحيح"، أو خبر بعد الخبر، أي من شأنه الشّحّ للحاجة إلى المال. وقال ابن الملك: قوله: "شحيح" تأكيد، وبيانٌ لـ "صحيح"؛ لأن الرجل في حال صحّته يكون شحيحًا. وفي رواية للبخاريّ في "الوصايا":"وأنت صحيحٌ حريصٌ".

قال في "القاموس": الشحّ -مثلّثة-: البخل والحرص. انتهى. وفي "اللسان":

الشُّحُّ -أي بالضمّ- والشَّحّ- أي بالفتح-: البُخْلُ، والضمّ أعلى. وقيل: هو البخل مع الحرص، وفي الحديث:"إيّاكم والشحّ". والشحّ أشدّ البخل، وهو أبلغ في المنع من البخل. وقيل: البخل في أفراد الأمور، وآحادها، والشحّ عامّ. وقيل: البخل بالمال، والشحّ بالمال والمعروف. انتهى. وقال في "المصباح": شحَّ يَشِحُّ، من باب قتل، وفي لغة من بابي ضرب، وتَعِبَ، فهو شَحِيحٌ، وقومٌ أشحّاءُ، وأشحّة انتهى.

وقال في "الفتح": قال صاحب "المنتهى": الشّحّ: بُخلٌ مع حرص. وقال صاحب "المحكم": "الشحّ" مثلّثٌ الشين، والضمّ أعلى. وقال صاحب "الجامع": كأنّ الفتح في المصدر، والضمّ في الاسم.

(تَأْمُلُ الْعَيْشَ) أي ترجو الحياة. قال في "القاموس": الأَمَلُ، كجَبَلٍ، ونَجْمٍ، وشِبْرٍ: الرَّجاء، جمعه آمالٌ، وأَمَلَهُ أَمْلًا، وأَمَّلَه: رجاه انتهى. وقال في "المصباح": أَمِّل يأْمُلُ أَمَلًا، من باب طَلَب: ترَقّبه، وأكثر ما يُستعمل الأمَلُ فيما يُستبعَدُ حصوله، قال كعب بن زُهَير بن أبي سُلْمَى [من البسيط]:

أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُو مَوَدَّتُهَا

وَمَا إِخَالُ لَدَيْنَا مِنْكِ تَنْوِيلُ

ومَنْ عَزَمَ على السفر إلى بلد بعيدٍ يقول: أَمَلْتُ الوصولَ، ولا يقولُ: طَمِعْتُ إلا إذا قرب منها، فإن الطمع لا يكون إلا فيما قرُبَ حصوله، والرجاء بين الأمل والطمع، فإنّ الراجي قد يخاف أن لا يحصل مأموله، ولهذا يُستعمل بمعنى الخوف، فإذا قوي الخوف استُعمل استعمالَ الأمل، وعليه بيت كعب بن زُهير، وإلا استُعمل بمعنى الطمع، فأنا آمِلٌ، وهو مأمولٌ على فاعل ومفعول. وأَمّلته تأميلًا مبالغة وتكثيرٌ، وهو أكثر من استعمال المخفّف. انتهى.

ص: 6

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المناسب هنا كون الأَمَل بمعنى الرجاء. واللَّه تعالى أعلم.

و"العيش" -بفتح، فسكون-: الحياة. وفي الرواية الآتية في "الوصايا": "وتأمل البقاء". وهو بمعناه. وفي رواية للشيخين: "تأمل الغنى"، أي ترجوه، وتطمع فيه، وتقول: أترك مالي في بيتي؛ لأكون غنيًّا، ويكون لي عزّ عند الناس بسببه.

والجملة خبر بعد خبر، أو حالٌ بعد حال، أو مستأنفةٌ، سيقت لبيان حال الصحيح. (وَتَخْشَى الْفَقْرَ") بإخراج المال من يدك. وموضع الجملة كسابقتها. وإنما خصّ هاتين الحالتين، وهما أمل العيش، وخشية الفقر؛ لأنّ الصدقة في هاتين الحالتين أشدّ مُراغمة للنّفس.

زاد في الرواية الآتية في "الوصايا" من طريق محمد بن فُضيل، عن عمارة:"ولا تُمْهِل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا، وقد كان لفلان". ولفظ البخاريّ: "لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان".

فقوله: "ولا تُمهل" بالجزم، على أنه نهيٌ عن الإمهال، وبالرفع على أنه نهي له. ويجوز النصب عطفًا على "أن تصدق".

وقوله: "حتى إذا بلغت الحلقوم". كلمة "حتّى" للغاية، والضمير في "بَلَغَت" يرجع إلى الروح، بدلالة سياق الكلام عليه، والمراد منه قارَبَتِ البلوغَ، إذ لو بلغته حقيقة، لم تصحّ وصيته، ولا شيء من تصرّفاته. و"الْحُلْقُوم": هو الحلق. وفي "المخصّص" عن أبي عُبيدة: هو مجرى النفس، والسعال من الجوف

(1)

.

وقوله: "لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان" كناية عن الموصَى له. وقوله: "كذا" كناية عن الموصَى به.

وحاصل المعنى أنّ أفضل الصدقة أن تتصدّق في حال حياتك، وصحّتك، مع احتياجك إليه، واختصاصك به، لا في حال سقمك، وسياقِ موتك؛ لأنّ المالَ حينئذٍ خرج عنك، وتعلّق بغيرك.

وقال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: فلانٌ الأول، والثاني الموصَى له، وفلان الأخير الوارث؛ لأنه إن شاء أبطله، وإن شاء أجازه. وقال غيره: يحتمل أن يكون المراد بالجميع من يُوصَى له، وإنما أدخل "كان" في الثالث إشارةً إلى تقدير القدَرِ له بذلك.

وقال الكرمانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يحتمل أن يكون الأول الوارثَ، والثاني المورّث،

(1)

- راجع "عمدة القاري" ج 8 ص 280.

ص: 7

والثالث الموصَى له

(1)

.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ويحتمل أن يكون بعضها وصيّةً، وبعضها إقرارًا، وقد وقع في رواية ابن المبارك، عن سفيان، عند الإسماعيليّ: قلتَ: اصنعوا لفلان كذا، وتصدّقوا بكذا". ووقع في حديث بُسْر بن جِحَاش -بضمّ الموحّدة، وسكون المهملة- وأبوه بكسر الجيم، وتخفيف المهملة، وآخره شينٌ معجمة- عند أحمد، وابن ماجه، بإسناد صحيح، واللفظ لابن ماجه: "بزق النبيّ صلى الله عليه وسلم في كفّه، ثمّ وضع إصبعه السبّابة، وقال: يقول اللَّه أَنَّى تُعجزني ابنَ آدم، وقد خلقتك من قبلُ، من مثل هذه، فإذا بلغت نفسك إلى هذه- وأشار إلى حلقه- قلت: أتصدّق، وأنّى أوانُ الصدقة؟ ". وزاد في رواية أحمد: "حتى إذا سوّيتك، وعدلتك، مشيت بين بُردين، وللأرض منك وئيدٌ

(2)

، وجمعتَ، ومنعتَ، حتى إذا بلغت التراقي، قلت: لفلان كذا، وتصدّقوا بكذا". أفاده في "الفتح"

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-60/ 2542 وفي "كتاب الوصايا" 1/ 2637 - وفي "الكبرى" 62/ 2322 وفي "كتاب الوصايا" 1/ 6438. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1330 وفي "الوصايا" 2543 (م) في "الزكاة" 1713 و 1714 (د) في "الوصايا" 2481 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 6862 و 7100 و 9009 و 9392. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواب سؤال من سأل أيّ الصدقة أفضل؟، وهو أنه ما كان في حال الصحّة.

(ومنها): أن تنجيز الصدقة، ووفاء الدين في الحياة، وحال الصحّة أفضل منه بعد الموت، وفي المرض، كما أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: "وأنت صحيحٌ، شحيحٌ،

(1)

- هكذا نقل في "الفتح" عبارة الكرماني، لكن الذي في شرح الكرماني أن الثالث هو المورّث، لأنه بعد نقل كلام الخطابي أن الأولين كناية عن المُوصَى له، والثالث عن الوارث، وذكر احتمال كونه أي الثالث كناية عن المورث، وهذا أقرب مما نقله في "الفتح" انظر "شرح الكرماني" جـ 7 ص 188 - 189.

(2)

- الوئيد: صوت شدّة الوطء على الأرض.

(3)

- راجع "الفتح" ج 6 ص 26. ونقلته بتصرّف.

ص: 8

تأملى الغنى، وتخشى الفقر"؛ لأنه في حال الصحّة يصعُب عليه إخراج المال غالبًا لما يخوّفه به الشيطان، وُيزيّن له، من إمكان طول العمر، والحاجة إلى المال، كما قال تعالى:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} الآية [البقرة: 268]. وأيضًا، فإن الشيطان ربّما زيّن له الْحَيْفَ في الوصيّة، أو الرجوع عن الوصيّة، فيتمحّض تفضيل الصدقة الناجزة.

قال بعض السلف عن بعض أهل التّرَف: يعصون اللَّه في أموالهم مرّتين، يبخلون بها، وهي في أيديهم -يعني في الحياة- ويُسرفون فيها إذا خرجت عن أيديهم -يعني بعد الموت-

(1)

.

وأخرج الترمذيّ، بإسناد حسن، وصححه ابن حبّان، عن أبي الدرداء، مرفوعًا، قال:"مثلُ الذي يُعتقُ، ويتصدّق عند موته، مثلُ الذي يهُدي إذا شَبع". وهو يرجع إلى معنى حديث الباب. وروى أبو داود، وصححه ابن حبّان، من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"لأن يتصدّق الرجل في حياته، وصحّته بدرهم، خيرٌ له من أن يتصدّق عند موته بمائة". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2543 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو

(2)

بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ حَدَّثَهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، وقد تقدموا غير مرة.

و"عمرو بن عليّ": هو الفلاّس. و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان. و"عمرو بن عثمان" بن عبد اللَّه بن مَوْهَب التيميّ الكوفيّ الثقة 10/ 468. و"موسى بن طلحة" بن عبيد اللَّه التيميّ المدنيّ، نزيل الكوفة الثقة الجليل 10/ 468.

والحديث أخرجه البخاريّ، وقد تقدّم في 50/ 2531 - وتقدّم تمام البحث فيه هناك مستوفًى، فراجعه تستفد.

ودلالته على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- وعبارة العينيّ في "عمدته": ولَمّا بلغ ميمون بن مِهْرَان أنّ رقية امرأة هشام ماتت، وأعتقت كلّ مملوك لها، قال: يعصون اللَّه في أموالهم مرّتين، يبخلون بما في أيديهم، فإذا صارت لغيرهم أسرفوا فيها. انتهى. ج 8 ص 281.

(2)

- وقع في بعض النسخ: "عُمر" بدل "عَمْرو" وهو غلط فاحش، فتنبّه.

ص: 9

2544 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال صحيح، وقد تقدّموا غير مرّة.

والحديث صحيح، وقد تقدّم في 54/ 2534 - وتقدّم تمام البحث فيه هناك، فراجعه تستفد، ودلالته على الترجمة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2545 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الأَنْصَارِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عدي بت ثابت) الأنصاري الكوفي، ثقة رمي بالتشيع [4] 49/ 605.

2 -

(عبد اللَّه بن يزيد الأنصاري) الخطمي، -بفتح المعجمة، وسكون الطاء المهملة-، وهو صحابيٌّ صغيرٌ، ولي الكوفة لابن الزبير رضي الله عنهم وتقدّم في 49/ 605.

3 -

(أبو مسعود) عقبة بن عمرو بن الأنصاري البدري الصحابي الشهير، مات رضي الله عنه قبل الأربعين، وقبل: بعدها وتقدم 6/ 494. والباقون تقدموا قبل بابين. و"محمد" شيخ ابن بشّار، هو محمد بن جعفر، المعروف بـ "غُندَر". واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني بالكوفيين. (ومنها): أن شيخ المصنّف أحد التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول الستة بلا واسطة، وقد مر ذلك غير مرّة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي، عند من يقول: إن عبد اللَّه ابن يزيد تابعي، ورواية صحابي عن صحابي عند من يقول بصحبته، وهو الأصح.

واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَدِيٍّ بْنِ ثَابِتٍ) الأنصاريّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَبدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ) بن زيد بن حُصين (الأَنْصَارِيَّ) الخطميّ رضي الله عنه (يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم،

ص: 10

قَالَ: إذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ) يحتمل أن يشمل الزوجة، والأقارب. ويحتمل أن يخُصّ الزوجة، ويُلحق بها من عداها بطريق الأولى؛ لأنّ الثواب إذا ثبت فيما هو واجب، فثبوته فيما ليس بواجب أولى.

وقال الطبريّ -رحمه اللَّه تعالى-: ما مُلخّصه: الإنفاق على الأهل واجبٌ، والذي يُعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبةً، وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التطوّع. وقال المهلّب: النفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سمّاها الشارع صدقة خشية أن يظنّوا أنّ قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر، فعرّفهم أنها لهم صدقة، حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يَكْفُوهم؛ ترغيبًا لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوّع.

وقال ابن الْمُنّيِّر -رحمه اللَّه تعالى-: تسمية النفقة صدقةً، من جنس تسمية الصداق نِحْلَةَ، فلما كان احتياج المرأة إلى الرجل كاحتياجه إليها -في اللذّة والتأنيس، والتحصين، وطدب الولد- كان الأصل أن لا يجب لها عليه شيء، إلا أنّ اللَّه خصّ الرجل بالفضل على المرأة بالقيام عليها، ورَفَعَه عليها بذلك درجةً، فمن ثَمَّ جاز إطلاق النحلة على الصداق، والصدقة على النفقة. انتهى

(1)

.

(وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا) الضمير المنصوب يعود إلى النفقة المفهومة من "أنفق". والجملة في محلّ نصبٍ على الحال من الفاعل.

قال في "الفتح": المراد بالاحتساب القصد إلى طلب الأجر. وقال النوويّ رحمه الله تعالى: معناه أراد بها وجه اللَّه عز وجل، فلا يدخل فيه من أنفق عليها ذاهلًا، ولكن يدخل المحتسب، وطريقه في الاحتساب أن يتذكّر أنه يجب عليه الإنفاق على الزوجة، وأطفال أولاده، والمملوك، وغيرهم، ممن تجب نفقته على حسب أحوالهم، واختلاف العلماء فيهم، وأن غيرهم ممن يُنفَقُ عليه مندوبٌ إلى الإنفاق عليهم، فينفق بنيّة أداء ما أُمر به، وقد أُمر بالإحسان إليهم انتهى (كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ) يحتمل أن تكون "كان" هنا ناقصةً، واسمها ضمير يعود إلى النفقة المفهومة من قوله:"إذا أنفق"، كما تقدّم، و"صدقةً" خبرها: أي كانت النفقة صدقةً له. ويحتمل أن تكون تامّةً، و"صدقةٌ" بالرفع فاعلها، أي حصلت له صدقةٌ.

قال في "الفتح": المراد بالصدقة الثواب، وإطلاقها عليه مجازٌ، وقرينته الإجماع على

(1)

- راجع "الفتح" ج 10/ 624 - 625.

ص: 11

جواز الإنفاق على الزوجة الهاشميّة مثلًا، وهو من مجاز التشبيه، والمراد به أصل الثواب، لا في كمّيّته، ولا في كيفيّته. ويستفاد منه أن الأجر لا يحصل بالعمل إلا مقرونًا بالنية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-60/ 2545 - وفي "الكبرى" 62/ 2325. وأخرجه (خ) في "الإيمان" 53 وفي "المغازي" 3705 وفي "النفقات" 4932 (م) في "الزكاة" 1669 (ت) في "البرّ والصلة" 1888 (أحمد) في "مسند الشاميين" 1646 و 16487 و"باقي مسند الأنصار" 21316 (الدارميّ) في "الاستئذان" 2549. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، ووجه دلالته عليه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سمّى الإنفاق على الأهل صدقة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّ الصدقة على ذي القرابة صدقة وصِلَة، فسيأتي للمصنّف في 82/ 2582 - من حديث سلمان بن عامر - رضي اللَّه تعالى عنه - بإسناد صحيح، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة، وصلة". فثبت بهذا مطابقة حديث أبي مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - للترجمة.

(ومنها): أن الأعمال لا يوجد ثوابها إلا بإخلاص النية للَّه تعالى (ومنها): أن ثواب الصدقة يحصل بالنفقة الواجبة، فمن أنفق على أهله من غير احتساب، لم يحصل له ثواب الصدقة، وإن سقط عنه الوجوب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2546 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ، مِنْ بَنِي عُذْرَةَ، عَبْدًا لَهُ، عَنْ دُبُرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟» ، قَالَ: لَا

(1)

، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي، فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَجَاءَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

- وفي نسخة: "قال: ولا". والأول أولى.

ص: 12

فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«ابْدَأْ بِنَفْسِكَ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ، فَلأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ عَنْ أَهْلِكَ، فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ، فَهَكَذَا، وَهَكَذَا» ، يَقُولُ: بَيْنَ يَدَيْكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد الإمام الحجة الثبت المصري [7] 31/ 35.

3 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تدرُس المكي، صدوق، يدلس [4] 31/ 35.

4 -

(جابر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام الأنصاري الصحابي ابن الصحابي - رضي اللَّه تعالى عنهما - 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، وهو (132) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِر) بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ) وفي الرواية الآتية في "البيوع" من طريق أيوب، عن أبي الزبير:"أن رجلًا من الأنصار، يقال له: أبو مذكور"(مِنْ بَنِي عُذْرَةَ) بضمّ العين المهملة، وسكون الذال المعجمة، بعدها راء- حَيٌّ من قُضاعة، وهو عُذرة بن زيد اللات بن رُفيدة بن ثور بن كعب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قُضاعة، وهي قبيلة معروفة

(1)

.

(عَبْدًا لَهُ، عَنْ دُبُرٍ) زاد في رواية أيوب المذكورة: "يقال له: يعقوب، لم يكن له مالٌ غيره". وفي رواية لمسلم عن إسحاق بن إبراهيم، وأبي بكر بن أبي شيبة، جميعًا عن سفيان، بلفظ: "دبّر رجلٌ من الأنصار غلامًا له، لم يكن له مالٌ غيره، فباعه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فاشتراه ابن النحّام، عبدًا قبطيّا، مات عامَ أوّلَ، في إمارة ابن الزبير

" الحديث (فَبَلَغَ ذَلِكَ) أي عتقُهُ المذكورُ (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟، قَالَ: لَا) أي قال الرجل ليس لي مالٌ غيره.

فيه دلالة على أنّ سبب بيعه كونه لا يملك شيئًا غيره، وأصرح من هذا رواية

(1)

- راجع "الأنساب" للسمعانيّ ج 4 ص 171 - 172.

ص: 13

للبخاريّ، من طريق عطاء بن أبي رباح، عن جابر:"أن رجلًا أعتق غلامًا له عن دبر، فاحتاج، فأخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "من يشريه منّي" .. الحديث. ففيها التصريح بأنّ سبب بيعه هو احتياجه إلى ثمنه، وقد جاءت رواية أخرى فيها بيان أن سببه هو الدين، فقد أخرج الإسماعيليّ، من طريق أبي بكر بن خلاّد، عن وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، وفيه: "أعتق غلامًا له، وعليه دينٌ"، وقد جاءت رواية أخرى بينت السببين معًا، فقد أخرج النسائيّ من طريق الأعمش، عن سلمة بن كهيل، بلفظ: "أنّ رجلًا من الأنصار أعتق غلاما له عن دبر، وكان محتاجًا، وكان عليه دينٌ، فباعه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم، فأعطاه، وقال: اقض دينك".

والحاصل أنّ سبب بيعه كونه فقيرًا محتاجًا إليه، حيث لا مال له سواه، وتحمّله الدين، واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي) فيه جواز بيع المدبّر، وفيه خلاف بين أهل العلم، والراجح جوازه مطلقًا، وهو قول الشافعيّ، وأهل الحديث. ومنهم من منع مطلقًا، وهو قول مالك، والأوزاعيّ، والكوفيين. ومنهم من أجازه للحاجة، وهو قول الليث بن سعد.

وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرحه": من لا يرى بيع المدبّر، منهم من يحمله على أنه كان مدبّرًا مقيّدًا بمرضٍ، أو بمدّة، كعلمائنا -يعني الحنفيّة- ومنهم من يحمله على أنه دبرّه، وهو مديونٌ، كأصحاب مالك، والأول بعيدٌ، والثاني يردّه آخر الحديث انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- إنصاف منه حيث ردّ على أهل مذهبه، وغيرهم؛ لمخالفتهم الحديث، فيا ليت أصحاب المذاهب المتأخرين كلهم كانوا هكذا، وانقادوا للنصّ إذا اتّضح لهم الحقّ، وأن لا يعاندوا، ولا يتعضبوا لمذهبهم، ولا يتعلّلوا بتعليلات باردة في إعراضهم عن النصّ بالتأويل البعيد.

اللَّّهمّ أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، إنك أرحم الراحمين.

وسيأتي لنا عودة إلى إتمام البحث في هذه المسألة في محلّه من "كتاب البيوع" في "باب بيع المدبّر" 84/ 4652 - إن شاء اللَّه تعالى.

(فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ) هو نُعيم بن عبد اللَّه بن أسيد بن عبد عوف بن

(1)

- راجع "شرح السندي" لهذا الكتاب ج 5 ص 70.

ص: 14

عبيد بن عويج بن عديّ بن كعب القرشيّ العدويّ، المعروف بـ "النحّام"، قيل له ذلك؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"دخلت الجنّة، فسمعت نَحْمة من نُعيم". وأخرج ابن قتيبة في "الغريب" من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، قال: خرجنا في سريّة زيد بن حارثة التي أصاب فيها بني فَزَارةَ، فأتينا القوم خلوفًا، فقاتل نعيم بن النحّام العدويّ يومئذ قتالًا شديدًا.

و"النحْمَةُ" هي السَّعْلَة التي تكون في آخر النَّحْنَحَة الممدود آخرها.

وقال خليفة: أمّه فاختة بنت حرب بن عبد شمس، وهي عدويّة أيضًا، من رهط عمر. وقال البخاريّ: له صحبة. وقال مصعبٌ الزبيريّ: كان إسلامه قبل عمر، ولكنّه لم يُهاجر إلا قبيل فتح مكة، وذلك لأنه كان يُنفق على أرامل بني عديّ، وأيتامهم، فلما أراد أن يهاجر، قال له قومه: أقم ودِنْ بأيّ دين شئت، وكان بيت بني عديّ بيته في الجاهليّة، حتى تحوّل في الإسلام لعمر في بني رَزَاح. وقال الزبير: ذكروا أنه لما قدم المدينة قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يا نُعيم، قومك كانوا خيرًا لك من قومي"، قال: بل قومك خير يا رسول اللَّه، قال:"إن قومي أخرجوني، وإن قومك أقرّوك"، فقال نعيم: يا رسول اللَّه، إن قومك أخرجوك إلى الهجرة، وإن قومي حبسوني عنها. وقال الواقديّ: حدّثني يعقوب بن عمرو، عن نافع العدويّ، عن أبي بكر بن أبي الجهم، قال: أسلم نعيم بعد عشرة، وكان يكتم إسلامه. وقال ابن أبي خيثمة: أسلم بعد ثمانية وثلاثين إنسانًا. وذكر موسى بن عقبة في "المغازي" عن الزهريّ، أنّ نعيمًا استشهد بأَجْنَادِين، في خلافة عمر. وكذا قال ابن إسحاق، ومصعبٌ الزبيريّ، وأبو الأسود، وعروة، وسيفٌ في "الفتوح"، وأبو سليمان بن زَبْر. قال الواقديّ: وكانت أجنادينُ قبل اليرموك، سنة خمس عشرة. وقال ابن الْبَرْقيّ: يقول بعض أهل النسب: إنه قتل يوم مؤتة في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وكذا قال ابن الكلبيّ. وأما ما ذكره عمر بن شبّة في "أخبار المدينة" عن أبي عبيد المدنيّ، قال: ابتاع مروان من النحّام داره بثلثمائة درهم، فأدخلها في داره، فهو محمولٌ على أن المراد به إبراهيم بن نعيم المذكور، فإنه يقال له أيضًا: النحّام. ذكر هذا كلّه في "الإصابة"

(1)

.

(بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ) قال في "الفتح": اتفقت الطرق على أنّ ثمنه ثمانمائة درهم، إلا ما أخرجه أبو داود من طريق هشيم، عن إسماعيل، قال:"سبعمائة، أو تسعمائة" انتهى (فَجَاءَ بَها رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ) زاد في رواية الأوزاعيّ، عن

(1)

- راجع "الإصابة في تمييز الصحابة" ج 10 ص 174 - 176.

ص: 15

عطاء بن أبي رباح، عند أبي داود في آخره:"أنت أحق بثمنه، واللَّه أغنى عنه".

وهذا كلّه صريحٌ في كونه صلى الله عليه وسلم باع ذلك المدبرّ في حياة ذلك الرجل، وفيه دلالة على وَهَم شريك، في روايته عن سلمة بن كهيل، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بلفظ:"أنّ رجلًا مات، وترك مدبّرًا، ودينًا، فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فباعه في دينه بثمانمائة درهم". أخرجه الدارقطنيّ، ونقل عن شيخه أبي بكر النيسابوريّ أنّ شريكًا أخطأ فيه، والصحيح ما رواه الأعمش، وغيره، عن سلمة، وفيه:"ودفع ثمنه إليه".

وقد رواه أحمد عن أسود بن عامر، عن شريك بلفظ:"أنّ رجلًا دبّر عبدًا له، وعليه دينٌ، فباعه النبيّ صلى الله عليه وسلم في دين مولاه". قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا شبيهٌ برواية الأعمش، وليس فيه للموت ذكر، وشريك كان تغيّر حفظه لَمّا ولي القضاء، وسماع من حمله عنه قبل ذلك أصحّ، ومنهم أسود المذكور انتهى

(1)

.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ابْدَأْ بِنَفْسِكَ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا) وفي رواية: "إذا كان أحدكم فقيرًا، فليبدأ بنفسه"(فَإِن فَضَلَ شَيْءٌ، فَلأَهْلِكَ) أي فهو لأهلك، فتنفقه عليهم (فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ عَنْ أَهْلِكَ، فَلِذِي قَرَابَتِكَ) أي لأقربائك الذين ليسوا من أهلك (فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ، فَهَكَذَا، وَهَكَذَا") أي تتصدق به في وجوه الخير، كما بين المشار إليه بقوله (يَقُولُ: بَيْنَ يَدَيْكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ) هذا التفسير من بعض الرواة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-60/ 2546 وفي "البيوع" 84/ 4652 و 4653 - وفي "الكبرى" 62/ 2326 وفي "البيوع" 85/ 6248 و 6249 و 6250. وأخرجه (خ) في "البيوع" 1997 (م) في "الزكاة" 1663 وفي "الأيمان" 3155 (د) في "العتق" 3445 و 3446 (ت) في "البيوع" 1140 (ق) في "الأحكام" 2504 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 13619. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواب السؤال بـ "أيّ

(1)

- راجع "الفتح" ج 5 ص 173 - 174.

ص: 16

الصدقة أفضل"، وهو أنّ أفضل الصدقة الصدقة على النفس، ثم الأهل، ثم الأقرباء (ومنها): مشروعية تدبير المملوك (ومنها): أنّ الحقوق إذا تزاحمت قُدْم الأوكد، فالأوكد (ومنها): أنّ الأفضل في صدقة التطوّع أنّ ينوّعها في جهات الخير، ووجوه البرّ، بحسب المصلحة، ولا ينحصر في جهة بعينها (ومنها): أنّ فيه دلالةً ظاهرة لما ذهب إليه الشافعيّ، وأهل الحديث، من جواز بيع المدبّر، وهو المذهب الراجح، وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه، إن شاء اللَّه تعالى (ومنها): أن الدين مقدّم على التبرّع بالتدبير (ومنها): أن للإمام أن يبيع أموال الناس بسبب ديونهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌61 - (صَدَقَةُ الْبَخِيلِ)

2547 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ

ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مَثَلَ الْمُنْفِقِ الْمُتَصَدِّقِ، وَالْبَخِيلِ، كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ، أَوْ جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، مِنْ لَدُنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَإِذَا أَرَادَ الْمُنْفِقُ أَنْ يُنْفِقَ، اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ الدِّرْعُ، أَوْ مَرَّتْ حَتَّى تُجِنَّ بَنَانَهُ، وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يُنْفِقَ، قَلَصَتْ، وَلَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَهَا، حَتَّى أَخَذَتْهُ بِتَرْقُوَتِهِ، أَوْ بِرَقَبَتِهِ» ، يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُوَسِّعُهَا، فَلَا تَتَّسِعُ، قَالَ طَاوُسٌ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يُشِيرُ بِيَدِهِ، وَهُوَ يُوَسِّعُهَا، وَلَا تَتَوَسَّعُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن منصور) الجوّاز المكيّ، ثقة [10] من أفراد المصنف.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، أبو الوليد، وأبو خالد المكي، ثقة فقسيه فاضل، يدلس يرسل [6] 28/ 32.

ص: 17

4 -

(الْحَسَن بْن مُسْلِمٍ) بن يَنّاق -بفتح التحتانية، وتشديد النون، آخره قاف- المكّيّ، ثقة [5].

قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال أبو داود: كان من العلماء بطاوس. وقال ابن سعد: مات قبل طاوس، وكان ثقة، وله أحاديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات". مات قديمًا قبل المائة بقليل. روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله عند المصنف في هذا الكتاب تسعة أحاديث برقم 2547 و 2721 و 2922 و 2987 و 3535 و 3692 و 3704 و 5097.

5 -

(طاوس) بن كيسان اليماني الثقة الثبت الفقيه [3] 27/ 31.

6 -

(أبو الزناد) عبد اللَّه بن ذكران المدني، ثقة فقيه [5] 7/ 7.

7 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز المدني، ثقة ثبت [3] 7/ 7.

8 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بالنسبة للسند الأول، ومن خماسياته بالنسبة للثاني. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه كما سبق آنفًا. (ومنها): أن السند الأول مسلسل بالمكيين غير طاوس فيمني، وأبي هريرة فمدني والثاني مسلسل بالمدنيين غير شيخه، وسفيان فمكيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ طَاوُسٍ) بن كيسان -رحمه اللَّه تعالى- أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبا هُرَيْرَة) - رضي اللَّه تعالى عنه -، ولم يسق المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- متن هذا السند، وقد ساقه البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في، "صحيحه"، في "كتاب اللباس"، فقال:

5351 حدثنا عبد اللَّه بن محمد، حدثنا أبو عامر، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن، عن طاوس، عن أبي هريرة، قال: ضرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مثل البخيل والمتصدق، كمثل رجلين، عليهما جبتان، من حديد، قد اضطُرَّت أيديهما إلى ثُدِيِّهما، وتَرَاقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة، انبسطت عنه، حتى تُغشِى أنامله، وتَعفُوَ أَثَرَه، وجعل البخيل كلما هَمَّ بصدقة، قلصت، وأخذت كلُّ حَلْقَة بمكانها"، قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول بإصبعه هكذا، في جيبه، فلو رأيته يوسعها، ولا تتوسع. تابعه ابن طاوس، عن أبيه، وأبو الزناد، عن الأعرج "في

ص: 18

الجبتين". وقال حنظلة: سمعت طاوسا، سمعت أبا هريرة، يقول: "جبتان" وقال جعفر بن حيان، عن الأعرج: "جبتان" انتهى

(1)

.

(ثُمَّ قَالَ) أي سفيان بن عُيينة، فلسفيان في هذا الحديث طريقان: أحدهما: طريق ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -.

والثاني: طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - (حَدَّثَنَاه) أي الحديث الآتي (أَبُو الزَّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان القرشيّ (عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هُرْمُز (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، وفي رواية البخاريّ:"أنّ عبد الرحمن حدثه، أنه سمع أبا هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مَثَلَ الْمُنْفِقِ، الْمُتَصَدِّقِ) أي صفة المنفق على نفسه، وأهله، وصفة المتصدّق في سُبُل الخير، فإن البخيل يمنع الأمرين جميعًا، فلذلك جمع بينهما، وقد جاء الاقتصار على أحدهما؛ لكونهما كالمتلازمين عادة. أفاده السنديّ

(2)

(وَالْبَخِيلِ) ووقع في رواية مسلم: "مثل المنفق، والمتصدّق" بحذف "والبخيل"، قال النوويّ في "شرحه": هكذا وقع هذا الحديث، في جميع النسخ، من رواية عمرو -يعني ابن محمد الناقد- قال القاضي عياض وغيره: هذا وَهَمٌ، وصوابه مثل ما وقع في باقي الروايات:"مثل البخيل، والمتصدّق"، وتفسيرهما آخر الحديث يبيّن هذا. وقد يحتمل أن صحّة رواية عمرو هكذا أن تكون على وجهها، وفيها محذوفٌ، تقديره:"مثل المنفق، والمتصدّق، وقسيمهما، وهو البخيل"، وحذف "البخيل"؛ لدلالة المنفق والمتصدّق عليه، كقول اللَّه تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} الآية [النحل: 81]: أي "والبرد"، وحُذف ذكر البرد لدلالة الكلام عليه انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-

(3)

.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: قد رواه الحميديّ، وأحمد، وابن أبي عمر، وغيرهم في "مسانيدهم" عن ابن عيينة، فقالوا في رواياتهم:"مثل المنفق، والبخيل"، كما في رواية شعيب، عن أبي الزناد، وهو الصواب انتهى

(4)

.

(كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ) هذا هو الصواب، ووقع في رواية مسلم:"كمثل رجل" بالإفراد، قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: هكذا وقع في الأصول كلّها "كمثل رجل" بالإفراد، والظاهر أنه تغيير من بعض الرواة، وصوابه:"كمثل رجلين" انتهى (عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ) -

(1)

- راجع "صحيح البخاري" ج 11 ص 441 "كتاب اللباس" بنسخة "الفتح".

(2)

- راجع "شرح السنديّ" ج 5 ص 71.

(3)

- راجع "شرح مسلم" للنوويّ ج 7 ص 107 - 108. طبعة دار الريّان للتراث.

(4)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 60.

ص: 19

بضم الجيم، وتشديد الموحّدة، تثنية جُبّة، وهو ثوب مخصوص (أَوْ جُنَّتَانِ) بالنون بدل الباء الموحّدة، وهي الدرع، وهذا شكّ من الراوي، وصوّبوا النون؛ لقوله:"من حديد"، وقوله:"واتسعت عليه الدرع"، وغير ذلك. ذكره النوويّ. وأفاد الحافظ في "الفتح" أن المحفوظ في هذه الرواية بالموحّدة، ومَن رواه فيها بالنون، فقد صحّف.

قال: ورُجّحت رواية النون لقوله: "من حديد". والجنّة في الأصل الحصين، وسمّيت بها الدرع؛ لأنها تُجِنّ صاحبها، أي تحصنه. والجبّة -بالموحّدة ثوب مخصوص، ولا مانع من إطلاقه على الدرع انتهى

(1)

.

وقال السنديّ: نعم إطلاق الجبّة -بالباء- على الجنّة -بالنون- مجازًا غير بعيد، فينبغي أن تكون الجنّة -بالنون- هي المرادة في الروايتين انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن الروايتين بالموحّدة، والنون صحيحتان. واللَّه تعالى أعلم.

(مِنْ حَدِيدٍ)"من" لبيان الجنس، فتكون بيانًا للجنّتين، وتتعلّق بمحذوف، صفةٍ لهما، أي كائنين من حديد (مِنْ لَدُنْ ثُدِيِّهمَا)"من" ابتدائية متعلّق بحال محذوف، أي حال كون الجبّتين، أو الجنّتين كائنتين من ثُديهّما.

و"الثُّدِيُّ" -بضمّ المثلّثة، وكسر الدال المهملة، وتشديد الياء، جمع ثَدْي -بفتح، فسكون، كفلس، وفُلُوس، وأصله ثُدُويٌ"، اجتمعت الواو والياء في كلمة، وسبقت إحداهما بالسكون الأصليّ، فقلبت الواو ياء، ثم أدغمت في الياء، كما قال ابن مالك -رحمه اللَّه تعالى- في "الخلاصة":

إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا

وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا

فَيَاءَ الْوَاوَ اقْلِبَنَّ مُدْغِمَا

وَشَذَّ مُعْطَى غَيْرَ مَا قَدْ رُسِمَا

قال في "المصباح": الثَّدْيُ للمرأة، وقد يقال في الرجل أيضًا. قاله ابن السّكّيت.

ويُذكّر، ويؤنّث، فيقال: هو الثَّدْيُ، وهي الثديُ، والجمع أَثْدٍ، وثُدِيٌّ، وأصلهما

أَفْعُلٌ، وفُعُولٌ، مثل أفلُسٍ، وفُلُوسٍ، وربّما جمُع على ثِدَاءٍ، مثلُ سَهْمِ وسِهَام انتهى

(2)

.

وفي " القاموس": " الثَّدْيُ -أي بالفتح- وُيكسر، وكالثَّرَى: خاصّ بالمرأة، أو عامّ، ويؤنّث، وجمعه أَثْدٍ، وثُدِيٌ، كَحُليٌّ انتهى. قال الشارح المرتضى: قوله: "كحليّ" أي بالضمّ على فُعُولٍ، كما في "الصحاح"، قال: و"ثِدِيّ" أيضًا بكسر الثاء إتباعًا انتهى.

(1)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 60.

(2)

- "المصباح المنير".

ص: 20

(إِلَى تَرَاقِيهِمَا) بفتح المثنّاة الفوقيّة، وقاف، جع تَرْقُوة -بفتح المثنّاة، وسكون الراء، وفتح الواو-: هما العظمان المشرفان في أعلى الصدر.

قال في "المصباح": التَّرْقُوَة: وزنَهُا فَعْلُولَةٌ -بفتح الفاء، وضمّ اللام- وهو العظم الذي بين ثُغْرَة النَّحْر والعاتق من الجانبين، والجمع التَرَاقِي. قال بعضهم: ولا تكون التَّرْقُوة لشيء من الحيوان إلا للإنسان انتهى.

وهذا إشارة إلى ما جُبل عليه الإنسان من الشحّ، ولذا جمع بين البخيل، والجواد فيه (فَإِذَا أَرَادَ الْمُنْفِقُ أَنْ يُنْفِقَ، اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ الدِّرْعُ) -بكسر، فسكون-: قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: دِرْعُ الحديد مؤنّثةٌ في الأكثر، وتُصغّر على دُريع، بغير هاء على غير قياس، وجاز أن يكون التصغير على لغة من ذكّر، وربّما قيل: دُريعةٌ بالهاء، وجمعها أَدْرُعٌ، ودُرُوعٌ، وأدراعٌ. قال ابن الأثير: وهي الزَّرَدِية. ودرع المرأة: قميصها مذكّر انتهى.

وفيه إشارة إلى ما يُفيض اللَّه تعالى على من يشاء من التوفيق للخير، فيشرح لذلك صدره (أَوْ مَرَّتْ) أي جازت ذلك المحلَّ. و"أو" للشكّ من بعض الراوة (حَتَّى تُجِنَّ) - بضمّ أوّله، وكسر الجيم، وتشديد النون- من أجنّ الشيءَ: إذا ستره، أي تستر (بَنَانَهُ) بالنصب مفعول "تُجنّ" وهو -بفتح الموحّدة، ونونين خفيفتين- قال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: البَنَانُ: الأصابع. وقيل: أطرافها، الواحدة بَنَانَةٌ. قيل: سمّيت بَنَانًا؛ لأنّ بها صلاحَ الأحوال التي يستقرّ بها الإنسان؛ لأنه يقال: أَبَنَّ بالمكان: إذا استقرّ به. انتهى.

(وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ) أي تمحوَ أثر مشيه بسبوغها، وكمالها. يقال: عما المنزلُ عَفْوًا، وعَفَاءً -بالفتح، والمدّ: دَرَسَ، وعَفَتْهُ الريحُ، يُستعمل لازمًا، ومتعدّيًا، ومنه:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} : أي محا ذنوبك، وعفوتُ الحقّ: أسقطته، كأنّك محوته عن الذي هو عليه، وعافاه اللَّه: محا عنه الأسقام. قاله الفيّوميّ.

والمناسب هنا المتعدّي، ولذا نَصَبَ "أثرَهُ". والمعنى: أن الصدقة تستر خطاياه، كما يغطّي الثوبُ الذي يُجَرُّ على الأرض أثرَ صاحبه، إذا مشى بمرور الذيل عليه. قاله في "الفتح".

وقال النوويّ نقلًا عن القاضي عياض -رحمهما اللَّه تعالى-: هو تمثيلٌ لنماء المال بالصدقة، والإنفاق، والبخل بضد ذلك. وقيل: هو تمثيلٌ لكثرة الجود والبخل، وأنّ المعطي إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء، وتعوّد ذلك، وإذا أمسك صار ذلك عادةً له.

وقيل: معنى "تعفو أثره" أي تَذْهَبَ بخطاياه، وتمحوها. وقيل في البخيل:"قلَصَت، ولَزِمَت كلُّ حلقة مكانها": أي يُحمَى عليه يوم القيامة، فيكوى بها. والصواب الأوّل، والحديث جاء على التمثيل، لا على الخبر عن كائن. وقيل: ضرب المثل بهما؛ لأنّ

ص: 21

المنفق يستره اللَّه تعالى بنفقته، ويستر عورته في الدنيا والآخرة، كستر هذه الْجُنَّة لابسها، والبخيل كمن لبس جُبّة إلى ثدييه، فيبقى مكشوفًا، بادي العورة، مُفتَضَحًا في الدنيا والآخرة انتهى

(1)

.

(وَاِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يُنْفِقَ، قَلَصَتْ) -بفتح القاف، واللام، والصاد المهملة-: أي انقبضت. يقال: قَلَصَت شَفَتُهُ تَقْلِصُ، من باب ضرب: انزَوَتْ، وتقلَّصَت مثله، وقَلَصَ الظلُّ: ارتفع، وقَلَصَ الثوبُ: انزوَى بعد غَسْلِهِ. قاله الفيّوميّ (وَلَزِمَتْ) وفي لفظ: "لَزِقَت"(كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَهَا) يعني اشتدّت، والتصقت الحلقة بعضها ببعض. قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: حَلْقَةُ الباب بسكون اللام، من حديد وغيره، وحَلْقَةُ القوم الذين يجتمعون مستديرين، والْحَلْقَةَ السّلاحُ كلُّهُ بالسكون، والجمعُ حَلَقٌ بفتحتين، على غير قياس. وقال الأصمعيّ: والجمع حِلَقٌ بكسر، ففتح، مثلُ قَصْعَة وقِصَعٍ، وبَدْرَةٍ وبِدَرٍ. وحكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء أنّ الحَلَقَة بفتحِ اللام لغة في السكون، وعلى هذا فالجمع بحذف الهاء قياسٌ، مثلُ قَصَبَة وقَصَبٍ. وجمَعَ ابنُ السّراج بينهما، وقال: فقالوا: حَلَقٌ بفتحتين، ثم خفَّفُوا الواحد حين ألحقوه الزيادة، وغُيِّرَ المعنى، قال: وهذا لفظ سيبويه انتهى كلام الفيّوميّ ببعض تصرّف

(2)

.

وقال المجد اللغويّ: وحَلْقَةُ الباب، والقوم، وقد تُفتحُ لامهما، وتُكسرُ، أو ليس في الكلام حَلَقَةٌ، محرَّكَةً، إلا جَمْعَ حالق، أو لغةٌ ضعيفة، جمعه حَلَقٌ، محرَّكَةً، وكَبِدَرٍ، وحَلَقَاتٌ، محرَّكةً، وتكسر الحاء انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تحصّل من مجموع ما ذُكر أن "الْحَلْقَة" يجوز في حائه الفتح، والكسر، وفي لامه السكون، وهو الأفصح، والفتح، وهو قليل، وذكر في "تاج العروس" عن "العُباب" كسر اللام، قال: نقله الفراء، والأموي، وقالا: هي لغة لبلحرث بن كعب.

وأما جمعه فحَلَقٌ محرَّكةً، وحِلَق، بكسر، ففتح، وحَلَقَات، محرَّكةً، وتكسر حاؤه. واللَّه تعالى أعلمِ.

(حَتَّى إِذَا أَخَذتهُ بِتَرْقُوَتِهِ) تقدّم معناها قريبًا (أَوْ بِرَقَبَتِهِ) شكّ من الراوي، وجواب "إذا" محذوفٌ دلّ عليه ما بعده، تقديره: أخذ يوسّعها، فلا تتّسع. واللَّه تعالى أعلم.

(يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ) فيه التفات؛ لأنّ الظاهر أن يقول: "أنّي رأيت الخ"

(1)

- راجع "شرح النوويّ على صحيح مسلم" ج 7 ص 109. طبعة دار الريان للتراث.

(2)

- راجع "المصباح المنير".

(3)

- راجع "القاموس المحيط".

ص: 22

(رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُوَسِّعُهَا، فَلَا تَتَّسِعُ) وفي الرواية التالية: "وسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "فيجتهد أن يوسّعها، فلا تتّسع". وفي رواية عند الشيخين:"فأنا رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعه هكذا في جيبه، فلو رأيته يوسّعها، ولا تتّسع". ووقع عند أحمد من طريق ابن إسحاق، عن أبي الزناد في الحديث:"وأما البخيل، فإنها لا تزداد عليه إلا استحكامًا".

(قَالَ: طَاوُسٌ) يعني أن ما تقدّم هو رواية الأعرج، عن أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى - عنه، وأما طاوس، فقال في روايته (سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (يُشِيرُ بِيَدِهِ) وفي نسخة:"بيديه". والظاهر أن هذه الجملة حال من محذوف، تقديره: يقول: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يشير بيده". يوضّح ذلك رواية مسلم من طريق إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، بلفظ: "قال: فأنا رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول بإصبعه في جيبه، فلو رأيته يوسّعها، ولا تَوَسّع" (وَهُوَ يُوَسِّعُهَا) جملة في محلّ نصب على الحال، والواو حاليّة، فهو من الأحوال المترادفة، أو المتداخلة، ويجوز أن تكون الواو عاطفة، فيكون معطوفًا على الحال الأولى (وَلَا تَتَوَسَّعُ) يعني أنه يحاول في توسيعها، ولكنّها لا تقبل التوسيع؛ لاستحكام تقلّصها، وثبوتها في مكانها.

قال التوربشتيّ -رحمه اللَّه تعالى-: معنى الحديث أن الجواد الموفّق إذا همّ بالصدقة اتّسع لذلك صدره، وطاوعته نفسه، وانبسطت بالبذل والعطاء يداه، كالذي لبس درعًا، فاسترسلت عليه، وأخرج منها يديه، فانبسطت حتى خلصت إلى ظهور قدميه، فأجنّته، وحصنته. وأنّ البخيل إذا أراد الإنفاق حَرِجَ به صدره، واشمأزّت عنه نفسه، وانقبضت عنه يداه، كالذي أراد أن يستجنّ بالدرع، وقد غُلّت يداه إلى عنقه، فحال ما ابتُلي به بينه وبين ما يبتغيه، فلا يزيده لبسها إلا ثقلًا، ووبالًا، والتزامًا في العنق، والتواءً، وأَخْذًا بالترقوة انتهى.

وقال في "الفتح": قال الخطّابيّ وغيره: وهذا مثلٌ ضربه النبيّ صلى الله عليه وسلم للبخيل والمتصدّق، فشبّههما برجلين أراد كلّ واحد منهما أن يلبس درعًا، يستتر به من سلاح عدوّه، فصبّها على رأسه ليلبسها، والدرعُ أول ما تقع على الصدر، والثديين إلى أن يُدخل الإنسان يديه في كمّيها، فجَعَلَ المنفقَ كمن لبس درعًا سابغةً، فاستَرسَلَت عليه، حتى سترت جميع بدنه، وهو معنى قوله:"حتّى تعفوَ أثره": أي تستر جميع بدنه. وجَعَلَ البخيلَ كمثل رجل غُلَّت يداه إلى عنقه، كلّما أراد لبسها، اجتمعت في عنقه، فلزمت ترقوتَهُ، وهذا معنى قوله:"قلَصَت": أي تضامّت، واجتمعت.

والمراد أنّ الجواد إذا هَمَّ بالصدقة انفسح لها صدره، وطابت نفسه، فتوسّعت في

ص: 23

الإنفاق -أي وطاوعت يداه بالعطاء-. والبخيل إذا حدّث نفسه بالصدقة شحّت نفسه، فضاق صدره، وانقبضت يداه:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] انتهى.

وقال الطيبيّ: أوقع المتصدّق مقابل البخيل، والمقابل الحقيقيّ السخيّ، إيذانًا بأنّ السخاء ما أَمَرَ به الشرع، وندب إليه من الإنفاق، لا ما يتعاناه المبذّرون، وخصّ المشبّه بهما بلبس الجبّتين من الحديد، إعلامًا بأن الشحّ، والقبض من جبلّة الإنسان، وخلقته، وأنّ السخاء من عطاء اللَّه تعالى، وتوفيقه، يمنحه من يشاء من عباده المفلحين، وخصّ اليد بالذكر؛ لأنّ السخيّ، والبخيل يوصفان ببسط اليد وقبضها، فإذا أريد المبالغة في البخل قيل: مغلولة يده إلى عنقه، وثديه، وتراقيه. وإنما عدل عن الغُلّ إلى الدرع لتصوّر معنى الانبساط والتقلّص، والأسلوبُ من التشبيه المفرّق، شبّه السخيّ الموفّق، إذا قصد التصدّق، يسهل عليه، ويطاوعه قلبه بمن عليه الدرع، ويده تحت الدرع، فإذا أراد أن يُخرجها منها، وينزعها يسهل عليه، والبخيل على عكسه انتهى.

وقال المنذريّ: شبّه صلى الله عليه وسلم نِعَمَ اللَّه تعالى، ورزقه بالْجُنَّة، وفي رواية بالْجُبَّة، فالمنفق كلّما أنفق اتسعت عليه النعم، وسَبَغَت، ووَفَرَت حتّى تستره سَتْرًا كاملًا شاملًا. والبخيل كلّما أراد أن يُنفق منعه الشحّ، والحرص، وخوف النقص، فهو بمنعه يطلب أن يزيد ما عنده، وأن تتّسع عليه النعم، فلا تتّسع، ولا تستر منه ما يروم ستره. انتهى

(1)

.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-61/ 2547 و 2548 - وفي "الكبرى" 63/ 2327 و 2328. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1252 وفي "الجهاد والسير" 2701 وفي "اللباس" 5351 (م) في "الزكاة" 1695 و 1696 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7171 و 8696 و 10352. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان صفة البخيل في الصدقة،

(1)

- راجع "الترغيب والترهيب" ج 4 ص 39. و"مرعاة المفاتيح" ج 6 ص 287 - 288.

ص: 24

فقد مثّله في الحديث بالمثل السوء، والمراد منه التنفير عن البخل، وأنه صفة اللؤماء (ومنها): بيان صفة السخيّ في الصدقة، وأن السخاء من صفات الكرماء المفلحين الذين عناهم اللَّه تعالى بقوله:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9](ومنها): مشروعيّة ضرب الأمثال لتوضيح المقال، حتى يتّضح للسامع أتمّ الاتضاح، فيحصُرَه، ويستقرّ في ذهنه غاية الاستقرار، فيسحتضره (ومنها): ما قاله النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وفي هذا دليل على لباس القميص، وهذا ترجم عليه البخاريّ "باب جيب القميص من عند الصدر"؛ لأنه المفهوم من لباس النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه القصة، مع أحاديث أخرى صحيحة، وردت في ذلك انتهى

(1)

.

قال ابن بطّال -رحمه اللَّه تعالى-: وموضع الدلالة منه أنّ البخيل إذا أراد إخراج يده أمسكت في الموضع الذي ضاق عليها، وهو الثدي، والتراقي، وذلك في الصدر، قال: فبان أنّ جيبه كان في صدره؛ لأنه لو كان في يده لم تضطرّ يداه إلى ثدييه، وتراقيه انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2548 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ، مَثَلُ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ، مِنْ حَدِيدٍ، قَدِ اضْطَرَّتْ أَيْدِيَهُمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَكُلَّمَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةٍ، اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ، حَتَّى تُعَفِّىَ أَثَرَهُ، وَكُلَّمَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِصَدَقَةٍ، تَقَبَّضَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا، وَتَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ، وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ» ، وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «فَيَجْتَهِدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا، فَلَا تَتَّسِعُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو ثقة. و"عفّان": هو ابن مسلم الصفّار البصريّ. و"وُهيب": هو ابن خالد الباهليّ البصريّ.

والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم شرحه، والكلام على مسائله في الذي قبله.

وقوله: "قد اضطرّت أيديهما إلى تراقيهما" قال القسطلّاني: بفتح الطاء، ونصب التحتانية الثانية، من "أيديهما" عند أبي ذرّ على المفعوليّة، ولغيره بضمّ الطاء، وسكون التحتيّة، مرفوعٌ نائبٌ عن الفاعل. وقال القاري: بضمّ الطاء: أي شُدّت، وضُمّت، والتصقت. وفي نسخة بفتح الطاء، ونصب "أيديهما" على أنّ ضمير الفعل إلى جنس الْجُنّة المفهوم من التثنية انتهى

(2)

.

(1)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 110.

(2)

- راجع "المرعاة" ج 6 ص 287.

ص: 25

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أنّ في "اضطرّت" ضبطين: أحدهما: البناء للفاعل، وعليه فالفاعل ضمير يعود إلى الجنّة المفهومة من ذكر الجنتين، و"أيديَهُما" منصوب على المفعولية. والثاني البناء للمفعول، وعليه فـ "أيديهما" نائب عن الفاعل.

وقوله: "اتسعت" الضمير فيه أيضًا يعود إلى ما عاد عليه الضمير الفاعل، أي اتسعت الجبّة.

وقوله: "حتى تُعفّي أثره" بتشديد الفاء للمبالغة، من التعفية، وهو التغطية، والستر، أي حتّى تغطي، وتستر أثر مشيه. وهو بمعنى قوله في الرواية السابقة:"حتّى تَعفُوَ أثره". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌62 - (الإِحْصَاءُ فِي الصَّدَقَةِ)

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على حكم الإحصاء في الصدقة، وهو النهي.

و"الإحصاء": مصدر أحصيتُ الشيءَ أُحصيه: إذا علمته، أو عَدَدته، أو أطقته، والمناسب المعنى الأول والثاني. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2549 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ حَدَّثَنِي

(1)

اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ هِنْدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: كُنَّا يَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ جُلُوسًا، وَنَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَأَرْسَلْنَا رَجُلاً إِلَى عَائِشَةَ؛ لِيَسْتَأْذِنَ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهَا، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ سَائِلٌ مَرَّةً، وَعِنْدِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرْتُ لَهُ بِشَىْءٍ، ثُمَّ دَعَوْتُ بِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمَا تُرِيدِينَ أَنْ لَا يَدْخُلَ بَيْتَكِ شَيْءٌ، وَلَا يَخْرُجَ إِلاَّ بِعِلْمِكِ؟» ، قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «مَهْلاً يَا عَائِشَةُ لَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عز وجل عَلَيْكِ» .

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بنُ عَبدِ اللَّهِ بْنِ عَبدِ الْحَكَمِ) المصري الفقيه، ثقة [11] 120/ 166.

2 -

(شُعيب) بن الليث الفهمي مولاهم، أبو عبد الملك المصري، ثقة نبيل فقيه،

(1)

- وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 26

من كبار [10] 120/ 166.

3 -

(الليث) بن سعد، أبو الحارث المصري، ثقة ثبت فقيه [7] 31/ 35.

4 -

(خالد) بن يزيد الجمحيّ المصريّ الفقيه الثقة [6] 41/ 686.

5 -

(ابن أبي هلال) هو: سعيد بن أبي هلال الليثيّ مولاهم، أبو العلاء المصريّ الثقة [6] /686.

6 -

(أُميّة بن هند) المزنيّ الحجازيّ، ويقال: إنه ابن هند بن سعد بن سهل بن حُنيف، مقبول [5].

روى عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف، وعبد اللَّه بن عامر بن ربيعة، وعروة بن الزبير، وغيرهم. وعنه سعيد بن أبي هلال، وعبد اللَّه بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.

قال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: لا أعرفه. وذكره ابن حبّان في "الثقات" في التابعين، فقال: أميّة بن هند، عن أبي أمامة، وعنه سعيد بن أبي هلال. ثم ذكره في أتباع التابعين، فقال: أميّة بن هند بن سهل بن حُنيف، يروي عن عبد اللَّه بن عامر، إن كان سمع منه، وعنه عبد اللَّه بن عيسى انتهى. تفرّد به المصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

7 -

(أَبِو أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيف) الأنصاريّ، معروف بكنيته، واسمه أسعد، معدود في الصحابة للرؤية، مات سنة (100) وله (92) سنة، تقدّم في 8/ 509.

8 -

(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من ثمانيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه فإنه من أفراده، وأمية فإنه من أفراد وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين، إلى ابن أبي هلال، والباقون مدنيون. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، ورواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) أسعد (بْنِ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ) الأنصاريّ، أنه (قَالَ: كُنَّا يَوْما في الْمَسْجدِ) أي النبوي (جُلُوسا) جمع جالس (وَنَفَرٌ) بالرفع عطفًا على اسم "كان"؛ لوجود الفصل، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَإِن عَلَى ضَمِيرِ رَفْعِ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

ص: 27

أَوْ فَاصل مَا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

و"النفر" -بفتحتين-: جماعة الرجال، من ثلاثة إلى عشرة. وقيل: إلى سبعة، ولا يقال: نَفَرٌ فيما زاد على العشرة. قاله الفيّوميّ. والظاهر أن عطفه على ضمير المتكلّم من باب عطف التفسير؛ لأن المتكلّم من جملتهم. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله (مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ) بيان للنفر (فَأَرْسَلْنَا رَجُلًا إلَى عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (لِيَسْتَأْذِنَ فَدَخَلْنَا عَلَيْهَا، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ سائِلٌ مَرَّةً، وَعِنْدِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرْتُ لَهُ بِشَيءٍ) أي بإعطائه شيئًا من المال (ثُمَّ دَعَوْتُ بهِ) أي بذلك الشيء الذي أَمرتُ به للسائل (فَنَظَرْتُ إلَيْهِ) أي نظرت إلى ذلك الشيء؛ لَأعرف قلّته وكثرته (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا) الهمزّة للاستفهام التقريريّ، و"ما" نافية، وذكر ابن هشام الأنصاريّ في "مغنيه" عن المالِقيَ

(1)

أن "أما" حرف عَرْض، بمنزلة "أَلَا"، فتختصّ بالفعل، نحو:"أما تقومُ"، و"أما تقعدُ". قال ابن هشام: وقد يُدَّعَى في ذلك أن الهمزة للاستفهام التقريريّ، مثلها في "ألم"، وألا"، وأنّ "ما" نافية، وقد تحذف هذه الهمزة، كقوله [من الخفيف]:

مَا تَرَى الدَّهْرَ قَدْ أَبادَ مَعَدًّا

وَأَبَادَ السَّرَاةَ مِنْ عَدْنَانِ

انتهى كلام ابن هشام بتصرّف

(2)

. والمعنى الثاني هو المناسب هنا.

(تُرِيدِينَ أَنْ لَا يَدْخُلَ بَيتَكِ شَيْءٌ، وَلَا يَخرُجَ إلَّا بِعِلْمِكِ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ) قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: تصديق، وتقريرٌ لما بعد الاستفهام من النفي، أي ما أريد ذلك، بل أريد أن يعطيني اللَّه تعالى من غير علمي بذلك، ضرورةَ أنّ الذي يدخل بعلم الإنسان محصورٌ، ورزق اللَّه أوسع من ذلك، فيطلب منه تعالى أن يُعطي بلا حصرٍ، ولا عَدّ.

وحاصل الاستفهام أما تريدين تقديل الصدقة ورزق اللَّه؟

(3)

،. وحاصل الجواب أنها ما تريد ذلك، بل تريد التكثير فيهما انتهى كلام السنديّ

(4)

.

(قال لها: "مَهْلًا يَا عَائِشَةُ")"المهل" -بسكون الهاء، ويجوز فتحها-: الاتّئاد في

(1)

- "المالقيّ" بكسر اللام، بعدها قافٌ: نسبة إلى مالِقَةَ، بلدٌ بالأندلس. أفاده في "لبّ اللباب" ج2 ص 231.

(2)

- راجع "مغني اللبيب" ج1 ص 55.

(3)

- هكذا في نسخة "شرح السنديّ""أما تريدين تقليل الصدقة، ورزق اللَّه"، ولعلّ الصواب:"أنها تريد تقليل الصدقة، ورزق اللَّه". واللَّه تعالى أعلم.

(4)

- راجع "شرح السنديّ" ج 5 ص 73.

ص: 28

الأمر، والرفق، والسكينة. قال المجد اللغويّ: الْمَهْل، ويُحرّك، والْمُهْلَة -بالضمّ-: السكينة، والرفق. وأمهله: رَفَقَ به، ومَهَّلَه تمهيلًا: أجّله. وتَمَهَّلَ: اتّأَد. ويقال: مهلاً يارجلُ، وكذا للأنثى، والجمعِ، بمعنى أَمْهِلْ انتهى

(1)

. ونصبه على أنه مفعولٌ مطلق لفعل مقدّر، أي أَمْهِلِي مَهْلًا.

وقال السنديّ: "مهلًا" أي استعملي الرفق، والتأنّي في الأمور، واتركي الاستعجال المؤدّي إلى أن تطلبي علمَ ما لا فائدة في علمه انتهى

(2)

.

(لَا تُحصِي) صيغة نهيٍ للمؤنّث، من الإحصاء، مجزوم بـ "لا" الناهية، وجزمه بحذف النون، والياء ضمير المخاطبة، أي لا تَعُدِّي ما تعطينه (فَيُحْصِيَ اللَّهُ عز وجل عَلَيْكِ) بالنصب بـ "أن" مقدّرةً بعد الفاء السببيّة، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فا جَوَابِ نَفْي أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

أي لا يوجد منك إحصاء، فيوجد إحصاء اللَّه تعالى عليك.

قال الكرمانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: الإحصاء العدّ، قالوا: المراد منه عَدّ الشيء للتبقية، والادّخار، وترك الإنفاق في سبيل اللَّه، وإحصاء اللَّه تعالى يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يَحبس عنك مادّة الرزق، وُيقلله بقطع البركة حتى يصير كالشيء المعدود. والآخر: أنه يناقشك في الآخرة عليه. انتهى.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا من مقابلة اللفظ باللفظ للتجنيس، كما قال اللَّه تعالى:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} الآية [آل عمران: 54]. ومعناه: يمنعك كما منعت، ويُقتّر عليك كما قتّرت، ويُمسك فضله عنك كما أمسكته. وقيل: معنى "لا تحصي" أي لا تعدّيه، فتستكثريه، فيكون سببًا لانقطاع إنفاقك انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": الإحصاء معرفة قدر الشيء وزنًا، أو عددًا، وهو من باب المقابلة، والمعنى النهي عن منع الصدقة خشية النَّفَاد، فإنّ ذلك أعظم الأسباب لقطع مادّة البركة؛ لأنّ اللَّه يثيب على العطاء بغير حساب، ومن لا يحاسبُ عند الجزاء لا يحسب عليه عند العطاء، ومن عدم أنّ اللَّه يرزقه من حيث لا يحتسب، فحقّه أن يُعطي، ولا يحسُب. وقيل: المراد بالإحصاء عَدُّ الشيء لأنّ يُدَّخَر، ولا يُنفَق منه، وإحصاءُ اللَّه قطع البركة عنه، أو حبس مادّة الرزق، أو المحاسبة عليه في الآخرة

(1)

- راجع "القاموس المحيط".

(2)

- راجع "شرح السنديّ" ج 5 ص 73.

(3)

- راجع "شرح النووي على صحيح مسلم" ج 7 ص 119.

ص: 29

انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا حديث صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده، أُميّة بن هند، ولم يوثّقه إلا ابن حبّان، بل قال ابن معين: لا أعرفه؟

[قلت]: الحديث له شاهد، أخرجه أبو داود في "سننه"، فقال:

1700 حدثنا مسدد، حدثنا إسماعيل، أخبرنا أيوب، عن عبد اللَّه بن أبي مليكة، عن عائشة، أنها ذكرت عِدَّةً من مساكين، قال أبو داود: وقال غيره: أو عِدَّةَ من صدقة، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أعطي، ولا تحصي، فيحصى عليك". انتهى. وهذا إسناد صحيح. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-62/ 2549 - وفي "الكبرى" 64/ 2335. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1700. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو النهي عن الإحصاء في الصدقة (ومنها): أن إحصاء الصدقة سبب للبخل؛ لأنّ النفس تستكثر ما تتصدّق به (ومنها): أن الإحصاء سبب لحبس الرزق، وقطع فضل اللَّه تعالى (ومنها): أن الجزاء من جنس العمل (ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من تعليم أهل بيته السخاء والجود، حتى يفيض اللَّه تعالى عليهنّ بركاته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2550 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ

(1)

، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَهَا «لَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عز وجل عَلَيْكِ» .

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه:"محمد بن آدم": هو الْجُهَنيّ المصّيصيّ، وهو صدوق [10] 93/ 115 فإنه من أفراده هو وأبي داود.

(1)

- سقط من بعض النسخ "ابن عروة".

ص: 30

و"عبدة": هو ابن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقة ثبت، من صغار [8] 7/ 339.

وشرح الحديث يعلم مما قبله وبعده، وهو متفق عليه، وسيأتي تخريجه في الحديث التالي، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، صلى الله عليه وسلم إليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2551 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَجَّاجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ،: أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَيْسَ لِي شَيْءٌ، إِلاَّ مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ، فِي أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: «ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ، وَلَا تُوكِي فَيُوكِيَ اللَّهُ عز وجل عَلَيْكِ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الحسن بن محمد) الزعفرانيّ، أبو عليّ البغداديّ، صاحب الشافعىّ الثقة [10] 21/ 427.

2 -

(حجّاج) بن محمد الأعور المصّيصيّ الحافظ الثبت [9] 28/ 32.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز الفقيه المثبت الفاضل المكيّ، كان يدلّس ويرسل [6] 28/ 32.

4 -

(ابن أبي مليكة) عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبي مُليكة، واسمه زُهير بن عبد اللَّه التيميّ المكيّ الثقة الفقيه [3] 101/ 132.

5 -

(عبّاد بن عبد اللَّه بن الزير) بن العوّام، كان قاضي مكّة زمن أبيه، وخليفته إذا حجّ، ثقة [3] 70/ 1967.

6 -

(أسماء) بنت أبي بكر، زوج الزبير بن العوّام، - رضي اللَّه تعالى عنهم -، من كبار الصحابيّات، عاشت مائة سنة، وماتت سنة ثلاث، أو أربعٍ وسبعين من الهجرة، وتقدّمت ترجمتها في 185/ 293. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين من ابن جريج، وشيخه بغدادي، وحجاج مصيصي .. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، ورواية الراوي عن جدته. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 31

شرح الحديث

(عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) بالنصب مفعولًا لـ " جاء"؛ لأنه يتعدّى بنفسه، يقال: جئتُ زيدًا: إذا أتيت إليه، ويتعدّى بـ "إلى" أيضًا، فيقال: جئت إليه على معنى ذهبتُ إليه. أفاده في "المصباح"(فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَيْسَ لِي شَيْءٌ، إلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ) بن العوّام بن خُوَيلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كلاب، أبو عبد اللَّه القرشيّ الأسديّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، قُتل سنة (36) بعد مُنصَرَفه من وقعة الْجَمَل.

والمعنى: ليس لي مالٌ أتصدق به على المساكين، إلا الذي أعطاني زوجي الزبير قوتًا، أو أعمّ من ذلك.

(فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ) بضمّ الجيم، أي إثمٌ (فِي أَنْ أَرْضَخَ) بفتح الضاد المعجمة: أي أعطي قليلًا. يقال: رَضَختُ له رَضْخًا، من باب نَفَعَ، ورَضِيخًا: أعطيته شيئًا ليس بالكثير، والمال رَضْخٌ، تسميةً بالمصدر، أو فَعْلٌ بمعنى مفعول، مثلُ ضَرْبٍ الأمير، وعنده رَضْخٌ من خيرٍ: أي شيءٌ منه. قاله الفيّوميّ (مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ؟) أي من المال الذي يدخله الزبير عليّ، فحُذف عائد الموصول؛ لكونه فضلة، كما قال في "الخلاصة":

............

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْل أوْ وِصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ

(فَقَالَ: "ارْضَخِي) بفتح الضاد المعجمة، والهمزة فيه همزة وصل؛ لكونه ثلاثيًا. وهذا محمولٌ على ما أعطاها الزبير لنفسها بسبب نفقة وغيرها، أو مما هو ملك للزبير، ولا يَكرَه الصدقةَ منه، بل يرضى به على عادة غالب الناس. وقد سبق بيان المسألة قريبًا. أفاده النوويّ

(1)

"مَا اسْتَطَعْتِ") قال النوويّ: معناه مما يَرضَى به الزبير، وتقديره: إنّ لكِ في الرضخ مراتبَ مباحة، بعضها فوق بعض، وكلّها يرضاها الزبير، فافعلي أعلاها. أو يكون معناه: ما استطعت مما هو ملك لك. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الأخير بعيدٌ، يردّه سياق الحديث، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(وَلَا تُوكِي) من الإيكاء، وهو شدّ رأس الوعاء بالوكاء، وهو الرباط الذي يُربط به. وفي رواية:"لا توعي" بالعين المهملة بدل الكاف، وهو بمعناه، يقال: أوعيتُ المتاع في الوعاء أُوعِيهِ: إذا جعلته فيه (فَيُوكِيَ اللَّه عز وجل عَلَيكِ") أي يمعنك كما منعت،

(1)

- راجع "شرح النوويّ على صحيح مسلم" ج 7 ص 120.

ص: 32

ويقتّر عليك كما قتّرت، ويمسك فضله عنك، كما أمسكت فضلك عن الفقراء والمساكين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أسماء - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-62/ 2550 و 2551 - وفي "الكبرى" 64/ 2331 و 2332. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1433 و 1434 وفي "الهبة" 2590 و 2591 (م) في "الزكاة" 1029 (د) في "الزكاة" 1699 (ت) في "البرّ والصلة" 1960. وفوائد الحديث تقدمت قبل حديث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌63 - (الْقَلِيلُ فِي الصَّدَقَةِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على مشروعية إعطاء القليل في الصدقة.

2552 -

أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْمُحِلِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ

(1)

، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» .

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(نصر بن عليّ) الْجَهْضَميّ البصريّ، ثقة ثبت [10] 20/ 386.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ الحافظ الثبت [8] 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 24/ 27.

4 -

(الْمُحِلُّ) -بضمّ الميم، وكسر الحاء المهملة، وتشديد اللام- ابن خَلِيفة الطائيّ الكوفيّ، ثقة [4] 143/ 224. وله عند المصنف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث برقم 224 و 304 و 2552.

(1)

- سقط من بعض النسخ "ابن حاتم".

ص: 33

5 -

(عديّ بن حاتم) بن عبد اللَّه بن سعد بن الحشرج، أبو طَريف الطائي الحابي الشهير، مات سنة (68) وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل: ثمانين، وتقدم في 29/ 2169. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، والباقيان كوفيان. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ) أي اجعلوا بينكم وبين النار وقاية، من الصدقة (وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) -بكسر المعجمة-: أي نصفها، أو جانبها، أي ولو كان الاتّقاء بالتصدّق بشِقّ تمرة واحدة، فإنه يفيد.

وفي الطبرانيّ من حديث فضالة بن عُبيد - رضي اللَّه تعالى عنه -، مرفوعًا:"اجعلوا بينكم وبين النار حجابًا، ولو بشِقّ تمرة". ولأحمد من حديث ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، مرفوعًا أيضًا بإسناد صحيح:"لِيَتَّقِ أحدكم وجهه النار، ولو بشقّ تمرة".

وله من حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، بإسناد حسن:"يا عائشة استتري من النار، ولو بشقّ تمرة، فإنها تَسُدُّ من الجائع مَسدَّها من الشبعان". ولأبي يعلى من حديث أبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنه - نحوه، وأتمّ منه، بلفظ:"تقع من الجائع موقعها من الشبعان". وكأنّ الجامع بينهما في ذلك حلاوتها. قاله في "الفتح"

(1)

.

[تنبيه]: هذا الحديث مختصر من حديث عدي بن حاتم - رضي اللَّه تعالى عنه - الطويل، وقد ساقه البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بطوله، فقال:

3595 حدثني محمد بن الحكم، أخبرنا النضر، أخبرنا إسرائيل، أخبرنا سعد الطائي، أخبرنا مُحِلّ بن خليفة، عن عدي بن حاتم، قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أتاه رجل، فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر، فشكا إليه قطع السبيل، فقال:"يا عدي هل رأيت الْحِيرَة؟ " قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال:"فإن طالت بك حياة، لَتَرَيَنَّ الظعينةَ ترتحل من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدا إلا اللَّه" -قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دُعَّار طَيِّىءٍ الذين قد سَعّرُوا البلاد- "ولئن طالت بك حياة، لتُفتَحَنّ كنوز كسرى"، قلت: كسرى بن هرمز؟، قال: "كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة،

(1)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 32 - 33.

ص: 34

لترين الرجل يُخرِج مِلْءَ كفه من ذهب أو فضة، يطلب من يقبله منه، فلا يجد أحدا يقبله منه، ولَيَلْقَيَن اللَّهَ أحدُكُم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه ترجمان، يترجم له، فليقولن له: ألم أَبْعَث إليك رسولًا، فيبلغك، فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالًا، وأُفْضِل عليك، فيقول: بلى، فينظر عن يمينه، فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره، فلا يرى إلا جهنم"، قال عدي: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقول: "اتقوا النار ولو بشقة تمرة، فمن لم يجد شقة تمرة، فبكلمة طيبة"، قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا اللَّه، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة، لَتَرَوُنَّ ما قال النبيّ أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "يخرج ملء كله". انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، والمسائل المتعلّقة به ستأتي في الحديث التالي، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2553 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ مُرَّةَ حَدَّثَهُمْ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّارَ، فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ، وَتَعَوَّذَ مِنْهَا، ذَكَرَ شُعْبَةُ أَنَّهُ فَعَلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ:«اتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ التَّمْرَةِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجَحْدَريّ البصريّ ثقة [10] 42/ 47، من أفراد المصنف.

2 -

(عمرو بن مُرّة) الْجَمَلي الكوفيّ الأعمى، ثقة عابد، رمي بالإرجاء [5] 171/ 265.

3 -

(خيثمة) بن عبد الرحمن بن أبي سَبْرَة الْجُعفيّ الكوفيّ، ثقة، يرسل [31] 114/ 2056. والباقون تقدموا في السند الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير شيخه كما سبق آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وبالكوفيين بعده. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَدِيٍّ بْنِ حَاتِمِ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّارَ، فَأَشَاحَ بِوَجِهِهِ) بشين معجمة، وحاء مهملة: أي أظهر الحذر منها. قال الخليل: أشاح بوجهه عن الشيء: نَحَّاه عنه. وقال الفرّاء: الْمُشِيح: الْحَذِرُ، والْجادّ في الأمر.

ص: 35

والْمُقبِلُ في خطابه، المانع لما وراء ظهره. فيجوز أن يكون أشاح أحد هذه المعاني: أي حَذِرَ النارَ، كأنه ينظر إليها، أو جَدَّ على الوصية باتقائها، أو أقبل على أصحابه في خطابه بعد أن أعرض عن النار لَمَّا ذكرها. انتهى

(1)

.

وحكى ابن التين: أن معنى "أشاح" صدّ، وانكمش. وقيل: صرف وجهه كالخائف أن تناله. انتهى.

(وَتَعَوَّذَ مِنْهَا) أي التجأ إلى اللَّه تعالى ليعصمه من النار (ذَكَرَ شُعْبَةُ أنَّهُ فَعَلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) يعني أن شعبة -رحمه اللَّه تعالى- ذكر في روايته أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ما ذُكر من الإشاحة، والقول ثلاث مرّات. وفي رواية للبخاريّ من طريق الأعمش، عن عمرو بن مُرّة: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اتّقوا النار"، ثمّ أعرض، وأشاح، ثم قال:"اتقوا النار"، ثمّ أعرض، وأشاح، ثلاثًا، حتّى ظنّنا أنه ينظر إليها

" (ثُمَّ قَالَ: "اتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ التَّمْرَةِ) أي اجعلوا بينكم وبين النار وِقَايةً، من الصدقة، وعَمَلِ البرّ، ولو بشيء يسير (فَإنْ لَمْ تَجِدُوا) ما تتصدّقون به من المال اليسير (فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ") أي فتصدّقوا بكلمة طيّبة.

قال ابن هُبيرة: المراد بـ "الكلمة الطيّبة" هنا ما يدلّ على هُدًى، أو يردُّ عن ردًى، أو يُصلح بين اثنين، أو يَفصِل بين متنازعين، أو يَحُلُّ مشكلا، أو يكشف غامضا، أو يدفع ثائرًا، أو يسكّن غضبًا. ذكره في "الفتح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عدي بن حاتم - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-2552 و 2553 - وفي "الكبرى" 65/ 2333 و 2334. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1413 و 1417 و"المناقب" 3595 و"الأدب" 6023 و"الرقاق" 6539 و 7513 و"التوحيد" 7512 (م) في "الزكاة" 1016 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 17782 و 17810 و 1883 (الدارميّ) 1657. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو الحثّ على الصدقة، ولو

(1)

- راجع "النهاية في غريب الحديث" ج 2 ص 5 بزيادة من "فتح الباري" ج 13/ 221 - 222.

ص: 36

بالقليل (ومنها): أن الصدقة تُقبَل، ولو قلت، لكن بشرط أن تكون طيّبة، لحديث أبي هريرة، - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إن اللَّه طيب، لا يقبل إلا طيبا، وإن اللَّه أمر المؤمنين، بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يَمُدُّ يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأَنَّى يستجاب لذلك". رواه مسلم.

(ومنها): عدم احتقار القليل من الصدقة، وغيرها؛ لأنها تربو عند اللَّه حتى تكون كالجبل، كما دلّ عليه حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة، من كسب طيِّبٍ، ولا يقبل اللَّه إلا الطيب، وإن اللَّه يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه، كما يربيَ أحدكَم فَلُوَّه، حتى تكون مثل الجبل". متّفق عليه، وقد تقدّم للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- نحوه برقم 48/ 2525.

(ومنها): أن الكلمة الطيّبة تكون وِقايةً عن النار كصدقة المال، وقد ثبت كونها صدقة، فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كلُّ سُلامَى من الناس، عليه صدقة، كلَّ يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الاثنين صدقة، ويُعين الرجل على دابته، فيحمله عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويُمِيط الأذى عن الطريق صدقة". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌64 - (بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَة)

أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالّين على التحريض على الصدقة. و"التحريض": مصدر حرّضه على الشيء: إذا حضّه، وحثّه عليه. قال الجوهريّ: التحريض على القتال: الحثّ، والإحماء عليه. قال اللَّه تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65]. وقال الزجّاج: تأويله: حُثَّهم على القتال، قال: وتأويل التحريض في اللغة أن تَحُثَّ الإنسانَ حَثًّا يَعلم منه أنه حارضٌ إن تخلّف عنه، قال:

ص: 37

والحارض الذي قد قارب الهلاك. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2554 -

(أَخْبَرَنَا أَزْهَرُ بْنُ جَمِيلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: وَذَكَرَ عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُنْذِرَ بْنَ جَرِيرٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَدْرِ النَّهَارِ، فَجَاءَ قَوْمٌ عُرَاةً، حُفَاةً مُتَقَلِّدِي

(2)

السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالاً، فَأَذَّنَ، فَأَقَامَ

(3)

الصَّلَاةَ، فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ، فَقَالَ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] وَ {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] ، تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ"، حَتَّى قَالَ: - "وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ، كَادَتْ كَفُّهُ تُعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ، مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ، كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» ).

رجال هذا الإسناد: ستة.

1 -

(أزهر بن جَمِيل) بن جَنَاح الهاشميّ مولاهم، أبو محمد البصريّ الشَّطِّيّ -بفتح الشين المعجمة، وتشديد الطاء المهملة-، صدوقٌ يُغرِبُ [10].

قال النسائيّ: لا بأس به. وقال في موضع آخر: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات".

وقال الكلاباذيّ: مات سنة (251). روى عنه البخاريّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (5) أحاديث فقط برقم 2554 و 3463 و 4000 و 4864 و 5498.

2 -

(عون بن أبي جحيفة) وهب بن عبد اللَّه السُّوَائيّ الكوفيّ، ثقة [4] 103/ 137.

3 -

(المنذر بن جرير) بن عبد اللَّه البجليّ الكوفيّ، مقبول [3].

روى عن أبيه. وعنه عبد الملك بن عُمير، وعون بن أبي جُحَيفة، وأبو إسحاق السبيعي، والضحّاك بن المنذر، وأبو حيان التيميّ، على خلاف فيه. ذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له مسلم، وأبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنف

(1)

- راجع "لسان العرب" في مادّة حرض.

(2)

- وفي بعض النسخ: "متقلدين".

(3)

- وفي نسخة: "وأقام".

ص: 38

خمسة أحاديث برقم 2554 و 3463 و 4002 و 4866 و 5500.

4 -

(جرير) بن عبد اللَّه بن جابر البجليّ الصحابيّ المشهور - رضي اللَّه تعالى عنه -، المتوقى سنة (51 هـ) وقيل: بعدها، تقدمت ترجمته في 43/ 51. والباقيان تقدما في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول بصريون، والثاني كوفيون. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي، عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن عون بن أبي جُحَيفة أنه (قال: سَمِعتُ الْمُنْذِرَ بْنَ جَرِير، يُحَدِّثُ عَنْ أَبيهِ) جرير ابن عبد اللَّه رضي الله عنه (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَدْرِ النَّهَارِ) أي في أوّله (فَجَاءَ قَوْمٌ) وفي رواية لمسلم من طريق عبد الرحمن بن هلال العبسيّ، عن جرير: " جاء ناسٌ من الأعراب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، عليهم الصوف

".

(عُرَاة) جمع عارٍ، بالرفع صفة لـ "قوم"، والمراد أنهم لم يلبسوا الثيابَ المعتادَ لبسُهَا، وإنما أولناه بهذا؛ لأنّ في رواية مسلم المذكورة أنّ عليهم الصوفَ، فهم لابسو الصوفِ (حُفَاة) جمع حافٍ، اسم فاعل، مني حَفِي الرجلُ يَحْفَى، من باب تَعِبَ حَفَاءً، مثل سَلَام: إذا مشى بغير نَعْلٍ، ولا خُفٍّ، وهو بالرفع أيضًا صفة بعد صفه لـ "قوم".

وزاد في رواية مسلم، من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة:"مُجتابي النِّمَار، أو العباء". و"مجتابي": اسم فاعل من اجتابَ الشيءَ: إذا خَرَقه، ومنه قوله تعالى:{الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر: 9]. أي خَرَقوا النمار، وقَوَّرُوا وسطها. و"النمار" -بكسر النون- جمع نَمِرَة -بفتح النون: وهي ثياب من صوف، فيها تنمير.

و"العباء" بفتح العين، والمد، جمع عباءة، وعَبَاية، لغتان. وهي أكسيةٌ غِلَاظٌ مُخَطَّطة

(1)

.

(مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ) بالإضافة: أي معلّقي السيوف على أعناقهم. وفي نسخة: "متقلدين السيوفَ"، بلا إضافة، وعليه فـ "السيوفَ" منصوبٌ على المفعوليّة (عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ) أي غالبهم من قبيلة مضر (بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ) هذا إضرابٌ إلى التحقيق، فقوله:"عافتهم" كان عن عدم تحقيق، واحتمال أن يكون بعضهم من غير مضر، أوَّلَ الوَهْلَة،

(1)

- راجع "شرح النوويّ على صحيح مسلم" ج 7 ص 104. و"المفهم" للقرطبيّ ج 3 ص62.

ص: 39

ثمّ تبيّن له أن كلهم من مضر، فأخبر به، فـ "بل" للإضراب الانتقاليّ، تجعل ما قبلها كالمسكوت عنه، وتنقل الحكم إلى ما بعدها، كما هو مقرّرٌ في محلّه من كتب النحاة (فَتَغَيَّرَ) وفي رواية مسلم:"فتمعّر"، وهو بالعين المهملة، بمعنى تغيّر (وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِمَا رَأَى بهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ) أي الفقر والحاجة (فَدَخَلَ) أي دخل صلى الله عليه وسلم بيته، ولعله لاحتمال أن يجد ما يدفع به فاقتهم (ثُمَّ خَرَجَ) لعله لم يجد في البيت شيئًا (فَأَمَرَ بِلَالًا) - رضي اللَّه تعالى عنه - أن يؤذّن (فَأَذنَ، فَأَقَامَ الصَّلَاةَ) أي ثم أمره بالإقامة، فأقام. وفي نسخة "وأقام" بالواو (فَصَلَّى) أي صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم إماما للناس (ثُمَّ خَطَبَ) فقرأ صلى الله عليه وسلم في خطبته أول سورة النساء؛ تذكيرًا لهم أنهم كلهم من أصل واحد، فينبغي لهم أن يَعطِف بعضُهم على بعض (فقال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} أمر اللَّه تعالى خلقَهُ بتقواه، وهي عبادته وحده، لا شريك له، ونبّههمَ على قدرته التي خلقهم بها (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) وهي آدم عليه السلام (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) وهي حوّاء عليها السلام، خُلقت من ضِلْعه الأيسر من خلفه، وهو نائمٌ، فاستيقظ، فرآها، فأعجبته، فأنس إليها، وأنست إليه.

وفي الحديث الصحيح: "إن المرأة خُلقت من ضِلَع، وإن أعوج شيء في الصلاة أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها، وفيها عوج"(وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) أي وذَرَأَ من آدم وحوّاء رجالًا كثيرًا ونساءً، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم، وصفاتهم، وألوأنهم، ولغاتهم (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي اتقوه بطاعتكم إياه (الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ) حيث تقولون: أسألك باللَّه (وَالْأَرْحَامَ) بالنصب أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها، بل بِرّوها، وصِلُوها. وقرأ بعضهم:{بالأرحام} بالجرّ عطفًا على الضمير في "به"، أي تساءلون باللَّه، وبالأرحام {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]) أي مراقب لجميع أحوالكم، وأعمالكم، كما قال تعالى:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6] وفي الحديث الصحيح: اعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك"، وهذا إرشاد، وأمر بمراقبة الرقيب، وإنما ذكر اللَّه أنّ أصل الخلق من أب واحد، وأمّ واحدة؛ لِيُعَطِّفَ بعضَهُم على بعض، ويحثّهم على ضعفائهم

(1)

.

وهذا هو سبب قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم لهذه الآية في هذه المناسبة، حيث إنها أبلغ في تثبيت الأخوّة بين المؤمنين، وقوّة ترابطهم جنسًا، وعقيدةً، المقتضي لعطف بعضهم على بعض. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- راجع "تفسير ابن كثير" -رحمه اللَّه تعالى- أول "سورة النساء" بتغيير يسير.

ص: 40

(وَ) قرأ أيضًا الآية التي في سورة الحشر، وهي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أمرٌ من اللَّه تعالى للمؤمنين بتقواه، وهو يشمل فعل ما به أمر، وترك ما عنه زجر {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وانظروا ماذا ادّخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم، وعَرْضكم على ربّكم.

وسبب قراءته صلى الله عليه وسلم هذه الآية أنها أبلغ في الحثّ على الصدقة، كما أن الآية المتقدّمة أبلغ في الترابط بين أجناس بني آدم. واللَّه تعالى أعلم.

(تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ) قال أبو البقاء الْعُكبَريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "إعراب الحديث": يحتمل أحد وجهين:

[أحدهما]: أن يكون أراد الشرط، أي إن تصدّق رجلٌ، ولو بشيء حقير من ماله أُثيب، وحُذف حرف الشرط وجوابه للعلم به، كما قال تعالى:{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118، 119] تقديره: إن أقمتَ على الطاعة.

[والوجه الثاني]: أن يكون الكلام محمولاً على الدعاء، فكأنّه قال: رَحِم اللَّه امرأً تصدّق، كما قالوا: امرءًا اتقى اللَّه، أي رحم اللَّه، وجعل الفاعل، وهو قوله:"رجلٌ" مفسرًا للمنصوب المحذوف.

ويحتمل وجهًا ثالثًا: وهو أن يكون على الخبر، أي تصدّق رجلٌ من غيركم بكذا وكذا، فأُثيب، والغرض منه حثّهم على الصدقة، وأنّ غيرهم تصدّق بمثل ذلك، فأُثيب، فحكمهم كحكمه انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الأوجه الثلاثة التي ذكرها العكبريّ فيها بعدٌ، وتكلّفٌ لا يخفى.

وقيل: هو مجزومٌ بلام أمر مقدّرة، أصله ليتصدّق، وهذا الحذف مما جوّزه بعض النحاة.

وفيه أنّ حقّه حينئد أن يكون يتصدّق -بياء تحتيّة، بعدها تاء فوقيّةٌ- ولا وجه لحذفها.

فالصواب عندي أن صيغته صيغة خبرٍ ومعناه الأمر، ولا يقال: إن كونه خبرًا لا يساعده قوله: "ولو بشقّ تمرة"؛ لأنّنا نقول: إنما يتوجه ذلك لو كان خبرًا معنًى أيضًا، وأما إذ كان أمرًا معنًى فلا يتوجّه هذا الاستشكال.

والحاصل أنّ هذا خبر بمعنى الأمر، أي ليتصدّق، وإنما عبّر بصيغة الخبر؛ حثًّا

(1)

- راجع "إعراب الحديث النبويّ" للعكبريّ ص 158 - 159.

ص: 41

للمخاطبين على امتثاله، وترغيبًا لهم في حصوله منهم، وكونه بصيغة الماضي أبلغ في ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: ذكر ابن مالك -رحمه اللَّه تعالى- نحو هذا الإعراب في كتابه "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" في أثر عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنه -: "إذا وسّع اللَّه، فأوسعوا، صلى رجلٌ في إزارٍ ورداء، في إزارٍ وقميصٍ، في إزارٍ وقباء". قال: تضمّن هذا الحديث فائدتين:

[إحداهما]: ورود الفعل الماضي بمعنى الأمر، وهو "صلّى رجلٌ"، والمعنى: ليصلّ رجلٌ، ومثله في كلام العرب: اتّقى اللَّه امرؤٌ فعل خيرًا يُثبْ عليه. والمعنى: ليتّق، وليفعل.

ولكونه بمعنى الأمر جيء بعده بجواب مجزوم، كما يُجاء بعد الأمر الصريح. وأكثر مجيء الماضي بمعنى الطلب في الدعاء، نحو نصر اللَّه من والاك، وخَذَل من عاداك.

[والفائدة الثانية]: حذف حرف العطف، فإن الأصل: صلى رجلٌ في إزار ورداء، أو في إزار وقميص، أو في إزار وقباء، فحذف حرف العطف مرَّتين؛ لصحّة المعنى بحذفه. ونظير هذا الحديث في تضمّن الفائدتين قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"تصدّق امرؤٌ من ديناره، من درهمه، من صاع برّه، من صاع تمره" انتهى كلام ابن مالك -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

وهو توجيه نفيس. واللَّه تعالى أعلم.

(مِنْ دِرْهَمِهِ) معطوفٌ بحرف عطف مقدر، كما بينه ابن مالك في كلامه المذكور آنفًا، وكذا ما بعده (مِنْ ثَوْبِهِ، من صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حَتَّى قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) أي ليتصدّق، ولو كانت صدقته قليلة، كشِقّ تمرة، أي نصفها (فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنصَارِ بِصُرَّةٍ) بضمّ الصاد المهملة، وتشديد الراء: وعاء الدراهم، والدنانير، جمعها صُرَرٌ، مثلُ غُرْفَة وغُرَفِ (كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجزُ عَنْهَا) بكسر الجيم، من باب ضَرَب، وعَجِزَ -بكسر الجيم- يَعْجَز -بفتحها- عَجَزًا -بفتحتين، من باب تَعِبَ، لغةٌ لبعض قَيسِ عَيْلَانَ، ذكرها أبو زيدٍ. وهذه اللغة غير معروفة عندهم، وقد روى ابن فارس بسنده إلى ابن الأعرابيّ أنه لا يُقال: عَجِزَ الإنسان -بالكسر- إلا إذا عَظُمت عَجِيزَته. ذكره في "المصباح"(بَلْ قَدْ عَجَزَتْ)"بل" في مثل هذا للإضراب الإبطاليّ، أخبر أوّلًا بأنّ كفّ الرجل قاربت العجز، ثم تبين له أنها عجزت حقيقة، فأخبر به، والمراد أن الرجل تصدق بمال كثير.

(ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ) أي تبع بعضهم بعضًا في المجيء بالصدقة (حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ)

(1)

- راجع "شواهد التوضيح، والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" ص 62 - 63.

ص: 42

بفتح الكاف، وضمّها. قال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: ضبطه بعضهم بالفتح، وبعضهم بالضمّ. قال ابن سراج: هو بالضمّ اسمٌ لما كُوِّمَ، وبالفتح المرّة الواحدة، قال: والكُومة -بالضمّ-: الصُّبْرة، والكُوم العظيم من كلّ شيء، والكوم المكان المرتفع، كالرابية. قال القاضي: فالفتح هنا أولى؛ لأنّ مقصوده الكثرة، والتشبيه بالرابية انتهى

(1)

(مِنْ طَعَام وَثِيَابٍ) بيان للكوم (حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ) أي يَستنير فرَحًا وسُرورًا (كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ)

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: ضبطوه بوجهين:

[أحدهما]: وهو المشهور، وبه جزم القاضي، والجمهور "مُذْهَبةٌ" بذال معجمة، وفتح الهاء، وبعدها باءٌ موحّدة.

[والثاني]: -ولم يذكر الحُمَيديّ في "الجمع بين الصحيحين" غيره- "مُدْهُنَة" -بدال مهملة، وضم الهاء، وبعدها نون- وشرحه الحميديّ في كتابه "غريب الجمع بين الصحيحين"، فقال: هو وغيره ممن فسّر هذه الرواية، إن صحّت: الْمُدهُن: الإناء الذي يُدهَن فيه، وهو أيضًا اسمٌ للنقرة في الجبل التي يُستَنْقَع فيها ماءُ المطر، فشبّه صفاء وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم بإشراق السرور بصفاء هذا الماء الْمُستَنقع في الحجر، أو بصفاء الدُّهْن والْمُدْهُن.

وقال القاضي عياض في "المشارق" وغيره من الأئمة: هذا تصحيفٌ، وهو بالذال المعجمة، والباء الموحّدة، وهو المعروف في الروايات، وعلى هذا ذكر القاضي وجهين في تفسيره:

[أحدهما]: معناه فضّة مُذهبة، كما قال الشاعر:

كَأَنَّهَا فِضَّةٌ قَدْ مَسَّهَا ذَهَبُ

ويعني به تشبيه إشراق وجهه وتنويره، فهو أبلغ في ذلك.

[والثاني]: شبهه في حسنه، ونوره بالمذهبة من الجلود، والسُّرُوج، والأقداح، وغير ذلك، وجمعها مذاهب، وهي شيءٌ كانت العرب تصنعه من جلود، وتَجعَل فيها خطوطًا مُذْهَبَة، يُرَى بعضها إثرَ بعض.

وأما سبب سروره صلى الله عليه وسلم، فهو الفرح بمبادرة المسلمين إلى طاعة اللَّه تعالى، وبذلِ أموالهم للَّه، وامتثال أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين، وشفقة المسلمين بعضهم على بعض، وتعاونهم على البرّ والتقوى، فينبغي للإنسان إذا رأى

(1)

- راجع "شرح مسلم" للنوويّ ج 7 ص 105.

ص: 43

شيئًا من هذا القبيل أن يفرح، وُيظهر سروره، ويكون فرحه لما ذكرناه انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرحه"، بزيادة من "المفهم"

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن سَنَّ فِي الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً) أي من أتى بطريقة مرضيّة، يُقتَدَى به فيها، كما فعل الأنصاريّ الذي أتى بصُرّة، يقال: سنّ الطريقةَ: إذا سار فيها، كاستسنّها، قاله في القاموس.

والسنّة الحسنة هي: الطريقة المحمودة، التي يدلّ عليها الكتاب والسنّة (فَلَهُ أَجْرُهَا) أي أجر عملها (وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بَهِا) ظاهره أنّه يحصل له الأجر، ولو لم ينو المبتدىء أن يُتّبع فيها، ففيه ثبوت الأجر مع عدم نيّة الفاعل، فيكون مخصّصًا لحديث "إنما الأعمال بالنيّة"، واللَّه تعالى أعلم (مِنْ غَيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا)"نقص" يتعدّى، ويلزم، يقال: نَقَصَ المالُ نَقْصًا، وانتقص: إذا ذهب منه شيء بعد تمامه، ونقصته يتعدّى، ولا يتعدّى، هذه اللغة الفصيحة، وبها جاء القرآن في قوله تعالى:{نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41] الآية، وقوله:{غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109]، وفي لغة ضعيفة يتعدّى بالهمزة والتضعيف، ولم يأت في كلام فصيح، وبتعدّى أيضًا بنفسه إلى مفعولين، فيقال: نقصت زيدا حقّه، وانتقصته مثله. أفاده الفيّوميّ. وما هنا من المتعدّي بنفسه، ولهذا نَصَبَ قوله:"شيئًا"(وَمَنْ سَنَّ فِي الْإسلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً) أي من فعل فعلًا قبيحًا، فاقتُدِي به فيه.

والسنّة السيّئة هي الطريقة المذمومة، وهي التي تُبتدَع بعد تمام الدين على أنها منه، وهي الْمَعْنِيّة بقوله صلى الله عليه وسلم:"كلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار"(فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا) - بكسر، فسكون-: الإثم، والثِّقَل، يقال: وَزَرَ يَزِرُ، من باب وَعَدَ: إذا حمل الإثمَ، وفي التنزيل:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الآية [الأنعام: 164]. والجمع أوزارٌ، مثلُ حِمْلٍ وأحمالٍ. أي عليه إثم فعلها (وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بَها) أي ومثل وزر من عمل بها، وهذا لا يعارض قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ؛ لأنّ هذا فعله، لا فعل غيره، وذلك لأنه ابتدأ هذه السنّة السيّئة، وتبعه عليها غيره، فصار سببًا في الشرِّ، فالإثم جاءه من تسبّبه. واللَّه تعالى أعلم. ("مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيئًا") يعني أنهم يتحمْلون أوزار عملهم السيّء كاملة، وهو يتحمّل وزر تسبّبه في ذلك.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وسبب هذا الكلام في هذا الحديث، أنه قال في أوّله:"فجاء رجلٌ بِصُرَّة، كادت كفّه تَعْجِزُ عنها"، ثمّ تتابع الناس"، وكان الفضل العظيم للبادىء بهذا الخير، والفاتحِ لباب هذا الإحسان.

وفي هذا الحديث تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: "كلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة"، وأن

(1)

- "شرح مسلم للنوويّ" ج 7 ص 105. و"المفهم" للقرطبيّ ج 3 ص 62 - 63.

ص: 44

المراد به المحدثات الباطلة، والبدع المذمومة، قال: والبدع خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرّمة، ومكروهة، ومباحة. انتهى كلامه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كلام النوويّ هذا فيه نظرٌ من وجهين:

[الأول]: دعواه التخصيص المذكور، فإنه غير صحيح، بل عموم حديث كلّ محدثة بدعة الخ" باق على ظاهره، فإن المراد بالبدعة هي البدعة الشرعيّة، وهي التي ابتُدعت بعد إكمال اللَّه تعالى الدينَ بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية، فلا يشهد لها كتابٌ، ولا سنّة، كما بيّن ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان، بقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه" الحديث، فقد بيّن أن إحداث ما دلّ عليه الكتاب والسنّة ليس من البدعة شرعًا، وإن كان يسمّى بها لغة.

والحاصل أن البدعة اللغويّة أعمّ من البدعة الشرعيّة، حيث إنها تطلق على ما يدلّ عليه النصّ، وما لا يدلّ عليه، بخلاف الشرعيّة، فإنها لا تطلق إلا على ما لا يدلّ عليه دليل، فكلّ بدعة شرعيّة بدعة لغويّة، ولا عكس، فقوله:"كلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة" لا يُخص منه شيء، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف.

[والثاني]: أن تقسيمه لمطلق البدعة إلى خمسة أقسام غير صحيح، فإن هذا التقسيم للبدعة اللغويّة، لا للشرعيّة، فإنها قسم واحد مذموم.

والحاصل أن الذي يقبل التقسيم المذكور هو اللغويّ، ومنه قول عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه -:"نعمت البدعة" للتراويح، فإنه محمول على المعنى اللغويّ، وكذلك ما نُقل عن الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-، وغيره من تقسيمهم البدعة إلى محمودة ومذمومة، أو بدعة حسنة، وبدعة غير حسنة محمول على هذا المعنى، فتبصّر، ولا تتحيّر. وقد بسطت الكلام على هذا في غير هذا المحلّ من هذا الشرح

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جرير بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-64/ 2554 - وفي "الكبرى" 66/ 2335. وأخرجه (م) في "الزكاة" 1017 (ت) في "العلم" 2675 (ق) في "المقدمة" 203 (أحمد) في مسند الكوفيين" 18675 و 18693 و 18701 (الدارميّ) 512. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- راجع شرح "كتاب صلاة العيدين" برقم 22/ 1578.

ص: 45

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو التحريض على الصدقة (ومنها): كمال رحمة النبيّ صلى الله عليه وسلم لأمته، وشدة رأفته بهم، كما وصفه اللَّه تعالى بذلك في كتابه بقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128](ومنها): استحباب جمع الناس للأمور المهمّة، ووعظهم، وحثّهم على مصالحهم، وتحذيرهم من القبائح (ومنها): الحثّ على الابتداء بالخيرات، وسَنّ السنن الحسنات (ومنها): التحذير من البدع والخرافات التي لا يؤيّدها دليلٌ شرعيّ، بل يردّها، ويبطلها (ومنها): أن بعض الأفعال لا ينقطع ثوابها، وكذا لا ينتهي وزرها، وهي التي تكون سببًا للاقتداء بفاعلها، فيجب على العاقل أن يكون مفتاحًا للخير، لا مفتاحًا للشرّ، أخرج ابن ماجه عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إن هذا الخير خزائن، ولتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله اللَّه مفتاحًا للخير، مِغْلاقًا للشرّ، وويلٌ لعبد جعله اللَّه مفتاحًا للشرّ، مِغْلاقًا للخير". وسنده ضعيف، وقد حسنه الشيخ الألباني رحمه الله، وإن كان في تحسينه نظر، راجع "السلسلة الصحيحة" جـ3 ص 320 - 321 رقم 1332. جعلنا اللَّه تعالى من عباده الذين جعلهم مفتاحًا للخيرات، ومغلاقًا للشرّ والسيئات، إنه سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2555 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَارِثَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «تَصَدَّقُوا فَإِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ، يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ، فَيَقُولُ الَّذِي يُعْطَاهَا: لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأَمْسِ قَبِلْتُهَا، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(خالد) بن الحارث الهجيميّ البصري الحافظ الثبت [8] 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.

4 -

(معبد بن خالد) الْجَدَلي الكوفيّ، ثقة عابد [3] 39/ 1422.

5 -

(عَنْ حَارِثَةَ) بن وهب الخزاعيّ صحابيّ، نزل الكوفة، وكان عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - زوج أمه، تقدم في 3/ 1445. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، والباقيان كوفييان. (ومنها): أن

ص: 46

صحابيه من المقلين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا خمسة أحاديث فقط، حديث الباب عند الشيخين، والمصنف، وحديث في الصلاة عندهم إلا ابن ماجه، وحديث "ألا أخبركم بأهل الجنة

" عندهم إلا أبا داود، وحديث الحوض عند الشيخين، وحديث "لا يدخل الجنّة الْجَوَّاظ

" عند أبي داود انظر "تحفة الأشراف" 3/ 10/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ حَارِثَةَ) بن وهب الخزاعيّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "تَصَدَّقُوا) أَمرٌ بالصدقة، ثم علّل الأمر بها بالفاء التعليليّة، فقال (فَإِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ، يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ) طالبًا للمحتاج حتى يدفعها إليه (فَيَقُولُ الَّذِي يُعْطَاهَا) بالبناء للمفعول، والنائب عن الفاعل ضمير الموصول، والمنصوب يعود إلى الصدقة، والمعنى: يقول الذي يُراد أن يُعطَى الصدقة، أي يريد المتصدّق إعطاءه إيّاها (لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالْأَمْسِ قَبلْتُهَا) لاحتياجي إليها فيه (فأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا) وفي رواية البخاريّ:"فلا حاجة لي بها"، وفي أخرى:"فيها". والظاهر أن ذلك يقع في آخر الزمان، حين يَفيض المال، كثرةً، عند قرب الساعة، ومن ثمّ أورده البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "كتاب الفتن"؛ لأن كثرة المال من الفتن. ويدلّ عليه حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، "قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال، فَيَفِيضَ، حتى يِهُمّ ربَّ المال، من يقبل صدقته، وحتى يَعرِضَه، فيقول الذي يَعرِضه عليه: لا أرب لي". متّفق عليه.

وحديثُ أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ليأتينّ على الناس زمان، يطوف الرجل فيه بالصدقة، من الذهب، ثم لا يجد أحدا يأخذها منه، ويُرَى الرجلُ الواحد، يتبعه أربعون امرأة، يَلُذْنَ به، من قِلَّةِ الرجال، وكثرة النساء"، متّفق عليه.

وقال ابن التين -رحمه اللَّه تعالى-: إنما يقع ذلك بعد نزول عيسى عليه السلام، حين تُخرِجُ الأرض بركاتها، حتى تُشبع الرُّمّانةُ أهلَ البيت، ولا يبقى في الأرض كافر انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن التين -رحمه اللَّه تعالى- محتملٌ.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث حارثة بن وهب - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-64/ 2555 - وفي "الكبرى" 66/ 2336. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1411 (م) في "الزكاة" 1011 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 18251. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 47

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو الحثّ على الصدقة (ومنها): استحباب المبادرة إلى الخير قبل فوات وقته (ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما سيقع في آخر الزمان (ومنها): أن فيه دلالة على أن فتح الدنيا لا خير فيه؛ لأنه لو كان فيه خير لكان زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزمان أصحابه، والتابعين تُفتح فيه الدنيا أكثر من آخر الزمان، فدلّ على أنه من جملة الفتن التي تقع عند قرب الساعة، نسأل اللَّه تعالى أن يجنّبنا الفتن، ما ظهر منها، وما بطن، إنه سميع قريبٌ مجيب الدعوات، وغافر السيّئات آمين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌65 - (الشَّفَاعَةُ فِي الصَّدقَةِ)

أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالّين على مشروعية الشفاعة في الصدقة، وأن ذلك ليس من المسألة المذمومة الآتي بيانها في باب "المسألة"، إن شاء اللَّه تعالى.

ومعنى الشفاعة في الصدقة أن يشفع الشخص للفقير عند الغنيّ حتى يدفع إليه الصدقة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2556 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «اشْفَعُوا، تُشَفَّعُوا، وَيَقْضِى اللَّهُ عز وجل، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن بشار) بندار البصريّ الثقة الحافظ [10] 24/ 27.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(سفيان) بن سعيد الإمام المثبت الحجة [7] 33/ 37.

4 -

(أبو بُرْدة) هو: بُريد بن عبد اللَّه بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقة يخطىء قليلًا [6] 25/ 1503.

5 -

(أبو بردة) بن أبي موسى الأشعري الكوفي، اسمه: عامر، وقيل: الحارث، ثقة [3] 3/ 3.

ص: 48

6 -

(أبو موسى الأشعري) عبد اللَّه بن قيس بن سُليم بن حضار الصحابي الشهير، توفي سنة (50) وقيل: بعدها، وتقدم 3/ 3. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، وأن شيخه هو أحد التسعة الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من سفيان، وشيخه، ويحيى بصريان. (ومنها): أن فيه رواية الراوي، عن جده، عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "اشْفَعُوا") وفي رواية البخاريّ: "أنه كان إذا أتاه السائل، أو صاحب الحاجة قال: "اشفعوا، فلتؤجروا، ولْيَقْضِ اللَّهُ على لسان رسوله ما شاء". وفي رواية لمسلم:"كان إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه، فقال: اشفعوا فلتؤجروا، وليقض اللَّه على لسان نبيه ما أحبّ".

[تنبيه]: قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وقع في أصل مسلم: "اشفعوا تؤجروا" بالجزم على جواب الأمر المضمّن معنى الشرط، وهو واضح، وجاء بلفظ:"فلتؤجروا"، وينبغي أن تكون هذه اللام مكسورةً؛ لأنها لام "كي"، وتكون الفاء زائدةً، كما زيدت في حديث:"قوموا فلأصلّ لكم"، ويكون معنى الحديث: اشفعوا كي تؤجروا. ويحتمل أن تكون لام الأمر، والمأمور به التعرّض للأجر بالشفاعة، فكأنّه قال: اشفعوا، فتعرّضوا بذلك للأجر، وتكسر هذه اللام على أصل لام الأمر، ويجوز تسكينها تخفيفًا؛ لأجل الحركة التي قبلها.

قال الحافظ: ووقع في رواية أبي داود: "اشفعوا لتؤجروا"، وهو يقوّي أن اللام للتعليل. وجوّز الكرمانيّ أن تكون الفاء سببيّةً، واللام بالكسر، وهي لام "كي"، قال: وجاز اجتماعهما لأنهما لأمر واحد. ويحتمل أن تكون جزائيّةً جوابًا للأمر. ويحتمل أن تكون زائدةً على رأي، أو عاطفةً على "اشفعوا"، واللام لام الأمر، أو على مقدّر، أي اشفعوا لتؤجروا، فلتؤجروا، أو لفظ "اشفعوا تؤجروا" في تقدير: إن تشفعوا تؤجروا، والشرط يتضمّن السببيّة، فإذا أُتي باللام وقع التصريح بذلك.

وقال الطيبيّ: الفاء، والسلام زائدتان للتأكيد؛ لأنه لو قيل: اشفعوا تؤجروا صحّ، أي إذا عَرَضَ المحتاجُ حاجته عليّ، فاشفعوا له إليّ، فإنكم إن شفعتم حصل لكم الأجر، سواء قَبِلتُ شفاعتكم، أم لا، ويُجرِي اللَّه تعالى على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم ما شاء، أي من موجبات

ص: 49

قضاء الحاجة، أو عدمها، أي إنْ قضيتُها، أو لم أقضها، فهو بتقدير اللَّه تعالى وقضائه

(1)

.

(تُشَفَّعُوا) بالبناء للمفعول، من التشفيع، أي تُقبَلْ شفاعتكم أحيانًا، فتكون سببًا لقضاء حاجة المحتاج، فإذا قصدتم ذلك يكون لكم أجر على الشفاعة. وفي رواية "الصحيحين":"اشفعوا تؤجروا"، وهي في حديث معاوية - رضي اللَّه تعالى عنه - التالي، وهي ظاهرة.

والمعنى: اشفعوا يحصلْ لكم الأجر مطلقًا، سواء قُضيت الحاجة، أو لا.

وما هنا أيضًا له وجه صحيحٌ، كما بينّاه آنفًا. واللَّه تعالى أعلم.

(وَيَقْضِي اللَّهُ عز وجل) وفي رواية للبخاريّ: "وليقض اللَّه"، وفي رواية لمسلم:"فليقض". قال القرطبيّ: لا يصحّ أن تكون هذه اللام لام الأمر؛ لأنّ اللَّه لا يُؤمر، ولا لام "كي"؛ لأنه ثبت في الرواية "وليقض" بغير ياء مدّ، ثم قال: يحتمل أن تكون بمعنى الدعاء، أي اللَّهمّ اقض، أو الأمرُ هنا بمعنى الخبر. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الوجه الثاني عندي أظهر. واللَّه تعالى أعلم.

(عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ) صلى الله عليه وسلم (مَا شَاءَ) أي إنّ اللَّه سبحانه وتعالى يقضي للمشفوع له على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم ما شاء من قضاء حاجاته، أو عدم قضائها، يعني أن المطلوب منكم حصول الشاعة، حتى يحصل لكم الأجر، وأما قضاء الحاجة، وعدم قضائها فموكول إلى اللَّه سبحانه وتعالى.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: فيه استحباب الشفاعة لأصحاب الحوائج المباحة، سواء كانت الشفاعة إلى سلطان، ووالٍ، ونحوهما، أو إلى أحد من الناس، وسواء كانت الشفاعة إلى سلطان في كفّ ظلم، أو إسقاط تعزيرٍ، أو في تخليص عطاء لمحتاج، أو نحو ذلك، وأما الشفاعة في الحدود فحرامٌ، وكذا الشفاعة في تتميم باطلٍ، أو إبطال حقّ، ونحو ذلك، فهي حرامٌ انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذه الشفاعة المذكورة في الحديث هي في الحوائج، والرغبات للسلطان، وذوي الأمر والجاه، كما شهد به صدر الحديث، ومَسَاقه، ولا يخفى ما فيها من الأجر والثواب؛ لأنها من باب صنائع المعروف، وكشف الكرب، ومعونة الضعيف؛ إذ ليس كلّ أحد يقدر على الوصول إلى السلطان، وذوي الأمر، ولذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول مع تواضعه، وقربه من الصغير والكبير؛ إذ كان لا يحتجب، ولا يُحجَبُ:"أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها"

(3)

. وهذا معنى قوله

(1)

- راجع "الفتح" ج 12 ص 66.

(2)

- راجع "شرح مسلم" ج 16 ص 393 - 394.

(3)

- أخرجه الطبرانيّ من حديث أبي الدرداء - رضي اللَّه تعالى عنه -، بلفظ:"أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغ حاجته، فمن أبلغ سلطانًا حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ثبّت اللَّه قدميه على الصراط يوم القيامة". وهو حديث ضعيف. انظر "ضعيف الجامع الصغير" ص 9.

ص: 50

تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} الآية [النساء: 85].

قال القاضي: ويدخل في عموم الحديث الشفاعة للمذنبين، فيما لا حدّ فيه عند السلطان وغيره، وله قبول الشفاعة فيه، والعفو عنه إذا رأى ذلك كلّه، كما له العفو عن ذلك ابتداء، وهذا فيمن كانت منه الزّلّة والفلتة، وفي أهل الستر، والعفاف، وأما المصرّون على فسادهم، المستهترون في باطلهم، فلا تجوز الشفاعة لأمثالهم، ولا تَركُ السلطان عقوبتهم ليزدجروا عن ذلك، وليرتدع غيرهم بما يُفعَلُ بهم، وقد جاء الوعيد بالشفاعة في الحدود انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "وقد جاء الوعيد إلخ" أشار به إلى ما أخرجه أحمد، وأبو داود وغيرهما بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:"من حالت شفاعته دون حد من حدود اللَّه، فقد ضادّ اللَّه في أمره، ومن مات وعليه دين فليس ثمّ دينار ولا درهم، ولكنها الحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطل، وهو يعلم لم يزل في سخط اللَّه حتى يَنْزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه، حُبسَ في ردغة الخَبَال، حتى يأتي بالخرج مما قال"

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي موسى الأشعريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-65/ 2556 - وفي "الكبرى" 2337/ 67. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1432 وفي "الأدب" 6027 و 6028 وفي "التوحيد" 7476 (م) في "البرّ والصلة" 2627 (د) في "الأدب" 5131 و 5132 (ت) في "العلم" 2672 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 19087 و 19163 و 19207. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعيّة الشفاعة في الصدقة (ومنها): الحضّ على الخير بالفعل، وبالتسبب إليه بكلّ وجه (ومنها): الشفاعة إلى الكبير في كشف كربة، ومعونة ضعيف؛ إذ ليس كلّ أحد يقدر على الوصول إلى الرئيس، أولا يتمكّن لو دخل عليه، في توضيح مراده له؛ ليعرف حاله على وجهه،

(1)

- راجع "المفهم" ج 6 ص 632 - 633.

(2)

أبو داود 2/ 117 والحاكم 2/ 27 وأحمد 2/ 70.

ص: 51

وإلا فقد كان صلى الله عليه وسلم -لا يحتجب، ولا يُحجب عن ذوي الحاجات. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2557 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَسْأَلُنِي الشَّيْءَ، فَأَمْنَعُهُ، حَتَّى تَشْفَعُوا فِيهِ، فَتُؤْجَرُوا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هارون بن عبد اللَّه) الأيليّ السعدي مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقة فاضل [10] 25/ 2488.

2 -

(سفيان) بن عيينة، أبو محمد الكوفي، ثم المكيّ، ثقة ثبت حجة [8] 1/ 1.

3 -

(عمرو) بن دينار، أبو محمد الأثر الجمحي مولاهم المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

4 -

(ابن منبّه) هو: وهب بن منبّه بن كامل بن سِيج بن ذي كِبار الذِّمَاريّ الأبناويّ- بفتح الهمزة، وسكون الموحّدة، بعدها نون- أبو عبد اللَّه اليمانيّ الصنعانيّ، ثقة [3].

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: كان من أبناء فارس. وقال العجليّ: تابعيّ ثقة، وكان على قضاء صنعاء. وقال أبو زرعة، والنسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال عمرو بن عليّ الفلّاس: كان ضعيفًا

(1)

.

وقال أحمد بن محمد بن الأزهر: سمعت مسلمة بن همّام بن مسلمة بن همّام بن منبّه، يذكر عن آبائه، قال: أصل منبّه من خراسان، من أهل هَرَاة، أخرجه كسرى من هراة -يعني إلى اليمن- فأسلم في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحسن إسلامه، فسكن ولده اليمن، وكان وهب بن منبّه يختلف إلى هراة، ويتفقّد أمرها. وقال أحمد، عن عبد الرزّاق، عن أبيه: حجّ عامّة الفقهاء سنة مائة، فحجّ وهب، فلما صلّوا العشاء أتاه نفرٌ فيهم عطاء، والحسن، وهم يريدون أن يذاكروه القدر، قال: فافتنّ

(2)

في باب من الحمد، فما زال فيه حتى طلع الفجر، فافترقوا، ولم يسألوه عن شيء. قال أحمد: كان يُتّهم بشيء من القدر، ثم رجع. وقال أحمد بن سلمة، عن أبي سنان: سمعت وهب بن منبّه يقول: كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعة وسبعين كتابًا من كتب الأنبياء في كلها: من جعل إلى نفسه شيئًا من المشيئة، فقد كفر، فتركت قولي. وقال الجُوزجانيّ: كان وهبٌ كتب

(1)

- قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تضعيف الفلّاس تضعيفًا مجملًا مخالفا للجمهور لا يؤثّر في وهب، فهو ثقة، فليتنبّه.

(2)

- يقال: افتنّ: أخذ في فنون من القول. انتهى "القاموس".

ص: 52

كتابًا في القدر، ثم حُدّثت أنه نَدِم. وقال ابن عيينة، عن عمرو بن دينار: دخلت على وهب داره بصنعاء، فأطعمني جَوزًا من جوزة في داره، فقلت له: وددت أنك لم تكن كتبت في القدر، فقال: أنا واللَّه وددت ذلك.

قال إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن الْهَرَويّ: ولد سنة (34) في خلافة عثمان - رضي اللَّه تعالى عنه -، وقال ابن سعد، وجماعة: مات سنة (110) وقيل: (13) وقيل: (114) وقيل: (116) وقيل: إن يوسف بن عمر ضربه حتى مات. روى له الجماعة، سوى ابن ماجه، فأخرج له في التفسير، روى له البخاريّ حديثًا واحدًا في "كتاب العلم" من "صحيحه"، وله عند المصنف في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا 2557 وأعاده برقم 2593 و 4311 حديث "من سكن البادية جفا .. " الحديث.

5 -

(أخوه) همّام بن منبّه بن كامل الأبناوي، أبو عقبة الصنعانيّ، ثقة [4] 1/ 397.

6 -

(مُعَاوِيَةَ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ) صخر بن حرب بن أميّة الأمويّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابي - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي، ومات في رجب سنة (60 هـ) وقد قارب (80) تقدمت ترجمته في 286/ 294. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية الأخ عن أخيه، وتابعي عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مُعَاوِيةَ بْنِ أَبِيِ سُفْيَانَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَسْأَلُنِي الشَّيْءَ) هذا صريحٌ في كونه مرفوعًا، ورواية أبي داود صريحة في الوقف، ولفظه: عن معاوية: اشفعوا تؤجروا، فإني لأريد الأمر فأؤخره، كيما تشفعوا، فتؤجروا، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"اشفعوا تؤجروا".

وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: اللفظ صريح في الرفع، لكن السوق يقتضي أنّ قوله:"إن الرجل ليسألني الخ" من قول معاوية، وإنما المرفوع:"اشفعوا تؤجروا"، وهو الموافق لما في بعض روايات أبي داود، وهو مقتضى سوق روايته المشهورة، وسوقها أقوى في اقتضاء الوقف، واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لا مانع من رفع الجزأين: "إن الرجل ليسألني الخ"، و"اشفعوا تؤجروا"، ورواية أبي داود المذكورة، لا تنافي ذلك؛ لاحتمال أن يكون

(1)

- راجع "شرح السنديّ" ج 5 ص 78.

ص: 53

معاوية رواه مرفوعًا تارة، وقاله من نفسه تارةً أخرى. واللَّه تعالى أعلم.

(فَأَمْنَعُهُ، حَتَّى تَشْفَعُوا فِيهِ، فَتُؤْجَرُوا) فيه كمال شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث إنه، وإن كان يريد قضاء حاجة المحتاج، إلا أنه يحبّ مشاركة الصحابة في الأجر، فيؤخّر قضاءها حتى يشفع له إليه بعض الصحابة، فيحصلَ له الأجر (وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اشْفَعُوا، تُؤْجَرُوا") تقدّم شرح هذه الجملة في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث معاوية بن أبي سفيان - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-65/ 2557 - وفي "الكبرى"2338. وأخرجه (د) في "الأدب" 5132.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌66 - (الاخْتِيَالُ فِي الصَّدَقَةِ)

أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالّين على حكم الاختيال في حال دفع الصدقة لمستحقّها.

و"الاختيال" مصدر اختال الرجلُ: إذا تكبّر، وأُعْجِبَ بنفسه. وأشار المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بالترجمة إلى أن الاختيال في الصدقة نوعان:

(أحدهما): محمود، وهو الذي دلّ عليه الحديث الأول، كما سيأتي إيضاحه.

(الثاني): مذموم، وهو الذي دلّ عليه الحديث الثاني، كما سيأتي إيضاحه أيضًا، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2558 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ عز وجل، وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ عز وجل، وَمِنَ الْخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ عز وجل، وَمِنْهَا مَا

ص: 54

يُبْغِضُ اللَّهُ عز وجل، فَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ عز وجل، فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ عز وجل، فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ، وَالاِخْتِيَالُ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهُ عز وجل، اخْتِيَالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَعِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَالاِخْتِيَالِ الَّذِي يُبْغِضُ اللَّهُ عز وجل، الْخُيَلَاءُ فِي الْبَاطِلِ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن منصور) الكوسج، أبو يعقوب المروزيّ الثقة الثبت [11] 72/ 88.

2 -

(محمد بن يوسف) الفريابيّ الثقة الفاضل [9] 14/ 418.

3 -

(الأوزاعيّ) عبد الرحمن بن عمرو الإمام الحجة المشهور [7] 45/ 56.

4 -

(يحيى بن أبي كثير) صالح بن المتوكل الطائي مولاهم، أبو نصر اليمامي، ثقة ثبت، يدلسُ، ويرسل [5] 23/ 24.

5 -

(محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي) أبو عبد اللَّه المدني، ثقة له أفراد [4] 60/ 75.

والباقيان يأتي الكلام فيهما قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير جابر، وابنه. (ومنها): أن فيه رواية ثلاثةٍ من التابعين بعضهم عن بعض: يحيى عن محمد بن إبراهيم، عن ابن جابر. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ جَابِر) لم يُسَمَّ، وقد ذكروا في ترجمة جابر بن عَتِيك، أنه روى عنه ابناه، أبو يوسف، وعبد الرحمن، فأما أبو يوسف، فلم أر من ترجمه، وأما عبد الرحمن، فقال عنه ابن القطّان الفاسيّ: مجهول، كما في "تهذيب التهذيب" جـ 2 ص 496.

والحاصل أن ابن جابر هذا مجهول (عَنْ أَبيهِ) جابر بن عَتِيك بن قيس الأنصاريّ الصحابيّ المشهور - رضي اللَّه تعالى عنه -، اختُلِف في شهوده بدرًا، مات سنة (61هـ) وهو ابن (91) سنة، تقدّمت ترجمته في 14/ 1846، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنَ الْغَيْرَةِ) -بفتح، فسكون-: الْحَمِيّةُ والأَنَفَة، يقال: رجلٌ غَيورٌ، وامرأةٌ غَيُور، بلا هاء؛ لأنّ فَعُولًا يشترك فيه الذكر والأنثى. قاله ابن الأثير

(1)

. وقال الفيّوميّ: وغار

(1)

- "النهاية في غريب الحديث" ج 3 ص 401.

ص: 55

الرجل على امرأته، والمرأة على زوجها يَغار، من باب تَعِب غَيرًا، وغَيْرَةً -بالفتح- وغَارًا. قال ابن السِّكيت: ولا يقال: غِيرًا، وغِيَرَةً -بالكسر- فالرجل غَيورٌ، وغَيْرانُ، والمرأة غَيورٌ أيضًا، وغَيْرَى، وجمع غَيُورٍ غُيُرٌ، مثلُ رَسُولٍ ورُسُل، وجمع غَيْرَان، وغَيْرَى غُيَارى -بالضمّ، والفتح- وأغار الرجل زوجته: تزوّج عليها، فغارت عليه انتهى

(1)

.

(مَا يُحِبُّ) بضمّ حرف المضارعة، من أحبه يُحبّه، وفي لغة قليلة: حبّه يَحبّه، ثلاثيًّا، من بأبي نصر، وضرب، حبًّا بالضمّ (اللَّهُ عز وجل، وَمِنْهَا مَا يَبْغُضُ) بضمّ الياء، من الإبغاض، يقال: بَغُض الشيءُ، ككرم، ونصر، وفرِح، بَغَاضةً، فهو بَغِضٌ، ويتعدّى بالألف، فيقال: أبغضته إبغاضًا، فهو مُبغَضٌ، ولا يقال: بَغَضته بغير ألف، والاسم الْبُغْضُ. أفاده في "المصباح"، و"القاموس". وما هنا من المتعدي، فيجب ضمّ حرف المضارعة منه. والبُغض: ضدّ الحبّ (اللَّهُ عز وجل، وَمِنَ الْخُيَلَاءِ) -بضمّ، ففتح-: التكبّر (مَا يُحبُّ اللَّه عز وجل، وَمِنْهَا مَا يَبغُضُ اللَّهُ عز وجل) وعائد الموصول في الفعلين وكذا فيما بعدُ محذوف: أي ما يحبه، ويبغضه (فأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُحبُّ اللَّهُ عز وجل، فَالْغَيرَةُ فِي الرِّيبَةِ) بكسر الراء: أي موضع الظنّ والشّكّ، وجمعها رِيَبٌ، مثلُ سِدْرة وسِدَرٍ. يقال: رابني الشيءُ يَرِيبني رَيْبًا، من باب باع يَبِيع: إذا جعلك شاكًّا. وقال أبو زيد: رابني من فلانٍ أمرٌ يَريبني رَيبًا: إذا استيقنت منه الرِّيبةَ، فإذا أسأت به الظن، ولم تستيقن منه الرِّيبة قلتَ: أرابني منه أمرٌ هو فيه إرابةً. وأراب فلانٌ إرابةً، فهو مُريبٌ: إذا بلغك عنه شيءٌ، أو توهّمته. وفي لغة هُذَيلٍ: أرابني بالألف، فَرِبْتُ أنا، وارتبتُ: إذا شككتَ، فأنا مرتاب، وزيدٌ مرتابٌ منه، والصلةُ فارقةٌ بين الفاعل والمفعول. أفاده الفيّوميّ.

ومعنى الحديث: أنّ الغَيْرَة في محلّ الظّنّ والشكّ، نحو أن يغار الرجل على زوجته أن تُظهِر محاسنها، وزينتها عند من لا يحلّ لها الإظهار عنده، أو نحو ذلك، أو على محارمه إذا رأى منهنّ فعلًا غير مشروع مع الأجانب، فإن ذلك مما يُحبّه اللَّه تعالى؛ لظهور فائدته، وهي الرهبة والانزجار.

وفي حديث ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، مرفوعًا:"ما أحدٌ أغير من اللَّه، من أجل ذلك حرّم الفواحش". متّفقٌ عليه، وفي لفظ لمسلم:"ولذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها، وما بطن".

(وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُ اللَّه عز وجل، فَالْغَيْرَةُ فِي غَيرِ رِيبَةٍ) كأن يغار الرجل على أمه

(1)

- "المصباح المنير".

ص: 56

أن تنكح زوجَا بعد أبيه مثلًا، وكذلك سائر محارمه، فإن هذا مما يُبغضه اللَّه تعالى؛

لأنه مما يورث البغضاء، والحقد بين الأرحام، والأصدقاء، ولأنّ ما أحلّه اللَّه تعالى الواجب فيه الرضا به، فإذا لم يَرْضَ به كان ذلك من آثار حميّة الجاهليّة التي جاء الشرع بمحاربتها، وإزالتها، وهو مناف لمقتضى الإيمان، قال اللَّه تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

(وَالِاخْتِيَالُ الَّذِي يُحِبُّ اللَّه عز وجل، اخْتِيَالُ الرَّجُلِ بنَفْسِهِ عِنْدَ الْقِتَالِ) أي إظهاره الاختيال والتكبّر في نفسه، وذلك أن يمشي مشي المتكبّرين، ويُقبل على الحرب، ويدخل في المعركة بنشاط النفس، وقوّة القلب، وإظهار الْجَلادة، والتبختر فيه، والاستهانة، والاستخفاف بالكفّار؛ لما في ذلك من إدخال الرعب والرَّهْبَة في قلوب أوِلياء الشيطان، وإدخال النشاط والرغبة في قلوب أولياء الرحمن (وَعِنْدَ الصَّدقَةِ) هو أن تَهُزّه سجية السخاء، فيُعطيها المستحقّ بطيب نفس، وانشراح صدر، وانبساط وجه، فلا يَمُنُّ، ولا يستكثر كثيرًا، ولا يُبالي بما أعطى، ولا يُعطي منها شيئًا، إلا وهو مستقلّ؛ وذلك لأنه يكون سببًا للاستكثار، والرغبة في الزيادة منها (وَالِاخْتِيَالُ الَّذِي يَبغُضُ اللَّهُ عز وجل، الْخُيَلَاءُ) بضمّ، ففتح، ويروى بكسرٍ، ففتح: الكبر، والإعجاب (في الْبَاطِلِ") وفي لفظ أبي داود "فاختياله في البغي"، وفي لفظ له:"فاختياله في الفخر". ومعنى الخيلاء في الباطل، أن يذكر الرجل أنه قتل فلانًا ظلمًا، وأخذ مال فلان ظلمًا، يتطاول بذلك على أقرأنه، ويظهر الشجاعة لهم، أو يَصدُر منه الاختيال في حال البغي على مال الرجل، أو نفسه.

وأما الاختيال في الفخر، نحو أن يذكر ما له من الحَسَب، والنسب، وكثرة المال، والجاه، والشجاعة، والكرم؛ لمجرّد الافتخار، ثم يحصل منه الاختيال عند ذلك، فإن مثل هذا الاختيال مما يُبغضه اللَّه تعالى أيضًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر بن عَتيك - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيحٌ.

[فإن قلت]: في سنده ابن جابر، وهو مجهول، كما تقدّم، فكيف يصحّ؟.

[قلت]: للحديث شاهد، فقد أخرجه ابن ماجه بسند صحيح في "سننه"، فقال:

1996 -

حدثنا محمد بن إسمعيل، حدثنا وكيع، عن شيبان، أبي معاوية، عن يحيى

ص: 57

ابن أبي كثير، عن أبي سهم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من الْغَيْرة ما يحب اللَّه، ومنها ما يكره اللَّه، فأما ما يحب، فالغيرة في الريبة، وأما ما يكره، فالغَيْرَة في غير ريبة".

فهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الصحيح، غير شيخه محمد بن إسماعيل الأحمسيّ، وهو ثقة أيضًا.

[تنبيه]: قوله: "أبو سهم"، وفي نسخة:"أبو شهم" بالمعجمة، غلطٌ، والصواب:"أبو سلمة"، وهو ابن عبد الرحمن بن عوف الفقيه الحجة المدنيّ المشهور، كما بينه الحافظ المزّيّ في "تحفة الأشراف" ج 11 ص 83 وكذا في "تهذيب الكمال" ج 33 ص 407 و"تهذيب التهذيب" ج 4 ص 537 و"تقريب التهذيب" ص 411.

وأخرجه أحمد في "مسنده"، من حديث عقبة بن عامر الجهنيّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، فقال:

16947 -

حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سَلّام، عن عبد اللَّه بن زيد الأزرق، عن عقبة بن عامر الْجُهَنيّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "غيرتان: إحداهما يحبها اللَّه عز وجل، والأخرى يبغضها اللَّه، ومَخِيلتان إحداهما يحبها اللَّه عز وجل، والأخرى يبغضها اللَّه، الغيرة في الرمية

(1)

، يحبها اللَّه عز وجل، والغيرة في غيره، يبغضها اللَّه، والمخيلة إذا تصدق الرجل، يحبها اللَّه، والمخيلة في الكبر يبغضها اللَّه". انتهى.

فهذا الإسناد رجاله رجال الصحيح، غير عبد اللَّه بن زيد بن الأزرق، وقد وثقه ابن حبّان، فمثله يصلح في الاستشهاد.

والحاصل أن حديث الباب صحيح؛ لما ذُكِر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-66/ 2558 - وفي "الكبرى" 68/ 2339. واْخر جه (د) في "الجهاد" 2659 (أحمد) في "مسند الأنصار" 22235 و 22240 و 2226. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز الاختيال في الصدقة، بمعنى أن تهزّه أَرْيَحِيّة

(2)

السخاء، فيعطي طيّبة بها نفسه، فلا يستكثر كثيرًا، ولا يُعطي

(1)

- هكذا نسخة "المسند": "في الرمية"، والظاهر أنه مصحّف من "الريبة". واللَّه تعالى أعلم.

(2)

- الأَرْيَحِيٌ: الواسع الْخُلُق، وأخذته الأَرْيحيّة: ارتاح للنَّدَى. قاله في "القاموس".

ص: 58

منها شيئًا، إلا وهو مستقلّ، فلا تنافي بين الاختيال المذكور هنا، والاختيال الآتي في الحديث التالي.

(ومنها): أن الغيرة على المحارم محمودة إذا ظهر للشخص أمارات منهنّ مما يوقع في الريبة (ومنها): أن الغيرة عليهنّ مذمومة، وذلك إذا لم تقم قرينة على الريبة، بل لمجرّد الشكّ فقط (ومنها): أن الاختيال في الحرب محمود؛ لما فيه من إرهاب أعداء الدين، وتنشيطٍ للمسلمين المجاهدين (ومنها): أن الاختيال في الباطل حرام. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2559 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أحمد بن سليمان) بن عبد الملك، أبو الحسين الرُّهاويّ، ثقة حافظ [11] 38/ 42 من أفراد المصنّف.

2 -

(يزيد) بن هارون السلمي مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقة متقن عابد [9] 153/ 244.

3 -

(همّام) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ البصريّ، ثقة ربما وهم [7] 5/ 465.

4 -

(قتادة) بن دعامة البصري الثقة الثبت الحجة، لكنه يدلس [4] 30/ 34.

5 -

(عمرو بن شعيب) بن محمد المدني، أوالطائفي، صدوق [5] 105/ 140.

6 -

(أبوه) شعيب بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، صدوق، ثبت سماعه من جدّه عبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنهما -[3] تقدم في 105/ 140.

7 -

(جدّه) عبد اللَّه بن عمرو بن العاص الصحابي ابن الصحابي - رضي اللَّه تعالى عنهما -، تقدم 89/ 111. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات.

(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه، عن جدّه، وتابعي، عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب بن محمد بن عبد اللَّه (عَنْ جدِّهِ) عبد اللَّه بن

ص: 59

عمرو بن العاص، فالضمير لشعيب، لا لعمرو، فتنبّه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُوا) أي جميع أنواع الطيّبات، فحذف المفعول لإرادة التعميم، فهو كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الآية [البقرة: 172]، والأمر للإباحة (وَتَصَدَّقُوا) أي على المحتاجين، من الفقراء والمساكين، فحذف المفعول أيضًا؛ لما ذُكر (وَالْبَسُوا) أي الحلال، من أنواع الملابس (فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ) قيد في الثلاثة، وكذا ما بعده، فإباحة الأكل، واللبس، والصدقة مشروطة بالخلوّ من الإسراف، والخيلاء.

والإسراف: هو إنفاق المال الكثير في الغرض الخسيس. وقيل: صرف شيء فيما ينبغي زيادةً على ما ينبغي، بخلاف التبذير، فإنه صرف الشيء فيما لا ينبغي. كذا قاله الجرجانيّ. وقال أبو البقاء الكفويّ: الإسرافُ: تجاوز في الكميّة، فهو جهلٌ بمقادير الحقوق. والتبذير: تجاوز في موضع الحقّ، فهو جهل بمواقعها، يرشد إلى هذا قوله تعالى في تعليل الإسراف:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] وفي تعليل التبذير: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} الآية [الإسراء: 27] انتهى

(1)

.

("وَلَا مَخِيلَةٍ") بفتح الميم، وكسر الخاء المعجمة: بمعنى الْخُيَلاء، أي من غير تكبر، وفخر، وتطاول على الناس.

وحاصل المعنى أنه أباح الأكل، واللبس، والتصدق، إذا لم يُتَجَاوَز بها الحدُّ المشروع، وهو معنى الإسراف، وخلا ذلك عن الخيلاء، وإلا حرم الجميع. واللَّه تعالى أعلم.

[فإن قلت]: هذا الحديث يعارض الحديث الذي قبله، فإن هذا يدلّ على تحريم الخيلاء في الصدقة، وذاك يدلّ على مدحه فيها، فكيف التوفيق بينهما؟.

[قلت]: لا تعارض بينهما؛ لأن المراد بالاختيال هناك أن يكون طيّب النفس، منشرح الصدر، منبسط القلب، لا يستكثر، ولا يمنّ، بخلافه هنا، فإنه التكبّر على الفقراء، ورفع نفسه عنهم، والتطاول بلسانه عليهم، والمنّ بما أعطاه لهم، والإعجاب بنفسه، وحبّ المحمدة على فعله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه صحيح.

(1)

- "الكليات" لأبي البقاء الكفويّ ص 113.

ص: 60

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-66/ 2559 - وفي "الكبرى" 68/ 2340. وأخرجه (ق) في "اللباس" 2605 (أحمد) في "مسند المكثرين" 6656 و 6669. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ذمّ الخيلاء في الصدقة، على الوجه الذي قررناه آنفًا (ومنها): إباحة أكل الطيّبات، والمستلذّات، بشرط أن لا يصل إلى حدّ الإسراف (ومنها): إباحة التجمّل باللباس، إذا لم يؤدّ إلى الإسراف أيضًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌67 - (بَابُ أَجْرِ الْخَازِنِ إِذَا تَصَدَّقَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كان الأولى للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أن يذكر هذا الباب بعد باب "صدقة العبد"، وقبل باب "صدقة المرأة من بيت زوجها" رقم 57/ 2539 - رعايةً للمناسبة بين الأبواب، وقد -فعل ذلك الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه"، وإن لم يكن عنده باب "صدقة العبد"، فترجم "باب أجر الخادم إذا تصدّق بأمر صاحبه، غير مفسد"، ثم "باب أجر المرأة إذا تصدّقت، أو أطعمت من بيت زوجها، غير مفسدة". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2560 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا"، وَقَالَ «الْخَازِنُ الأَمِينُ، الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ، طَيِّبًا بِهَا نَفْسُهُ، أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبد اللَّه بن الْهَيثَمِ) أبو محمد البصريّ، نزيل الرّقّة، لا بأس به [11] 67/

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 61

2324 من أفراد المصنف.

2 -

(عبد الرحمن بن مهدي) بن حسان العنبري مولاهم، أبو سعيد البصري، ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث [9] 42/ 49. والباقون تقدموا قبل باب. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح غير شيخه، كما سبق آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من سفيان، وشيخه، وشيخ شيخه بصريان. (ومنها): أن فيه رواية الراوي، عن جده عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس الأشعريّ الصحابيّ الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤمِنِ) اللام في "المؤمن" للجنس، والمراد بعض المؤمنين للبعض (كَالْبُنْيَانِ) بضمّ الباء الموحّدة، أي كالحائط، والمراد أنّ من شأن المؤمن أن يكون على الحقّ الذي هو مقتضى الإيمان، ويلزم منه توافق المؤمنين على ذلك الحقّ، وتناصرهم، وتأييد بعضهم بعضًا (يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) جملة في محلّ نصب على الحال من "البنيان"، أو صفة له على قاعدة أنّ المحلّى بـ "أل" الجنسيّة كالنكرة، كما في قول الشاعر [من الوافر]:

وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي

والجملة فيها بيان وجه الشبه. قال الكرمانيّ: نُصِبَ "بعضًا" بنزع الخافض. وقال غيره: بل هو مفعول "يشُدُّ". قال الحافظ: ولكلّ وجه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بل الثاني هو الصواب؛ لأن "يشدّ" يتعدّى إلى المفعول به بنفسه، ولأنّ النصب بنزع الخافض سماعيّ، كما هو مقررٌ في محلّه. واللَّه تعالى أعلم.

وقال ابن بطّال: والمعاونة في أمور الآخرة، وكذا في الأمور المباحة من الدنيا مندوب إليها، وقد ثبت حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، مرفوعًا:"واللَّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه". رواه مسلم في حديث طويل.

زاد في رواية البخاريّ: "ثم شبك بين أصابعه". قال في "الفتح": هو بيان لوجه الشبه أيضًا، أي يشدّ بعضهم بعضًا، مثل هذا الشّدّ. ويستفاد منه أنّ الذي يريد المبالغة

ص: 62

في بيان أقواله يمثّلها بحركاتها؛ ليكون أوقع في نفس السامع انتهى

(1)

.

(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (الْخَازِنُ) زاد في رواية الشيخين: "المسلم". قيّده به لإخراج الكافر؛ لأنه لا نيّة له (الْأَمِينُ) قيده به لإخراح الخائن؛ لأنه مأزور، لا مأجور (الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بهِ) زاد في رواية الشيخين:"كاملًا موفّرًا". والمراد أنه يعطي من غير نقص شيء منه بهواه. وإنما رتّب الأجر على إعطائه ما أمر به غير ناقص؛ لأنه إذا خالف شيئًا من ذلك يكون خائنا، فلا يستحقّ الأجر (طَيِّبًا) وفي نسخة "طيّبة"، بتاء التأنيث؛ لأنه مسند إلى "نفس"، وهي مؤنّثة، وللأول وجه، وهو أن تأنيثها مجازي، ولأنه مفصول بالجارّ والمجرور (بِهَا) أي بالصدقة (نَفْسُهُ) أي يكون راضيًا بذلك، وإنما قيّده به تنبيهًا على تحقّق النيّة؛ لَأنّ بعض الناس، من أصحاب النفوس المريضة بالبخل لا يرضى بخروج شيء من يده، وإن كان ملكًا لغيره، فربما يخرجها كارهًا بلا نيّة، فيفقد الأجر. زاد في رواية الشيخين:"فيدفعه إلى الذي أمر له به".

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذه الأوصاف لا بدّ من اعتبارها في تحصيل أجر الصدقة للخازن، فإنه إن لم يكن مسلمًا لم يصحّ منه التقرّب، وإن لم يكن أمينًا كان عليه وزر الخيانة، فكيف يحصل له أجر الصدقة؟، وإن لم يَطِب بذلك نفسًا لم يكن له نيّةٌ، فلا يؤجر انتهى

(2)

.

(أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ) أي يشارك صاحب المال في الصدقة، فيصيران متصدّقَين، ويكون هو أحَدَهُما، هذا على أن الرواية بفتح القاف، وهو الذي صرّحوا به، قال في "الفتح": ضُبِطَ في جميع الروايات بفتح القاف انتهى. وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: لم نَرْوهِ إلا بالتثنية، ومعناه أنه بما فَعَلَ متصدّق، والذي أخرج الصدقة بما أخرج متصدّقٌ آخر، فهما متصدّقان. ويصحّ أن يقال على الجمع، ويكون معناه: أنه متصدّقٌ من جملة المتصدّقين انتهى

(3)

.

والحاصل أن الروايات صحّت بضبط "المتصدِّقَين" بالتثنية، فتتعيّن، وإن كان المعنى يستقيم على الجمع أيضًا بالمعنى المذكور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

- "فتح" ج 12 ص 65.

(2)

- راجع "المفهم" ج 3 ص 68. وراجع "الفتح" أيضًا ج 4 ص 56.

(3)

- "المفهم" ج 3 ص 68.

ص: 63

حديث أبي موسى الأشعريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-67/ 2560 - وفي "الكبرى" 69/ 2341. وأخرجه (خ) في "الصلاة" 481 و"الزكاة" 1438 و"الإجارة" 2260 و"الوكالة" 2319 و"المظالم" 2446 و"الأدب" 6027 (م) 1023 و"البرّ والصلة" 2585 (د) في "الزكاة" 1684 (ت) في "البرّ والصلة" 1928 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 19018 و 1912 و 19183. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان أجر الخازن إذا تصدّق بإذن المالك (ومنها): أن حصول الأجر للخازن مشروط بهذه الأوصاف المذكورة في هذا الحديث، فمهما اختلّ منها شرط لا يحصل له الأجر، فينبغي أن يَعتَنِي بها، ويُحافِظ عليها (ومنها): أن ثواب الصدقة لا يقتصر على المالك فقط، بل كلّ من تسبب في إيصالها إلى مستحقّها بنيّة خالصة مع بقيّة الشروط حصل له ثوابها، وهذا من فضل اللَّه تعالى على من لا يجد مالًا للتصدّق به، فينبغي للمسلم أن يحرص على هذا الفضل العظيم.

(ومنها): حثّ الإسلام على تحقّق التناصح، والتناصر، والتعاضد في المسلمين، حتى يكون المجتمع مجتمع خير، وبركة، يسوده الإخاء والمحبّة، ويكونَ يدًا واحدةً على أعدائه، فشبّهه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في تلك الحالة بالبنيان الذي يقوّي بعض أجزائه بعضه، كما شبهه في حديثه الآخر بالجسد الواحد، فقد أخرج الشيخان من حديث النعمان بن بشير - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوا، تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى".

وأخرجا أيضًا من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يُسْلِمُهُ، ومن كان في حاجة أخيه، كان اللَّه في حاجته، ومن فَرّج عن مسلم كربة، فرج اللَّه عنه كربة، من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره اللَّه يوم القيامة".

وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد اللَّه إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يَخذُلُه، ولا

ص: 64

يحقره، التقوى هاهنا" - ويشير إلى صدره ثلاث مرات- "بحسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم، كلّ المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌68 - (بَابُ الْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على فضل صدقة المسرّ على المجاهر، وهذا عند جمهور أهل العلم محمول على صدقة التطوّع، كما سيأتي بيانه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى واللَّه تعالى أعلم.

2561 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ بَحِيرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ، كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ، كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن سَلَمَة": هو المراديّ الْجَمَليّ المصريّ الثقة الثبت [11] 19/ 20. و"معاوية بن صالح": هو الحمصيّ قاضي الأندلس، صدوق له أوهام [7] 50/ 62.

و"بَحِير" -بفتح الموحّدة، وكسر المهملة- ابن سَعْد -بفتح، فسكون-، وقد يقع تصحيفه في كتب الرجال كثيرًا إلى سعيد، فليُتنبّه: هو السَّحُولي، أبو خالد الحمصيّ ثقة ثبت [6] 1/ 688. و"خالد بن مَعْدان": هو الْكَلَاعي الحمصيّ، ثقة عابد [3] 1/ 688.

و"كثير بن مُرّة": هو الحضرميّ، أبو شجرة، أو أبو القاسم الحمصيّ، ثقة [2] ووهم من عدّه في الصحابة 1/ 688.

وهذا الحديث صحيح، وقد تقدّم للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في 24/ 1663 - وتقدّم شرحه مستوفًى هناك، وكذا الكلام على مسائله، فلم يبق إلا الكلام على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل صدقة المسرّ على صدقة المجاهر بها، فأقول:

(مسألة): اختلف أهل العلم في صدقة السرّ، والعلانية أيّهما أفضل:

ص: 65

فذهب طائفة إلى أن الإسرار بالصدقة مطلقًا أفضل، وهو ظاهر مذهب البخاريّ- كما يأتي قريبًا - والمصنّفِ -رحمهما اللَّه تعالى-، وإليه ذهبت الظاهريّة.

وذهبت طائفة إلى أن الإسرار في التطوّع أفضل، بخلاف الفرض، فإعلانه أفضل، وهو مذهب الجمهور.

قال الإمام أبو محمد بن حزم -رحمه اللَّه تعالى-: إظهار الصدقة -الفرض، والتطوّع- من غير أن ينوي بذلك رياءً حسنٌ، وإخفا ذلك أفضل، وهو قول أصحابنا. وقال مالك: إعلان الفرض أفضل انتهى.

وقد ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بنحو ترجمة المصنّف، فقال:"باب صدقة السّرّ".

ثم استدلّ عليه بقوله: وقال أبو هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ورجلٌ تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه". وقوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآية [البقرة: 271].انتهى.

وحديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - الذي أشار إليه هو ما أخرجه الشيخان، وغيرهما من طريق حفص بن عاصم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"سبعة يظدهم اللَّه تعالى في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة اللَّه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في اللَّه، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة، ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف اللَّه، ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر اللَّه خاليا، ففاضت عيناه".

وقال في "الفتح": والحديث أقوى الأدلّة على أفضليّة إخفاء الصدقة، وأما الآية، فظاهرة في تفضيل صدقة السر أيضًا.

ولكن ذهب الجمهور إلى أنها نزلت في صدقة التطوّع، ونقل الطبريّ وغيره الإجماع

(1)

على أن الإعلان في صدقة الفرض أفضل من الإخفاء، وصدقة التطوّع على العكس من ذلك.

وخالف يزيد بن أبي حبيب، فقال: إن الآية نزلت في الصدقة على اليهود والنصارى، قال: فالمعنى إن تؤتوها أهل الكتابين ظاهرةً، فلكم فضل، وإن تؤتوها

(1)

- دعوى الإجماع غير صحيحة، كما سيأتي.

ص: 66

فقراءهم سرًّا، فهو خيرٌ لكم، وأما ما أعطى فقراء المسلمين من زكاة، وصدقة تطوّع، فإخفاؤه أفضل من علانيته

(1)

.

ونقل أبو إسحاق الزّجّاج أنّ إخفاء الزكاة في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أفضل، فأما بعده فإن الظنّ يُساء بمن أخفاها، فلهذا كان إظهار الزكاة المفروضة أفضل. قال ابن عطيّة: ويشبه في زماننا أن يكون الإخفاء بصدقة الفرض أفضل، فقد كثر المانع لها، وصار إخراجها عُرْضةً للرياء انتهى.

وأيضًا فكان السلف يُعطون زكاتهم للسعاة، وكان من أخفاها اتُّهِم بعدم الإخراج، وأما اليوم فصار كلّ أحد يُخرج زكاته بنفسه، فصار إخفاؤها أفضل.

وقال ابن المنيّر -رحمه اللَّه تعالى-: لو قيل: إنّ ذلك يختلف باختلاف الأحوال لما كان بعيدًا، فإذا كان الإمام مثلًا جائرًا، ومالُ من وجبت عليه مخفيًّا، فالإسرار أولى، وإن كان المتطوّع ممن يُقتدَى به، ويتبع، وتنبعث الهمم على التطوّع بالإنفاق، وسَلِمَ قصده، فالإظهار أولى انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ: قوله: "ورجل تصدّق بصدقة، فأخفاها" هذه صدقة التطوّع في قول ابن عبّاس، وأكثر العلماء. وهو حضّ على الإخلاص في الأعمال، والتستّر بها، ويستوي في ذلك جميع أعمال البرّ التطوّعيّة، فأما الفرائض فالأولى إشاعتها، وإظهارها؛ لتنحفظ قواعد الدين، ويجتمع الناس على العمل بها، فلا يضيع منها شيء، ويظهر بإظهارها جمال دين الإسلام، وتُعلم حدوده وأحكامه، والإخلاص واجبٌ في جميع القرب، والرياء مفسد لها انتهى

(3)

.

وقال أبو جعفر الطبريّ بعد أن ذكر الخلاف السابق: ما نصّه: ولم يخصص اللَّه من قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} شيئًا دون شيء، فذلك على العموم، إلا ما كان من زكاة واجبة، فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه، وإظهاره، سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها، مع إجماع جميعهم على أنها واجبة، فحكمها في أن الفضل في أدائه علانية، حكم سائر الفرائض غيرها انتهى

(4)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبين بما ذكر من الأقوال أن دعوى الإجماع على أن الإعلان في صدقة الفرض أفضل غير صحيحة؛ لما علمت من الخلاف فيه أيضًا.

(1)

- انتهى "فتح" بزيادة من "تفسير الطبريّ" ج 5 ص 583.

(2)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 38 - 40.

(3)

- راجع "المفهم" ج 3 ص 76.

(4)

- "تفسير الطبريّ" ج 5 ص 583 - 584. تحقيق محمود محمد شاكر.

ص: 67

والحاصل أن القول الراجح في المسألة قول من أطلق الأفضلية على الفرض والنفل، عملًا بإطلاق النصوص السابقة، فإنها لم تخصّ تطوّعًا عن الفرض، فالأفضل فيهما الإخفاء، إلا إذا كان هناك حاجة إلى الإعلان بالزكاة، كأن يولّي السلطان السعاةَ لجمع الزكوات، ونحو ذلك، كما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، وزمن الخلفاء الراشدين، فإنه يتعيّن الإعلان بها، وكذلك إذا كان الشخص يُتّهم بعدم أدائها، أو نحو ذلك، فيكون الإعلان أفضل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌69 - (الْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى)

2562 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عز وجل إِلَيْهِمْ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ، وَالدَّيُّوثُ، وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفي البصري، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

2 -

(يزيد بن زريع) أبو معاوية البصري، ثقة ثبت [8] 5/ 5.

3 -

(عمر بن محمد) بن زيد بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، نزيل عسقلان، ثقة [6].

قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، مات بعد أخيه أبي بكر بقليل. وقال عبد اللَّه ابن أحمد، عن أبيه: شيخٌ، ليس به بأس، روى عنه الثوريّ، وأثنى عليه. وقال حنبلٌ عن أحمد: ثقة. وكذا قال ابن معين، والعجليّ، وأبو داود. ووثقه ابن حبّان، وابن الْبَرْقيّ، والبزّار. وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: مات بعسقلان، وكان مرابطًا بها، وكان ولده بها، وكان صالح الحديث. وقال أبو حاتم: هم خمسة إخوة، أوثقهم عمر، وهو ثقة صدوق. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال عليّ بن نصر الجهضميّ، عن عبد اللَّه

ص: 68

ابن داود الْخُرَيبيّ، عن سفيان الثوريّ: لم يكن في آل عمر أفضل من عمر بن محمد بن زيد العسقلانيّ. وقال ابن عيينة: حدّثني الصدوق الْبَرُّ عمر بن محمد بن زيد. وقال يحيى بن حكيم، عن أبي عاصم: كان من أفضل أهل زمانه، كان أكثر مُقامه بالشام، قَدِمَ بغداد، فانجفل الناس إليه، وقالوا: ابن عمر بن الخطّاب، ثمّ قدم الكوفة، فأخذوا عنه، وكان له قَدْرٌ وجلالةٌ. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: قال عبد اللَّه بن داود -يعني الخُرَيبيّ-: ما رأيت رجلًا قطّ أطول منه، وبلغني أنه كان يلبس درع عمر، فيسحبها.

قال الواقديّ: مات بعد أخيه أبي بكر بقليل، ومات أبو بكر بعد خروج محمد بن عبد اللَّه بن حسن، وخرج محمد سنة (145) وقتل سنة (150). قال الحافظ: بل قُتل في السنة التي خرج فيها، أجمع على ذلك أهل التاريخ انتهى. روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله عند المصنف هذا الحديث فقط، وله عند ابن ماجه حديث:"لا ترجعوا بعدي كُفّارًا".

4 -

(عبد اللَّه بن يسار) المكيّ الأعرج، مولى ابن عمر، مقبولٌ [5].

روى عن سهل بن سعد، وسالم بن عبد اللَّه بن عمر، ومسلم المكيّ. وعنه عمر بن محمد بن زيد العمريّ، ويزيد بن إبراهيم التستريّ، وإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وسليمان بن بلال. ذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرّد به المصنّف، روى له حديث الباب فقط.

5 -

(سالم بن عبد اللَّه) بن عمر العدويّ المدني الثقة الثبت الفقيه [3] 33/ 490.

6 -

(أبوه) عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير عبد اللَّه بن يسار، فإنه من أفراد المصنّف. (ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو سالم. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه ابن عمر من المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سالِم بْنِ عَبدِ اللَّهِ، عَنْ أَبيهِ) عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى - عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثةْ لَا يَنْظُرُ اللَّه عز وجل إِلَيْهِمْ) أي نظرَ رحمة، ومغفرة، وإلا فلا يغيب أحد عن نظره، والمؤمن مرحوم في الآخرة قطعًا (يَوْمَ

ص: 69

الْقِيَامَةِ) خصّ يوم القيامة؛ لأنها مَظهَرُ الرحمة واللطف. هذا كلّه فيما إذا ماتوا قبل التربة، فأما إذا تابوا، وماتوا، فإن اللَّه تعالى يتوب عليهم (الْعَاق لِوَالِدَيْهِ) أي المقصّر في أداء الحقوق إليهما. يقال: عقَّ الولد أباه عُقُوقًا، من باب قَعَدَ: إذا عصاه، وترك "الإحسان إليه، فهو عاقّ، والجمعُ عَقَقَةٌ، كبَار وَبَرَرَة (وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ) أي التي تتشبّه بالرجال في زِيِّهم، وهيئاتهم، فأما في العلم والرأي، فمحمود. قاله ابن الأثير

(1)

.

(وَالدَّيُّوثُ) بالثاء المثلّثة: هو الذي لا غيرة له على أهله. من داث الشيءُ دَيْثًا، من باب باع: لَانَ، وسَهُل، ويُعَدَّى بالتثقيل، فيقال: دَيَّثَه غيرُهُ، والدِّياثَةُ فعله. قاله الفيّوميّ. وقيل: هو سريانيّ مُعَرَّب. قاله في "زهر الربى". وفي رواية لأحمد في "مسنده": "والديّوث الذي يُقِرّ في أهله الْخُبْث".

(وَثَلَاثةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) أي لاستحلالهم الذنوب التي ارتكبوها، فيكون على ظاهره، أو المراد لا يدخلون الجنّة دخولًا أوّليًّا، بل بعد تقدّم العذاب لهم، إن لم يستحلّوها. وهذا كله فيما إذا ماتوا قبل التوبة، كما تقدّم (الْعَاقُ لِوَالِدَيْهِ) تقدم تفسيره قريبًا (وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ) أي المديم لشربها (وَالْمَنانُ بِمَا أَعْطَى") وفي نسخة:"والمنّان عطاءه".

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: "المنّان": فَعّالٌ من الْمَنّ، وقد فسّره في الحديث، فقال:"هو الذي لا يُعطي شيئًا إلا منّه". أي إلا امتنّ به على المعطَى له، ولا شكّ في أن الامتنان بالعطاء مبطلٌ لأجر الصدقة والعطاء، مؤذٍ للمعطَى له، ولذلك قال تعالى:{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]. وإنما كان المنّ كذلك؛ لأنّه لا يكون غالبًا إلا عن البخل، والعجب، والكبر، ونسيان منّة اللَّه تعالى فيما أنعم به عليه، فالبخيل يُعظّم في نفسه العطيّةَ، وإن كانت حقيرة في نفسها، والعجبُ يحمله على النظر لنفسه بعين العظمة، وأنّه مُنعم بماله على الْمُعطَى له، ومتفضِّلٌ عليه، وإن كان له عليه حقّ يجب عليه مراعاته، والكبر يحمله على أن يحتقر المعطَى له، وإن كان في نفسه فاضلًا، ومُوجِب ذلك كلّه الجهل، ونسيان منّة اللَّه تعالى فيما أنعم به عليه، إذ قد أنعم عليه مما يُعطي، ولم يَحْرِمه ذلك، وجعله ممن يُعطي، ولم يجعله ممن يسأل، ولو نظر ببصيرته لعلم أن المنّة للآخذ؛ لما يُزيل عن المعطي من إثم المنع، وذمّ المانع، ومن الذنوب، ولما يحصل له من الأجر الجزيل، والثناء الجميل.

وقيل: المنّان في هذا الحديث هو من المنّ الذي هو القطع، كما قال اللَّه تعالى:

(1)

- "النهاية" ج 2 ص 203.

ص: 70

{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصّلت: 8] أي غير مقطوع، فيكون معناه: البخيل بقطعه عطاء ما يجب عليه للمستحقّ، كما جاء في حديث آخر:"البخيل المنّان"

(1)

، فنعته به. والتأويل الأول أظهر. أفاده القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث الذي أشار إليه القرطبيّ أخرجه أحمد في "مسنده"، فقال:

21020 -

حدثنا يزيد، أخبرنا الأسود بن شيبان، عن يزيد أبي العلاء، عن مطرف ابن عبد اللَّه بن الشخير، قال: بلغني عن أبي ذر حديث، فكنت أحب أن ألقاه، فلقيته، فقلت له: يا أبا ذر، بلغني عنك حديث، فكنت أحبّ أن ألقاك، فأسألَكَ عنه، فقال: قد لقيت، فاسأل، قال: قلت: بلغني أنك تقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"ثلاثة يحبهم اللَّه عز وجل، وثلاثة يبغضهم اللَّه عز وجل"، قال: نعم، فما أخالني، أكذب على خليلي محمد صلى الله عليه وسلم، ثلاثا، يقولها، قال: قلت: مَن الثلاثة الذين يحبهم اللَّه عز وجل؟، قال:"رجل غزا في سبيل اللَّه، فلقي العدوَّ، مجاهدا محتسبا، فقاتل حتى قُتِل"، وأنتم تجدون في كتاب اللَّه عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4]، "ورجل له جار يؤذيه، فيصبر على أذاه، ويحتسبه، حتى يكفيه اللَّه إياه بموت، أو حياة، ورجل يكون مع قوم، فيسيرون حتى يشق عليهم الْكَرَى"، أو "النعاس"، فينزلون في آخر الليل، فيقوم إلى وضوئه، وصلاته"، قال: قلت: مَن الثلاثة الذينِ يبغضهم اللَّه؟ قال: "الفخور المختال، وأنتم تجدون في كتاب اللَّه عز وجل:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23]، والبخيل المنان، والتاجر، والبَيّاع الحلاف"، قال: قلت: يا أبا ذر، ما المال؟ قال: فرق لنا، وذود -يعني بالفرق غنما يسيرة- قال: قلت: لست عن هذا أسال، إنما أسألك عن صامت المال، قال: ما أصبح لا أمسى، وما أمسى لا أصبح، قال: قلت: يا أبا ذر، مالك ولإخوتك قريش؟ قال: واللَّه لا أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين اللَّه تبارك وتعالى، حتى ألقى اللَّه ورسوله ثلاثًا يقولها. انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا حسنٌ. وعبد اللَّه بن يسار روى

(1)

- رواه أحمد من حديث أبي ذرّ - رضي اللَّه تعالى عنه - بإسناد صحيح

(2)

- راجع "المفهم" ج1 ص 304 - 305.

(3)

- الحديث رجاله رجال الصحيح، ويزيد هو ابن هارون. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 71

عنه جماعة-كما تقدّم- ووثقه ابن حبّان، فهو حسن الحديث. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-69/ 2562 - وفي "الكبرى" 71/ 2343. وأخرجه (أحمد) في "مسند المكثرين" 6078. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو ذمّ المنّان بما أعطى (ومنها): تحريم عقوق الوالدين، وأنه من الكبائر (ومنها): تحريم تشبّه النساء بالرجال في الزّيّ والهيئة (ومنها): ذمّ الدياثة، وهي إقرار الخبث في أهله، كما بُيّنت في رواية أحمد المتقدّمة، وأنها من الكبائر (ومنها): تحريم إدمان شرب الخمر، وأنه من الكبائر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2563 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُدْرِكِ

(1)

، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ عز وجل، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ:"خَابُوا، وَخَسِرُوا، خَابُوا، وَخَسِرُوا، قَالَ: «الْمُسْبِلُ إِزَارَهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَالْمَنَّانُ عَطَاءَهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن بشار) بندار أبو بكر البصري، ثقة [10] 24/ 27.

2 -

(محمد) بن جعفر غُندر البصري، ثقة [9] 21/ 22.

3 -

(شعبة) بن الحجاج المذكور قريبًا.

4 -

(عليّ بن المدرك) النخعيّ، أبو مدرك الكوفيّ، ثقة [4] 168/ 261.

5 -

(أبو زرعة بن عمرو بن جرير) بن عبد اللَّه البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: غيره، ثقة [3] 43/ 50.

6 -

(خَرَشَة) -بفتح الخاء المعجمة، والراء، والشين المعجمة- ابن الحرّ -بضمّ المهملة- الفَزَاريّ، كان يتيمًا في حَجْر عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه -.

قال الآجريّ، عن أبي داود: خَرَشَة بن الحرّ له صحبةٌ، وأخته سلامة بنت الحرّ لها صحبة. وذكره ابن حبّان في ثقات التابعين. وقال العجليّ: كوفي تابعيّ، من كبار التابعين. وقد ذكره ابن عبد البرّ، وأبو نعيم، وابن منده في الصحابة. وقال أبو موسى

(1)

- وفي نسخة: "ابن مدرك" بدون "أل".

ص: 72

المدينيّ: خلط أبو عبد اللَّه -يعني ابن منده- بينه، وبين خَرَشَة المراديّ، والظاهر أنهما اثنان. وقال ابن سعد: توفّي في ولاية بشر بن مروان على الكوفة. وقال خليفة: مات سنة (74 هـ). روى له الجماعة، وله عند المصنف هذا الحديث فقط، كرره خمس مرات برقم 2563 و 2564 و 4460 و 4461 و 5335.

7 -

(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) جندب بن جنادة الصحابيّ الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه -، تقدم 203/ 322. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وبالكوفيين بعده. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: علي عن أبي زرعة، عن خرشة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

- (عَنْ أَبِي ذَرٍّ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "ثَلَاَثةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ عز وجل) قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: أي بكلام مَن رضي عنه، ويجوز أن يكلّمهم بما يكلّم به من سَخِط عليه، كما جاء في صحيح البخاريّ، من حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، مرفوعًا:"يقول اللَّه لمانع الماء: اليوم أمنعك فضلي، كما منعتَ فضلَ ما لم تعمل يداك". وقد حكى اللَّه تعالى أنه يقول للكافرين: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. وقيل: معناه لا يكلّمهم بغير واسطة، استهانةً بهم. وقيل: معنى ذلك: الإعراض عنهم، والغضب عليهم انتهى

(1)

.

وقال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "ثلاثة لا يكلّمهم اللَّه، ولا ينظر إليهم، ولا يزكّيهم، ولهم عذاب أليم" هو على لفظ الآية الكريمة. قيل: معنى "لا يكلّمهم": أي لا يكلّمهم تكليم أهل الخيرات، وبإظهار الرضى، بل كلام أهل السخط والغضب.

وقيل: المراد الإعراض عنهم. وقال جمهور المفسرين: لا يكلّمهم كلامًا ينفعهم، ويَسُرّهم. وقيل: لا يرسل إليهم الملائكة بالتحيّة انتهى

(2)

.

(يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قيده به إشارة إلى أنه محلّ الرحمة المستمرّة، بخلاف رحمة الدنيا، فإنها قد تنقطع بما يتجدّد من الحوادث. قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

- "المفهم" ج 1 ص 302.

(2)

- "شرح صحيح مسلم" للنوويّ ج 2 ص 297.

(3)

- راجع "الفتح" ج 11 ص 430.

ص: 73

(وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) أي نظر رحمة، ولطف، وإحسان إليهم.

قال في "الفتح": أي لا يرحمه، فالنظر إذا أضيف إلى اللَّه تعالى كان مجازًا، وإذا أضيف إلى المخلوق كان كناية. ويحتمل أن يكون المراد لا ينظر اللَّه إليه نظر رحمة.

وقال شيخنا -يعني العراقيّ- في "شرح الترمذيّ": عبّر عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر؛ لأنّ من نظر إلى متواضع رَحِمَه، ومن نظر إلى متكبّر مَقَتَه، فالرحمة والمقت متسبّبان عن النظر. وقال الكرمانيّ: نسبة النظر لمن يجوز عليه النظر كناية؛ لأنّ من اعتدّ بالشخص التَفَتَ إليه، ثمّ كثر عبارةً عن الإحسان، وإن لم يكن هناك نظر، ولمن لا يجوز عليه حقيقة النظر، وهو تقليب الحدقة، واللَّه منزه عن ذلك، فهو بمعنى الإحسان، مجاز عما وقع في حقّ غيره كناية.

قال: ويؤيّد ما ذُكر من حمل النظر على الرحمة، أو المقت ما أخرجه الطبرانيّ، وأصله في أبي داود، من حديث أبي جُرَيٍّ:"إن رجلًا ممن كان قبلكم، لَبِسَ بردةً، فتبختر فيها، فنظر اللَّه إليه، فمقته، فأمر الأرض، فأخذته" الحديث انتهى ما في "الفتح".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ذكروه من نفي نظر اللَّه تعالى حقيقةً، وأنه ليس له نظر، وإنما هو مجاز عن الرحمة غير صحيح، وإنما حملهم على ذلك أنهم ظنّوا أن النظر لا معنى له إلا تقليب الحدقة، وهذا خطأ؛ لأن هذا في النظر المضاف إلى المخلوقين، وأما نظر الخالق، فهو نظر يليق بجلاله، لا نعلم كيفيته، كما لا نعلم حقيقة ذاته العليّة؛ لأن الصفة فرع عن الذات.

فالحقّ أن النظر ثابت للَّه تعالى حقيقة، لا مجازًا، وأما تفسير نظره هنا بأنه نظر رحمة، وإحسان، فلا يتنافى مع ما فسّرنا به آنفًا، لأن هذا بيان للمقصود هنا بقرينة الأدلة الأخرى؛ لأن نظر اللَّه تعالى محيط بجميع مخلوقاته، لا يخفى عليه شيء، فكان المراد هنا نظرًا خاصّا، وهو الذي يكون لأوليائه سبحانه، وتعالى، وهو نظر الرحمة، واللطف، والإحسان. والفرق بين إثبات النظر، وكون المراد نظرًا خاصّا، وهو نظر الرحمة، وبين نفي النظر، وكونه بمعنى الرحمة واضح، لا يخفى للمتأمّل.

والحديث الذي ذكره الحافظ عن الطبرانيّ، وادعى أنه يؤيّد ما ذكر مَن حَمَلَ النظر على الرحمة، أو المقت، لا يؤيّد مُدّعاه، بل هو موضّحٌ لما قلناه، فإنه أثبت أولًا النظر للَّه تعالى، ثم رتّب المقت عليه بالفاء التعقيبيّة، فقال:"فمقته، فأَمَرَ الأرضَ الخ"، فإن هذا واضح في إثبات النظر للَّه تعالى، وهو الذي قلناه، وقد أوضحت المسألة بأكثر من هذا في غير هذا الموضع، فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهوَّر بتقليد ذوي الاعتساف، واللَّه

ص: 74

تعالى وليّ التوفيق.

(وَلَا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يطهّرهم من دنس ذنوبهم؛ لعظيم جُرْمهم. قال الزجّاج: لا يُثني عليهم، ومن لم يثن عليه عذّبه (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي شديد الألم الْمُوجع. قال الواحدي: هو العذاب الذي يَخلُصُ إلى قلوبهم وَجَعُه، قال: والعذاب: كلّ ما يُعْيِي الإنسان، وَيشُقّ عليه، قال: وأصل العذاب في كلام العرب من العذب، وهو المنع، يقال: عذبته عَذْبًا: إذا منعته، وعَذَب عُذوبًا: أي امتنع، وسمّي المّاء عذْبًا؛ لأنه يمنع العطش، فسمّي العذاب عذابًا؛ لأنه يمنع المعاقَبَ من معاودة جُرْمه، وبمنع غيره من مثل فعله. ذكره النوويّ في شرحه لصحيح مسلم

(1)

.

وقال الراغب في "مفرداته": واختُلف في أصله، فقال بعضهم: هو من قولهم: عَذَبَ الرجلُ: إذا ترك المأكل والنوم، فهو عاذِبٌ، وعَذُوبٌ، فالتعذيب في الأصل حَملُ الإنسان أن يَعْذِبَ: أي يجوعَ، ويسهَرَ. وقيل: أصله من الْعَذْبِ، فعذّبتُهُ: أي أزلتُ عَذْبَ حياته، على بناء مَرَّضته، وقَذّيته. وقيل: أصل التعذيب إكثار الضرب بعَذَبَة السّوط، أي طرفها. وقد قال بعض أهل اللغة: التعذيب هو الضرب. وقيل: هو من قولهم: ماءٌ عَذَبٌ، إذا كان فيه قَذًى وكَدَرٌ، فيكون عذّبته، كقولك: كدّرت عيشَهُ، وزَلَّقتُ حياته. وعَذَبَة السوط، واللسان، والشجر: أطرافها، انتهى

(2)

.

(فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم) أي قرأ هذه الجُمَل المذكورة (فَقَالَ: أَبُو ذَرٍّ) - رضي اللَّه تعالى - عنه (خَابُوا) أي لم يظفروا بمرادهم، والكلام يحتمل أن يكون دعاء عليهم بالخيبة، وأن يكون إخبارًا بخيبتهم. يقال: خاب يخيب خَيبة: إذا لم يظفر بما طلب، وخيّبه اللَّه تعالى -بالتشديد-: جعله خائبًا. أفاده الفيّوميّ (وَخَسِرُوا) أي هلكوا، والكلام عليه كسابقه (خَابُوا، وَخَسِرُوا) كرره مرّتين للتأكيد.

زاد في رواية مسلم: "من هم يا رسول اللَّه".

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (الْمُسْبِلُ إِزَارَهُ) من الإسبال، وهو الإرخاء عن الحدّ الذي ينبغي الوقوف عنده.

يعني: أنّ أحد الثلاثة الذين لهم هذا الوعيد الشديد: هوالرجل الذي يُرخِي إزاره، ويجرّ طَرَفه خُيَلاءً، كما جاء مفسّرًا في حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - المتّفق عليه:"لا ينظر اللَّه إلى من جرّ ثوبه خيلاء". والخيلاء الكبر، والعجب.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا التقييد بالجرّ خيلاء يُخصّص عموم المسبل

(1)

- "شرح صحيح مسلم" للنوويّ ج 2 ص 297 - 298.

(2)

- "مفرادت ألفاظ القرآن" ص 555.

ص: 75

إزاره، ويدلّ على أن المراد بالوعيد من جرّ خُيَلَاءً، وقد رَخّص النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك لأبي بكر الصدّيق - رضي اللَّه تعالى عنه -، فقد أخرج الشيخان، من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَن جَرَّ ثوبه خيلاء، لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة"، فقال أبو بكر: إن أحد شقي ثوبي يسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنك لست تصنع ذلك خيلاء"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن الوعيد المذكور خاصّ بمن جرّه خُيلاء، وأما جرّه بغير الخيلاء، فحرامٌ؛ لما أخرجه البخاريّ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ما أسفَلَ من الكعبين، من الإزار ففي النار".

[تنبيه]: يستثنى من ذلك النساء؛ لما أخرجه الترمذيّ، وصحّحه، من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، متّصلًا بحديثه المذكور في قصّة أبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنه -: فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهنّ؟ فقال: "يُرخين شبرًا"، فقالت: إذًا تنكشف أقدامهنّ، قال:"فيرخينه ذراعًا، لا يزدن عليه".

لفظ الترمذيّ. قال الحافظ: وقد عزا بعضهم هذه الزيادة لمسلم، فوهم، فإنها ليست عنده، وكأنّ مسلمًا أعرض عن هذه الزيادة للاختلاف فيها على نافع، فقد أخرجه أبو داود، والنسائيّ

(2)

وغيرهما، من طريق عبيد اللَّه بن عمر، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة. وأخرجه أبو داود من طريق أبي بكر بن نافع، والنسائيّ، من طريق أيوب بن موسى، ومحمد بن إسحاق، ثلاثتهم، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن أم سلمة. وأخرجه النسائيّ من رواية يحيى بن أبي كثير، عن نافع، عن أم سلمة نفسها، وفيه اختلاف آخر، ومع ذلك فله شاهد من حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - أخرجه أبو داود من رواية أبي الصّديق، عن ابن عمر، قال:"رخص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين شبرًا، ثم استزدنه، فزادهنّ شبرًا، فكن يرسلن إلينا، فنذرع لهنّ ذراعًا". وأفادت هذه الرواية قدر الذراع المأذون فيه، وأنّه شبران بشبر اليد المعتدلة.

قال الحافظ: ويستفاد من هذا الفهم التعقّب على من قال: إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيّدة بالأحاديث الأخرى المصرّحة بمن فعله خيلاء. وسيأتي تمام البحث في هذه المسألة في "كتاب الزينة"، في أواخر الكتاب -105/ 5336 - إن شاء اللَّه تعالى.

[تنبيه]: قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ، وغيره: وذَكَر إسبال الإزار

(1)

- سيأتي للمصنف برقم 104/ 5335.

(2)

- سيأتي للمصنف برقم 105/ 5336 و 5337 و 5338 و 5339.

ص: 76

وحده؛ لأنه كان عامّة لباسهم، وحكم غيره من القميص وغيره حكمه.

قال النوويّ: وقد جاء ذلك مبيّنًا منصوصًا عليه من كلام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، من رواية سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، مَن جَرَّ منها شيئا، خُيَلاء، لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة"

(1)

. وسيأتي تمام البحث فيه في "كتاب الزينة" -1015326 - وما بعدها من الأبواب، إن شاء اللَّه تعالى.

(وَالْمُنَفِّقُ) بتشديد الفاء، من نَفَّقَ السِّلْعَة: إذا رَوَّجَها، قاله في "القاموس"، وفي "المصباح": ونَفَقَتِ السِّلْعَةُ، والمرأةُ نَفَاقًا، بالفتح: كثُر طُلَّابها، وخُطّابها انتهى (سِلْعَتَهُ) بكسر السين المهملة، وسكون اللام: البِضَاعة، جمعها سِلَعٌ، مثلُ سدر وسِدَرٍ.

ومثله سِلْعة الجسد

(2)

، وهي الغدّة، وأما السَّلْعَة بَالفتح، فهي الشجّة، وجمعها سَلَعات، مثل سجدة وسَجَدات، وقد نظم ذلك بعضهم بقوله [من الرجز]:

وَسِلْعَةُ الْمَتَاعِ سِلْعَةُ الْجَسَدْ

كُلٌّ بِكَسْرِ السِّينِ هَكَذَا وَرَدْ

أَمَّا الَّتِي بِالْفَتحِ فَهْيَ الشَّجَّهْ

عِبَارَةُ "الْمِصْبَاحِ" فَاسْلُكْ نَهجَهْ

(بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ) بكسر اللام، وإسكانها، وممن ذكر الإسكان ابنُ السّكّيت في أول "إصلاح المنطق". قاله النوويّ.

(وَالْمَنَّانُ عَطَاءَهُ) تقدّم تفسيره في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي ذرّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-69/ 2563 و 2564 وفي "البيوع" 5/ 4458 و 4459 وفي "الزينة" 104/ 5332 و 5333 - وفي "الكبرى" 71/ 2344 و 2345 و"البيوع" 5/ 6050 و 6051 و"الزينة" 103/ 9701 و 9702. وأخرجه (م) في "الإيمان" 106 (د) في "اللباس" 4087 (ت) في "البيوع" 1211 (ق) في "التجارة" 2208 (أحمد) في "مسند

(1)

- سيأتي للمصنف برقم 104/ 5334.

(2)

- قال في "المصباح": السِّلْعة -أي بكسر، فسكون-: خُرَاجٌ كهيئة الغُدّة، تتحرّك بالتحريك، قال الأطبّاء: هي وَرَمٌ غير ملتزق باللحم، يتحرّك عند تحريكه، وله غلاف، وتقبل التزيّد، لأنها خارجة عن اللحم، ولهذا قال الفقهاء: يجوز قطعها عند الأمن انتهى "المصباح" في مادّة سلع.

ص: 77

الأنصار" 21034 "الدارميّ" في "البيوع" 2605. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو ذمّ المنّان بما أعطى، وأنّ المنّ مُحرَّم (ومنها): أن اللَّه سبحانه وتعالى ينظر إلى عباده المؤمنين المستقيمين، ويزكّيهم، يوم القيامة، وينجيهم من عذابه، وأن من أجرم بالإسبال، وتنفيق السلعة باليمين الكاذبة، والمنّان بما أعطي لا ينظر إليهم، ولا يزكّيهم، ولهم عذابٌ أليم (ومنها): أن هذه الأفعال المذكورة من الكبائر؛ لأنه تعالى لا يتوعّد بهذا الوعيد الشديد إلا من ارتكب الذنوب الكبائر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعمِ الوكيل.

2564 -

(أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ -وَهُوَ الأَعْمَشُ - عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ عز وجل، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: الْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ»).

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وكلّهم تقدّموا، غير:

1 -

(سليمان بن مُسهر) الفزاريّ الكوفيّ، ثقة [4].

روى عن خَرَشَة بن الحرّ. وعنه إبراهيم النخعيّ، وهو من أقرانه، والأعمش. قال النسائيّ، والعجليّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات" في الطبقة الثالثة. وذكره ابن منده في "كتاب الصحابة"، وخطّأه أبو نعيم، وقال: بل هو تابعيّ. روى له مسلم، وأبو داود، والمصنّف، وله عند المصنّف هذا الحديث كرره ثلاث مرات برقم 2564 و 4461 و 5335.

و"بشر بن خالد": هو العسكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقة يُغرب [10] 26/ 812.

والحديث صحيح، وقدم شرحه، والكلام على مسائله في الحديث الذي قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

ص: 78

‌70 - (بَابُ رَدِّ السَّائِلِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بردّه ردَّهُ بإعطاء شيء مما تيسّر، لا ردّه خائبًا، كما يوضحه الحديث الذي أورده في الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2565 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ ح وَأَنْبَأَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ

(2)

بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ بُجَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ جَدَّتِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«رُدُّوا السَّائِلَ، وَلَوْ بِظِلْفٍ» ، فِي حَدِيثِ هَارُونَ:"مُحْرَقٍ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هارون بن عبد اللَّه) الحمال، أبو موسى البغدادي، ثقة حافظ [10] 50/ 62.

2 -

(قتيبة بن سعيد) الثقة الثبت [10] 1/ 1.

3 -

(معن) بن عيسى القزّاز، أبو يحيى المدني، ثقة ثبت، قال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب مالك، من كبار [10] 50/ 62.

4 -

(مالك) بن أنس الإمام الحجة الفقيه الشهير [7] 7/ 7.

5 -

(زيد بن أسلم) العدوي المدني الفقيهن ثقة، يرسل [3] 64/ 80.

6 -

(ابن بُجيد) هو: عبد الرحمن بن بُجَيد- بموحّدة مصغّرًا- ابن وهب بن قيظيّ بن قيس ابن لوذان بن ثعلبة بن عليّ بن مجدعة بن حارثة الأنصاريّ الحارثيّ المدنيّ، مختلف في صحبته.

روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن جدّته، أم بُجيد. وعنه زيد بن أسلم، ومحمد بن إبراهيم ابن الحارث، وسعيد المقبريّ. قال ابن عبد البرّ: أنكر على سهل بن أبي حَثمة حديثَ القسامة، وكان يُذكَر بالعلم، وفي صحبته نظر، إلا أنه روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمنهم من يقول: إنه حديثٌ مرسل. وذكره ابن حبّان في ثقات التابعين، وقال: يقال: إنّ له صحبة. وقال أبو القاسم البغويّ: لا أدري له صحبةٌ، أم لا؟. وقال أبو نُعيم: قال ابن أبي داود: له صحبة.

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

- وقع في بعض النسخ: "يزيد" بدل "زيد" وهو غلط فاحش، فتنبه.

ص: 79

قال الحافظ: وأشار أبو عمر بقوله: "أنكر إلخ" إلى ما وقع في سياقه عند أبي داود أنّ سهل ابن أبي حثمة وَهِمَ. وروى قاسم بن أصبغ حديثه المذكور في "القسامة" من طريق محمد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ، وما هو بأكثر علمًا منه، ولكنّه كان أسنّ منه انتهى. ولم يذكر أبو داود هذه الزيادة.

وعند النسائيّ من طريق مالك، عن زيد بن أسلم، عن ابن بُجَيد، عن جدّته حديثٌ غير هذا -يعني حديث الباب- قال: وكذا وقع غير مسمّى لأكثر رواة "الموطّإ"، وسمّاه يحيى بن بُكير محمدًا، وجزم بهذا، فكان يلزم المزّيّ أن يترجم لمحمد بن بُجيد، وكأنه اعتمد على ما وقع في "الأطراف" في مسند أم بُجيد، فقال في رواية النسائيّ من طريق مالك، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن بُجيد، وليس هو في شيء من "الأطراف"، وذلك أنه وقع من طريق أخرى عن سعيد المقبريّ، عن عبد الرحمن بن بُجيد، عن جدّته، أم بُجيد -يعني الآتي للمصنف برقم 76/ 2574 - فظنّ مصنّف "الأطراف" اتحاد الروايتين، فجزم بأن شيخ ابن أسلم هو عبد الرحمن بن بُجيد، وفيه نظر؛ لأنه لا مانع أن يكون محمد بن بجيد شيخ زيد بن أسلم، غير عبد الرحمن بن بجيد شيخ سعيد المقبريّ، وأن كلاّ منهما يروي عن جدّته انتهى كلام الحافظ. روى له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده هذا الحديث، وأعاده برقم 2574.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الحافظ من تعدّد الروايتين، وكون شيخ زيد ابن أسلم غير شيخ سعيد القبريّ عندي محلّ توقّف. واللَّه تعالى أعلم.

7 -

(جدته) أم بُجيد الأنصارية - رضي اللَّه تعالى عنها -، كانت من المبايعات، أخرج لها أبو داود، والترمذي، والمصنف، ولها في هذا الكتاب هذا الحديث، وأعاده برقم (2574). واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بالنسبة للسند الأول، ومن خماسياته بالنسبة للثاني، فهو أعلى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير ابن بجيد، وجدته، فأخرج لهما أبو داود، والترمذي، والمصنف. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَن) عبد الرحمن (ابْنِ بُجَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ جَدَّتِهِ) أم بُجَيد الأنصاريّة، يقال: اسمها حَوّاء، وكانت من المبايعات، - رضي اللَّه تعالى عنها -، وفي الرواية الآتية -76/ 2574 - من طريق سعيد المقبريّ، عن عبد الرحمن بن بُجيد، عن جدّته أمّ بُجيد، وكانت ممن بايعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنها قالت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إن المسكين ليقوم على

ص: 80

بابي، فما أجد له شيئًا، أعطيه إياه، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن لم تجدي شيئًا تعطينه إياه، إلا ظلفا محرقا، فادفعيه إليه"(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رُدُّوا السَّائِلَ") كناية عن إعطائه (وَلَوْ بِظِلْفٍ) -بكسر الظاء المعجمة، وسكون اللام، بعدها فاء- هو من الشاء، والبقر، ونحوه، كالظفر من الإنسان، والجمع أظلاف، مثلُ حِمْل وأَحْمَال.

وقوله (في حَدِيثِ هَارُونَ: مُحْرَقٍ) يعني أن لفظ رواية هارون بن عبد اللَّه: "ولو بظلف محرق" بزيادة "محرق". وهو كناية عن الشيء القليل، والمقصود المبالغة في الحثّ على الصدقة.

والمعنى: تصدّقوا بما تيسّر، وإن قلّ، ولا تجعلوا السائل محرومًا، بل أعطوه شيئًا، ولو كان شيئًا يسيرًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أم بُجيد - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-70/ 2565 و 76/ 2574 - وفي "الكبرى" 72/ 2346 و 78/ 2355. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1667 (ت) في "الزكاة" 665 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 26607 و 26610 (مالك) في "الموطإ" 1714. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أُنيب".

‌71 - (بَابُ مَنْ يُسْأَلُ وَلَا يُعْطِي)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على ذمّ الشخص الذي يُسأل شيئًا، وهو يقدر عليه، فيمنعه السائل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2566 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ

(1)

، قَالَ: سَمِعْتُ بَهْزَ بْنَ حَكِيمٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ «لَا يَأْتِى رَجُلٌ

(1)

- وفي نسخة: "معتمرٌ".

ص: 81

مَوْلَاهُ، يَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلٍ عِنْدَهُ، فَيَمْنَعُهُ إِيَّاهُ، إِلاَّ دُعِيَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعٌ أَقْرَعُ، يَتَلَمَّظُ فَضْلَهُ الَّذِي مَنَعَ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(المعتمر) بن سليمان بن طرخان، أبو محمد البصري، ثقة، من كبار [9] 10/ 10.

3 -

(بهز بن حكيم) القشيري، أبو عبد الملك البصري، صدوق [6] 1/ 2436.

4 -

(أبوه) حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري، صدوق [3] 1/ 2436.

5 -

(جدّه) معاوية بن حَيْدَةَ بن معاوية بن كعب القشيري، صحابي نزل البصرة، ومات بخراسان، تقدم في 1/ 2436. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه، عن جده. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن معاوية بن حَيْدة - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه (قال: سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا يَأْتِي رَجُلٌ مَوْلَاهُ، يَسْأَلُهُ) حال من "رجل"، أي حال كونه سائلًا له وجاز إتيان الحال من النكرة؛ لوقوعها في سياق النفي، كما قال في "الخلاصة":

وَلَمْ يُنَكَّرْ غَالِبًا ذُو الْحَالِ إنْ

لَمْ يَتَأخَّرْ أَوْ يُخَصَّصْ أَوْيَبِنْ

مِنْ بَعْدِ نَفْي أوْ مُضَاهِيهِ كَلَا

يَبْغِي امْرُؤٌ عَلَى امْرىءٍ مُسْتسْهِلَا

(مِنْ فَضْلِ عِنْدَهُ) أي بعض شيء فاضل عن حاجته، وفيه إشارة إلى أنّ الشخص لا يلام في منع ما لم يفضل عن حاجه (فَيَمْنَعَهُ إِيَّاهُ) بنصب الفعل بـ "أَنْ" مضمرة بعد الفاء السببيّة الواقعة بعد النفي، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

(إِلَّا دُعِيَ لَهُ يَومَ الْقِيَامَةِ) أي لذلك المولى المانع فضلَ ما عنده (شُجَاعٌ) بالرفع على أنه نائب الفاعل لـ "دُعِي". وفي بعض النسخ "شجاعًا" بالنصب، وعلى هذا فهو حال مقدّمة على صاحبها، وهو "فضله الذي منع" الآتي، وهو النائب عن الفاعل.

وهذا الوجه يحتمل أيضًا على الصورة الأولى، ولا يعترض بعدم كتابته بالألف؛ لأنه يُحمَل على لغة ربيعة، وعادة القدماء الذين كانوا يرسمون المنصوب المنون بصورتي

ص: 82

المرفوع والمجرور.

والمعنى: إلا دُعِيَ له يوم القيامة فضلُهُ الذي منعه، حال كونه شجاعًا أقرع. ولفظ أبي داود:"إلا دُعي له يوم القيامة فضلُهُ الذي منعه، شجاعًا أقرعَ"، وهي واضحة.

و"الشجاع": -بضمّ الشين المعجمة، وكسرها، كغُراب، وكِتاب-: الحيّة مطلقًا، أو الذكر منها، أو ضَرْبٌ منها صغير، جمعه شِجْعانٌ -بالكسر والضمّ-. أفاده في "القاموس". وفي "اللسان":"الشجاع" ضرب من الحيّات دقيقٌ، زعموا أنه أجرؤها، قال ابن أحمر [من الكامل]:

وَحَبَتْ لَهُ أُذُنٌ يُرَاقِبُ سَمْعَهَا

بَصَرٌ كَنَاصِبَةِ الشُجَاعِ الْمُسْخَدِ

حَبَت: انتصبت. و"ناصبة الشجاع": عينه التي ينصبها للنظر إذا نظر انتهى.

(أَقْرَعُ) صفة لشجاع، قال أبو داود في "سننه" بعد أن أخرج الحديث ما نصّه: الأقرع الذي ذهب شعر رأسه من السمّ انتهى.

وقال ابن منظور: الأقرع هو الذي لا شعر على رأسه، يريد حية قد تمعّط جلد رأسه؛ لكثرة سمّه، وطول عمره. وقيل: سمّي أقرع لأنه يَقْرِي السمّ، ويجمعه في رأسه، حتى تتمعّط منه فَرْوَة رأسه. قال ذو الرّمّة يصف حيّة [من الطويل]:

قَرَى السُّمَّ حَتَّى انْمَازَ فَرْوَةُ رَأْسِهِ

عَنِ الْعَظْمِ صِلٌّ فَاتِكُ اللَّسْعِ مَارِدُهْ

(1)

(يَتَلَمَّظُ) أي يُخرج لسانه، يقال: تَلَمّظتِ الحيّةُ: إذا أخرجت لسانها. قاله في "القاموس". أو معناه: يُحرّك لسانه عليه، ويتبع أثره. وقال في "اللسان": التلمّظ: الأخذ باللسان ما يبقى في الفم بعد الأكل. وقيل: هو تتبع الطُّعم والتذوّق. وقيل: هو تحريك اللسان في الفم بعد الأكل، كأنه يتتبّع بقيّة من الطعام بين أسنانه. قال: وقال الجوهريّ: لَمَظَ يَلمُظُ -بالضمّ- لمظًا: إذا تتبّع بلسانه بقيّة الطعام في فمه، أو أخرج لسانه، فمسَحَ به شفتيه، وكذلك التلمّظ انتهى.

وقوله (فَضْلُهُ الَّذِي مَنَعَ) بالرفع على أنه النائب عن الفاعل على تقدير نصب "شجاع"، وعلى تقدير رفعه، فهو بدلٌ منه، ولا يقال: إن المبدل منه في نيّة الطرح؛ لأن ذلك أغلبيّ، أو أنّ طرحه بالنسبة للعامل، أي أن عامله مطروحٌ ليس عاملًا في البدل، أو معنى ذلك -كما قال الدمامينيّ-: إن البدل مستقلّ بنفسه، لا متمّمٌ لمتبوعه، كعطف البيان، والنعت

(2)

.

وقد جوّزوا في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} الآية. كون: "الجنّ" بدلًا من

(1)

- راجع "لسان العرب" في مادة شجع.

(2)

- راجع "حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل" عند قول ابن مالك: "أحمد ربي اللَّه خير مالك".

ص: 83

"شُرَكاء"، مع أنه لا معنى لقوله:"وجعلوا للَّه الجنّ" بدون "شركاء".

أو هو خبرٌ لمبتدإ محذوف، أي هو فضله. ويحتمل أن يُنصب بتقدير "أعني"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-71/ 2566 - وفي "الكبرى" 73/ 2347. وأخرجه (د) في "كتاب الأدب" 5139 (أحمد) في "مسند البصريين" 9528 أو 19543. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو ذمّ منع السائل ما فضل عن الحاجة (ومنها): الوعيد الشديد لمن بخل على عبده بما أنعم اللَّه به عليه (ومنها): أن اللَّه تعالى يُعاقب البخيل بنفس ما بخل به، حيث حمله على البخل به ظنه أنه ينفعه مستقبلًا، فجازاه اللَّه تعالى بأن جعله شجاعًا أقرع، فعذّبه به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌72 - (مَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ عز وجل

-)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على حكم من سأل باللَّه تعالى، وهو وجوب إعطائه واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2567 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ، فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ، فَأَعْطُوهُ، وَمَنِ اسْتَجَارَ بِاللَّهِ، فَأَجِيرُوهُ وَمَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا، فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ، حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور قبل باب.

ص: 84

2 -

(أبو عوانة) الوضاح بن عبد اللَّه اليشكري الواسطي، ثقة ثبت [7] 41/ 46.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران، أبو محمد الكوفي ثقة ثبت ورع، إلا أنه يدلس [5] 17/ 18.

4 -

(مجاهد) بن جبر، أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكيّ، ثقة إمام في التفسير والعلم [3] 27/ 31.

5 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى - عنهما من المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ) ولفظ أحمد، وأبي داود: "من استعاذكم باللَّه" (فَأَعِيذُوهُ) أي من طلب منكم أن تدفعوا عنه شرّكم، أو شرّ غيركم باللَّه، مثل أن يقول: يا فلان باللَّه عليك، أو أسألك باللَّه أن تدفع عنّي شرّك، أو شرّ فلان، أو احفظني من فلان، فأجيبوه، واحفظوه تعظيمًا لاسم اللَّه تعالى.

وقال الطيبيّ: أي من استعاذ بكم، وطلب منكم دفع شرّكم، أو شرّ غيركم عنه قائلًا: باللَّه أن تدفع عنّي شرّك، فأجيبوه، وادفعوا عنه الشرّ، تعظيمًا لاسم اللَّه تعالى، فالتقدير: من استعاذ منكم، متوسّلًا باللَّه، مستعطفًا به.

ويحتمل أن تكون الباء صلةَ "استعاذ"، أي من استعاذ باللَّه، فلا تتعرّضوا له، بل أعيذوه، وادفعوا عنه الشرّ، فوُضِعَ "أَعِيذوا" موضع ادفعوا، ولا تتعرّضوا، مبالغةً. انتهى

(1)

.

(وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ) ولفظ أبي داود: "ومن سأل باللَّه"(فَأَعْطُوهُ) تعظيمًا لاسم اللَّه تعالى، وشفقةً على عباده.

(وَمَنِ اسْتَجَارَ بِاللَّهِ، فَأَجِيرُوهُ) أي من طلب الأمان، والحفظ، فأمّنوه، واحفظوه (وَمَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا)"أتى" بلا مدّ، بمعنى فَعلَ، أي من أحسن إليكم إحسانًا قوليًّا، أو فعليًا. ويحتمل أن يكون "آتى" كأعطى وزنًا ومعنًى، وإنما عدّه بـ "إلى" لتضمينه معنى

(1)

- راجع "المرعاة" ج 6 ص 379.

ص: 85

الوصول، أو الإحسان. واللَّه تعالى أعلم (فَكَافِئُوهُ) من المكافأة بالهمز، وهي المجازاة بالمثل، يقال: كافأه مكافأةً، وكِفَاءً: ماثله. وكلّ شيء ساوى شيئًا حتى يكون مثله، فهو مكافىء له. قاله في "اللسان".

والمعنى: أحسنوا إليه بمثل ما أحسن إليكم (فَإنْ لَمْ تَجِدُوا) زاد في رواية أحمد: "ما تكافئوه". والأصل تكافئونه، فسقطت النون بلا ناصب، وجازم، تخفيفًا، على حدّ قول الشاعر [من الرجز]:

أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي

وَجْهَكِ بِالْعَنَبَرِ وَالْمِسْكِ الذّكِي

(فَادْعُوا لَهُ) أي كافئوه بالدعاء له، بأن تسألوا اللَّه تعالى أن يكافئه على معروفه (حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتمُوهُ) أي كرّروا الدعاء، وبالغوا فيه حتى تعلموا مكافأتكم له باستجابة دعائكم له.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن الأمر في الأشياء المذكورة في هذا الحديث للوجوب، إذ الأمر للوجوب، إلا لصارف، والظاهر أنه لا صارف هنا، لكنه مشروط بأمرين:

[أحدهما]: أن يكون قادرًا عليه؛ للأدلة الأخرى، كقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} الآية. وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} الآية، وقوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} الآية، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "ما نهيتكم عنه، فاجتنبوه، وما أمرتكم به، فافعلوا منه ما استطعتم

" الحديث. متفق عليه.

[الثاني]: أن يكون السائل باللَّه محتاجًا، لا يسأل تكثّرًا، وإلا كان سؤاله محرمًا، فيكون إعطاؤه إعانةً على الإثم، وقد قال اللَّه تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} الآية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-72/ 2567 - وفي "الكبرى" 74/ 2348. وأخرجه (د) في "الأدب" 5109 (أحمد) في "مسند المكثرين" 5342. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعيّة إعطاء من سأل باللَّه

ص: 86

-عز وجل (ومنها): إعاذة من استعاذ باللَّه عز وجل (ومنها): إجارة من استجار باللَّه عز وجل (ومنها): مكافأة من أحسن بالمال، فإن لم يوجد المال، فبالدعاء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[فائدة]: أخرج الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "جامعه" بإسناد رجاله ثقات، عن أسامة ابن زيد رضي الله عنه، قال، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من صُنِعَ إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك اللَّه خيرًا، فقد أبلغ في الثناء". قال أبو عيسى هذا حديث حسن جيد غريب لا نعرفه من حديث أسامة بن زيد إلا من هذا الوجه.

وقد روي عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله، وسألت محمدا، فلم يعرفه، حدثني عبد الرحيم بن حازم البلخي، قال: سمعت المكيّ بن إبراهيم يقول: كنا عند ابن جريج المكيّ، فجاء سائل، فسأله، فقال ابن جريج لخازنه: أعطه دينارا، فقال: ما عندي إلا دينار، إن أعطيته لَجُعتَ وعيالُك، قال: فغضب، وقال: أعطه، قال المكيّ: فنحن عند ابن جريج، إذ جاءه رجل بكتاب، وصُرَّة، وقد بعث إليه بعض إخوانه، وفي الكتاب: إني قد بعثت خمسين دينارا، قال: فَحَلَّ ابن جريج الصُّرَّة، فعدّها، فإذا هي أحد وخمسون دينارا، قال: فقال ابن جريج لخازنه: قد أعطيت واحدا، فرده اللَّه عليك، وزادك خمسين دينارا. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريدُ إلا الإصلاح، ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌73 - (مَنْ سَأَلَ بِوَجْهِ اللَّه عز وجل

-)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على جواز السؤال بوجه اللَّه عز وجل.

2568 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ بَهْزَ بْنَ حَكِيمٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا أَتَيْتُكَ حَتَّى حَلَفْتُ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِهِنَّ -لأَصَابِعِ يَدَيْهِ- أَلاَّ آتِيَكَ، وَلَا آتِيَ دِينَكَ، وَإِنِّي كُنْتُ امْرَأً، لَا أَعْقِلُ شَيْئًا، إِلاَّ مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ اللَّهِ عز وجل، بِمَا بَعَثَكَ رَبُّكَ إِلَيْنَا؟ ، قَالَ:«بِالإِسْلَامِ» ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا آيَاتُ الإِسْلَامِ؟ ، قَالَ: «أَنْ تَقُولَ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ إِلَى

(1)

- راجع "جامع الترمذيّ" ج 4 ص 380 "كتاب البرّ والصلة".

ص: 87

اللَّهِ عز وجل، وَتَخَلَّيْتُ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، كُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى مُسْلِمٍ مُحَرَّمٌ، أَخَوَانِ، نَصِيرَانِ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عز وجل مِنْ مُشْرِكٍ، بَعْدَ مَا أَسْلَمَ عَمَلاً، أَوْ يُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد هم المذكورون قبل باب، والحديث تقدّم للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "باب وجوب الزكاة" برقم-1/ 2436 - سندًا، ومتنًا، أورده هناك استدلالًا على وجوب الزكاة، وتقدّم هناك شرحه، والكلام على مسائله، وباللَّه تعالى التوفيق.

ومحلّ الاستدلال على الترجمة هنا قوله: "أسألك بوجه اللَّه عز وجل"، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقرّه عليه، فدلّ على أنّ السؤال بوجه اللَّه عز وجل مشروع. واللَّه تعالى أعلم.

[فإن قلت]: كيف تجمع بين حديث الباب، وحديث:"ملعونٌ من سأل بوجه اللَّه، وملعونٌ من يُسأل بوجه اللَّه، ثم منع سائله ما لم يسأله هُجْرًا". رواه الطبرانيّ، قال المنذريّ: رجاله رجال الصحيح، إلا شيخه، يحيى بن عثمان بن صالح، وهو ثقة انتهى؟.

[قلت]: الذي يظهر لي -واللَّه تعالى أعلم- أن يُجمَعُ بينهما يحمل حديث الطبرانيّ على من يسأل بوجه اللَّه تعالى بلا حاجة تدعوه لذلك، وإنما لمجرّد عدم مبالاته بعظمة اسم اللَّه تعالى.

وأما الحديث الذي أخرجه أبو داود من طريق سليمان بن معاذ التميمي، حدثنا ابن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يسأل بوجه اللَّه، إلا الجنة". فإنه حديث ضعيف؛ لأن في سنده سليمان بن معاذ، وهو سليمان بن أرقم بن معاذ، نُسب لجدّه، وهو ضعيف. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "وإني كنت امرأ""كان" هنا زائدة، ويحتمل أن تكون بمعنى "صار"، وإني صِرْتُ امرأً الخ.

وقوله: "بما بعثك اللَّه""ما" استفهاميّةٌ، والغالب فيها أن تحذف ألفها إذا جُرّت، وتقدّم تمام البحث فيه في الباب المذكور.

وقوله: "مُحْرِم" تقدّم ضبطه بصيغة اسم الفاعل من أحرم رباعيًّا، بمعنى أنه يُحرِّمُ أذاك عليه. ويحتمل أن يكون بصيغة اسم المفعول المضعّف، من حُرِّمَ، أي حَرّم اللَّه تعالى تعرّض مسلم على مسلم بالأذى، إلا بما شرعه الشارع، كالقصاص، وإقامة الحدود عليه، وتضمينه المال إذا أتلف مال غيره، ونحو ذلك.

وقوله: "أخوان" خبر لمحذوف، أي هما أخوان. وقوله:"أو يفارق الخ" بالنصب بـ "أن" مضمرة وجوبًا بعد "أو" التي بمعنى "إلى"، أي إلى أن يفارق المشركين، وفيه

ص: 88

وجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، فمن لم يهاجر فلا تقبل له الأعمال، والظاهر أن هذا قبل فتح مكّة، أو يحمل على ما إذا لم يتمكّن من إقامة دينه في بلاد المشركين، وإلا فالهجرة تكون مستحبّة. فافهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب".

‌74 - (منْ يَسْأَلُ بِاللَّهِ عز وجل، وَلَا يُعْطِي)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: يحتمل بناء الفعل الأول للفاعل، وللمفعول، فيكون المعنى على الأوّل: هذا باب ذكر ذمّ من يَسأل شيئًا باللَّه تعالى لنفسه، ولا يعطي إذا سأله به سائل، حيث جمع بين قبيحين، سؤاله باللَّه تعالى لنفسه، ومنعه من سأله به، فاستخفّ باسم اللَّه تعالى في الحالتين.

ويكون المعنى على الثاني: ذمّ من يسأله الناس شيئًا باللَّه تعالى، فلا يُعطيهم ما سألوه، أي مِع القدرة عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2569 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ الْقَارِظِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلاً» ، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«رَجُلٌ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، حَتَّى يَمُوتَ، أَوْ يُقْتَلَ، وَأُخْبِرُكُمْ بِالَّذِي يَلِيهِ» ، قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ، يُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَيُؤْتِى الزَّكَاةَ، وَيَعْتَزِلُ شُرُورَ النَّاسِ، وَأُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ» ، قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«الَّذِي يُسْأَلُ بِاللَّهِ عز وجل، وَلَا يُعْطِي بِهِ» ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن رافع) أبو عبد اللَّه النيسابوري، ثقة عابد [11] 92/ 114.

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 89

2 -

(ابن أبي فُدَيكَ) هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم الدِّيليُّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيُّ، صدوق من صغار [8] 51/ 962.

3 -

(ابن أبي ذئب) هو: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث أبي ذئب القرشيّ المدنيّ، ثقة [7] 41/ 685.

4 -

(سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ) بن عبد اللَّه بن قارظ -بالظاء المشالة- الكنانيّ الْقَارِظِيّ المدنيّ، حليف بني زهرة، صدوق [3].

قال النسائيّ في "الجرح والتعديل": ثقة. وقال الدارقطنيّ: مدنيّ يُحتجّ به. وذكره ابن حبّان في "الثقات"

(1)

. وقال ابن سعد: توفّي في آخر سلطان بني أُميّة، وله أحاديث. روى له "أبو داود، والمصنّف، وابن ماجه"، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث برقم 2569 و 4262 و 4355.

5 -

(إِسْمَاعيلُ بْنُ عَبدِ الرَّحْمَنِ) بن ذُؤيب، وقيل: ابن أبي ذئب الأسديّ، ثقة [3] 45/ 591.

6 -

(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، مولى ميمونة - رضي اللَّه تعالى عنها -، ثقة فاضل، صاحب مواعظ، وعبادة، من صغار [3] 64/ 80.

7 -

(ابن عباس) البحر الحبر - رضي اللَّه تعالى عنهما -. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف؛ وأنه مسلسل بالمدنين غير شيخه، فنيسابوري، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: سعيد عن إسماعيل عن عطاء، وهو من رواية الأقران، فإنهم من الطبقة الثالثة، وفيه ابن عباس رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ")"ألا" مركّبة من همزة الاستفهام التقريريّ، و"لا" النافية (بِخَيْرِ النَّاسِ) أي بمن هو من خير الناس، وكذلك قوله:"بِشَرّ الناس"، أي بمن هو من شرّ الناس. وقيل: أطلق للمبالغة في الحثّ على الأوّل، والتحذير عن الثاني.

(1)

- ذكر في "تهذيب الكمال" عن النسائيّ، أنه قال: ضعيف. قال في "تهذيب التهذيب" بعد ما نقل عنه عن "الجرح والتعديل" أنه قال: ثقة: ما نصّه: فينظر في أين قال: إنه ضعيف. انتهى.

ص: 90

وقال القاضي عياض: وهذا عامّ مخصوص، وتقديره:"من خير الناس"، وإلّا فالعلماء الذين حملوا الناس على الشرائع، والسنن، وقادوهم إلى الخير أفضل، وكذا الصدّيقون، كما جاءت به الأحاديث، ويؤيّده أن في رواية للنسائيّ:"إن من خير الناس رجلًا عَمِلَ في سبيل اللَّه على ظهر فرسه" بـ "من" التي للتبعيض انتهى.

وقال الحافظ: وفي رواية للحاكم: سئل أَيُّ المؤمنين أكمل إيمانًا؟، قال:"الذي يجاهد في سبيل اللَّه بنفسه، وماله الخ". وكأنّ المراد بالمؤمن من قام بما تعين عليه القيام به، ثمّ حصّل هذه الفضيلة، وليس المراد من اقتصر على الجهاد، وأهمل الواجبات العينيّة، وحينئذ فيظهر فضل المجاهد؛ لما فيه من بذل نفسه، وماله للَّه تعالى، ولما فيه من النفع المتعدّي

(1)

(مَنْزِلًا) قال الباجيّ: أي أكثرهم ثوابًا، وأرفعهم درجةً.

(قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "رَجُلٌ) بالرفع خبر لمبتدإ محذوف، أي هو رجلٌ (آخِذٌ) صفة لـ "رجل"(بِرَأْسِ فَرَسِهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل) كناية عن مداومة الجهاد.

وفي رواية "الموطّإ": "رجل آخذ بعنان فرسه، يجاهد في سبيل اللَّه". ولفظ الترمذيّ: "ممسكٌ بعنان فرسه". و"العِنَان" -بالكسر-: اللَّجَام.

قال الباجيّ: يريد- واللَّه أعلم- أنه مواظبٌ على ذلك، ووصفه بأنه آخذ بعنان فرسه، يجاهد في سبيل اللَّه بمعنى أنه لا يخلو في الأغلب من ذلك، راكبًا له، أو قائدًا معظم أمره، ومقصوده من تصرّفه، فوصف بذلك جميع أحواله، وإن لم يكن آخذًا بعنان فرسه في كثير منها انتهى (حَتَّى يَمُوتَ، أَوْ يُقْتَلَ، وَأَخْبِرُكُمْ بِالَّذِي يَلِيهِ") أي يتّبعه في الخيريّة، وفي رواية الترمذيّ:"بالذي يتلوه". وفي رواية "الموطّإ": "ألا أُخبركم بخير الناس منزلّا بعده". قال الباجيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وصف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أفضل المنازل، ونصّ عليها، ورغّب فيها من قَوِيَ عليها، وأخبر بعد ذلك من قَصَرَ عن هذه الفضيلة، وضَعُف عنها، فليس كلّ الناس يستطيع الجهاد، ولا يقدر على أن يكون آخذًا بعِنَان فرسه فيه، ففي الناس الضعيف، والكبير، وذو الحاجة، والفقير انتهى (قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:"رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ") خبر لمحذوف: أي هو رجلٌ معتزل، بصيغة اسم الفاعل من اعتزل عن الناس: إذا انفرد عنهم، أي متباعدٌ عن الناس، منفرد عنهم (فِي شِعْبٍ) -بكسر الشين المعجمة، وسكون العين المهملة-: هو الطريق، أو الطريق في الجبل، والجمع شِعَاب -بالكسر أيضًا. والمراد أنه منفرد عن الناس في موضع خال من

(1)

- راجع "الفتح" ج 6 ص 81.

ص: 91

البوادي، والصحارى.

ولفظ الترمذيّ: رجلٌ معتزلٌ في غُنيمة له، يؤدّي حقّ اللَّه فيها". وهو تصغير غَنَم، وهو مؤنّث سماعيّ، ولذلك صُغّر بالتاء، والمراد قطعة من الغنم، وفيه إشارة إلى قلّتها.

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: إنما وردت الأحاديث بذكر الشِّعْب، والجبل؛ لأن ذلك في الأغلب يكون خاليًا من الناس، فكلّ موضع يبعد عن الناس، فهو داخلٌ في المعنى. انتهى.

(يُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ) زاد في رواية "الموطّإ": ويعبد اللَّه، لا يشرك به شيئًا"

(وَيعْتَزِلُ شُرُورَ النَّاسِ) يحتمل أن تكون الإضافة فيه بمعنى اللام، فيكون المعنى: يبتعد عن إيصال شروره للناس، فيكون بمعنى حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عند الشيخين:"ويَدَعُ الناس من شرّه". والمراد أن من أسباب اعتزاله عن الناس أن لا يصيب أحدًا من المسلمين بسوء.

ويحتمل أن تكون الإضافة بمعنى "من"، ويكون المعنى: يبتعد عن وصول الشرور من الناس إليه. واللَّه تعالى أعلم.

قال الباجيّ -رحمه اللَّه تعالى-: فمنزلة هذا منزلة بعد منزلة المجاهد من أفضل المنازل؛ لأداء الفرائض، وإخلاصه للَّه تعالى العبادة، وبُعْده عن الرياء والسمعة، إذا خفي، ولم يكن ذلك شهرة له؛ ولأنه لا يؤذي أحدًا، ولا يذكره، ولا تبلغ درجته درجة المجاهد؛ لأن المجاهد يذبّ عن المسلمين، ويجاهد الكافرين حتى يُدخلهم في الدين، فيتعدّى فضله إلى غيره، ويكثر الانتفاع به، وهذا المعتزل لا يتعدّى نفعه إلى غيره.

وفي حديث أبي سعيد الخدريّ صلى الله عليه وسلم: قيل: يا رسول اللَّه، أيّ الناس أفضل؟، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"مؤمن يجاهد في سبيل اللَّه بنفسه وماله"، قالوا: ثم من؟ قال: "مؤمن في شِعْب من الشعاب، يتقي اللَّه، ويَدَعُ الناسَ من شره". متّفق عليه.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وإنما كان المؤمن المعتزل يتلو المجاهد في الفضيلة؛ لأنّ الذي يُخالط الناس لا يَسلَم من ارتكاب الآثام، فقد لا يفي هذا بهذا، وهو مقيّدٌ بوقوع الفتن. انتهى بتصرّف

(1)

.

(وَأُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ"، قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "الَّذِي يَسْأَلُ بِاللَّهِ عز وجل،

(1)

- راجع "الفتح" ج 6 ص 81.

ص: 92

وَلَا يُعْطِي بِهِ) يحتمل بناء الفعلين للفاعل، ويكون المعنى: يسأل غيره بحقّ اللَّه، ثمّ إذا سئل هو به لا يُعطي، بل يَنكُص، ويبخل. ويحتمل بناء الأول للمفعول: أي يسأله غيرُهُ باللَّه، فلا يجيب، يعني أنه يسأله صاحب حاجة، بأن يقول له: أعطني باللَّه، وهو يقدر، ولا يُعطيه شيئًا، بل يردّه خائبًا.

قال الطيبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: الباء فيه كالباء في "كتبتُ بالقلم"، أي يسأل بواسطة ذكر اسم اللَّه تعالى. أو هي للقسم، والاستعطاف، أي يقول السائل: أعطني شيئًا بحقّ اللَّه تعالى. وقال ابن حجر الهيتميّ -رحمه اللَّه تعالى-: أي مُقْسِمًا عليه باللَّه، استعطافًا إليه، وحملًا له على الإعطاء، بأن يقال له: بحقّ اللَّه أعطني كذا للَّه، ولا يعطي مع ذلك شيئًا، أي والصورة أنه مع قدرته عَلِمَ اضطرار السائل إلى ما سأله. وعلى هذا يُحمل قول الْحَلِيميّ -رحمه اللَّه تعالى-، أخذًا من هذا الحديث وغيره: إنّ ردّ السائل بوجه اللَّه كبيرة انتهى

(1)

.

واختار السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- الاحتمال الأوّل، واستبعد الثاني، حيث قال:

قوله: "الذي يسأل باللَّه" على بناء الفاعل، أي الذي يجمع بين القبيحين: أحدهما: السؤال باللَّه. والثاني: عدم الإعطاء لمن يسأل به تعالى، فما يُراعي حرمة اسمه تعالى في الوقتين جميعًا. وأما جعله مبنيًّا للمفعول، فبعيد، إذ لا صُنْعَ للعبد في أن يسأله السائل باللَّه، فلا وجه للجمع بينه وبين ترك الإعطاء في هذا المحلّ، والوجه في إفادة ذلك المعنى أن يقال: الذي لا يعطي إذا سئل باللَّه ونحوه. واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي استبعده السنديّ عندي غير مستبعد، فإنّ المعنى عليه صحيح أيضًا، ووجه ذلك أن معناه: شرّ الناس هو الذي يُسأل باللَّه تعالى، أي يسأله الناس شيئًا مما يقدر عليه باللَّه تعالى، ثم لا يعطيهم ما سألوه باللَّه تعالى.

والحاصل أن الاحتمالين صحيحان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

(1)

- راجع "المرعاة" ج 6 ص 313.

(2)

- راجع "شرح السندي" ج 5 ص 85.

ص: 93

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -74/ 2569 - وفي "الكبرى" 76/ 2350. وأخرجه (ت) في "الجهاد" 1652 (الموطأ) في "الجهاد" 976 (الدارميّ) في "الجهاد" 2295. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ذمّ من يسأل باللَّه تعالى، ولا يعطي (ومنها): بيان فضل الجهاد في سبيل اللَّه تعالى (ومنها): فضل العزلة عن الناس، مع أداء حقوق اللَّه تعالى، لما فيه من السلامة من الغيبة، واللغو، ونحو ذلك لكن قال الجمهور محلّ ذلك عند وقوع الفتن. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم العزلة:

اختلف السلف -رحمهم اللَّه تعالى- في أصل العزلة، فذهب الجمهور إلى أن الاختلاط أولى؛ لما فيه من اكتساب الفوائد الدينيّة للقيام بشعائر الدين، وتكثير سواد المسلمين، وإيصال أنواع الخير إليهم، من إعانة، وإغاثة، وعيادة، وغير ذلك.

وقال قوم: العزلة أولى؛ لتحقّق السلامة بشرط معرفة ما يتعيّن.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنّه أنه يقع في معصية، فإن أشكل الأمر، فالعزلة أولى. وقال غيره: يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم من يتحتّم عليه أحد الأمرين. ومنهم من يترجّح، وليس الكلام فيه، بل إذا تساويا، فيختلف باختلاف الأحوال، فإن تعارضا اختلف باختلاف الأوقات، فمن يتحتّم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر، فيجب عليه إما عينًا، وإما كفايةً بحسب الحال والإمكان. وممن يترجّح من يغلب على ظنّه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر في المعروف، والنهي عن المنكر. وممن يستوي من يأمن على نفسه، ولكنه يتحقّق أنه لا يطاع. وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامّة، فإن وقعت الفتنة ترجّحت العزلة لما ينشأ فيها غالبًا من الوقوع في المحذور، وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة، فتعمّ من ليس من أهلها، قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} .

قال الحافظ: ويؤيّد التفصيل المذكور حديث أبي سعيد رضي الله عنه أيضًا: "خير الناس رجلٌ جاهد بنفسه وماله، ورجلٌ في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من شرّه". انتهى

(1)

.

(1)

- "فتح" ج 14 ص 541 - 542.

ص: 94

وقد كتب الإمام الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "التمهيد" بحثًا نفيسًا فيما يتعلّق بالعزلة، أحببت إيراده هنا تتميمًا للفائدة، وتكميلًا للعائدة، وهاك خلاصته:

قال- عند شرح حديث الباب-: ما حاصله: في الحديث حضّ على الانفراد عن الناس، واعتزالهم، والفرار عنهم. قال: وقد فضّلها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -كما ترى، وفضّلها جماعة العلماء والحكماء، لا سيّما في زمن الفتن، وفساد الناس، وقد يكون الاعتزال عن الناس مرّةً في الجبال والشعاب، ومرّةً في السواحل والرباط، ومرّةً في البيوت. وقد جاء في غير هذا الحديث:"إذا كانت الفتنة، فأَخْف مكانَك، وكُفَّ لسانك"

(1)

. ولم يخصّ موضعًا من موضع. وقد قال عقبة بن عامر رضي الله عنه لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما النجاة يا رسول اللَّه؟ فقال: "يا عقبة أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك"

(2)

. وبمثل هذا أوصى ابن مسعود رضي الله عنه رجلًا، قال له: أوصني.

ثم أخرج أبو عمر بسنده أنّ ابن مسعود رضي الله عنه أُهدي له طائرٌ، فقال: وددتُ أني حيث صِيد هذا الطائر، لا يكلّمني أحدٌ، ولا أكلّمه.

(1)

- رواه أحمد في "مسنده" مطوّلا، ونصّه:

4274 -

حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن رجل، عن عمرو بن وابصة الأسدي، عن أبيه، قال: إني بالكوفة في داري، إذ سمعت على باب الدار السلام عليهم، أألج؟، قلت: عليهم السلام، فَلِجْ، فلما دخل، فإذا هو عبد اللَّه بن مسعود، قلت: يا أبا عبد الرحمن، آية ساعة زيارة هذه، وذلك في نحر الظهيرة، قال: طال على النهار، فذكرت من أتحدث إليه، قال: فجعل يحدثني عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأحدثه، قال: ثم أنشأ يحدثني، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "تكون فتنة، النائم فيها خير من المضطجع، والمضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الراكب، والراكب خير من المجري، قتلاها كلها في النار"، قال: قلت: يا رسول اللَّه، ومتى ذلك؟ قال:"ذلك أيام الهرج"، قلت: ومتى أيام الهرج؟ قال: "حين لا يأمن الرجل جليسه"، قال: قلت: فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: "اكفف نفسك ويدك، وادخل دارك"، قال: قلت: يا رسول اللَّه، أرأيت إن دخل رجل عليّ داري، قال:"فادخل بيتك"، قال: قلت: أفرأيت إن دخل عليّ بيتي؟ قال: "فادخل مسجدك، واصنع هكذا"، وقبض بيمينه على الكوع، وقل:"ربي اللَّه حتى تموت على ذلك".

حدثنا علي بن إسحاق أخبرنا عبد اللَّه يعني ابن المبارك أخبرنا معمر عن إسحاق بن راشد عن عمرو بن وابصة الأسدي.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد ثقات، فإن الرجل المبهم في السند الأول سمي في الثاني بأنه إسحاق بن راشد، وهو ثقة، وعمرو بن وابصة، وثّقه ابن حبّان، لكن في إسناد أبي داود زاد سالمًا بين إسحاق بن راشد وبين عمرو بن وابصة، فالحديث ضعيف.

(2)

- رواه الترمذيّ، والبيهقيّ، وهو ضعيف؛ لأن في سنده علي بن يزيد الألهانيّ، وهو ضعيف.

ص: 95

وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه قال: بينما نحن حَوْلَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذ ذَكَرَ الفتنةَ، فقال: "إذا رأيتم الناس قد مَرِجَت

(1)

عهودهم، وخَفَّت أماناتهم، وكانوا هكذا" -وشبك بين أصابعه- قال: فقمت إليه، فقلت: كيف أفعل عند ذلك اللَّهُمَّ جعلني اللَّه فداك- قال: "الزم بيتك، وامْلِكْ عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودعْ عنك أمر العامة". وأخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه بإسناد صحيح.

وقالت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: كان أول ما بُدىء به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا، إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يلحق بغار حراء، فيتحنث فيه، اللياليَ ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود بمثلها، حتى فَجِئَه الحق، وهو في غار حراء

" الحديث. متّفق عليه.

قال: وكان يقال قديمًا: طوبى لمن خزن لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته.

ثم أخرج بسنده، عن سليم بن عامر، قال: قال أبو الدرداء رضي الله عنه: نعم صومعة الرجل بيته، يكفّ فيه بصره، ونفسه، وفرجه، وإياكم والمجالس في الأسواق، فإنها تُلغي، وتُلهي. ثم أخرج بسنده: أن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: إن اليأس غنى، وإن الطمع فقر حاضر، وإن العزلة راحة من خُلَطاء السوء.

وقد روي من مرسل الحسن، وغيره، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"صوامع المؤمنين بيوتهم". وأخرج عن يسار بن عبد الرحمن، قال لي بكير بن الأشجّ: ما فعل خالك؟ قال: قلت: لزم البيت منذ كذا وكذا، فقال: ألا إن رجالًا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم. وأخرج عن قيس بن أبي حازم، قال: قال طلحة بن عبيد اللَّه: أقلُّ لعيب الرجل لزومه بيته. قال: وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: لوددت أني وجدت من يقوم لي في مالي، فدخلت بيتي، فأغلقت بابي، فلم يدخل عليّ أحد، ولم أخرج إلى أحد، حتى ألحق باللَّه عز وجل. وقال غيره: طوبى لمن كان غنيًّا خفيًّا. وكان طاوس يجلس في البيت، فقيل له: لم تكثر الجلوس في البيت؟ فقال: حَيْفُ الأئمة، وفساد الناس.

قال أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: فرّ الناس قديمًا من الناس، فكيف بالحال اليوم، مع ظهور فسادهم، وتعذّر السلامة منهم، ورحم اللَّه منصورًا الفقيه، حيث يقول [من

(1)

- مرج كفرِح: اختلط.

ص: 96

مجزوّ الخفيف]:

النَّاسُ بَحْرٌ عَمِيقٌ

وَالْبُعْدُ عَنْهُمْ سَفِينَهْ

وَقَدْ نَصَحْتُكَ فَانْظُرْ

لِنَفْسِكَ الْمُسْتَكِينَهْ

وقال رجل لسفيان الثوريّ: أوصني، فقال. هذا زمان السكوت، ولزوم البيوت.

وأخذ هذا منصورٌ، فقال [من مجزوّ الكامل]:

الْخَيرُ أَجْمَعُ فِي السُّكُو

تِ وَفِي مُلَازَمَةِ الْبُيُوتْ

فَإِذَا اسْتَوَى لَكَ ذَا وَذَ

لِكَ فَاقْتَنِعْ بِأَقَلِّ قُوتْ

وأخرج عن سفيان الثوريّ، قال: ما رأيت لأحد خيرًا من أن يدخل في جُحر. وقال يحيى بن يمان: قال لي سفيان: أَنكِرْ من تَعرف، ولا تتعرّف من لا تعرف. وأخرج عن سفيان بن عيينة، قال: رأيت سفيان الثوريّ في النوم، فقلت: أوصني، فقال: أقلّ من معرفة الناس، أقلّ من معرفة الناس. قال ابن عيينة: كأنه ملدوغٌ من مجالسة الناس. وقال داود الطائيّ: فِرَّ من الناس كما تفرّ من الأسد، واستوحش منهم كما تستوحش من السباع. ومما يُروى عن الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-، وزمانه لا محالة خيرٌ من زماننا هذا [من البسيط]:

لَيْتَ السِّبَاعَ لَنَا كَانَتْ مُجَاوِرَةً

وَلَيتَنَا لَا نَرَى مِمَّنْ نَرَى أَحَدًا

إِنَّ السِّبَاعَ لَتَهْدَا فِي مَرَابِضِهَا

وَالنَّاسُ لَيسَ بَهِادٍ شَرُّهُمْ أَبَدًا

فَاهْرُبْ بِنَفْسِكَ وَاسْتَأْنِسْ بِوَحْدَتَهِا

تَعِشْ سَلِيمًا إِذَا مَا كُنْتَ مُنْفَرِدًا

وقال الفضيل بن عياض: أقِلَّ من معرفة الناس، وليكن شغلك في نفسك. وقال وُهيب بن الورد: خالطت الناس خمسين سنة، فما وجدت رجلًا غفر لي ذنبًا فيما بيني وبينه، ولا وصلني إذا قطعته، ولا ستر عليّ عورةً، ولا أمنته إذا غضب، فالاشتغال بهؤلاء حُمْقٌ. وقال مالك بن دينار: قال لي راهبٌ من الرهبان: يا مالك، إن استطعت أن تجعل بينك وبين الناس سُورًا من حديد، فافعل، فانظر كلّ جليس لا تستفيد منه خيرًا في دينك، فانبذه عنك. وأخرج عن عمر بن الخطّاب، قال: خذوا بحظّكم من العزلة.

وكان سعيد بن المسيّب يقول: العزلة عبادة. وذكر عبد اللَّه بن حبيق، قال: قال لي يوسف بن أسباط: قال لي سفيان الثوريّ -وهو يطوف حول الكعبة- والذي لا إله إلا هو، لقد حلّت العزلة. وقال بعض الحكماء: الحكمة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت" العاشرة عزلة الناس، قال: وعالجت نفسي على الصمت، فلم أظفر به، فرأيت أن العاشرة خير الأجزاء، وهي عزلة الناس.

ص: 97

قال أبو عمر: وقد جَعَلَت طائفة من العلماء العزلة، اعتزال الشرّ، وأهله بقلبك وعملك، وإن كنت بين ظهرانيهم، ذكر ابن المبارك، قال: حدّثنا وهيب بن الورد، قال: جاء رجل إلى وهب بن منبّه، فقال: إنّ الناس قد وقعوا فيما فيه وقعوا، وقد حدّثت نفسي أن لا أخالطهم، فقال: لا تفعل، إنه لا بدّ لك من الناس، ولا بدّ لهم منك، ولك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصمّ سميعًا، أعمى بصيرًا، سَكُوتًا نَطُوقًا. وقال ابن المبارك في تفسير العزلة: وإن خاضوا في غير ذلك، فأسكت.

قال أبو عمر: يشبه أن يكون من ذهب هذا المذهب مِنْ حجته: ما رواه أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"المؤمن الذي يُخالط الناس، ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالطهم، ولا يصبر على أذاهم". قال: وروينا عن الأحنف بن قيس، أنه قال: الكلام بالخير أفضل من السكوت، والسكوت خير من الكلام باللغو والباطل، والجليس الصالح خير من الوحدة، والوحدة خير من جليس السوء.

ثم أخرج الأحاديث المرفوعة بأسانيده: (منها): حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى - عنهما المذكور في الباب. (ومنها): حديث أبي سعيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه -: أن رجلًا أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، أيّ الناس أفضل؟ قال:"مؤمنٌ يجاهد في سبيل اللَّه بنفسه وماله"، فقال: ثمّ من يا رسول اللَّه؟ قال: "ثمّ مؤمنٌ في شعب من الشعاب يتّقي اللَّه، ويَدَعُ الناس من شرّه". متّفق عليه. (ومنها): حديث أبي سعيد أيضًا: قيل: يا رسول اللَّه، أيّ الأعمال أفضل؟، قال:"الجهاد في سبيل اللَّه عز وجل"، قيل: ثمّ مهْ؟ قال: "رجلٌ في شعب من الشعاب، يتّقي ربّه عز وجل، ويذَرُ الناس من شرّه".

(1)

(ومنها): حديثه أيضًا: قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ، يتبع بها شَعَفَ الجبال، ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن". رواه البخاريّ.

(ومنها): حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمانٌ يكون فيه خير الناس فيه منزلةً من أخذ بعنان فرسه في سبيل اللَّه، كلّما سمع بهَيْعَة استوى على متنه، ثم يطلب الموت في مظانّه، ورجلٌ في شعب من هذه الشعاب، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويَدَعُ الناس إلا من خير". رواه أحمد بسند رجاله ثقات (ومنها): حديث أم مبشّر بنت البراء بن معرور - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: "ألا أخبركم بخير الناس، رجلًا؟ "، قالوا: بلى، يا

(1)

- حديث صحيح.

ص: 98

رسول اللَّه، فأشار بيده إلى الشام، وقال:"رجلٌ أخذ بعنان فرسه في سبيل اللَّه، ينتظر أن يُغِير، أو يُغار عليه"، ثمّ قال:"ألا أخبركم بخير الناس بعده؟ قالوا: بلى، يا رسول اللَّه، فأشار بيده نحو الحجاز، ثمّ قال: "رجلٌ في غُنيمة، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، وُيقيم حقّ اللَّه في ماله، قد اعتزل شرور الناس".

قال أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: إنما جاءت هذه الأحاديث بذكر الشعاب والجبال، واتّباع الغنم -واللَّه أعلم- لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يَعتزِلُ فيها الناس، فكلّ موضع يبعد عن الناس، فهو داخلٌ في هذا المعنى، مثل الاعتكاف في المساجد، ولزوم السواحل، للرباط والذكر، ولزوم البيوت فرارًا عن شرور الناس؛ لأن من نأى عنهم سلموا منه، وسلم منهم؛ لما في مجالستهم، ومخالطتهم من الخوض في الغيبة، واللغو، وأنواع اللغط. انتهى كلام أبي عمر -رحمه اللَّه تعالى- بتصرّف

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجّح عندي أن الأحاديث الواردة في العزلة محمولة على أيام الفتن، وأما في سائر الأزمان فالأفضل للمسلم أن يخالط جماعة المسلمين، ويكون معهم، بل ربّما يجب عليه ذلك، وذلك فيما إذا كان قادرًا على إزالة المنكر، ونحو ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أُنيب".

‌75 - (ثَوَابُ مَنْ يُعْطِي)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على فضل من يعطي السائل باللَّه تعالى.

2570 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رِبْعِيًّا، يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ظَبْيَانَ، رَفَعَهُ إِلَى أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ عز وجل، وَثَلَاثَةٌ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ عز وجل، أَمَّا الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ عز وجل، فَرَجُلٌ أَتَى قَوْمًا، فَسَأَلَهُمْ بِاللَّهِ عز وجل، وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ بِقَرَابَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَهُ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ، فَأَعْطَاهُ سِرًّا، لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلاَّ اللَّهُ عز وجل، وَالَّذِي أَعْطَاهُ، وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلَتَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ، أَحَبَّ إِلَيْهِمْ، مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ نَزَلُوا، فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَقَامَ يَتَمَلَّقُنِي، وَيَتْلُو آيَاتِي، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ، فَلَقُوا الْعَدُوَّ،

(1)

- "التمهيد" ج 17 ص 439 - 450.

ص: 99

فَهُزِمُوا، فَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ، حَتَّى يُقْتَلَ، أَوْ يَفْتَحَ اللَّهُ لَهُ، وَالثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ عز وجل، الشَّيْخُ الزَّانِي، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ وَالْغَنِىُّ الظَّلُومُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح

(1)

، تقدّم للمصنّف في "كتاب الصلاة""فضل صلاة الليل في السفر" رقم 7/ 1615 - وتقدّم شرحه، والكلام على مسائله هناك.

و"محمد" هو ابن جعفر غندر. و"منصور": هو ابن المعتمر. و"رِبْعيّ" بن حِرَاش التابعيّ الجليل الكوفيّ العابد الثقة. و"زيد بن ظبيان" الكوفيّ، وثّقه ابن حبّان.

ودلالة الحديث على الترجمة واضحة، حيث إنه يدلّ على ثواب من أعطى السائل باللَّه تعالى، ولا سيّما في حالة منع الناس له، فإنه يدلّ على تعظيم اسم اللَّه تعالى، فأثابه اللَّه تعالى بمحبّته له.

وقوله: "فرجل" أي فأحدهم معطي رجل. وقوله: "فتخلفه" أي مشى خلفه.

وقوله: "وقوم" أي "والثاني" قارئ قوم. وقوله: "مما يُعْدل به" أي يساويه. وقوله: "يتملّقني" أي يتضرّع لديّ بأحسن ما يكون.

وأما الثلاثة الذين يُبغضهم اللَّه تعالى، فسيأتي شرحهم بعد باب، إن شاء اللَّه تعالى.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أُنيب".

‌76 - (تَفْسِيرُ الْمِسْكِينِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، بهذا بيان معنى المسكين الذي ذكره اللَّه تعالى في آية الصدقات، حيث قال:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية بما أورده من الأحاديث، وسيأتي اختلاف أهل العلم في الفرق بينه، وبين الفقير في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2571 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَطَاءِ

(1)

- تقدّم في الباب المذكور أن سنده ضعيف من أجل زيد بن ظبيان، فإنه مجهول الحال، لم يرو عنه غير ربعيّ بن حراش، لكن قدمت هناك شاهدًا من رواية أحمد بسند صحيح نحوه، فراجعه تستفد. وباللَّه تعالى التوفيق.

ص: 100

بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّ الْمِسْكِينَ الْمُتَعَفِّفُ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عليّ بن حُجْرة) السعديّ المروزيّ ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 13.

2 -

(إسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ المدنيّ، ثقة ثبت [8] 16/ 17.

3 -

(شريك) بن عبد اللَّه بن أبي نَمِر، أبو عبد اللَّه المدنيّ، صدوق يُخطىء [5] 1/ 1504.

4 -

(عطاء بن يسار) أبو محمد المدنيّ الفاضل العابد الواعظ، ثقة، من صغار [3] 64/ 80.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فمروزيّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رأس المكثرين من الرواية" روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ) أي الكامل في المسكنة. قال القرطبيّ: مِفْعيل من السكون. فكأن مَنْ عَدِمَ المالَ سكنت حركاته، ووجوه مكاسبه ولذلك قال تعالى:{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] أي لا صقًا بالتراب. وعند الأصمعيّ: أنه أسوأ حالًا من الفقير. وعند غيره عكس ذلك. وقيل: هما اسمان لمسمّى واحد انتهى

(1)

. وسنكمّل الكلام في ضبط المسكين، واشتقاقه، وفي الفرق بينه وبين الفقير في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.

(الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ) بالتاء المثناة الفوقية، وهو في "الصحيحين" وغيرهما، ووقع في "الكبرى" بالثاء المثلّثة. واللَّه تعالى أعلم (وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ) قال في "اللسان": اللَّقْمَة -بالفتح- واللُّقْمة- بالضمّ-: ما تهُيّئه للَّقْم. قال: وفي "التهذيب": اللُّقْمة -بالضمّ- اسم لما يهُيّئه الإنسان للالتقام، واللَّقْمة -بالفتح- أكلها بمرّة، تقول:

(1)

- راجع "المفهم" ج 3 ص 84.

ص: 101

أكلتُ لُقْمةً بلَقْمَتين. انتهى.

وفي الرواية التالية: "ليس المسكين بهذا الطّوّاف الذي يطوف على الناس، ترُدُّهُ اللقمة، واللقمتان، والتمرة، والتمرتان"، قالوا: فما المسكين؟، قال: "الذي لا يَجد غنًى يُغنيه

". وفي رواية البخاريّ: "ليس المسكين الذي تردّه الأكلة، والأكلتان، ولكنّ المسكين الذي ليس له غنى، ويستحيي"، أو "لا يسأل الناس إلحافًا".

وقوله: "الأكلة، والأكلتان". قال أهل اللغة: الأُكلة -بالضمّ-: اللقمة، و -بالفتح-: المرّة من الغداء، والعشاء. والموافق هنا المضموم، بدليل رواية المصنّف "اللقمة، واللقمتان".

(إِنَّ الْمِسْكِينَ) أي الكامل في المسكنة (الْمُتَعَفِّفُ) أي الممتنع عن المسألة، بمعنى أنه لا يسأل الناس مع احتياجه تعفّفًا، ولذا أتبعه بقوله (اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ) أي إن شئتم أن تعلموا الدليل على هذا فاقرءوا قوله تعالى ({لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]) قال السمين الحلبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: الإلحاف، والإلحاح، واللَّجَاج، والإحفاء، كلّه بمعنًى، يقال: ألحف، وألحّ في المسألة: إذا لجّ فيها. قال: واشتقاقه من اللِّحَاف؛ لأنه يشتمل الناس بمسألته، ويعمّهم، كما يشتمل اللّحاف مَنْ تحتَهُ وُيغطّيه. ومنه قول ابن أحمر يصف ذَكَر نَعَام يَحضُنُ بيضه بجناحيه، ويجعل جناحه لها كاللِّحاف [من الكامل]:

يَظَلُّ يَحُفّهُنَ بِقَفْقَفَيْهِ

(1)

وَيُلْحِفُهُنَّ هَفْهَافًا ثَخِينَا

وقال آخر في المعنى [من الرمل]:

ثُمَّ رَاحُوا عَبَقُ الْمِسْكِ بِهمْ

يُلْحِفُونَ الأَرْضَ هُدَّابَ الأُزُرْ

أي يُلبسونها الأرض كإلباس اللحاف للشيء. وقيل: با اشتقاق اللفظة من لَحْفِ الجبلِ، وهو المكان الخَشِنُ، ومجازه أنّ السائل لكثرة سؤاله كأنه استعمل الخشونة في مسألته. وقيل: بل هي من لَحَفَني فلانٌ: أي أعطاني فضل ما عنده، وهو قريبٌ من معنى الأول. قال: وفي نصب {إِلْحَافًا} ثلاثة أوجه:

(أحدهما): نصبه على المصدر بفعل مقدر، أي يُلحفون إلحافًا، والجملة المقدّرة حالٌ من فاعل {يَسْأَلُونَ} .

(الثاني): أن يكون مفعولًا من أجله: أي لا يسألون لأجل الإلحاف.

(الثالث): أن يكون مصدرًا في موضع الحال، تقديره: لا يسألون ملحفين.

أي إلحاحًا، يقال: ألحف عليّ، وألحّ، وأحفاني بالمسألة بمعنًى واحد. وقال أبو

(1)

- قفقفا الطائر: جناحاه.

ص: 102

عبيدة: انتصب إلحافًا على أنه مصدر في موضع الحال، أي لا يسألون الناس في حال الإلحاف، أو مفعولٌ لأجله، أي لا يسألون لأجل الإلحاف. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهل المراد نفي المسألة، أي لا يسألون أصلًا، أو نفي السؤال بالإلحاف خاصّةً، فلا ينتفي السؤال بغير إلحاف فيه احتمال، والثاني أكثر في الاستعمال. ويحتمل أن يكون المراد لو سألوا لم يسألوا إلحافًا، فلا يستلزم الوقوع. قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال السمين -رحمه اللَّه تعالى-: واعلم أن العرب إذا نفت الحكم عن محكوم عليه فالأكثر في لسانهم نفي ذلك القيد، نحو: ما رأيت رجلًا صالحًا، الأكثر على أنك رأيت رجلًا، ولكن ليس بصالح، وبجوز أنك لم تر رجلًا البتّة، لا صالحًا، ولا طالحًا، فقوله:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} المفهوم أنهم يسألون لكن لا بإلحاف، ويجوز أن يكون المعنى: أنهم لا يسألون، ولا يُلحفون، والمعنيان منقولان في التفسير، والأرجح الأوّل عندهم. ومثله في المعنى: ما تأتينا، فتحدّثنا، يجوز أنه يأتيهم، ولا يحدّثهم. ويجوز أنه لا يأتيهم، ولا يُحدّثهم، انتفى السبب، وهو الإتيان، فانتفى المسبب، وهو التحديث. انتهى كلام السمين باختصار، وتصرّف

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-2571 و 2572 و 2573 - وفي "الكبرى" 78/ 2352 و 2353 و 2354. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1476 و 1469 وفي "التفسير" 4539 (م) في "الزكاة" 1039 (د) في "الزكاة" 1631 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7486 و 8867 و 8895 و 27232 و 27268 (الموطأ) "الجامع" 1713 (الدارمي) في (الزكاة) 1615. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان معنى المسكين الذي ذكره اللَّه عز وجل بقوله:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية.

(1)

- راجع "الدرّ المصون في علوم الكتاب الكنون" ج 1 ص 657 - 657.

(2)

- راجع "الفتح" في "كتاب التفسير" ج 9 ص 63.

(3)

- راجع "الدر المصون في علوم الكتاب المكنون" ج 1 ص 657 - 659.

ص: 103

(ومنها): أن المسكنة إنما تُحمد مع العفّة عن السؤال، والصبر على الحاجة (ومنها): استحباب الحياء في كلّ الأحوال (ومنها): أن فيه دليلًا لمن يقول: إن الفقير أسوأ حالًا من المسكين، وأن المسكين الذي له شيء، لكنه لا يكفيه، بخلاف الفقير فإنه الذي لا شيء له، كما سيأتي توجيهه، إن شاء اللَّه تعالى (ومنها): حسن الإرشاد لوضع الصدقة، وأن يُتحرّى وضعها فيمن صفته التعفّف، دون الإلحاح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): اختلاف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين:

قال العلّامة القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تفسيره": واختلف علماء اللغة، وأهل الفقه في الفرق بين الفقير والمسكين على تسعة أقوال:

(الأول): ما ذهب إليه يعقوب بن السّكّيت، والْقُتَبيّ، ويونس بن حبيب من أنّ الفقير أحسن حالًا من المسكين، قالوا: الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه، وُيقيمه، والمسكين الذي لا شيء له، واحتجّوا بقول الراعي [من البسيط]:

أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ

وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ

(1)

وذهب إلى هذا قومٌ من أهل اللغة، والحديث، منهم أبو حنيفة، والقاضي عبد الوهّاب. والوفق من الموافقة بين الشيئين كالالتحام؛ يقال: حَلُوبته وفقَ عياله، أي لها لَبَنٌ قدرَ كفايتهم، لا فضل فيه. قاله الجوهريّ.

(الثاني): ذهب آخرون إلى أن المسكين أحسن حالًا من الفقير. واحتجّوا بقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} الآية، فأخبر أنّ لهم سفينةً من سُفُن البحر، وربّما ساوت جملةً من المال، وعضدوه بما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه تعوّذ من الفقر. وروي عنه أنه قال:"اللَّهمّ أحييني مسكينًا، وأمتني مسكينًا"

(2)

، فلو كان المسكين أسوأ حالًا من الفقير لتناقض الخبران؛ إذ يستحيل أن يتعوّذ من الفقر، ثمّ يسأل ما هو أسوأ حالًا منه، وقد استجاب اللَّه دعاءه، وقُبِض، وله مالٌ مما أفاء اللَّه عليه، ولكن لم يكن معه تمام الكفاية؛ ولذلك رَهَنَ دِرْعَه، قالوا: وأمّا بيت الراعي، فلا حجّة فيه؛ لأنه إنما ذكر أن الفقير كانت له حَلُوبةٌ في حالٍ. قالوا: والفقير معناه في كلام العرب المفقور الذي نُزِعت فِقَرُهُ

(3)

من ظهره من شدّة الفقر، فلا حال أشدّ من

(1)

- السَّبّدُ بالتحريك: القليل.

(2)

- أخرجه الترمذيّ في "جامعه"، بسند ضعيف.

(3)

- الفقرة -بالكسر- والفَقْرة، والفقارة-بالفتح: ما انتضد من عظام الصلب، من لدن الكاهل إلى العجب.

ص: 104

هذه، وقد أخبر اللَّه بقوله:{لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} ، واستشهدوا بقول الشاعر [من الكامل]:

لَمَّا رَأَى لُبَدُ

(1)

النُّسُورَ تَطَايَرَتْ

رَفَعَ الْقَوَادِمَ كَالْفَقِيرِ الأَعْزَلِ

أي لم يُطق الطيران، فصار بمنزلة من انقطع صلبه، ولَصِق بالأرض. ذهب إلى هذا الأصمعيّ، وغيره، وحكاه الطحاويّ عن الكوفيين، وهو أحد قولي الشافعيّ، وأكثرِ أصحابه.

(الثالث): أنّ الفقير والمسكين سواء، لا فرق بينهما في المعنى، وإن افترقا في الاسم، وإلى هذا ذهب الشافعيّ في أحد قوليه، وابن القاسم، وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف.

قال القرطبيّ: ظاهر اللفظ يدلّ على أن المسكين غير الفقير، وأنهما صنفان، إلا أنّ أحد الصنفين، أشدّ حاجة من الآخر، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما صنفًا واحدًا. ولا حجّة في قول من احتجّ بقوله:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} ؛ لأنه يحتمل أن تكون مستأجرة لهم؛ كما يقال: هذه دار فلان إذا كان ساكنها، وإن كانت لغيره، وقد قال اللَّه تعالى في وصف أهل النار:{وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} ، فأضافها إليهم، وقال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"من باع عبدًا، وله مالٌ"، وهو كثير جدًّا يُضاف الشيء إليه، وليس له، ومنه قولهم: باب الدار، وجُلُّ الدابّة، وسَرْجُ الفرس، وشبهه، ويجوز أن يُسمَّوا مساكين على جهة الرحمة والاستعطاف؛ كما يقال لمن امتُحِنَ بنكبة، أو دُفع إلى بليّة مسكين، وفي الحديث:"مساكين أهل النار"، وقال الشاعر [من الطويل]:

مَسَاكِينُ أَهْلِ الْحُبِّ حَتَّى قُبُورُهُمْ

عَلَيْهَا تُرَابُ الذُّلِّ بَيْنَ الْمَقَابِرِ

وأما ما تأوّلوه من قوله عليه السلام: "اللَّهم أحييني مسكينًا" الحديث. رواه أنس، فديس كذلك؛ وإنما المعنى ههنا التواضع للَّه الذي لا جبروت فيه، ولا نخوّة، ولا كِبْر، ولا بَطَرَ، ولا تكبّر، ولا أَشَرَ، ولقد أحسن أبو العَتَاهية، حيث قال [من البسيط]:

إِذَا أَرَدتَّ شَرِيفَ الْقَوْمِ كُلِّهِمِ

فَانْظُرْ إِلَى مَلِكِ فِي زِيِّ مِسْكِنِ

ذَاكَ الَّذِي عَظُمَتْ فِي اللَّه رَغْبَتَهُ

وَذَاكَ يَصْلُحُ لِلدُّنْيَا وَلِلدِّينِ

وليس بالسائل؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد كره السؤال، ونهى عنه، وقال في امرأة سوداء أبت

(1)

- لُبَد اسم آخر نُسُورِ لقمان بن عاد، سماه بذلك لأنه لبد، فبقي لا يذهب، ولا يموت، والقوادم أربع ريشات في مقدّم الجناح، الواحدة قادة. من هامش القرطبيّ ج 8 ص 189.

ص: 105

أن تزول له عن الطريق: "دعوها، فإنها جبّارة"

(1)

. وأما قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} ، فلا يمتنع أن يكون لهم شيء. واللَّه أعلم.

وما ذهب إليه أصحاب مالك، والشافعيّ في أنهما سواء حسن.

(الرابع): ما ذكره ابن سُحنون عن مالك، أنه قال: الفقير المحتاج المتعفّف، والمسكين السائل، وروي عن ابن عباس، وقاله الزهريّ، واختاره ابن شعبان.

(الخامس): ما قاله محمد بن مسلمة: الفقير الذي له المسكن، والخادم، والمسكين الذي لا مال له.

قال القرطبيّ: وهذا القول عكس ما ثبت في "صحيح مسلم" عن عبد اللَّه بن عمرو، وسأله رجلٌ، فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد اللَّه: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكُنُه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإنّ لي خادمًا، قال: فأنت من الملوك.

(السادس): ما روي عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: الفقير من المهاجرين، والمساكين من الأعراب الذين لم يهاجروا. وقاله الضحّاك.

(السابع): أن المسكين الذي يخشع، ويستكنّ، وان لم يسأل، والفقير: الذي يتحمّل، ويقبل الشيء سرًّا، ولا يخشع. قاله عبيد اللَّه بن الحسن.

(الثامن): المساكين الطّوّافون، والفقراء فقراء المسلمين. قاله مجاهد، وعكرمة، والزهريّ.

(التاسع): الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب. قاله عكرمة.

انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- بتصرّف

(2)

.

وقال ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى- في "النهاية": وقد تكرّر ذكر المسكين، والمساكين، والمسكنة، والتمسكن. قال: وكلّها يدور معناه على الخضوع والذلّة، وقلّة المال، والحال السيّئة. واستكان: إذا خَضَعَ، والمسكنة: فقر النفس، وتمسكن: إذا تشبّه بالمساكين، وهم جمع المسكين، وهو الذي لا شيء له. وقيل: هو الذي له بعض الشيء. وقد تقع المسكنة على الضعف. انتهى

(3)

.

وقال العلاّمة اللغويّ ابن منظور -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "لسان العرب":

(1)

- لم أر من أخرجه.

(2)

- "جامع الأحكام" ج 8 ص 168 - 171.

(3)

- راجع "النهاية في غريب الحديث والأثر" و1 ج 2 ص 385.

ص: 106

والْمِسْكين أي بالكسر، والْمَسْكين أي بالفتح -الأخيرة نادرة؛ - لأنه ليس في الكلام مَفْعِيلٌ-: الذي لا شيء له. وقيل: الذي لا شيء له يكفي عياله. قال أبو إسحاق: المسكين الذي أسكنه الفقر، أي قلّل حركته، وهذا بعيد؛ لأن مسكينًا في معنى فاعل. وقوله: الذي أسكنه الفقر يُخرجه إلى معنى مفعول. وهو مِفْعيل من السكون، مثلُ الْمِنْطيق من النُّطْق. قال ابن الأنباريّ: قال يونس الفقير أحسن حالًا من المسكين، والفقير الذي له بعض ما يُقيمه. والمسكين أسوأ حالًا من الفقير، وهو قول ابن السكيت؛ قال يونس: وقلت لأعرابيّ أفقير أنت أم مسكين؟ فقال: لا واللَّه، بل مسكين، فأعلم أنه أسوأ حالا من الفقير؛ واحتجّوا على أن المسكين أسوأ حالًا من الفقير بقول الراعي [من البسيط]:

أما الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ

وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ

فأثبت أن للفقير حَلوبةً، وجعلها وَفْقًا لعياله؛ قال: وقول مالك في هذا كقول يونس. وروي عن الأصمعيّ أنه قال: المسكين أحسن حالًا من الفقير، وإليه ذهب أحمد بن عُبيد، قال: وهو القول الصحيح عندنا؛ لأن اللَّه تعالى قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} فأخبر أنهم مساكين، وأن لهم سفينة، تساوي جملة، وقال:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ، فهذه الحال التي أخبر بها عن الفقراء، هي دون الحال التي أخبر بها عن المساكين. قال ابن برّيّ: وإلى هذا القول ذهب عليّ بن حمزة الأصفهانيّ اللغويّ، ويرى أنه الصواب، وما سواه خطأٌ، واستدلّ على ذلك بقوله:{مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} ، فأكّد عز وجل سُوء حاله بصفة الفقر؛ لأن الْمَتْرَبة الفقر، ولا يؤكّد الشيء إلا بما هو أوكد منه، واستدلّ على ذلك بقوله عز وجل:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} ، فأثبت أنّ لهم سفينة يعملون عليها في البحر، واستدلّ أيضًا بقول الراجز:

هَلْ لَكَ فِي أَجْرٍ عَظِيمٍ تُؤْجَرُهُ

تُغِيثُ مِسْكِينًا قَلِيلًا عَسْكَرُهْ

عَشْرُ شِيَاهٍ سَمْعُهُ وَبَصَرُهْ

قَدْ حَدَّثَ النَّفسَ بِمِصْرٍ يَحْضُرُهْ

فأثبت أنّ له عشر شياه، وأراد بقوله: عسكره غنمه، وأنها قليلة، واستدلّ أيضًا ببيت الراعي، وزعم أنه أعدل شاهد على صحّة ذلك، وهو قوله:

أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ

لأنه قال: أما الفقير الذي كانت حَلُوبته، ولم يقل: الذي حلوبته، وقال: فلم يُترك له سَبَدٌ، فأعلمك أنه كانت له حلوبة تقوت عياله، ومن كانت هذه حاله، فليس بفقير،

ص: 107

ولكن مسكين، ثم أعلمك أنها أُخذت منه، فصار إذ ذاك فقيرًا، يعني ابنُ حمزة بهذا القول أنّ الشاعر لم يُثبت أن للفقير حَلوبة؛ لأنه قال: الذي كانت حلوبته، ولم يقل: الذي حلوبته، وهذا كما تقول: أما الفقير الذي كان له مالٌ، وثَرْوَةٌ، فإنه لم يُترك له سَبَد، فلم يُثبت بهذا أن للفقير مالًا وثروة، وإنما أثبت سُوء حاله الذي به صار فقيرًا، بعد أن كان ذا مال وثروة، وكذلك يكون المعنى في قوله:

أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوَبتُهُ

أنه أثبت فقره لعدم حلوبته بعد أن كان مسكينًا قبل حلوبته، ولم يُرد أنه فقير مع وجودها، فإنّ ذلك لا يصحّ كما لا يصحّ أن يكون للفقير مالٌ وثروة في قولك: أما الفقير الذي كان له مالٌ وثروة؛ لأنه لا يكون فقيرًا مع ثروته وماله.

قال: فثبت بهذا أن المسكين أصلح حالًا من الفقير. قال عليّ بن حمزة: ولذلك بدأ اللَّه تعالى بالفقير قبل من يستحقّ الصدقة من المسكين وغيره، وأنت إذا تأمّلت قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية، وجدته سبحانه قد رتّبهم، فجعل الثاني أصلح حالًا من الأول، والثالثَ أصلح حالًا من الثاني، وكذلك الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، والثامن. قال: ومما يدلّك على أن المسكين أصلح حالًا من الفقير أن العرب قد تسمّت به، ولم تتسمّ بفقير لتناهي الفقر في سوء الحال.

ألا ترى أنهم قالوا: تمسكن الرجل، فبنوا منه فعلًا على معنى التشبيه بالمسكين في زيّه، ولم يفعلوا ذلك في الفقير؛ إذ كانت حاله لا يَتزيّا بها أحد. قال: ولهذا رَغِبَ الأعرابي الذي سأله يونس عن اسم الفقير لتناهيه في سوء الحال، فآثر التسمية بالمسكنة، أو أراد أنه ذليلٌ لبعده عن قومه ووطنه. قال: ولا أظنّه أراد إلا ذلك، ووافق قولُ الأصمعيّ، وابنِ حمزة في هذا قولَ الشافعيّ. وقال قتادة: الفقير الذي به زمانة، والمسكين الصحيح المحتاج. وقال زيادة اللَّه بن أحمد: الفقير القاعد في بيته، لا يسأل، والمسكين الذي يسأل. انتهى كلام ابن منظور باختصار

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تحرّر مما تقدّم أن قول الجمهور، ومنهم الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إن الفقير أسوأ حالًا من المسكين هو الأرجح؛ لآية: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} الآية، ولحديث الباب، حيث وصفه بقوله:"الذي لا يجد غنى يُغنيه"، فإنه دالّ على أن له شيئًا من المال، لكنه لا يكفيه، ولآية الصدقة، حيث رتّبت المستحقّين لها بالترقّي من الأدنى إلى الأعلى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه

(1)

- راجع "لسان العرب" ج 13 ص 214 - 216. طبعة دار صادر - بيروت.

ص: 108

المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2572 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ، الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ، تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ» ، قَالُوا فَمَا الْمِسْكِينُ؟ ، قَالَ: «الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ، فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلَ النَّاسَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة و"أبو الزناد": هو عبد اللَّه بن ذكوان المدنيّ الحافظ الثقة. و"الأعرج": عبد الرحمن بن هُرْمز المدنيّ الحافظ الفقيه الثبت.

وقوله: "ليس المسكين الخ". قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: معناه: المسكين الكامل الْمَسْكَنة الذي هو أحقّ بالصدقة، وأحوج إليها ليس هو هذا الطوّاف، وليس معناه نفي أصل المسكنة عنه، بل معناه نفي كمال المسكنة انتهى.

وقوله: "بهذا الطواف" الباء زائدة في خبر "ليس"، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَبَعْدَ "مَا" وَ"لَيْسَ" جَرَّ الْبَا الْخَبَرْ

وَبَعْدَ "لَا" وَنَفْيِ "كَانَ" قَدْ يُجَرُّ

وقوله: "تردّه اللقمة" أي يُردّ على الأبواب لأجل اللقمة، أو أنه إذا أَخَذ لقمة رجع إلى باب آخر، فكأن اللقمة ردّته من باب إلى باب، والمراد ليس المسكين المعدود في مصارف الزكاة هذا المسكين، بل هذا داخل في الفقير، وإنما المسكين المستور الحال الذي لا يعرفه أحدٌ إلا بالتفتيش، وبه يتبيّن الفقير والمسكين في المصارف. وقيل: المراد ليس المسكين الكامل الذي هو أحقّ بالصدقة، وأحوج إليها المردود على الأبواب لأجل اللقمة، ولكن الكامل الذي لا يجد الخ. قاله السنديّ.

وقوله: "فما المسكين؟ "، قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: هكذا الرواية، وهو صحيحٌ؛ لأن "ما" تأتي كثيرًا لصفات من يَعقل، كقوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية. انتهى. يعني وهذا الحديث منه.

وقوله: "ولا يُفطَن له" بالبناء للمفعول مخفّفًا. وقوله: "فيُتصدّق" بالبناء للمفعول، والنصب بـ "أن" مضمرة بعد الفاء السبيية، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْي أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

وقوله: "فيسأل الناس" بالبناء للفاعل، ونصبه بـ "أن" كسابقه. وتمام شرح الحديث، والكلام على مسائله قد مضى في الحديث الذي قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2573 -

(أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ

ص: 109

الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ الأُكْلَةُ وَالأُكْلَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ» ، قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى، وَلَا يَعْلَمُ النَّاسُ حَاجَتَهُ، فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، "نصر بن عليّ": هو الجهضميّ البصريّ الثقة الثبت، أحد مشايخ الأئمة الستة دون واسطة. و"عبد الأعلى" وهو ابن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ الثقة.

وقوله: "الأكلة" -بالضمّ: اللُّقمة، وقد تقدّم ضبطها بالضمّ، والفتح، وبيان المعنى فيهما في شرح حديث أول الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2574 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُجَيْدٍ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ بُجَيْدٍ، وَكَانَتْ مِمَّنْ بَايَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهَا قَالَتْ: لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْمِسْكِينَ، لَيَقُومُ عَلَى بَابِي، فَمَا أَجِدُ لَهُ شَيْئًا، أُعْطِيهِ إِيَّاهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنْ لَمْ تَجِدِى شَيْئًا، تُعْطِينَهُ إِيَّاهُ، إِلاَّ ظِلْفًا مُحْرَقًا، فَادْفَعِيهِ إِلَيْهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "سعيد بن أبي سعيد": هو المقبريّ. و"عبد الرحمن ابن بُجَيد" بن وهب الأنصاريّ الحارثيّ، له رؤية.

والحديث صحيح، تقدّم شرحه، والكلام على مسائله في "باب ردّ السائل" -70/ 2565 - فراجعه هناك تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: "إن لم تجدي الخ" يعني أنه لا ينبغي أن يرجع من عندك محروما، بل أعطيه ولو شيئًا يسيرًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌77 - (الْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ)

أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالّين على ذمّ الفقير المختال، وهو المتكبّر، وقيل: هو الصَّلِفُ المتباهي الْجَهُول الذي يَأْنَف من ذوي قرابته إذا كانوا فقراء، ومن جيرانه إذا كانوا كذلك، ولا يُحسن عِشْرَتهم، ويقال: هو ذو خَيْلَة أيضًا؛ قال الراجز:

يَمْشِي مِنَ الْخَيْلَةِ يَوْمَ الْوِرْدِ

بَغيًا كَمَا يَمْشِي وَليُّ الْعَهْدِ.

والخالُ، والْخَيل -بفتح، فسكون- والْخُيَلاءُ -بالضمّ- والْخِيَلاء -بالكسر-

ص: 110

والأَخيَلُ، والْخَيْلَة -بفتح، فسكون- والْمَخِلية: كلّه الكبر، والعجب. أفاده في "اللسان". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2575 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ عز وجل، يَوْمَ الْقِيَامَةِ الشَّيْخُ الزَّانِي، وَالْعَائِلُ الْمَزْهُوُّ، وَالإِمَامُ الْكَذَّابُ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن المثنى) أبو موسى العَنَزي البصري، ثقة ثبت [10] 64/ 80.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(ابن عجلان) هو: محمد ابن عجلان المدني، صدوق، [5] 36/ 40.

4 -

(أبوه) هو: عجلان مولى فاطمة بنت عتبة المدني، لا بأس به [4] 53/ 2534.

5 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأنه مسلسل بالمدنيين من ابن عجلان، وشيخه ويحيى بصريان، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعي، وفيه أبو هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، وأن شيخه أحد التسعة الذين يروي عنهم الأئمة الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاَثةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ عز وجل، يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي لا يكلّمهم أصلًا، أو لا يكلّمهم كلامًا يسُرُّهم؛ لأنه ثبت أنه يكلّم أهل النار، كما قال تعالى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، وهؤلاء لا يكنون أسوأ من الكفّار (الشَّيخُ الزَّانِي) أي الرجل الكبير السنّ الذي بلغ إلى حالة لا يحتاج فيها كثيرًا إلى النساء (وَالْعَائِلُ) أي الفقير، والْمُعِيل: الكثير العيال. يقال: عال الرجلُ يَعِيل، من باب باع، فهو عائلٌ: إذا افتقر. والْعَيْلَة: الفقر، وأعال فهو مُعِيلٌ: إذا كثر عياله. وجمع العائل: عالةٌ، وهو في تقدير فُعَلَة، مثلُ كافر وكَفَرَة. أفاده في "المصباح" (الْمَزْهُوُّ) ولفظ مسلم: "وعائلٌ مستكبر". و"المزهُو" بصيغة اسم المفعول: أي المتكبّر، من زُهِي الرجل بالبناء للمفعول على الأكثر، أو من زَهَا بالبناء للفاعل، على قلّة.

ص: 111

[فائدة]: قال ابن منظور -رحمه اللَّه تعالى-: الزَّهْو -بفتح، فسكون-: الكبر، والتِّيه، والْفَخْرُ، والعَظَمَة. قال أبو الْمُثَلَّم الْهُذَليّ [من المتقارب]:

مَتَى مَا أَشَأْ غَيْرَ زَهْوِ الْمُلُو

كِ أَجْعَلْكَ رَهْطًا عَلَى حُيَّضِ

ورجلٌ مَزْهُوّ بنفسِه: أي مُعْجبٌ، وبفلان زَهْوٌ: أي كبرٌ، ولا يقال: زَهَا، وزُهِي فلانٌ، فهو مزهوّ: إذا أُعجب بنفسه، وتكبّر. قال ابن سِيدَهْ: وقد زُهِي على لفظ ما لم يُسَمَّ فاعله، جزم به أبو زيد، وأحمد بن يحيى، وحكى ابن السِّكِّيت: زُهيتُ، وزَهَوْتُ. وللعرب أحرف لا يتكلّمون بها إلا على سبيل المفعول به، وإن كان بمعنى الفاعل، مثلُ زُهِيَ الرجلُ، وعُنِي بالأمر، ونُتِجَت الشاة، والناقة، وأشبَاهها، فإذا أمرت به قلت: لِتُزْهَ يا رجلٌ، وكذلك الأمر من كلّ فعل لم يُسمّ فاعله؛ لأنك إذا أمرت منه، فإنما تأمر في التحصيل غير الذي تخُاطبه أن يوقع به، وأمر الغائب لا يكون إلا باللام، كقولك: لِيَقُمْ زيدٌ. وفيه لغة أخرى، حكاها ابن دُريد زَهَا يزهو زَهْوًا: أي تكبّر انتهى كلام ابن منظور باختصار. واللَّه تعالى أعلم.

(وَالإمَامُ الْكَذَّابُ) وفي الرواية التالية: "والإمام الجائر". وفي رواية مسلم: "وملكٌ كذّاب".

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المفهم": وإنما غُلّظ العقاب على هؤلاء الثلاثة؛ لأن الحامل لهم على تلك المعاصي محض المعاندة، واستخفاف أمر تلك المعاصي التي اقتحموها؛ إذ لم يحملهم على ذلك حاملٌ حاجيّ، ولا دعتهم إليها ضرورة، كما يدعو من لم يكن مثلهم.

وبيان ذلك أن الشيخ لا حاجة، ولا داعية له تدعوه إلى الزنى؛ لضعف داعية النكاح في حقّه، ولكمال عقله، ولقرب أجله، إذ قد انتهى طرف عمره، ونحو ذلك الملك الكذّاب؛ إذ لا حاجة له إلى الكذب، فإنه يمكنه أن يُمَشِّي أغراضه بالصدق؛ فإن خاف من الصدق مفسدةً ورَّى. وأما العائل المستكبر، فاستحق ذلك لغلبة الكبر على نفسه؛ إذ لا سبب له من خارج يحمله على الكبر، فإن الكبر غالبًا إنما يكون بالمال، والْخَدَم، والجاه، وهو قد عَدِمَ ذلك كلّه، فلا موجب له إلا غلبة الكبر على نفسه، وقلّة مبالاته بتحريمه، وتوعُّد الشرع عليه، مع أنّ اللائق به، والمناسب لحاله الرّقّة، والتواضع؛ لفقره وعجزه. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. وهو كلام نفيس جدًّا.

وقال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: وأما سبب تخصيصه صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثة بالوعيد

(1)

- راجع "المفهم" ج 1 ص 305.

ص: 112

المذكور أنّ كلّ واحد منهم التزم المعصية المذكورة مع بُعْدها منه، وعدم ضرورته إليها، وضعف دواعيها عنده، وإن كان لا يُعذَر أحد بذنب، لكن لما لم يكن إلى هذه المعاصي ضرورة مُزعجة، ولا دواعي متعادة

(1)

أشبه إقدامهم عليها المعاندة، والاستخفاف بحقّ اللَّه تعالى، وقصد معصيته، لا لحاجة غيرها:

فإن الشيخ لكمال عقله، وتمام معرفته بطول ما مرّ عليه من الزمان، وضعف أسباب الجماع، والشهوة للنساء، واختلال دواعيه لذلك عنده ما يريحه من دواعي الحلال الذي هذا، ويخلي سرّه منه، فكيف بالزنا الحرام، وإنما دواعي ذلك الشباب، والحرارة الغريزية، وقلّة المعرفة، وغلبة الشهوة؛ لضعف العقل، وصغر السنّ.

وكذلك الإمام لا يَخشى من أحد من رعيّته، ولا يَحتاج إلى مداهنته، ومصانعته، فإن الإنسان إنما يُداهن، ويصانع بالكذب وشبهه من يَحذَره، ويخشى أذاه، ومعاتبته، أو يطلب عنده بذلك منزلة، أو منفعة، وهو غنيّ عن الكذب مطلقًا.

وكذلك العائل المستكبر قد عَدِمَ المال، وإنما سبب الفخر، والخيلاء، والتكبّر، والارتفاع على القرناء الثَّرْوَةُ في الدنيا؛ لكونه ظاهرًا فيها، وحاجات أهلها إليه، فإذا لم يكن عنده أسبابها، فلماذا يستكبر، ويحتقر غيره؟، فلم يبق فعله، وفعل الشيخ الزاني، والإمام الكاذب إلا لضرب من الاستخفاف بحق اللَّه تعالى

(2)

. ذكره النوويّ في "شرحه" وهو بمعنى كلام القرطبي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-77/ 2575 - وفي "الكبرى" 79/ 2356. وأخرجه (م) في "الإيمان" 107 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7393 و 9311 و 9866 و 9867. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ذمّ الفقير المتكبّر (ومنها):

(1)

- هكذا نسخة شرح النوويّ، ولعل الصواب "متعدّدة".

(2)

- "شرح مسلم للنوويّ" ج 2 ص 298 - 300.

ص: 113

ذمّ الزاني الكبير السنّ (ومنها): ذمّ الملك الكذاب (ومنها): أن مرتكبي المعاصي تتفاوت مراتبهم بحسب الدواعي الحاملة لهم على ارتكابها، فمن كان له داع يحمله، ويقهره على ارتكابها، كان أخف جُرْمًا ممن لا داعي له إلى ذلك، وهذا فضل عظيم من ربّ رحيم، حيث خفّف العقاب عن المغلوب المقهور، وأما من ليس كذلك، فإنه يعظم عقابه، حيث كان حامله على الارتكاب مجرّد الاستخاف بأمر اللَّه تعالى، وقلّة خوفه منه. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} . واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2576 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَارِمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «أَرْبَعَةٌ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ عز وجل: الْبَيَّاعُ الْحَلاَّفُ، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ، وَالشَّيْخُ الزَّانِي، وَالإِمَامُ الْجَائِرُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه "أبي داود" وهو سليمان بن سَيْف الحرّاني الثقة الحافظ [11] 103/ 136 فإنه من أفراده.

و"عارم": هو محمد بن الفضل، أبو النعمان السَّدُوسي البصريّ الحجة الثبت [9] 46/ 1728.

"وحمّاد": هو ابن زيد الإمام الحجة الثبت [8] 3/ 3. و"عبيد اللَّه بن عمر": هو العمريّ المدنيّ الفقيه الثبت الحجّة [5] 15/ 15.

وشرح الحديث يعلم مما قبله. وقوله: "البيّاع الحلاّف" فعّال للمبالغة، أي الرجل الكثير البيع الكثير الحلف؛ لينفّق سلعته بأيمانه الكاذبة.

وقوله: "والإمام الجائر": يحتمل أن يكون بمعنى: "الإمام الكذّاب"، في الحديث الماضي، وهو الملك الكذّاب. ويحتمل أن يكون أعمّ؛ لأن الجور هو الظلم، والميل عن الطريق، يقال: جار يجور جَوْرًا، من باب قال: إذا ظلم، أو مال عن الطريق. فيكون المعنى: الإمام الذي يميل عن الطريق المستقيم، فيظلم الناس، ويظلم نفسه، والاحتمال الأول أقوى. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا 77/ 2576 - وفي "الكبرى" - 2357 وفي "الرجم" 1/ 7139. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

ص: 114

‌78 - (فَضْلُ السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على فضل الساعي في مصلحة المرأة الفقيرة التي مات زوجها. ولفظ "الكبرى": "فضل الساعي على الأرملة والمسكين"، وهو الموافق للفظ الحديث.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مناسبة إيراد هذا الباب هنا كون الأرملة من جملة مصارف الزكاة، فأراد أن يبيّن أنها وإن كانت من جملة المصارف، إلا أن لها فضلًا، حيث إن من سعى في إيصال الخير إليها كان كالمجاهد في سبيل اللَّه تعالى، فيكون فضل دفع الزكاة إليها أكثر من الدفع إلى غيرها من أمثالها من الفقراء.

و"الأرملة": هي التي لا زوج لها؛ لافتقارها إلى من يُنفق عليها. قال الأزهريّ: لا يقال لها: أرملةٌ إلا إذا كانت فقيرةً، فإن كانت موسرةً، فليست بأرملةٍ، والجمع أرامل، حتى قيل: رجلٌ أرملٌ إذا لم يكن له زوجٌ. قال ابن الأنباريّ: وهو قليلٌ؛ لأنه لا يَذهَبُ زاده بفقد امرأته؛ لأنها لم تكن قيّمةً عليه. قال ابن السكّيت: والأرامل: المساكينُ رجالًا كانوا أو نساء. ذكره الفيّوميّ.

وقال ابن منظور -رحمه اللَّه تعالى-: وأَرْمَلَتِ المرأةُ: إذا مات عنها زوجها. وأرملت: صارت أرملةً. وقال ابن الأنباريّ: سمّيت أرملة لذهاب زادها، وفقدها كاسبها، ومن كان عيشُها صالحًا به، من قول العرب: أرمل القومُ، والرجل: إذ ذهب زادهم، قال: ولا يقال له إذا ماتت امرأته: أرمل إلا في شذوذ؛ لأن الرجل لا يذهب زاده بموت امرأته، إذ لم تكن قيّمة عليه، والرجل قيّم عليها، وتلزمه عَيْلُولتها، ومؤنتها، ولا يلزمها شيء من ذلك. قال: ورُدّ على القتيبيّ قولُهُ فيمن أوصى بماله للأرامل أنه يعطى منه الرجال الذين ماتت أزواجهم؛ لأنه يقال: رجلٌ أرملٌ، وامرأة أرملة. قال: وهذا مثل الوصيّة للجواري، لا يُعطى منه الغلمان، ووصية الغلمان لا يُعطى منه الجواري، وإن كان يقال للجارية: غُلَامة انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2577 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ

(2)

عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ

(1)

- "لسان العرب" في مادة رمل.

(2)

- وفي رواية محمد بن الحسن في "الموطّإ" عن مالك: أخبرني ثور. قاله في "الفتح" ج 10 ص 626.

ص: 115

- صلى الله عليه وسلم: «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ، وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن منصور)، أبو سعيد النسائيّ الثقة الثبت [11] 108/ 147 من أفراد المصنّف.

2 -

(عبد اللَّه بن مسلمة) القعنبي البصري، ثقة ثبت عابد، من صغار [9] 78/ 2577.

3 -

(مالك) بن أنس، إمام دار الهجرة الفقيه الحجة [7] 7/ 7.

4 -

(ثور بن زيد الدِّيلي) بكسر المهملة المدني، [6] 11/ 1210.

5 -

(أبو الغيث) سالم مولى ابن مُطيع المدنيّ، ثقة [3].

6 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه -1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

روى عن أبي هريرة. وعنه ثور بن زيد الدِّيليّ، وسعيد المقبريّ، وإسحاق بن سالم، وصفوان بن سليم، وغيرهم. قال أحمد: لا أعلم أحدًا روى عنه إلا ثورٌ، وأحاديثه متقاربة. وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ثقة، يُكتب حديثه. وقال ابن سعد: كان ثقةً حسن الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكر ابن شاهين أنّ كلام أحمد ابن حنبل اختلف فيه. روى الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم 2577 و 3671 و 3827.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من مالك. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ، وَالْمِسْكِينِ") أي الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة والمسكين. وفي لفظ شكّ فيه القعنبيّ: "كالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يُفطر"(كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّه عز وجل) زاد في رواية البخاريّ: "أو القائم الليل، الصائم النهار". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

ص: 116

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه- هنا 78/ 2577 - وفي "الكبرى"2358. وأخرجه (خ) في "النفقات" 5253 وفي "الأدب" 6006 و 6007 (م) في "الزهد والرقائق" 2988 (ت) في "البرّ والصلة" 1969 (ق) في "التجارات" 2140 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 8515. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل السعي في تحصيل النفع للأرملة، أي المرأة التي مات زوجها، ولا مال لها (ومنها): أن بعض الأعمال يساوي الجهاد، وقيام الليل، وصيام النهار (ومنها): أن معرفة مقدار ثواب الأعمال مفوّض إلى اللَّه سبحانه وتعالى، فربّ عمل سهل يساوي فضل عمل شاقّ، وبالعكس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌79 - (الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "المؤلّفة" بصيغة اسم المفعول، وقلوبهم بالرفع على أنه نائب الفاعل: أي المستمالَةُ قلوبهم بالإحسان، والمودّة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعطيهم من الصدقات، وكانوا من أشراف العرب، فمنهم من كان يُعطيه دفعًا لأذاه، ومنهم من كان يعطيه طَمَعًا في إسلامه، وإسلام أتباعه، ومنهم من كان يُعطيه ليَثْبُت على إسلامه؛ لقرب عهده بالجاهلية. قاله الفيّوميّ.

وقال العلاّمة القرطبيّ في "تفسيره": هم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يُظهر الإسلام، يُتَألّفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم. قال الزهريّ: المؤلّفة مَن أسلم من يهوديّ، أو نصرانيّ، وإن كان غنيًّا.

وقال بعض المتأخّرين: اختُلِف في صفتهم؛ فقيل: هم صنف من الكفّار يُعطَون ليتألّفوا على الإسلام، وكانوا لا يُسلمون بالقهر والسيف، ولكن يسلمون بالعطاء والإحسان. وقيل: هم قوم أسلموا في الظاهر، ولم تستيقن قلوبهم، فيُعْطَون ليتمكّن الإسلام في صدورهم. وقيل: هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع يُعطَون ليتألفوا

ص: 117

أتباعهم على الإسلام. قال: وهذه الأقوال متقاربة، والقصد بجميعها الإعطاءُ لمن لا يتمكّن إسلامه حقيقةً إلا بالعطاء؛ فكأنه ضربٌ من الجهاد، والمشركون ثلاثة أصنافٌ: صنف يرجع بإقامة البرهان، وصنفٌ بالقهر، وصنفٌ بالإحسان، والإمام الناظر للمسلمين يستعمل مع كلّ صنف ما يراه سببًا لنجاته، وتخليصه من الكفر انتهى كلام القرطبيّ

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2578 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ، وَهُوَ بِالْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ بِتُرْبَتِهَا، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ، وَزَيْدٍ الطَّائِيِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ، فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: تُعْطِي صَنَادِيدَ نَجْدٍ، وَتَدَعُنَا، قَالَ: «إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ؛ لأَتَأَلَّفَهُمْ» ، فَجَاءَ رَجُلٌ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبِينِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: «فَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ عز وجل، إِنْ عَصَيْتُهُ أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ، وَلَا تَأْمَنُونِي؟» ، ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فِي قَتْلِهِ، يَرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلَامِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ، لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هناد بن السري) الكوفي، ثقة [10] 23/ 25.

2 -

(أبو الأحوص) سلام بن سُلَيم الحنفي الكوفي، ثقة ثبت [7] 79/ 96.

3 -

(سعيد بن مسروق) والد سفيان الثوري الكوفي، ثقة [6] 153/ 1121.

4 -

(عبد الرحمن بن أبي نُعم) -بضمّ النون، وسكون المهملة- البجليّ، أبي الْحَكَم الكوفيّ، صدوق، عابد [3].

قال مندل بن عليّ، عن بكير بن عامر: لو قيل لعبد الرحمن قد تَوَجّهَ ملك الموت إليك يريد قبض روحك، ما كانت عنه زيادة على ما هو فيه. وقال محمد بن فضيل، عن أبيه: كان عبد الرحمن يُحْرِم من السنة إلى السنة، وكان يقول: لبيك لو كان رياءً

(1)

- "الجامع لأحكام القرآن" ج 8 ص 178 - 179.

ص: 118

لاضمحلّ

(1)

. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان من عبّاد أهل الكوفة، ممن يصبر على الجوع الدائم، أخذه الحجّاج ليقتله، وأدخله بيتًا مظلمًا، وسدّ الباب خمسة عشر يومًا، ثمّ أمر بالباب، ففتح ليُخرَج، فيُدفَنَ، فدخلوا عليه، فإذا هو قائمٌ يُصلي، فقال له الحجّاج: سِرْ حيث شئت. وروى عبد الرحمن بن أحمد في زيادات "الزهد" من طريق مغيرة، عن مقسم، قال: دخل ابن أبي نُعْم على الحجّاج أيّام الجماجم، فوعظه. وقال ابن سعد: كان ثقة، يُحرِم من السنة إلى السنة، وكان ثقة، وله أحاديث. وقال ابن أبي حاتم: ذَكَر أبي عبدَ الرحمن بنَ أبي نُعم، فذكر له فضلًا وعبادةً. وقال النسائيّ في "التمييز": ثقة. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ضعيف.

روى له الجماعة وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط برقم 2578 و 4101 و 4569 و 4673 و 4674 و 5661.

5 -

(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما 169/ 262. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف وأنه مسلسل بالكوفيين، غير الصحابي فمدني، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك بن سنان الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ) بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه - (وَهُوَ بِالْيَمَنِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، يعني أنه كان باليمن، وقد ولّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم قاضيا بها (بِذُهَيْبَةٍ) تصغير ذَهَبَة، وكأنه أنّثها على معنى الطائفة، أو الجملة. وقال الخطّابيّ: على معنى القطعة. قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنها كانت تبرًا، وقد يؤنّث الذهب في بعض اللغات، وفي بعض النسخ من مسلم:"بذَهَبَة" بفتحتين بغير تصغير انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: اعتراض الحافظ على الخطّاب لا وجه له، إذ القطعة، هي الطائفة التي فسر بها هو، فتبصّر.

(1)

قلت: كونه يحرم من السنة إلى السنة، كيف يُعدّ في منقبة عبد الرحمن؟، فإن هذا مخالف للسنّة، فليتأمّل. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 119

وأيضًا ما فسّر به الخطّابيّ فسر به غيره، قال في "اللسان": قال الأزهريّ: والذهب معروف، وإنما أُنّث، وقال غيره: الذهب: التِّبْرُ، القطعة منه ذَهَبَةٌ، وعلى هذا يُذكّر، ويؤنّث على ما ذُكر في الجمع الذي لا يفارقه واحده إلا بالهاء. وقال ابن الأثير: هي تصغير ذهب، وأدخل الهاء فيها؛ لأن الذهب يؤنّث، والمؤنّث الثلاثيّ، إذا صُغر أُلحق في تصغيره الهاء، نحو قُويسة، وقيل: هو تصغير ذهبة، على نية القطعة منها، فصغّروها على لفظها، والجمع الأذهاب، والذُّهُوب انتهى

(1)

.

فتبيّن بهذا أن ما قاله الخطابيّ صحيح. واللَّه تعالى أعلم.

زاد في رواية الشيخين: "في أديم مقروظ": و"الأديم": الجلد. و"المقروظ": المدبوغ بالقَرَظ، وهو شجر يُدبَغ به. قاله في "المفهم"

(2)

.

(بِتُرْبَتِهَا) أيِ مخلوطة بترابها، بمعنى أنها لم يتميّز من ترِاب معدنها. وفي رواية الشيخين:"لم تُحصّل من ترابها": قال في "الفتح": أي لم تخُلّص من تراب المعدن، فكأنها كانت تِبْرًا، وتخليصها بالسبك

(3)

.

[تنبيه]: اختُلف في هذه الذُّهيبة، فقيل: كانت خمس الخمس. وفيه نظر. وقيل: من الخمس، وكان ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يضعه في صنف من الأصناف للمصلحة.

وقيل: من أصل الغنيمة. وفيه بُعْدٌ. قاله في "الفتح".

(إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ) قال الفيّوميّ: "النفر" - بفتحتين-: جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة. وقيل: إلى سبعة، ولا يقال: نفرٌ فيما زاد على العشرة انتهى.

(الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ) بالجر بدل من "أربعة"، أو من "نفر"، ويجوز الرفع، والنصب على القطع.

وهو الأقرع بن بن حابس بن عثمان بن محمد بن سفيان بن مُجاشع التميميّ المجاشعيّ. قيل: كان اسمه فراس، والأقرع لقبه

(4)

.

وفي رواية للبخاريّ: "وأقرع بن حابس" بدون "ال"، قال ابن مالك: فيه شاهد على أن الألف واللام من الأعلام الغالبة قد يُنزعان عنه في غير نداء، ولا إضافة، ولا

(1)

- "لسان العرب" في مادة ذهب.

(2)

- "المفهم" ج 3 ص 111.

(3)

- "فتح" ج 8 ص 395.

(4)

- "فتح" ج 8 ص 379 طبعة دار الفكر.

ص: 120

ضرورةٍ، وقد حكى سيبويه عن العرب: هذا يوم اثنين مبارك

(1)

وإلى هذا أشار في "خلاصته":

وَقَدْ يَصِيرُ عَلَمًا بِالْغَلَبَهْ

مُضَافٌ أَوْ مَصْحُوبُ "أَلْ" كَالْعَقَبَهْ

وَحَذْفَ "أَلْ" ذِي إِنْ تُنَادِ أَوْ تُضِفْ

أَوْجِبْ وَفِي غَيْرِهِمَا قَدْ تَنْحَذِفْ

(وَعُيَينَةَ بْنِ بَدْرٍ) بن حُذيفة بن بدر (الْفَزَارِيِّ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيِّ، ثَمَّ أَحَدِ بَنِي كلَابٍ)"عُلَاثة" -بضمّ العين المهملة، والمثلّثة- ووقع في رواية البخاريّ من طريق عبدَ الواحد بن زياد، عن عُمارة بن القعقاع، عن ابن أبي نُعْم:"إما علقمة، وإما عامر بن الطفيل". فقال في "الفتح": وجزم في رواية سعيد بن مسروق بأنه علقمة بن عُلاثة العامريّ، ثم أحد بني كلاب، وهو من أكابر بني عامر، وكان يتنازع الرياسة هو وعامر ابن الطفيل، وأسلم علقمة، فحسن إسلامه، واستعمله عمر على حَوْران، فمات بها في خلافته، وذكرُ عامر بن الطفيل غلطٌ من عبد الواحد، فإنه كان مات قبل ذلك انتهى

(2)

.

(وَزَيْدِ الطَّائِيِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ) هو زيد بن مهلهل الطائيّ، ويقال له: زيد الخيل؛ لكرائم الخيل التي كانت له، وسمّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم زيد الخير -بالراء بدل اللام- وأثنى عليه، فأسلمِ، فحسن إسلامه، ومات في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم.

(فغَضِبَتْ قُرَيْشٌ، وَقَالَ مَرَّةَ أُخْرَى) الظاهر أن القائل هو سعيد بن مسروق؛ لأن هذه الزيادة في روايته، كما يظهر من عبارة "الفتح"، ولفظه: وفي رواية سعيد بن مسروق:

"فغضبت قريش، والأنصار، وقالوا: يعطي صناديد أهل نجد، ويدعنا الخ" انتهى (صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ) الصناديد -بالمهملة، والنون- جمع صِنديد، وهو الرئيس (فَقَالُوا: تُعْطِي صَنَادِيدَ نَجْدٍ، وَتَدَعُنَا) أي تتركنا.

وفي رواية الشيخين: "فقال رجلٌ من أصحابه: كنا نحن أحقّ بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألا تأمنوني؟ وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء، مساءً وصباحًا".

قال القرطبيّ في "المفهم": لا حجّة فيه لمن يرى أن اللَّه مختصّ بجهة فوقُ؛ لما تقدّم من استحالة الجسمية، وأيضًا فيحتمل أن يراد بـ "من في السماء" الملائكة، فإنه أمين عندهم، معروف بالأمانة، والسماء بمعنى العلوّ والرفعة المعنويّة. وهكذا القول

(1)

- نقله في "الفتح" ج 8 ص 395.

(2)

- "فتح" ج 8 ص 395.

ص: 121

في قوله تعالى تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} الآية [الملك: 16]، وقد تقدم أن التسليم في المشكلات أسلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ذكره القرطبيّ في معنى هذا الحديث غير صحيح، والصواب إثبات الفوقية للَّه تعالى على ما يليق بجلاله، فهو سبحانه استوى على عرشه استواء حقيقيّا، يليق بجلاله، كما أخبر به في عدّة آيات الكتاب، وكما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأحاديث "الصحيحة" ولا يلزم من ذلك تجسيم، ولا تكييف، فإن قياس الغائب بالشاهد باطلٌ، فربنا سبحانه وتعالى هو الأعلى "سبحان ربي الأعلى"، وكلّ ما ثبت في النصّ من صفاته العليا فهو ثابت له على ظاهره، من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تأويل، ولا تعطيل، وقد أشبعت الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع من هذا الشرح. واللَّه سبحانه هو الهادي إلى سواء السبيل.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم اعتذارًا إليهم (إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ) أي إنما آثرت إعطاء هؤلاء، وتركتكم (لِأَتَأَلَّفَهُمْ) أي لأجل أن أستميل قلوبهم إلى الإسلام.

(فَجَاءَ رَجُلٌ) هو ذو الْخُويصِرَةِ التميميّ، كما ثبت صريحًا في رواية لأبي سعيد الخدريّ عند البخاريّ في "علامات النبوّة". وعند أبي داود: اسمه نافع. ورجّحه السهيليّ. وقيل: اسمه حُرْقُوص بن زُهير السعديّ.

(كَثُّ اللِّحْيَةِ) بفتح الكاف: أي غليظها (مُشْرِفُ الْوَجْنَتَينِ) المشرف -بشين معجمة، وفاء- بمعنى البارز، والمرتفع. والوجنتان: تثنية وَجْنة. قال الفيّوميّ: الوجنة من الإنسان ما ارتفع من لحم خدّه، والأشهر فتح الواو، وحكي التثليث، والجمع وَجَنَات، مثلُ سَجْدة وسَجَدَات انتهى.

وقال في "اللسان": الوجنة مثلثةً، والوَجَنَة محرَّكةً، والأُجْنة مثلثةً: ما انحدر من الْمَحْجِرِ

(2)

، ونَتَأَ من الوجه. وقيل: ما نتأ من لحم الخدّ بين الصدغين، وكَنَفي الأنف.

وقيل: هو فَرَقُ ما بين الخدّين والْمَدْمع من العظم الشاخص في الوجه، إذا وضعت عليه يدك وجدت حجمه. وحكى الليحيانيّ: إنه لحسن الوَجَنَات، كأنه جعل كلّ جزء منها وجنة، ثم جمع على هذا انتهى.

(غَائِرُ الْعَينَيْنِ) بالغين المعجمة، والتحتانيّة، اسم فاعل من الْغَوْر، والمراد أن عينيه

(1)

- راجع "المفهم" ج 3 ص 111 - 112.

(2)

- المحجِر مثال مجلِس: ما ظهر من النقاب من الرجل والمرأة، من الْجَفْن الأسفل، وقد يكون من الأعلى. وقال بعض العرب: هو ما دار بالعين من جميع الجوانب، وبدا من البرقع، والجمع المحاجر. اهـ "المصباح".

ص: 122

داخلتان في مَحَاجرهما، لا صقتان بقعر الحدقة، وهو ضدّ الْجُحُوظ (نَاتِىءُ الْجَبِينِ) بهمز ناتىء: أي مرتفع الجبين، والجبين -بفتح الجيم، وكسر الموحّدة-: جانب الجبهة، ولكلّ إنسان جبينان يكتنفان الجبهة، وجمعه جُبُن -بضمّتين، مثل بريد وبُرُد، وأَجْبِنة، مثلُ أَسْلِحَة. وفي "الكبرى": قاني الجبين" بالقاف بدل "ناتىء"، والظاهر أنه بمعناه؛ لأن قَنَا الأنفِ: ارتفاع أعلاه، واحْدِيدَاب وسطه، كما في "القاموس".

(مَحْلُوقُ الرَّأْسِ) وفي رواية للبخاريّ في "كتاب التوحيد" في وصف الخوارج: "سيماهم التحليق"، ولفظه من طريق معبد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"يَخرُج ناس من قبل المشرق، ويقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يَمرُقُون من الدين، كما يَمرُق السهم من الرَّمِيَّة، ثم لا يعودون فيه، حتى يعود السهم إلى فُوقِه، قيل: ما سيماهم؟، قال: "سيماهم التحليق"، أو قال: "التسبيد" انتهى. "التسبيد" بمعنى التحليق، أو أبلغ منه.

قال الكرمانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: فيه إشكالٌ، وهو أنه يلزم من وجود العلامة وجود ذي العلامة، فيستلزم أن كلّ من كان محلوق الرأس، فهو من الخوارج، والأمر بخلاف ذلك اتفاقًا. ثم أجاب بأنّ السلف كانوا لا يحلقون رؤوسهم، إلا للنسك، أو في الحاجة، والخوارج اتخذوه دَيْدنًا، فصار شِعَارًا لهم، وعُرفوا به. قال: ويحتمل أن يُراد به حلق الرأس واللحية، وجميع شعورهم، وأن يراد به الإفراط في القتل، والمبالغة في المخالفة في أمر الديانة انتهى.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: الأول باطل لأنه لم يقع من الخوارج. والثاني محتمل، لكن طرق الحديث المتكاثرة كالصريحة في إرادة حلق الرأس، والثالث كالثاني. واللَّه أعلم انتهى

(1)

. وزاد في رواية الشيخين: "مشمّر الإزار".

(فَقَالَ: اتَّقِ اللَّه يَا مُحَمَّدُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَمَنْ يُطِيعُ اللَّه عز وجل، إِنْ عَصَيتُهُ؟)"من" استفهامية، والاستفهام للإنكار والتوبيخ. وفي رواية البخاريّ:"أو لست أحقّ ثم هل الأرض أن يتّقي اللَّه"(أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ) أي يجعلني اللَّه تعالى مؤتمنًا على شرعه الذي يُنزله على أهل الأرض، حيث بعثني رسولا إليهم، ومعلوم أن مدار الرسالة على الأمانة (وَلَا تَأْمَنُونِي؟) أي لا تعتقدون كوني أمينًا، إذ آمنتم برسالتي؛ لأن ذلك مقتضى الإيمان بها (ثُمَّ أدْبَرَ الرَّجُلُ) وفي رواية الشيخين:"ثم ولّى الرجل"(فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فِي قَتلِهِ، يَرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) يحتمل أن يكون "يرون" بالبناء للفاعل

(1)

- راجع "الفتح" ج 15 ص 520 - 521.

ص: 123

بمعنى يعلمون، ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول بمعنى يظنّون. وفي رواية الشيخين:"فقال خالد بن الوليد: يا رسول اللَّه، ألا أضرب عنقه؟ ".

وفي هذه الرواية أن الذي استأذن في قتله هو خالد بن الوليد. وفي رواية عند البخاريّ أن الذي استأذنه في قتله هو عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه -، ولا إشكال فيه، إذ يمكن الجمع، بأن يكون كلّ واحد منهما استأذن في قتله، فأجيب كلّ منهما. واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَالَ: رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم) وفي رواية الشيخين لما استأذن خالد في ضرب عنقه، قال صلى الله عليه وسلم:"لا، لعله أن يكون يصلّي"، فقال خالد: وكم من مصلّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنّي لم أومر أَنَّ أَنقُب قلوب الناس، ولا أشُقّ بطونهم"، قال: ثم نظر إليه، وهو مُقّفِّ، فقال: إنه يخرج من ضئضىء هذا الخ".

قال في "الفتح": قال القرطبي: إنما منع قتله، وإن كان قد استوجب القتل لئلا يتحدّث الناس أنه يقتل أصحابه، ولا سيما من صلّى، كما ثبت نظيره في قصّة عبد اللَّه ابن أُبيّ. وقال المازريّ: يحتمل أن يكون النبيّ- صلى الله عليه وسلم لم يفهم من الرجل الطعن في النبوّة، وإنما نسبه إلى ترك العدل في القسمة، وليس ذلك كبيرة، والأنبياء معصومون من الكبائر بالإجماع، واختُلف في جواز وقوع الصغائر منهم. أو لعله لم يعاقب هذا الرجل لأنه لم يثبت ذلك عنه، بل نقله عنه واحدٌ، وخبر الواحد لا يُراق به الدم انتهى. وأبطله عياض بقوله في الحديث:"اعدل يا محمد"، فخاطبه في الملأ بذلك حتى استأذنوه في قتله، فالصواب ما تقدّم. انتهى.

(إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا) قال في "الفتح": كذا للأكثر بضادين معجمتين، مكسورتين، بينهما تحتانيّة، مهموزة، ساكنة، وفي آخره تحتانيّة مهموزة أيضًا. وفي رواية الكشميهنيّ: بصادين مهملتين، فأما بالضاد المعجمة، فالمراد به النسل والعقب. وزعم ابن الأثير أن الذي بالمهملة بمعناه. وحكى ابن الأثير أنه روي بالمدّ، بوزن قِنْدِيل انتهى

(1)

(قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ) وفي رواية للشيخين: "يتلون كتاب اللَّه رطبًا".

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "يتلون كتاب اللَّه رطبًا" فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه الْحِذْق بالتلاوة، والمعنى أنهم يأتون به على أحسن أحواله.

والثاني: يواظبون على تلاوته، فلا تزال ألسنتهم رطبة به.

والثالث: أن يكون من حسن الصوت بالقراءة. انتهى

(2)

.

(1)

- "فتح" ج 8 ص 397.

(2)

- انظر "المفهم" ج 3 ص 114.

ص: 124

(لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ) جمع حَنْجَرَة، وهي رأس الْغَلْصَمة

(1)

، حيث تراه ناتئًا من خارج الحلق

(2)

.

قال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: فيه تأويلان:

أحدهما: معناه: لا تفهمه قلوبهم، ولا ينتفعون بما تلوا منه، ولا لهم حظّ سوى تلاوة الفم، والحنجرة، والحلق، إذ بهما تقطيع الحروف.

والثاني: معناه: لا يصعد لهم عملٌ، ولا تلاوةٌ، ولا يُتقبّل انتهى

(3)

.

(يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإسلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأوثَانِ) قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا منه صلى الله عليه وسلم إخبار عن أمرٍ غيبٍ، وقِع نحوَ ما أخبر عنه، فكان دليلًا من أدلّة نبوّته صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم لَمّا حَكَموا بكفر مَن خرَجُوا عليه من المسلمين، استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذّمّة، وقالوا: نفي بذمّتهم، وعَدَلُوا عن قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين عن قتال المشركين. وهذا كلّه من آثار عبادات الجهّال الذين لم يشرح اللَّه صدورهم بنور العلم، ولم يتمسّكوا بحبل وثيق، ولا صَحِبهم في حالهم ذلك توفيق، وكفى بذلك أن مُقَدَّمهم ردّ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمره، ونَسَبَه إلى الْجَوْر، ولو تبصّر لأبصر عن قرب أنه لا يُتَصَوَّر الظلم والْجَوْر في حقّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كما لا يُتصوّر في حقّ اللَّه تعالى؛ إذ الموجودات كلّها ملكٌ للَّه تعالى، ولا يستحقّ أحد عليه حقًّا، فلا يُتصوّر في حقّه شيءٌ من ذلك، والرسول مُبلّغٌ حكمَ اللَّه تعالى، فلا يُتصوّر في حقّه من ذلك ما لا يتصوّر في حقّ مُرْسِلِه.

ويكفيك من جهلهم، وغُلُوّهم في بدعتهم حكمُهُم بتكفير مَن شهد له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بصحّة إيمانه، وبأنه من أهل الجنّة، كعليّ، وغيره، من صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مع ما وَقَعَ في الشريعة، وعُلم على القطع والثبات من شهادات اللَّه، ورسوله لهم، وثنائه على عليّ، والصحابة عمومًا وخصوصًا انتهى كلام القرطبيّ

(4)

.

(يَمْرُقُونَ مِنَ الْإسْلَامِ) بضم الراء، يقال: فرَقَ السهمُ مُرُوقًا، من باب قعد: إذا خرج منه من الجانب الآخر. أي يخرجون من الإسلام خروجَ السهم إذا نفذ الصيدَ من جهة أخرى، ولم يتعلّق به شيء منه.

(1)

- الغَلْصَمَة: اللحم بين الرأس والعنق، أو الْعُجْرة على مُلتقى اللَّهاة والْمَريء، أو رأس الحلقوم بشواربه، وحَرْقَدَته، أو أصل اللسان انتهى "القاموس".

(2)

- "النهاية في غريب الحديث" ج 1 ص 449.

(3)

- انظر "شرح مسلم للنوويّ" ج 7 ص 160.

(4)

- انظر "المفهم" ج 3 ص 114 - 115.

ص: 125

وفي رواية عمارة بن القعقاع، عن ابن أبي نُعم:"من الدين" بدل الإسلام. قال في "الفتح": وفي قوله: "من الإسلام" ردّ على من أوّل "الدين" هنا بالطاعة، وقال: إن المراد أنهم يخرجون من طاعة الإمام، كما يخرج السهم من الرّمِيّة. وهذه صفة الخوارج الذين كانوا لا يطيعون الخلفاء.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الصواب أن المراد بخروجهم من الدين، خروجهم من الإسلام، الذي قال اللَّه تعالى فيه:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ، كما فسّرته رواية المصنّف، إذ الرواية يفسّر بعضها بعضًا. واللَّه تعالى أعلم.

(كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) بفتح الراء، وتشديد التحتانيّة: أي الصيد الْمَرْمِيّ. قال الفيّوميّ: الرَّمِيّةُ ما يُرمَى من الحيوان، ذكرًا كان أو أنثى، والجمع رَمِيَّات، ورَمَايا، مثلُ عَطِية، وعَطِيّات، وعَطَايا، وأصلها فَعِيلة بمعنى مفعولة. انتهى.

شبّهَ مروقهم من الإسلام بالسهم الذي يُصيب الصيد، فيدخل فيه، ويخرج منه، ومن شدّة سرعة خروجه لقوّة الرامي، لا يَعْلَق به من جسد الصيد شيء

(1)

.

وفي رواية للبخاريّ من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه -: فقال عمر: يا رسول اللَّه، ائذن لي فيه، فأضربَ عنقه، فقال:"دعه، فإن له أصحابا، يَحقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، يُنظَر إلى نَصْلِه، فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنظر إلى رِصَافه، فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نَضِيِّهِ -وهو قِدْحُهُ- فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنظَر إلى قُذَذه، فلا يوجد فيه شيء، قد سَبَقَ الفرثَ والدمَ، آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة"، أو "مثل البَضْعَة، تَدَرْدَر، ويخرجون على حين فُرْقَة من الناس".

قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث، من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليّ بن أبي طالب قاتلهم، وأنا معه، فأمر بذلك الرجل، فالتُمِس، فأُتي به، حتى نظرتُ إليه، على نَعْتِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، الذي نعته".

وقوله: "في نَصْله" أي حديدة السهم. و"رِصَافه" بكسر الراء، ثم مهملة، ثم فاء: عَصَبه الذي يكون فوق مدخل النّصل. والرِّصَاف جمعٌ، واحده رَصَفَة بحركات.

و"نَضِيّه" بفتح النون، وحكي ضمّها، وبكسر المعجمة، بعدها تحتانيّةٌ ثقيلة: القِدْح - بكسر، فسكون -كما فُسّر في الحديث- أي عود السهم قبل أن يُراش، وُينصّل.

(1)

- "فتح" ج 8 ص 325.

ص: 126

وقيل: ما بين الريش والنصل. و"الْقُذَذ" -بضمّ القاف، ومعجمتين، الأولى مفتوحة، جمع قُذّة: وهي رِيش السهم، يقال لكلّ واحدة قُذّة، ويقال: هو أشبه من القذّة بالقذّة؛ لأنها تُجعل على مثال واحد. وقوله: "آيتهم" أي علامتهم. وقوله: "بضعة" -بفتح الموحّدة: أي قطعة لحم. وقوله: "تدردر": أي تضطرب، وتتحرّك. وقوله:"على حين فُرْقة": أي يخرجون فى وقت افتراق الناس. وفي رواية لمسلم: "تمرق مارقة عند فُرقة من المسلمين، تقتلها أوْلى الطائفتين بالحقّ".

وفي هذا، وقولِهِ صلى الله عليه وسلم:"تقتل عمّارًا الفئة الباغية" دلالة واضحة على أن عليًّا - رضي اللَّه تعالى عنه -، ومن معه كانوا على الحقّ، وأن من قاتلهم كانوا مخطئين في تأويلهم. واللَّه تعالى أعلم

(1)

.

(لَئِنْ أَدْرَكتُهُمْ، لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ) أي قتلًا عامًّا، مستأصلًا، كما قال تعالى:{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8]. وفي رواية "قتل ثمود". قال القرطبيّ: ووجه الجمع أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم قال كليهما، فذكر أحد الرواة أحدهما، وذكر الآخرُ الآخرَ. ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان يقتلهم قتلًا عامًّا، بحيث لا يُبقِي منهم أحدًا في وقت واحد، لا يؤخّر قتل بعضهم عن بعض، ولا يُقيل أحدًا منهم، كما فَعَل اللَّه بعاد، حيث أهلهكم بالريح العقيم، وبثمود، حيث أهلكهم بالصَّيْحَة انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": وقد استُشكل قوله: "لئن أدركتهم لأقتلتهم" مع أنه نهى خالدًا عن قتل أصلهم.

وأجيب بأنه أراد إدراك خروجهم، واعتراضهم على المسلمين بالسيف، ولم يكن ظهر ذلك في زمانه صلى الله عليه وسلم، وأوّل ما ظهر في زمان عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، كما هو مشهور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي سعيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -79/ 2578 و 26/ 4101 - وفي "الكبرى" 81/ 2359 و"التفسير"

(1)

- راجع "الفتح" ج 8 ص 324 - 325.

(2)

- "المفهم" ج 3 ص 113.

ص: 127

170/ 11221. وأخرجه (خ) في "المناقب" 3610 و"المغازي" 4351 و"التفسير" 4667 و"فضائل القرآن" 5058 و"الأدب" 6163 و"استتابة المرتدّين" 6931 و 6933 و"التوحيد" 7432 و 7562 (م) في "الزكاة" 106 (د) في "السنّة" 4764 (ق) في "المقدمة" 169 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 10625 و 10874 و 11096 و 11185 و 11254 و 11296 "الموطّأ" في "النداء للصلاة" 477. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان أن المؤلّفة قلوبهم من مصارف الزكاة، فيُعطون منها؛ استمالة لقلوبهم إلى الإسلام، وفيه خلاف للعلماء، سيأتي بيانه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى (ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من العفو، والصفح، والتجاوز، وإن كانت الإساءة إليه كبيرة (ومنها): أنّ ملازمة قراءة القرآن لا يدلّ على صدق إيمان الشخص حتى يقوم بالعمل به كما ينبغي (ومنها): أن فيه بيان صفات الخوارج التي يتميزون بها عن المسلمين، فهم كثيرو العبادة، وعداوتهم للمسلمين أكثر من عداوة غيرهم (ومنها): مشروعيّة قتال الخوارج، سواء قلنا: إنهم مرتدّون عن الإسلام، أو قلنا: إنهم بغاة، خرجوا على أهل العدل (ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بخروج الخوارج قبل أن يقع، فوقع على طِبْقِ ما أخبر {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]. (ومنها): ما قال ابن هبيرة: إن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين، والحكمة فيه أن في قتلهم حفظ رأس مال الإسلام، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح، وحفظُ رأس المال أولى (ومنها): التحذير من الغلوّ في الديانة، والتنطّع في العبادة، وقد وصف الشارع الشريعة بأنها سهلة سمحة، وإنما ندب إلى الشدّة على الكفّار، والرأفة بالمؤمنين، فعكس ذلك الخوارج، فقتلوا المؤمنين، وتركوا الكفّار (ومنها): جواز قتال من خرج عن طاعة الإمام العادل، ونَصَبَ الحرب، فقاتل على اعتقاد فاسد (ومنها): أن فيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه، ومن غير أن يختار دينًا على دين الإسلام (ومنها): أن فيه منقبةً لعمر، وخالد - رضي اللَّه تعالى عنهما -، لشدّتهما في الدين حيث أستاذنا بقتل ذلك الرجل (ومنها): أنه لا يُكتَفَى في التعديل بظاهر الحال، ولو بلغ المشهود بتعديله الغاية في العبادة، والتقشّف، والورع حتى يُختَبَرَ باطن حاله (ومنها): أنه احتجّ به من قال بتكفير الخوارج، وإليه ميل الإمام البخاريّ في "صحيحه"، حيث قرنهم بالملحدين، وبذلك صرّح ابن العربيّ في شرح الترمذيّ، فقال: الصحيح أنهم كفّار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يمرقون من الإسلام"، ولقوله: "لأقتلنّهم قتل

ص: 128

عاد"، وفي لفظ "ثمود"، وكلّ منهما إنما هلك بالكفر، وبقوله: "هم شرّ الخلق"، ولا يوصف بذلك إلا الكفّار، ولقوله: "إنهم أبغض الخلق إلى اللَّه تعالى".

وذهب كثير من أهل العلم إلى أن الخوارج فُسّاق، وأنهم يُجرَي عليهم حكم الإسلام؛ لتلفّظهم بالشهادتين، ومواظبتهم على أركان الإسلام.

قال القرطبيّ في "المفهم": والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث، قال: وباب التكفير باب خطر، ولا نعدل بالسلامة شيئًا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله القرطبيّ حسنٌ جدًّا، وحاصله أن التوقّف أسلم. وسيأتي تحقيق الخلاف في هذه المسألة، وبيان حجة كلّ قول، وترجيح الراجح بدليله في "كتاب تحريم الدم" -26/ 4101 - إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم دفع الزكاة للمؤلّفة قلوبهم:

قال العلامة القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تفسيره": اختلف العلماء في بقائهم، فقال عمر، والحسن، والشعبيّ، وغيرهم: انقطع هذا الصنف بعز الإسلام، وظهوره، وهذا مشهور مذهب مالك، وأصحاب الرأي، قال بعض علماء الحنفيّة: لما أعزّ اللَّه الإسلام، وأهله، وقطع دابر الكافرين -لعنهم اللَّه- اجتمعت الصحابة - رضي اللَّه تعالى - عنهم أجمعين في خلافة أبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنه - على سقوط سهمهم.

وقال جماعة من العلماء: هم باقون؛ لأن الإمام ربما احتاج أن يستألف على الإسلام. وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين. قال يونس: سألت الزهريّ عنهم؟ فقال: لا أعلم نسخًا في ذلك. قال أبو جعفر النحّاس: فعلى هذا الحكمُ فيهم ثابتٌ، فإن كان أحد يُحتاج إلى تألّفه، وُيخاف أن تَلحَق المسلمين منه آفةٌ، أو يُرجى أن يحسن إسلامه بعدُ دُفع إليه. قال القاضي عبد الوهّاب: إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة. وقال القاضي ابن العربيّ: الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أُعطُوا سهمهم، كما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعطيهم، فإن في "الصحيح":"بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ" انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن هذا الذي قاله ابن العربيّ -رحمه اللَّه تعالى- هو الأرجح.

وحاصله: أن نصيب المؤلّفة قلوبهم باق على حسب الحاجة، فحيث وُجدت حاجة

(1)

- راجع "جامع الأحكام" ج 8 ص 181.

ص: 129

إلى تأليفهم، أُعطوا، وإلا فلا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): هذه القصّة التي ذُكرت في حديث الباب غير القصّة التي وقعت في غزوة حُنين، وهي شبيهة بها، ولذا وقع بعضهم في الخطإ، حيث جعلهما واحدًا.

وحاصل قصّة غزوة حنين، هو ما رواه مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه"، قال: 1060 حدثنا محمد بن أبي عمر المكيّ، حدثنا سفيان، عن عمر بن سعيد بن مسروق، عن أبيه، عن عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج، قال: أعطى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، كلّ إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس، دون ذلك، فقال عباس بن مرداس:

أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ

بَيْنَ عُيَينَةَ وَالأَقْرَعِ

فَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلَا حَابِسٌ

يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ

وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا

وَمَنْ تَخْفِضِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ

قال: فأتم له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مائة

(1)

. و"العبيد" اسم فرس العباس بن مرداس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أُنيب".

‌80 - (الصَّدّقَةُ لِمَنْ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف بهذا الباب بيان صنف من أصناف مصارف الزكاة الثمانية، وهم الغارمون الذين ذكرهم اللَّه تعالى في آية الصدقة بقوله:{وَالْغَارِمِينَ} الآية.

والباء في "بحمالة" زائدة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2579 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ حَمَّادٍ عَنْ هَارُونَ بْنِ رِئَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي كِنَانَةُ بْنُ نُعَيْمٍ ح وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ هَارُونَ، عَنْ كِنَانَةَ بْنِ نُعَيْمٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ، قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْتُهُ فِيهَا، فَقَالَ: «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ، إِلاَّ لِثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ

(1)

- "صحيح مسلم" ج 7 ص 156 بنسخة شرح النوويّ.

ص: 130

بِحَمَالَةٍ، بَيْنَ قَوْمٍ، فَسَأَلَ فِيهَا، حَتَّى يُؤَدِّيَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَ»).

قال الجامع عَفا اللَّه تعالى عنه: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وكلّهم تقدّموا غير اثنين:

1 -

(هارون بن رئاب) -بكسر الراء، بعدها تحتانيّة مهموزة

(1)

، وآخره باء موحّدة- التميمي، ثم الأُسيديّ، أبو بكر، ويقال: أبو الحسن البصريّ، ثقة عابد [6].

قال أحمد، وابن معين: ثقة. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: يقال: إنه أجلّ أهل البصرة. قال ابن عُيينة: كان عنده أربعة أحاديث. وقال النسائيّ: ثقة. وقال البخاريّ في "تاريخه": روى عن أنس. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: لم يسمع من أنس شيئًا

(2)

، وكان من العبّاد، ممن يُخفِي الزهد. وقال أبو محمد بن حزم: اليمانُ، وهارون، وعليّ بنو رئاب، كان هارون من أهل السنّة، واليمان من أئمّة الخوارج، وعليّ من أئمة الروافض، وكانوا متعادين كلهم. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة. روى له مسلم، وأبو داود، والمصنّف وله في هذا الكتاب حديثان فقط هذا وكرره ثلاثة مرات برقم 2579 و 2580 و 2591 وحديث رقم 3229 "طلقها، قال: لا أصبر عنها

" الحديث، وأعاده برقم 3465.

2 -

(كنانة بن نُعيم) العدويّ، أبو بكر البصريّ، ثقة [4].

قال ابن سعد: كان معروفًا، ثقة، إن شاء اللَّه. وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقة.

وذكره ابن حبّان في "الثقات".

روى له مسلم، وأبو داود، والمصنّف وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده برقم 2580 و 2591.

و"حماد": هو ابن زيد. و"إسماعيل": هو ابن علية. و"أيوب": هو السختيانيّ.

وشرح الحديث يأتي في الذي يليه، إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجعِ والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2580 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ مُسَاوِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ رِئَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي كِنَانَةُ بْنُ نُعَيْمٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ، قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَسْأَلُهُ فِيهَا، فَقَالَ:«أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ، حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ» ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ، إِلاَّ لأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ

(1)

- وضبطه النوويّ في "شرح مسلم" بدون همزة، وعبارته:"هارون بن رياب" -بكسر الراء، وبمثنّاة تحتُ، ثم ألف موحّدة انتهى ج 7 ص 134.

(2)

- قال الحافظ: تناقض فيه كلام ابن حبّان، فذكره في التابعين، وقال: سمع من أنس، وكنانة بن نعيم، ثم ذكره في طبقة أتباع التابعين، وقال: لم يسمع من أنس شيئا. انتهى "تهذيب التهذيب" ج 4 ص 253.

ص: 131

تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا، مِنْ عَيْشٍ، أَوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِى الْحِجَا، مِنْ قَوْمِهِ، قَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ"، أَوْ "سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَى هَذَا، مِنَ الْمَسْأَلَةِ، يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ، يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد تقدموا في السند الماضي غير شيخه "محمد بن النضر بن مساور" وهو المروزيّ، صدوق [10] 70/ 2347. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ قَبيصَةَ) -بفتح القاف، وكسر الموحّدة، فمثنّاة تحتيّة، فصاد مهملة- (ابْنِ مُخَارِقٍ) -بضمّ المَيم، وتخفيف المعجمة- ابن عبد اللَّه الهلاليّ الصحابي، نزيل البصرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، تقدّمت ترجمته في 16/ 1486 أنه (قَالَ: تحَمَّلْتُ حَمَالَةً) بفتح الحاء المهملة، كسَحَابة: ما يتحمّله الإنسان عن غيره، من دية، أو غَرَامة، مثل أن يقع حربٌ بين فريقين، تُسفك فيها الدماء، فيدخل بينهم رجلٌ يتحمّل ديات القتلى؛ ليُصلح ذات البين، والتحمّل أن يحملها عنهم على نفسه -أي يتكفّلها، ويلتزمها في ذمّته-. أفاده في "النهاية"

(1)

.

وقال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: تفسير الْحَمَالة أن يقع بين القوم التشاجر في الدماء والأموال، ويَحدُث بسببهما العداوة، والشحناء، ويُخاف من ذلك الفتق العظيم، فيتوسّط الرجل فيما بينهم، ويسعى في إصلاح ذات البين، ويتضمن مالًا لأصحاب الطوائل، يترضّاهم بذلك حتى تسكن الثائرة، وتعود بينهم الألفة انتهى.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: ما حاصله: الحمالة -بالفتح- هو المال الذي يتحمّله الإنسان، أي يستدينه، ويدفعه في إصلاح ذات البين، كالإصلاح بين قبيلتين، ونحو ذلك، وإنما تحلّ له المسألة، وُيعطَى من الزكاة بشرط أن يستدينه لغير معصية انتهى

(2)

.

وقال الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قد كانت العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية، أو غيرها، قام أحدهم، فتبرّع بالتزام ذلك، والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة، ولا شكّ أن هذا من مكارم الأخلاق، وكانوا إذا علموا أن أحدهم تحمّل حَمَالةً بادروا إلى معونته، وأعطوه ما تبرأ به ذمّته، وإذا سأل لذلك لم يُعَدَّ نقصًا في قدره، بل فخرًا انتهى

(3)

.

(1)

- "النهاية في غريب الحديث والأثر" ج 1 ص 442.

(2)

- "شرح النوويّ على صحيح مسلم" ج 7 ص 134.

(3)

- "نيل الأوطار" ج 4 ص 181 طبعة دار الكتب العلمية.

ص: 132

(فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَسْاَلُهُ فِيهَا) أي في الحمالة، أي لأجلها (فَقَالَ:"أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ) أمر من الإقامة، بمعنى اثبت، واصبر. وقال السنديّ: أي كن في المدينة مقيمًا (حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ) بنصب الفعل بـ "أن" مضمرةً وجوبًا بعد "حتّى"، لكونه مستقبلًا، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ "حَتَّى" حَالًا اوْ مُؤَوَّلًا

بِهِ ارْفَعَنَّ وَانْصِبِ الْمُسْتَقْبَلَا

والمعنى: حتى يحضر لدينا مال الصدقة (فَنَأْمُرَ لَكَ) وفي "الكبرى" زيادة "بها". والفعل منصوب عطفًا على ما قبله.

(قَالَ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الصَّدَقَةَ") وفي الرواية الماضية: "إن المسألة" أي السؤال (لَا تَحِلُّ، إِلاَّ لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ) أي لا تحلّ إلا لصاحب ضرورة مُلجئة إلى السؤال، وهم هؤلاء الثلاثة (رَجُلٍ) بدل من "أحد"، أو من "ثلاثة"، وبالرفع خبر مبتدإ محذوف، أي أحدهم، ويجوز نصبهِ بتقدير فعل، كـ "أعني"، على لغة ربيعة الذين يقفون على المنصوب المنوّن بالسكون (تَحَمَّلَ حَمَالَةَ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ) أي جاز له سؤال الناس (حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ) قال ابن الأثير: أي ما يقوم بحاجته الضروريّة. وقِوام الشيء: عماده الذي يقوم به، يقال: فلان قِوام أهل بيته، وقِوام الأمر ملاكه. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس": والقَوَام، كسَحَاب: العَدْل، وما يُعاش به. وبالضمّ: داءٌ في قوائم النساء. وبالكسر: نظام الأمر، وعماده، وملاكه.

وقال في "المصباح": القوام -بكسر القاف-: ما يُقيم الإنسان من القوت. والقوام بالفتح: العدل، والاعتدال، قال تعالى:{وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أي عَدْلًا، وهو حسن القَوَام: أي الاعتدال انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تبيّن مما ذُكر أن القَوَام هنا يجوز ضبطه بالفتح، والكسر، على ما في "القاموس"، ومعناه: ما يقوم بحاجته الضروريّة. واللَّه تعالى أعلم.

(أَوْ) للشكّ من بعض الرواة (سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ) أي ما يكفي حاجته. و"السِّدَاد" - بالكسر-: كلّ شيء سَدَدت به خَلَلًا، وبه سمّي سِدَادُ الثَّغْر، والقارورةِ، والحاجةِ. قاله ابن الأثير

(2)

.

وقال الفيّوميّ: والسِّدَادُ -بالكسر-: ما تُسدّ به القارورة وغيرها، وسِدَاد الثَّغْر - بالكسر- من ذلك، واختلفوا في سِدَادٍ من عيشٍ، وسِدَادِ من عَوَزٍ لما يُرمَق به العيش، وتُسدّ به الْخَلَّة، فقال ابن السِّكِّيت، والفارابيّ، وتبعه الجوهريّ: بالفتح، والكسر،

(1)

- "النهاية" ج 4 ص 124.

(2)

-"النهاية" ج 2 ص 353.

ص: 133

واقتصر الأكثرون على الكسر، منهم ابن قُتيبة، وثعلبٌ، والأزهريّ؛ لأنه مستعارٌ من سِدَاد القارورة، فلا يُغيّر، وزاد جماعةٌ، فقالوا: الفتح لحنٌ. وعن النضر بن شُمَيلٍ: سِدَادٌ من عَوَزٍ، إذا لم يكن تامّا، ولا يجوز فتحه. ونَقَل في "البارع" عن الأصمعيّ سِدَادٌ من عَوَزٍ بالكسر، ولا يقال: بالفتح، ومعناه: إن أعوز الأمر كلُّهُ ففي هذا ما يَسُدُّ بعضَ الأمر انتهى كلام الفيّوميّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن الصواب في قوله: "سِدَادًا من عيش" في هذا الحديث بالكسر، وإن جوز بعضهم الفتح فيه أيضًا.

وإلى ما تقدّم أشار شيخنا عبد الباسط المناسي -رحمه اللَّه تعالى- بقوله:

إنَّ السِّدَادَ كِكِتَاب بُلْغَةُ

وَمَا بِهِ يُسَدُّ شَيْءٌ ثَابتُ

أمَّا الَّذي بِالْفَتْحِ كالسَّحَابِ

فَقَصْدُ دِينِ وَسَبِيلُ البَابِ

واختصرهما في بيت واحد فقال:

سِدَادُك الْمَكْسُورُ سِنَا بُلْغَتُكْ

وَمَا بِمَعْنَى الْقَصْدِ فِيهَا فتْحَتُكْ

واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية المصنّف تخالف رواية مسلم، وغيره، فإن فيها أن قوله:"حتى يُصيب قواما من عيش الخ" قيد في القسمين الأخيرين، وأما الأول فقيّده بقوله:"حتى يصيبها"، وهو المناسب، ولفظ مسلم:"يا قبيصة، إن المسألة لا تحل، إلا لأحد ثلاثة: رجلٍ تحمل حَمَالة، فحلت له المسألة، حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة، اجتاحت ماله، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواما من عيش"، أو قال:"سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة، حتى يقوم ثلاثة، من ذوي الحجا، من قومه، لقد أصابت فلانا فاقة، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواما من عيش"، أو قال:"سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة، يا قبيصة، سحتا يأكلها صاحبها سحتا". والضمير المؤنّث في قوله: "يصيبها" للحمالة.

(وَرَجُلٍ) يجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة على ما تقدّم في الذي قبله (أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ) هي الآفة التي تُهلك الثمار، والأموال، وتستأصلها، كالغرق، والحرق، والبرد، المفسد للزروع والثمار. قال الفيّوميّ: الجائحة الآفة، يقال: جاحت الآفة المالَ تَجُوحُهُ جَوْحًا، من باب قال: إذا أهلكته، وتَجِيحه جِيَاحةً لغةٌ، فهي جائحةٌ، والجمع الجوائحِ، والمال مَجُوحٌ، ومَجِيحٌ، وأجاحته بالألف لغة ثالثةٌ، فهو مُجَاحٌ، واجتاحتِ المال، مثلُ جاحته. انتهى.

(1)

- "المصباح المنير" في مادة سدد.

ص: 134

(فَاجْتَاحَتْ) أي استأصلت، وأتلفت (مَالَهُ) من ثمار بستانه، أو غيرها من الأموال (فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَهَا) أي حتى يصيب بدل ماله المجتاح، وأنّث ضميره لتأويله بالحاجة. واللَّه تعالى أعلم (ثُمَّ يُمْسِكَ) أي يترك السؤال؛ لأنه إنما حلّ له لأجل ما حلّ به من الجائحة، فلما أصاب حاجته ارتفعت الإباحة، فيجب أن يمسك عنه (وَرَجُلٍ) يجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة، كسابقيه (أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ) اسم من افتاق يفتاق: إذا احتاج. أي رجلٌ كان غنيًّا موسرًا، ثم افتقر، وأصابته حاجة، ولم يُعرَف حاله (حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاَثةٌ مِنْ ذوِي الْحِجَا) -بكسر الحاء المهملة، وفتح الجيم، بعدها ألف مقصورة-: أي العقل والفِطْنة. قال القرطبيّ: واشترط الحجا؛ لأن من عَدِمه لا يحصل بقوله ثقة، ولا يصلح للشهادة، أو لعله عبّر به عما يُشرط في المخبر والشاهد من الأمور التي توجب الثقة بأقوالهم، ويكون الموصوف بها عَدْلًا مرضيًّا انتهى

(1)

.

(مِنْ قَوْمِهِ) إنما قيدهم بقومه؛ لأنهم أعلم بدَخِيلة أمره، واستظهر بالثالث ليُلحق بالمنتشر، ولم يحتج فيمن أصابته الجائحة إلى مثل هذا؛ لظهور أمر الجائحة، وأما أمر الفاقة، فقد تخفى. قاله القرطبيّ

(2)

.

وقال النوويّ: وإنما قال صلى الله عليه وسلم: "من قومه؛ لأنهم من أهل الخبرة بباطنه، والمال مما يُخفَى في العادة، فلا يعلمه إلا من كان خبيرًا بصاحبه. وإنما اشترط الحجا تنبيهًا على أنه يشترط في الشاهد التيقّظ، فلا تُقبل من مغفّل. وأما اشتراط الثلاثة، فقال بعض أصحابنا: هو شرط في بينة الإعسار، فلا يُقبل إلا من ثلاثة؛ لظاهر هذا الحديث. وقال الجمهور: يقبل من عدلين، كسائر الشهادة، غير الزنا، وحملوا الحديث على الاستحباب. وهذا محمول على من عُرِف له مالٌ، فلا يُقبل قوله في تلفه، والإعسار إلا ببينة، وأما من لم يُعرف له مالٌ، فالقول قوله في عدم المال انتهى كلام النوويّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: يؤيّد هذا قوله في الحديث: "اجتاحت ماله"، فإنه يدلّ على أن الذي يشهد له الثلاثة هو الذي كان له مالٌ، فاجتاحته آفة، فاحتاج للمسألة. واللَّه تعالى أعلم.

وقال السنديّ: وهذا كنايةٌ عن كون تلك الفاقة محقّقةً، لا مُخَيلةً، حتى لو استُشهِد عقلاء قومه بتلك الفاقة لشهدوا بها. والفرق بين هذا القسم، والقسم السابق، أن الفاقة في القسم الأول ظاهرة بين غالب الناس، وفي هذا القسم خفيّةٌ عنهم انتهى.

(قَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ) أي يشهدوا قائلين: قد أصابت الخ. ولفظ مسلم: "حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا، لقد أصابت فلانًا فاقةٌ". قال النوويّ: هكذا في جميع النسخ -أي

(1)

- "المفهم" ج 3 ص 88.

(2)

- "المفهم" ج 3 ص 88.

ص: 135

نسخ صحيح مسلم" -: "حتى يقوم ثلاثة، وهو صحيح، أي يقومون بهذا الأمر، فيقولون: لقد أصابته فاقة انتهى. ولفظ أبي داود: "حتى يقول" باللام من القول، ولا يحتاج إلى تقدير محذوف.

(فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا من عَيشٍ"، أَوْ "سِدَادًا مِنْ عَيشٍ، فَمَا سِوَى هَذَا) أي المذكور من الأمور الثلاثة، فإفراد اسم الإشارة بالتأويل بالمذكور (مِنَ الْمَسْأَلَةِ، يَا قَبيصَةُ سُحْتٌ) -بضم السين، والحاء المهملتين، أو بضمّ السين، وسكون الحاء، تخفيفًا-: هو كلّ مال حرام، لا يحلّ كسبه، ولا أكله، وسمّي بذلك لأنه يَسْحَتُ البركة: أي يُذهبها، ويَمْحَقها (يَأْكُلُهَا) أي يأكل ما يحصل له بالمسألة. قاله الطيبيّ.

وقال الصنعانيّ: "يأكلها": أي الصدقة، أنّث لأنه جعل السحت عبارة عنها، وإلا فالضمير له انتهى. (صَاحِبُهَا) أي صاحب المسألة (سُحْتًا) منصوب على الحال، أو بدل من الضمير المنصوب في "يأكلها". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث قبيصة بن مُخَارق - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا 80/ 2579 و 2580 - و"الكبرى" 82/ 2360 و 2361. وأخرجه (م) في "الزكاة" 1044 (د) 1640 (أحمد) في "مسند المكّيين" 15486 وفي "مسند البصريين" 20078 (الدارمي) في "الزكاة" 1678. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان أن من تحمّل حَمالة يستحقّ الصدقة، وهو معنى {الغارم} المذكور في آية الصدقة (ومنها): أنه يدلّ على حرمة السؤال لغير من ذكر، ونحوهم، ممن يُباح لهم السؤال للحاجة.

(ومنها): ما قاله الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: في هذا الحديث علم كثيرٌ، وفوائد جمّة، ويدخل في أبواب من العلم والحكم، وذلك أنه قد جعل من تحلّ له المسألة من الناس أقسامًا ثلاثة: غنيًّا، وفقيرين، وجعل الفقر على ضربين: فقرًا ظاهرًا، وفقرًا باطنًا، فالغني الذي تحلّ له المسألة هو صاحب الحمالة، وهي الكفالة، والحميل: الضمين، والكفيل، ثم ذكر تفسير الحمالة كما تقدّم، ثم قال: فهذا الرجل صنع معروفًا، وابتغى بما أتاه صلاحًا، فليس من المعروف أن تُوَرَّكَ الغرامة

(1)

في ماله، ولكن يُعان على أداء

(1)

قوله: "أن تُوَرَّكَ الغرامةُ" أي تُوجَبَ، قال في "القاموس": وَرَّكَهُ توريكًا: أوجبه، والذنبَ عليه حمله. انتهى.

ص: 136

ما تحمّله منه، وُيعطى من الصدقة قدر ما يبرأ به ذمّته، ويخرج من عهدة ما تضمّنه منه.

وأما النوع الأول من نوعي أهل الحاجة، فهو رجل أصابته جائحةٌ في ماله، فأهلكته، والجائحة في غالب العرف هي ما ظهر من الآفات، كالسيل يُغرق متاعه، والنار تُحرقه، والبرد يُفسد زرعه، وثماره، ونحو ذلك من الأمور، وهذه أشياء لا تخفى آثارها عند كونها، ووقوعها، فإذا أصاب الرجل شيء منها، فذهب ماله، وافتقر، حلّت له المسألة، ووجب على الناس أن يُعطوه الصدقة من غير بينة، يطالبونه بها على ثبوت فقره، واستحقاقه إياها.

وأما النوع الآخر، فإنما هو فيمن كان له ملك ثابتٌ، وعُرف له يسار ظاهر، فادعى تَلَفَ ماله من لص طَرَقه، أو خيانة ممن أودعه، أو نحو ذلك من الأمور التي لا يبين لها أثرٌ ظاهر في المشاهدة والعيان، فإذا كان ذلك، ووقعت في أمره الرِّيبة في النفوس لم يعط شيئًا من الصدقة إلا بعد استبراء حاله، والكشف عنه بالمسألة من أهل الاختصاص به، والمعرفة بشأنه، وذلك معنى قوله:"حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: قد أصابت فلانًا الفاقة"، واشتراطه الحجا تأكيد لهذا المعنى، أي لا يكونون من أهل الغباوة والغفلة، ممن يخفى عليهم بواطن الأمور، ومعانيها، وليس هذا من باب الشهادة، ولكن من باب التبيّن والتعرّف، وذلك أنه لا مدخل لعدد الثلاثة في شيء من الشهادات، فإذا قال نفر من قومه، أو جيرانه، أو من ذوي الخبرة بشأنه: إنه صادق فيما يدّعيه، أُعطي الصدقة.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "ليس من باب الشهادات" فيه نظر لا يخفى. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أنّ فيه من العلم أن من ثبت عليه حقّ عند حاكم، فطلب المحكوم له حبسه، وادعى المحكوم عليه الإفلاس، والفقر، لا تسمع دعواه إلا ببيّنة، إن كان المحكوم عليه به لزمه بدل مال حصل في يده، كثمن مبيع، وقرض لثبوت غناه بحصول المبيع، والقرض في يده، وتُقبل دعواه الإفلاس فيما ليس بدل مال، كبدل الغصب، وضمان المتلفات، ونفقة من يلزمه الإنفاق عليه، فلا يُحبس فيما ذكر إن ادّعى الفقر؛ لأن الأصل في الآدميّ العسر، وقد قال اللَّه تعالى:{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} الآية. إلا إذا بَرْهَن خصمه أنّ له مالا، فيحبس حسبما يراه القاضي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَطْلُ الغنيّ ظلم". متّفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لَيُّ الواجد يُحلّ عرضه، وعقوبته" حديث حسن، أخرجه أحمد، وأبو داود، والمصنّف، وابن ماجه.

وهذا إذا لم يكن له مالٌ ظاهرٌ، وإلا انتزع منه الحقّ، إن كان من جنسه، أو بيع عليه، إن لم يكن من جنسه. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أنه يدلّ على جواز نقل الصدقة من بلدة إلى أخرى، حيث قال: "أقم حتى

ص: 137

تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها"، وقد تقدّم تحقيق الخلاف في ذلك في باب "إخرج الزكاة من بلد إلى بلد" -46/ 2522 - وأن الأصحّ جواز نقلها، إذا كان هناك مصلحة راجحة (ومنها): أن الحدّ الذي ينتهي إليه العطاء في الصدقة هو الكفاية التي يكون بها قِوام العيش، وسِداد الخلّة، وذلك يعتبر في كلّ إنسان بقدر حاله، ومعيشته، وليس فيه حدّ معلوم، يحمل عليه الناس كلهم مع اختلاف أحوالهم

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌81 - (الصَّدَقَةُ عَلَى الْيَتِيمِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا بيان أن اليتيم من مصارف الزكاة، والمراد اليتيم الفقير، لا كلّ يتيم، ووجه استدلاله بحديث الباب أن قوله صلى الله عليه وسلم:"ونعم صاحب المسلم هو، إن أَعطَى منه اليتيم الخ"، فإنه يعمّ الصدقة الواجبة، والتطوّع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2581 -

(أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي هِلَالٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ: «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي، مَا يُفْتَحُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةٍ، وَذَكَرَ الدُّنْيَا، وَزِينَتَهَا، فَقَالَ: رَجُلٌ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ ، فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ تُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يُكَلِّمُكَ، قَالَ: وَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، فَأَفَاقَ، يَمْسَحُ الرُّحَضَاءَ، وَقَالَ «أُشَاهِدُ السَّائِلَ؟ ، إِنَّهُ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ، أَوْ يُلِمُّ، إِلاَّ آكِلَةُ الْخَضِرِ، فَإِنَّهَا أَكَلَتْ، حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا، اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ، فَثَلَطَتْ، ثُمَّ بَالَتْ، ثُمَّ رَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ، حُلْوَةٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ، إِنْ أَعْطَى مِنْهُ الْيَتِيمَ، وَالْمِسْكِينَ، وَابْنَ السَّبِيلِ، وَإِنَّ الَّذِي يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ، وَلَا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»).

(1)

- راجع "معالم السنن" للخطابيّ -رحمه اللَّه تعالى- ج 2 ص 237 - 239.

ص: 138

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زياد بن أيوب) البغدادي، أبو هاشم الطُّوسي الأصل الملّقَّب دَلُّويه، ولَقَّبه أحمدُ شعبةَ الصغير [10] 101/ 132.

2 -

(إسماعيل ابن عُلَيّة) هو: ابن إبراهيم، أبو بشر البصريُّ، ثقة حافظ [8] 18/ 19.

3 -

(هشام) بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدَّسْتُوَائي البصريُّ، ثقة ثبت، من كبار [7] 30/ 34.

4 -

(يحيى بن أبي كثير) صالح بن المتوكل اليمامي، أبو نصر، ثقة ثبت يدلس ويرسل [5] 23/ 24.

5 -

(هلال) بن عليّ بن أسامة العامري المدني، وينسب إلى جده، ثقة [5] 51/ 65.

6 -

(عطاء بن يسار) الهلالي، أبو محمد المدني، مولى ميمونة، ثقة فاضل صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [3] 64/ 80.

7 -

(أبو سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الصحابي ابن الصحابي - رضي اللَّه تعالى عنهما - 169/ 262. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين من يحيى، فإنه وإن كان يماميًا إلا أنه سكن المدينة عشر سنين، وشيخه بغدادي، والباقيان بصريان. ومنها: أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: يحيى عن هلال، عن عطاء، ومنها: أن فيه أبا سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) - رضي اللَّه تعالى عنه -. وعند البخاريّ في "الزكاة": "حدّثنا عطاء بن يسار، أنه سمع أبا سعيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه -"(قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ: "إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ) و"إنما" أداة حصر. وفي نسخة: "إني". وفي "الكبرى": "إن مما أخاف عليكم"، وعليه فالجارّ والمجرور خبر مقدّم لـ "إن"(مِنْ بَعْدِي) أي بعد موتي (مَا يُفْتَحُ لَكُمْ) بالبناء للمفعول، و"ما" اسم موصول مفعول "أخاف"، أو اسم "إنّ" مؤخّرًا على ما في "الكبرى". وفي نسخة:"ما يفتح اللَّه لكم". والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم ما يخاف على أمته الفقر، وإنما يخاف عليهم الغنى.

ص: 139

ولفظ البخاريّ: "إن أكثر ما أخاف عليكم ما يُخرج اللَّه لكم من بركات الأرض"، قيل: وما بركات الأرض؟ قال: "زهرة الدنيا".

(مِنْ زَهْرَةٍ) بيان لـ "ما". قال في "اللسان": وزَهْرة الدنيا -بفتح الزاي، وسكون الهاء-، وفتحها-: حُسنها، وبَهْجتها، وغَضَارتها. وفي التنزيل العزيز:{زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . قال أبو حاتم: زَهَرة الدنيا -بالفتح-، وهي قراءة العامّة بالبصرة، قال: وزَهْرة هي قراءة أهل الحرمين، وأكثر الآثار على ذلك انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": "الزهرة" -بفتح الزاي، وسكون الهاء-، وقد قُرىء في الشاذّ عن الحسن وغيره بفتح الهاء، فقيل: هما بمعنى، مثلُ جَهْرَة، وجَهَرَة. وقيل: بالتحريك جمع زاهر، كفاجر وفَجَرَة. والمراد بالزهرة الزينة، والبهجة، كما في الحديث، والزهرة مأخوذة من زهرة الشجر، وهو نَوْرُها -بفتح النون- والمراد ما فيها من أنواع المتاع، والعين، والثياب، والزرع، وغيرهما مما يفتخر الناس بحسنه مع قلّة البقاء انتهى

(2)

.

(وَذَكَرَ الدُّنْيَا، وَزِينَتَهَا) الظاهر أن الفاعل ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، أي ذكر لفظ "الدنيا، وزينتها" مع لفظة "زهرة"، ولكن الراوي لم يحفظ كيفية ذكر هذين اللفظين معها، مع أنه يحفظ ذكر الجميع. ولفظ البخاريّ:"زهرة الدنيا" بالإضافة، من دون تردّد (فَقَالَ: رَجُلٌ) قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: لم أقف على اسمه (أَوَ يَأْتِي الْخَيْرُ بالشَّرِّ؟) بفتح واو "أَو"، والهمزة للاستفهام، والوا عاطفة على مقدّر، أي أتصير النعَمة عقوبة؟؛ لأن زهرة الدنيا نعمة من اللَّه تعالى، فهل تعود هذه النعمة نقمةً؟، وهو استفهام استرشاد، لا إنكار. والباء في قوله:"بالشرّ" صلة ليأتي، أي هل يستجلب الخيرُ الشرّ

(3)

.

وقال القرطبيّ: قوله: "وهل يأتي الخير بالشرّ" سؤالُ مَنِ استبعد حصول شرّ من شيء سمّاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "بركات"، وسمّاه خيرًا في قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] وشِبْهِهِ مما سُمّي المال فيه خيرًا، فلما فَهِم صلى الله عليه وسلم من سؤاله هذا الاستبعاد أجابه جواب من بقي عنده اعتقاد أن الخير الذي هو المال قد يَعرِض له أن يحصل عنه شرّ، إذا تعدى به حده، وأسرف فيه، ومنع من حقّه، ولذلك قال:"أَوَ خيرٌ هو؟ " -بهمزة الاستفهام، وواو العطف الواقعة بعدها المفتوحةِ على الرواية

(1)

- "لسان العرب" في مادّة زهر.

(2)

- "فتح" ج 13 ص 23 - 24.

(3)

- "فتح" ج 13 ص 24.

ص: 140

الصحيحة- مُنكِرًا على من توهّم أنه يحصل منه شرّ أصلًا، لا بالذات، ولا بالْعَرَض انتهى

(1)

.

(فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ولفظ البخاريّ: "فصمت النبيّ صلى الله عليه وسلم"(فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ تُكَلِّمُ) بضمّ حرف المضارعة، من التكليم (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يُكَلِّمُكَ، قَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه (وَرَأَيْنَا) بالبناء للفاعل: أي علمنا، ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول: أي ظننّا، ويؤيده ما في البخاريّ:"حتى ظننت"، وفي رواية:"حتى ظننّا". وقال في "الفتح": وفي رواية هلال: "فرُئينا" بضمّ الراء، وكسر الهمزة. وفي رواية الكشميهنيّ:"فأُرِينا" بضم الهمزة.

(أَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (يُنْزَلُ عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله ضمير يعود إلى الوحي المفهوم من المقام، والمعنى: ينزل اللَّه تعالى عليه الوحي. وكأنهم فهموا ذلك بالقرينة، من الكيفيّة التي جرت عادته صلى الله عليه وسلم بها عند ما يوحى إليه (فَأَفَاقَ يَمْسَحُ الرُّحَضَاءَ) -بضمّ الراء، وفتح المهملة، ثم المعجمة والمدّ: هو الْعَرَق. وقيل: الكثير. وقيل: عرَقُ الحمّى. وأصل الرَّحْض -بفتح، ثم سكون: الغسل، ولهذا فسّره الخطّابيّ بأنه عَرَقٌ يَرْحَضُ الجلدَ لكثرته

(2)

.

(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَشَاهِدٌ السَّائِلُ؟) وفي نسخة: "أفشاهد السائل". وفي نسخة: "أين هذا". وفي رواية البخاريّ: "أين السائل؟ ". وفي رواية مسلم: "إن هذا السائلُ". قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: هكذا هو في بعض النسخ، وفي بعضها:"أين"، وفي بعضها:"أَنَّى"، وفي بعضها:"أَيُّ"، وكلُّهُ صحيح، فمن قال:"أنّى"، أو "أين" فهما بمعنى، ومن قال:"إنّ" فمعناه -واللَّه أعلم- إن هذا هو السائل الممدوح الحاذق الفَطِنُ، ولهذا قال:"وكأنه حمله"، ومن قال:"أَيّ"، فمعناه: أيّكم، فحذف الكاف والميم. واللَّه أعلم انتهى كلام النوويّ

(3)

.

وقال السنديّ: قوله: "أشاهد السائل" يريد التمهيد للجواب عن شاهد السائل، أي عما اعتمد السائل عليه في سؤاله بتقدير نفس الشاهد، حتى يُجيب عنه، أي أشاهدٌ السائل هذا، وهو أنه لا يأتي الخير بالشرّ انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا المعنى بعيدٌ، تبعده الرواية الأُخرى:"أين السائل"، ونحوها، بل الصواب أن المعنى: أحاضرٌ السائل، يعني أن الشخص الذي

(1)

- "المفهم" ج 3 ص 96.

(2)

- "فتح" ج 13 ص 24.

(3)

- "شرح صحيح مسلم" ج 7 ص 144.

ص: 141

سأل، فنزل بسببه الوحي حاضر في المجلس، لم يبرح مكانه؛ وإنما قال ذلك لاحتمال أن ينتقل بعد السؤال إلى محلّ آخر، فأراد صلى الله عليه وسلم التثبّت من حضوره، حتى يسمع الجواب بنفسه. واللَّه تعالى أعلم.

وزاد في رواية البخاريّ: "قال أبو سعيد: لقد حَمِدناه حين طلع ذلك". وفي رواية: "وكأنه حمده". قال في "الفتح": والحاصل أنهم لامُوهُ أوّلًا حيث رأوا سكوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فظنوا أنه أغضبه، ثم حَمِدوه آخرًا لَمّا رأوا مسألته سببًا لاستفاد ما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأما قوله:"وكأنه حمله"، فأخذه منه من قرينة الحال انتهى

(1)

.

(إِنَّهُ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ) وفي رواية البخاريّ: "لا يأتي الخير إلا بالخير". زاد في رواية الدارقطنيّ تكرار ذلك ثلاث مرَّات. وفي رواية لمسلم: "إنّ الخير لا يأتي إلا بخير، أَوَ هو خيرٌ؟ ".

قال في "الفتح": ويؤخذ منه أن الرزق ولو كثر فهو من جملة الخير، وإنما يَعرِض له الشرِّ بعارض البخل به عمن يستحقّه، والإسراف في إنفاقه فيما لم يشرع، وأنّ كلّ شيء قَضَى اللَّه أن يكون خيرًا، فلا يكون شرًّا، وبالعكس، ولكن يُخشى على من رُزِق الخير أن يَعرِض له في تصرّفه فيه ما يجلب له الشرِّ.

ووقع في مرسل سعيد المقبريّ عند سعيد بن منصور: "أو خيرٌ هو؟ ثلاث مرّات"، وهو استفهام إنكار، أي إن المال ليس خيرًا حقيقيًّا، وإن سُمّي خيرًا؛ لأن الخير الحقيقي هو ما يَعرض له من الإنفاق في الحقّ، كما أن الشرِّ الحقيقيّ فيه ما يَعرِض له من الإمساك عن الحقّ، والإخراج في الباطل، وما ذُكر في الحديث بعد ذلك من قوله:"وإن هذا المال خَضِرَةٌ حُلْوة" كضرب المثل بهذه الجملة. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: زاد في "الكبرى" بعد قوله: "إنه": ما نصّه: "ولم أفهم كما أردتّ"، والظاهر أن القائل المصنّف، ويحتمل أن يكون غيره. يعني أنه لم يفهم لفظة "إنه" من لفظ شيخه فهمًا جيّدًا. واللَّه تعالى أعلم.

(وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ) -بفتح الراء، وكسر الموحّدة-: قيل: هو الفصل المشهور بالإنبات. وقيل: النهر الصغير المنفجر عن النهر الكبير. وقال القرطبيّ. الْجَدْوَل الذي يُسقَى به، والجمع أربعاء. والجدول: النهر الصغير الذي ينفجر من النهر الكبير. وقال في "المصباح": والربيع الجدولُ، وهو النهر الصغير. قال الجوهريّ: وجمع ربيع أربعاء، وأربعة، مثلُ نصيبِ، وأنصباءَ، وأنصبةٍ. وقال الفراء: يُجمع رَبيع الكلإِ،

(1)

- "فتح" ج 13 ص 24.

(2)

- "فتح" ج 13 ص 24.

ص: 142

وربيع المشهور أربعةً، وربيع الجدول أربعاء، ويصغّر رَبيع على رُبَيِّعٍ، وبه سمّيت المرأة، ومنه الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عَفْراء انتهى.

ويحتمل أن يكون معنى الربيع المطر النازل في وقت الربيع، ففي "اللسان": والرَّبيع أيضًا المطر الذي يكون في الربيع. انتهى.

قال النوويّ: ووقع في الروايتين السابقتين: "إن كلّ ما يُنبت الربيع، أو أنبت الربيع"، ورواية كلّ محمولة على رواية "مما" وهو من باب:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25]{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] انتهى

(1)

.

وجعل في "الفتح""من" في قوله: "مما ينبت" للتكثير، لا للتبعيض ليوافق رواية "كلّ ما أنبت".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذكره النوويّ من حمل رواية "كلّ" على رواية "مما"، من كون المقصود هنا التبعيض أوضح مما قاله في "الفتح". واللَّه تعالى أعلم.

وإسناد الإنبات إلى الربيع مجازيّ؛ إذ المنبت في الحقيقة هو اللَّه تعالى. وهذا الكلام كلّه وقع كالمثل للدنيا. وقد وقع التصريح بذلك في مرسل سعيد المقبريّ

(2)

.

(يَقْتُلُ) زاد في رواية الشيخين: "حَبَطًا". وهو بفتح الحاء المهملة، والموحّدة، والطاء المهملة أيضًا: هو انتفاخ البطن من كثرة الأكل، يقال: حَبِطَتِ الإبلُ تَحْبَطُ حَبَطًا، من باب تَعِبَ: إذا أصابت مرعًى طيْبًا، فأمعنت في الأكل، حتى تنتفخ، فتموت. وروي بالخاء المعجمة، من التخبّط، وهو الاضطراب، والأول المعتمد. قاله في "الفتح".

(أَوْ يُلِمُّ) بضم أوله، وكسر ثانيه، من الإلمام، وهو القرب، أي يقارب القتل.

[تنبيه]: رواية المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا، وفي "الكبرى""يقتُل، أو يُلمّ" بدون كلمة "ما" قبل "يقتل"، وهي ثابتة في "الصحيحين"، وهي واضحة. ورواية المصنّف لها وجه صحيح أيضًا، وهو إما أن تكون "من" في "مما ينبت" تبعيضيّة، وهي اسم عند بعض النحاة، وجعلوا منه قوله تعالى:{فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} الآية [البقرة: 22] فأعربوا "من الثمرات" مفعولَ "أخرج"، ورزقًا مفعولًا لأجله

(3)

.

(1)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 145.

(2)

- راجع "الفتح" ج 13 ص 25.

(3)

- راجع "همع الهوامع" للسيوطي في النحو في "باب المجرورات" ج 2 ص 382.

ص: 143

فتكون "من" هنا اسم "إنّ"، و"يَقتُل" خبرها. ويحتمل أن كلمة "ما" مقدّرة، والموصول مع صلته اسم "إنّ"، وحَذفُ الموصول، وإبقاء صلته جائز في كلام العرب، كقول حسّان - رضي اللَّه تعالى عنه -[من الطويل]:

أَمَنْ يهجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ

وَيَمْدَحُهُ ويَنْصُرُهُ سَوَاءُ

إذ تقديره: ومن يمدحه الخ

(1)

. والجارّ والمجرور في قوله: "مما يُنبت" خبر مقدّم. واللَّه تعالى أعلم.

(إِلَّا) بكسر الهمزة، تشديد اللام، على الاستثناء، وهذا هو المشهور الذي قاله الجمهور، من أهل الحديث، واللغة، وغيرهم. قال القاضي عياض: ورواه بعضهم "أَلَا" بفتح الهمزة، وتخفيف اللام، على الاستفتاح

(2)

.

(آكِلَةُ الْخَضِرِ) بالمدّ، وكسر الكاف، بصيغة اسم الفاعل. و"الخَضِرُ" بفتح الخاء، والضاد المعجمتين، وكذا لأكثر رواة البخاريّ، وهو ضرب من الكلأ، يُعجب الماشية، وواحده خَضِرَة. وفي رواية الكشميهني:"خُضْرَة" بضمّ الخاء، وسكون الضاد، وزيادة الهاء في آخره. وفي رواية السرخسيّ:"الخَضْرَاء" بفتح أوّله، وسكون ثانيه، وبالمدّ. ولغيرهم:"خُضَر" بضمّ أوله، وفتح ثانيه، جمع خُضْرَة. أفاده في "الفتح".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاستثناء هنا منقطع بمعنى "لكن"، و"آكلة" مبتدأ محذوف الخبر، أي لكن آكلة الخضر تنتفع بأكلها، فإنها تأخذ الكلأ على الوجه الذي ينبغي. ويحتمل أن يكون متصلًا، والمستثنى منه محذوف، أي يقتل كلّ آكلة، إلا آكلة الخضر. وأما ما قاله بعضهم من أن الاستثناء مفرّغ في الإثبات، فضعيف؛ لأن الاستثناء المفرّغ لا يقع في الإثبات، إلا على رأي ضعيف. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(فَإِنَّهَا أَكَلَتْ، حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ) وفي نسخة: "إذا امتلأت"(خَاصِرَتَاهَا) تثنية خاصرة، بخاء معجمة، وصاد مهملة: وهما جانبا البطن، من الحيوان. وفي رواية الكشميهني:"خاصرتها" بالإفراد، والمعنى حتى إذا شبعت (اسْتَقْبَلَتْ) وفي رواية للبخاريّ:"أتت"(عَينَ الشَّمْسِ) تستمرىء بذلك. زاد في رواية البخاريّ: "فاجترّت"، ولمسلم: ثم اجترّت"، وهو بالجيم، أي استرفعت ما أدخلته في كرشها من العلف، فأعادت مَضْغَه.

(1)

- راجع "حاشية الخضري على ابن عقيل" في "باب الموصول" ج 1 ص 104.

(2)

- "شرح مسلم" للنوويّ ج 7 ص 143.

ص: 144

قال النوويّ: قال أهل اللغة: الجِرَّة بكسر الجيم: ما يُخرجه البعير من بطنه ليمضعه، ثمّ يبلعه، والقصع: شدّة المضغ انتهى.

(فَثَلَطَتْ) بمثلّثة، ولام مفتوحتين، ثم طاء. وضبطها ابن التين: بكسر اللام: أي ألقت ما في بطنها رقيقًا. وقال النوويّ: الثَّلْط

(1)

، وهو الرجيع الرقيق، وأكثر ما يقال للإبل، والبقر، والفيلة انتهى (ثُمَّ بَالَتْ، ثُمَّ رَتَعَتْ) يقال: رَتَعت الماشيةُ، من باب نفع، ورُتُوعًا: رَعَت كيف شاءت. قاله في "المصباح".

والمعنى أنها إذا شبعت، فثقل عليها ما أكلت، تحيّلت في دفعه، بأن تجترّ، فيزاد نُعُومةً، ثم تستقبل الشمس، فتحمى بها، فيسهل خروجه، فإذا خرج زال الانتفاخ، فسلمت، وهذا بخلاف من لم تتمكّن من ذلك، فإن الانتفاخ يقتلها سريعًا.

قال الأزهريّ -رحمه اللَّه تعالى-: وأما قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "وإن مما ينبت الربيع ما يَقتُلُ حَبَطًا، أو يُلمّ"، فإن أبا عُبيد فَسّر الْحَبَط، وترك من تفسير هذا الحديث أشياء، لا يستغني أهل العلم عن معرفتها، فذكرتُ الحديث على وجهه لأفسّر منه كلّ ما يُحتاج من تفسيره، ثمّ أورد الحديث بتمامه، ثم قال: وإنما تقصّيت رواية هذا الخبر؛ لأنه إذا بُتِرَ استَغْلَق معناه، وفيه مثلان: ضَرَب أحدَهما للْمُفْرِطِ في جمع الدنيا، مع منع ما جمَع من حقّه. والمثل الآخر ضربه للمقتصد في جمع المال، وبذله في حقّه.

فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حَبَطًا، فهو مثل الحريص، والمفرط في الجمع والمنع، وذلك أن الربيع يُنبت أحرار العُشْب التي تَحْلَوْلِيها

(2)

الماشيةُ فتستكثر منها، حتى تَنتَفِخ بطونها، وتَهْلِكَ، كذلك الذي يجمع الدنيا، ويَحْرِص عليها، ويَشِحّ على ما جمع حتى يمنع ذا الحقّ حقّه منها يَهلِكُ في الآخرة بدخول النار، واستيجاب العذاب.

وأما مثلُ المقتَصِدِ المحمود، فقوله صلى الله عليه وسلم:"إلا آكلة الْخَضِرِ، فإنها أكلت، حتى إذا امتلأ خَواصرها استقبلت عين الشمس، فثَلَطت، وبالت، ثم رتعت". وذلك أن الْخَضِرَ ليس من أحرار البقول التي تستكثر منها الماشيةُ، فتُهلكه أكلًا، ولكنّه من الْجَنْبَة

(3)

التي

(1)

- الثّلْطُ -بفتح، فسكون: رقيق سَلْح الفيل ونحوه. قاله في "القاموس".

(2)

- أي تجده حلوًا.

(3)

- الْجَنْبةُ: عامّة الشجر التي تتربّلُ في الصيف. قاله في "القاموس". ومعنى تربّل: أي تنبت.

ص: 145

تَرعاها بعد هَيْجِ العُشْب

(1)

، وُيبْسه. قال: وأكثر ما رأيت العرب يجعلون الْخَضِرَ ما كان أخضر من الْحَلِيّ

(2)

الذي لم يَصفرّ، والماشيةُ ترتع منه شيئًا، فشيئًا، ولا تستكثر منه، فلا تَحْبَط بطونها عنه، قال: وقد ذكره طَرَفَة، فبيّن أنه من نبات الصيف في قوله:

كَبَنَاتِ الْمَخْرِ يَمْأَدْنَ

(3)

إِذَا

أَنْبَتَ الصَّيْفُ عَسَالِيجَ

(4)

الْخَضِرْ

فالْخَضِر من كلأ الصيف في القَيْظِ، وليس من أحرار بُقول الربيع، والنَّعَمُ لا تَسْتَوبله

(5)

، ولا تحبط بُطونها عنه، قال: وبنات مَخْرٍ أيضًا، وهي سحائبُ يأتين قُبُلَ الصيف. قال: وأما الْخُضَارةُ، فهي من البقول الشِّتَويّة، وليست من الْجَنْبَة، فضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم آكلة الخضر مثلًا لمن يقتصد في أخذ الدنيا، وجَمْعِها، ولا يُسرف في قَمّها

(6)

والحرص عليها، وأنه ينجو من وَبَالها، كما نَجَت آكلة الْخَضِر، ألا تراه قال: فإنها إذا أصابت من الخضر، استقبلت عين الشمس، فثلطت، وبالت، وإذا ثلطت، فقد ذهب حَبَطُها، وإنما تَحْبَط الماشية إذا لم تَثلِطْ، ولم تَبُل، وأْتُطِمت

(7)

عليها بطونها. وقوله: "إلا آكلة الخضر" معناه لكن آكلة الخضر.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: إن هذا المال خَضِرَةٌ حُلْوَة" ههنا الناعمة الْغَضّة، وحَثَّ على إعطاء المسكين، واليتيم منه، مع حلاوته، ورغبة الناس فيه؛ ليقيه اللَّه تبارك وتعالى وَبَالَ نَعْمَتِها في دنياه وآخرته انتهى كلام الأزهريّ -رحمه اللَّه تعالى-

(8)

.

(وَإنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ) بفتح، فكسر: أي كبقلة خَضِرة في المنظر (حُلْوَةٌ) بضمّ، فسكون: أي كفاكهة حُلْوة في الذوق، فلكثرة ميل الطبع يأخذ الإنسان بكلّ وجه، فيؤدّيه ذلك إلى الوجه الذي لا ينبغي، فيهلك (وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ) وفي رواية البخاريّ:"فنعم المعونة هو" قال في "الفتح": هو كالتذييل للكلام المتقدِّم.

(إِنْ أَعْطَى مِنْهُ الْيَتِيمَ) أي بعد أن يأخذه بوجهه، وإلى هذا القيد أشار بذكر ما يقتضيه

(1)

-أي يبسه، فـ "يبسه" عطف تفسير له.

(2)

- الْحَلِيّ كغَنيّ: نبات بعينه، وهو من خير مراتع أهل البادية للنعم، والخيل، وإذا ظهرت ثمرته، أشبه الزرع، إذا أسبل. أفاده في "اللسان".

(3)

- مأد النبات، كمنع: اهتزّ، وتروّى، وجرى فيه الماء. "قاموس".

(4)

- جمع عُسْلُوج، قال في "القاموس": الْعُسْلُجُ، والْعُسْلُوج: ما لان، واخضرّ من الْقُضْبان. انتهى.

(5)

-أي لا تشتهيه.

(6)

-أي جمعها.

(7)

-بالبناء للمفعول: أي انتفخت بطونها.

(8)

- راجع "لسان العرب" في دادّة (حبط).

ص: 146

في المقابل، فلا بدّ في الخبر من أمرين: أحدهما: تحصيله بوجهه. والثاني: صرفه في مصارفه، وعند انتفاء أحدهما يصير ضررًا، وعلى هذا فقد ترك مقابل المذكور ههنا في قوله الآتي:"والذي يأخذه بغير حقّه الخ"، أي أو لا يستعمله بعد أخذه بحقّه في مصارفه، ففي الكلام الاحتباك

(1)

. وقد يقال: فيه الإشارة إلى الملازمة بين القيدين، فلا يُوَفّق المرء للصرف في المصارف، إلا إذا أخذه بوجهه. أفاده السنديّ

(2)

.

وفيه إشارة إلى عكسه، وهو: بئس صاحب المسلم هو لمن لم يعط اليتيم، والمسكين، وابن السبيل.

(وَالْمِسْكِينَ، وَابْنَ السَّبِيلِ، وَإِنَّ الَّذِي يَأْخُذُهُ) أي المال (بِغَيرِ حَقِّهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ، وَلَا يَشْبَعُ) هذا ذُكر في مقابَلة قوله: "ونعم صاحب المسلم هو"(وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي يشهد عليه بحرصه، واسرافه، وإنفاقه فيما لا يُرضي اللَّه عز وجل.

قال في "الفتح": يحتمل أن يشهد عليه حقيقة، بأن ينطقه اللَّه تعالى ويجوز أن يكون مجازًا، والمراد شهادة الملك الموكّل به انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني احتمالٌ ضعيف؛ لأنه لا داعي إلى المجاز مع إمكان الحقيقة، ومما يُبعده ما تقدّم في "باب مانع الزكاة" -20/ 2481 - من حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، مرفوعًا: "من آتاه اللَّه عز وجل مالًا، فلم يؤدّ زكاته، مُثل له ماله يوم القيامة شُجاعًا، أقرع، له زبيبتان، يأخذ بلِهْزمتيه، يوم القيامة، فيقول: أنا مالك، أنا كنزك

" الحديث. فإنه نَصٌّ في أن المال يكلّمه، ويوبّخه حقيقة، فدلّ على أن المراد بالشهادة هنا الشهادة الحقيقيّة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي سعيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

(1)

- الاحتباك نوع لطيف من أنواع البديع، وهو الحذف من الأول لدلالة ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول، كقوله تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} الآية [البقرة: 171] التقدير -واللَّه أعلم-: ومثل الأنبياء والكفار، كمثل الذي يَنعِق، والذي يُنعَق به، فحذف من الأول الأنبياء، لدلالة {الَّذِي يَنْعِقُ} عليه، ومن الثاني: الذي يُنعَق به، لدلالة {الَّذِينَ كَفَرُوا} عليه. أفاده في "كشّاف اصطلاحات الفنون" ج 1 ص 461.

(2)

- "شرح السنديّ" ج 5 ص 91 - 92.

ص: 147

أخرجه هنا 81/ 2581 - وفي "الكبرى" 83/ 2362. وأخرجه (خ) في "الجمعة" 922 و"الزكاة" 1465 و"الجهاد" 2842 و"الرقاق" 6427 (م) في "الزكاة" 1052 (ق) في "الفتن" 3995 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 10651 و 11455. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز الصدقة على اليتيم؛ إذ لم يفرّق في الإعطاء بين الواجب وغيره، فدلّ على أن اليتيم من مصارف الزكاة، لكن بشرط أن يكون فقيرًا، وإلا فلا يجوز دفع الزكاة إليه، للنصوص الدالة على أن الأغنياء ليسوا مصارف لها. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): جلوس الإمام على المنبر عند الموعظة في غير خطبة الجمعة، ونحوها (ومنها): جلوس الناس حول الإمام ليمكنهم السماع لموعظته (ومنها): التحذير من المنافسة في الدنيا (ومنها): استفهام العالم عمّا يُشكل، وطلب الدليل لدفع المعارضة (ومنها): تسمية المال خيرًا، ويؤيّده قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} ، وقوله تعالى:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} (ومنها): ضرب المثل بالحكمة، وإن وقع في اللفظ ذكر ما يُستهجن، كالبول والغائط، فإن ذلك يُغتفر لما يترتّب على ذكره من المعاني اللائقة بالمقام (ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي عند إرادة الجواب عما يُسأل عنه، وهذا على ما ظنّه الصحابة، ويحتمل أن يكون سكوته ليأتي بالعبارة الوجيزة الجامعة المفهمة. وقد عدّ ابن دُريد هذا الحديث، وهو قوله:"إن مما يُنبت الربيع يقتل حبطًا، أو يُلمّ" من الكلام المفرد الوجيز الذي لم يُسبق صلى الله عليه وسلم إلى معناه، وكلّ من وقع شيء منه في كلامه، فإنما أخذه منه. قاله في "الفتح" (ومنها): ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يلقاه من شدّة الوحي من العناء، حتى يتصبّب منه العرق، وقد ثبت في "الصحيحين" من حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها قالت:"أن الحارث بن هشام - رضي اللَّه تعالى عنه - سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه كيف يأتيك الوحي، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الْجَرَس، وهو أشدّه عليّ، فيُفْصَم عنّي، وقد وَعَيتُ منه ما قال، وأحيانًا يمثّل لي الملك رجلًا، فيكلّمني، فأعي ما يقول، قالت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيُفصَم عنه، وإن جبينه، ليتفصّد عَرَقًا" (ومنها): أنه يستفاد منه ترك الْعَجَلة في الجواب، إذا كان يحتاج إلى التأمّل (ومنها): لوم من ظُنّ به تعنّتٌ في السؤال، وحَمْدُ من أجاد فيه (ومنها): ما قيل: إن فيه تفضيلَ الغنيّ على الفقير. قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ولا حجة فيه لأنه لا يمكن

ص: 148

التمسّك به لمن لم يرجّح أحدهما على الآخر، والعجب أنّ النوويّ قال: فيه حجة لمن رجّح الغنيّ على الفقير، وكان قبل ذلك شرح قوله:"لا يأتي الخير إلا بالخير" على أن المراد أن الخير الحقيقيّ لا يأتي إلا بالخير، لكن هذه الزهرة ليست خيرًا حقيقيًّا؛ لما فيها من الفتنة، والمنافسة، والاشتغال عن كمال الإقبال على الآخرة. قال الحافظ: فعلى هذا يكون حجّة لمن يفضّل الفقر على الغنى، والتحقيق أن لا حجّة فيه لأحد القولين انتهى

(1)

.

(ومنها): الحضّ على إعطاء المسكين، واليتيم، وابن السبيل (ومنها): أن المكتسب للمال من غير حلّه لا يُبارَك له فيه؛ لتشبيهه بالذي يأكل، ولا يشبع (ومنها): ذمّ الإسراف، وكثرة الأكل، والنَّهَم فيه (ومنها): أن اكتساب المال من غير حلّه، وكذا إمساكه عن إخراج الحقّ منه سبب لمحقه، فيصير غير مبارك، كما قال تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} الآية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فيما قاله العلماء في بيان التمثيل الذي ورد في هذا الحديث: قال في "الفتح": يؤخذ من الحديث التمثيل لثلاثة أصناف؛ لأن الماشية إذا رَعَت الخَضِر للتغذية، إما أن تقتصر منه على الكفاية، وإما أن تستكثر، الأول الزهّاد، والثاني، إما أن يحتال على إخراج ما لو بقي لضرّ، فإذا أخرجه زال الضرّ، واستمرّ النفع، وإما أن يهُمل ذلك، الأول العاملون في جمع الدنيا بما يجب من إمساك وبذل، والثاني العاملون في ذلك بخلاف ذلك.

وقال الطيبيّ: يؤخذ منه أربعة أصناف: فمن أكل منه أَكْلَ مُستَلِذّ، مُفرِط، منهمك، حتى تنتفخ أضلاعه، ولا يُقلع، فيسرع إليه الهلاك. ومن أكل كذلك، لكنه أخذ في الاحتيال لدفع الداء بعد أن استحكم، فغلبه، فأهلكه. ومن أكل كذلك، لكنه بادر إلى إزالة ما يضره، وتحيّل في دفعه، حتى انهضم، فيسلم. ومن أكل غير مفرط، ولا منهمك، وإنما اقتصر على ما يسدّ جوعته، ويُمسك رَمَقَه.

فالأول: مثال الكافر، والثاني: مثال العاصي الغافل عن الإقلاع، والتوبة، إلا عند فواتها. والثالث: مثل للمخلّط المبادر للتوبة، حيث تكون مقبولة. والرابع: مثال الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة. وبعضها لم يُصرَّح به في الحديث، وأخذُهُ منه محتمل.

وقال الزين ابن الْمُنَيِّر -رحمه اللَّه تعالى-: في هذا الحديث وجوه من التشبيه بديعة:

(أولها): تشبيه المال، ونموّه بالنبات وظهوره. (ثانيها): تشبيه المنهمك في الاكتساب والأسباب، بالبهائم المنهمكة في الأعشاب (ثالثها): تشبيه الاستكثار منه، والادّخار به

(1)

- "فتح" ج 13 ص 27.

ص: 149

بالشَّرَه في الأكل، والامتلاء منه. (رابعها): تشبيه الخارج من المال مع عظمته في النفوس حتى أدّى إلى المبالغة في البخل به بما تطرحه البهيمة من السَّلْح، ففيه إشارة بديعة إلى استقذاره شرعًا. (خامسها): تشبيه المتقاعد عن جمعه، وضمّه بالشاة إذا استراحت، وحطّت جانبها، مستقبلة عين الشمس، فإنها من أحسن حالاتها سكونًا، وسكينةً، وفيه إشارة إلى إدراكها لمصالحها. (سادسها): تشبيه موت الجامع المانع بموت البهيمة الغافلة عن دفع ما يضرّها. (سابعها): تشبيه المال بالصاحب الذي لا يُؤمن أن ينقلب عدوًّا، فإن المال من شأنه أن يُحرَز، ويُشدّ وَثَاقه حبًّا له، وذلك يقتضي منعه من مستحقّه، فيكون سببًا لعقاب مقتنيه. (ثامنها): تشبيه آخذه بغير حقّ بالذي يأكل، ولا يشبع انتهى.

وقال الغزاليّ -رحمه اللَّه تعالى-: مثلُ المال مَثَلُ الحية التي فيها ترياقٌ نافعٌ، وسمّ ناقع، فإن أصابها العارف الذي يحترز عن شرّها، ويعرف استخراج ترياقها كان نعمة، وإن أصابها الغبي، فقد لقي البلاء المهلك انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌82 - (الصَّدّقَةُ عَلَى الأَقَارِبِ)

2582 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ الرَّائِحِ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِى الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَميُّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 48.

3 -

(ابن عون) هو عبد اللَّه، أبو عون البصري، ثقة ثبت فاضل عابد، [5] 29/ 33.

4 -

(حفصة) بنت سيرين، أم الهُذَيل الأنصارية البصرية، ثقة [3] 22/ 390.

5 -

(أم الرائح) الرَّبَاب -بفتح أوله، وتخفيف الموحّدة، آخره موحّدة- بنت صُلَيع - بمهملتين -مصغّرةً- الضّبّيّة البصريّة، مقبولة [3].

(1)

- راجع "الفتح" ج 13 ص 26 - 27.

ص: 150

رَوت عن عمّها سلمان بن عامر الضبّيّ في العقيقة، والفطر على التمر، والصدقة على ذي القرابة. وعنها حفصة بنت سيرين. ذكرها ابن حبّان في "الثقات".

علّق لها البخاريّ، وأخرج لها الباقون، إلا مسلمًا، ولها في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(سلمان بن عامر) بن أوس بن حجر بن عَمرو بن الحارث الضبّيّ. رَوى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعنه ابنة أخيه أم الرائح الرباب بنت صُليع بن عامر الضبيّ، ومحمد، وحفصة ابنا سيرين، وعبد العزيز بن بشر بن كعب. وسكن البصرة.

قال مسلم بن الحجاج: وليس في الصحابة ضبّيّ غيره. انتهى.

قال الحافظ: في الصحابة يزيد بن نَعَامة الضبيّ، قال البخاريّ له صحبة، وكُدَير الضبّيّ مختلف في صحبته، وحنظلة بن ضِرَار الضبّيّ، قال الدُّولابيّ: قُتل يوم الجمل، وهو ابن مائة سنة، ذكره ابن قانع في الصحابة في آخرين مذكورين في الكتب المصنّفة في الصحابة، فينظر في قول مسلم.

وذكر أبو إسحاق الصريفينيّ: توفي سلمان في خلافة عثمان. وفيه نظر، والصواب أنه تأخر إلى خلافة معاوية. انتهى كلام الحافظ.

أخرج له الجماعة، إلا مسلمًا، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث (4214) "في الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دمًا

" الحديث. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أنه مسلسل بالبصريين.

ومنها: أن رواته كلهم رواة الصحيح إلا أم الرائح، فقد علق لها البخاري، وأخرج لها أصحاب "السنن". ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعية عن تابعية. ومنها: أن صحابيه من المقلين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا حديثان فقط، حديث الباب عند أصحاب "السنن"، وحديث العقيقة عند جميعهم إلا مسلمًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَلْمَانَ بْن عَامِرٍ) الضبّيّ - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنِ) وفي نسخة: "أن"(النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ) وفي نسخة بحذف "إنّ"(عَلَى الْمِسْكِينِ) إطلاقه يشمل الفرض، والنفل، فيدلّ على جواز أداء الزكاة إلى ذي القرابة مطلقًا. قال العلاّمة الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قد استُدلّ بالحديث على جواز صرف الزكاة إلى الأقارب، سواءٌ كان ممن تلزمهم النفقة، أم لا؟؛ لأن الصدقة المذكورة فيه لم تقيّد بصدقة

ص: 151

التطوّع، ولكنه قد تقدّم عن ابن المنذر أنه حكى الإجماع على عدم جواز صرف الزكاة إلى الأولاد انتهى

(1)

. وسيأتي تمام البحث فيه في المسائل الآتية في الحديث الثاني، إن شاء اللَّه تعالى.

(صَدَقَةٌ) أي فيه أجر صدقة واحدة (وَعَلَى ذِي الرَّحمِ) أي ذي القرابة (اثْنَتَانِ) أي والصدقة على ذي القرابة صدقتان، يعني أن فيها أجر صدقتين (صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ) بدل من "اثنتان"، أي أجر صدقة، وأجر صلة رحم، وفيه الحثّ على التصدّق على ذوي الأرحام، والاهتمام بهم، وأن التصدق عليهم أفضل من التصدّق على غيرهم؛ لأنه خيران، ولا شكّ أنهما أفضل من خير واحد. قيل: هذا غالبيّ، وقد يقتضي الحال العكس، بأن يكون غير القريب أشدّ حاجة، وتضرّرًا من القريب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سلمان بن عامر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه أم الرائح، مقبولة تحتاج إلى متابع؟.

[قلت]: إنما صح بشواهده، فقد يشهد له حديث زينب الذي بعده، وهو متّفق عليه، وغيره. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -83/ 2582 - وفي "الكبرى" 84 م 2363. وأخرجه (ق) في "الزكاة" 1844 (أحمد) في "مسند المدنيين" 15794 و 27544 و 1716 (الدارميّ) في "الزكاة" 1680. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم

الوكيل.

2583 -

(أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ

(2)

، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ زَيْنَبَ، امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلنِّسَاءِ: «تَصَدَّقْنَ، وَلَوْ مِنَ حُلِيِّكُنَّ» ، قَالَتْ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ، خَفِيفَ ذَاتِ الْيَدِ، فَقَالَتْ لَهُ: أَيَسَعُنِي أَنْ أَضَعَ صَدَقَتِي فِيكَ، وَفِي بَنِي أَخٍ لِي، يَتَامَى؟ ، فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ سَلِى عَنْ ذَلِكَ، رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا عَلَى بَابِهِ، امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، يُقَالُ

(1)

- "نيل الأوطار" ج 2 ص 191.

(2)

- زاد في "الكبرى": "العسكريّ، كتبت عنه بالبصرة، قال

".

ص: 152

لَهَا: زَيْنَبُ، تَسْأَلُ عَمَّا أَسْأَلُ عَنْهُ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا بِلَالٌ، فَقُلْنَا لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَلْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا تُخْبِرْهُ مَنْ نَحْنُ؟ ، فَانْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«مَنْ هُمَا؟» ، قَالَ: زَيْنَبُ، قَالَ:«أَيُّ الزَّيَانِبِ؟» ، قَالَ: زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ، وَزَيْنَبُ الأَنْصَارِيَّةُ، قَالَ:«نَعَمْ، لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ» ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(بشر بن خالد) العسكري، أبو محمد البصري، ثقة يُغْرِبُ [10] 26/ 812.

2 -

(غندر) محمد بن جعفر، أبو عبد اللَّه البصري، ثقة صحيح الكتاب [9] 21/ 22.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.

4 -

(سليمان) بن مهران الأعمش الكوفي ثقة فقيه حافظ، يدلس [5] 17/ 18.

5 -

(أبو وائل) شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي ثقة مخضرم [2] 2/ 2.

6 -

(عمرو بن الحارث) بن أبي ضِرَار -بكسر المعجمة- ابن حبيب بن عائذ بن مالك بن جذيمة -وهو المصطلق- بن سعد بن كعب بن عمرو -وهو خزاعة- الخزاعيّ المصطلقيّ، أخو جويرية، أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنهما -، صحابيّ قليل الحديث.

روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه الحارث، وله صحبة، وعن ابن مسعود، وزينب امراة ابن مسعود، وقيل: عن ابن أخيها، عنها. وعنه مولاه دينار، وأبو عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود، وأبو إسحاق السبيعيّ، وأبو وائل، وزياد بن الجعد. قال ابن أبي داود: كان الحارث بن أبي ضِرَار، صهر عبد اللَّه بن مسعود. ورجّح ابن القطّان أن عمرو بن الحارث الراوي عن زينب غير صاحب الترجمة؛ لأن في كثير من الروايات، عن عمرو ابن الحارث ابن أخي زينب، وزينب ثقفيّة، فيكون ثقفيًّا، قال: اللَّهم إلا أن يكون ابن أخيها لأمّ، أو للرضاعة، فاللَّه أعلم.

روى له الجماعة وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث 3594 وأعاده برقم 3595 و 3596 ..

7 -

(زينب) بنت معاوية. وقيل: بنت أبي معاوية. وقيل: بنت عبد اللَّه بن معاوية بن عتاب ابن الأسعد بن غاضرة بن خُطَيط بن قسيّ -وهو ثقيف- وقيل: اسمها رائطة.

روت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن زوجها عبد اللَّه بن مسعود، وعمر بن الخطّاب. وعنها ابنها أبو عبيدة، وابن أخيها، ولم يُسمّ، وعمرو بن الحارث بن أبي ضِرَار، وغيرهم.

ص: 153

روى لها الجماعة وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث "إذا شهدت إحداكن صلاة العشاء فلا تمس طيبًا" كرره تسع مرات. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

ومنها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن رجاله كلهم رجال الصحيح. ومنها: أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وسليمان وأبو وائل كوفيان، والباقيان مدنيان. ومنها: أن فيه رواية صحابي عن صحابية، وتابعي عن تابعي مخضرم. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عمرو بن الحارث) بن أبي ضِرَر الخزاعيّ رضي الله عنه.

قال في "الفتح": ووقع عند الترمذيّ عن هَنّاد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن الحارث بن المصطلق، عن ابن أخي زينب، امرأة عبد اللَّه، عن امرأة عبد اللَّه، فزاد في الإسناد رجلًا، والموصوف بكونه ابن أخي زينب هو عمرو ابن الحارث نفسه، وكأنّ أباه كان أخا زينب لأمها؛ لأنها ثقفيّة، وهو خزاعيّ. ووقع عند الترمذيّ أيضًا، من طريق شعبة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه بن عمرو بن الحارث ابن أخي زينب امرأة عبد اللَّه، عن زينب، فجعله عبد اللَّه بن عمرو، هكذا جزم به المزّيّ، وعقد لعبد اللَّه بن عمرو في "الأطراف" ترجمة لم يزد فيها على ما في هذا الحديث، قال الحافظ: ولم أقف على ذلك في الترمذيّ، بل وقفت على عدّة نسخ منه ليس فيها إلا عمرو بن الحارث.

وقد حكى ابن القطّان الخلافَ فيه على أبي معاوية، وشعبة، وخالف الترمذيّ في ترجيح رواية شعبة في قوله:"عن عمرو بن الحارث، عن ابن أخي زينب"؛ لانفراد أبي معاوية بذلك. قال ابن القطّان: لا يضرّه الانفراد؛ لأنه حافظٌ، وقد وافقه حفص بن غياث في رواية عنه، وقد زاد في الإسناد رجلًا، لكن يلزم من ذلك أن يتوقّف في صحّة الإسناد؛ لأن ابن أخي زينب حينئذ لا يُعرف حاله.

وقد حكى الترمذيّ في العلل المفرد أنه سأل البخاريّ عنه، فحكم على رواية أبي معاوية بالوهم، وأنّ الصواب رواية الجماعة، عن الأعمش، عن شقيق، عن عمرو بن الحارث ابن أخي زينب. قال الحافظ: ووافقه منصور، عن شقيق، أخرجه أحمد، فإن كان محفوظًا، فلعلّ أبا وائل حمله عن الأب، والابن، وإلا فالمحفوظ عن عمرو بن الحارث، وقد أخرجه النسائيّ، من طريق شعبة على الصواب، فقال: "عن عمرو بن

ص: 154

الحارث" انتهى

(1)

.

(عَنْ زَيْنَبَ، امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ) هي زينب بنت معاوية، ويقال لها: رائطة، كما تقدّم، لكن قال في "تهذيب التهذيب" ج 4 ص 675: فرّق أبو سعيد، وابن حبّان، والعسكريّ، وابن منده، وأبو نُعيم، وغير واحد بين زينب، ورائطة امرأتي ابن مسعود انتهى.

وقال في "الفتح": ويقال لها: أيضًا رائطة، وقع ذلك في "صحيح ابن حبّان" في نحو هذه القصّة، ويقال: هما اثنان عند الأكثرين، وممن جزم به ابن سعد، وقال الكلاباذيّ: رائطة هي المعروفة بزينب، وبهذا جزم الطحاويّ، فقال رائطة هي زينب، لا يعلم أن لعبد اللَّه امرأة في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غيرها.

[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ هنا عن عمر بن حفص، عن أبيه، عن الأعمش: ما نصّه: قال: فذكرته لإبراهيم، فحدّثني إبراهيم، عن أبي عُبيدة، عن عمرو بن الحارث، عن زينب امرأة عبد اللَّه بمثله سواءً. انتهى.

فقال في "الفتح": القائل: "فذكرته الخ" هو الأعمش، وإبراهيم هو ابن يزيد النخعيّ، وأبو عُبيدة هو ابن عبد اللَّه بن مسعود، ففي الطريق ثلاثة من التابعين، ورجال الطريقين كلهم كوفيّون انتهى

(2)

.

(قَالَتٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لِلنِّسَاءِ: "تَصَدَّقْنَ") ولفظ البخاريّ: "قال: كنت في المسجد، فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "تصدَّقنَ، ولو من حليّكنّ". وللمصنّف في "عِشْرة النساء" من طريق أبي معاوية، عن الأعمش: قالت: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا معشر النساء، تصدّقن، ولو من حُليّكنّ، فإن أكثركنّ أهلُ جهنّم يوم القيامة".

(وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ) بضمّ الحاء المهملة، وكسر اللام، وتشديد الياء جمعًا، ويجوز فتح الحاء، وسكون اللام مفردًا (قَالَتْ: وَكَانَ عَبدُ اللَّهِ) أي ابن مسعود زوجها - رضي اللَّه تعالى عنهما - (خَفِيفَ ذَاتِ الْيَدِ) كناية عن الفقر، وقلّة المال (فَقَالَتْ لَهُ) فيه التفات؛ إذ الظاهر أن تقول:"فقلت له". وفي "عشرة النساء": "فقلت له"(أَيَسَعُني أَنْ أَضَعَ صَدَقَتي فِيكَ، وَفِي بَنِي أَخٍ لِي، يَتَامَى؟) جمع يتيم، وفي نسخة:"أيتام". وهو صفة لـ"بني"، أو حالٌ منه. قال الحافظ: لم أقف على تسمية الأيتام الذين كانوا في حجرها.

ولفظ البخاريٌ: "وكانت زينب تنفق على عبد اللَّه، وأيتام في حجرها، فقالت لعبد اللَّه: سل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أيجزيء عنّي أن أنفق عليك، وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟ فقال: سلي أنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

". ولفظ مسلم: قالت: فرجعت إلى

(1)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 89 - 90.

(2)

- "فتح" ج 4 ص 90.

ص: 155

عبد اللَّه، فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أَمَرَنا بالصدقة، فأته فاسأله، فإن كان ذلك يُجزىء عني، وإلا صرفتها إلى غيركم، فقال لي عبد اللَّه: بل ائته أنت

".

(فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ: سَلِي عَنْ ذَلِكَ، رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وسبب امتناعه عن السؤال ما بُيِّنَ في رواية المصنّف في "عشرة النساء"، ولفظه: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قد أُلقيت عليه المهابة". فكما أن زينب هابت أن تسأله فكذلك عبد اللَّه هاب أن يسأله. وقيل: لعلّ امتناعه لأن سؤاله يُنبىء عن الطمع. والأول أظهر. واللَّه تعالى أعلم (قَالَتٌ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا عَلَى بَابهِ، امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ)"إذا" هنا هي الفُجَائيّة، أي ففاجأني وجود امرأة من الأنصار علىَ بابه صلى الله عليه وسلم (يُقَالُ لَهَا: زَيْنَبُ) هي امرأة أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاريّ البدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه -. ففي رواية المصنّف في "عشرة النساء" من طريق علقمة، عن عبد اللَّه، قال: انطلقت امرأة عبد اللَّه، وامرأة أبي

(1)

مسعود إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كلّ واحدة تكتم صاحبتها أمرها

قال الحافظ: لم يذكر ابن سعد لأبي مسعود امرأة أنصاريّةً سوى هزيلة بنت ثابت بن ثعلبة الخزرجيّة، فلعلّ لها اسمين، أو وهم سمّاها زينب، انتقالًا من اسم امرأة عبد اللَّه إلى اسمها انتهى.

(تَسْألُ عَمَّا أَسْاَلُ عَنْهُ، فَخَرَجَ إِلَينَا بِلَالٌ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (فَقُلْنَا لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَلْهُ عَنْ ذَلِكَ) وفي رواية علقمة المذكورة: "فقالتا لبلال: ايت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقل: امرأتان لإحداهما فضلُ مال، وفي حجرها بنو أخ لها أيتام، فقالت الأخرى: إن لي فضل مال، ولي زوجٌ خفيف ذات اليد"

(وَلَا تُخْبِرْهُ)"لا" ناهية، ولذا جُزم الفعل بعدها (مَنْ نَحْنُ؟) أي لا تعيّن اسمنا، بل قل: تسأل امرأتان، إرادة الإخفاء، مبالغة في نفي الرياء، أو رعاية للأفضل، وهذا أيضًا يصلح أن يكون وجهًا لعدم دخولهما. وقيل: المعنى: لا تخبره، أي بلا سؤال، وإلا فعند السؤال يجب الإخبار، فلا يمكن المنع عنه، ولذلك أخبر بلال بعد السؤال (فَانْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية:"فدخل، فسأله"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَنْ هُمَا؟) أي من السائلتان؟. (قَالَ) بلال - رضي اللَّه تعالى عنه - مخبرًا عنهما، ومعينًا لهما لوجوبه عليه بطلب الرسول صلى الله عليه وسلم، واستخباره (زَيْنَبُ) أي اسم كلّ واحدة منهما زينب (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَيُّ الزَّيَانِبِ؟) وإنما لم يقل أيّة بالتأنيث؛ لأنه يجوز التذكير والتأنيث، كما قال اللَّه تعالى:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34](قَالَ) بلال (زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود (وَزَيْنَبُ الْأَنْصَارِيَّةُ) التي هي امرأة أبي مسعود.

(1)

- في نسخة "الكبرى""امرأة ابن مسعود"، والصحيح أبي مسعود، كما في "الفتح" ج 4 ص 90.

ص: 156

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ليس إخبار بلال - رضي اللَّه تعالى عنه - بالسائلتين اللتين استكتمتاه مَنْ هما بكشف أمانة سرّ؛ لوجهين:

[أحدهما]: أن بلالًا فَهِمَ أن ذلك ليس على الإلزام، وإنما كان ذلك منهما على أنهما رأتا أنه لا ضرورة تُحوِج إلى ذلك.

[الثاني]: أنه إنما أخبر بهما جوابًا لسؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرأى أنّ إجابة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أهمّ، وأوجب من كتمان ما أمرتاه به. وهذا كلّه بناء على أنهما أمرتاه به. ويحتمل أن يكون سؤالًا للإسراع، ولا يجب إسعاف كلّ سؤال انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (نَعَمْ) يجزئ عنهما (لَهُمَا) أي لكلّ واحدة منهما (أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ) أي أجر صلة الرحم (وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ) أي أجر منفعة الصدقة، وهذا ظاهره أنها لم تشافهه بالسؤال، ولا شافهها بالجواب، وحديث أبي سعيد الذي أخرجه الشيخان، وغيرهما، وتقدّم للمصنف برقم -1576 -

(2)

يدلّ أنها شافهته، وشافهها؛ لقولها فيه:"يا نبيّ اللَّه إنك أمرت"، وقوله فيه:"صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحقّ". فيحتمل أن يكونا قصّتين. ويحتمل أن يقال: تُحمَل هذه المراجعة على المجاز، وإنما كانت على لسان بلال. قاله في "الفتح".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن الاحتمال الأول هو الأرجح، ومما يرجّحه، اختلاف سياق القصّتين، ففي حديث الباب أن السؤال عن أيتام هم بنو أخيها، لا عن ولدها، وفي حديث أبي سعيد أن الولد لها من ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى - عنهما، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- "المفهم" ج 3 ص 46.

(2)

- هو ما أخرجه الشيخان، وغيرهما، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، في أضحى، أو فطر، إلى المصلى، ثم انصرف، فوعظ الناس، وأمرهم بالصدقة، فقال:"أيها الناس تصدقوا"، فمر على النساء، فقال:"يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار"، فقلن: وبم ذلك يا رسول اللَّه؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم، من إحداكن يا معشر النساء"، ثم انصرف، فلما صار إلى منزله، جاءت زينب امرأة ابن مسعود، تستأذن عليه، فقيل: يا رسول اللَّه هذه زينب، فقال:"أي الزيانب؟ "، فقيل: امرأة ابن مسعود، قال:"نعم ائذنوا لها"، فأُذِن لها، قالت: يا نبي اللَّه، إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حلي لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود، أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"صدق ابن مسعود، زوجك وولدك، أحق من تصدقت به عليهم".

ص: 157

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث زينب امرأة ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-82/ 2583 - وفي "الكبرى" 83/ 23364 وفي "عشرة النساء" 87/ 9200 و 9201 و 9202 و 9203. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1466 (م) في "الزكاة" 1000 (ت) في "الزكاة" 635 (ق) في "الزكاة" 1834 (أحمد) في "مسند المكيين" 15652 و"باقي مسند الأنصار" 26508 (الدارمي) في الزكاة 1654. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز صرف الصدقة على الأقارب، وفيه اختلاف بين العلماء سنحققه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): الحثّ على الصدقة على الأقارب (ومنها): الحثّ على صلة الرحم (ومنها): جواز تبرّع المرأة بمالها بغير إذن زوجها (ومنها): مشروعيّة عظة الإمام النساء (ومنها): ترغيب وليّ الأمر في أفعال الخير للرجال والنساء (ومنها): جواز تحدّث الرجل مع النساء الأجانب عند أمن الفتنة (ومنها): التخويف من المؤاخذة بالذنوب، وما يُتوقّع بسببها من العذاب، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يا معشر النساء تصدّقن، فإني رأيتكنّ أكثر أهل النار"(ومنها): جواز فُتيا العالم مع وجود من هو أعلم منه، حيث أفتى ابن مسعود بجواز صرف صدقة امرأته له، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"صدق ابن مسعود"، كما في حديث أبي سعيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - (ومنها): طلب الترقّي في تحمّل العلم، حيث ذهبت زينب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد أن أفتاها زوجها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في جواز في دفع الزكاة إلى الأقارب:

قال الإمام ابن قدامة نقلًا عن ابن المنذر -رحمهما اللَّه تعالى-: أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا يجوز دفعها إلى الوالدين في الحال التي يُجبر الدافع إليهم على النفقة عليهم؛ لأن دفع زكاته إليهم تُغنيهم عن نفقته، وتُسقطها عنه، ويعود نفعها إليه، فكأنه دفعها إلى نفسه، فلم تجز، كما لو قضى بها دينه.

قال: ونصّ أحمد، فقال: لا يعطي الوالدين من الزكاة، ولا الولد، ولا ولد الولد، ولا الجدّ، ولا الجدّة، ولا ولد البنت.

ص: 158

قال: وأما سائر الأقارب، فمن لا يُوَرَّثُ منهم يجوز دفع الزكاة إليه، سواء كان انتفاء الإرث لانتفاء سببه، لكونه بعيد القرابة، أو لمانع، مثل الأخ المحجوب بالابن، فيجوز دفع الزكاة إليه؛ لأنه لا قرابة جزئيّة بينهما، ولا ميراث، فأشبها الأجانب، وإن كان بينهما ميراث، كالأخوين الذين يرث أحدهما الآخر، ففيه روايتان عن أحمد:

[إحداهما]: يجوز دفع زكاته إلى الآخر، وهي الظاهرة عنه، رواها عنه جماعة، فقد سئل: أيُعطِي الأخ، والأختَ، والخالة من الزكاة؟ قال: يعطي كلَّ القرابة إلا الأبوين والولد. وهذا قول أكثر أهل العلم. قال أبو عبيد: هو القول عندي؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الصدقة على المسكين صدقةٌ، وهي لذي الرحم اثنان، صدقة وصلة". فلم يشترط نافلة، ولا فريضة، ولم يفرّق بين الوارث وغيره.

[الرواية الثانية]: لا يجوز دفعها إلى الْمُوّرَّثِ؛ لأنه يلزمه مؤنته، فيغنيه بزكاته عن مؤنته، ويعود نفع زكاته إليهم، فلم يجز، كدفعها إلى والده، أو قضاء دينه بها. والحديث يحتمل صدقة التطوّع، فيُحمل عليها. انتهى مختصركلام ابن قدامة بتصرف

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي القول الراجح هو الأول، كما اختاره أبو عبيد، واحتجّ له بإطلاق حديث:"الصدقة على المسكين الخ"، وكذلك إطلاق حديث زينب المذكور في الباب، فإن ترك الاستفصال ينزّل منزل العموم، كما هو مبيّن في محلّه.

والحاصل أن الحقّ جواز دفع الزكاة لعموم الأقارب، فإن صحّ الإجماع على أنه لا يجوز دفعها للوالدين -كما ادعاه ابن المنذر- قلنا به، وإلا فهما داخلان في عموم النصوص أيضًا.

قال العلامة الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ويؤيّد الجواز، والإجزاء الحديث الذي تقدّم عند البخاريّ، بلفظ:"زوجك، وولدك أحقّ من تصدّقت عليهم". وترك الاستفصال في مقام الاحتمال، ينزّل منزلة العموم في المقال. ثم الأصل عدم المانع، فمن زعم أن القرابة، أو وجوب النفقة مانعان، فعليه الدليل، ولا دليل انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-، هو عين التحقيق الحقيق بالقبول، المؤيَّد بأدلّة النقول. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

- راجع "المغني" ج 4 ص 98 - 100.

(2)

- "نيل الأوطار" ج 4 ص 192 طبعة دار الكتب، تحقيق محمد سالم هاشم.

ص: 159

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في جواز دفع زكاة أحد الزوجين إلى الآخر: قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: أجمعوا على أنّ الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة شيئًا؛ لأن نفقتها واجبةٌ عليه.

قال الصنعاني: وعندي فيه توقّف؛ لأن غنى المرأة بوجوب النفقة على زوجها، لا يصيّرها غنيّةً، الغِنَى الذي يمنع من حلّ الزكاة لها انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الصنعانيّ متّجهٌ؛ إذ التعليل بوجوب نفقتها على الزوج، لا يوجب امتناع الصرف إليها؛ لأن نفقتها واجبة عليه، غنيّةً كانت، أو فقيرة، فالصرف إليها لا يسقط عنه شيئًا

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

وأما دفع الزوجة زكاتها إلى زوجها، فذهب الشافعيّ، والثوريّ، وابن المنذر

(2)

، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وإحدى الروايتين عن مالك، وأحمد

(3)

إلى جوازه.

وحجّتهم حديثُ زينب المذكور في الباب، ووجه الاحتجاج به أنها سألته عن الصدقة على زوجها، وعلى الأيتام في حجرها، فأجابها بأن لها أجرَ الصلة، وأجر الصدقة، ولم يستفسر، هل هي صدقة واجبة، أم تطوّعٌ؟، وترك الاستفصال في حكايته الحال ينزّل منزلة العموم في المقال.

وذهب أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في رواية إلى منعه. واحتجّوا بأنها تنتفع بدفعها إليه؛ لأنه إن كان عاجزًا عن الإنفاق عليها تمكّن بأخذ الزكاة من الإنفاق فيلزمه، وإن لم يكن عاجزًا، ولكنه أيسر بها، لزمه نفقة الموسرين، فتنتفع بها في الحالين.

ورُدَّ هذا بأنه يلزم منه منع دفعها له صدقة التطوّع أيضًا؛ للعلّة المذكورة؛ مع أنه يجوز دفعها إليه اتفاقًا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أنّ المذهب الأول هو الأرجح؛ لأمرين: (الأول): أن الزوج داخل في الأصناف المنصوص عليهم في مصارف الزكاة؛ لأنه فقير. (الثاني): أنه ليس في المنع نصّ، ولا إجماعٌ، ولا قياس صحيح.

قال العلاّمة الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: الظاهر أنه يجوز صرف زكاتها إليه:

(أما أوّلًا): فلعدم المانع من ذلك، ومن قال: إنه لا يجوز فعليه الدليل. (وأما ثانيًا): فلأن ترك استفصاله صلى الله عليه وسلم لها ينزّل منزلة العموم، فلما لم يستفصلها عن الصدقة،

(1)

- انظر "نيل الأوطار" ج 4 ص 191.

(2)

- راجع "المغني" لابن قدامة ج 4 ص 101.

(3)

- قال في "الفتح" ج 4 ص 90: كذا أطلق بعضهم، ورواية المنع عنه مقيدة بالوارث، وعبارة الخرقيّ: ولا لمن تلزمه مؤونته، فشرحه ابن قدامة بما قيدته، قال: والأظهر الجواز مطلقًا إلا للأبوين والولد. انتهى.

ص: 160

هل هي تطوّع، أم واجبٌ، فكأنه قال: يجزي عنك فرضًا كان، أو تطوّعًا انتهى

(1)

وهو بحث نفيس جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌83 - (الْمَسْأَلَةُ)

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على ذمّ سؤال الناس أموالهم.

2584 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ، مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لأَنْ يَحْتَزِمَ أَحَدُكُمْ، حُزْمَةَ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلاً، فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أبو داود) سليمان بن سيف الحرّاني، ثقة حافظ [11] 103/ 136.

2 -

(يعقوب بن إبراهيم) بن سعد الزهري، أبو يوسف المدني نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار [9] 196/ 314.

3 -

(أبوه) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو إسحاق المدني، نزيل بغداد، ثقة حجه [8] 196/ 314.

4 -

(صالح) بن كيسان، أبو محمد الغفاري المدني، ثقة ثبت فقيه [4] 196/ 314.

5 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

6 -

(أبو عبيد مولى عبد الرحمن بن أزهر) هو سعد بن عبيد الزهري مولاهم المدني، ثقة [2] 1/ 1819.

7 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه -1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين.

غير شيخه فحرّاني. ومنها: أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: صالح عن الزهريّ عن أبي عبيد، وكلهم مدنيون. ومنها: أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين من الرواية، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- راجع "نيل الأوطار" ج 4 ص 195 طبعة دار الكتب العلمية. تحقيق محمد سالم هاشم.

ص: 161

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم (أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ) سَعْدَ بن عُبيد (مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ) ويقال له: مولى عبد الرحمن بن عوت (أَخْبَرَهُ) أي أخبر ابنَ شهاب (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَأَنْ يَحْتَزِمَ أَحَدُكُمْ) بفتح اللام، قال الكرمانيّ: هي إما ابتدائيّة، أو جواب قسمِ محذوف انتهى. و"يحتزم": أي يشدّ بالحبل، يقال: حَزَمتُ الدّابّةَ حَزْمًا، من باب ضرب: شددتها بالْحِزَام. قاله في "المصباح". واحتزم الرجلُ، وتحزم بمعنًى، وذلك إذا شد وسطه بحبل. أفاده في "اللسان" (حُزْمَةَ حَطَبٍ) بالنصب مفعول "يحتزم". وفي نسخة:"بحزمة حطب" بزيادة الباء. و"الْحُزْمة" بضمّ، فسكون، وجمعه حُزَم، كغرفة، وغُرَف، ما يشدّ به الشيء. و"الحطب" بفتح المهملتين: ما أُعدّ من الشجر شَبُوبًا -أي وَقُودًا- للنار. قاله في "اللسان"(عَلَى ظَهْرِهِ) ولفظ "الكبرى": "فيحملها على ظهره"، فالجارّ والمجرور هنا يتعلق بـ "يحملها" مقدّرًا (فَيَبِيعَهَا) بالنصب عطفًا على "يحتزم" (خَيْرٌ) خبر قوله:"أن يحتزم"؛ لأنه في تأويل المصدر مبتدأ، أي احتزامُه خيرٌ له.

وقال في "الفتح": ليست "خير" هنا بمعنى أفعل التفضيل؛ إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب، والأصحّ عند الشافعيّة أن سؤال مَن هذا حاله حرام. ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب اعتقاد السائل، وتسميتِهِ الذي يُعطاه خيرًا، وهو في الحقيقة شرّ انتهى

(1)

.

وقال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: [فإن قلت]: لا خير في السؤال، فما وجه هذا الترجيح؟.

[قلت]: يحتمل وجهين:

[أحدهما]: أن ذلك حيث اضطرّ إلى السؤال بحيث لا يصير فيه ذمّ أصلًا، فتَرْكُه مع ذلك خير من فعله، وفي هذا الجواب نظرٌ؛ لأن من أمكنه الاحتطاب لم يضطرّ إلى السؤال.

[ثانيهما]: أن هذه الصيغة، وهي "خيرٌ" قد تستعمل في غير الترجيح، كما في قوله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} الآية انتهى

(2)

.

وقال السنديّ في شرحه: "الكلام من قبيل: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ، والمراد أن ما يلحق الإنسان بالاحتزام من التعب الدنيويّ خيرٌ له مما يلحقه بالسؤال من التعب الأخرويّ، فعند الحاجة ينبغي أن يختار الأول، ويترك الثاني انتهى

(3)

. وقال في حاشية

(1)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 98.

(2)

- "طرح التثريب" ج 4 ص 83 - 84.

(3)

- "شرح السنديّ" ج 5 ص 94.

ص: 162

مسلم: قوله: "خير له الخ". أي لو فُرض في السؤال خيريّة لكان هذا خيرًا منه، وإلا فمعلومٌ أنه لا خيريّة في السؤال انتهى

(1)

.

(مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا) أي من سؤاله رجلًا، والمراد بالرجل الشخص، فسؤال المرأة مثل سؤال الرجل (فَيُعْطِيَهُ) بالنصب عطفًا على ما قبله، أي فيعطيه ذلك الرجل مسؤوله، فيُحَمّله ثقل المنّة، ومذلّة المسألة ("أَوْ يَمْنَعَهُ") بالنصب أيضًا: أي يمعنه مسؤوله، فيكتسب الذلّ والهوان، والخيبة، والحرمان. يعني أن الإعطاء، والمنع سيّان في كون الاحتزام خيرًا له. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -83/ 2584 و 2589 - وفي "الكبرى" 85/ 2365. (خ) في "الزكاة" 1470 (م) في "الزكاة" 1042 (ت) في "الزكاة" 680 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7275 و 7439 و 7927 و 8889 و 9140 و 9558 و 9792 و 9796 و 10060 (الموطأ) 1883 - واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ذمّ السؤال، وأنه من أقبح الخصال، ولولا قبحه في نظر الشرع لم يفضل عليه امتهان المرء نفسه في طلب الرزق، وذلك لما يدخل على السائل من ذلّ السؤال، ومن ذلّ الردّ، إذا لم يُعط، ولِمَا يدخل على المسؤول من الضيق في ماله، إن أَعطَى كلّ سائل (ومنها): جواز الحلف لتقوية الأمر، وتأكيده

(2)

(ومنها): الحثّ على طلب الرزق، وارتكاب المشقّة في ذلك، ولو أدّى ذلك إلى امتهان المرء نفسه (ومنها): ترجيح الاكتساب على السؤال، ولو كان بعمل شاقّ كالاحتطاب، ولو لم يَقدِر على بهيمة يحمل الحطب عليها، بل حمله على ظهره. وذكر ابن عبد البرّ، عن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: مكسبة فيها بعض الدناءة خيرٌ من مسألة الناس.

(ومنها): الحضّ على التعفّف عن المسألة، والتنزّه عنها.

(1)

- نقله في "المرعاة" ج 6 ص 257.

(2)

- هذا على جعل اللام لام قسم، وقد تقدم أنها تحتمل أن تكون ابتدائيّة.

ص: 163

قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: وما زال ذوو الهمم والأخطار من الرجال، يتنزّهون عن السؤال، ولقد أحسن أبو الفضل أحمد بن المعذل بن غيلان العبديّ الفقيه المالكي حيث يقول:

الْتَمِسِ الأَرْزَاقَ عِنْدَ الَّذِي

مَا دُونَهُ إِنْ سِيلَ مِنْ حَاجِبِ

مَنْ يُبْغِضُ التَّارِكَ عَنْ سُؤْلِهِ

جُودًا وَمَنْ يَرْضَى عَنِ الطَّالِبِ

وَمَنْ إِذَا قَالَ: جَرَى قَوْلُهُ

بِغَيرِ تَوْقِيعٍ إِلَى كَاتِبِ

ومن أحسن ما قيل نظمًا في الرضى والقناعة، وذم السؤال قولُ بعض الأعراب [من الطويل]:

عَلَامَ سُؤَالُ النَّاسِ وَالرِّزْقُ وَاسِعُ

وَأَنْتَ صَحِيحٌ لَمْ تَخُنْكَ الأَصَابِعُ

وَلِلْعَيشِ أَوْكَارٌ وَفِي الأَرْضِ مَذهَبُ

عَرِيضٌ وَبَابُ الرزْقِ فِي الأَرْضِ وَاسِعُ

فَكُنْ طَالِبًا لِلرِّزْقِ مِنْ رَازِقِ الغِنَى

وَخَلِّ سُؤَالَ النَّاسِ فَاللهُ صَانِعُ

وقال مسلم بن الوليد [من الطويل أيضًا]:

أَقُولُ لِمَأْفُونِ

(1)

الْبَدِيَهةِ طَائِرٍ

مَعَ الْحِرْصِ لَمْ يَغْنَنم وَلَمْ يَتَمَوَّلِ

سَلِ النَّاسَ إِنِّي سَائِلُ اللَّهِ وَحْدَهُ

وَصَائِنٌ عِرْضِي عَنْ فُلَانٍ وَعَنْ فُلِ

وقال عُبيد بن الأبرص:

مَنْ يَسَلِ النَّاسَ يَحْرِمُوهُ

وَسَائِلُ اللَّهِ لَا يَخِيبُ

ومن قصيدة للحسين بن حميد [من البسيط]:

وَسَائِلُ النَّاسِ إِنْ جَادُوا وَإِنْ بَخِلُوا

فَإنهُ بِرِدَاءِ الذُّلِّ مُشْتَمِلُ

وقال أبو العتاهية، فأحسن [من الوافر]:

أَتَدْرِي أَيُّ ذُلٍّ فِي السُّؤَالِ

وَفِي بَذْلِ الْوُجُوهِ إِلَى الرِّجَالِ

يَعِزُّ عَلَى التَّنَزُّهِ مَنْ رَعَاهُ

وَيَسْتَغْنِي الْعَفِيفُ بِغَيْرِ مَالِ

تَعَالَى اللَّهُ يَا سَلْمُ بْنَ عَمْرٍ

أَذَلَّ الْحِرْصُ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ

وَمَا دُنْيَاكَ إِلَّا مِثْلُ فَيْءٍ

أَظَلَّكَ ثُمَّ آذَنَ بِالزَّوَالِ

إِذَا كَانَ النَّوَالُ بِبَذْلِ وَجْهِي

فَلَا قَرُبْتُ مِنْ ذَاكَ النَّوَالِ

(1)

- "المأفون": الضعيف العقل والرأي. قاله في "القاموس".

ص: 164

مَعَاذَ اللَّه مِنْ خُلُقٍ دَنِيءٍ

يَكُونُ الْفَضلُ فِيهِ عَلَي لَالِي

تَوَقَّ يَدَا تَكُونُ عَلَيْكَ فَضلًا

فَصَانِعُهَا إِلَيكَ عَلَيْكَ عَالِي

يَدٌ تَعْلُو بِجَمِيلِ فِعْلٍ

كَمَا عَلَتْ الْيَمِينُ عَلَى الشِّمَالِ

وُجُوهُ الْعَيْشِ مِنْ سَعَةٍ وَضِيقٍ

وَحَسْبُكَ وَالتَّوَسُّعُ فِي الْحَلَالِ

وَتُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ أَخَا نَعِيمٍ

وَأَنْتَ تُصِيفُ فِي فَيءِ الظِّلَالِ

وَأَنْتَ تُصِيبُ قُوتَكَ فِي عَفَافٍ

وَرِيُّكَ إِنْ ظَمِئْتَ مِنَ الزُّلَالِ

مَتَى تُمْسِي وَتُصْبِحُ مُسْتَرِيحًا

وَأَنْتَ الدَّهْرَ لَا تَرْضَى بِحَالِ

تُكَابِدُ جَمْعَ شَيءٍ بَعْدَ شَيْءٍ

وَتَبغِي أَنْ تَكُونَ رَخِيَّ بَالِ

وَقَدْ يَجْزِي قَلِيلُ الْمَالِ مَجْزَى

كَثِيرِ الْمَالِ فِي سَدِّ الْخِلَالِ

إِذَا كَانَ الْقَلِيلُ يَسُدُّ فَقْرِي

وَلَمْ أَجِدِ الْكَثِيرَ فَلَا أُبَالِي

هِيَ الدُّنْيَا رَأَيْتُ الْحُبَّ فِيهَا

عَوَاقِبُهُ التَّفَرقُ عَنْ تَقَالِ

تُسَرُّ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى هِلَالٍ

وَنَقْصُكَ إِنْ نَظَرْتَ إِلَى الْهِلَالِ

(1)

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في حديث الباب فضيلةُ الاكتساب بعمل اليد، وقد ذكر بعضهم أنه أفضل المكاسب. وقال الماورديّ: أصول المكاسب الزراعة، والتجارة، والصناعة، وأيها أطيب؟ فيه مذاهب للناس، أشبهها بمذهب الشافعيّ أن التجارة أطيب، قال: والأشبه عندي أن الزراعة أطيب؛ لأنها أقرب إلى التوكّل.

قال النوويّ في "شرح المهذّب": في "صحيح البخاريّ"، عن المقدام بن معد يكرب - رضي اللَّه تعالى عنه -، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ما أكل أحد قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبيّ داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده". قال النوويّ: فالصواب ما نصّ عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو عمل اليد، فإن كان زراعةً، فهو أطيب المكاسب، وأفضلها؛ لأنه عمل يده، ولأن فيه توكّلًا، كما ذكره الماورديّ؛ ولأن فيه نفغا عامًّا للمسلمين، والدوابّ، وأنه لا بدّ في العادة أن يؤكل منه بغير عوض، فيحصل له أجره. وإن لم يكن ممن يعمل بيده، بل يعمل له غلمانه، وأجراؤه، فاكتسابه بالزراعة أفضل؛ لما ذكرناه.

(1)

- راجع "التمهيد" ج 4 ص 110 - 113.

ص: 165

وقال في "الروضة" -بعد ذكره الحديث المتقدّم-: فهذا صريحٌ في ترجيح الزراعة، والصناعة؛ لكونهما من عمل يده، ولكن الزراعة أفضلهما؛ لعموم النفع بها للآدميّ وغيره، وعموم الحاجة إليها. واللَّه أعلم.

قال وليّ الدين: وغاية ما في حديث الباب تفضيل الاحتطاب على السؤال، وليس فيه أنه أفضل المكاسب، فلعلّه ذكره لتيسّره، ولا سيّما في بلاد الحجاز؛ لكثرة ذلك فيها. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): حديث الباب يدلّ أيضًا على جواز الاكتساب بالمباحات، كالحطب، والحشيش النابتين في موات.

واستدلّ به المهلّب على جواز الاحتطاب، والاحتشاش من الأرض المملوكة، حتى يمنع من ذلك مالك الأرض، فترفع حينئذ الإباحة.

قال وليّ الدين: وهو مرود، فإن النبات في الأرض المملوكة ملك لمالكها، فلا يجوز التصرّف فيه بغير إذنه.

ثم حكى المهلّب عن ابن الموّاز أنه حَكَى عن ابن القاسم، عن مالك، قال: كانت له أرض يملكها، ليست بأرض خربة، فإن أراد أن يبيع ما ينبت فيها من المراعي بعد طيبهن أنه لا بأس به. وقال أشهب: لا يجوز ذلك؛ لأنه رزقٌ مِن رزقِ اللَّه تعالى، ولا يحلّ لربّ الأرض أن يمنع منه أحدًا، لقوله- صلى الله عليه وسلم:"لا يُمنَع فضلُ الماء ليُمنَع به الكلأُ". ولو كان النبات في حائط إنسان لما حلّ له أن يمنع منه أحدًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا حمى إلا للَّه، ولرسوله". وقال الكوفيّون كقول أشهب. قاله في "طرح التثريب"

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما قاله الإمام مالك -رحمه اللَّه تعالى- هو الأرجح؛ لأن معنى الحديث: أنه لا يجوز لصاحب الماء الفاضل عن حاجته منعه عن أصحاب المواشي، حتى لا يترتّب على منعه منع الكلأ المباح، لأنهم إذا لم يجدوا ماء لا يمكنهم رعي مواشيهم في ذلك الكلإ، وليس المراد منع الكلإ المملوك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في الاكتساب فائدتان: الاستغناء عن السؤال، والتصدّق على المحتاج، وقد ذكرهما النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله في رواية مسلم:"فيتصدّق، ويستغني من الناس". كذا في أكثر نسخ "صحيح مسلم" بالميم، وفي بعضها "عن الناس" بالعين. قال النوويّ: وكلاهما صحيح، والأول محمول على الثاني. انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم

(1)

- "طرح التثريب" ج 4 ص 84.

(2)

- "طرح" ج 4 ص 84 - 85.

(3)

- "طرح" ج 4 ص 84.

ص: 166

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): أشار في رواية مسلم إلى العلّة في تفضيل الاكتساب على السؤال، وهي أن العيد العليا أفضل من اليد السفلى، والمكتسب يده عليا، إن تصدّق، وكذا إن لم يتصدّق، وفسّرنا العليا بالمتعفّفه عن السؤال، فقد يُستدل بهذا على ترجيح الرواية التي فيها "اليد العليا هي المتعفّفه"؛ لأنه لا يلزم من الاكتساب الصدقةُ، لكن تبيّن برواية مسلم أن تفضيل الاكتساب هو للصدقة والاستغناء عن الناس، وكما أنه لا يلزم من الاكتساب الصدقة، لا يلزم من الاكتساب التعفّف عن السؤال، فربّ مكتسب مكتفِ، يسأل تكثّرًا. قاله وليّ الدين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): ذكر الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ" أن المسألة تنقسم إلى الأحكام الشرعيّة: التحريم، والكراهة، والوجوب، والندب، والإباحة. وقال أبو بكر ابن العربيّ: وبالجملة فإن السؤال واجبٌ في موضع، جائزٌ في آخر، حرامٌ في آخر، مندوب على طريق، فأما وجوبه، فللمريدين في ابتداء الأمر، وظاهر حالهم، وللأولياء للاقتداء، وجريًا على عادة اللَّه في خلقه، ألا ترى إلى سؤال موسى والخضر لأهل القرية طعامًا، وهما من اللَّه تعالى بالمنزلة المعلومة، فالتعريف بالحاجة فرض على المحتاج، وإذا ارتفعت الضرورة جاز أن يسأل في الزائد عليها، مهما يحتاج إليه، ولا يقدر عليه، ثم أنشد لبعضهم:

لَمَالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي

مَفَاقِرَهُ

(1)

أَعَفَّ مِنَ الْقُنُوعِ

قال: وإذا كملت للمرء مفاقره، وارتفعت حاجاته، لم يجز له أن يسأل تكثّرًا. ثم قال: وقد يكون السؤال واجبًا، أو مندوبًا، أما وجوبه، فللمحتاج، وأما المندوب فلمن يُعينه، وُيبيّن حاجته، إن استحيى هو من ذلك، أو رجا أن يكون بيانه أنفع، وأنجح من بيان حال السائل، كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسأل لغيره انتهى.

قال الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى-: فذكر أربعة أوجه من الأحكام الشرعيّة في المسألة، دون الخامس، وهو قسم المكروه، فأما تمثيله للواجب بسؤال المحتاج فواضحٌ، وأما قسم المكروه، فسؤاله للسلطان مع إمكان الاستغناء عنه، وقد جمعهما النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث سمرة - رضي اللَّه تعالى عنه - بقوله:"إلا أن يسأل الرجل سلطانًا، أو في أمر لا بدّ منه"، فهذا الأخير هو السؤال الواجب، قال: وأما تمثيل القاضي أبي بكر

(1)

- المفاقر: جمع فقر على غير قياس، أو جمع مُفْقِر مصدر أفقره. قاله في "اللسان".

ص: 167

السؤال الواجب بالمريدين في ابتداء الأمر، وبسؤال الأولياء للاقتداء، وتمثيله بسؤال موسى والخضر طعامًا من أهل القرية ففيه نظر، ولا يُطلق على سؤال المريدين في ابتدائهم اسم الوجوب، وإنما جرت عادت المشايخ الذين يهذّبون أخلاق المريدين بفعل ذلك لكسر أنفسهم إذا كان في ذلك صلاحهم، فأما الوجوب الشرعيّ فلا، وأما سؤال الخضر وموسى، فلا يلزم هذه الأمة الاقتداء بهما في ذلك، وإنما وقع ذلك من الخضر لحكمة أطلعه اللَّه عليها ليبيّن لموسى عليه السلام ما ينتهي الحال إليه في المرّات الثلاث انتهى كلام العراقيّ منقولًا من "طرح التثريب"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قول أبي بكر بن العربيّ: فأما وجوبه فللمريدين في ابتداء الأمر الخ صدور مثل هذا الكلام من أمثاله عجيب، كيف يكون تهذيب الأخلاق بما هو من محظورات الشرع؟، فهل تهذب النفوس إلا بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومخالفة الهوى المضادّة لسنته؟. وهل جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتهذيب الأخلاق بالسؤال؟ وهل الأولياء يكونون قدوة في الشيء المذموم شرعًا، وما كانوا أولياء إلا بالتقوى، واتباع السنة، ومجانبة البدع والهوى، إن هذا لهو العجب العجاب. ومن الغريب أن العراقيّ اعترض عليه في قوله بالوجوب، ولم يعترض عليه في دعواه مشروعية تهذيب الأخلاق بالسؤال، بل وافقه في أصل المشروعية، حيث قال: وإنما جرت عادت المشايخ الذين يهذّبون أخلاق المريدين بفعل ذلك لكسر أنفسهم إذا كان في ذلك صلاحهم.

فهل هذا التهذيب من عمل الصحابة، والتابعين؟، لا، بل هذا مما ابتدعه الجهالة الذين لم يستضيئوا بنور الكتاب والسنّة، فالتهذيب الصحيح للأخلاق والنفوس، لا يكون إلا بما شرعه الشارع الحكيم على لسان من أرسله مهذبًا للأخلاق، وهاديًا إلى الخلّاق.

وبالجملة فالنجاة كلّ النجاة في الدنيا والآخرة في اتباع من قال اللَّه تعالى في حقّه: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، وقال:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، وقال:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): قال الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح الترمذيّ": ورد التخصيص في السؤال في أربعة أماكن: وهي أن يسأل سلطانًا، أو في أمر لا بدّ منه، أو ذا رحم في حاجة، أو الصالحين.

فأما السلطان فهو الذي بيده أموال المصالح، وأما الأمر الذي لا بدّ منه، فهو الحاجة

(1)

- راجع "طرح التثريب" ج 4 ص 78 - 79.

ص: 168

التي لا بدّ منها. وأما ذو الرحم، فلما ورد في الصدقة على ذي الرحم من الفضل، ولذهاب بعض العلماء إلى وجوب النفقة عليه مع وصف الفقر والعجز، فرُخّص في سؤاله. وأما سؤال الصالحين فهو في حديث ابن الفراسيّ. -يعني الآتي للنسائيّ في الباب التالي.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في تخصيص هذين القسمين نظر، إذ الأول يحتاج لدليل يخصّصه من عموم النهي عن السؤال كالقسمين الأولين، وما استدلّ به بعيد عن هذا. وأما الثاني فحديثه لا يصحّ، كما سيأتي. فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.

قال: وحيث جاز السؤال، فيجتنب فيه الإلحاف، والسؤال بوجه اللَّه تعالى، لما في سنن أبي داود، من حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه -، مرفوعًا:"لا يُسأل بوجه اللَّه إلا الجنّة"

(1)

. قال: ومع ذلك فينبغي إعطاؤه، ما لم يسأل ممتنعًا؛ لما روى الطبرانيّّ في "معجمه الكبير" من حديث أبي موسى الأشعريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - بإسناد حسن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"ملعون من سأل بوجه اللَّه، وملعون من سُئل بوجه اللَّه، فمنع سائله، ما لم يسأل هُجْرًا". انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2585 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ، حَتَّى يَأْتِىَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةٌ، مِنْ لَحْمٍ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم) المصري الفقيه، ثقة [11] 120/ 166.

2 -

(شعيب) بن الليث بن سعد الفهمي مولاهم، أبو عبد الملك المصري، ثقة نبيل فقيه، من كبار [10] 120/ 166.

3 -

(الليث بن سعد) بن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث المصري، ثقة ثبت فقيه إمام مشهور [7] 31/ 35.

4 -

(عبيد اللَّه بن أبي جعفر) أبو بكر الفقيه المصريّ، مولى بني كنانة، ويقال: مولى بني أُميّة، قيل: اسم أبيه يسار -بتحتانيّة، ومهملة- ثقة [5].

رأى عبد اللَّه بن جَزْء الزُّبيديّ. قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: كان يتفقّه، ليس به

(1)

- الحديث رواه أبو داود، وهو ضعيف، لتفرّد سليمان بن قَرْم به عن محمد بن المنكدر، والأكثرون على تضعيفه.

(2)

- راجع "طرح التثريب" ج 4 ص 79 - 80.

ص: 169

بأس. وقال أبو حاتم: ثقة، مثل يزيد بن أبي حبيب. وقال النسائيّ: ثقة. وقال ابن خِرَاش: صدوق. وقال ابن سعد: ثقة فقيه زمانه. وقال ابن يونس: كان عالماً عابدًا زاهدًا. وقال العجليّ: عبد اللَّه بن أبي جعفر مصريّ ثقة، وأخوه لا بأس به. ونقل صاحب "الميزان" عن أحمد أنه قال: ليس بالقويّ. قال أبو شُريح عبد الرحمن بن شُريح، عن عبيد اللَّه بن أبي جعفر: غزونا القُسطنطينيّة، فكُسِر بنا مركبنا، فألقانا الموج على خشبة في البحر، وكنّا خمسة، أو ستة، فأنبت اللَّه لنا بعددنا ورقة لكلّ رجل منا، فكنا نمصها، فتُشبعنا، وتروينا، فإذا أمسينا أثبت اللَّه لنا مكانها أخرى، حتى مرّ بنا مركبٌ، فحملنا. قال ابن لهيعة: وُلد سنة ستين. مات سنة (2) وقيل (4) وقيل (5) وقيل (136). روى له الجماعة وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث فقط.

5 -

(حمزة بن عبد اللَّه) بن عمر العدوي المدني، شقيق سالم، ثقة [3] 68/ 2336.

6 -

(عبد اللَّه بن عمر) بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمصريين إلى عبيد اللَّه، والباقيان مدنيان، وفيه رواية تابعي عن تابعي، والابن عن أبيه، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن عبيد اللَّه بن أبي جعفر أنه (قال: سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) ابن عمر (يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ) أي يسأل الناس المال، والمراد سؤال التكثّر، من غير حاجة، ولا ضرورة؛ لما في "صحيح مسلم" من طريق أبي زرعة، عن أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى - عنه، مرفوعًا:"من سأل الناس أموالهم تكثرًا، فإنما يسأل جمرًا، فليستقلّ، أو ليستكثر". قال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: معناه أنه يعاقب بالنار، ويحتمل أن يكون على ظاهره، وأنّ الذي يأخذه يصير جمرًا، يُكوى به، كما ثبت في مانع الزكاة انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني هو الحقّ؛ إذ لاداعي للعدول عنه. واللَّه تعالى أعلم.

(حَتَّى يَأْتِيَ يَومَ الْقِيَامَةِ، لَيْسَ فْي وَجْهِهِ مُزعَةٌ، مِن لَحْم") بضمّ الميم، وحكي كسرها، وسكون الزاي، بعدها مهملة: أي قطعة. وقال ابن التين: ضبطه بعضهم بفتح

(1)

- شرح مسلم للنوويّ ج 7 ص 131 - 132.

ص: 170

الميم والزاي، والذي أحفظه عن المحدّثين الضمّ.

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "مزعة لحم": أي قطعة لحم، ومنه مَزَعَت المرأةُ الصوفَ: إذا قطعته لتهيّئه للغزل، وتمزّع أنفه: أي تشقّق. وهذا كما قيل في الحديث الآخر: "المسائل كُدُوحٌ، أو خُدُوشٌ، يَخدُشُ بها الرجل وجهه يوم القيامة"

(1)

.

وهذا محمولٌ على كلّ من سأل سؤالًا لا يجوز له، وخصّ الوجه بهذا النوع؛ لأن الجناية به وقعت، إذ قد بذل من وجهه ما أُمر بصونه عنه، وتصرّف به في غير ما سُوّغ له انتهى

(2)

.

وقال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يحتمل أن يكون المراد أنه يأتي ساقطًا، لا قدر له، ولا جاه. أو يُعذّب في وجهه حتى يسقط لحمه لمشاكلة العقوبة في مواضح الجناية من الأعضاء؛ لكونه أذلّ وجهه بالسؤال. أو أنه يُبعث ووجهه عظم كلّه، فيكون ذلك شعاره الذي يُعرف به انتهى.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: الأول صرف للحديث عن ظاهره، وقد يؤيّده ما أخرجه الطبرانيّ، والبزار من حديث مسعود بن عمرو، مرفوعًا:"لا يزال العبد يسأل، وهو غنيّ، حتى يَخْلُق وجهه، فلا يكون له عند اللَّه وجه".

وقال ابن أبي جمرة: معناه أنه ليس في وجهه من الحسن شيء؛ لأن حسن الوجه هو بما فيه من اللحم. ومال المهلّب إلى حمله على ظاهره. انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حمل الحديث على ظاهره هو الأولى، ولا ينافيه حديث الطبرانيّ والبزّار المذكور؛ لأن المعنى: أنه يأتي يوم القيامة وقد سقط لحم وجهه، ومع ذلك لا يكون له وجه، أي شرف عند اللَّه تعالى، وقد أورد البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- مؤيّدًا حمل الحديث على ظاهره بعد أن أورد حديث ابن عمر المذكور حديثه في الشفاعة، فقال: وقال: "إن الشمس تدنو يوم القيامة، حتى يبلغ العَرَق نصف الأذن، فبينا هم كذلك، استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم".

وزاد عبد اللَّه بن صالح: حدثني الليث، حدثني ابن أبي جعفر، فيشفع ليُقضَى بين الخلق، فيمشي، حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه اللَّه مقاما محمودا، يحمده أهل الجمع كلهم".

ووجه ذلك أن الشمس إذا دنت يكون من لا لحم على وجهه أشدّ تأذّيًا بها من غيره.

والحاصل أن ظاهر الحديث هو المقصود، وبقية المعاني لا تنافيه، فيبعث لا لحم على وجهه، ويكون لا قدر له عند اللَّه تعالى، ويعذّب بتساقط لحمه.

(1)

- يأتي للمصنّف -92/ 2599 بنحوه.

(2)

- "المفهم" ج 3 ص 85.

(3)

- "فتح" ج 4 ص 102.

ص: 171

وهذا كلّه فيمن سأل تكثّرًا، وهو غني، لا تحلّ له الصدقة، وأما من سأل، وهو مضطرٌّ، فذلك مباحٌ له، فلا يتناله الوعيد المذكور؛ للأدلّة الأخرى التي تدلّ على عدم دخوله فيه، كما أشرت إليه سابقًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -83/ 584 - وفي "الكبرى" 85/ 2366. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1470 (م) في "الزكاة" 1042 (ت) في "الزكاة" 680 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7275، و 7439 و 7927 و 889 و 9140 و 9558 و 9796 و 9796 و 10060 (الموطأ) 1883. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ذمّ المسألة (ومنها): بيان عقوبة مَنْ أكثر من سؤال الناس، وهو أنه يأتي يوم القيامة، وليس على وجهه قطعة لحم (ومنها): أن يوم القيامة هو يوم وقوع الجزاء الأوفى، من ثواب، أو عقاب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2586 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ بِسْطَامِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ، فَأَعْطَاهُ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ، مَا مَشَى أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ، يَسْأَلُهُ شَيْئًا»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عثمان بن أبي صفوان الثقفيّ)، البصريُّ، ثقة [11] 10/ 468 من أفراد المصنّف، وأبي داود.

2 -

(أميّة بن خالد) القيسيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، أخو هُدْبة، أكبر منه، صدوق [9] 42/ 1906.

3 -

(شعبة) بن الحجاج المذكور في الباب الماضي.

4 -

(بسطام بن مسلم) -بكسر الموحّدة، وحكي فتحها، قال ابن الصلاح: أعجميّ لا ينصرف، ومنهم من صرفه- ابن نمير الْعَوْذيّ -بفتح المهملة، وسكون الواو-

ص: 172

البصريّ، ثقة [7].

قال أحمد: صالح الحديث، ليس به بأس. وقال ابن معين، وأبو زرعة، وأبو داود، والعجليّ: ثقة. وقال ابن نُمير: رفيع جدًّا، وهو شيخٌ قديمٌ، كان من قدماء شيوخ وكيع. وقال أبو حاتم: لا بأس به، صالح، وهو أحبّ إليّ من كثير بن يسار أبي الفضل. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود في "المراسيل"، والمصنّف، وابن ماجه وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم 2586 و 3727 و 5555.

5 -

(عبد اللَّه بن خليفة) ويقال: خليفة بن عبد اللَّه العَنْبَريّ، ويقال: الْغُبَريّ البصريّ، مجهول [3].

روى عن عائذ بن عمرو المزنيّ، وعبادة بن الصامت. وعنه بسطام بن مسلم، فقط، ووهم من زعم أنّ شعبة روى عنه، إنما روى شعبة، عن بسطام، عنه. انفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

6 -

(عائذ بن عمرو) بن هلال المزنيّ، أبو هُبيرة البصريّ، صحابيّ شهد بيعة الرضوان. وروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر. وعنه ابنه حَشْرَج، وأبو جمرة الضُّبَعيّ، والحسن، ومعاوية بن قُرّة، وعبد اللَّه بن خليفة، وأبو عمران الْجَوْنيّ، وغيرهم.

قال أبو الشيخ الأصفهانيّ: عائذ بن عمرو أخو رافع بن عمرو، وكانا من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مات عائذٌ في ولاية عبيد اللَّه بن زياد. وأرّخه ابن قانع سنة (61).

وقال البغويّ: حدثنا الزهرانيّ، حدثنا جعفر بن سُليمان، حدّثنا أسماء بن عُبيد، قال: قال عائذ المزنيّ: لأن أصبّ طستي في حَجَلتي

(1)

أحبّ إليّ من أصبّ في طريق المسلمين. قال: وكان لا يُخرِج من داره ماءً إلى الطريق، من ماء سماء ولا غيره، فرؤي له أنه في الجنّة، فقيل: بم؟ قال: بكفّه أذاه عن المسلمين. روى له البخاريّ، ومسلم، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأنه مسلسل بالبصريين، وأن صحابيه من المقلين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا أربعة أحاديث، حديث الباب عند المصنّف فقط، وحديث "أن أبا سفيان مرّ على سلمان وصهيب

" عند مسلم والمصنف في "الكبرى"، وحديث "هل يُنقَضُ الوتر

" عند البخاريّ فقط،

(1)

- الحجلة محرَّكةً: كالقبة، وموضع يزين بالثياب والستور للعروس. انتهى القاموس.

ص: 173

وحديث "إن شر الرعاء الحطمة

" عند مسلم فقط. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو) المزنيّ - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَجُلًا) لم أر من سمّاه (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ) أي شيئًا من المال (فَأَعْطَاهُ) أي ما سأله (فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ) أي ثم انصرف ذاهبًا إلى محلّه، فلما وضع رجلّه (عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَاب) -بهمزة قطع مضمومة، وسكون السين المهملة، وضمّ الكاف، وتشديد الفاء: عَتَبَةُ الباب السفلى (قَالَ: رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم) منبّهًا له، ولمن حضر مجلسه على مضرّة السؤال، وقبحه (لَؤ تَعْلَمُونَ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ) أي من الضرر، أو الإثم (مَا مَشَى أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ، يَسْأَلُهُ شَيْئًا) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، وإن كان نكرة؛ لوقوعه بعد النفي، كما قال في "الخلاصة":

وَلَمْ يُنَكَّرْ غَالِبًا ذُو الْحَالِ إِنْ

لَمْ يَتَأَخَّرْ أَوْ يُخَصَّصْ أَوْ يَبِنْ

مِنْ بَعْدِ نَفْي أَوْ مُضَاهِيهِ كَلًا

يَبْغِي امْرُؤٌ عَلَى امْرِي مُستَسْهِلًا

والحديث دليل على ذمّ سؤال المال من الناس، والتقبيح له، والتحذير عنه غاية التحذير. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عائذ بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا حسنٌ.

[فإن قلت]: بسطام بن مسلم مجهول، فكيف يحسّن حديثه؟.

[قلت]: إنما حسّنته من أجل شواهده، فإن الأحاديث الواردة في ذمّ السؤال، كحديثي الباب، وغيرهما تشهد له. واللَّه تعالى أعلم.

وهو من أفراد المصنّف، أخرج هنا -83/ 2586 - وفي "الكبرى" 2366/ 87. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌84 - (سُؤَالُ الصَّالِحِينَ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على جواز سؤال الصالحين.

2587 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ،

ص: 174

عَنْ مُسْلِمِ بْنِ مَخْشِيٍّ، عَنِ ابْنِ الْفِرَاسِيِّ، أَنَّ الْفِرَاسِيَّ، قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَسْأَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ، قَالَ:«لَا، وَإِنْ كُنْتَ سَائِلاً، لَا بُدَّ، فَاسْأَلِ الصَّالِحِينَ» ).

رجال هذا الإسناد سبعة:

1 -

(قتيبد) بن سعيد الثقفي البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد المذكور في الباب الماضي.

3 -

(جعفر بن ربيعة) بن شُرَحبيل الكندي المصري، ثقة [5] 122/ 173.

4 -

(بكر بن سوادة) بن ثُمامة الجُذامي المصريّ، ثقة فقيه [3] 122/ 173.

5 -

(مسلم بن مَخْشيّ) -بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة- أبو معاوية المصريّ. مقبول [3].

روى عن ابن الفراسيّ، وعنه بكر بن سَوَادة. ذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له مسلم، وأبو داود، والمصنّف، وابن ماجه وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: وقع في "مسند أحمد" -رحمه اللَّه تعالى- في هذا الإسناد: ما نصّه: 18466 حدثنا قتيبة بن سعيد -قال أبو عبد الرحمن: وكتب به إلي قتيبة بن سعيد: كتبت إليك بخطي، وختمت الكتاب بخاتمي، ونقشه: اللَّهُ وليّ سعيد رحمه الله، وهو خاتم أبي: حدثنا ليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة الخ. والباقيان يأتي الكلام عليهما قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ الْفِرَاسِيِّ) لا يُعرف اسمه (أَنَّ الْفِرَاسِيَّ) -بكسر الفاء، وتخفيف الراء، وكسر السين المهملة، وتشديد الياء التحتانيّة- قال في "الإصابة": فراسٌ له صحبة. قاله البخاريّ. قال: هكذا رأيته في نسخة قديمة من تاريخ البخاريّ في حرف الفاء، وكذا ذكر ابن السكن أن البخاريّ سمّاه فراسًا، قال: وقال غيره: الفراسيّ من بني فراس بن مالك بن كنانة، ولا يوقف على اسمه، ومخرج حديثه عن أهل مصر. وذكره البغويّ، وابن حبّان بلفظ النسب، كما هو المشهور، لكن صنيعه يقتضي أنه اسم بلفظ النسب، والمعروف أنه نسبة، وأنّ اسمه لا يعرف، والمعروف في الحديث:"عن ابن الفراسيّ، عن أبيه". وقيل: "عن ابن الفراسيّ" فقط، وهو مرسلٌ، وهو كذلك في "سنن ابن ماجه" انتهى

(1)

.

(قَالَ: لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَسْاَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) بتقدير همزة الاستفهام، أي أأسأل ما

(1)

- راجع "الإصابة" ج 8 ص 88 - 89.

ص: 175

أحتاج إليه، فالمراد سؤال الناس، بدليل قوله في الجواب:"فاسأل الصالحين"، فلا يدخل فيه سؤال اللَّه تعالى، فإنه مأمور به، قال اللَّه تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية. وقد أخرج أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه بإسناد لا بأس به، من حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل اللَّه غضب عليه"، لفظ الترمذيّ

(1)

.

ولبعضهم [من الكامل]:

اللَّه يَغضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ

وَبُنَيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا) أي لا تسأل الناس شيئًا (وَإِنْ كُنْتَ سَائِلًا، لَا بُدَّ) قال محمد مرتضى الزبيديّ -رحمه اللَّه تعالى-: وقولهم: لا بُدّ اليوم من قضاء حاجتي، أي لا فراق منه. قاله أبو عمرو. وقيل: لا بدّ منه لا مَحَالَةَ. وقال الزمخشريّ: أي لا عِوَض، ومعناه أمر لا زمٌ، لا تُمْكِن مفارقته، ولا يوجد بدلٌ منه، ولا عوضٌ يقوم مقامه. وقال شيخنا: قالوا: ولا يستعمل إلا في النفي، واستعماله في الإثبات مولّد انتهى كلام المرتضى

(2)

.

والجملة في محلّ نصب على الحال من "سائلا"، أي إن كنت سائلًا، حال كونك غير مستغنٍ عن السؤال، بأن اضطررت إليه، ولا تجد منه مَفَرًّا (فَاسْأَلِ الصَّالِحِينَ) والمعنى: لا تسأل الناس شيئًا، بل سِلِ اللَّهَ تعالى، وأَحْسِنِ التوكّلَ عليه، فإن سؤال الناس ذلّ، فإن لم تجد مَفرًّا من سؤال الناس، ودعتك الضرورة إلى ذلك، فسل الصالحين منهم، القائمين بحقوق اللَّه عز وجل، وحقوق العباد؛ لأنهم الكرماء الرحماء الذين لا يمنّون إذا أَعْطَوْا، ولا يردّون السائل خائبًا، وإن كان بهم حاجة إلى ما يُعطُونه، قال اللَّه تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ، ولا يُعطُون إلا من حلال، وإذا لم يجدوا ما يعطونه ردوا السائل بالحسنى، ودَعَوا له، ودعاؤهم مرجوّ الإجابة. وهذا إرشاد إلى ما هو الأولى، وإلا فسؤال غير الصالحين جائز، كما سبق بيانه مفصّلاً

(3)

.

وقال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: يحتمل أن يراد بالصالحين الصالحون من أرباب الأموال الذين لا يمنعون ما عليهم من الحقّ، وقد لا يعلمون المستحقّ من غيره، فإذا عرفوا بالسؤال المحتاجَ أعطوه مما عليهم، من حقوق اللَّه تعالى.

(1)

- أخرجه أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، وفي سنده أبو صالح الخوزيّ، قال أبو زرعة: لا بأس به، وضعّفه ابن معين. وحسن الحديث بعض أهل العلم، وهو كذلك. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

- راجع "تاج العروس في شرح القاموس" ج 2 ص 295.

(3)

- راجع "المنهل العذب" ج 9 ص 284.

ص: 176

ويحتمل أن يراد بهم من يُتبرّك بدعائه، وتُرجَى إجابته، إذا دعا اللَّه له.

ويحتمل أن يراد الساعون في مصالح الخلق بسؤالهم لمن علموا استحقاقه ممن عليه حقّ، فيعطيهم أرباب الأموال بوثوقهم بصلاحهم انتهى كلام وليّ الدين

(1)

.

[تنبيه]: قال في "القاموس" الصلاح ضدّ الفساد. فقال شارحه: وقد يوصف به آحاد الأمة، ولا يوصف به الأنبياء، والرسل، عليهم السلام. قال شيخنا: وخالف في ذلك السبكيّ، وصحّح أنهم يوصفون به، وهو الذي صححه جماعة، ونقله الشهاب في مواضع من "شرح الشفا" انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول الأول ضعيف جدًّا؛ بل باطلٌ؛ لمخالفته النصوص القرآنيّة، فقد وصف اللَّه تعالى الأنبياء والمرسلين بالصلاح في غير ما آية، فقال تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} ، وقال:{وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} ، وقال حكايه عن يوسف عليه السلام:{وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} ، وعن سليمان عليه السلام:{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} ، وغير ذلك من الآيات. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث الفراسي - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا ضعيف؛ لجهالة ابن الفراسيّ، ولأن مسلم ابن مخشيّ مقبول، كما في "التقريب"، فلا بدّ له من متابع، وقد تفرّد به عن ابن الفراسيّ. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثاني): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -84/ 2587 - وفي "الكبرى" 86/ 2368. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1646 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 18466. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

(1)

- راجع "طرح التثريب" ج 4 ص 79 - 80.

(2)

- التاج ج 2 ص 182.

ص: 177

‌85 - (الاسْتِعْفَافُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاستعفاف مصدر استّعّفَّ، وهو طلب العِفَّةِ، أو هو بمعنى عَفَّ عن الشيء يَعِفّ من باب ضرب عِفَّةً بالكسر، وعَفَّا بالفتح: امتنع عنه، فهو عَفِيف. قاله في "المصباح". والمراد بالمسألة هنا سؤال المال، لا المسائل الدينيّة، أو في الأمر الذي لا بدّ منه، كما سيأتي في -93/ 2600 - ، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2588 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ، سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، قَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ، فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ، يُعِفَّهُ اللَّهُ عز وجل، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً، هُوَ خَيْرٌ، وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور في الباب الماضي.

2 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة الفقيه [7] 7/ 7.

3 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري الإمام الحجة الحافظ [4] 1/ 1.

4 -

(عطاء بن يزيد) الليثيّ الجُنْدعيّ المدنيّ نزيل الشام، ثقة [3] 20/ 21.

5 -

(أبو سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما 169/ 262. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه فبغلاني، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه أبو سعيد صحابي ابن صحابى، من المكثرين السبعة روى (1170) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي سعيد الْخُدْرِيِّ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ) قال الحافظ: لم يتعيّن لي أسماؤهم، إلا أن النسائيّ روى من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري،

ص: 178

عن أبيه ما يدلّ على أن أبا سعيد راوي الحديث خوطب بشيء من ذلك.، ففي حديثه: سرحتني أمي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يعني لأسأله من حاجة شديدة، فأتيته، وقعدت، فاستقبلني، فقال: "من استغنى أغناه اللَّه

" الحديث، وزاد فيه: "ومن سأل، وله أوقيّةٌ، فقد ألحف"، فقلت: ناقتي خير من أوقية، فرجعت، ولم أسأله

(1)

.

واعترضه العينيّ بأنه ليس فيه شيء يدلّ على كونه مع الأنصار في حالة سؤالهم النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وعند الطبرانيّ من حديث حكيم بن حزام أنه ممن خوطب ببعض ذلك، ولكنّه ليس أنصاريًّا، إلا بالمعنى الأعمّ

(2)

.

(سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي شيئًا من المال (فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ) بتكرير السؤال، والإعطاء مرّتين (حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ) بكسر الفاء، وإهمال الدال، من باب تَعِبَ، نَفَادًا: أي فَنِيَ، وانقطع (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا يَكُونُ)"ما" موصولة، لا شرطيّة، وإلا لجُزِم "يكون". وفي رواية مسلم:"ما يكن عندي" بالجزم، وعليه فـ "ما" شرطيّة، وعلى كلّ فهي مبتدأ (عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ) أي كلّ شيء، من مال، موجودِ عندي (فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ) بتشديد الدال المهملة، بعدها خاء معجمة، أي لن أحبسه، وأخبأه، وأمنعكم إياه منفردًا به عنكم، أو لن أجعله ذخيرةً لغيركم، مُعْرِضًا عنكم.

والجمة خبر "ما"، ودخلت الفاء في الخبر؛ لتضمّن المبتدإ معنى الشرط، أي لن أحبسه عنكم، ولا أنفرد به دونكم (وَمَنْ يَسْتَغفِفْ)"من " هنا شرطيّة، ولذا جُزم الفعلان بعدها، و"يستعفف" بفاءين، وكذا عند البخاريّ في رواية الكشميهني، ومسلم، ووقع عند البخاريّ في رواية الحمويّ، والمستملي "يستعفّ" بفاء واحدة مشدّدة ".والمعنى: من يَطلُب من نفسه العفّة عن السؤال. قال الطيبيّ: أو يطلب العفّة من اللَّه تعالى، فليست السين لمجرّد التأكيد. وقال الجزريّ: الاستعفاف طلب العَفَاف، والتعفّف، وهو الكفّ من الحرام، والسؤال من الناس، أي مَن طلب العفّة، وتكلّفها أعطاه اللَّه إياها. وقيل: الاستعفاف الصبر، والنزاهة عن الشيء، يقال: عفّ يعِفّ عِفّةً، فهو عفيف انتهى (يُعِفَّهُ اللَّهُ عز وجل) بضمّ التحتانيّة، وكسر المهملة، وتشديد الفاء المفتوحة للتخلّص من التقاء الساكنين، إذ هو مجزوم على أنه جواب الشرط، ويجوز ضم فائه إتباعًا لضم الهاء.

والمعنى: يرزقه اللَّه تعالى العفّة، أي الكفّ عن السؤال والحرام. وقال القاري:

(1)

- حديث أبي سعيد هذا سيأتي للمصنّف في 89/ 2595.

(2)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 98.

ص: 179

يعفه اللَّه: أي يجعله عفيفًا، من الإعفاف، وهو إعطاء العفّة، وهي الحفظ عن المناهي، يعني من قنع بأدنى قوت، وترك السؤال تَسهُل عليه القناعة، وهي كنز لا يفنى انتهى. وقال ابن التين: معناه إما أن يرزقه من المال ما يستغني به عن السؤال، وإما أن يرزقه القناعة انتهى

(1)

.

وزاد في رواية الشيخين: "ومن يستغن يغنه اللَّه". أي من يستغن باللَّه تعالى عمن سواه، أو يُظهِر الغنى بالاستغناء عن أموال الناس، والتعفّف عن السؤال، حتى يحبسه الجاهل بحاله غنيًّا من التعفّف، يرزقه اللَّه غنى القلب، ففي الصحيح:"ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس". ولو حُمل على غنى المال لما بَعُد، أي يعطيه اللَّه تعالى ما يُغنيه عن سؤال الناس. واللَّه تعالى أعلم.

(وَمَنْ يَصْبِرْ)"من" شرطية كسابقتها، و"يصبر" بفتح الياء، وكسر الباء ثلاثيًّا، من باب ضرب، وفي رواية:"يتصبّر" بفتح الفوقية، وتشديد الموحّدة المفتوحة: أي يعالج الصبر على ضيق العيش وغيره، من مكاره الدنيا. وقال السنديّ: أي يتكلف في تحمّل مشاقّ الصبر، وفي التعبير بباب التكلّف إشارة إلى أنّ مَلَكَة الصبر تحتاج في الحصول إلى الاعتبار، وتحمّل المشاقّ من الإنسان. وقال القاري: أي يطلب توفيق الصبر من اللَّه تعالى؛ لأنه تعالى قال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127]، أو يأمر نفسه بالصبر، ويتكلّف في التحمّل عن مشاقه، وهو تعميم بعد تخصيص؛ لأن الصبر يشتمل على صبر الطاعة، والمعصية، والبليّة. أو من يتصبّر عن السؤال، والتطلّع إلى ما في أيدي الناس بأن يتجرّع مرارة ذلك، ولا يشكو حاله لغير ربّه (يُصَبِّرْهُ اللَّهُ) بضمّ أوّله، وتشديد الموحّدة المكسورة، من التصبير: أي يُسَهِّل عليه الصبر، فتكون الجمل مؤكّدات. ويؤيّد إرادة معنى العموم قوله الآتي:"وما أعطي أحد الخ". وقال الباجيّ: معناه من يتصدّ للصبر، ويؤثره يعينه اللَّه تعالى عليه، ويوفّقه انتهى.

(وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ) ببناء الفعل للمفعول، و"أحد" نائب فاعله، وهو المفعول الأول. وقوله (عَطَاءَ) بالنصب هو المفعول الثاني (هُوَ خَيْرٌ) أي أفضل، والجملة في محلّ نصب صفة لـ "عطاء". وفي رواية البخاريّ "خيرًا" بالنصب، وإسقاط لفظ "هو"، فيكون صفة لـ "عطاء" أيضًا (وَأَوْسَعُ) بالرفع عطفًا على "خيرٌ". وقوله (مِنَ الصَّبْرِ) تنازعاه "خير"، و"أوسع". ثم إن الكلام على تقدير "مِنْ ": أي الصبر من أفضل ما يعطاه أحد، وأوسعه؛ لأن الإيمان أفضل الجميع، حيث إنه لا اعتداد بالصبر وغيره إلا بالإيمان،

(1)

- راجع "المرعاة" ج 6 ص 262.

ص: 180

أو يقدر "هو خير، وأوسع بعد الإيمان". واللَّه تعالى أعلم.

قال الطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يريد أن من طلب من نفسه العفّة عن السؤال، ولم يُظهر الاستغناء يعفّه اللَّه، أي يصيره عفيفًا، ومن ترقّى عن هذه المرتبة إلى ما هو أعلى، من إظهار الاستغناء عن الخلق، لكن إذا أُعطي شيئًا لم يرده، يملأ اللَّه تعالى قلبه غنى، ومن فاز بالقَدَح المعَلَّى، وتصبّر، ولم يسأل، وإن أُعطي لم يقبل، فهذا هو الصبر الجامع لمكارم الأخلاق انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "وإن أُعطِي لم يقبل" فيه نظر؛ إذ فيه مخالفة أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "ما جاءك من هذا المال، وأنت غير مشرف، ولا سائل، فخذه، فتموّله، وتصدّق به"، فكيف يكون من ردّ ما أمر باخذه أعلى المرتبة؟، هذا غريب، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.

وقال ابن الجوزيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إنما جُعل الصبر خير العطاء؛ لأنه حبس النفس عن فعل ما تحبّه، وإلزامها بفعل ما تكره في العاجل مما لو فعله، أو تركه لتأذّى به في الآجل.

وقال القاريّ -رحمه اللَّه تعالى-: وذلك لأن مقام الصبر أعلى المقامات؛ لأنه جامع لمكارم الصفات والحالات، ولذا قُدّم على الصلاة في قوله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، ومعنى كونه أوسع أنه تتّسع به المعارف، والمشاهد، والأعمال، والمقاصد انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي سعيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا 85/ 2588 - وفي "الكبرى" 87/ 2369. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1469 وفي "الرقاق" 6470 (م) في "الزكاة" 1053 (د) في "الزكاة" 1644 (ت) في "البرّ والصلة" 2024 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 10606 و 10676 و 10707 و 11007 (الموطأ) في "كتاب الجامع" 1880. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

- "شرح الزرقاني على الموطّإ" ج 4 ص 422.

(2)

- راجع "المرعاة" ج 6 ص 262 - 263.

ص: 181

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل الاستعفاف عن مسألة الناس أموالَهُم (ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من السخاء والجود والكرم وإنفاذ أمر اللَّه تعالى، حيث قال له:{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} (ومنها): إعطاء السائل مرّتين (ومنها): الاعتذار إلى السائل (ومنها): الحضّ على التعفّف (ومنها): جواز السؤال للحاجة، وإن كان الأولى تركه، والصبر على الفاقة حتى يرزقه اللَّه تعالى بغير مسألة (ومنها): الحضّ على الصبر، وأنه أفضل ما يعطاه المرأ؛ لكون الجزاء عليه غير مقدّر، ولا محدود، قال اللَّه تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2589 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْنٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِىَ رَجُلاً، أَعْطَاهُ اللَّهُ عز وجل مِنْ فَضْلِهِ، فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدّم في -83/ 2584 - وتقدم شرحه، والكلام على مسائله هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

و"عليّ بن شعيب" بن عديّ السمسار البزاز البغداديّ، فارسيّ الأصل، ثقة، من كبار [11] 176/ 278 من أفراد المصنّف، روى عنه في "المجتبى" في ثلاثة مواضع، هذا، وفي 176/ 278 - 111/ 5349.

و"معن" بن عيسى القزّاز الحافظ الثبت المدنيّ، من كبار [10] 50/ 62، والسند كلّه من رجال الجماعة، غير شيخه.

وقوله: "لأن يحتطب" أي يجمع الحطب. وقوله: "فيسأله" بالنصب عطفًا على "يأتي". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌86 - (فَضْلُ مَن لَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المراد بسؤال الناس هنا السؤال المتعلّق بالدنيا، فلا

ص: 182

يتناول المسألة المتعلّقة بالدين، كأن يسأل ما يجهله من أمر دينه، فإنه واجب، فضلًا عن أن يكون مذمومًا، ولا يتناول أيضًا سؤال ما ثبت له من الحقوق عند الناس، كالودائع، وضمان المتلفات، وثمن المبيعات، ونحو ذلك، فإن هذا لا يدخل فيه قطعًا، للأدلّة الأخرى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2590 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَضْمَنْ لِي وَاحِدَةً؟ ، وَلَهُ الْجَنَّةُ» ، قَالَ يَحْيَى: هَاهُنَا كَلِمَةٌ، مَعْنَاهَا: "أَنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن علي) الفلاّس الصيرفي البصري، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان البصري الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(ابن أبي ذئب) هو: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشي العامري، أبو الحارث.

4 -

(محمد بن قيس) القاصّ المدنيّ، [6] 51/ 962.

5 -

(عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية) بن أبي سُفيان، صدوق [3].

قال مصعبٌ الزبيري: كان رجلًا صالحًا. وقال أبو زرعة: معاوية، وعبد الرحمن، وخالد، بنو يزيد بن معاوية كانوا صالحي القوم. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال البخاريّ: حديثه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسل. وقال الوليد بن مسلم: قَدِم عبد الرحمن بن يزيد على عمر بن عبد العزيز يرفع إليه دينًا. روى له المصنّف، وابن ماجه حديث الباب فقط.

6 -

(ثوبان) بن بُجْدُد مولى النبي صلى الله عليه وسلم صحبه، ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة (54) 11/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأن رجاله رجال الصحيح، غير عبد الرحمن كما سبق آنفًا، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه ويحيى فبصريان، وأن شيخه أحد مشايخ الستة بلا واسطة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ ثَوْبَانَ) أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَضْمَنْ لِي وَاحِدَةً؟) وفي نسخة

ص: 183

"بواحدة" بالباء الموحّدة، وهو لغة، يقال: ضَمنتُ المالَ، وبه، ضَمَانًا، فأنا ضامن، وضَمينٌ: التزمتُهُ، ويتعدّى بالتضعيف، فيقال: ضَمَّنتُهُ المالَ: ألزمته إياه. قاله في "المصباح".

والمعنى: من يلزم لي خصلة واحدةً، ويدوم على هذه الخصلة؟.

و"من" هنا استفهاميّة، وهي مبتدأ، خبرها جملة "يضمنُ الخ (وَلَهُ الْجَنَّةُ) أي مضمون له الجنّة في مقابلة ضمانه تلك الخصلة. وفي لفظ لأحمد:"من يضمنُ لي خَلَّةً، وأضمنُ له الجنة".

(قَالَ: يَحْيىَ) بن سعيد القطّان الراوي عن ابن أبي ذئب (هَاهُنَا كَلِمَةٌ، مَعْنَاهَا: "أَنْ لَا يَسْألَ النَّاسَ شَيْئًا) يعني أن في هذا الموضع كلمة، وهي الكلمة التي طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم ضمانها حتى يضمن له الجنّة، ولكن يحيى لم يحفظ لفظها، وإنما حفظ معناها، وهو:"أن لا يسأل الناس شيئًا".

وقد حفظ لفظها وكيع عند أحمد، وابن ماجه، ويزيد بن هارون، وأبو النضر عند أحمد.

قال الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- في "مسنده" -21917 - : حدثنا يزيد بن هارون، وأبو النضر، قالا: حدثنا ابن أبي ذئب، عن محمد بن قيس، عن عبد الرحمن بن معاوية، عن ثوبان مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من يتقبلُ لي بواحدة، أتقبل له بالجنة"، قال: قلت: أنا يا رسول اللَّه، قال:"لا تسأل الناس شيئا". قال: فربما سقط سوط ثوبان، وهو على بعيره، فما يسأل أحدا، أن يناوله، حتى ينزل إليه، فيأخذه.

وقال الإمام ابن ماجه -رحمه اللَّه تعالى -1837 - : حدثنا عليّ بن محمد، حدّثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن محمد بن قيس، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ثوبان، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يتقبلُ لي بواحدة، وأتقبل له بالجنة؟، قلت: أنا، قال: "لا تسأل الناس شيئا".

قال: فكان ثوبان يقع سوطه، وهو راكب، فلا يقول لأحد: ناولنيه، حتى يَنزل، فيأخذه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ثوبان - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 184

أخرجه هنا -86/ 2590 - وفي "الكبرى" 88/ 2371. وأخرجه (ق) في "الزكاة" 1837 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 1899 و 21917. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل من لا يسأل الناس شيئًا من أموالهم، تعفّفًا، حيث يُجَازَى بالجنّة التي فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذّ الأعين، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر (ومنها): بيان دناءة سؤال الناس، فإنه مَذلّة، ومَذمّة، وإراقة لماء الوجه (ومنها): بيان فضل ثوبان - رضي اللَّه تعالى عنه -، حيث وعده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالجنّة، وقد وفي هو بما التزمه، كما بيّنته روايتا أحمد، وابن ماجه السابقتان. (ومنها): ما كان عليه الصحابة - رضي اللَّه تعالى - عنهم من الالتزام بوفاء ما عاهدوا عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2591 -

(أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ حَمْزَةَ- قَالَ: حَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ هَارُونَ بْنِ رِئَابٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ «لَا تَصْلُحُ الْمَسْأَلَةُ، إِلاَّ لِثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ أَصَابَتْ مَالَهُ جَائِحَةٌ، فَيَسْأَلُ، حَتَّى يُصِيبَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَيَسْأَلُ، حَتَّى يُؤَدِّىَ إِلَيْهِمْ حَمَالَتَهُمْ، ثُمَّ يُمْسِكَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، وَرَجُلٍ يَحْلِفُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، مِنْ قَوْمِهِ، مِنْ ذَوِى الْحِجَا بِاللَّهِ، لَقَدْ حَلَّتِ الْمَسْأَلَةُ لِفُلَانٍ، فَيَسْأَلُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ مَعِيشَةٍ، ثُمَّ يُمْسِكَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَا سِوَى ذَلِكَ سُحْتٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم للمصنّف في -80/ 2579 و 2580 - وتقدّم هناك شرحه، والكلام على مسائله، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

و"هشام بن عمّار": هو السلميّ الدمشقيّ الخطيب، صدوق كَبِرَ، فصار يتلقّن، فحديثه القديم أصحّ، من كبار [10] 134/ 202. و"يحيى بن حمزة": هو أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضي ثقة، رُمي بالقدر [8] 60/ 1768. و"الأوزاعي": هو عبد الرحمن بن عمرو الدمشقيّ الإمام الحجة الثبت المشهور [7] 45/ 56.

والباقون تقدّموا في الباب المذكور. و"أبو بكر": هو كنانة بن نُعيم المذكور باسمه هناك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

ص: 185

‌87 - (حَدُّ الْغِنَى)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على مقدار الغنى الذي يمنع السؤال من الناس.

2592 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَأَلَ، وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ، جَاءَتْ خُمُوشًا"، أَوْ "كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَاذَا يُغْنِيهِ؟ ، أَوْ مَاذَا أَغْنَاهُ؟ ، قَالَ: «خَمْسُونَ دِرْهَمًا، أَوْ حِسَابُهَا مِنَ الذَّهَبِ». قَالَ: يَحْيَى قَالَ سُفْيَانُ: وَسَمِعْتُ زُبَيْدًا يُحَدِّثُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أحمد بن سليمان) أبو الحسين الرُّهاويّ الحافظ الثبت [11] 38/ 42 من أفراد المصنّف.

2 -

(يحيى بن آدم) أبو زكريّا الكوفيّ الحافظ الثبت الفاضل [9] 1/ 451.

3 -

(سفيان الثوري) ابن سعيد، أبو عبد اللَّه الكوفي الإمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.

4 -

(حكيم بن جُبير) الأسديّ الكوفيّ، ضعيف رمي بالتشيّع [5] 84/ 2426.

5 -

(محمد بن عبد الرحمن بن يزيد) بن قيس النخعيّ، أبو جعفر الكوفيّ، ثقة [6]. قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: كان رَفيع القدر من الجلّة. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال حسين بن عليّ الجعفيّ: كان يقال له: الكيِّس؛ لعبادته. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكر ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد: أعجب أهل الكوفة إليّ أربعة، فذكره فيهم. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله عند المصنّف حديث الباب فقط.

6 -

(أبوه) عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو بكر الكوفيّ، ثقة، من كبار [3] 37/ 41.

7 -

(عبد اللَّه بن مسعود) الصحابي المشهور - رضي تعالى عنه - 35/ 39. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 186

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَأَلَ) أي من الناس أموالهم (وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، أي والحال أن عنده ما يغنيه عن مسألة الناس (جَاءَتْ) الفاعل ضمير المسألة المفهومة من "سأل"، أي جاءت مسألته (خُمُوشًا) جمع خَمْش، كفَلْس وفُلُوس، وهو الأثر في الوجه، يقال: خَمَشت المرأةُ وجهها بظفرها خَمْشًا، من باب ضرب: جَرَحت ظاهر البشرة، ثمّ أطلق الخمش على الأثر. أفاده في "المصباح". وهو منصوب على الحال. ولفظ أبي داود:"جاء يوم القيامة، ومسألته خُموش، أو خُدُوش، أو كُدُوح"(أَوْ "كُدُوحًا")"أو" هنا للشكّ من بعض الرواة، و"الكُدوح" جمع كَدْح، كفلس وفلوس، وهو -كما في "القاموس" بمعنى الْخَدْش. وقال في مادّة خدش: خَدَشَهُ يخدِشُه -أي من باب ضرب-: خَمَشَه، والجلدَ مزّقه، قَلّ، أو كثُرَ، أو قَشَره بعُود ونحوه. والْخَدْشُ اسم لذلك الأثر أيضًا، وجمعه خُدُوش انتهى.

وقال في "المرعاة": "خُمُوش، أو خُدُوش، أو كُدوح" بضم أوائلها ألفاظ متقاربة المعاني، جمع خَمْش، وخَدْش، وكَدْح.

فـ "أو" هنا لشكّ الراوي، إذ الكلّ يُعْرِب عن أثر ما يظهر على الجلد واللحم، من ملاقاة الجسد ما يقشر، أو يجرح، ولعلّ المراد بها آثار مستنكرة في وجهه حقيقةً، أو أمارات ليُعرَف، ويُشهَر بذلك بين أهل الموقف.

أو لتقسيم منازل السائل، فإنه مقلّ، أو مكثر، أو مُفْرِطٌ في المسألة، فذكر الأقسام على حسب ذلك. والخمش أبلغ في معناه من الخدش، وهو أبلغ من الكدح، إذ الخمشُ في الوجه، والخدش في الجلد، والكدح فوق الجلد. وقيل: الخدش قَشْرُ الجلد بعود، والخمش قشره بالأظفار، والكدحُ العضّ، وهي في أصلها مصادر، لكنّها لما جُعلت أسماء الآثار جمُعت. كذا في "المرقات"

(1)

.

(فِي وَجْهِهِ) متعلّق بمحذوف صفة لـ و"خموش"، أي كائنةً في وجهه (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) متعلّق بـ "جاءت" (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَاذَا يُغْنِيهِ؟) أي أيّ شيء يغنيه غنًى يمنعه عن السؤال، وليس المراد بيان الغنى الموجب للزكاة، أو المحرِّم لأخذها من غير سؤال (أَوْ مَاذَا أَغْنَاهُ؟)"أو" هنا للشكّ من الراوي (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (خَمْسُونَ دِرْهَمًا) خبر لمحذوف، أي هو خمسون درهمًا (أَوْ حِسَابُهَا مِنَ الذَّهَبِ)"أو" هنا للتنويع. يعني أن الغنى المانع من

(1)

- راجع "المرعاة" ج 6 ص 267.

ص: 187

السؤال أن يملك الشخص خمسين درهمًا، أو يملك قيمتها من الذهب.

وفيه دليل على أن من ملك خمسين درهمًا، أو قيمتها من الذهب يحرم عليه السؤال، وهذا فرد من أفراد الغنى المانع عن السؤال، إذ لا عبرة للمفهوم، فلا دليل فيه على إباحة السؤال لمن كان عنده أقلّ من خمسين درهمًا مما بيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم في أحاديث أُخَر.

وقيل: هذا الحديث منسوخٌ بحديث الأُوقيّة، وهو منسوخ بـ "ما يُغدّيه، ويُعشّيه".

وقيل: يُجمع بين هذه الأحاديث بأنّ القدر الذي يَحرُم السؤال عنده هو أكثرها، وهي الخمسون عملًا بالزيادة.

وقال في "حُجّة اللَّه البالغة" جـ 2 ص 35: جاء في تقدير الغنية المانعة من السؤال أنها أوقية، أو خمسون درهمًا. وجاء أيضًا أنها ما يُغدّيه وُيعشّيه، وهذه الأحاديث ليست متخالفة عندنا؛ لأن الناس على منازل شتًى، ولكلّ واحد كسبٌ، لا يمكن أن يتحوّل عنه، أعني الإمكان المأخوذ في العلوم الباحثة عن سياسة المُدُن، لا المأخوذ في علم تهذيب النفوس.

فمن كان كاسبًا بالحرفة، فهو معذورٌ حتى يجد آلات الحرفة، ومن كان زارعًا حتى يجد الزرع، ومن كان تاجرًا حتى يجد البضاعة، ومن كان على الجهاد مسترزقًا بما يروح ويغدو من الغنائم، كما كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فالضابط فيه أوقيّة، أو خمسون درهمًا، ومن كان كاسبًا يحمل الأثقال في الأسواق، أو احتطاب الحطب وبيعه، وأمثال ذلك، فالضابط فيه ما يغدّيه، ويعشّيه. واللَّه تعالى أعلم انتهى.

وقد استُدلّ بهذا الحديث لأحمد، وإسحاق، ومن وافقهما على أن الغنى المانع من أخذ الصدقة هو ملك خمسين درهمًا.

وتُعقّب بأنه ليس في الحديث أن من ملك خمسين درهمًا لم تحلّ له الصدقة، وإنما فيه أنه كره المسألة فقط، فلا يحلّ له أخذ الزكاة بالسؤال، وأما الأخذ من غير سؤال فلا دليل فيه على منعه. وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى.

(قَالَ: يَحْيىَ) هو ابن سعيد القطّان (قَالَ: سُفْيَانُ) هو الثوريّ الراوي عن حكيم بن جُبير في السند السابق (وَسَمِعْتُ زُبَيْدًا) هو ابن الحارث اليماميّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، الثقة الثبت العابد، من الطبقة السادسة، تقدّمت ترجمته في 37/ 1420 (يُحَدِّثُ) جملة حالية من المفعول (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ) المذكور في السند السابق.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض سفيان بهذا الكلام بيان أن ضعف حكيم بن جبير لا يضرّ بصحة الحديث، إذ لم ينفرد به، بل تابعه عليه من الثقات زبيد بن الحارث

ص: 188

الياميّ، فرواه عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد.

وسبب قوله هذا أن حكيم بن جُبير تكلموا فيه، قال الدارقطنيٌ: متروك. وقال الجوزجانيّ: كذاب. وقال ابن معين، وأبو داود: ليس بشيء. وقال أحمد، وأبو حاتم: ضعيف منكر الحديث. وقال البخاريّ في "التاريخ": كان يحيى، وعبد الرحمن لا يحدّثان عنه، وتكلّم فيه شعبة، وتركه من أجل هذا الحديث.

وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وقال أيضًا: ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم بن جُبير، وحكيم ضعيف، وسئل شعبة عن حكيم بن جبير، فقال: أخاف النار، وقد روى عنه قديمًا انتهى

(1)

.

وما ذكره المصنّف هنا عن سفيان ذكره أيضًا غيره، فقد رواه أبو داود من طريق يحيى ابن آدم، عن سفيان، وفي آخره: قال يحيى -هو ابن آدم- فقال عبد اللَّه بن عثمان لسفيان حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير؟، فقال سفيان: فقد حدّثناه زُبيد، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد انتهى.

وراه الترمذيّ من طريق شريك، عن حكيم بن جُبير، ثم قال: حديث حسن، وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من اْجل هذا الحديث. ثم روى من طريق يحيى بن آدم: حدّثنا سفيان، عن حكيم بن جُبير بهذا الحديث، فقال له عبد اللَّه بن عثمان صاحب شعبة: لو غيرُ حكيم حدّث بهذا، فقال سفيان: وما لحكيم؟ لا يحدّث عنه شعبة؟، قال: نعم، قال سفيان: سمعت زبيدًا يُحدّث بهذا عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد انتهى.

وظاهر ما أشار إليه سفيان -رحمه اللَّه تعالى- أن الحديث صحيح من رواية زُبيد، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، فلا يضرّه رواية حكيم بن جبير.

لكن مع ذلك فقد ضعّف الحديث جماعة من الحفاظ، فقد ذكر الحافظ في "الفتح" بعد ذكر رواية سفيان عن زبيد، نقلًا عن الترمذيّ: ما لفظه: ونصَّ أحمد في "علل الخلّال" وغيرها على أن رواية زبيد موقوفة انتهى.

وقال ابن معين. يرويه سفيان، عن زُبيد، ولا أعلم أحدًا يرويه عنه غير يحيى بن آدم، وهذا وَهَمٌ، لو كان كذا لحدّث به الناس عن سفيان، ولكنه حديث منكر -يعني وإنما المعروف بروايته حكيم. ذكره الذهبيّ والمنذريّ.

(1)

- نقله عن المصنّف الحافظ المزيّ في "تحفة الأشراف" ج 7 ص 85 ولم أره لا في "المجتبى"، ولا في "الكبرى"، فاللَّه تعالى أعلم.

ص: 189

وذكر البيهقي عن يعقوب بن سفيان، قال: هذه حكايته بعمدة، لو كان حديث حكيم ابن جبير عند زبيد ما خفي على أهل العلم انتهى.

لكن نقل الحافظ أبو عمر، عن أبي بكر الأثرم، عن الإمام أحمد أنه قوّى حديث ابن مسعود هذا، فقال في "التمهيد": قال: حديث عبد اللَّه بن مسعود في هذا حسنٌ، وإليه نذهب في الصدقة. قلت له

(1)

: ورواه زبيد، وهو لحكيم بن جبير فقط؟ فقال: رواه زبيد فيما قال يحيى بن آدم: سمعت سفيان يقول: فحدّثنا زبيد، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد. قلت لأبي عبد اللَّه: دم يخبر به محمد بن عبد الرحمن؟ فقال: لا. قال: وسمعته، وذكر حديث أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من سأل وله أوقيّة، أو قيمة أوقيّة، فهو مُلحِف". فقال: هذا يقوّي حديث عبد اللَّه بن مسعود انتهى. كلام ابن عبد البرّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا ضعيف؛ لضعف حكيم بن جبير، ولا يقال: رواه زبيد، وهو ثقة؛ لأنه رواه موقوفًا، كما قاله الإمام أحمد، فلا تقوي روايته روايته، والحاصل أن الحديث ضعيف؛ لضعف حكيم، ومخالفته لزبيد. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -87/ 2592 - وفي "الكبرى" 89/ 2373. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1626 (ت) في "الزكاة" 650 (ق) في "الزكاة" 1840 (أحمد) في "مسند المكثرين" 3666 و 4195 و 4249 و 4426 (الدارمي) 1640. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حدّ الغنى:

قال الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن أخرج الحديثَ: ما نصُّهُ: والعمل على هذا عند بعض أصحابنا، وبه يقول الثوريّ، وعبد اللَّه بن المبارك، وأحمد، وإسحاق، قالوا: إذا كان عند الرجل خمسون درهمًا لم تحلّ له الصدقة.

ولم يذهب بعض أهل العلم إلى حديث حكيم بن جُبير، ووسّعوا في هذا، وقالوا:

(1)

- القائل هو أبو بكر الأثرم.

ص: 190

إذا كان عنده خمسون درهمًا، أو أكثر، وهو محتاج، له أن يأخذ من الزكاة، وهو قول الشافعيّ، وغيره من أهل الفقه والعلم انتهى

(1)

.

وقال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا باب اختلف العلماء فيه، ونحن نذكره ههنا - وباللَّه توفيقنا - فأما مالك -رحمه اللَّه تعالى-، فروى عنه ابن القاسم أنه سئل هل يُعطَى من الزكاة من له أربعون درهمًا؟ فقال: نعم، وهو المشهور من مذهب مالك. وروى الواقديّ عن مالك أنه قال: لا يُعطى من الزكاة من له أربعون درهمًا.

قال أبو عمر: هذا يحتمل أن يكون قويًّا مكتسبًا، حسن التصرّف في هذه المسألة، وفي الأولى ضعيفًا عن الاكتساب، أو من له عيال. واللَّه أعلم.

وقد قال مالك في صاحب الدار التي ليس فيها فضلٌ عن سكناه، ولا في ثمنها فضلٌ إن بيعت فيه بعد دار تحمله: إنه يُعطى من الزكاة، قال: وإن كانت الدار في ثمنها ما يشترى له به مسكن، ويفضل له فضلٌ يعيش به: إنه لا يعطى من الزكاة، والخادمُ عنده كذلك.

وقوله أيضًا هذا في الدار والخادم يحتمل التأويلين جميعًا، إلا أن المعروف من مذهبه أنه لا يحدّ في الغنى حدًّا لا يجاوزه إلا على قدر الاجتهاد، والمعروفِ من أحوال الناس، وكذلك يَرُدّ ما يعطى المسكين الواحد من الزكاة أيضًا إلى الاجتهاد من غير توقيف.

فأما الثوريّ، وأبو حنيفة، والشافعيّ، وأبو ثور، وأبو عبيد، وأحمد بن حنبل، والطبريّ، فكلّهم يقولون فيمن له الدار، والخادم، وهو لا يستغني عنهما: إنه يأخذ من الزكاة، وتحلّ له، ولم يفسّروا هذا التفسير الذي فسّره مالك.

إلا أن الشافعيّ قال في "كتاب الكفّارات": من كان له مسكنٌ، لا يستغني عنه هو وأهله، وخادم، أعطي من كفّارة اليمين، والزكاةِ، وصدقة الفطر، قال: وإن كان مسكنه يفضل عن حاجته، وحاجة أهله الفضل الذي يكون بمثله غنيًّا، لم يُعطَ من ذلك شيئًا، فهذا القول ضارع قول مالك، إلا أن مالكًا قال: يفضل له من ذلك فضلٌ يعيش به، ولم يقل: كم يعيش به، والشافعيّ قال: يفضل له من ذلك فضلٌ يكون به غنيًّا.

وروى سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، قال: يُعطَى من الزكاة من له

(1)

- راجع "جامع الترمذيّ" ج 3 ص 315 - 316. بنسخة "تحفة الأحوذيّ".

ص: 191

المسكن والخادم، ورواه الربيع عن الحسن. وفسّره أبو عبيد على نحو ما قال الشافعيّ. وعن إبراهيم النخعيّ نحو قول الحسن في ذلك. وعن سعيد بن جبير مثله.

واختلفوا في المقدار الذي تحرم به الصدقة لمن ملكه من الذهب، والفضّة، وسائر العروض.

فأما مالك فقد ذكرنا قوله في الأربعين درهمًا، ولا اختلاف عنه في ذلك. وكان الحسن البصريّ يقول: من له أربعون درهمًا فهو غني، وحجة من ذهب إلى أن يُحدد في هذا في أربعين درهمًا حديث الأسديّ -يعني الحديث الآتي بعد بابين- وهو حديث ثابت، وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه -يعني الآتي بعد باب-، وحديث أبي سعيد الخدريّ -يعني الآتي بعد باب أيضًا-.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه: لا تحلّ الصدقة لمن له مائتا درهم، ولا بأس أن يأخذ من له أقلّ منها، ويَكرهون أن يُعطَى إنسانٌ واحدٌ من الزكاة مائتي درهم، فإن أعطيها أجزأت عن المعطي عندهم، ولا بأس أن يُعطى أقلّ من مائتي درهم، وهو قول ابن شُبْرُمة. ورَوَى هشام عن أبي يوسف في رجل له على رجل مائة وتسعة وتسعون درهمًا، فيتصدّق عليه من الزكاة بدرهمين أنه يقبل واحدًا، ويردّ واحدًا، ففي هذا إجازة أن يقبل تمام المائتين، وكراهة أن يقبل ما فوقها.

وحجّتهم في ذلك قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردّها في فقرائكم". والغنيّ من له مائتا درهم؛ لوجوب الزكاة عليه فيها؛ لأنها لا تؤخذ إلا من غنيّ.

وكان الثوريّ، والحسن بن صالح، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه يقولون: لا يُعطى من الزكاة من له خمسون درهمًا، أو عدلها من الذهب.

واحتجّوا في ذلك بحديث عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - في ذلك -يعني حديث الباب- قال: وهذا الحديث إنما يدور على حكيم بن جُبير، وهو متروك الحديث. هكذا رواه جماعة من أصحاب الثوريّ، منهم ابن المبارك، وغيره، عن الثوريّ، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -. إلا يحيى بن آدم، فإنه جعل فيه مع حكيم بن جبير زبيدًا الأياميّ. ولا يجوز عند الثوريّ، وأحمد بن حنبل، والحسن بن صالح، ومن قال بقولهم أن يُعطى أحدٌ من الزكاة أكثر من خمسين درهمًا؛ لأنه الحدّ بين الغنيّ والفقير عندهم، والزكاة إنما جعلها اللَّه للفقراء، والمساكين، وحرّمها على الأغنياء، إلا الخمسة الذين

ص: 192

ذكرهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وقال عبيد اللَّه بن الحسن: من لا يكون له ما يقيمه، ويكفيه سنةً، فإنه يُعطى من الزكاة، وما أعلم لهذا القول وجهًا، إلا أن يكون صاحبه عساه أخذه من حديث ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الْحَدَثَان، عن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يدّخر مما أفاء اللَّه عليه قوت سنة، ثم يجعل ما سوى ذلك في الكُرَاع، والسلاح، مع قول اللَّه عز وجل:{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} .

وقال الشافعيّ: يعطى الرجل على قدر حاجته حتى يُخرجه ذلك من حدّ الفقر إلى حدّ الغنى، كان ذلك تجب فيه الزكاة، أو لا تجب فيه الزكاة، ولا أَحَدَ حَدّ في ذلك حدًّا. ذكره المزنيّ، والربيع جميعًا عنه، ولا خلاف عنه في ذلك. وكان الشافعيّ يقول أيضًا: قد يكون الرجل بالدرهم غنيًّا مع كسبه، ولا يُغنيه الألف مع ضعفه في نفسه، وكثرة عياله.

وقال الطبريّ: لا يأخذ من الزكاة من له خمسون درهمًا، أو عدلها ذهبًا، إذا كان على التصرّف بها قادرًا، حتى يستغني عن الناس، فهذا كان كذلك حرُمت عليه الصدقة.

وأما إذا صرف الخمسين درهمًا في مسكن، أو خادم، أو ما لا يجد منه بُدًّا، وليس له سواها، وكان على التصرّف بها غير قادر حلّت له الزكاة بحديث ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الخمسين درهمًا -يعني حديث الباب-. وذكر حديث قبيصة بن المخارق: لا تحلّ المسألة لمن له سداد من عيش، أو قوام من عيش. فكأنه جعل السداد الخمسين درهمًا المذكورة في حديث ابن مسعود. واللَّه تعالى أعلم بهذا الظاهر من معنى قوله هذا.

قال أبو عمر: ليس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه في هذا الباب شيء يرفع الإشكال، ولا ذكر أحدٌ عنه، ولا عنهم في ذلك نصًّا، غير ما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من كراهية السؤال، وتحريمه لمن ملك مقدارًا مّا، في آثار كثيرة، مختلفة الألفاظ والمعاني، فجعلها قومٌ من أهل العلم حدًّا بين الغنيّ والفقير.

وأبى ذلك آخرون، وقالوا: إنما فيها تحريم السؤال، أو كراهيته، فأما من جاءه شيء من الصدقات عن غير مسألة، فجائزٌ له أخذه، وأكله، ما لم يكن غنيًّا الغنى المعروف

(1)

-وهو الحديث الذي أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، بإسناد صحيح، ولفظ أحمد: 11144 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدٍ بْن أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِىِ سعيد الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقةُ لِغَنِيٍّ، إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِعَامِل عَلَيْهَا، أوْ رَجُلٍ اشتَرَاهَا بمَالِهِ، أَوْ غَارِمٍ، أَوْ غَازٍ فِي سَبيلِ اللَّهِ، أو مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا، فأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِيًّ".

ص: 193

عند الناس، فتحرم عليه حينئذ الزكاة، دون التطوّع.

ولا خلاف بين علماء المسلمين أن الصدقة المفروضة لا تحلّ لغنيّ، إلا ما ذُكر في حديث أبي سعيد الخدريّ

(1)

.

واختلفوا في صدقة التطوّع، هل تحلّ للغنيّ؟، فمنهم من يرى التنزّه عنها، ومنهم من لم ير بها بأسًا، إذا جاءت من غير مسألة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر:"ما جاءك من غير مسألة، فكله، وتموّله، فإنما هو رزق ساقه اللَّه إليك". مع إجماعهم على أن السؤال لا يحلّ لغنيّ معروف الغنى.

وأكثر من كره صدقة التطوّع إنما كرهها من أجل الامتنان، ورأوا التنزّه عن التطوّع من الصدقات؛ لما يلحق قابضها من ذلّ النفس، والخضوع لمعطيها، ونزعوا، أو بعضهم بالحديث:"إن الصدقة أوساخ الناس، يغسلونها عنهم"، فرأوا التنزّه عنها، ولم يُجيزوا أخذها لمن استغنى عنها بالكفاف، ما لم يضطرّ إليها، حتى قال سفيان - رحمه اللَّه تعالى -: جوائز السلطان أحبّ إليّ من صلات الإخوان؛ لأنهم يمنّون.

قال أبو عمر: أما من حدّ في الغنى حدًّا خمسين درهمًا، أو أربعين درهمًا، أو مائتي درهم، وزعموا أن المرء غنيّ بملكه هذا المقدار، على اختلافهم فيه، ومن قال: لا يُعطى أحدٌ من الفقراء أكثر من مائتي درهم، أو أكثر من خمسين درهمًا من الزكاة، فإنه يدخل على كلّ واحد منهم ما يردّ قولَه من حديث سهل بن أبي حثْمَة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَدَى الأنصاريّ المقتول بخيبر بمائة ناقة من إبل الصدقة، ودفعها إلى أخيه عبد اللَّه بن سهل، قد نزع لهذا بعض أصحابنا، وفي ذلك عندي نظر.

فأما من جعل المرء بملكه ما تجب فيه الصدقة غنيًّا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم"، فإنه يدخل عليه الإجماع على أن من ملك خمسة أوسق من شعير، قيمتها خمسة دراهم، أو نحوها، مما لا يكون غنى عند أحد، وكان ملكه إياها بزرعه لها في أرضه، ولم يملك من حصاده غيرها أن الصدقة عليه فيها، وإن لم يملك شيئًا سواها، وهذا عند جميعهم فقير مسكين، غير غنيّ، وقد وجبت عليه الصدقة، وهذا ينقض ما أصّلوه. وما ذهب إليه مالك، والشافعيّ أولى بالصواب في هذا الباب، واللَّه أعلم انتهى كلام ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ذهب إليه الحافظ أبو عمر رحمه الله تعالى، من ترجيح مذهب الإمامين: مالك، والشافعيّ، وهي إحدى الروايتين عن

(1)

- هو الحديث الذي أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، كما سبق قريبًا.

(2)

- راجع "التمهيد" ج 4 ص 97 - 119.

ص: 194

أحمد، واختارها أبو الخطّاب -كما قال ابن قدامة --رحمهم اللَّه تعالى-- هو الأرجح عندي.

وحاصله أن الغنى المانع من أخذ الزكاة هو الكفاية، فإذا لم يكن محتاجًا حرمت عليه الزكاة، وإن لم يملك شيئًا، وإن كان محتاجًا حلت له، وإن ملك نصابًا، أو أكثر من أي نوع كان، فتقدّر الكفاية بسدّ الحاجة، لا بخمسين درهمًا، أو نحوها، لأن اللَّه تعالى جعلها للفقراء والمساكين، فكلّ من له حاجة فهو فقير، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، والأزمان، والأمكنة، فيقدّر فقر كلّ أحد على حسب حاله، فيجوز له أخذ الزكاة بقدر ما يسدّ حاجته، فربّ شخص يكون عنده ألف أو أكثر، ولا يكفيه؛ لكثرة عياله، فتحلّ له الزكاة، وآخر عنده عشرة دراهم، ولا يحتاج إلى غيرها، فلا تحلّ له.

وأما النصوص التي اعتمدوا عليها من تقدير الغنى بالخمسين، أو أربعين، أو بما يغدّيه، ويعشيه، فإنما هي للنهي عن السؤال، لا لأخذ الصدقة من غير سؤال، على أن بعضها لا يصحّ كحديث الخمسين، كما قدمته قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌88 - (بَابُ الإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَة)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على النهي عن الإلحاف، أي شدّة الإلحاح في المسألة.

2593 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَا يَسْأَلْنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا، وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ، فَيُبَارَكُ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الحسين بن حُرَيث) الخُزَاعيُّ، أبو عمار المروزيُّ، ثقة [10] 8/ 2216.

2 -

(سفيان) بن عيينة المكي الحافظ الثبت الحجة [8] 1/ 1.

3 -

(عمرو) بن دينار الجُمَحيُّ الأثرم، أبو محمد المكي، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

4 -

(وهب بن مُنَبِّه) بن كامل الأبْنَاويّ، أبو عبد اللَّه اليماني، ثقة [3] 65/ 2557.

5 -

(أخوه) همام بن مُنَبِّه بن كامل، أبو عقبة الصنعاني، ثقة [4] 1/ 397.

ص: 195

6 -

(معاوية) بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموي، الخليفة الصحابي ابن الصحابيّ رضي الله عنهما تقدم 286/ 294. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله. ومنها: أن رجاله كلهم رجال الصحيح. ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعضهم: عمرو عن وهب عن همام، وفيه رواية الأخ عن أخيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مُعَاوِيَةَ) بن أبي سفيان - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ: لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ) بضم حرف المضارعة، من ألحف رباعيّا. وذكر السنديّ أنه من ألحف، أو لحّف بالتشديد، ولم أر في كتب اللغة التشديد، فليُنظر. قال ابن منظور: الإلحاف: شدّة الإلحاح في المسألة، وألحف السائلُ: ألحّ، قال ابن بَرّيّ: ومنه قول بشّار بن بُرْد [من الرجز]:

الْحُرُّ يُلْحِي والْعَصَا لِلْعَبْدِ

وَلَيْسَ لِلْمُلْحِفِ مِثْلُ الرّدِّ

ونقل الأزهريّ، عن الزجّاج أن معنى ألحف شَمِلَ بالمسألة، وهو مستغننٍ عنها، قال: واللَّحَاف من هذا اشتقاقه؛ لأنه يَشمَل الإنسان في التغطية، قال: والمعنى في قوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} أي ليس منهم سؤالٌ، فيكون إلحاح، كما قال امرؤ القيس:

عَلَى لِاحِب لَا يهتَدَى بمَنَارهِ

المعنى: ليس به منارٌ، فيُهتَدَى به. انتهى كلام ابن منظورَ بتصرّف

(1)

. وقد تقدّم تمام الكلامِ في معنى الآية في 76/ 2571 وباللَّه تعالى التوفيق.

(وَلَا يَسْأَلنِي) بالرفع على أن "لا" نافية، ويحتمل أن تكون ناهية، والفعل بعدها مجزوم بها (أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا) أي من المال (وَأَنا لَهُ كَارِهٌ) جملة في مَحَلِّ نصب على الحال من مقدر، أي فأعطيه، والحال أنا كاره لعطائه، يوضّح التقدير المذكور ما في صحيح مسلم، ولفظه:"فتُخرج له مسألته منِّي شيئًا، وأنا له كاره"(فَيُبَارَكَ لَهُ) بالنصب بـ "أن" مضمرة بعد الفاء السببيّة الواقعة في جواب النفي، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهَا حَتْمٌ نَصَبْ

(فِيمَا أَعْطَيْتُهُ) يعني أن المال الذي أعطاه صلى الله عليه وسلم للسائل، وهو كاره لعطائه لا يبارك اللَّه تعالى فيه. وفيه تحريم الإلحاح في السؤال؛ لأنه ورد بصيغة النهي، وهي للتحريم ما لم

(1)

- راجع "لسان العرب" في مادة لحف.

ص: 196

يصرفها صارف، ولا صارف هنا، وأن ما أُخذ عن إلحاح لا بركة فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

حديث معاوية - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -88/ 2593 - وفي "الكبرى" 90/ 2374. وأخرجه (م) في "الزكاة" 1038 (أحمد) في "مسند الشاميين" 16450 (الدارميّ) في "الزكاة" 1644.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم الإلحاف، وهو النهي عنه، والظاهر أنه للتحريم؛ إذ لا صارف له (ومنها): بيان نزع البركة عما أخذ بالإلحاف (ومنها): أنه يستفاد منه أن ما أُخذ بدون إلحاف يبارك اللَّه تعالى فيه، وذلك كأن يسأل لحاجة، بدون إلحاح، أو يُعطَى بغير سؤال، ويوضّح ذلك حديث حكيم بن حزام - رضي اللَّه تعالى عنه - الآتي -93/ 2601 - : "فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه

" الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌89 - (مَنِ الْمُلْحِفُ؟)

أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالّين على جواب سؤال من سأل عن الملحف، بقوله:"من الملحف"، فـ "من" هنا استفهاميّة مبتدأ، و"الملحف بصيغة اسم الفاعل خبر المبتدإ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2594 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ شَابُورَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَأَلَ، وَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، فَهُوَ الْمُلْحِفُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "داود بن شابور" -بالمعجمة، والموحّدة- أبو سليمان المكيّ [6].

قال ابن معين، وأبو زرعة، وأبو داود، والنسائيّ: ثقة. وقال إبراهيم الحربيّ: مكيّ ثقة. وذكر البيهقيّ في "المعرفة" أنّ الشافعيّ قال: هو من الثقات. وذكره ابن حبّان في

ص: 197

"الثقات"، وقال: قيل: إنه داود بن عبد الرحمن بن شابور. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والمصنّف. وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

والباقون كلهم ثقات، وقد تقدّموا في الباب الماضي والذي قبله. واللَّه تعالى أعلم. شرح الحديث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبيهِ) شعيب بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص (عَنْ جَدِّهِ) الصحيح أن الضمير يعود إلى شعيب، لا إلى عمرو، وجدّه هو عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ) أي من الناس مالًا (وَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (فَهُوَ الْمُلْحِفُ) أي فهو الملحّ في المسألة الذي بين حكمه -وهو التحريم- في حديث الباب المتقدّم بقوله: "لا تلحفوا في المسألة". واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح، انفرد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا -89/ 2594 - وفي "الكبرى" 91/ 2375. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعمِ الوكيل.

2595 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَرَّحَتْنِي أُمِّي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُهُ، وَقَعَدْتُ فَاسْتَقْبَلَنِي، وَقَالَ «مَنِ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ عز وجل، وَمَنِ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ عز وجل، وَمَنِ اسْتَكْفَى كَفَاهُ اللَّهُ عز وجل، وَمَنْ سَأَلَ، وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ، فَقَدْ أَلْحَفَ» ، فَقُلْتُ: نَاقَتِي الْيَاقُوتَةُ خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ، فَرَجَعْتُ، وَلَمْ أَسْأَلْهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(ابن أبي الرجال) هو: عبد الرحمن بن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن الأنصاريّ المدنيّ، نزيل الثُّغُور، صدوق ربّما أخطأ [8] 43/ 949 من رجال الأربعة.

3 -

(عمارة بن غزية) الأنصاري المدني، لا بأس به [6] 168/ 1137.

4 -

(عبد الرحمن بن أبي سعيد) الخدري الأنصاري المدني، ثقة [3] 1/ 326.

5 -

(أبوه) سعد بن مالك بن سنان الخدري، أبو سعيد الأنصاري رضي الله عنهما 169/ 262. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله رجال الصحيح غير ابن أبي

ص: 198

الرجال كما مرّ آنفًا، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة روى (1170) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) سعد بن مالك بن سنان - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: سَرَّحَتْنِي أُمِّي) بتشديد الراء، من التسريح، وهو الإرسال، أي أرسلتني (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي ليسأله شيئًا من المال لحاجة ألمّت بهم، كما بيّنته الرواية الآتية في المسألة الرابعة عن "التمهيد" لابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى- (فَأتَيْتُهُ، وَقَعَدْتُ، فَاسْتَقْبَلَنِي) يقال: استقبلت الشيء: إذا واجهته (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَنِ) هي في المواضع الثلاثة يحتمل أن تكون موصولة مبتدأ، ويحتمل أن تكون شرطيّة (اسْتَغنَى أَغْنَاهُ اللَّه عز وجل) أي من طلب من اللَّه تعالى أن يُغنيه عن مسألة الناس رزقه الغنى عنهم، إما بأن يرزقه مالًا كثيرًا، أو يرزقه القناعة بما لديه، وإن قلّ (وَمَنِ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ عز وجل) أي من طلب من اللَّه تعالى أن يرزقه العفاف من الحرام رزقه اللَّه تعالى الحلال الذي يمنعه من الوقوع في الحرام، أو يرزقه العفّة منه (وَمَنِ اسْتَكْفَى كَفَاهُ اللَّه عز وجل) أي من طلب من اللَّه تعالى الكفاية رزقه ما يكفيه عن التعرّض لما عند الناس بالسؤال أو غيره (وَمَنْ) هي هنا شرطيّة؛ لاقتران جوابها بالفاء (سَأَلَ، وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ) - بضمّ الهمزة، وتشديد الياء- قال الفيّوميّ: هي عند العرب أربعون درهمًا، وهي في تقدير أُفعولة، كالأُعجوبة، والأُحدُوثة، والجمع الأواقيّ بالتشديد، والتخفيف. وقال ثعلبٌ في باب المضموم أوّلُهُ: وهي الأُوقيّة، والْوُقيّة لغة، وهي بضمّ الواو، هكذا هي مضبوطة في كتاب ابن السّكّيت. وقال الأزهريّ: قال الليث: الوُقيّة سبعة مثاقيل، وهي مضبوطة بالضمّ أيضًا. قال المطّرّزيّ: وهكذا هي مضبوطةٌ في شرح السنّة في عدّة مواضع، وجرى على ألسنة الناس بالفتح، وهي لغة حكاها بعضهم، وجمعُها وَقَايَا، مثلُ عَطيّة وعَطَيَا انتهى كلام الفيّوميّ

(1)

.

سمّيت أوقيّة من الوقاية؛ لأن المال مخزون مصون، أو لأنه يقي الشخص من الضرورة.

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: والأوقية إذا أطلقت، فإنما يراد بها الفضّة، دون الذهب وغيره، هذا قول العلماء، ألا ترى إلى حديث أبي سعيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه -:"ليس فيما دون خمس أوق صدقة" فلم يختلف العلماء أنه لم يَعنِ بذلك إلا

(1)

- "المصباح المنير" في مادّة وقى.

ص: 199

الفضّة، دون غيرها، وما علمت أن أحدًا قال في الأوقيّة المذكورة في هذا الحديث أنه أريد بها غير الفضّة، وفي ذلك كفاية انتهى

(1)

.

وقال الباجي -رحمه اللَّه تعالى-: هذا إنما هو في السؤال دون الأخذ، فيحلّ أخذ الصدقة لمن له خمس أواق، وإن كان تجب عليه زكاتها، إذا كان ذا عيال. انتهى

(2)

.

(فَقَدْ أَلْحَفَ) أي سأل بالإلحاح المنهي عنه. قال أبو سعيد (فَقُلْتُ) أي في نفسي (نَاقَتِي الْيَاقُوتَةُ) أي المسمّاة بهذا الاسم (خَيْرٌ مِنْ أُوقيَّةِ، فَرَجَعْتُ، وَلَمْ أَسْأَلْهُ) أي لم أسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا من المال. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي سعيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -89/ 2595 - وفي "الكبرى" 91/ 2376. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1628 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 10606 و 10676 و 110007. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان معنى الْمُلْحِف، وهو الذي يسأل، وعنده من المال أوقيّة، وهو أربعون درهمًا (ومنها): أن هذا الحديث، والذي قبله فيه بيان معنى قوله تعالى:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} الآية (ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من بيان الأحكام للناس، ولو لم يسأله أحد؛ حيث إن اللَّه تعالى وكل إليه البيان بقوله:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية (ومنها): فضل أبي سعيد - رضي اللَّه تعالى عنه -، حيث ترك السؤال، وقد جاء من أجله لَمّا سمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يُنَفّر عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): ذكر الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى- أن حديث أبي سعيد -رضي اللَّه تعالى عنه - المذكور في الباب روي بغير هذا اللفظ، فقال في "التمهيد" -بعد أن أورد حديث رجل من بني أسد الآتي في الباب التالي-: ما لفظه:

(1)

- "التمهيد" ج 4 ص 96.

(2)

- "شرح الزرقانيّ" على "الموطأ" ج 4 ص 426.

ص: 200

وقد رَوَى عمارة بن غَزيّة، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدريّ، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحو هذا الحديث الذي رواه عطاء بن يسار، عن الأسديّ، قال أبو سعيد: استُشهِد أبي يوم أحد، وتركَنَا بغير مال، فأصابتنا حاجة شديدة، فقالت لي أمّي: أَيْ بُنَيّ ائت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاسأله لنا شيئًا، قال: فجئت، وهو في أصحابه جالسٌ، فسلّمتُ، وجلستُ، فاستقبلني، وقال:"من استغنى أغناه اللَّه، ومن استعفّ أعفّه اللَّه، ومن استكفّ كفاه اللَّه"، قال: قلت: ما يريد غيري، فرجعت، ولم أكلّمه في شيء، فقالت لي أمّي ما فعلتَ؟ فأخبرتها الخبر، فرزقنا اللَّه شيئًا، فصبرنا، وبلغنا، حتى ألحّت علينا حاجة هي أشدّ منها، فقالت لي أمّي: ائت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسله لنا شيئًا، قال: فجته، وهو في أصحابه جالسٌ، فاستقبلني، فأعاد القول الأول، وزاد فيه:"من سأل، وله أوقيّةٌ، أو "قيمة أوقيّة، فهو مُلحف"، فقلت: إن لنا ناقةً خيرًا من أوقيّة، فرجعت، ولم أسأله.

هكذا رُوي هذا الحديث عن أبي سعيد، ورواه مالك، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثيّ، عن أبي سعيد الخدريّ بغير هذا اللفظ

(1)

، والمعنى واحد، إلا أنه لم يذكر فيه:"من سأل، وله أوقيّة" إلى آخره، وإنما هذا موجود من رواية مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد -يعني الحديث الآتي في الباب التالي-.

وهذا الحديث من حديث ابن شهاب محفوظ كما رواه مالك، وليس يُحفَظ حديث أبي سعيد الخدريّ المذكور فيه الأوقيّة إلا بالإسناد المذكور، عن عمارة بن غَزيّة، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، وهو لا بأس به، وقد احتجّ به أحمد بن حنبل انتهى كلام ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

(1)

- هو الحديث الذي تقدّم للمصنف برقم 85/ 2588.

(2)

- "التمهيد" ج4 ص 9495.

ص: 201

‌90 - (إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ دَرَاهِمُ، وَكَانَ لَهُ عَدْلُهَا)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: جواب "إذا" محذوفٌ يدلّ عليه الحديث، تقديره: لا يسأل؛ لكونه إلحافًا.

و"العدل" -بالكسر والفتح-: المثل، وقيل: -بالفتح- ما عادله من جنسه، و-بالكسر- ما ليس من جنسه، وقيل بالعكس. قاله ابن الأثير

(1)

.

وقال الفيّومّي: وعِدل الشيء بالكسر: مثله من جنسه، أو مقداره. قال ابن فارس: والعِدْلُ الذي يُعادِلُ في الوزن والقدر، وعدله بالفتح: ما يقوم مقامه من غير جنسه، ومنه قوله تعالى:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} ، وهو في الأصل مصدر، يقال: عَدَلت هذا بهذا عَدْلًا، من باب ضرب: إذا جعلته مثله، قائمًا مقامه، قال تعالى:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} . انتهى

(2)

. والمراد هنا: القيمة. واللَّه تعالى أعلم.

2596 -

قَالَ

(3)

الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، قَالَ: نَزَلْتُ أَنَا وَأَهْلِي، بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَقَالَتْ لِي أَهْلِي: اذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَلْهُ لَنَا شَيْئًا نَأْكُلْهُ، فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ رَجُلاً يَسْأَلُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«لَا أَجِدُ مَا أُعْطِيكَ» ، فَوَلَّى الرَّجُلُ عَنْهُ، وَهُوَ مُغْضَبٌ، وَهُوَ يَقُولُ: لَعَمْرِى إِنَّكَ لَتُعْطِي مَنْ شِئْتَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّهُ لَيَغْضَبُ عَلَيَّ، أَنْ لَا أَجِدَ مَا أُعْطِيهِ، مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ، وَلَهُ أُوقِيَّةٌ، أَوْ عِدْلُهَا، فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا» ، قَالَ: الأَسَدِيُّ، فَقُلْتُ لَلَقْحَةٌ لَنَا، خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ، وَالأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ، فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ شَعِيرٌ وَزَبِيبٌ، فَقَسَّمَ لَنَا مِنْهُ، حَتَّى أَغْنَانَا اللَّهُ عز وجل).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الحارث بن مسكين) الأموي مولاهم، أبو عمرو المصري، ثقة [10] 9/ 9.

2 -

(ابن القاسم) هو: عبد الرحمن العُتِقيُّ المصريّ، صاحب مالك، ثقة فقيه، من

(1)

- "النهاية" ج 3 ص 191.

(2)

- "المصباح المنير" في مادة عدل.

(3)

- وفي النسخة الهندية: "قال: أخبرنا الحارث الخ. وعليه فيكون قائل "قال" هو تلميذ المصنّف. وفي "الكبرى": "الحارث بن مسكين الخ" بدون "قال"، ولا "أخبرنا".

ص: 202

كبار [10] 19/ 20.

3 -

(مالك) بن أنس الإمام الحجة الفقيه المدني [7] 7/ 7.

4 -

(زيد بن أسلم) العدوي مولاهم المدني، ثقة فقيه [3] 64/ 80.

5 -

(عطاء بن يسار) مولى ميمونة المدني، ثقة فقيه عابد [3] 64/ 80.

6 -

(رجل من بني أسد) مبهم يأتي الكلام عليه. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، وهو مسلسل بالمدنيين، غير الحارث وابن القاسم فمصريان، وفيه رواية تابعي عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ رَجُل مِنْ بَني أَسَدٍ) لم يسمّ، ولكن لا يضرّ ذلك، إذ هو - رضي اللَّه تعالى عنه - صحابيّ، فجهالته لا تضرّ؛ لأنهم كُلَّهم عُدُول، فالحديث صحيح.

قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: هكذا رواه مالك، وتابعه هشام ابن سعد وغيره، وهو حديث صحيحٌ متّصلٌ، وليس حكم الصاحب إذا لم يُسمّ كحكم من دونه إذا لم يسمّ عند العلماء؛ لارتفاع الجرحة عن جميعهم، وثبوت العدالة لهم، قال الأثرم: قلت لأبي عبد اللَّه أحمد بن حنبل: إذا قال رجلٌ من التابعين: حدّثني رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يسمّه، فالحديث صحيح؟ قال: نعم. انتهى

(1)

.

(قَالَ: نَزَلْتُ أَنَا وَأَهْلِي) المراد زوجته بدليل قوله: "فقالت لي أهلي"، ويحتمل أن يكون المراد أهل بيته، يؤيّد هذا ما يأتي لأبي داود:"فجعلوا يذكورون من حاجاتهم"(بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ) هو مَدفن أهل المدينة. والبقيع في الأصل المكان المتّسع من الأرض.

وقيل: هو خاصّ بما فيه شجر، أو أصول شجر، من ضروب شتّى. والغرقد -بفتح الغين المعجمة، وسكون الراء، وفتح القاف-: شجرٌ له شوكٌ، كالسدر، وكان في مدفن أهل المدينة، ثم زال، وبقي اسمه (فَقَالَتْ لِي أَهْلِى) ولفظ "الكبرى":"فقال لي أهلي"(اذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَلْهُ لَنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ) زاد في رواية أبي داود: "فجعلوا يذكرون من حاجاتهم"، والضمير لأهله، زوجته ومن معها (فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي ليسأله (فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ رَجُلًا يَسَأَلُهُ) أي شيئًا من المال (وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"لَا أَجِدُ مَا أُعْطِيكَ"، فَوَلَّى الرَّجُلُ عَنْهُ) ولأبي داود:"فتولّى الرجل"(وَهُوَ مُغْضَبٌ) اسم

(1)

- راجع "التمهيد" لابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى- ج 4 ص 93 - 94.

ص: 203

مفعول، من أُغضِب، والجملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، أي أدبر، والحال أنه غضبان؛ لعدم قضاء النبيّ صلى الله عليه وسلم حاجته (وَهُوَ يَقُولُ) جملة حالية معطوفة على الأولى (لَعَمْرِي) بفتح العين المهملة، وسكون الميم: أي لحياتي، ولا تستعمل في القسم إلا بالفتح، وأما في غيره، فيجوز فيها الفتح، والضمّ، والضمّتان، والجمع أعمار.

[فإن قلت]: كيف أقرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم الرجل على هذا الحلف، وقد صحّ عنه النهي عن الحلف بغير اللَّه؟.

[قلت]: يجاب عنه بأنه قبل النهي عن الحلف بغير اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم.

(وإِنَّكَ لَتُعْطِي مَن شِئْتَ) ممن لا يستحقّها، أي وتمنع من شئت ممن يستحقّها، والظاهر أن الرجل كان من أجلاف الأعراب حديث عهد بالإِسلام، أو كان منافقًا، على أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان لا ينتقم لنفسه.

وقال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: يحتمل أن يكون من الأعراب الجفاة الذين لا يدرون حدود ما أنزل اللَّه على رسوله.

وفي هذا دليلٌ على ما قال مالك: إن من تولّى تفريق الصدقات لم يَعدَم من يلومه، قال: وقد كنتُ أتولاّها لنفسي، فأوذيت، فتركت ذلك.

وقد يجوز أن يكون مَنْعُ النبيّ صلى الله عليه وسلم للرجل الذي منعه حين سأله من الصدقة؛ لأنه كان غنيًّا، لا تحلّ له، أو ممن لا يجوز له أخذها لمعان، اللَّه ورسوله أعلم بها انتهى كلام ابن عبد البرّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني فيه نظر، إذ ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"لا أجد ما أعطيك" يُبعده. واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ لَيَغْضَبُ عَلَيَّ، أَنْ لَا أَجِدَ مَا أُعْطِيهِ)"أن" مصدريّة، والمصدر المنسبك مجرور بحرف جرّ محذوف قياسًا، أي في عدم وجودي شيئًا أعطيه (مَنْ سَأَلَ مِنْكُمٌ، وَلَهُ أُوقِيَّةٌ، أَوْ عِدْلُهَا) تقدّم أول الباب ضبطها بالكسر، والفتح، والخلاف في ذلك، والمعنى: ما يبلغ قيمتها من غير الدراهم (فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا) منصوب على الحال، أو مفعولٌ لأجله (قَالَ: الأسَدِيُّ) أي الرجل المنسوب إلى بني أسد، وهو الصحابيّ الراوي للحديث (فَقُلْتُ) عند سماع ذلك (لَلَقْحَةٌ لَنَا) بفتح اللام الأولى، وهي ابتدائية، أو جواب قسم مقدّر، وبكسر اللام الثانية، أو فتحها: هي الناقة

(1)

- راجع "التمهيد" ج 4 ص 95 - 96.

ص: 204

القريبة العهد بالنتاج، أو التي هي ذات اللبن، جمعها لِقَحٌ، مثلُ سِدْرة وسِدَر،، أو مثلُ قَصْعة، وقِصَع (خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ، وَالْأوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا) هذا تفسيرٌ من مالك -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، كما صرّح بذلك ابن الجارود في "المنتقى"، ولفظه: قال مالكٌ: والأوقيّة أربعون درهمًا

(1)

(فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسأَلْهُ) فيه دليل على قوّة فهمه بغيره (فَقُدِمَ) بضمّ القاف، وكسر الدال

(2)

بالبناء للمفعول، ويحتمل أن يكون بالبناء للفاعل، والفاعل "شعير"(عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ شَعِيرٌ وَزَبِيبٌ، فَقَسَّمَ لَنَا مِنْهُ) أي أعطانا بعضه (حَتَّى أَغْنَانَا اللَّهُ عز وجل) أي عن السؤال بما قسمه لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من دون مسألة، أو بغير ذلك مما فتحه اللَّه تعالى عليهم من خيراته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث رجل من بني أسد - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه-90/ 2596 - وفي "الكبرى" 92/ 2377. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1627 (أحمد) في "مسند المدنيين" 15976 وفي "باقي مسند الأنصار" 23136 و (الموطأ) في "كتاب الجامع" 1884. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أنه إذا لم يكن عند الشخص أربعون درهما، ولكن عنده ما يعادلها قيمة من غير النقود كان كمن عنده أربعون درهمًا، فلا يحلّ له أن يسأل الناس (ومنها): ما كان عليه بعض الأعراب من الجهل بمقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وغلظة الطبيعة، وجفاء السلوك، كما أخبر اللَّه تعالى عنهم بقوله:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية (ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الحلم، والصفح، والعفو، والإعراض عن الجاهلين، عملًا بقوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (ومنها): ما كان عليه الصحابة من الصبر على الإقلال، وقلّة ذات اليد (ومنها): ما كان عليه الصحابة من قوّة الفهم، وشدّة الحزم والعزم، فإن هذا الصحابيّ جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسأله في حاجة له، فلما سمع منه الموعظة اتعظ، وأعرض عن

(1)

- راجع "المنتقى" لابن الجارود ص 133.

(2)

- انظر الضبط في "شرح الزرقاني" ج 4 ص 426.

ص: 205

حاجته، وتوكّل على ربّه، فرجع، ففتح اللَّه تعالى عليه من غير مسألة، فاستغنى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2597 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هناد بن السري) التيمي الكوفي، ثقة [10] 23/ 25.

2 -

(أبو بكر) بن عيّاش الكوفيّ الثقة العابد المقرئ المشهور، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح [7] 98/ 121.

3 -

(أبو حصين) -بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين- عثمان بن عاصم الأسديّ الكوفيّ الثقة الثبت [4] 102/ 152.

4 -

(سالم) بن أبي الجعد رافع الغطفانيّ الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ الثقة [3] 61/ 77.

(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير الصحابي، فمدني، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تحَلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ) هذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم، وإنما الخلاف بينهم في حد الغنى الذي يحرّم الصدقة، وقد تقدّم تحقيق الخلاف في ذلك في باب "حدّ الغنى" -87/ 2592 - وأن الأرجح أن حد الغنى يعتبر في كلّ شخص بحاله، وحال الزمن، والمكان. فقد قال الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-: لا حدّ للغنى معلومًا، وإنما يُعتبر حال الإنسان. وقال أيضًا: قد يكون الرجل بالدرهم غنيًّا مع الكسب، ولا يُغنيه الألف، مع ضعفه في نفسه، وكثرة عياله انتهى.

والحاصل أن من وجد كفايته هو الغنيّ، وإن كان لا يملك إلا قليلًا، ومن لا فلا، وإن كان يملك كثيرًا. واللَّه تعالى أعلم.

(وَلَا لِدِي مِرَّةٍ) بكسر الميم، وتشديد الراء: أي قوّة. قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-:

ص: 206

معنى الْمِرّة: القوّةُ، وأصلها من شدّة فَتْل الحبل، يقال: أمررت الحبلَ: إذا أحكمت فَتْلَهُ، فمعنى الْمِرّة في الحديث شدّة أَسْرِ الخلق، وصحّة البدن التي تكون معها احتمال الكدّ والتعب انتهى

(1)

. وقال الجوهريّ: الْمِرّة: القوّة، وشدّة العقل، ورجلٌ مَرِير: أي قويّ ذو مرّة. وقال غيره: المرّة القوّة على الكسب والعمل.

(سَوِيٍّ) أي سليم الْخَلْق، تامّ الأعضاء. قال الجوهريّ: السويّ: مستوي الخلق، والمراد استواء الأعضاء، وسلامتها.

ولا بدّ من قيده بكونه مكتسبًا، بدليل الحديث الآتي في الباب التالي بلفظ:"ولا حظّ فيها لغنيّ، ولا لقويّ مكتسب".

يعني أنه لا تحلّ الصدقة لمن كان قويّا سليم الأعضاء مكتسبًا، فلو كان قويّا سليم الأعضاء، ولكن ليس له كسبٌ، أو كان له كسب، ولكن شُغِل عنه، بأن كان عالمًا يحتاج الناس إلى علمه، لو اكتسب لما انتفع بعلمه الناس، أو كان طالب علم، لو اشتغل بالكسب لانقطع عن العلم، ونحو ذلك جاز له أخذها.

والحجة في ذلك أن فقراء المهاجرين كانوا منقطعين للعلم، وللجهاد، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُعطيهم من الصدقة، ولم يكلّفهم بالاكتساب، مع أن أكثرهم قادرون عليه، فدلّ على أن من امتنع عن الاكتساب لمهمّة دينية جاز له أخذها، وإن كان قادرًا على الكسب، فقوله:"لقويّ مكتسب" ظاهر في كونه مكتسبًا بالفعل، فمن تهيّأت له أسباب الكسب، وكان متفرّغًا له، لم يجز له أخذها؛ لحديث الباب. واللَّه تعالى أعلم.

وقال الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قد روي في غير هذا الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تحلّ المسألة لغنيّ، ولا لذي مرّة سويّ"

(2)

، وإذا كان الرجل قويًّا محتاجًا، ولم يكن عنده شيء، فتصدّق عليه أجزأ عن المتصدّق عند أهل العلم، ووجه هذا الحديث عند بعض أهل العلم على المسألة انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- عندي فيه نظرٌ من وجهين:

[أحدهما]: أن الحديث المذكور ضعيف؛ لأن في سنده مجالد بن سعيد، وهو ضعيف.

[والثاني]: أن حديث الباب ليس فيه منع المحتاج عن الصدقة مطلقًا، بل بشرط أن

(1)

- "معالم السنن" ج 2 ص 233.

(2)

- أخرجه الترمذيّ بلفظ: "إن المسألة لا تحلّ لغنيّ، ولا لذي مرّة سويّ

" الحديث، وفي سنده مجالد بن سعيد، وهو ضعيف.

ص: 207

يكون قادرًا على الكسب، ومكتسبًا بالفعل، كما أوضحته فيما سبق، فلو لم يكن له كسبٌ، أو وجد كسبًا، ولكنه لا يقدر عليه، فإنه يجوز له الأخذ منها.

والحاصل أن تأويل الحديث بالمسألة غير صحيح. واللَّه تعالى أعلم.

وقال القاري: في هذا الحديث نفي كمال الحلّ، لا نفس الحلّ، أو لا تحلّ له بالسؤال انتهى.

وقال السنديّ: لا تحلّ الصدقة، أي سؤالها، وإلا فهي تحلّ للفقير، وإن كان صحيحًا سويّ الأعضاء، إذا أعطاه أحدٌ بلا سؤال.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فيما قاله القاري، والسنديّ نظرٌ، فإنه من جنس ما تقدّم في كلام الترمذيّ، وقد عرفت ما فيه، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف. واللَّه تعالى أعلم.

وقال الخطّابيّ: اختلف الناس في جواز أخذ الصدقة لمن يجد قوّة يقدر بها على الكسب، فقال الشافعيّ: لا تحل له الصدقة، وكذلك قال إسحاق بن راهويه، وأبو عبيد. وقال أصحاب الرأي: يجوز له أخذ الصدقة إذا لم يملك مائتي درهم فصاعدًا انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الأرجح ما ذهب إليه الأولون، فلا تحلّ الصدقة لقويّ سليم الأعضاء، مكتسب، فلو لم يكن قادرًا على الكسب، أو كان قادرًا عليه، ولكن لا يتيسّر له، بأن كانت أسباب الكسب غير مُتَاحَة له جاز أخذ الصدقة، وبهذا تجتمع الأحاديث من دون تعارض. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

[فإن قلت]: ذكر في "التنقيح" أن الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- قال: سالم بن أبي الجعد لم يسمع عن أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -. فكيف يصحّ مع الانقطاع؟

[قلت]: لا يضرّ ذلك لأن الحديث رواه الحاكم في "المستدرك" ج 1 ص 407 - من طريق أبي حازم، عن أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ، فلا يضره الانقطاع المذكور؛ لصحّته من هذا الوجه، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 208

أخرجه هنا -90/ 2597 - وفي "الكبرى" 92/ 2378. وأخرجه (ق) في "الزكاة" 1839 (أحمد) في "مسند المكثرين" 8818.

[تنبيه]: إيراد هذا الحديث في هذا الباب فيه بعدٌ، والظاهر أنه من جملة أحاديث الباب التالي؛ إذ هو المناسب له، لكن قد تقدّم في غير موضع، ويأتي أيضًا أن المصنّف جرت له عادة غريبة، وهي أنه يورد في آخر باب مّا حديثًا يتعلق بالباب الذي يليه، ولعله للربط بينهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌91 - (مَسْأَلَةُ الْقَوِيِّ الْمُكْتَسِبِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على حكم سؤال القويّ المكتسب للصدقة، وهو التحريم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2598 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، أَنَّ رَجُلَيْنِ حَدَّثَاهُ، أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَسْأَلَانِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَلَّبَ فِيهِمَا الْبَصَرَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: بَصَرَهُ، فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنْ شِئْتُمَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِىٍّ مُكْتَسِبٍ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاس الصيرفي، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

2 -

(محمد بن المثنى) أبو موسى العَنَزيُّ البصري، ثقة ثبت [10] 64/ 80.

3 -

(يحيى) بن سعيد القطان البصري الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

4 -

(هشام بن عروة) أبو المنذر المدني، ثقة فقيه ربما دلس [5] 49/ 61.

5 -

(أبوه) عروة بن الزبير بن العوّام المدني ثقة ثبت فقيه [3] 40/ 44.

6 -

(عبيد اللَّه بن عديّ بن الخيار) -بكسر المعجمة، وتخفيف التحتانيّة- ابن عديّ بن نوفل بن عبد مناف القرشيّ النوفليّ المدنيّ ثقة [2].

قال أبو القاسم البغويّ: بلغني أنه وُلد في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وذكره ابن سعد في

ص: 209

الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، وقال: أمه أم قتال بنت أسيد بن أبي العيص، ومات بالمدينة في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان ثقة قليل الحديث. وقال خليفة: مات في آخر خلافة الوليد. وقال العجليّ: تابعيّ ثقة، من كبار التابعين، وهو ابن أخت عثمان. وذكره ابن حبّان في الصحابة، وقال: ولد في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم ذكره في ثقات التابعين، وقال: مات سنة (95). وقال ابن ماكولا: قُتل أبوه يوم بدر كافرًا. وذكر ابن سعد أباه في مُسلمة الفتح. وقال ابن إسحاق: حدثني الزهريّ، عن عطاء بن يزيد، عن عبيد اللَّه بن عديّ بن الخيار، وكان من فقهاء قريش، وعلمائهم، وقد أدرك أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم متوافرين.

روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وابن ماجه. وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

7 -

(رجلان) هما: صحابيان رضي الله عنهما، فلا يضر إبهامهما. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأن شيخيه من مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، وأن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وفيه رواية الابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(قَالَ) عروة ابن الزبير (حَدَّثَنِي عُبَيدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، أَنَّ رَجُلَينِ) لم يُسَمّيا، وقد تقدّم قريبًا أن جهالة الصحابيّ لا تضرّ؛ لكون كلهم عدولًا (حَدَّثَاهُ، أَنَّهمَا أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ولفظ أبي داود: "أنهما أتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع، وهو يَقسِم الصدقة، فسألاه منها

" (يَسْأَلَانهِ مِنَ الصَّدقَةِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (فَقَلَّبَ فِيهِمَا الْبَصَرَ) بتشديد اللام، من التقليب، وفي بعض النسخ: "النظر" بدل "البصر". أي أجال فيهما نظره، ليتعرّف هل هما مستحقان للصدقة، أم لا؟. ولفظ أبي داود: "فرفع فينا البصر، وخفَضَه" (وَقَالَ مُحَمَّدٌ بَصَرَهُ) يعني أن محمد بن المثنّى قال في روايته:"بصره" بالإضافة، بدل قول عمرو بن عليّ:"البصر" بأداة التعريف، وهذا من ورع المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وشدّة احتياطه في المحافظة على ألفاظ الشيوخ، وأدائها على وجهها، وإن لم تختلف المعاني (فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ) تثنية جَلْد -بفتح الجيم، وسكون اللام -وهو القويّ، مأخوذ من الْجَلَد -بفتح الجيم، والسلام -وهو القوّة، تقول منه: جَلُد الرجلُ، من باب كرم جَلَدًا -بفتح اللام- وجَلادةً، وجُلُودةً، فهو جَلْدٌ- بسكونها- وجَلِيدٌ: بَيِّنُ القوّة.

ص: 210

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ شِئْتُمَا) هكذا نسخ "المجتبى" بحذف الجواب، أي أعطيتكما من الصدقة. وقد صرّح به في "الكبرى" ولفظه:"إن شئتما أعطيتكما"، ومثله في رواية أبي داود (وَلَا حَظَّ فِيهَا) أي لا نصيب في الصدقة، أو في سؤالها (لِغَنِيٍّ) أي لصاحب مالٍ يُعدّ به غنيًّا (وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِب) أي لقادر على كسب كفايته، وإن لم يكن له مالٌ يعدّ به غنيًّا.

وفيه أن الصدقة لا تحلّ للقادر على اكتساب كفايته، إذ هو مَكْفِيٌّ بالاكتساب، ككفاية الغني بالمال. وإليه ذهب الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد، وابن المنذر. وقال أبو حنيفة، وأصحابه: يجوز للقويّ المكتسب الأخذ من الزكاة ما لم يملك نصابًا فاضلًا عن حوائجه الأصليّة. وقال مالك، وأصحابه: يجوز دفع الزكاة للقادر على الكسب، إذا كان فقيرًا، لا يملك قوت عامه، ولو ترك التكسّب اختيارًا.

قالوا: ومن كانت له صنعة تكفيه وعيالَهُ، لم يُعطَ، وإن لم تكفه أعطي تمام كفايته. وأجابوا عن حديث الباب بأن المراد بقوله:"ولا لقويّ مكتسب" أنه لا يحلّ له أن يسألها مع قدرته على اكتساب قوته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإن شئتما أعطيتكما"، فلو كان الأخذ محرّمًا غير مسقط للزكاة لم يعلّق الإعطاء على اختيارهما، أما إذا أُعطي من غير سؤال، فلا يحرم عليه أخذها؛ لدخوله في الفقراء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ:"أَعْلِمْهُم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وتردّ في فقرائهم"، فجعل الأغنياء من تجب عليهم الزكاة، ومن يأخذها فقيرًا، وإن كان قادرًا على الكسب.

وتُعُقّب بأن هذا صرف للحديث عن ظاهره بدون مقتضٍ، فإنه صريحٌ في تحريم الزكاة على القادر المكتسب، سواء أسألها، أم لم يسألها. وقوله:"إن شئتما أعطيتكما" تفويض لهما في أنهما هل يستحقّانها لفقرهما، أم لا؛ لاستغنائهما بمال، أو كسب.

وقال الطيبيّ: معناه: لا أعطيكما؛ لأنها حرام على القويّ المكتسب، فإن رضيتما بأكل الحرام أعطيتكما، قاله توبيخا انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبيد اللَّه بن عديّ بن الخيار، عن رجدين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

(1)

- راجع "المنهل العذب المورود" ج 9 ص 263 - 264.

ص: 211

أخرجه هنا -91/ 2598 - وفي "الكبرى" 93/ 2379. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1633 (أحمد) في "مسند الشاميين" 17511 وفي "باقى مسند الأنصار" 22554. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم مسألة الشخص القويّ المكتسب، وهو التحريم (ومنها): أن الأصل فيمن لم يُعلم له مالٌ الفقر، والاستحقاق من الصدقة (ومنها): مجرّد القوّة لا يقتضي عدم استحقاق الصدقة، بل لا بدّ من أن ينضمّ إليها الاكتساب (ومنها): أن القادر على اكتساب ما يكيفيه لا يجوز له أخذ من الصدقة المفروضة؛ لاستغنائه بالكسب، كاستغناء الغنيّ بالمال. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه انيب".

‌92 - (مَسْأَلَةُ الرَّجُلِ ذَا سُلْطَانٍ)

2599 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَسَائِلَ كُدُوحٌ، يَكْدَحُ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، فَمَنْ شَاءَ كَدَحَ وَجْهَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ، إِلاَّ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ ذَا سُلْطَانٍ، أَوْ شَيْئًا لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن سليمان) أبو الحسين الرُّهاوي، ثقة حافظ [11] 38/ 42.

2 -

(محمد بن بشر) العبدي الكوفي، ثقة حافظ [9] 5/ 882.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.

4 -

(عبد الملك) بن عمير بن سُوَيد الفَرَسِيّ الكوفيّ، ثقة فقيه تغير حفظه، وربما دلس [3] 41/ 947.

5 -

(زيد بن عقبة) الفزاري الكوفي، ثقة [3] 39/ 1422.

6 -

(سمرة بن جندب) بن هلال الفزاري، حليف الأنصار، صحابي مشهور، مات سنة (58 هـ) تقدم في 25/ 393 واللَّه تعالى أعلم.

ص: 212

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، وفيه رواية تابعي عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَسَائِلَ) جمع مسألة مصدرٌ ميميّ لـ "سأل" بمَعنى السؤال، وإنما جمعت لاختلاف أنواعها، والمراد هنا سؤال الشخص أموال الناس (كُدُوحٌ) بالرفع خبر "إن"، وهو بضمّ الكاف جمع كَدْح، كفلس وفلوس، وهو كلّ أثر، من خَدْشٍ، أو عَضّ. ويحتمل أن يكون مصدرا، سمي به الأثر. والإخبار به عن المسائل حينئذ باعتبار من قامت به آثاره، أي أن سؤال الشخص أموال الناس من غير حاجة، كخدوش (يَكْدَحُ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ) بفتح حرف المضارعة، من باب فتح. أي يَخدُش، ويَجرح بتلك المسائل وجهه يوم القيامة. ويحتمل أن يكون المراد أنه يُريق بالسؤال ماء وجهه، ويسعى في ذهاب كرامته، فهي شين في العِرْض، كما أن الجراحة في الوجه شين فيه.

وفي الرواية الآتية في الباب التالي: "كَدٌّ يكُدّ بها الرجل وجهه". قال الجزريّ: الكدّ الإتعاب، يقال: كَدّ يكُدُّ في عمله: إذا استعجل، وتعب. وأراد بالوجه ماءه، ورَوْنَقَه انتهى. وقال السيوطيّ في "قوت المغتذي": كَدٌّ بفتح الكاف، وتشديد الدال المهملة، وفي رواية أبي داود:"كُدُوح" بضم الكاف، والدال، وحاء مهملة. وقد ذكر اللفظين معًا أبو موسى المدينيّ في "ذيله" على "الغريبين"، وفسّر الكُدوح بالخُدوش في الوجه، والكدّ بالتعب والنصب. قال العراقيّ: ويجوز أن يكون الكدح بمعنى الكدّ، من قوله تعالى:{إِنَّكَ كَادِحٌ} [الانشقاق: 6]، وهو السعي والحرص انتهى ما في "قوت المغتذي"

(1)

.

(فَمَنْ شَاءَ كَدَحَ وَجْهَهُ) بالسؤال (وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ) الكُدُوح، أو السؤال، وهذا ليس بتخيير، بل هو توبيخٌ، كما في قوله تعالى:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} الآية (إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ ذَا سُلْطَانٍ) أي إلا أن يسأل الشخص صاحب حكم وولايةٍ حقَّه من بيت المال، أو غيره، فيباح له السؤال حينئذ، ولا منّة للسلطان في ذلك؛ لأنه متولٍّ بيتَ مال المسلمين، ووكيل على حقوقهم، فهذا سأله المحتاجون إنما يسألونه حقوقهم، فهو كسؤال الإنسان وكيله أن يُعطيه من ماله.

(1)

- "المرعاة" ج 6 ص 265 - 266.

ص: 213

قال الخطّابيّ في "المعالم": قوله: "إلا أن يسأل ذا سلطان" هو أن يسأله حقّه من بيت المال الذي في يده، وليس هذا على معنى استباحة الأموال التي تحويها أيدي بعض السلاطين من غصب أملاك المسلمين انتهى

(1)

.

(أَوْ شَيْئًا لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا) أي إلا أن يسأل غير ذا سلطان شيئًا لا بد له منه، كما إذا تحمّل دينًا لإصلاح ذات البين، أو أصابته فاقة شديدة، أو أصاب ماله جائحة، كما تقدّم تفصيله، فيباح له السؤال.

قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: ظاهره أنه عطفٌ على "ذا سلطان"، ولا يستقيم، إذ السؤال يتعدّى إلى مفعولين: الشخص، والمطلوب المحتاج إليه، و"ذا سلطان" هو الأول، وترك الثاني للعموم، و"شيئًا" ها هنا لا يصلح أن يكون الأولَ، بل هو الثاني، إلا أن يراد بـ "شيئًا" شخصًا، ومعنى "لا يجد منه بُدًّا" أي من سؤاله بُدًّا، وهو تكلّفٌ بعيد، فالأقرب أن يقال: تقديره: "أو يسأل شيئًا الخ"، وحُذف ههنا المفعول الأول؛ لقصد العموم، أو يقدّر: يسأل ذا سلطان أيَّ شيء كان، أو غيره شيئًا لا يجد منه بُدًّا، فهو من عطف شيئين على شيئين، إلا أنه حُذف من كلّ منهما ما ذُكر مماثله في الآخر، من صنعة الاحتباك، واللَّه تعالى أعلم انتهى كلام السنديّ

(2)

.

قيل: ظاهر هذا الحديث أنه لا بأس بسؤال السلطان تكثّرًا؛ لأنه جعل سؤاله قسيمًا لسؤال غيره ما لا بدّله منه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سمرة بن جندب - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -92/ 2599 و 93/ 2600 - وفي "الكبرى" 94/ 2380 و 95/ 2381. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1639 (ت) في "الزكاة" 684. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز سؤال الرجل ذا سلطان؛ لأن له عنده حقًّا في بيت المال، وإن لم يتعيّن (ومنها): جواز سؤال غير ذي السلطان

(1)

- "معالم السنن" ج 2 ص 237.

(2)

- "شرح السندي" ج 5 ص 100 - 102.

ص: 214

في الأمر الذي لا بدّ منه، كأن يتحمّل حمالة، أو يستدين دَينًا في واجب، أو مباح (ومنها): ذم السؤال، وأنه شَينٌ في الشخص، يَجرَح به عرضه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في سؤال السلطان، وقبول جائزته:

قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-بعد أن أخرج الحديث-: ما نصّه: هذا حديث صحيح ثابت، وهو أصلٌ عند العلماء في سؤال السلطان خاصّة، وقبول جوائزه، وأَعطِيَتِهِ على كلّ حال، ما لم يعلمه حرامًا بعينه. وعمومُ هذا الحديث يقتضي كلّ سلطان، لم يخصّ من السلاطين صفة دون صفة، وقد كان يعلم كثيرًا مما يكون بعده، ألا ترى إلى قوله: "سيكون بعدي أمراء يؤخّرون الصلاة عن ميقاتها

" الحديث. فما لم يُعلَم الحرامُ عندهم بصفته جاز قبوله.

ثم أخرج بسنده عن نافع، أن عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - كان يقبل جوائز الأمراء. وروى الأعمش وغيره، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: رأيت هدايا المختار تأتي ابن عبّاس، وابن عمر، فيقبلانها.

قال أبو عمر: قَبِل جوائزَ الأمراء جمهورُ العلماء، منهم: عامرٌ الشعبيّ، والحسن البصريّ، وإبراهيم النخعيّ، وابن شهاب الزهريّ، والقاسم بن مُخيمِرَة، والحسن بن محمد ابن الحنفيّة، وثابتٌ البنانيّ، ويزيد الرَّقَاشيّ، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، ومالك بن أنس، وسفيان الثوريّ، وابن عُيينة، والأوزاعيّ، وسعيد بن عبد العزيز، والشافعيّ، وأبو يوسف، ومحمد، وكان يحيى بن سعيد الأنصاريّ في ديوان الوليد، وكان جماعة من العلماء كانوا في ديوان بني أميّة، وبني العباس في العطاء. وذكر الحسن الحلواني في "كتاب المعرفة"، قال: حدثنا ابن عمير، قال: حدثنا ضمرة، عن أبي جميلة، قال: ذكر الوليد بن هشام لعمر بن عبد العزيز القاسمَ بن مُخيمِرة، قال: فأرسل إليه، فلما دخل عليه قال له عمر: سل حاجتك، قال: يا أمير المؤمنين قد علمتَ ما جاء في المسألة، قال: ليس أنا ذاك، إنما أنا قاسم، فسل حاجتك، قال: يا أمير المؤمنين أخدمني، قال: قد أمرنا لك بخادم، فخذها من عند الوليد بن هشام.

قال: وحدثنا عليّ بن حفص، قال: حدثنا الأشجعيّ، عن سفيان، عن منصور، قال: خرج إبراهيم النخعيّ، وتميم بن سلمة إلى عامل حلوان، فأعطاهما، قال: ففضّل تميمًا على إبراهيم، فوجد إبراهيم من ذلك في نفسه.

وذكر ابن أبي حاتم حديث أحمد بن منصور الرماديّ، عن القعنبيّ، قال: سمعت

ص: 215

يحيى بن سُليم الطائفيّ، يحدّث عن سفيان بن عيينة أن محمد بن إبراهيم -يعني الهاشميّ- كان واليا على مكة، بعث إلى سفيان الثوريّ مائتي دينار، فأبى أن يقبلها، فقلت له: يا أبا عبد اللَّه كأنك لا تراها حلالًا، قال: بلى، ولكنّي أكره أن أَذِلّ.

وكان سفيان الثوريّ يقول: جوائز السلطان أحبّ إليّ من صلة الإخوان؛ لأنهم لا يمنّون، والإخوان يمنّون، وكان يحتجّ بقول ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -: لك الْمَهْنَى، وعليه المَأْثَمُ. وأخرج بسنده عن أبي الخلاّل، قال: سألت عثمان بن عفّان عن جائزة السلطان؟ قال: لحم ظبي ذكيّ. قال: وروينا عن الحسن بن أبي الحسن، من وجوه أنه كان يقول: لا يَرُدّ جوَائزهم إلا أحمق، أو مُرَاءٍ.

قال: وقال الليث: إن لم يكن له مال سوى الخمر، فليكفّ عنه. قال: وأكره طعام العمّال من جهة الورع، من غير تحريم. وقال القاسم بن محمد: لو كانت الدنيا كلها حرامًا لما كان بدّ من العيش فيها.

وقال مالك: فكلّ مَن عَمِل للسلطان عملًا، فله رزقه من بيت المال، قال: فلا بأس بالجائزة يُجاز بها الرجل، يراه الإمام بجائزته أهلًا لعلم، أو دينِ عليه، ونحو ذلك.

قال أبو عمر: ما أعلم أحدًا لم يقبل جوائز السلطان من علماء التابعين إلا سعيد بن المسيّب، وابن سيرين. انتهى كلام ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى- بتصرّف

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌93 - (مَسْأَلَةُ الرَّجُلِ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ)

2600 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمَسْأَلَةُ كَدٌّ، يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إِلاَّ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا، أَوْ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم شرحه، والكلام

(1)

- راجع "التمهيد" ج 18 ص 114 - 119. و"الاستذكار" ج 28 ص 418 - 320.

ص: 216

على مسائله في الباب الماضي، وباللَّه تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2601 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ، بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ، لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ، وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفق عليه، وقد تقدّم برقم -50/ 2531 - وتقدّم شرحه، والكلام على مسائله هناك، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

وقوله: "بسخاوة نفس" قال الزركشيّ -رحمه اللَّه تعالى-: أي بطيب نفس، من غير حرص عليه. وقال في "الفتح": أي بغير شَرَهٍ، ولا إلحاح، أي من أخذه بغير سؤال، وهذا بالنسبة إلى الآخذ، ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى المعطي، أي بسخاوة نفس المعطي، أي باشراحه بما يعطيه انتهى.

وقوله: "وكان كالذي يأكل ولا يشبع" قال الزركشيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يعني مَن به الجوع الكاذب، كلما ازداد أكلًا ازداد جوعًا. وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: قيل: هو الذي به داء لا يشبع بسببه. وقيل: يحتمل أن المراد تشبيه بالبهيمة الراعية انتهى.

وقوله: "واليد العليا خير من اليد السفلى" تقدّم أن الراجح في تفسيره: أن العُليا هي المعطية، والسُّفْلى هي السائلة، كما تقدّم في حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وفيه أقوال أخرى تقدّم ذكرها في -52/ 2533 - لكن الصواب هو الأول؛ لأن خير ما فُسّر به الحديث ما جاء في رواية أخرى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2602 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْكِينُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ، حُلْوَةٌ، مَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ، بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ النَّفْسِ، لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدّم الكلام عليه في الذي قبله. ورجاله تقدّموا غيرا مرّة، غير:

1 -

(مسكين بن بُكير) الْحَرَّانيّ، أبي عبد الرحمن الحذّاء، صدوقٌ يُخطىء، وكان صاحب حديث [9].

ص: 217

قال الأثرم: سمعت أحمد يحسن أمره. وقال مرّة: قدّمه أبو عبد اللَّه على مَخْلَد بن يزيد، وقال: حدّث عن شعبة بأحاديث لم يروها غيره. وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: لا بأس به، ولكن في حديثه خطأ. وقال ابن معين: لا بأس به. وكذا قال أبو حاتم، وزاد: صالح الحديث، يحفظ الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (198). وقال أبو أحمد الحاكم: كان كثير الوهم والخطإ. وقال في موضع آخر: ومن أين كان مسكين يضبط عن سعيد؟. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن عمّار: يقولون: إنه ثقة، لم أسمع منه.

روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وابن ماجه. وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (2602) و (5097) و (5404). واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2603 -

(أَخْبَرَنِي الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ، بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ، لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا، خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» ، قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ، حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الَكلام على هذا الحديث كالكلام فيما قبله.

والإسناد أوله مصريّون، إلى عمرو بن الحارث، وآخره مدنيّون، و"الربيع بن سليمان": هو المصريّ الجيزيّ الأعرج الثقة. و"والد إسحاق": هو بكر بن مضر المصريّ الثقة الثبت. وكلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده هو، وأبي داود.

وقوله: "لا أرزأ أحدًا بعد الخ" -بفتح الهمزة، وإسكان الراء، وفتح الزاي، بعدها همزة-: أي لا أنقص ماله بسؤاله. وفي رواية: "قلت: فواللَّه لا تكون يدي بعدك تحت يد من أيدي العرب".

زاد في رواية البخاريّ: "فكان أبو بكر - رضي اللَّه تعالى عنه - يدعو حكيمًا إلى العطاء، فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - دعاه ليعطيه، فأبى أن يقبل منه شيئًا، فقال: إني أشهدكم معشر المسلمين على حكيم أَنِّي أَعْرِض عليه حقّه من هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيمٌ أحدًا من الناس بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى توفّي".

وإنما امتنع حكيم من أخذ العطاء مع أنه حقّه لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئًا، فيعتاد الأخذ، فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده، ففطمها عن ذلك، وترك ما يريبه إلى ما

ص: 218

لا يريبه. وإنما أشهد عليه عمرُ - رضي اللَّه تعالى عنه -؛ لأنه أراد أن لا يَنسُبَهُ أحد لم يَعرف باطن الأمر إلى منع حكيم من حقّه. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌94 - (مَنْ آتَاهُ اللَّه عز وجل مَالًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ)

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على حكم الشخص الذي آتاه اللَّه تعالى مالًا من غير أن يسأل الناس.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "من" يحتمل أن تكون موصولة مبتدأٌ خبرها محذوف، لدلالة الحديث عليه، أي أخذه. ويحتمل أن تكون شرطيّة، جوابها محذوف لدلالة الحديث عليه أيضًا، أي أخذه، أو فليأخذه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2604 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ السَّاعِدِيِّ الْمَالِكِيِّ، قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا، فَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ، أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ عز وجل، وَأَجْرِي عَلَى اللَّهِ عز وجل، فَقَالَ: خُذْ مَا أَعْطَيْتُكَ، فَإِنِّي قَدْ عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهُ: مِثْلَ قَوْلِكَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ، فَكُلْ وَتَصَدَّقْ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

وقوله: "عن ابن الساعديّ". هكذا وقع في هذا الإسناد "عن ابن الساعديّ" عند المصنّف، وكذا هو عند مسلم من طريق الليث، عن بُكير بن الأشجّ، وخالفه عمرو بن الحارث، عن بكير، عند مسلم أيضًا، فقال:"عن ابن السعديّ"، وهو المحفوظ.

قال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: الصواب "ابن السعديّ"، كما في الرواية الأخرى، واسمه قُدامة. وقيل: عمرو، وإنما قيل له:"السعديّ" لأنه استُرضع في بني سعد بن بكر، وأما "الساعديّ" فلا يُعرف له وجه، وابنه عبد اللَّه من الصحابة، وهو

(1)

- "الفتح" ج 4 ص 98 - 99.

ص: 219

قرشي عامريّ مالكيّ، من مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤيّ انتهى.

وفي "تهذيب التهذيب": عبد اللَّه بن السعديّ، واسمه عمرو. وقيل: قُدامة. وقيل: عبد اللَّه بن وقدان بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ العامري، أبو محمد، ويقال له: السعديّ؛ لأنه كان مسترضعًا في بني سعد. وقال فيه بعضهم: ابن الساعديّ، سكن الأردنّ. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطّاب حديث الْعُمَالة، وعن محمد بن حبيب المصريّ، إن كان محفوظًا. وعنه حُويطب بن عبد العزّى، والسائب بن يزيد، وعبد اللَّه بن مُحيريز، ومالك بن يُخامر، وأبو إدريس، وبُسْر بن سعيد، وحسّان بن الضمريّ. قال الواقديّ: توفّي سنة (54). وقال ابن حبّان: مات في خلافة عمر. قال ابن عساكر: لا أراه محفوظًا.

أخرج له الجماعة، سوى الترمذيّ، وابن ماجه وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وأعاده بعده برقم 2605 و 2606 و 2607 وحديث: "لا تنقطع الهجرة

" برقم 4172 وأعاده بعده 4173.

وأما شرح الحديث، والكلام على مسائله، فسيأتي في الحديث الذي يليه، إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجعِ والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2605 -

(أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّعْدِيِّ، أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رضي الله عنه مِنَ الشَّامِ، فَقَالَ: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَعْمَلُ عَلَى عَمَلٍ، مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَتُعْطَى عَلَيْهِ عُمَالَةً، فَلَا تَقْبَلُهَا؟ ، قَالَ: أَجَلْ، إِنَّ لِي أَفْرَاسًا، وَأَعْبُدًا، وَأَنَا بِخَيْرٍ، وَأُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَمَلِي صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: عُمَرُ رضي الله عنه إِنِّي أَرَدْتُ الَّذِي أَرَدْتَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِى الْمَالَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، وَإِنَّهُ أَعْطَانِى مَرَّةً مَالاً، فَقُلْتُ لَهُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ: «مَا آتَاكَ اللَّهُ عز وجل، مِنْ هَذَا الْمَالِ، مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، وَلَا إِشْرَافٍ، فَخُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ، أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا لَا، فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سعيد بن عبد الرحمن) بن حسان المخزومي، أبو عبيد اللَّه المكي، ثقة، من صغار [10] 41/ 1277.

2 -

(سفيان) بن عيينة أبو محمد المكي، ثقة ثبت حجة [8] 1/ 1.

3 -

(الزهري) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت المدني [4] 1/ 1.

4 -

(السائب بن يزيد) بن سعيد بن ثمامة الكندي الصحابي الصغير رضي الله عنه، تقدم في

ص: 220

15/ 1392.

5 -

(حُويطب بن عبد العزّى) بن أبي قيس بن عبد وُدّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤيّ العامري، أبو محمد، ويقال: أبو الأصبغ، مكيّ من مسلمة الفتح، وشهد حُنينًا، وكان من المؤلّفة، وجدّد أنصاب الحرم في عهد عمر.

روى عن عبد اللَّه بن السعديّ. وعنه السائب بن يزيد، وابنه أبو سفيان بن حُويطب، وعبد اللَّه بن بُريدة، وغيرهم. قال الدُّوريّ، عن ابن معين: لا أحفظ عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا ثابتًا. وقال الزبير بن بكّار: هو الذي افتدت أمه يمينه. وقال أحمد: بلغني عن الشافعيّ، قال: كان حويطب حَميد الإسلام

(1)

.

وقال الواقديّ: حدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، حدثنا عبد اللَّه بن أبي بكر بن حزم: وكان حويطب يقول: انصرفت من صلح الحديبية، وأنا مستيقن أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سيظهر، فذكر قصّة طويلة. وروى ابن سعد في "الطبقات" من طريق المنذر بن جَهم وغيره، عن حويطب، قال: لما دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكّة خِفْتُ خوفًا شديدًا، فذكر قصّة طويلة، فَفَرَّقْتُ أهلي بحيث يأمنون، وانتهيت إلى حائط عوف، فأقمت فيه، فإذا بأبي ذرّ، وكانت لي به معرفة -والمعرفة أبدًا نافعة- فسلّمت عليه، فذكرت له، فقال: اجمع عيالك، وأنت آمن، وذهب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فاطمأننتُ، فقال لي أبو ذرّ: حتى متى يا أبا محمد، قد سُبِقتَ، وفاتك خير كثير، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبرّ الناس، وأحلم الناس، وشرفه شرفك، وعزّه عزّك، فقلت: أنا أخرج معك، فقال: إذا رأيته، فقل: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه، فقلتها، فقال:"وعليك السلام"، فتشهدتُ، فسُرّ بذلك، وقال:"الحمد للَّه الذي هداك"، قال: واستقرضني مالًا، فأقرضته أربعين ألفًا، وشهدتُ معه حُنينًا، وأعطاني من الغنائم، ثم قدم حُويطب المدينة، فنزلها إلى أن مات، وباع داره بمكة من معاوية بأربعين ألف دينار، فاستكثرها بعض الناس، فقال حويطب: وما هي لمن عنده خمس من العيال؟. وروى عبد الرزاق من طريق أبي نَجِيح، عن حويطب: أن امرأة جذبت أمتها، وقد عاذت منها بالبيت، فشُلّت يدها، فلقد جاء الإسلام، وإن يدها شلّاء. ورواه الطبرانيّ من وجه آخر من طريق ابن أبي نَجيح، عن أبيه، عن حُويطب، لكن قال: إن العائذة امرأة، وإن الذي جذبها زوجها

(2)

.

قال الواقدي: كان قد بلغ عشرين ومائة سنة، ستين في الإسلام، وستين في الجاهلية. قال خليفة: مات سنة (54).

(1)

- راجع "تهذيب التهذيب" ج 1 ص 507.

(2)

- راجع "الإصابة" ج 2 ص 304 - 305.

ص: 221

وذكر في "الفتح" أنه كان من أعيان قريش، وأسلم في الفتح، وكان حَمِيد الإسلام، وكانت وفاته بالمدينة سنة (54) من الهجرة، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وهو ممن أُطلق عليه أنه عاش ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام تجوّزًا، ولا يتمّ ذلك تحقيقًا؛ لأنه إن أريد بزمان الإسلام أول البعثة، فيكون عاش سبعًا وستين، أو الهجرة، فيكون عاش فيه أربعًا وخمسين، أو زمن إسلامه هو، فيكون ستًّا وأربعين، والأول أقرب إلى الإطلاق على طريقة جبر الكسر تارةً، وإلغائه أخرى انتهى

(1)

.

روى له الشيخان، والنسائيّ حديث الباب فقط

(2)

.

6 -

(عبد اللَّه بن السعدي) هو ابن الساعدي المذكور في السند الماضي.

7 -

(عمر بن الخطاب) - رضي اللَّه تعالى عنه - تقدّم في 6/ 75. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-؛ ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، والباقيان مكيان. ومنها: أنه اجتمع فيه أربعة من الصحابة، يروي بعضهم عن بعض: السائب، وحويطب، وابن السعديّ، وعمر - رضي اللَّه تعالى عنهم -. وقد ذكر بعضهم السند المذكور في بيتين، فقال [من البسيط]:

وَفِي الْعُمَالَةِ إِسْنَادٌ بِأَرْبَعَةٍ

مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِ عَنْهُمُ ظَهَرَا

السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ حُوَيْطِبٍ عَبْـ

ـدُ اللَّهِ حَدَّثهُ بِذَاكَ عَنْ عُمَرَا

(3)

[تنبيه]: وقع للإمام مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه"، في هذا الإسناد خطأ، حيث أخرجه بسنده عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد، عن عبد اللَّه بن السعديّ، عن عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه -، فأسقط حويطبًا.

قال النوويّ في "شرحه": واعلم أن هذا الحديث مما استُدرك على مسلم، قال القاضي عياض: قال أبو عليّ بن السكن: بين السائب بن يزيد، وعبد اللَّه بن السعديّ رجلٌ، وهو حُويطب بن عبد العزّى، قال النسائيّ: لم يسمعه السائب من ابن السعديّ، بل إنما رواه عن حويطب عنه. وقال غيره: هو محفوظ من طريق عمرو بن الحارث، رواه أصحاب شُعيب، والزبيديّ، وغيرهما، عن الزهريّ، قال: أخبرني السائب بن يزيد أن حويطبًا أخبره أن عبد اللَّه بن السعديّ أخبره، أن عمر أخبره. وكذلك رواه

(1)

- راجع "الفتح" ج 15 ص 52.

(2)

- "تهذيب التهذيب" ج 1 ص 507.

(3)

- "الفتح" ج 15 ص 54 - 55.

ص: 222

يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب. هذا كلام القاضي.

قال: وقد رواه النسائيّ في "سننه" كما ذكر عن ابن عيينة، عن الزهريّ، عن السائب، عن حويطب، عن ابن السعديّ، عن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -. -يعني السند المذكور هنا-.

قال: ورويناه عن الحافظ عبد القادر الرُّهَاويّ في كتابه "الرباعيّات"، قال: وقد رواه هكذا عن الزهريّ: محمدُ بن الوليد الزبيديّ، وشعيب بن أبي حمزة الحمصيّان، وعُقيل بن خالد، ويونس بن يزيد الأيليان، وعمرو بن الحارث المصريّ، والحكم بن نافع الحمصيّ، ثم ذكر طرقهم بأسانيدها مطوّلةً مطرّقة، كلهم عن الزهريّ، عن السائب، عن حُويطب، عن ابن السعديّ، عن عمر. وكذا رواه البخاريّ من طريق شعيب. قال عبد القادر: ورواه النعمان بن راشد، عن الزهريّ، فأسقط حويطبًا. ورواه معمر، عن الزهريّ، واختُلف عنه فيه، فرواه عنه سفيان بن عيينة، وموسى بن أعين، كما رواه الجماعة، عن الزهريّ. ورواه ابن المبارك، عن معمر، فأسقط حويطبًا، كما رواه النعمان بن راشد، عن الزهريّ. ورواه عبد الرزاق، عن معمر، فأسقط حويطبًا، وابن السعديّ. ثم ذكر الحافظ عبد القادر طرقهم كذلك. قال: فهذا ما انتهى من طرق هذا الحديث. قال: والصحيح ما اتفق عليه الجماعة -يعني عن الزهريّ، عن السائب، عن حويطب، عن ابن السعديّ، عن عمر. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

قال الحافظ: ومقتضاه أن يكون سقوط حويطب من رواية مسلم وَهَمًا منه، أو من شيخه، وإلا فذِكْرُه ثابت من رواية غيره كما تقدّم، واللَّه أعلم. انتهى

(2)

.

شرح الحديث

(عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ) زاد في رواية البخاريّ: "ابن أخت نَمِر" -أي بفتح النون، وكسر الميم، بعدها راء- صحابيّ أدرك من زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم ستّ سنين، وحفظ عنه، وهو من أواخر الصحابة موتًا، وآخر من مات منهم بالمدينة. وقيل: محمود بن الربيع. وقيل: محمود بن لَبِيد. وتقدمت ترجمته في 15/ 1392 - (عَنْ حُوَيْطِب بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبدُ اللَّهِ بْنُ السَّعْدِيِّ" - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رضي الله عنه) زاد في رواية شعيب: "في خلافته" (مِنَ الشَّامِ، فَقَالَ: أَلَمْ أُخْبَرْ) وفي رواية الزبيديّ: "ألم أُحدَّث".

(1)

- "شرح صحيح مسلم" ج 7 ص 136 - 137.

(2)

- "الفتح" ج 15 ص 55.

ص: 223

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: [فإن قلت]: تقدّم في رواية بُسْر بن سعيد أن عمر هو الذي استعمله، ولفظه: "استعملني عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه - على الصدقة، فلما فرغت منها، فأدّيتها إليه، أمر لي بعُمالة، فقلت له: إنما عَملت للَّه عز وجل

"، فكيف يُجمع بينه، وبين قوله هنا: "ألم أُخبر"؟.

[قلت]: يجاب عنه - واللَّه تعالى أعلم- بأن عمر هو الذي استعمله على الشام لجمع الصدقات، فلما جمعها، وقدم بها عليه، أمر له أن يُعطَى عُمالته، فلم يقبلها، فأُخبر بذلك عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -، فاستدعاه، فقال له: ألم أخبر الخ. واللَّه تعالى أعلم.

(أَنَّكَ تَعْمَلُ عَلى عَمَلٍ، مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ) قد تبيّن من رواية بُسْر بن سعيد المذكورة نوع العمل الذي تولّاه، وهو السعي على الصدقة (فَتُعْطَى عَلَيْهِ عُمَالَةً) -بضمّ العين المهملة، وتخفيف الميم- اسم لأجرة العمل، وأما العَمَالة -بفتح العين- فهي نفس العمل (فَلَا تَقْبَلُهَا؟) وفي رواية الزبيديّ الآتية:"رددتها". وفي رواية شعيب الآتية: "كرهتها"(قَالَ) ابن السعديّ (أَجَلْ) بفتحتين، كـ "نعم" وزنًا ومعنًى. وفي الرواية الآتية:"قلت: بلى". زاد في الرواية الآتية: "فما تريد إلى ذلك؟ "، أي ما غاية قصدك بهذا الردّ؟، فبيّن قصده بقوله (إِنَّ لِي أَفْرَاسًا، وَأَعْبُدًا، وَأنَا بِخَيْرٍ) والأفراس بالفاء جمع فرس، والأعبد بالباء الموحّدة جمع عبد. قال الحافظ: وَللكشميهنيّ "أعتُد" -بمثناة بدل الموحّدة، جمع عَتيد، وهو المال المدّخر. ووقع عند ابن حبّان في "صحيحه" من طريق قبيصة بن ذؤيب أن عمر أعطى ابن السعديّ ألف دينار، فذكر بقيّة الحديث نحو الذي هنا. ورويناه في الجزء الثالث من "فوائد أبي بكر النيسابوريّ" الزيادات من طريق عطاء الخراسانيّ، عن عبد اللَّه بن السعديّ، قال: قدمت على عمر، فأرسل إليّ ألف دينار، فرددتها، وقلت: أنا عنها غنيّ"، فذكره أيضًا بنحوه، واستفيد منه قدر العمال المذكورة انتهى كلام الحافظ

(1)

.

(وَأُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَمَلِي صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ) أراد ابن السعديّ - رضي اللَّه تعالى عنه - بهذا بيان سبب تركه قبول العُمَالة، وذلك كونه غير محتاج إليها، وإرادته التصدّق بها على المسلمين.

(فَقَالَ: عُمَرُ رضي الله عنه: إِنِّي أَرَدْتُ) بضم التاء على التكلّم (الَّذِي أَرَدْتَ) بفتح التاء على الخطاب (وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يُعْطِينِي الْمَالَ) وفي الرواية الآتية: "يعطني العطاء"

(1)

- "الفتح" ج 15 ص 53.

ص: 224

و"العطاء": هو المال الذي يقسمه الإمام في المصالح.

ووقع في رواية بُسر بن سعيد عند مسلم: "فإني عملت على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فعَمَّلني، فقلت مثل ذلك". فقوله: "عَمّلني" -بتشديد الميم، أي أعطاني أجرة عملي.

(فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي) قال الكرمانيّ: جاز الفصل بين أفعل التفضيل، وبين كلمة "من" لأن الفاصل ليس أجنبيًّا، بل هو ألصق به من الصلة؛ لأنه يحتاج إليه بحسب جوهر اللفظ، والصلة محتاجٌ إليها بحسب الصيغة انتهى.

(وَإِنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (أَعْطَانِي مَرةً مَالًا، فَقُلْتُ لَهُ: أَعْطِهِ منْ هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا آتَاكَ اللَّهُ عز وجل، مِنْ هَذَا الْمَالِ، مِنْ غَيْرِ مَسأَلَةٍ) أي من غير طلب منك له.

قال النوويّ: فيه النهي عن السؤال. وقد اتفق العلماء على النهي عنه لغير الضرورة. واختُلف في مسألة القادر على الكسب، والأصحّ التحريم. وقيل: يباح بثلاثة شروط: أن لا يُذِلّ نفسه، ولا يُلحّ في السؤال، ولا يؤذي المسؤول، فإن فُقد شرط من هذه الشروط، فهي حرام بالاتفاق انتهى. وقد تقدم تمام البحث في هذه المسألة قريبًا، وباللَّه تعالى التوفيق.

(وَلَا إِشْرَافٍ) أي تطلّع إليه. والإشراف -بالمعجمة-: التعرّض للشيء، والحرص عليه، من قولهم أشرف على كذا: إذا تطاول له. وقيل للمكان المرتفع: شَرَفٌ لذلك.

قال أبو داود: سألت أحمد عن إشراف النفس؟ فقال: بالقلب. وقال يعقوب بن محمد: سألت أحمد عنه؟ فقال: هو أن يقول مع نفسه يبعث إليّ فلان بكذا. وقال الأثرم: يضيق عليه أن يردّه إذا كان كذلك. قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إشراف النفس: تطلّعها، وتشوّفها، وشَرَهُهَا لأخذ المال، ولا شكّ أن هذه الأمور إذا كانت هي الباعثة على الأخذ للمال؛ كان ذلك من أدلّ دليل على شدّة الرغبة في الدنيا، والحبّ لها، وعدم الزهد فيها، والركون إليها، والتوسّع فيها، وكلّ ذلك أحوالٌ مذمومة، فنهاه عن الأخذ على هذه الحالة؛ اجتنابًا للمذموم، وقَمْعًا لدواعي النفس، ومخالفةً لها في هواها، فإن لم يكن كذلك جاز له الأخذ للأمن من تلك العلل المذمومة.

قال الطحاويّ: وليس معنى هذا الحديث في الصدقات، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام على أغنياء الناس وفقرائهم انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

(فَخُذْهُ) أي وجوبًا على ما قاله بعضهم؛ عملًا بظاهر الأمر، وهو الأقرب، أو

(1)

- "الفتح" ج 15 ص 54 في "كتاب الأحكام". وج 4 ص 100 في "الزكاة".

(2)

- راجع "المفهم" ج 3 ص 90.

ص: 225

استحبابًا على ما عليه الجمهور، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.

(فَتَمَوَّلْهُ) أي اتخذه مالًا (أَوْ تصدَّق بِهِ) وفي رواية: "وتصدّق" بالواو. أي إذا أخذته، فإن شئت أبقه عندك، وإن شئت تصدّق به. قال في "الفتح": وهو أمر إرشاد على الصحيح. قال ابن بطّال: أشار صلى الله عليه وسلم على عمر بالأفضل؛ لأنه وإن كان مأجورًا بإيثاره لعطائه عن نفسه من هو أفقر إليه منه، فإنّ أخذه للعطاء، ومباشرته للصدقة بنفسه أعظم لأجره، وهذا يدلّ على عظيم فضل الصدقة بعد التموّل؛ لما في النفوس من الشحّ على المال انتهى

(1)

.

(وَمَا لَا، فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ) من أَتْبع مخفّفًا، أي ما لم يؤتيك اللَّه بالشرط المذكور، فلا تجعل نفسك تابعةً له، ناظرةً إليه؛ لأجل أن يحصل عندك.

وقال النوويّ: معناه: ما لم يوجد فيه هذا الشرط لا تُعلّق النفس به انتهى.

وقال القرطبيّ: أي لا تعلّقها، ولا تُطمعها في ذلك، فإذا فعلت ذلك بها سكنت، ويئست انتهى.

وفيه إشارة إلى أن المدار على عدم تعلّق النفس بالمال، لا على عدم أخذه وردّه على المعطي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -94/ 2654 و 2605 و 2506 و 2607 و 2608 - وفي "الكبرى" 96/ 2385 و 2386 و 2387 و 2388 و 2389. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1473 وفي "كتاب الأحكام" 7164 (م) في "الزكاة" 1045 (د) في "الزكاة" 1647 وفي "الخراج" 2944 (أحمد) في "مسند العشرة" 101 و 137 و 281 و 373 (الدارمي) في "الزكاة" 1647. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم من رزقه اللَّه تعالى

(1)

- "الفتح" ج 15 ص 54.

ص: 226

مالًا من غير مسألة، وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم فيه، والجمهور على استحباب أخذه على تفصيل في المسألة، لكن القول بالوجوب هو الأقرب؛ لأنه الذي تدلّ عليه ظواهر النصوص، كما سيأتي في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى (ومنها): أن للإمام أن يعطي بعض رعيّته إذا رأى لذلك وجهًا، وإن كان غيره أحوج إليه منه (ومنها): أن ردّ عطية الإمام ليس من الأدب، ولا سيّما من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية (ومنها): أن فيه منقبةً لعمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنه -، وبيانَ فضله، وزُهده، وإيثاره، وكذا لابن السعديّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، فقد طابق فعلُه فعلَه (ومنها): أنّ أخذ ما جاء من المال من غير سؤال، ولا إشراف نفس أفضل من ردّه؛ لأن أخذه يكون أعون على العمل، وألزم للنصيحة، لأنه إذا لم يأخذ كان عند نفسه متطوّعًا بالعمل، فقد لا يجدّ جدّ من أخذ، ركونًا إلى أنه غير ملتزم، بخلاف الذي يأخذ، فإنه يكون مستشعرًا بأن العمل واجبٌ عليه، فيجدّ جدَّه فيه (ومنها): أن التصدّق بالمال بعد قبضه أفضل من التصدّق قبله؛ لأن الإنسان إذا دخل المال في يده يكون أحرص عليه، فإذا تصدّق به، طيّبة نفسه، كان أدلّ على حبه للخير، وقوة إيمانه، بخلاف ما إذا تصدّق قبل قبضه، فإن النفس لا تطمع إليه كثيرًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم أخذ الشخص ما جاءه من المال، من غير مسألة، ولا إشراف، وفي عطيّة السلطان:

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف العلماء فيمن جاءه مالٌ، هل يجب قبوله، أم يُندبُ؟ على ثلاثة مذاهب، حكاها أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ، وآخرون، والصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه يستحبّ في غير عطيّة السلطان، أما عطيّة السلطان، فحرّمها قوم، وأباحها قوم، وكرهها قوم، والصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في يد السلطان حرمت، وكذا إن أَعطَى من لا يستحقّ، وإن لم يغلب الحرام، فمباحٌ، إن لم يكن في القابض مانع يمنعه من استحقاق الأخذ. وقالت طائفة: الأخذ واجبٌ من السلطان وغيره.

وقال آخرون: هو مندوبٌ في عطيّة السلطان، دون غيره، واللَّه أعلم انتهى كلام النوويّ

(1)

.

وقال الحافظ: والتحقيق في المسألة أن من عُلِمَ كون ماله حلالًا، فلا تردّ عطيّته،

(1)

- "شرح صحيح مسلم" ج 7 ص 135.

ص: 227

ومن عُلم كون ماله حرامًا، فتحرم عطيّته، ومن شُكّ فيه، فالاحتياط ردّه، وهو الورع، ومن أباحه أَخَذَ بالأصل.

قال ابن المنذر: واحتجّ من رخّص فيه بأن اللَّه تعالى قال في اليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} ، وقد رهن الشارع درعه عند يهوديّ، مع علمه بذلك، وكذلك أَخَذَ الجزية منهم مع العلم بأن أكثر أموالهم من ثمن الخمر والخنزير، والمعاملات الفاسدة انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح الأقوال عندي في مسألة القبول القولُ بالوجوب؛ لظواهر النصوص، إذ هي بصيغة الأمر، ولا صارف له إلى الندب، وما ادعاه بعضهم من الإجماع على الندب غير صحيح؛ لما عرفت من الخلاف.

وأما عطيّة السلطان، فالتفصيل الذي ذكره الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-، هو الصواب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في حكم أخذ الراتب لمن يقوم بمصالح المسلمين:

قال الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه": "باب رزق

(2)

الحاكم، والعاملين عليها، وكان شريح القاضي يأخذ على القضاء أجرًا. وقالت عائشة: يأكل الوصي بقدر عُمالته. وأكل أبو بكر، وعمر. ثم أورد حديث عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - المذكور في الباب محتجًّا به على جواز ذلك.

قال الطبريّ -رحمه اللَّه تعالى-: في حديث عمر الدليل الواضح على أن لمن شُغِل بشيء من أعمال المسلمين أَخْذَ الرزق على عمله ذلك، كالولاة، والقضاة، وجُبَاة الفيء، وعُمّال الصدقة، وشبههم؛ لإعطاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عمر العُمَالةَ على عمله. وذكر ابن المنذر أن زيد بن ثابت - رضي اللَّه تعالى عنه -، كان يأخذ الأجر على القضاء. واحتجّ أبو عبيد في جواز ذلك بما فرض اللَّه للعاملين على الصدقة، وجعل لهم منها حقًّا؛ لقيامهم، وسعيهم فيها. وقال ابن المنذر: وحديث ابن السعديّ حجة في جواز أرزاق القضاة من وجهها.

وقال النوويّ: في هذا الحديث جواز أخذ العوض على أعمال المسلمين، سواء كانت لدين، أو لدنيا، كالقضاء، والحسبة، وغيرهما انتهى

(3)

.

(1)

- راجع "الفتح" ج 15 ص 101.

(2)

- الرزق: ما يرتّبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين. وقال المطرّزيّ: الرزق ما يخرجه الإمام كلّ شهر للمرتزقة من بيت المال، والعطاء ما يُخرجه كلّ عام. ذكره في "الفتح" ج 15 ص 51.

(3)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 138.

ص: 228

وقال الطبريّ: ذهب الجمهور إلى جواز أخذ القاضي الأجرة على الحكم؛ لكونه يشغله الحكم عن القيام بمصالحه، غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك، ولم يحرّموه مع ذلك.

وقال أبو عليّ الكرابيسيّ: لا بأس للقاضي أن يأخذ الرزق على القضاء عند أهل العلم قاطبةً، من الصحابة، ومن بعدهم، وهو قول فقهاء الأمصار، لا أعلم بينهم اختلافًا، وقد كره ذلك قوم، منهم مسروق، ولا أعلم أحدًا منهم حرّمه.

وقال المهلّب: وجه الكراهة أنه في الأصل محمول على الاحتساب؛ لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} ، فأرادوا أن يجري الأمر على الأصل الذي وضعه اللَّه لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولئلا يدخل فيه من لا يستحقه، فيتحيّل على أموال الناس.

وقال غيره: أخذ الرزق على القضاء، إذا كانت جهة الأخذ من الحلال جائز إجماعًا، ومن تركه إنما تركه تورُّعًا، وأما إذا كانت هناك شبهة، فالأولى الترك جزمًا، ويحرم إذا كان المال يؤخذ لبيت المال من غير وجهه، واختُلِف إذا كان الغالب حرامًا. وأما من غير بيت المال ففي جواز الأخذ من المتحاكمين خلاف، ومن أجازه شرط فيه شروطًا، لا بدّ منها.

قال الحافظ: وقد جر القول بالجواز إلى إلغاء الشروط، وفشا ذلك في هذه الأعصار بحيث تعذّر إزالة ذلك، واللَّه المستعان انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن أخذ الراتب على العمل جائزٌ مطلقًا، على الوجه الذي سبق تقريره آنفًا، ولا ينافي ذلك إخلاص العمل للَّه تعالى، كما اتّضح ذلك من حديث عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - المذكور في الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2606 -

(أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ السَّعْدِيِّ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فِي خِلَافَتِهِ، فَقَالَ: لَهُ عُمَرُ: أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَلِى مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ أَعْمَالاً، فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعُمَالَةَ رَدَدْتَهَا؟ ، فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَمَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ؟ ، فَقُلْتُ: لِي أَفْرَاسٌ، وَأَعْبُدٌ، وَأَنَا بِخَيْرٍ، وَأُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَمَلِي صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ مِثْلَ الَّذِي أَرَدْتَ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ

(1)

- راجع "الفتح" ج 15 ص 51 - 56.

ص: 229

- صلى الله عليه وسلم: «خُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ، أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ، مَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ، وَلَا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لَا، فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» ).

قال الجامع عفا اللَّه تعالىَ عنه: هذا الحديث متّفق عليه، و"كثير بن عبيد": هو أبو الحسن الْمَذحِجيّ الحمصيّ الحذّاء المقرئ، ثقة [10] 5/ 486.

و"محمد بْنُ حَرْبٍ": هو الخولانيّ الحمصيّ الأبرش، ثقة [9] 122/ 172.

و"الزُّبَيدِيِّ": هو محمَد بن الوليد، أبو الهذيل الحمصيّ القاضي، ثقة ثبت، من كبار أصحاب الزهريّ [7] 45/ 56.

وقوله: "ألم أُحَدّث" بالبناء للمفعول. وقوله: "تلي" مضارع وَلِي، من الولاية.

وقوله: "فما تريد إلى ذلك" أي أيَّ شيء تريد من فعلك هذا؟، فـ "إلى" بمعنى "من"، كما في قول الشاعر [من الطويل]:

تَقُولُ وَقَد عَالَيْتُ بِالْكُورِ فَوْقَهَا

أَيُسْقَى فَلَا يَرْوَى إِلَيَّ ابْنُ أَحْمَرَا

أي منّي

(1)

.

وقوله: "غير مشرف": من الإشراف: أي غير طامع. وتمام شرح الحديث، والكلام على مسائله تقدّم في الذي قبله. وباللَّه تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2607 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ السَّعْدِيِّ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فِي خِلَافَتِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَلِى مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ أَعْمَالاً، فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعُمَالَةَ كَرِهْتَهَا؟ ، قَالَ: فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَمَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ؟ ، فَقُلْتُ: إِنَّ لِي أَفْرَاسًا، وَأَعْبُدًا، وَأَنَا بِخَيْرٍ، وَأُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَمَلِي صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الَّذِي أَرَدْتَ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ، أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالاً، فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ، وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ، وَلَا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لَا، فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه و"عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ": هو أبو سعيد النسائيّ، ثقة [10] 108/ 147 من أفراد المصنّف. و"إِسْحَاقُ ابْنُ مَنْصُورٍ": هو الكوسج المروزيّ، ثقة ثبت [11] 72/ 88. و"الْحَكَمِ بْنِ نَافِعِ": هو أبو اليمان الحمصيّ المشهور بكنيته، ثقة ثبت [10] 14/ 2132. و "شُعَيّبٌ": هو ابن أبي

(1)

- راجع "مغني اللبيب" ج 1 ص 75. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

ص: 230

حمزة، أبو بشر الحمصيّ، ثقة عابد، من أثبت الناس في الزهريّ [7] 69/ 85. وقوله:"ألم أُخبر" بالبناء للمفعول. وكذا قوله: "فإذا أُعطيتَ". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2608 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يُعْطِينِي الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالاً، فَقُلْتُ لَهُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي،

فَقَالَ: «خُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ، وَتَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ، وَلَا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لَا، فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، و"سالم بن عبد اللَّه": هو ولد عبد اللَّه بن عمر شيخه في السند، وكان ثقة ثبتًا، عابدًا، فاضلًا، وهو أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة على بعض الأقوال، وكان يُشَبّه بأبيه في هديه، وسَمْته [3] 23/ 490.

زاد في رواية مسلم في هذه الرواية من طريق عمرو بن الحارث، عن الزهريّ:"قال سالم: فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدًا شيئًا، ولا يردّ شيئًا أعطيه".

قال في "الفتح": وهذا بعمومه ظاهر في أنه كان لا يردّ ما فيه شبهة، وقد ثبت أنه كان يقبل هدايا المختار بن أبي عُبيد الثقفيّ، وهو أخو صفيّة بنت أبي عبيد زوج ابن عمر، وكان المختار غلب على الكوفة، وطرد عُمّال عبد اللَّه بن الزبير، وأقام أميرًا عليها مدّةً في غير طاعة خليفة، وتصرّف فيما يتحصّل منها من المال على ما يراه، ومع ذلك فكان ابن عمر يقبل هداياه، وكأن مستنده أن له حقًّا في بيت المال، فلا يضرّه على أي كيفيّة وصل إليه، أو كان يرى أن التَّبِعة في ذلك على الآخذ الأول، أو أن للمعطي المذكور مالًا آخر في الجملة، وحقّا مّا في المال المذكور، فلما لم يتميّز، وأعطاه له عن طيب نفس دخل في عموم قوله:"ما أتاك من هذا المال من غير سؤال، ولا استشراف، فخذه"، فرأى أنه لا يُستَثنَى من ذلك إلا ما عَلِمَهُ حرامًا محضًا انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

(1)

- راجع "الفتح" ج 15 ص 55.

ص: 231

‌95 - (بَابُ اسْتِعْمَالِ آلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم علَى الصَّدقَةِ)

2609 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ الْهَاشِمِيِّ، أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ رَبِيعَةَ بْنَ الْحَارِثِ، قَالَ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَالْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ائْتِيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُولَا لَهُ: اسْتَعْمِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى الصَّدَقَاتِ، فَأَتَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَنَحْنُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقَالَ لَهُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يَسْتَعْمِلُ مِنْكُمْ أَحَدًا عَلَى الصَّدَقَةِ، قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: فَانْطَلَقْتُ أَنَا، وَالْفَضْلُ، حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَنَا: «إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلَا لآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن سوّاد -بتشديد الواو- ابن الأسود بن عمرو) العامريّ، أبو محمد المصريّ، ثقة [11] 45/ 594.

2 -

(ابْنِ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه، أبو محمد المصريّ الحافظ الثبت [9] 9/ 9.

3 -

(يُونُسُ) هو ابن يزيد الأيليّ الحافظ الثبت [7] 9/ 9.

4 -

(ابْنُ شِهَاب) هو محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت المشهور [4] 1/ 1.

5 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ الْهَاشِمِيِّ): هو عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب الهاشميّ، نُسب لجدّه، أبو يحيى المدنيّ، ثقة [3] 16/ 1638.

6 -

(عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) بن هاشم الهاشميّ، أمه أم الحَكَم بنت الزبير بن عبد المطلب. رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عليّ. وعنه ابنه عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل، على خلاف في ذلك كله. قال ابن عبد البرّ: كان على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلًا، ولم يُغيّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اسمه فيما عَلِمتُ، سكن المدينة، ثم انتقل إلى الشام في خلافة عمر، ومات في إِمْرَة يزيد بن معاوية سنة (62).

وقال العسكريّ: هو المطّلب بن ربيعة، هكذا يقول أهل البيت، وأصحاب الحديث يختلفون، فمنهم من يقول: المطلب بن ربيعة، ومنهم من يقول: عبد المطلب. وقال أبو القاسم البغويّ: عبد المطّلب، ويقال: المطّلب. وقال أبو القاسم الطبرانيّ:

ص: 232

الصواب: المطلب، وذكر أنه توفّي سنة (61) وفيها أرّخه ابن أبي عاصم.

روى له مسلم، وأبو داود، والمصنّف وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد.

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن رجاله عندهم رجال الصحيح. ومنها: أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين. ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ الْهَاشِمِيِّ) هكذا في رواية يونس، عن ابن شهاب، عند مسلم، والمصنّف، ووقع عند مسلم من رواية جويرية، عن مالك، عن الزهريّ:"أن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب حدثه". قال النوويّ، وكلاهما صحيح، والأصل هو رواية مالك، ونسبه في رواية يونس إلى جدّه، ولا يمتنع ذلك. قال النسائيّ: ولا نعلم أحدًا روى هذا الحديث عن مالك إلا جويرية بن أسماء انتهى

(1)

.

(أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِب بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ رَبِيعَةَ بْنَ الْحَارِثِ) بن عبد المَطلب بن هاشم الهاشميّ، ابن عم النبيّ صلى الله عليه وسلم، له صحبة. روى عن ابن عمه الفضل بن العبّاس. وعنه عبد اللَّه بن نافع بن عمياء، على خلاف فيه، وابنه عبد المطّلب بن ربيعة، وفي إسناد حديثه اختلاف. قال أبو القاسم الطبرانيّ: توفّي سنة (23). وقال ابن سعد: هاجر مع العبّاس، ونوفل بن الحارث، وشهد الفتح، والطائف، وثبت يوم حنين، وتوفّي بعد أخويه: نوفل، وأبي سفيان. وقال خليفة، والعسكري، وغيرهما: مات بالمدينة في أول خلافة عمر. وأرّخه ابن حبّان مثل الطبرانيّّ. روى له الترمذيّ، والمصنّف حديثًا واحدًا

(2)

.

(قَالَ: لِعَبدِ الْمُطلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ) أي لابنه، وفيه التفات، إذ الظاهر أن يقول: قال لي الخ (وَالْفَضلِ بْنِ الْعَباسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) أي لابن عمه - رضي اللَّه تعالى - عنهم.

(1)

- "شرح مسلم" ج 7 ص 178.

(2)

هو حديث "الصلاة مثنى مثنى، وتشهد في كل ركعتين

" الحديث أخرجه الترمذي رقم (385) والنسائيّ في "الكبرى". راجع "تحفة الأشراف" جـ 8 ص 110 - 111.

ص: 233

ورواية المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا ظاهرة في أن الآمر لهما هو ربيعة وحده، وفي رواية مسلم أن الآمر هو والعباس بن عبد المطلب، وقد ساق مسلم -رحمه اللَّه تعالى- الحديث في "صحيحه" مطوّلًا، فقال:

1072 -

حدثني عبد اللَّه بن محمد بن أسماء الضُّبَعي، حدثنا جُويرية، عن مالك، عن الزهري، أن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حدثه، أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث حدثه، قال: اجتمع ربيعة بن الحارث، والعباس بن عبد المطلب، فقالا: واللَّه لو بعثنا هذين الغلامين -قالا: لِي، وللفضل بن عباس- إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكلماه، فأمّرهما على هذه الصدقات، فأَدَّيَا ما يؤدي الناس، وأصابا مما يصيب الناس، قال: فبينما هما في ذلك، جاء علي بن أبي طالب، فوقف عليهما، فذكرا له ذلك، فقال عليّ بن أبي طالب: لا تفعلا، فواللَّه ما هو بفاعل، فانتحاه

(1)

ربيعة بن الحارث، فقال: واللَّه ما تصنع هذا، إلا نَفَاسة

(2)

منك علينا، فواللَّه لقد نِلْتَ صِهْر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فما نَفِسناه عليك

(3)

، قال: عليٌّ: أرسلوهما، فانطلقا، واضطجع عليٌّ، قال: فلما صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر، سبقناه إلى الحجرة، فقمنا عندها، حتى جاء، فأخذ بآذاننا، ثم قال:"أخرجا ما تصرران"

(4)

، ثم دخل، ودخلنا عليه، وهو يومئذ عند زينب بنت جحش، قال: فتواكلنا الكلام، ثم تكلم أحدنا، فقال: يا رسول اللَّه، أنت أبر الناس، وأوصل الناس، وقد بَلَغْنا النكاح، فجئنا لتُؤَمِّرَنا على بعض هذه الصدقات، فنؤدي إليك، كما يؤدي الناس، ونُصيب كما يصيبون، قال: فسكت طويلا، حتى أردنا أن نكلمه، قال: وجعلت زينب، تَلمَع

(5)

علينا، من وراء الحجاب، أن لا تكلماه، قال: ثم قال: "إن الصدقة، لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس، ادْعُوَا لي مَحْمِيَةَ"، وكان على الخمس، ونوفلَ بنَ الحارث بن عبد المطلب، قال: فجاءاه، فقال لمحمية:"أنكح هذا الغلام، ابنتك" -للفضل بن عباس- فأنكحه، وقال لنوفل بن الحارث:"أنكح هذا الغلام ابنتك" -لي- فأنكحني، وقال لمحمية:"أَصْدِقْ عنهما من الخمس، كذا وكذا"،- قال الزهري: ولم يسمه لي-.

(1)

-بالحاء المهملة: أي عرض له، وقصده.

(2)

-بفتح النون: أي حسدًا منك لنا.

(3)

-بكسر الفاء: أي ما حسدناك عليه.

(4)

-أي ما تجمعان في صدوركما من الكلام.

(5)

-بضم التاء، وسكون اللام، وكسر الميم، أو بفتح التاء والميم: أي تشير.

ص: 234

ثم أخرجه من طريق يونس، عن ابن شهاب، قال: وساق الحديث بنحو حديث مالك، وقال فيه: فألقى عليٌّ رداءه، ثم اضطجع عليه، وقال: أنا أبو حسنٍ القَرْمُ

(1)

، واللَّه لا أَرِيمُ

(2)

مكاني، حتى يرجع إليكما ابناكما، بِحَوْر

(3)

ما بعثتما به إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال في الحديث: ثم قال لنا: "إن هذه الصدقات، إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد"، وقال أيضًا: ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ادْعُوَا لي مَحْمِيَةَ بن جَزْء" -وهو رجل من بني أسد، كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، استعمله على الأخماس.

(ائْتِيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُولَا لَهُ: اسْتَعْمِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّه عَلَى الصَّدَقَاتِ) أي ولّنا على جمع الصدقات، حتى نأخذ الأجرة منها، فنقضي حاجتنا (فَأَتَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (وَنَحْنُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ) أي على التشاور في إتيان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لطلب العمل منه (فَقَالَ:) عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - (لَهُمَا) أي لعبد المطّلب، وللفضل بن عباس (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يَسْتَعْمِلُ مِنْكُمْ) أي من بني هاشم (أَحَدًا عَلَى الصَّدقَةِ) الظاهر أن عليًّا - رضي اللَّه تعالى عنه - سمع ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: عَبْدُ الْمُطلِب: فَانْطَلَقْتُ أَنَا، وَالْفَضْلُ) مخالِفَينِ قول عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه -؛ لظنهما أنه قال ذلكَ لغرض نفسيّ، كما تقدّم في رواية مسلم قول ربيعة له:"واللَّه ما تصنع هذا إلا نفاسة منك علينا"(حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي فكلمناه بذلك، كما تقدّم تفصيل ما قالاه في رواية مسلم المذكورة (فَقَالَ: لَنَا: إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ) أي أنواع الزكاة (إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ) فيه تنبيه على علة تحريمها على بني هاشم، وبني المطّلب، وأن ذلك لكرامتهم، وتنزيههم عن الأوساخ.

ومعنى أوساخ الناس أنها تطهيرٌ لأموالهم، ونفوسهم، كما قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} الآية [التوبة: 103] فهي كغُسالة الأوساخ. قاله النوويّ (وِإنهَّا لَا تحَلُّ لِمُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم (وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) هذا صريح في أنها محرّمة عليهم، سواءٌ كان بسبب العمل، أو بسبب الفقر والمسكنة، وغيرهما، من الأسباب الثمانية. قال النوويّ: وهذا هو الصحيح عند أصحابنا -يعني الشافعيّة- وجوّز بعض أصحابنا لنبي هاشم، وبني المطّلب العمل عليها بسهم العامل؛ لأنه إجارةٌ. وهذا ضعيف، أو باطل، وهذا الحديث صريحٌ في ردّه انتهى

(4)

.

(1)

-أي السيّد.

(2)

-أي لا أفارقه.

(3)

-بفتح الحاء المهملة: أي بجوابه.

(4)

- شرح صحيح مسلم ج 7 ص 178.

ص: 235

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إنما كانت الصدقة كذلك؛ لأنها تطهّرهم من البخل، وأموالَهم من إثم الكنز، فصارت كماء الغُسالة التي تُعاب. ومساقُ الحديث والتعليل يقتضي أنها لا تحلّ لأحد من آل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا عاملين عليها، وهو رأي الجمهور، وقد ذهب إلى جوازها لهم إذا كانوا عاملين عليها أبو يوسف، والطحاويّ، والحديث ردّ عليهم. انتهى

(1)

.

[فإن قيل]: كيف أباح النبيّ صلى الله عليه وسلم الصدقة لأمته، وقد أخبر أنها أوساخ الناس، ولذا حرّمها عليه، وعلى آل بيته؟.

[أجيبب]: بأنه إنما أباحها للضرورة، فلذا جاءت النصوص الكثيرة في النهي عن سؤالها، فينبغي للحازم أن لا يراها مباحة إلا للضرورة، فلا يتوسّع فيها، بل يتناول منها للحاجة الملحّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد المطّلب بن ربيعة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -95/ 2609 - وفي "الكبرى" 97/ 2390. وأخرجه (م) في "الزكاة" 1072 (د) في "الخراج" 2985 (أحمد) في "مسند الشاميين" 64170. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم استعمال آل النبيّ صلى الله عليه وسلم على الصدقة، وأخذ العُمَالة عليه، وهو التحريم، فلا يجوز لآل النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ العُمَالَةِ على الصدقات، وهو رأي الجمهور، وهو الصواب؛ لأن حديث الباب نصّ صريح في ذلك (ومنها): تحريم الصدقة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وآله، سواء كان صدقة الفرض، أم صدقة التطوّع على الراجح؛ لإطلاق النّصّ، وسيأتي اختلاف أهل العلم فيه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى (ومنها): بيان فضيلة أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومكانتهم الرفيعة، حيث حرّم اللَّه تعالى عليهم الصدقات؛ لكونها أوسخ الناس (ومنها): أن الصدقة أوساخ أرباب الأموال، فلا ينبغي لعاقل أخذها، إلا إذا وقع في حاجةٍ مُلحَّةٍ، وضرورةٍ مُلجْئةٍ. واللَّه تعالى أعلم

(1)

- راجع "المفهم" ج 3 ص 128.

ص: 236

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في المراد بآل النبيّ صلى الله عليه وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة:

ذهب الشافعيّ، وجماعة من العلماء إلى أنهم بنو هاشم بن عبد مناف، وبنو المطّلب ابن عبد مناف، واستدلّ الشافعيّ على ذلك بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أشرك بني المطّلب مع بني هاشم في سهم ذوي القربى، ولم يُعط أحدًا من قبائل قريش غيرهم، وتلك العطيّة عِوَضٌ عُوِّضُوه بدلًا عمّا حُرِموه من الصدقة. كما أخرج البخاريّ من حديث جبير بن مُطعِم، قال: مشيت أنا، وعثمان بن عفّان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول اللَّه أعطيت بني المطّلب من خمس خيبر، وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنما بنو المطّلب، وبنو هاشم شيء واحد".

وذهب أبو حنيفة، ومالك إلى أنهم بنو هاشم فقط

(1)

.

وعن أحمد روايتان كالمذهبين. وقيل: هم قريش كلّها. وقال أصبغ المالكيّ: هم بنو قصيّ.

وقال العلاّمة الصنعانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: الأقرب في المراد بالآل ما فسّرهم به زيد ابن أرقم عند مسلم في "المناقب" في قصّة طويلة، بأنهم آل عليّ، وآل العبّاس، وآل جعفر، وآل عقيل انتهى.

قال: يزيد آل الحارث بن عبد المطّلب؛ لحديث عبد المطّلب بن ربيعة -يعني حديث الباب- فهذا تفسير الراوي، وهو مقدّم على تفسير غيره، فالرجوع إليه في تفسير آل محمد صلى الله عليه وسلم هنا هو الظاهر؛ لأن لفظ الآل مشتركٌ، وتفسير روايه دليل على المراد منه، وكذلك يدخل في تحريم الزكاة عليهم بنو المطّلب بن عبد مناف، كما يدخلون في قسمة الخمس، كما يفيده حديث جُبير بن مطعم، يعني الذي تقدّم استدلال الشافعيّ به. قال: هذا الحديث دليلٌ على أن بني المطّلب يشاركون بني هاشم في سهم ذوي القربى، وتحريم الزكاة أيضًا، دون من عداهم، وإن كانوا في النسب سواء، وعلّله صلى الله عليه وسلم باستمرارهم على المولاة، كما في لفظ آخر عَلَّلَهُ بأنهم لم يفارقونا في جاهليّة، ولا إسلام، فصاروا كالشيء الواحد في الأحكام، وهو دليل واضحٌ في ذلك، وإليه ذهب

(1)

- المراد ببني هاشم هم: آل عليّ، وآل عَقِيل، وآل جعفر، أولاد أبي طالب عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وآل العباس، وآل الحارث ابني عبد المطّلب جدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يدخل في ذلك آل أبي لهب؛ لأن حرمة الصدقة أوّلًا في الآباء إكرامًا لهم، حيث نصروه صلى الله عليه وسلم في جاهليّتهم، وإسلامهم، ثمّ سَرَت إلى الأولاد، ولا إكرام لأبي لهب.

ص: 237

الشافعيّ، وخالفه الجمهور، وقالوا: إنه أعطى بني المطّلب على جهة التفضيل، لا الاستحقاق، وهو خلاف الظاهر، بل قوله:"شيء واحد" دليلٌ على أنهم يشاركونهم في استحقاق الخمس، وتحريم الزكاة انتهى كلام الصنعانيّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي حقّقه الصنعانيّ -رحمه اللَّه تعالى-، من ترجيح ما ذهب إليه الإمام الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-، ومن تبعه، وهو أن آله صلى الله عليه وسلم هم بنو هاشم، وبنو المطّلب، هو الأرجح عندي؛ لوضوح دليله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في الصدقة التي تحرم على النبيّ صلى الله عليه وسلم، هل هي مطلق الصدقة، أو المفروضة فقط:

ذهب الجمهور إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحرم عليه صدقة الفرض، والتطوّع، وقد ادّعى الإجماع على ذلك جماعة، منهم الخطّابيّ، لكن فيه نظر، فقد حكى غير واحد عن الشافعيّ في التطوّع قولًا، وكذا في رواية عن أحمد، ولفظه في رواية الميمونيّ: "ولا يحلّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته صدقة الفطر، وزكاة الأموال، والصدقة يصرفها الرجل على محتاج يريد بها وجه اللَّه تعالى، فأما غير ذلك، فلا، أَلَيْسَ يقال: كلّ معروف صدقة؟، وقد كان يُهدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ويستقرض، فليس ذلك من صدقة الأموال على الحقيقة، كالقرض، والهديّة، وفعل المعروف غير محرّم عليه

(1)

.

وقال الماورديّ: يحرم عليه كلّ ما كان من الأموال متقوّما. وقال غيره: لا تحرم عليه الصدقة العاقة، كمياه الآبار، وكالمساجد، واختلف هل كان تحريم الصدقة من خصائصه، دون الأنبياء، أو كلّهم سواء في ذلك

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي أن كلّ ما كان باسم الصدقة محرّم عليه صلى الله عليه وسلم، سواء كان فرضًا، أو تطوّعًا؛ لإطلاق النصوص، وأما ما ليس كذلك، كالهديّة، وفعل المعروف له، فلا يحرم عليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يُهدَى إليه، فيقبل الهديّة، وكان يستقرض، وكان أصحابه - رضي اللَّه تعالى عنهم - يعملون له المعروف، فلا يردّ ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): هل يلتحق به صلى الله عليه وسلم آله في تحريم الصدقة مطلقًا، أم لا؟:

قال ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: لا نعلم خلافًا في أن بني هاشم لا تحلّ لهم الصدقة المفروضة. وكذا حكى الإجماع ابن رسلان. وروى أبو عصمة عن أبي حنيفة جواز

(1)

- راجع "المغني" ج 4 ص 117.

(2)

- "فتح" ج 4 ص 121 - 122.

ص: 238

دفعها إلى الهاشميّ في زمانه. قال الطحاويّ: هذه الرواية عن أبي حنيفة ليست بالمشهورة. وروي عنه، وعن أبي يوسف: يحلّ من بعضهم لبعض، لا من غيرهم.

قال الحافظ: وعند المالكيّة في ذلك أربعة أقوال مشهورة: الجواز، المنع، جواز التطوّع دون الفرض، عكسه. وأدلّة المنع ظاهرة من حديث الباب وغيره. ولقوله تعالى:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57]، ولو أحلّها لآله لأوشك أن يطعنوا فيه. ولقوله:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الصدقة أوساخ الناس" كما رواه مسلم.

ويؤخذ من هذا جواز التطوّع دون الفرض، وهو قول أكثر الحنفيّة، والمصحّح عند الشافعيّة، والحنابلة، وأما عكسه، فقالوا: إن الوجب حقّ لا زم، لا يلحق بأخذه ذلّة، بخلاف التطوّع. ووجه التفرقة بين بني هاشم وغيرهم أن موجب المنع رفع يد الأدنى على الأعلى، فأما الأعلى على مثله فلا. ولم أر لمن أجاز مطلقًا دليلًا، إلا ما تقدّم عن أبي حنيفة انتهى كلام الحافظ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تَبَيَّنَ مما تقدّم من الأدلّة أن الأرجح القول بتحريم الصدقة مطلقًا، فرضًا كانت أو تطوّعًا على آله صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌96 - (بَابٌ ابْنُ أُخْتِ الْقَوْم مِنْهُمْ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا الاستدلال بحديث الباب على منع من كانت أمه هاشميّة من الصدقة؛ لأنَّهُ منهم حكمًا، وهو ظاهرٌ، فإن الحديث، وإن ورد على سبب خاصّ، كما سيأتي قريبًا، لكن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2610 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: قُلْتُ: لأَبِى إِيَاسٍ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ

(2)

: أَسَمِعْتَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

(1)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 121 - 122.

(2)

- وقع في "الكبرى" هنا "معاوية بن مرّة" بالميم، وهو تصحيف، والصواب بالقاف.

ص: 239

"ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ

(1)

، قالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المروزي، نزيل نيسابور، ثقة ثبت إمام [10] 2/ 2.

2 -

(وكيع) بن الجرّاح الرؤاسي، أبو سفيان الكوفي، ثقة ثبت [9] 23/ 25.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.

4 -

(إياس بن معاوية بن قرّة) بن هلال المزني البصريّ، ثقة فقيه [3] 22/ 1870.

5 -

(أنس بن مالك) ابن النضر الصحابي الشهير رضي الله عنه 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وهو مسلسل بثقاة البصريين من شعبة، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن شعبة بن الحجّاج أنه (قال: قُلْتُ: لِأَبِي إِيَاسِ مُعَاوِيةَ بْنِ قُرَّةَ) بجرّ "معاوية" بدل من "أبي إياس". (أَسَمِعْتَ أَنسَ بْنَ مَالِك يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ"؟) أي أنه يُعدّ واحدًا منهم، فحكمه كحكمهم، فينبغي أن لا تحلّ الزكاة لابن أخت هاشميّ، كما لا تحلّ لهاشميّ، ولإفادة هذا المعنى ذكر المصنّف رحمه الله تعالى هذا الحديث هنا.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: استدلّ به من يورّث ذوي الأرحام. وأجاب الجمهور بأنه ليس في هذا اللفظ ما يقتضي توريثه، وإنما معناه أن بينه وبينهم ارتباطًا، وقرابةً، ولم يتعرّض للإرث. وسياق الحديث يقتضي أن المراد أنه كالواحد منهم في إفشاء سرّهم بحضرته، ونحو ذلك انتهى.

وقال الحافظ في "الفتح": واستدلّ به من قال بأن ذوي الأرحام يرثون كما يرث العصبات، وحمله من لم يقل بذلك على ما تقدّم، وكأن البخاريّ رمز إلى الجواب

(1)

- وقع في "الكبرى""من القسمة" بدل "من أنفسهم"، وهو تصحيف فاحش.

ص: 240

بإيراد هذا الحديث؛ لأنه لو صحّ الاستدلال بقوله: "ابن أخت القوم منهم" على إرادة الميراث لصحّ الاستدلال به على أن العتيق يرث ممن أعتقه؛ لورود مثله في حقّه، فدلّ على أن المراد بقوله:"من أنفسهم"، وكذا "منهم" في المعاونة، والانتصار، والبرّ، والشفقة، ونحو ذلك، لا في الميراث.

وقال ابن أبي جمرة: الحكمة في ذكر ذلك إبطال ما كانوا عليه في الجاهليّة من عدم الالتفات إلى أولاد البنات فضلًا عن أولاد الأخوات، حتى قال قائلهم:

بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا

بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ

فأراد بهذا الكلام التحريضَ على الأُلْفة بين الأقارب. انتهى

(1)

.

[تنبيهان]:

(أحدهما): سبب قوله صلى الله عليه وسلم: "ابن أخت القوم منهم" هو ما أخرجه البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" عن أنس - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم الأنصار، فقال:"هل فيكم أحدٌ من غيركم؟ "، قالوا: لا، إلا ابن أخت لنا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ابن أخت القوم منهم".

(الثاني): أنه وقع عند أحمد من طريق شعبة، عن معاوية بن قرّة في حديث أنس هذا أن المراد بابن أخت القوم هو النعمان بن مقرّن المزنيّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، أي لأن أمه أنصارية.

ووقع ذلك في قصّة أخرى كما أخرجه الطبرانيّ من حديث عُتبة بن غَزْوَان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يومًا لقريش: "هل فيكم من ليس منكم"؟ قالوا: لا، إلا ابن أختنا عتبة ابن غزوان، فقال:"ابن أخت القوم منهم". وله من حديث عمرو بن عوف أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل بيته، قال:"ادخلوا عليّ، ولا يدخل عليّ إلا قرشيّ"، فقال:"هل معكم أحدٌ غيركم"؟، قالوا: معنا ابن الأخت، والمولى، قال:"حليف القوم منهم، ومولى القوم منهم". وأخرج أحمد نحوه من حديث أبي موسى، والطبرانيّ نحوه من حديث أبي سعيد. ذكره في "الفتح"

(2)

.

(قَالَ: نَعَمْ) أي قال معاوية: نعم سمعته يقول ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- راجع "الفتح" ج 13 ص 540. في "كتاب الفرائض".

(2)

- "الفتح" ج 7 ص 243. في "كتاب المناقب".

ص: 241

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -96/ 2610 و 2611 وفي "الكبرى" 98/ 2392 و 2393. وأخرجه (خ) في "المناقب" 3528 وفي "الفرائض" 6762 (م) في "الزكاة" 1059 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 11777 و 2338 و 12446 و 12671 و 12908 و 13003 و 13162 و 13501 و 13521 و 13528 (الدارمي) في "السير" 2527. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2611 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،، عَنْ قَتَادَةَ،، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الكلام على هذا الحديث قد استوفيته في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌97 - (بَابٌ مَوْلَى الْقَوْم مِنْهُمْ)

2612 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اسْتَعْمَلَ رَجُلاً، مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، عَلَى الصَّدَقَةِ، فَأَرَادَ أَبُو رَافِعٍ، أَنْ يَتْبَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لَنَا، وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن علي) الفلاس الصيرفي البصري، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان البصري الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(شعبة) المذكور في الباب الماضي.

4 -

(الحكم) بن عُتَية الكندي، أبو محمد الكوفي، ثقة ثبت ربما دلّس [5] 86/

104.

ص: 242

5 -

(ابن أبي رافع) هو عبيد اللَّه الآتي قريبًا.

6 -

(أبوه) أبو رافع الآتي قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأن رجاله عندهم رجال الصحيح، وأن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، وأن نصفه الأول مسلسل بثقات البصريين، والثاني بثقات الكوفيين، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعي، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ) هو عبيد اللَّه بن أبي رافع مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم المدنيّ، كان كاتب عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، ثقة [3] تقدّمت ترجمته في 17/ 897 (عَنْ أَبِيهِ) أبي رافع القبطيّ، مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، اختلف في اسمه، فقيل: إبراهيم، وقيل: أسلم، وقيل: ثابت، وقيل: هُرْمُز، صحابيّ مشهور، مات - رضي اللَّه تعالى عنه - في أول خلافة عليّ على الصحيح، وتقدّمت ترجمته في 58/ 862 (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اسْتَعْمَلَ رَجُلًا) أي أرسله عاملًا على الصدقة. وهذا الرجل هو الأرقم بن أبي الأرقم، فقد أخرج أحمد من طريق سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم بن عتيبة، عن ابن أبي رافع، عن أبيه، قال: مَرَّ عليّ الأرقم الزهري، أو ابن أبي الأرقم، واستُعمِل على الصدقات، قال: فاستتبعني

" الحديث. لكن في قوله الزهريّ كلام يأتي قريبًا.

(مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ) هذا هو الأصحّ. وقيل: إنه زهريّ.

قال الحافظ في "الإصابة": روى الطبرانيّ من طريق الثوريّ، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عبّاس، قال: استعمل النبيّ صلى الله عليه وسلم الأرقم بن أبي الأرقم الزهريّ على السعاية، فاستتبع أبا رافع، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا أبا رافع، إن الصدقة حرامٌ على محمد، وعلى آل محمد" انتهى.

فهذا يدلّ على أن للأرقم الزهريّ أيضا صحبة.

لكن رواه شعبة، عن مقسم، فقال: استعمل رجلًا من بني مخزوم. كذلك أخرجه أبو داود وغيره، وإسناده أصحّ من الأول. انتهى كلام الحافظ

(1)

.

(1)

- راجع "الإصابة" خ 1 ص 40 - 41.

ص: 243

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن قوله: "عن شعبة، عن مقسم" فيه نظرٌ، لأن رواية أبي داود:"عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي رافع الخ"، كرواية المصنّف، لا عن شعبة، عن مقسم. فليُحرّر.

[تنبيه]: الأرقم بن أبي الأرقم الزهريّ لم أجد ترجمته، وأما الأرقم بن أبي الأرقم المخزوميُّ، فقد ترجمه في "الإصابة"، فقال: كان اسمه عبد مناف بن أسد ابن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم، أبو عبد اللَّه، وكان من السابقين الأولين. قيل: أسلم بعد عشرة. وقال البخاريّ: له صحبة. وذكره ابن إسحاق، وموسى بن عقبة فيمن شهد بدرًا. وروى الحاكم في "المستدرك" أنه أسلم سابع سبعة، وكانت داره على الصفا، وهي الدار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس فيها في الإسلام، وذكر قصّة طويلة لهذه الدار، وأن الأرقم حبسها، وأن أحفاده بعد ذلك باعوها لأبي جعفر المنصور. ورواه ابن منده من طريق أقوى من طريق الحاكم، وهي عن عبد اللَّه بن عثمان بن الأرقم، عن جدّه، وكان بدريًّا، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في داره التي عند الصفا، حتى تكاملوا أربعين رجلًا مسلمين، وكان آخرهم إسلامًا عمر، فلما تكاملوا أربعين رجلًا خرجوا. وشهد الأرقم بدرًا، وأحدًا، والمشاهد كلها، وأقطعه النبيّ صلى الله عليه وسلم دارًا بالمدينة. ومات سنة (55) وقيل:(53)، وهو ابن (85) سنة، وصلى عليه سعد ابن أبي وقّوص - رضي اللَّه تعالى عنهما - بوصيّة منه. انتهى ما في "الإصابة" باختصار

(1)

.

(عَلَىِ الصَّدقَةِ) أي على جمعها من الأغنياء، حتى تُفرّق على الأصناف المستحقّين لها (فَأَرَادَ أبُو رَافِعٍ، أَنْ يَتْبَعَهُ) أي بعد أن طلب الرجل ذلك منه، ففي رواية أبي داود: "فقال لأبي رافع: اصحبني، فإنك تُصيب منها، قال: حتى آتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأسأله، فأتاه، فسأله

" (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لَنَا") يعني نفسه، وأهل بيته (وَإنَّ مَوْلَى الْقَوْم مِنْهُمْ) فيه تحريم الصدقة مطلقًا واجبة كانت، أو تطوّعًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته، ومواليهم، ولو كانوا عُمّالًا عليها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي رافع - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

(1)

- "الإصابة" ج 1 ص 40 - 41.

ص: 244

أخرجه هنا 97/ 2612 - وفي "الكبرى" 99/ 2394. وأخرجه (د) في "الزكاة" 1650 (ت) في "الزكاة" 652 (أحمد) في "مسند القبائل" 26641. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم دفع الزكاة لموالي أهل البيت:

ذهب أبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وبعض المالكيّة، كابن الماجشون، وهو الصحيح عند الشافعيّة، إلى تحريم الصدقة عليهم.

وذهب مالك، وبعض الشافعيّة -وعزاه في "الفتح" إلى الجمهور- إلى جواز دفعها إليهم؛ لأنهم ليسوا منهم حقيقةً، ولا حظّ لهم في سهم ذوي القربى، فلا يُحرَمون من الصدقة، كسائر الناس، قال الحافظ: ومنشأ الخلاف قوله: "مولى القوم منهم"، أو "من أنفسهم"، هل يتناول المساواة في حكم تحريم الصدقة، ألا؟. وحجة الجمهور أنه لا يتناول جميع الأحكام، فلا دليل فيه على تحريم الصدقة، لكنه ورد على سبب الصدقة، وقد اتفقوا على أنه لا يخرج السبب، وإن اختلفوا، هل يُخصّ به، أولا انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الصواب ما ذهب إليه الأولون، من تحريم الصدقة عليهم؛ لحديث الباب، وهو نصّ صحيح صريح في المسألة، والعلل التي تمسك بها المجيزون واهية، إذ العلل العقليّة، لا تقام الأدلة النقليّة، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال [من الوافر]:

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا

تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّياحِ

والحاصل أنه لا يجوز دفع الزكاة لموالي أهل البيت، كما لا يجوز دفعها إليهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌98 - (الصَّدَقَةُ لَا تحَلُّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-)

ولفظ "الكبرى": "الهديّة للنبيّ صلى الله عليه وسلم".

(1)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 124.

ص: 245

2613 -

(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ وَاصِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُتِيَ بِشَيْءٍ، سَأَلَ عَنْهُ، أَهَدِيَّةٌ، أَمْ صَدَقَةٌ؟ ، فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ، لَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ هَدِيَّةٌ، بَسَطَ يَدَهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زياد بن أيوب) الحافظ الثبت المعروف بـ "دلّويه"[10] 101/ 132.

2 -

(عبد الواحد بن واصل) السدوسيّ مولاهم، أبو عبيدة الحدَّاد البصريّ، نزيل بغداد، ثقة، تكلّم فيه الأزديّ بغير حجة [9] 55/ 972. والباقون يأتون قريبًا.

3 -

(بهز بن حكيم) بن معاوية القُشَيريُّ، أبو عبد الملك البصريّ، صدوق [6] 1/ 2436.

4 -

(أبوه) حكيم بن معاوية القُشَيريّ البصريّ، صدوق [3] 1/ 2436.

5 -

(جدّه) معاوية بن حَيْدَة -بفتح الحاء المهملة، وسكون التحتانية- ابن معاوية ابن كعب القشيريّ، صحابي نزل البصرة، ومات بخراسان رضي الله عنه 1/ 2436. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن بهز بن حكيم، (عن أبيه) حكيم (عن جدّه) معاوية رضي الله عنه أنه (قَالَ:"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، إِذَا أُتِيَ بِشَيْءٍ) ولفظ البخاريّ من حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -: "إذا أتي بطعام". وزاد أحمد، وابن حبّان من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عنه: "من غير أهله". قاله في "الفتح"

(1)

(سَأَلَ عَنْهُ، أَهَدِيَّةٌ، أَمْ صَدَقَةٌ؟، فَإنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ، لَمْ يَأْكُلْ) لكونها محرّمة عليه. وللبخاريّ في حديث أبي هريرة: "قال لأصحابه: كلوا".

وهو ظاهر في كونه لا يأكل من الصدقات مطلقًا، فرضا كانت، أو تطوّعًا، وهو الراجح من أقوال أهل العلم، كما تقدّم (وَإِنْ قِيلَ هَدِيَّةٌ، بَسَطَ يَدَهُ) أي للأكل، ولفظ الترمذيّ من طريق يوسف بن سعيد الضُّبَعيّ، عن بهز:"وإن قالوا: هديّة أكل". وفي حديث أبي هريرة عند البخاريّ: "وإن قيل: هدية، ضرب بيده صلى الله عليه وسلم، فأكل معهم". قال في "الفتح": أي شرع في الأكل مسرعًا، ومثله ضَرَب في الأرض: إذا أسرع السير فيها انتهى

(2)

.

قال ابن بطّال -رحمه اللَّه تعالى-: إنما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصدقة؛ لأنها أوساخ الناس؛ ولأن الصدقة منزلة ضَعَةٍ، والأنبياء منزّهون عن ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم -كان كما وصفه

(1)

- "الفتح" ج 5 ص 518.

(2)

- "الفتح" ج 5 ص 518.

ص: 246

اللَّه تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} ، والصدقة لا تحلّ للأغنياء، وهذا بخلاف الهديّة، فإن العادة جارية بالإثابة عليها، وكذلك كان شأنه صلى الله عليه وسلم انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث معاوية بن حَيْدة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-98/ 2613 - وفي "الكبرى" 100/ 2395. وأخرجه (ت) 656 (أحمد) في "مسند البصريين" 19550. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تحريم الصدقة على النبيّ صلى الله عليه وسلم (ومنها): بين حلّ الهديّة له (ومنها): أنّ الصدقة تفارق الهديّة، حيث حُرّمت هي عليه، دون الهديّة، وذلك لأن القصد من الصدقة ثواب الآخرة، وهو ينبىء عن عزّ المعطِي، وذُل الآخذ في احتياجه إلى الترحّم عليه، والرفق به، والقصد من الهديّة التحبّب إلى المهدَى إليه، وإكرامه بعرضها عليه، ففيها غاية العزّة والرفعة له، وأيضًا من شأن الهديّة مكافأتها في الدنيا، ولذا كان صلى الله عليه وسلم يأخذ الهديّة، وُيثيب عليها بإعطاء العوض عنها، فقد أخرج البخاريّ في، "صحيحه" من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقبل الهديّة، ويثيب عليها".

فلا منّة للمُهدِي فيها البتّة، بل هي لمجرّد المحبّة، كما يدلّ كليه حديث: "تهادوا تحابّوا

(2)

"، وأما جزاء الصدقة، فإنه في العقبى، ولا يجازي فيها إلا المولى سبحانه وتعالى.

(ومنها): بيان فضل النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث أكرمه اللَّه تعالى بعدم حلّ الصدقة، لكونها من أوساخ الناس، ولِمَا يلحق الآخذ من الذلّ والهوان، بخلاف الهديّة، فإنها يراد بها إكرام آخذها، فتناسب كرامة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكمال شرفه العظيم (ومنها): أنه ينبغي الورع، والاحتياط في المواضع التي يتشكك فيها الإنسان، من الأمور التي تشتمل على المحظور والمباح، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يسأل إذا جاءه شيء، أصدقةٌ، أم هديةٌ؛ لاشتماله على الحظر والإباحة، فإذا تبيّن له إحداهما عمل بمقتضاه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب،

(1)

- راجع "الفتح" ج 5 ص 519.

(2)

- أخرجه مالك في "الموطّإ" 16851 - عن عطاء بن أبي مسلم عبد اللَّه الخراساني، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تصافحوا، يَذْهَبِ الْغِلُّ، وتَهَادَوا، تحابُّوا، وتَذْهَبِ الشَّحناءُ. وهو مرسل.

ص: 247

وإليه المرجع والماب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌99 - (إِذَا تَحَوَّلَتِ الصَّدَقَةُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف بهذا أن الصدقة إذا أخذها مستحقّها، ثم أهداها لمن لا يستحقّها حلّت له، لكونها خرجت عن اسم الصدقة، وصارت هديّة، فجواب "إذا" محذوف دلّ عليه الحديث: أي حلتّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وآل بيته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2614 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِىَ بَرِيرَةَ، فَتَعْتِقَهَا، وَأَنَّهُمُ اشْتَرَطُوا وَلَاءَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «اشْتَرِيهَا، وَاعْتِقِيهَا، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، وَخُيِّرَتْ حِينَ أُعْتِقَتْ، وَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ، فَقِيلَ: هَذَا مِمَّا تُصُدِّقَ بِهِ، عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ» ، وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن يزيد) بالزاي -الْجَزمِيُّ، أبو بُرَيْدٍ - بالموحدة، وراء، آخره دال مهملة، مصغرًا - البصري، صدوق [11] 100/ 130 من أفراد المصنف.

2 -

(بهز بن أسد) العمّيّ البصري، ثقة ثبت [9] 24/ 28.

3 -

(إبراهيم) بن يزيد النخعي الكوفي الفقيه، ثقة يرسل [5] 29/ 33.

4 -

(الأسود) بن يزيد النخعي الكوفي، ثقة مخضرم فقيه [2] 29/ 33.

5 -

(عائشة) أُمُّ المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5.

والباقيان تقدما قبل باب. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وبعده بالكوفيين إلا عائشة فمدنية، وأن رجاله رجال الصحيح غير شيخه كما مرّ آنفًا، وأن فيه

ص: 248

ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وأن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ) بنت صفوان. وهي بفتح الموحّدة، بوزن فَعِيلة، مشتقّة من الْبَرِيرِ، وهو ثمر الأراك. وقيل: إنها فَعِيلة من البرّ، بمعنى مفعولة، كمبرورة، أو بمعنى فاعلة، كرحيمة، هكذا وجهه القرطبيّ، والأول أولى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم غَيّر اسم جويرية، وكان اسمها بَرّة، وقال:"لا تزكّوا أنفسكم"، فلو كانت بَرِيرة من البرّ لشاركتها في ذلك. وكانت بريرة لناس من الأنصار، كما وقع عند أبي نُعيم. وقيل: لناس من بني هلال. قاله ابن عبد البرّ. ويمكن الجمع. وكانت تخدُم عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - قبل أن تُعتَق، وعاشت إلى خلافة معاوية - رضي اللَّه تعالى عنه -، وتفرّست في عبد الملك بن مروان أنه يلي الخلافة، فبشّرته بذلك، وروى هو ذلك عنها

(1)

(فَتُعْتِقَهَا) وسبب إرادة عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - عتقها أنها طلبت ذلك منها، كما سيأتي من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كاتبت بريرة على نفسها، بتسع أواق، في كل سنة بأوقية، فأتت عائشة تستعينها، فقالت: لا، إلا أن يشاءوا أن أَعُدَّها لهم عَدَّةً واحدة، ويكون الولاء لي، فذهبت بريرة، فكلمت في ذلك أهلها، فأبوا عليها، إلا أن يكون الولاء لهم، فجاءت إلى عائشة، وجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فقالت لها: ما قال أهلها، فقالت: لا، ها اللَّه إذا، إلا أن يكون الولاء لي، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما هذا؟ "، فقالت: يا رسول اللَّه، إن بريرة، أتتني تستعين بي، على كتابتها، فقلت: لا، إلا أن يشاءوا أن أعدها لهم، عَدَّة واحدة، ويكون الولاء لي، فذَكَرَتْ ذلك لأهلها، فأبوا عليها، إلا أن يكون الولاء لهم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ابتاعيها، واشترطي لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق" .... " الحديث.

(وَإِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا وَلَاءَهَا) أي وافقوا على بيعها، لكن بشرط أن يكون ولاء بريرة لهم، لا لعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - (فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية هشام، عن أبيه:"فسمع بذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسألني، فأخبرته". وفي رواية مالك، عن هشام:"فجاءت من عندهم، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالسٌ، فقالت: إني عرضت عليهم، فأبوا، فسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم". وفي رواية أيمن: "فسمع بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو بلغه". زاد في

(1)

- راجع "الفتح" ج 5 ص 498 - 499.

ص: 249

"الشروط" من هذا الوجه: "فقال: "ما شأن بريرة". وكلها في "صحيح البخاري". ويأتي بعضها للمصنّف. ولمسلم من رواية أبي أسامة، ولابن خزيمة من رواية حماد بن سلمة، كلاهما عن هشام: "فجاءتني بريرة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم جالسٌ، فقالت لي فيما بيني وبينها: ما أراد أهلها، فقلت: لا ها اللَّه إذًا، ورفعت صوتي، وانتهرتها، فسمع بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسألني، فأخبرته". لفظ ابن خزيمة

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اشْتَرِيهَا) وفي رواية: "ابتاعيها"(وَأَعْتِقِيهَا) زاد في رواية: "واشترطي لهم الولاء".

وفيه أن الشرط الفاسد لا يفسد البيع، وأما ما ذكره السنديّ من الاستشكال، والجواب عنه، فإنه مبنيّ على مذهبه، والحقّ أن مثل هذا الشرط لا يفسد البيع؛ لصريح قوله- صلى الله عليه وسلم:"اشتريها، واشترطي لهم الولاء"، فقد بيّن أن مثل هذا الشرط الباطل لا يؤثّر في صحة البيع، وسيأتي مزيد بسط لذلك في محلّه، إن شاء اللَّه تعالى (فَإِنَّ الْوَلًاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ") وفي رواية:"فإنما الولاء لمن أعتق"، بلفظ "إنما" وهي أداة حصر، وهو إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عما عداه، ولولا ذلك لما لزم من إثبات الولاء للمعتِقِ نفيه عن غيره. واستدلّ بمفهومه على أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه رجلٌ، أو وقع بينه وبينه محالفة، خلافًا للحنفيّة، ولا للملتقط، خلافًا لإسحاق. ويستفاد من منطوقه إثبات الولاء لمن أعتق سائبةً، خلافًا لمن قال: يصير ولاؤه للمسملمين، ويدخل فيمن أعتق عتقُ المسلم للمسلم، وللكافر، وبالعكس ثبوت الولاء للمعتق. قاله في "الفتح"

(2)

.

(وَخُيِّرَتْ حِينَ أُعْتِقَتْ) ببناء الفعلين للمفعول: أي خَيّرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لَمّا أعتقت بين أن تبقى مع زوجها، وبين أن تفارقه. وفيه أن الأمة إذا أعتقت تُخيّر، واختلف هل يشترط في الخيار كون زوجها عبدًا، أو تُخيّر مطلقًا، فذهب الجمهور إلى أنها لا تُخيّر إلا إذا كان زوجها عبدًا، وذهبت الحنفيّة إلى أنها تُخيّر مطلقًا، سواء كانت تحت حرّ، أم عبد، والأول هو الأرجح، وسبب الخلاف في ذلك اختلاف الروايات في زوج بريرة، أكان عبدًا، أو حرًّا؟، والأول أصحّ الروايات. وسيأتي تحقيق ذلك في محلّه، من "كتاب الطلاق"، إن شاء اللَّه تعالى.

(وَأُتِيَ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بلَحْمٍ، فَقِيلَ: هَذَا مِمَّا تُصُدِّقَ بِهِ) ببناء الفعل للمفعول (عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (هُوَ لَهَاَ صَدَقَةٌ) قال ابن مالك -رحمه اللَّه تعالى-: يجوز في "صدقة" الرفع على أنه خبر "هو"، و"لها" صفة، قُدِّمت،

(1)

- "فتح" ج 5 ص 499.

(2)

- "فتح" ج 5 ص 503.

ص: 250

فصارت حالًا، والنصب على الحال، وُيجعل "لها" الخبر انتهى

(1)

(وَلَنَا هَدِيَّةٌ) فيه أن التحريم إنما هو على الصفة، لا على العين.

(وَكَانَ زَوْجُهَا) اسمه مُغيث، وكان عبدًا أسود لنبي المغيرة، من بني مخزوم (حُرًّا) ووقعت جملة "وكان زوجها حُرًّا" في "الكبرى" عقب قوله:"وخُيّرت حين أُعتقت".

ثم إن كون زوجها حرًّا إنما وقع في رواية الأسود، قال في "الفتح": وقد اختلف فيه على راويه، هل هو من قول الأسود، أو رواه عن عائشة، أو هو قول غيره. قال إبراهيم بن أبي طالب أحد حفّاظ الحديث، وهو من أقران مسلم فيما أخرجه البيهقيّ عنه: خالف الأسود الناسَ في زوج بريرة. وقال الإمام أحمد: إنما يصحّ أنه كان حرًّا عن الأسود وحده، وما جاء عن غيره، فليس بذاك، وصحّ عن ابن عبّاس وغيره أنه كان عبدًا، ورواه علماء المدينة، وإذا روى علماء المدينة شيئًا، وعملوا به، فهو أصحّ شيء، وإذا عَتَقَت الأمة تحت الحرّ، فعقدها المتّفق على صحّته لا يفسخ بأمر مختلف فيه انتهى

(2)

.

وسيأتي مزيد بسط في المسألة في "كتاب الطلاق"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -99/ 2614 وفي "الطلاق" 31/ 3447 و 3448 و 3449 و 3450 و 3451 و 3452 و 3453 و 3454 وفي "البيوع" 78/ 4642 و 3643 و 4644 و 85/ 4655 و / 465686 - وفي "الكبرى" 101/ 2396 وفي "الطلاق" 30/ 5640 و 5641 و 31/ 5642 و 5643 و 32/ 5644 و 5645 و 5646 و 5648 وفي "البيوع" 79/ 6238 و 6239 و 6240 و 86/ 6251 و 87/ 6252.

وأخرجه (خ) في "الصلاة" 456 وفي "الزكاة" 1493 وفي "البيوع" 2155 وفي "العتق" 2536 و 2561 و 2564 و 2565 و "الهبة" 2578 و"الشروط" 2717 و 2726 و 2729 و 2735 و"النكاح" 5097 و"الطلاق" 5279 و 5284 و"الأطعمة" 5430 و"كفارات الأيمان" 6717 و"الفرائض" 6751 و 6754 و 6758 و 6760. (م) في "العتق" 1504 (د) في "العتق" 3929 (ت) في "البيوع" 1256 (ق) في "الدعاء"

(1)

- راجع "زهر الربى" ج 5 ص 108.

(2)

- "الفتح" ج 10 ص 511.

ص: 251

3835 (الموطأ) في "العتق والولاء"1519. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أن الصدقة إذا تحوّلت عن اسمها، إلى اسم الهديّة حلّت للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته، ومثله كلّ من لا تحلّ له الصدقة، كالغنيّ (ومنها): جواز كتابة الأمة كالعبد (ومنها): جواز كتابة المتزوّجة، ولو لم يأذن به الزوج، وليس له منعها، ولو أدّى ذلك إلى فراقها (ومنها): جواز تصرّف المرأة الرشيدة بغير إذن زوجها (ومنها): جواز بيع المكاتب برضاه (ومنها): جواز البيع على شرط العتق (ومنها): تخيير الأمة إذا أعتقت، فإن شاءت اختارت زوجها، وإن شاءت فارقته، لكن بشرط أن يكون زوجها عبدًا، وهو الراجح.

وفوائده هذا الحديث كثيرة، حتى أوصلها بعضهم إلى نحو مائة، وسنذكر أكثرها في "كتاب الطلاق" إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌100 - (شِرَاءُ الصَّدَقَةِ)

2615 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَبْتَاعَهُ مِنْهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «لَا تَشْتَرِهِ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن سلمة) بن أبي فاطمة المرادي الجَمَلِيُّ، أبو الحارث المصري، ثقة ثبت [11] 19/ 20.

2 -

(الحارث بن مسكين) الأموي مولاهم، أبو عمرو المصري الفقيه، ثقة [10] 9/ 9.

3 -

(ابن القاسم) هو: عبد الرحمن العُتَقِيُّ المصريّ الفقيه، صاحب مالك، ثقة، من

ص: 252

كبار [10] 19/ 20.

4 -

(مالك) بن أنس الإمام المدني الحجة المشهور [7] 7/ 7.

5 -

(زيد بن أسلم) العدوي مولاهم المدني، ثقة فقيه [3] 64/ 80.

6 -

(أبوه) أسلم العدويّ مولاهم، أبو خالد، ويقال: أبو زيد. قيل: إنه حبشيّ. وقيل: من سبي عَيْنِ التمر، أدرك زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثقة مخضرمٌ [2].

قال ابن إسحاق: بعث أبو بكر عمر سنة (11) فأقام للناس الحجّ، وابتاع فيها أسلم مولاه. وقال العجليّ: مدنيّ ثقة من كبار التابعين. وقال أبو زرعة: ثقة. وقال يعقوب ابن شيبة: كان ثقة، وهو من جِلّة موالي عمر، وكان يقدّمه. وفي "تاريخ ابن عساكر": كان أسود مشروطًا. وقال أبو عبيد: توفّي سنة (80) وقال غيره: وهو ابن (114) سنة. هذا حكاه البخاريّ، والْفَسَويّ في "تاريخيهما" عن إبراهيم بن المنذر، عن زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وزاد: وصلّى عليه مروان.

قال الحافظ: وهو يقتضي أنه مات قبل سنة (80) بل قبل سنة (70) ويدلّ له أن البخاريّ ذكر ذلك في "التاريخ الأوسط" في "فصل من مات بين الستين إلى السبعين"، ومروان مات سنة (64) ونُفي من المدينة في أوائلها. وروى ابن منده، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" بإسناد ضعيف أن أسلم سافر مع النبيّ صلى الله عليه وسلم. لكن يحتمل لو صحّ السند أن يكون أسلمَ آخَرَ غيرَ مولى عمر انتهى كلام الحافظ.

روى له الجماعة. وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

7 -

(عمر) بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنه -، تقدم في 60/ 75. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من مالك، ورجاله رجال الصحيح، غير الحارث، وفيه رواية الابن عن أبيه عن مولاه، وروايد تابعي عن تابعي، وفيه عمر رضي الله عنه أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسلَمَ، عَنْ أَبيهِ) أسلم، أنه (قَالَ: سَمِعتُ عُمَرَ) زاد في رواية ابن عيينة: "على المنبر". وهو في "المَوطّآت للدارقطنيّ".

وهذا صريح في كون الحديث من مسند عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -. وكذا الرواية التالية من طريق معمر، عن الزهريّ، وأما الرواية الثالثة من طريق عُقيل عن الزهريّ،

ص: 253

فظاهرها أنه من مسند ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -. وقد رجّح الدارقطنيّ الثانية، قال الحافظ: لكن حيث جاءت من طريق سألم وغيره من الرواة عن ابن عمر، فهو من مسنده، وأما رواية أسلم مولى عمر، فهي عن عمر نفسه. واللَّه أعلم

(1)

.

(يَقُولُ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ) زاد القعنبيّ في "الموطإ": "عَتيق". والعتيق الكريم الفائق من كلّ شيء. وهذا الفرس أخرج ابن سعد عن الواقديّ بسنده، عن سهل بن سعد في تسمية خيل النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "وأهدى تميم الداريّ له فرسًا، يقال له: الورد، فأعطاه عمر، فحمل عليه عمر في سبيل اللَّه، فوجده يباع

" الحديث. فعرف بهذا تسميته، وأصله. ولا يُعارضه ما أخرجه مسلم، ولم يسق لفظه، وساقه أبو عوانة في "مستخرجه" من طريق عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أن عمر حمل على فرس في سبيل اللَّه، فأعطاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلاً"؛ لأنه يُحمل على أن عمر لما أراد أن يتصدّق به، فوّض إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اختيار من يتصدّق به عليه، أو استشاره فيمن يحمله عليه، فأشار به عليه، فنُسبت إليه العطيّة؛ لكونه أمره بها.

(فِي سَبيلِ اللَّهِ عز وجل) وفي رواية عُقيل الآتية: "أن عمر تصدّق بفرس". والمعنى أنه ملّكه لهَ، ولذا ساغ له بيعه. ومنهم من قال: كان عمر قد حبسه، وإنما ساغ للرجل بيعه؛ لأنه حصل فيه هُزَالٌ، عَجَزَ لأجله عن اللحاق بالخيل، وضعف عن ذلك، وانتهى إلى حالة عدم الانتفاع به. وأجاز ذلك ابن القاسم، ويدلّ على أنه تمليك قوله:"ولا تَعُد في صدقتك"، ولو كان حبيسًا لعلّله به. قاله في "الفتح".

(فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ) أي لم يحسن القيام عليه، وقصّر في مؤونته، وخدمته. وقيل: لم يعرف مقداره، فأراد بيعه بدون قيمته. وقيل: معناه استعمله في غير ما جُعل له، والأول أظهر، ويؤيّده رواية مسلم من طريق رَوْح بن القاسم، عن زيد بن أسلم:"فوجده قد أضاعه صاحبه، وكان قليل المال"، فأشار إلى علّة ذلك، وإلى العذر المذكور في إرادة بيعه

(2)

.

(وَأَرَدْتُ أَنْ أَبْتَاعَهُ مِنْهُ) أي اشتريه من ذلك الرجل (وَظَنَنْتُ أنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ) بضمّ، فسكون: ضدّ الغَلَاء، أي بثمن قليل (فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي عن حكم شرائه (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا تَشْتَرِهِ) وفي رواية عُقيل:"لا تعُد في صدقتك" سمى الشراء عودًا في الصدقة من حيث إن الغرض منها ثواب الآخرة، فإذا اشتراها برخص، فكأنه اختار

(1)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 120.

(2)

- راجع "الفتح" ج 5 ص 558 - 559.

ص: 254

عَرَض الدنيا على الآخرة، مع أن العادة تقتضي بيع مثل ذلك برخص لغير المتصدّق، فكيف بالمتصدّق، فيصير راجعًا في ذلك المقدار الذي سومح فيه.

(وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ) أي بثمن قليل. وهذا مبالغة في رُخصه، وهو الذي حمل عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - على الشراء.

ويستفاد منه أن البائع كان قد ملكه، ولو كان حبيسًا كما ادعاه من قال بجواز بيعه؛ لكونه صار لا ينتفع به فيما حبس له لما كان له أن يبيعه إلا بالقيمة الوافرة، ولا كان له أن يسامح منها بشيء، ولو كان المشتري هو الْمُحَبِّس.

وقد استَشكَلَ الإسماعيليّ، فقال: إذا كان شرط الواقف ما ثبت في حديث ابن عمر في وقف عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "لا يُباع أصله، ولا يوهب"، فكيف يجوز أن يباع الفرس الموهوب، وكيف لا يُنهى بائعه، أو يمنع من بيعه؟.

قال: فلعلّ معناه أن عمر جعله صدقة يعطيها من يرى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إعطاءه، فأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم الرجل المذكور، فجرى منه ما ذكر.

ويستفاد من التعليل المذكور أيضًا أنه لو وجده مثلًا يباع بأغلى من ثمنه لم يتناوله النهي. أفاده في "الفتح"

(1)

.

(فَإِن الْعَائِدَ) الفاء للتعليل (فِي صَدَقَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ) الغرض من التشبيه تقبيح صورة ذلك الفعل. وفي رواية: "كالعائد في قيئه" واستدلّ به على تحريم ذلك؛ لأن أكل القيء حرام. قال القرطبيّ: وهذا هو الظاهر من سياق الحديث. ويحتمل أن يكون التشبيه للتنفير خاصّة؛ لكون القيء مما يُستقذر، وهو قول الأكثرين. ويلتحق بالصدقة الكفّارات، والنذر، وغيرهما من القربات. وأما إذا ورثه فلا كراهة، وأبعد من قال: يتصدّق به.

[تنبيه]: زاد في رواية سالم عند البخاريّ في آخره: "ولهذا كان ابن عمر لا يترك أن يبتاع شيئًا تصدّق به إلا جعله صدقة". يعني أن ابن عمر كان إذا اتفق له أن يشتري شيئًا مما تصدق به لا يتركه في ملكه حتى يتصدّق به، وكأنه فهم أن النهي عن شراء الصدقة إنما هو دمن أراد أن يتملّكها، لا لمن يردّها صدقة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

- "الفتح" ج 5 ص 559.

ص: 255

حديث عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-100/ 2615 و 2616 و 2617 - وفي "الكبرى" 102/ 2397 و 2398 و 2399. وأخرجه (خ) في "الزكاة" 1489 و 1490 و"الجهاد والسير" 2971 و 3002 و 3003 (م) في "الهبات" 1620 و 1621 (د) في "الزكاة" 1593 (ت) في "الزكاة" 668 (ق) في "الأحكام" 2390 و 2392 (أحمد) في "مسند العشرة" 283 و 386 و 5155 و 5762 "الموطّأ" في "الزكاة" 624 و 625. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم شراء الصدقة، وهو المنع؛ لأنه يكون رجوعًا عنها (ومنها): مشروعيّة الحمل في سبيل اللَّه تعالى، والإعانة على الغزو بكلّ شيء (ومنها): أن العمل في سبيل اللَّه يكون تمليكًا، فيجوز للمحمول بيعه، والانتفاع بثمنه (ومنها): استعمال التشبيه في توضيح المسائل (ومنها): فضل عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -، حيث امتنع من شراء صدقته، وقد وجدها تباع برخص، حتى استشار النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلم حكم اللَّه في ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم شراء الصدقة:

ذهب الجمهور، ومنهم مالك، والكوفيون، والشافعيّ -كما قال ابن بطّال- إلى كراهة ذلك؛ لحديث الباب، وسواء كانت الصدقة فرضًا، أو تطوّعًا، فإن اشترى أحد صدقته لم يُفسخ بيعه، وأولى به التنزه عنها، وكذا قولهم فيما يخرجه المكفّر في كفّارة اليمين.

وذهب قوم إلى جواز شرائها، ومنهم-كما قال ابن المنذر- الحسن، وعكرمة، وربيعة، والأوزاعيّ.

وذهب قوم إلى تحريم ذلك، فلا يجوز لأحد أن يشتري صدقته، ويفسخ البيع

(1)

. قال القرطبيّ وغيره: وهو الظاهر

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بالتحريم هو الأرجح عندي؛ لحديث عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - المذكور في الباب، فإن النهي للتحريم على المذهب الراجح؛ كما أن الأمر للوجوب، قال اللَّه تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ

(1)

- راجع "عمدة القاري" ج 7 ص 345.

(2)

- راجع "الفتح" ج 5 ص 559.

ص: 256

أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -فيما يأتي للمصنّف برقم -2619 - من حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، مرفوعًا:"وإذا نهيتكم عن شيء، فاجتبوه"

(1)

. ولا دليل هنا من نصّ، ولا إجماع يصرف النهي عن التحريم إلى كراهة التنزيه.

والحاصل أن شراء الصدقة محرم، يفسد به البيع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قال الطبريّ -رحمه اللَّه تعالى-: يُخصّ من عموم هذا الحديث مَن وَهَب بشرط الثواب، ومن كان والدًا، والموهوب ولده، والهبة التي لم تُقبض، والتي ردّها الميراث إلى الواهب؛ لثبوت الأخبار باستثناء كلّ ذلك، وأما ما عدا ذلك، كالغنيّ يثيب الفقير، ونحو من يَصِل رحمه، فلا رجوع لهؤلاء. قال: ومما لا رجوع فيه مطلقًا الصدقة يراد بها ثواب الآخرة. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قال في "الفتح": وقد استُشكل ذكر عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -يعني حمله في سبيل اللَّه- مع ما فيه من إذاعة عمل البرّ، وكتمانُهُ أرجح.

وأجيب بأنه تعارض عنده المصلحتان: الكتمان، وتبليغ الحكم الشرعيّ، فرجَّحَ الثاني، فعمل به.

وتُعُقّب بأنه كان يمكن أن يقول: حمل رجل فرسًا مثلًا، ولا يقول: حملت، فيجمع بين المصلحتين. والظاهر أن محلّ رجحان الكتمان إنما هو قبل الفعل، وعنده، وأما بعد وقوعه، فلعلّ الذي أعطيه أذاع ذلك، فانتفى الكتمان، ويضاف إليه أن في إضافته ذلك إلى نفسه تأكيدًا لصحّة الحكم المذكور؛ لأن الذي تقع له القصّة أجدر بضبطها ممن ليس عنده إلا وقوعها بحضوره، فلما أمن ما يخشى من الإعلان بالقصد، صرّح بإضافة الحكم إلى نفسه.

ويحتمل أن يكون محلّ ترجيح الكتمان لمن يَخشَى على نفسه من الإعلان العجب والرياء، أما من أَمِنَ من ذلك كعمر - رضي اللَّه تعالى عنه - فلا انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الأخير عندي أقوى.

وحاصله أن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - لما أَمِنَ من مَعَرّة الإعلان، من العجب والرياء اختار الإعلان به؛ لما يترتّب عليه من ترغيب الناس إلى مثل عمله، فيَقتَدُوا به فيحملوا في سبيل اللَّه تعالى، ويكون له الأجر في ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ سنّة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شيئًا

"

(1)

- هو حديث متّفق عليه.

ص: 257

الحديث

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2616 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَرَآهَا تُبَاعُ، فَأَرَادَ شِرَاءَهَا، فَقَالَ: لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَعْرِضْ فِي صَدَقَتِكَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من رجال الأربعة، وهو ثقة. والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم شرحه، والكلام على مسائله في الذي قبله. وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: "لا تَعْرِض في صدقتك" -بفتح التاء، والراء، ويجوز كسرها: أي لا تتعرّض للعَوْدة فيها.

قال الفيّوميّ: وما عَرَضتُ له بسوء: أي ما تعرّضت. وقيل: ما صِرْتُ له عُرْضةً بالوقيعة فيه، من باب ضرب، وعَرِضتُ له بالسوء، من باب تَعِبَ لغةٌ، وفي الأمر لا تَعْرِض له بكسر الراء، وفتحها: أي لا تتعرّض له، فتمنعه باعتراضك أن يبلغ مراده؛ لأنه يقال: سِرتُ، فعرض لي في الطريق عارض، من جبل، ونحوه. أي مانع يمنع من المضيّ. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2617 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حُجَيْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، كَانَ يُحَدِّثُ، أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، فَوَجَدَهَا تُبَاعُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْمَرَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.

و"حجين" -بالمهملة، والجيم، آخره نون، مصغّرًا -: هو ابن المثنّى اليماميّ، أبو عُمير البغداديّ، ثقة [9] 180/ 1150.

وقوله: "فوجدها" بضمير المؤنّث، ثم قال:"فأراد أن يشتريه" بضمير المذكّر، وفي "الكبرى" بالتذكير في الموضعين، وكلٌّ صحيح؛ لأن الفرس يذكّر، ويؤنّث، قال

(1)

- أخرجه مسلم في "صحيحه".

(2)

- "المصباح المنير" في مادّة عرض.

ص: 258

الفيّوميّ: والفَرَس يقع على الذكر والأنثى، فيقال: هو الفرس، وهي الفرس، وتصغير الذكر: فُرَيسٌ، والأنثى: فُرَيسة، على القياس، وجُمِعت الفرس على غير لفظها، فقيل: خَيْلٌ، وعلى لفظها، فقيل: ثلاثة أفراس بالهاء للذكور، وثلاث أفراس بحذفها للإناث، ويقع على التركيّ، والعربيّ. قال ابن الأنباريّ: وربّما بنوا الأنثى على الذكر، فقالوا فيها: فَرَسَةٌ. وحكاه يونس سماعًا عن العرب. انتهى

(1)

.

والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الأول.

وبقيّة مباحثه ستأتي مستوفاةً في المواضع المناسبة لها، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2618 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ وَيَزِيدُ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَمَرَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ، أَنْ يَخْرِصَ الْعِنَبَ، فَتُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا، كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحَديث لم أره في "الكبرى"، وكان حقّه أن يُذكر في باب "كم يترك الخارص؟ "، ولا أدري لماذا أخّره ههنا.

ورجال إسناده رجال الصحيح، و"عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"بِشْر": هو ابن المفضّل. و"يزيد": هو ابن زيع. وكلهم تقدّموا، غير:

1 -

(عبد الرحمن بن إسحاق) بن عبد اللَّه بن كنانة العامريّ القرشيّ مولاهم، ويقال: الثقفيّ، المدنيّ، نزيل البصرة. ويقال له: عبّاد بن إسحاق، صدوق، رُمِي بالقدر [6].

قال القطّان: سألت عنه بالمدينة، فلم أرهم يَحمدونه. وكذا قال عليّ بن المدينيّ.

قال: وسمعت سفيان، سئل عنه، فقال: كان قدريًّا، فنفاه أهل المدينة. وقال يزيد بن زُريع: ما جاءنا أحفظ منه.

وقال أبو بكر بن زنجويه: سمعت أحمد يقول: هو رجلٌ صالح، أو مقبول. وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: صالح الحديث. وقال مرّة: ليس به بأس. وقال أبو طالب، عن أحمد: رَوَى عن أبي الزناد أحاديث منكرة. وكان يحيى لا يُعجبه، وهو صالح الحديث. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: كان إسماعيل ابن عُليّة يرضاه. وقال ابن الجنيد، عن ابن معين: ثقة، هو أحبّ إليّ من صالح بن أبي الأخضر. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: صُويلح. وقال مرّة: ثقة. وكذا قال الدُّوريّ عنه. وقال مرّةً: صالح الحديث. وقال ابن المدينيّ: كان يَرَى القدر، ولم يَحمِل عنه أهل

(1)

- "المصباح المنير" في مادة فرس.

ص: 259

المدينة. وقال يعقوب بن شيبة: صالح. وقال يعقوب سفيان: ليس به بأس. وقال العجليّ: يُكتب حديثه، وليس بالقويّ. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به، وهو قريبٌ من ابن إسحاق صاحب "المغازي"، وهو حسن الحديث، وليس بثبت، وهو أصلح من عبد الرحمن بن إسحاق أبي شيبة الواسطيّ. وقال البخاريّ: ليس ممن يُعتمد على حفظه إذا خالف من ليس دونه، وإن كان ممن يُحتمل في بعض. قال: وقال إسماعيل بن إبراهيم: سألت أهل المدينة عنه، فلم يَحمَدوه، مع أنه لا يُعرف له بالمدينة تلميذٌ إلا موسى الزَّمْعيّ، روى عنه أشياء فيها اضطراب. وقال الآجريّ، عن أبي داود: قدريّ إلا أنه ثقة، قال: هَرَبَ إلى البصرة لما طُلب القدريّة أيام مروان. وقال النسائيّ: ليس به بأس، ولم يكن ليحيى القطّان فيه رأي. وقال ابن خُزيمة: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن عديّ: في حديثه بعض ما يُنكر، ولا يتابع عليه والأكثر منه صحاح، وهو صالح الحديث، كما قال أحمد. وقال الدارقطنيّ: ضعيف يُرمَى بالقدر. وقال الساجيّ: صدوق يُرمى بالقدر. وقال ابن سعد: هو أثبت من الواسطيّ. وقال الحاكم: لا يَحتَجّان به -يعني الشيخين-، ولا واحد منهما، وإنما أخرجا له في الشواهد. وقال المرّوذيّ، عن أحمد: أما ما كتبنا من حديثه فصحيح. وقال السعديّ: كان غير محمود في الحديث. وحكى الترمذيّ في "العلل" عن البخاريّ أنه وثّقه.

علّق له البخاريّ، وأخرج له في "الأدب المفرد"، والباقون. وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط برقم 2618 و 3099 و 3762 و 3927 و 4008 و 5043.

شرح الحديث

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب بن عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، من كبار [3] اتفقوا على أن مرسلاته أصحّ المراسيل، وقال ابن المدينيّ: لا أعلم في التابعين أوسع منه علمًا، مات بعد (90) وقد ناهز (80) تقدّمت ترجمته في -9/ 9 - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَمَرَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ) -بفتح الهمزة- ابن أبي العِيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأمويّ، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد المكيّ. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعنه عمرو بن أبي عَقْرب، وابن المسيّب، وعطاء بن أبي رباح، وعبد اللَّه بن عُبيدة الرَّبَذيّ.

قال ابن عبد البرّ: استعمله النبيّ صلى الله عليه وسلم على مكّة عام الفتح في خروجه إلى حُنين، فحجّ بالناس سنة ثمان، وحج المشركون على ما كانوا عليه، ولم يزل على مكّة حتى قُبض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأقرّه أبو بكر، فلم يزل عليها واليًا إلى أن مات، فكانت وفاته

ص: 260

فيما ذكر الواقديّ يوم مات أبو بكر الصدّيق. وقال محمد بن سلاّم الْجُمَحيّ وغيره: جاء نَعْي أبي بكر إلى مكة يوم دُفن عَتَّاب، وكان عتّاب رجلًا صالحًا خيّرًا فاضلًا.

قال مصعب الزُّبَيريّ: خطب عليّ بن أبي طالب جُويرية بنت أبي جهل، فشقّ ذلك على فاطمة، فأرسل إليها عتّابٌ: أنا أريحك منها، فتزوّجها، فولدت له عبد الرحمن بن عتّاب. قال أبو داود: لم يسمع سعيد بن المسيّب من عتّاب شيئًا.

وقال أيوب بن عبد اللَّه بن يسار، عن عمرو بن أبي عَقْرب: سمعت عتّاب بن أَسِيد، فذكر حديثًا. انتهى.

أخرج له الأربعة، وله عندهم حديث في الخَرْص -يعني هذا الحديث- وعند ابن ماجه آخر في النهي عن شِفَ ما لم يُضْمَن.

وقال الحافظ معلّقا على حكايته أيوب بن عبد اللَّه المذكورة-: ومقتضاه أن عتّابًا تأخّرت وفاته عما قال الواقديّ؛ لأن أيوب ثقة، وعمرو بن أبي عَقْرب ذكره البخاريّ في التابعين، وقال: سمع عتّابًا.

وقد ذكر أبو جعفر الطبريّ عتابًا فيمن لا يُعرف تاريخ وفاته، وقال في "تاريخه": إنه كان والي مكّة لعمر سنة عشرين. وذكره قبل ذلك في سنين عمر، ثمّ ذكره في سنة (21)، ثم في سنة (22)، ثم قال في مقتل عمر سنة (23): قُتل، وعاملُهُ على مكّة نافع ابن عبد الحارث انتهى.

فهذا يشعر بأن موت عتاب كان في أواخر سنة (22)، أو أوائل سنة (23)، فعلى هذا فيصحّ سماع سعيد بن المسيّب منه. واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام الحافظ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: خلاصة ما ذُكر أن الأرجح تأخّر وفات عتّاب، عما قاله الواقديّ؛ لأن الواقديّ ضعيف جدًّا، فلا تقبل روايته، ولا سيّما وقد خالفه ثقة؟، فسماع سعيد عن عتّاب هو الظاهر. وقد تقدم هذا البحث في -26/ 2491 - واللَّه تعالى أعلم.

(أنْ يَخْرُصَ الْعِنَبَ) بضم الراء، يقال: خَرَصتُ العنب خَرْصًا، من باب قتل: قدّرتُ ثمره، والاسم الْخِرْص -بالكسر- (فَتُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا) ببناء الفعل للمفعول، أي تدفع زكاته إلى مستحقّيها صالحة للانتفاع (كمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا) أشار به إلى أن الزكاة لا تُخرج عقب الخرص، وإنما تُخرج إذا صار الرُّطَب تمرًا، والعنب زبييًا.

وإنما جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم خرص العنب كخرص النخل؛ لأنه يُخرص من التمر ما يحيط به البصر ظاهرًا، ولا يحول دونه حائلٌ، ولا يخفى في ورق الشجر، والعنب في هذا المعنى، فلذا شُبّه بالنخل، بخلاف سائر الثمار، فإن هذا المعنى معدوم فيها.

أو لأن خيبر فُتحت أوّلًا سنة سبع، وبها نخلٌ، وبَعث إليهم صلى الله عليه وسلم عبد اللَّه بن رواحة،

ص: 261

فخَرَصَها، فلما فتح الطائف، وبها عنب كثير، أمر بخرصه، كخرص النخل المعروف عندهم.

وحكمة الخرص أن الفقراء شركاء أرباب الأموال في الثمر، فلو مُنع أرباب الأموال من الانتفاع بثمارهم إلى أن تبلغ غايتها في الصلاح، لأضرّ ذلك بهم، ولو انبسطت أيديهم فيها لأخلّ ذلك بحقّ الفقراء منها، ولَمّا كانت الأمانة غير متحقّقة عند كلّ واحد من أرباب الأموال، وعُمّالهم، وَضَعَت الشريعة هذا الضابط؛ ليَتَوصّل به أرباب الأموال إلى الانتفاع بها، ويُحفَظ للمساكين حقوقهم

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

وقد تقدّم تمام البحث في مسألة الخرص، واختلاف العلماء فيه، وأن الحقّ مشروعيته في -26/ 2491 فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سعيد بن المسيّب أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر عَتّاب بن أسيد الخ صحيح؛ لأن الظاهر -كما أسلفته قريبًا- سماع سعيد من عتّاب - رضي اللَّه تعالى عنه -، فهو متّصلٌ، ولو قلنا بعدم سماعه منه، فإنه صحيح أيضًا، لأن جلّ الأئمّة على تصحيح مراسيل سعيد -رحمه اللَّه تعالى-، قال النوويّ: هذا الحديث، وإن كان مرسلًا لكن اعتضد بقول الأئمة انتهى.

وأيضًا، فله شواهد، قد تقدّم بيانها في -26/ 2491 مستوفًى.

والحاصل أن حديث عتاب هذا صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: روى الدارقطنيّ هذا الحديث من طريق الواقديّ، عن عبد الرحمن بن عبد العزيز الأُماميّ، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن المسور بن مخرمة، عن عتّاب بن أَسِيد، قال أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نخرُص أعناب ثقيف، كخرص النخل، ثم تؤدّى زبيبًا كما تؤدّى زكاة النخل تمرًا".

قال أبو حاتم: الصحيح: عن سعيد بن المسيّب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر عتّابًا، مرسل انتهى. على أن الواقديّ ضعيف جدًّا

(2)

.

(1)

- راجع "المنهل العذب المورود" ج 9 ص 210.

(2)

- راجع "سنن الدارقطنيّ" و "التعليق المغني" ج 2 ص 132 - 134.

ص: 262

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-100/ 2618 - فقط، وليس له ذكر في "الكبرى". وأخرجه (د) في "الزكاة" 1603 (ت) في "الزكاة" 644 (ق) في "الزكاة"1819. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[خاتمة]: نختم بها "كتاب الزكاة"، وهي من مهمات المسائل، ذكرها الإمام أبو محمد بن حزم -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "المحلّى"، قال -رحمه اللَّه تعالى-:

[مسألة]: وفرضٌ على الأغنياء من أهل كلّ بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويُجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بدّ منه، ومن اللباس للشتاء، والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يُكنّهم من المطر، والصيف، والشمس، وعيون المارّة.

برهان ذلك قول اللَّه تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26] وقال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36]. فأوجب اللَّهَ تعالى حقّ المساكين، وابن السبيل، وما ملكت اليمين، مع حقّ ذي القربي، وافترض الإحسان إلى الأبوين، وذي القربي، والمساكين، والجار، وما ملكت اليمين، والإحسانُ يقتضي كلّ ما ذكرنا، ومنعه إساءة بلا شكّ.

وقال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 42 - 44]، فقرن اللَّه تعالى إطعام المسكين بوجوب الصلاة.

وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة في غاية الصحّة أنه قال: "من لا يرحَم الناس، لا يرحمه اللَّه".

قال أبو محمد: ومن كان على فضل، ورأى أخاه المسلم جائعًا عريان ضائعًا، فلم يُغِثْه، فما رحمه بلا شكّ. وهذا خبر رواه نافع بن جبير بن مطعم، وقيس بن أبي حازم، وأبو ظبيان، وزيد بن وهب، كلهم عن جرير بن عبد اللَّه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

. وروَى أيضًا معناه الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(2)

.

ثم أخرج بسنده إلى أبي عثمان النهديّ: أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق حدّثه: "أنّ أصحاب الصفّة كانوا فقراء، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عنده طعام اثنين،

(1)

- حديث جرير أخرجه مسلم من هذه الطرق ج 2 ص 213 - 214. ورواه البخاريّ مختصرًا من طريق زيد بن وهب ج 8 ص 17.

(2)

- رواه البخاريّ ج 8 ص 12.

ص: 263

فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة، فليذهب بخامس، أو سادس"

(1)

. فهذا هو نفس قولنا.

ثم أورد حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يُسلمه"

(2)

.

قال: من تركه يجوع، وَيعْرَى، وهو قادرٌ على إطعامه، وكسوته، فقد أسلمه.

ثم أخرج بسنده عن أبي سعيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه -: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: من كان عنده فضل ظهر، فَلْيَعُدْ به على من لا ظهر له، ومن كان له فضلٌ مِن زاد، فليعد به على من لا زاد له"، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حقّ لأحد منا في فضل.

قال أبو محمد: وهذا إجماع الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم - يخبر بذلك أبو سعيد، وبكلّ ما في هذا الخبر نقول.

وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكّوا العاني"

(3)

. والنصوص من القرآن والأحاديث الصحاح في هذا تكثر جدًّا.

ثم أورد عن أبي وائل، قال: قال عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه -: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء، فقسمتها على فقراء المهاجرين. قال: وهذا إسناد في غاية الصحّة والجلالة.

وعن محمد بن عليّ بن أبي طالب، أنه سمع علي بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه - يقول: إن اللَّه تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا، أو عَرُوا، وجَهِدُوا، فبمنع الأغنياء، وحقُّ على اللَّه تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة، ويعذّبهم عليه.

وعن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه قال: في مَالِكَ حقٌ سوى الزكاة. وعن عائشة أم المؤمنين، والحسن بن عليّ، وابن عمر أنهم قالوا كلهم لمن سألهم: إن كنت تسأل في دم موجع، أو غُرْم مفظع

(4)

، أو فقر مُدقع

(5)

، فقد وجب حقّك.

وصحّ عن أبي عبيدة بن الجراح، وثلاثمائة من الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم - أن

(1)

- رواه البخاريّ.

(2)

- متفق عليه.

(3)

- راوه البخاريّ ج 7 ص 120 و 210.

(4)

- المفظع: الدين الشنيع.

(5)

- المدقع: الفقر الشديد الملصق بالدقعاء، وهو التراب.

ص: 264

زادهم فَنِيَ، فأمرهم أبو عبيدة، فجمعوا أزوادهم في مزودين، وجعل يقوتهم إياها على السواء.

فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم -، لا مخالف لهم منهم. وصحّ عن الشعبيّ، ومجاهد، وطاوس، وغيرهم كلهم يقول: في المال حقّ سوى الزكاة.

قال أبو محمد: وما نعلم عن أحد منهم خلاف هذا، إلا عن الضحّاك بن مزاحم، فإنه قال: نسخت الزكاة كلّ حقّ في المال. قال أبو محمد: وما روايةُ الضحاك بحجة، فكيف برأيه.

والعجب أن المحتجّ بهذا أول مخالف له، فيرى في المال حقوقًا سوى الزكاة، منها النفقات على الأبوين المحتاجين، وعلى الزوجة، وعلى الرقيق، وعلى الحيوان، والديون، والأُرُوش، فظهر بهذا تناقضهم.

[فإن قيل]: فقد رويتم من طريق ابن أبي شيبة: ثنا أبو الأحوص، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: من أدّى زكاة ماله، فليس عليه جُناحٌ أن لا يتصدّق. ومن طريق الحكم، عن مقسم، عن ابن عبّاس في قوله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] نسخها العشر، ونصف العشر.

[فالجواب]: أن رواية عكرمة، فإنما هي أن لا يتصدّق تطوّعًا، وهذا صحيح، وأما القيام بالمجهود، ففرض ودَين، وليس صدقة تطوّع.

وأما رواية مقسم فساقطة؛ لضفها

(1)

، وليس فيها لو صحّت خلاف لقولنا.

ويقولون: من عطش، فخاف على الموت، ففرض عليه أن يأخذ الماء حيث وجده، وأن يقاتل عليه. قال: فأيّ فرق بين ما أباحوا له من القتال على ما يدفع به عن نفسه الموت من العطش، وبين ما منعوه منه من القتال عن نفسه فيما يدفع به عنها الموت من الجوع والعري؟ وهذا خلاف للإجماع، وللقرآن، وللسنن، وللقياس.

قال: ولا يحلّ لمسلم اضطرّ أن يأكل ميتة، أو لحم خنزير، وهو يجد طعامًا فيه فضلٌ عن صاحبه، لمسلم، أو ذمّيّ؛ لأن فرضًا على صاحب الطعام إطعام الجائع، فإذا كان ذلك

(1)

- في "المحلّى": لضعفه. فجعل الضعف لمقسم، لا لروايته، والحقّ أن مقسمًا، وإن ضعّفه بعضهم، كابن حزم، فالأكثرون على توثيقه، وإنما الضعف هنا لروايته، فقط، حيث إن الحكم لم يسمع من مقسم إلا أربعة أحاديث، أو خمسة، وليس هذا منها، انظر في "تهذيب التهذيب" في ترجمة الحكم بن عتيبة، وترجمة مقسم. فتكون الرواية فيها انقطاع، ولذا قلت: لضعفها، ليكون الضمير للرواية، لا لمقسم، فتنبّه.

ص: 265

كذلك، فليس بمضطرّ إلى الميتة، ولا إلى لحم الخنزير. وله أن يقاتل عن ذلك. انتهى المقصود من كلام ابن حزم بتصرّف، وهو كلام حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم.

وكتب العلاّمة أحمد محمد شاكر -رحمه اللَّه تعالى- تحت كلام ابن حزم هذا: ما نصّه: مِن هذا، ومن أمثاله في الشريعة الإسلامية يرى المنصف أن التشريع الإسلاميّ في الذروة العليا من الحكمة والعدل، وليت إخواننا الذين غرّتهم القوانين الوضعيّة، وأُشرِبتها نفوسُهم يطّلعون على هذه الدقائق، ويتفقّهونها؛ ليروا أن دينهم جاءهم بأعلى أنواع التشريع في الأرض، تشريع يُشبع القلب والروح، ويطبّق في كلّ مكان، وكلّ زمان، و {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]. ولو فقه المسلمون أحكام دينهم، ورجعوا إلى استنباطها من المنبع الصافي، والمورد العذب -الكتاب والسنّة- وعملوا بما يأمرهم به ربّهم في خاصّة أنفسهم، وفي أمورهم العامّة، وفي أحوال اجتماعهم، لو علموا هذا، لكانوا سادة الأمم.

وهل قامت الثورات المخرّبة الهادمة، والفتن المهلكة، إلا من ظلم الغنيّ للفقير، ومن استئثاره بخير الدنيا، وبجواره أخوه يموت جوعًا وعريًا، والْمُثُلُ كثيرة.

ولو فقه الأغنياء لعلموا أن أول ما يَحفَظ عليهم أموالهم إسداءُ المعروف للفقراء، بل القيام نحوهم بما أوجبه اللَّه على الأغنياء، فليفقهوا، وليعلموا، ويعملوا، فقد جاءتهم النذُر، هدانا اللَّه جميعًا انتهى كلام العلامة أحمد محمد شاكر -رحمه اللَّه تعالى-، وهو كلام نفيسٌ جدًّا، ينبغي الاهتمام بفهمه، والعناية بالعمل به، وتطبيق الأمة الإِسلاميّة له على أنفسها، وأموالها، حتى تكون لها العاقبة المحمودة، فمن تفقّه في دينه، وعمل بمقتضى علمه في أمر دينه ودنياه، فإنه من المتّقين، وقد قال اللَّه تعالى:{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌23 - (كِتَابُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ)

أي هذا كتاب تُذكر فيه الأحاديث المتعلقة ببيان مناسك الحجّ.

وفيه مسائل:

(المسألة الأولى): ترجم المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا بـ "كتاب مناسك الحجّ"،

ص: 266

ومثله الطحاويّ في "شرح معاني الآثار"، وترجم في "الكبرى" بـ "كتاب الحجّ"، كالإمام البخاريّ في "صحيحه"، وترجم الترمذيّ بـ "أبواب الحجّ"، وأبو داود، وابن ماجه بـ "كتاب المناسك". ولكلّ وجهة هو مولّيها.

ثم إنّ المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- قدّم ذكر "كتاب الصلاة"، ثم أتبعه بذكر "كتاب الصوم"، ثم بذكر "كتاب الزكاة"، ثم بذكر "كتاب مناسك الحجّ"، وذلك لأنه وقع تقديم الصوم على الزكاة في حديث طلحة بن عبيد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنه -، الذي تقدّم له في أول "كتاب الصوم".

وأيضًا للمناسبة من حيث المعنى، وذلك لأن الصلاة لَمّا كانت عبادة بدنية محضة ناسب تقديمها، ولَمّا كان الصوم مثلها، ناسب ذكره بعدها، ولَمّا كانت الزكاة عبادة ماليّة محضة، ناسب تأخيرها عنهما، ولَمّا كان الحجّ مركّبًا منهما ناسب أن يكون خاتمة الجميع، هذا بالنسبة لصنيعه في "المجتبى".

وأما صنيعه في "الكبرى"، فقد خالف هذا الترتيب، فذكر الزكاة بعد الصلاة، ثم أتبعها الصوم، ثم المناسك، لكنه أدخل بين الصوم والمناسك "كتاب المحاربين".

والمناسبة فيه واضحة، من حيث إن الزكاة قرينة الصلاة، في كتاب اللَّه تعالى، حيث يقول:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وكذلك ترتيبها في حديث "بُني الإسلام على خمس

"، وغيره من الأحاديث، ولما اختلفت الروايات في تقديم الصوم على الحجّ، وتأخيره عنه، اختلف صنيع المصنّفين، فمنهم من قدّم الصوم، كالمصنّف هنا، ومنهم من آخره كالإمام البخاريّ. ولكلّ وجهة كما أسلفناه.

لكن لا يظهر وجه إدخال المصنّف "كتاب المحاربين" بين الصوم والمناسك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): "الكتاب" يجوز أن يكون بمعنى المكتوب، كالحساب بمعنى المحسوب، وهو في الأصل مصدر كَتَبَ يكتُب كَتْبًا، وكِتابة، وكِتابًا، وهو يَجمَع الأبواب؛ إذ هو من الكَتْب، وهو الجمع، والباب هو النوع، وأصله المدخل، ثم استعمل في المعاني مجازًا. أفاده العينيّ

(1)

.

وهو خبر مبتدإ محذوف، أي هذا كتاب مناسك الحجّ، ويجوز العكس. ويجوز نصبه على أنه مفعول لفعل مقدّر، أي خذ كتاب مناسك الحجّ.

وإضافة "الكتاب" إلى "مناسك" بمنى اللام، وأما إضافة "مناسك للـ "حج"، فمن باب

(1)

- "عمدة القاري" ج1 ص 115.

ص: 267

إضافة الأعم إلى الأخصّ؛ لأن المناسك هي العبادات، والطاعات، فتكون الإضافة كشجر أراك، وعلم الحديث، وعلم الفقه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): "المناسك" جمع مَنسك -بفتح السين، وكسرها-: وهي العبادة، أو مكانها، أو زمانها، فهو صالح للزمان، والمكان، والحدث، وجميعها مراد هنا، إذ الكتاب مسوق لبيان أعمال الحجّ، وأزمنته، وأمكنته، ثمّ سميّت أمور الحجّ كلّها مناسك.

قال الفيّوميّ: نَسَكَ للَّه يَنسُك نَسْكًا، من باب قتل: تطوّع بقربة، والنسك -بضمّتين-: اسم منه، وفي التنزيل:{إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} ، والمنسك -بفتح السين، وكسرها: يكون زمانًا، ومصدرًا، ويكون اسم المكان الذي تُذبح فيه النَسِيكة، وهي الذبيحة، وزنًا ومعنًى،

وفي التنزل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} -بالفتح، والكسر في السبعة. ومناسك الحجّ: عباداته. وقيل: مواضع العبادات، ومن فَعَل كذا عليه نُسُكٌ: أي دمٌ يُريقه، ونَسَكَ: تزهّد، وتعبّد، فهو ناسك، والجمع نُسّاك، مثلُ عابد وعُبّاد انتهى

(1)

.

وقال العينيّ: والمنسك المذبح، وقد نَسَك ينسُك نسكًا: إذا ذبح، والنسيكة: الذبيحة، وجمعها نُسُك، والنُّسُكُ أيضًا: الطاعة، والعبادة، وكلّ ما يُتقرّب به إلى اللَّه عز وجل. والنسك: ما أَمَرت به الشريعة، والورع، وما نهت عنه. والناسك: العابد، وسئل ثعلبٌ عن الناسك ما هو؟، فقال: هو مأخوذ من النَّسِيكة، وهي سبيكة الفضّة، المصفاة، كأنّ الناسك صفّى نفسه للَّه تعالى. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في ضبط "الحجّ"، ومعناه لغةً، وشرعًا:

أما ضبطه، فإنه يقال: بفتح الحاء، وكسرها، لغتان، قُرىء بهما في السبع، وأكثر السبعة على الفتح، وكذا الحجّة فيها لغتان، وأكثر المسموع الكسر، وهو القياس قاله النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- انتهى

(3)

.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: "الحجّ" -بفتح الحاء المهملة، وكسرها- لغتان، نقل الطبريّ أن الكسر لغة أهل نجد، والفتح لغيرهم. ونقل عن حسين الْجُعْفيّ أن الفتح الاسمُ، والكسر المصدر، وعن غيره عكسه. قاله في "الفتح"

(4)

.

(1)

- "المصباح المنير" في مادة نسك.

(2)

- "عمدة القاري" ج 7 ص 386.

(3)

- "المجموع" ج 7 ص 7.

(4)

- "فتح" ج 4 ص 152.

ص: 268

وقال العينيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قال الزّجّاج: يُقرأ بفتح الحاء، وكسرها -أي في القرآن- والأصل الفتح. وقُرىء بهما في السبعة، وأكثرهم على الفتح. وفي أمالي الهجريّ: أكثر العرب يكسرون الحاء فقط. وقال ابن السّكّيت: بفتح الحاء القصد، وبالكسر القوم الْحُجّاج. والحجّة بالفتح الفَعْلة من الحجّ، وبكسر الحاء: التلبية والإجابة. وقال في "اللسان": والحجّ بالكسر الاسم، والحجّة المرّة الواحدة، وهو من الشواذّ؛ لأن القياس بالفتح.

والحاجّ: الذي يحجّ، وربما يُظهرون التضعيف في ضرورة الشعر، قال الراجز:

بكُلَّ شَيْخٍ عَامِرِ أَوْ حَاجِجِ

وُيجمع على حُجُج، بالضمّ، نحو بازل وبُزُل، وعائذ وعُوذ

(1)

.

وأما معناه لغةً: فهو القصد، وعن الخليل، قال: الحجّ كثرة القصد إلى من تُعظّمه

(2)

.

وقال الفيّوميّ: حَجّ حجًّا، من باب قتل: قصد، فهو حاجّ، هذا أصله، ثمّ قُصِرَ استعمالُهُ في الشرع على قصد الكعبة للحجّ، أو العمرة، ومنه يقال: ما حجَّ، ولكن دَجَّ، فالحجّ: القصد للنسك، والدَّجُّ: القصد للتجارة، والاسم الحجّ بالكسر، والحجّة: المرّة بالكسر على غير قياس، والجمع حِجَج، مثلُ سِدْرَة وسِدَر. قال ثعلب: قياسه الفتح، ولم يُسمع من العرب، وبها سمّي الشهر ذو الحجّة بالكسر، وبعضهم يفتح في الشهر، وجمعه ذوات الحجة، وجمع الحاجّ حُجّاجٌ، وحَجِيج. انتهى كلام الفيّوميّ

(3)

.

وقال الأزهريّ: وأصل الحجّ من قولك حَجَجت فلانًا أحُجّه حجّا: إذا عُدت إليه مرّة بعد أخرى، فقيل: حجّ البيت؛ لأن الناس يأتونه كلّ سنة. وفي "العباب": رجلٌ محجوجٌ: أي مقصود، وقد حجّ بنو فلان فلانًا: إذا أطالوا الاختلاف إليه. ومنه قول المْخُبَّل السَّعديّ [من الطويل]:

وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً

يَحُجُّونَ سِبَّ الزَّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا

يقول: يأتونه مرّة بعد أخرى؛ لسؤدده، والْحُلُول بضمّ الحاء المهملة، يقال: قوم حُلُول: أي نُزُولٌ، وكذلك حلالٌ بالكسر. والسِّبُّ بكسر السين المهملة، وتشديد الباء

(1)

- "عمدة القاري" ج 7 ص 386. بزيادة من "اللسان".

(2)

- "المغني" لابن قدامة ج 5 ص 5.

(3)

- "المصباح" في مادة حج.

ص: 269

الموحّدة: العمامة. والزِّبْرِقَان -بكسر الزاي، وسكون الباء الموحّدة، وكسر الراء، وبالقاف المخفّفة، وفي آخره نون- وهو في الأصل اسم القمر، وهو لقبُ، واسمه الحصين. قال ابن السّكّيت: لُقّب الزبرقان؛ لصفرة عمامته

(1)

.

وأما معناه شرعًا: فالحجّ قصدٌ إلى زيارة البيت الحرام على وجه التعظيم بأفعال مخصوصة.

وسببه البيت؛ لأنه يضاف إليه، ولهذا لا يجب في العُمْرِ إلا مرّة واحدة؛ لعدم تكرار السبب. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في وقت ابتداء فرض الحجّ:

قال العلاّمة القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المفهم": واختُلف في زمان فرض الحجّ، فقيل: سنة خمس من الهجرة. وقيل: سنة تسع، وهو الصحيح؛ لأن فتح مكّة كان في التاسع عشر من رمضان سنة ثمان من الهجرة، وحجّ بالناس في تلك السنة عَتّاب بن أَسيد - رضي اللَّه تعالى عنه -، ووقف بالمسلمين، ووقف المشركون على ما كانوا عليه في الجاهليّة، فلما كانت سنة تسع فُرض الحجّ، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أبا بكر، فحجّ بالناس تلك السنة، ثم أتبعه عليّ بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه - بسورة براءة، فقرأها على الناس في الموسم، ونبذ للناس عهدهم، ونادى في الناس أن لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان. ووافقت حجة أبي بكر في تلك السنة أن كانت في شهر ذي القعدة، على ما كانوا يديرون الحجّ في كلّ شهر من شهور السنة، فلما كانت سنة عشر حج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حجته المسمّاة بحجة الوداع، على ما يأتي بيانها في حديث جابر وغيره، ووافق النبيّ تلك السنة أن وقع الحجّ في ذي الحجة في زمانه، ووقته الأصليّ، الذي فرضه اللَّه فيه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللَّه السموات والأرض

" الحديث

(2)

. انتهى كلام القرطبيّ

(3)

.

وقال في "الفتح": واختُلف في وقت ابتداء فرضه، فقيل: قبل الهجرة، وهو شاذّ. وقيل: بعدها، ثم اختلف في سَنَته، فالجمهور على أنها سنة ستّ؛ لأنها نزل فيها قوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض، ويؤيّده قراءة علقمة، ومسروق، وإبراهيم النخعيّ بلفظ:"وأقيموا". أخرجه الطبريّ بأسانيد صحيحة عنهم. وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع، وهذا يقتضي تقدّم

(1)

- "عمدة القاري" ج 1 ص 214 وج 7/ 386.

(2)

- الحديث متّفق عليه.

(3)

- "المفهم" ج 3 ص 255 - 256.

ص: 270

فرضه قبل ذلك. وقد وقع في قصّة ضمام بن ثعلبة ذكر الأمر بالحجّ، وكان قدومه على ما ذكر الواقديّ سنة خمس، وهذا يدلّ -إن ثبت- على تقدّمه على سنة خمس، أو وقوعه فيها. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف العلماء في كون الحجّ على الفور، أم على التراخي؟:

قال الإمام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح المهذّب": ما حاصله: ذهب إلى أن الحجّ على التراخي الشافعيُّ، والأوزاعيّ، والثوريّ، ومحمد بن الحسن، ونقله الماوَرْدِيُّ عن ابن عبّاس، وأنس، وجابر، وعطاء، وطاوس، - رضي اللَّه تعالى عنهم -.

وذهب إلى أنه على الفور مالك، وأبو يوسف، والمزنيّ، وهو قول جمهور أصحاب أبي حنيفة، ولا نصّ لأبي حنيفة في ذلك.

واحتجّ لهم بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وهذا أمر، والأمر يقتضي الفور، وبحديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -:"من أراد الحجّ فليعجل"، وبالحديث الآخر:"من لم يمنعه من الحجّ حاجة، أو مرضٌ حابسٌ، أو سلطان جائرٌ، فليمت إن شاء يهوديًّا، أو نصرانيًّا". ولأنها عبادة تجب الكفّارة بإفسادها، فوجبت على الفور كالصوم، ولأنها عبادة تتعلّق بقطع مسافة بعيدة كالجهاد، ولأنه إذا لزمه الحجّ، وأخّره، إما أن تقولوا: يموت عاصيًا، وإما غير عاص، فإن قلتم: ليس بعاص خرج الحجّ عن كونه واجبًا، وإن قلتم: عاصٍ، فإن ما أن تقولوا: عصى بالموت، أو بالتأخير، ولا يجوز أن يعصي بالموت؛ إذ لا صنع له فيه، فثبت أنه بالتأخير، فدلّ على وجوبه على الفور.

واحتجّ الأولون القائلون بالتراخي بأن فريضة الحجّ نزلت بعد الهجرة، وفتح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكّة في رمضان سنة ثمان، وانصرف عنها في شوّال من سنته، واستخلف عتّاب بن أَسِيد، فأقام للناس الحجّ سنة ثمان، بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مقيمًا بالمدينة هو، وأزواجه، وعامّة أصحابه، ثم غزا غزوة تبوك في سنة تسع، وانصرف عنها قبل الحجّ، فبعث أبا بكر - رضي اللَّه تعالى عنه -، فأقام للناس الحجّ سنة تسع، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأزواجه، وعامّة أصحابه قادرون على الحجّ، غير مشتغلين بقتال، ولا غيره، ثمّ حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بأزواجه، وأصحابه كلّهم سنة عشر، فدلّ على جواز تأخيره. هذا دليل الشافعيّ، وجمهور أصحابه.

قال البيهقيّ: وهذا الذي ذكره الشافعيّ مأخوذ من الأخبار، قال: فأما نزول فرض

(1)

- "فتح" ج 4 ص 152 - 153.

ص: 271

الحجّ بعد الهجرة، فكما قال.

واستدلّ أصحابنا له بحديث كعب بن عجرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: وقف عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحُدَيبية، ورأسي يَتَهافَت قملًا، فقال:"يؤذيك هوامّك؟ "، قلت: نعم يا رسول اللَّه، قال أبو داود: فقال: "قد آذاك هوامّ رأسك؟ "، قال: نعم، قال:"فاحلق رأسك"، قال: ففيّ نزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} الآية. رواه الشيخان. فثبت بهذا الحديث أن قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآية نزلت سنة ستّ من الهجرة، وهذه الآية دالّة على وجوب الحجّ.

وقد أجمع المسلمون على أن الحديبية كانت سنة ستّ من الهجرة في ذي القعدة، وثبت بالأحاديث "الصحيحة" واتفاق العلماء أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وغزا حُنينًا بعد فتح مكّة، وقسم غنائمها، واعتمر من سنته في ذي القعدة، وكان إحرامه بالعمرة من الجعرانة، ولم يبق بينه وبين الحجّ إلا أيامٌ يسيرة، فلو كان على الفور لم يرجع من مكّة حتى يحجّ مع أنه هو، وأصحابه كانوا حينئذ موسرين، فقد غنموا الغنائم الكثيرة، ولا عذر لهم، ولا قتال، ولا شغل آخر، وإنما آخّره صلى الله عليه وسلم عن سنة ثمان بيانًا لجواز التأخير، وليتكامل الإسلام، والمسلمون، فيحجّ بهم حجّةً الوداع، ويحضرها الخلق، فيبلّغوا عنه المناسك، ولهذا قال في حجة الوداع:"ليبلّغ الشاهد منكم الغائب، ولتأخذوا عني مناسككم"، ونزل فيها قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية.

قال أبو زرعة الرازيّ، فيما رويناه عنه: حضر مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع بمائة ألف، وأربعة عشر ألفًا، كلّهم قد رآه، وسمع منه. فهذا قول الإمام أبي زرعة الذي لم يحفظ أحدٌ من حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كحفظه، ولا ما يقاربه.

[فإن قيل]: إنما آخره إلى سنة عشر؛ لتعذّر الاستطاعة؛ لعدم الزاد والراحلة، أو الخوف على المدينة، والاشتغال بالجهاد.

[فجوابه]: ما سبق قريبًا.

واحتجّ أصحابنا أيضًا بحديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: نُهينا أن نسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يُعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله، ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم، أن اللَّه أرسلك، قال:"صدق"، قال: فمن خلق السماء؟، قال:"اللَّه"، قال: فمن خلق الأرض؟، قال:"اللَّه"، قال: فمن نصب هذه الجبال، وجعل فيها ما جعل؟، قال:"اللَّه"، قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال،

ص: 272

آللَّه أرسلك؟، قال:"نعم"، قال: وزعم رسولك، أن علينا خمس صلوات، في يومنا وليلتنا، قال:"صدق"، قال: فبالذي أرسلك، آللَّه أمرك بهذا؟، قال:"نعم"، قال: وزعم رسولك، أن علينا زكاة في أموالنا، قال:"صدق"، قال: فبالذي أرسلك، آللَّه أمرك بهذا؟، قال:"نعم"، قال: وزعم رسولك، أن علينا صوم شهر رمضان، في سنتنا، قال:"صدق"، قال: فبالذي أرسلك، آللَّه أمرك بهذا؟، قال:"نعم"، قال: وزعم رسولك، أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا، قال:"صدق"، قال: ثم ولَّى، قال: والذي بعثك بالحق، لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لئن صدق ليدخلن الجنّة". رواه مسلم بهذا اللفظ، وروى البخاريّ أصله.

وفي راوية للبخاريّ أن هذا الرجل ضمام بن ثعلبة، وقدوم ضمام على النبيّ صلى الله عليه وسلم كان سنة خمس من الهجرة. قاله محمد بن حبيب، وآخرون، وقال غيرهم: سنة سبع. وقال أبو عبيد: سنة تسع. وقد صرّح في الحديث بوجوب الحجّ.

وأما الجواب عن احتجاج الحنفيّة بالآية الكريمة، وأن الأمر يقتضي الوجوب، فجوابه نعم يقتضي الفور، لكن إذا لم تقم قرينة تصرفه إلى التراخي، وقد قامت هنا، وهي ما قدمناه من فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه.

وأما الحديث: "من أراد الحجّ فليعجل"، فإنه ضعيف، وأيضًا أنه حجة لنا لأنه فوّض فعله إلى إرادته، واختياره، ولو كان على الفور لم يفوضه إلى اختياره.

وأما حديث: "فليمت إن شاء يهوديا" فجوابه أنه ضعيف، وأيضًا الذمّ لمن أخّره إلى الموت، ونحن نوافق على تحريم تأخيره إلى الموت، والذي نقول بجوازه هو التأخير بحيث يُفعل قبل الموت. أو أنه محمول على من تركه معتقدًا عدم وجوبه مع الاستطاعة، فهذا كافرٌ، ويؤيّد هذا قوله:"فليمت، إن شاء يهوديا، أو نصرنيًّا". وظاهره أنه يموت كافرًا، ولا يكون ذلك إلا إذا اعتقد عدم وجوبه مع الاستطاعة، وإلا فقد أجمعت الأمة على أن من تمكّن من الحجّ، فلم يحجّ، ومات، لا يحكم بكفره، بل عاص، فوجب تأويل الحديث لو صحّ.

والجواب عن قياسهم على الصوم أنه مُضيَّق، فكان فعله مُضَيَّقًا بخلاف الحجّ.

والجواب عن قياسهم على الجهاد أنه لا نسلّم وجوب الجهاد على الفور، بل هو موكول إلى رأي الإمام بحسب المصلحة في الفور والتراخي. وأيضًا في تأخير الجهاد ضَرَرًا على المسلمين، بخلاف الحجّ.

والجواب عن قولهم: إذا أخّره، ومات هل يموت عاصيًا؟، الصحيح عندنا موته عاصيًا، وإنما عصى لتفريطه بالتأخير إلى الموت، وإنما جاز له التأخير بشرط سلامة

ص: 273

العاقبة، كما إذا ضرب ولده، أو زوجته، أو ضرب المعلّم الصبيّ، أو عزّر السلطان إنسانًا، فمات، فإنه يجب الضمان؛ لأنه مشروط بسلامة العاقبة. واللَّه تعالى أعلم انتهى كلام النوويّ باختصار، وتصرّف

(1)

.

وقال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: ومن الدليل على أن الحجّ على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحجّ إذا أخّره العامَ والعامين، ونحوهما، وأنه إذا حجّ من بعد أعوام من حين استطاعته، فقد أدّى الحجّ الواجب عليه في وقته، وليس هو عند الجميع كمن فاتته الصلاة حتى خرج وقتها، فقضاها بعد خروج وقتها، ولا كمن فاته صيام رمضان لمرض، أو سفر، فقضاه، ولا كمن أفسد حجّه، فقضاه، فلما أجمعوا على أنه لا يقال لمن حجّ بعد أعوام من وقت استطاعته: أنت قاض لما وجب عليك، علمنا أن وقت الحجّ موسّع فيه، وأنه على التراخي، لا على الفور انتهى كلام ابن عبد البرّ

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تبيّن مما ذكر من الأدلّة أن الأرجح قول من قال: إن وجوب الحجّ على التراخي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في فوائد الحجّ:

لقد قد اعتنى العلماء بذكر فوائد الحجّ، ومنهم الشاه وليّ اللَّه الدهلويّ رحمه الله تعالى، فقد أفاد، وأجاد في كتابه "حجة البالغة" جـ 2 ص 42 فلنقتصر على ما ذكره، قال -رحمه اللَّه تعالى-: المصالح المرعيّة في الحجّ أمور:

(منها): تعظيم بيت اللَّه تعالى، فإنه من شعائر اللَّه، وتعظيمه تعظيم للَّه تعالى. (ومنها): تحقيق معنى العرضة، فإن لكلّ دولة، أو ملّة اجتماعًا، يتوارده الأقاصي والأداني، ليعرف بعضهم بعضًا، ويستفيدوا أحكام الملّة، ويعظّموا شعائرها، والحجّ عرضة المسلمين، وظهور شوكتهم، واجتماع جنودهم، وتنويه ملّتهم، وهو قوله تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} الآية [البقرة: 125].

(ومنها): موافقة ما توارث الناس عن سيّدنا إبراهيم، وإسماعيل، عليهما السلام، فإنهما إماما الملّة الحنيفية، ومُشَرّعاها للعرب، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بُعث لتظهر به الملّة الحنيفيّة، وتعلو به كلمتها، وهو قوله تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} الآية [الحجّ: 78].، فمن الواجب المحافظة على ما استفاض عن إماميها، كخصال الفطرة، ومناسك الحجّ، وهو

(1)

- راجع "المجموع شرح المهذّب" ج 7 ص 86 - 92.

(2)

- راجع "تفسير القرطبي" ج 4 ص 144.

ص: 274

قوله صلى الله عليه وسلم: "قِفُوا على مشاعركم، فإنكم على إرث، من إرث أبيكم إبراهيم"

(1)

.

(ومنها): الاصطلاح على حال يتحقّق بها الرفق لعامّتهم، وخاصّتهم، كنزول منى، والمبيت بمزدلفة، فإنه لو لم يُصطَلَح على مثل هذا لشقّ عليهم، ولو لم يسجّل عليه، لم تجتمع كلمتهم عليه مع كثرتهم، وانتشارهم.

(ومنها): الأعمال التي تُعلِنُ بأن صاحبها موحّد، تابعٌ للحقّ، متديّنٌ بالملّة الحنيفيّة، شاكرٌ للَّه تعالى على ما أنعم على أوائل هذه الملّة، كالسعي بين الصفا والمروة.

(ومنها): أن أهل الجاهليّة كانوا يحجّون، وكان الحجّ أصل دينهم، ولكنّهم خلطوا أعمالًا ما هي مأثورة عن إبراهيم عليه السلام، وإنما هي اختلاقٌ منهم، وفيها إشراك لغير اللَّه باللَّه تعالى، كتعظيم إساف، ونائلة، وكالإهلال لمناة الطاغية، وكقولهم في التلبية: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه، وما ملك، ومن حقّ هذه الأعمال أن يُنهى عنها، ويؤكّد ذلك، وأعمالًا انتحلوها، فخرًا، وعجبًا، كقول الحُمْس: نحن قُطّان بيت اللَّه، فلا نخرج من حرم اللَّه، فنزل:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} الآية [البقرة: 199].

(ومنها): أنهم ابتدعوا قياسات فاسدة، هي من باب التعمّق في الدين، وفيها حرجٌ للناس، ومن حقّها أن تُنسخ، وتُهجَر، كقولهم: يجتنب المحرم دخول البيوت من أبوابها، وكانوا يتسوّرون من ظهورها، ظنًّا منهم أن الدخول من الباب ارتفاق ينافي هيئة الإحرام، فنزل قوله تعالى:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} الآية [البقرة: 189]، وككراهيتهم التجارة في موسم الحجّ، ظنًّا منهم أنها تُخِلّ بإخلاص العمل للَّه تعالى، فنزل قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} الآية [البقرة: 198]، وكاستحبابهم أن يحجّوا بلا زاد، ويقولون: نحن المتوكّلون، وكانوا يضيّقون على الناس، ويعتدون، فنزل قوله تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} الآية [البقرة: 197] انتهى كلام وليّ اللَّه ببعض تصرّف

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

(1)

- حديث صحيح، سيأتي للمصنّف إن شاء اللَّه تعالى برقم 3014.

(2)

- راجع "المرعاة" ج 8 ص 293 - 294.

ص: 275

‌1 - (بَابُ وُجُوبِ الْحَجِّ)

قال العلاّمة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: الحجّ أحد الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام، والأصل في وجوبه الكتاب، والسنّة، والإجماع، أما الكتاب، فقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. رُوي عن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: ومن كفر باعتقاده أنه غير واجب. وقال اللَّه تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} الآية [البقرة: 196]. وأما السنّة فقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بُنِي الإسلام على خمس

" وذكر منها الحجّ. ثم أورد حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى - عنه المذكور في الباب. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المفهم": وأجمع المسلمون على وجوب الحجّ في الجملة، وأنه مرّة في العمر، ولوجوبه شروطٌ، وهي العقل، والبلوغ، والاستطاعة، على ما يأتي تفصيلها، وهذه الشروط هي المتّفق عليها، فأما الإسلام، فقد اختلف العلماء فيه، هل هو من شروط الوجوب، أو من شروط الأداء، وأما الحرّية، فالجمهور على اشتراطها في الوجوب، وفيها خلاف انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": وجوب الحجّ معلوم من الدين بالضرورة، وأجمعوا على أنه لا يتكرّر، إلا لعارض، كالنذر انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2619 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُخَرِّمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ - وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ- قَالَ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل، قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ» ، فَقَالَ رَجُلٌ: فِي كُلِّ عَامٍ؟ ، فَسَكَتَ عَنْهُ، حَتَّى أَعَادَهُ ثَلَاثًا، فَقَالَ: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ، مَا قُمْتُمْ بِهَا، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالشَّيْءِ، فَخُذُوا بِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَاجْتَنِبُوهُ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه بن المبارك الْمُخَرِّمِيُّ) أبو جعفر البغدادي، ثقة حافظ [11]

(1)

- "المغني" ج 5 ص 5.

(2)

- "المفهم" ج 3 ص 256.

(3)

- "الفتح" ج 4 ص 152.

ص: 276

43/ 50.

2 -

(المغيرة بن سلمة أبو هشام) المخزومي البصري، ثقة ثبت، من صغار [9] 28/ 815.

3 -

(الربيع بن مسلم) الْجُمَحيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة [7].

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: شيخ ثقة. وقال أبو داود: هو أروى الناس عن محمد ابن زياد. وقال العجليّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". ذكره ابن أبي عاصم فيمن مات سنة (167). روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، سوى ابن ماجه وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

4 -

(محمد بن زياد) الجمحيّ مولاهم، أبو الحارث المدنيّ، نزيل البصرة، ثقة ثبت، ربما أرسل [3] 89/ 110.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن رجاله كلهم رجال الصحيح. ومنها: أنه مسلسل بثقات البصريين غير شيخه فبغدادي والصحابي فمدني. ومنها: أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين من الرواية، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ) وفي رواية مسلم: "خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". أي خطب لنا عام فُرِضَ الحجُّ، أو ذكر لنا أثناء خطبة من خطبه. ثمّ إنه يمتنع أن تكون هذه الخطبة في الحجّ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما حجّ في العاشر، وفرض الحجّ كان سابقًا، قيل: سنة خمس. وقيل: ست. وقيل: تسع، إلا أن يكون قاله أيضًا في حجة الوداع. أفاده الأبيّ

(1)

.

(فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل، قَدْ فَرَضَ عَلَيكُمُ الْحَجَّ") ولفظ مسلم: "يا أيها الناس، قد فُرض عليكم الحجّ، فحُجُّوا"(فَقَالَ: رَجُلٌ) هو الأقرع بن حابس التميميّ، كما بينه حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - التالي (فِي كُلِّ عَامٍ؟) أي هو مفروض في كلّ عام، فالجارّ والمجرور خبر لمحذوف، كما قدرناه. ولفظ مسلم:"أكلَّ عام يا رسول اللَّه؟ " بالنصب على أنه مفعول لفعل مقدّر، أي نحُجّ كلّ عام، أو نحو ذلك.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: واختلف الأصوليّون في أنّ الأمر هل يقتضي

(1)

- انظر "شرح الأبيّ لصحيح مسلم" ج 3 ص 434.

ص: 277

التكرار؟، والصحيح عند أصحابنا لا يقتضيه، والثاني يقتضيه، والثالث يتوقّف فيما زاد على مرّة على البيان، فلا يُحكم باقتضائه، ولا بمنعه، وهذا الحديث قد يَستدلّ به من يقول بالتوقّف؛ لأنه سأل، فقال:"أكلّ عام؟ "، ولو كان مطلقه يقتضي التكرار، أو عدمه لم يسأل، ولقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا حاجة إلى السؤال، بل مطلقه محمول على كذا. وقد يُجيب الآخرون بأنه سأل استظهارًا واحتياطًا. وقوله:"ذروني ما تركتكم" ظاهر في أنه لا يقتضي التكرار.

وقال الماورديّ: ويحتمل أنه إنما احتمل التكرار عنده من وجه آخر؛ لأن الحجّ في اللغة قصد فيه تكررٌ، فاحتمل عنده التكرار من جهة الاشتقاق، لا من مطلق الأمر.

قال: وقد تعلّق بما ذكرناه عن أهل اللغة ها هنا من قال بإيجاب العمرة، وقال: لَمّا كان قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية [آل عمران: 97] يقتضي تكرار قصد البيت بحكم اللغة، والاشتقاق، وقد أجمعوا على أن الحجّ لا يجب إلا مرّة، كانت العودة الأخرى إلى البيت تقتضي كونها عمرة؛ لأنه لا يجب قصده لغير حجّ وعمرة بأصل الشرع انتهى

(1)

.

وقال القاري: والأظهر أن مبنى السؤال قياسه على سائر الأعمال، كالصلاة، والصوم، والزكاة، ولم يدر أن تكراره كلّ عام بالنسبة إلى جميع المكلّفين من المحال، كما لا يخفى انتهى

(2)

.

(فَسَكَتَ) صلى الله عليه وسلم (عَنْهُ) أي عن ردّ الجواب عن سؤاله (حَتَّى أَعَادَهُ ثَلَاثًا) أي حتى أعاد الرجل السائل الكلمة التي قالها ثلاث مرّات.

قال التوربشتيّ: إنما سكت النبيّ صلى الله عليه وسلم زجرًا له عن السؤال الذي كان السكوت عنه أولى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما بُعث لبيان الشريعة، فلم يكن ليسكت عن بيان أمر عَلِم أن بالأمة حاجةً إلى الكشف عنه، فالسؤال عن مثله تقدُّمٌ بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد نُهُوا عنه، بقوله تعالى:{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، والإقدام عليه ضرب من الجهل، وشرٌّ، فيه احتمال أن يعاقبوا بزيادة التكليف، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله:"لو قلت: نعم لوجبت".

ثم لَمّا رآه صلى الله عليه وسلم لا ينزجر، ولا يقنع إلا بالجواب الصريح صرّح به

(3)

(فَقَالَ: "لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ) أي فرضًا وتقديرًا، ولا يبعد أن يكون سكوته صلى الله عليه وسلم انتظارًا للوحي.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: فيه دليلٌ للمذهب الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد

(1)

- شرح صحيح مسلم للنوويّ ج 9 ص 105.

(2)

- "المرقاة شرح المشكاة" ج 5 ص 379.

(3)

- راجع "المرعاة" ج 8 ص 296 و"المرقاة" ج 5 ص 380.

ص: 278

في الأحكام، ولا يشترط في حكمه أن يكون بوحي. وقيل: يشترط. وهذا القائل يُجيب عن هذا الحديث بأنه لعله أوحي إليه ذلك. واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: استُدِلَّ به على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم -كان له أن يجتهد في الأحكام؛ لقوله: "لو قلت: نعم لوجبت"، ولا يشترط في حكمه أن يكون بوحي. وأجاب من منع باحتمال أن يكون أوحي إليه ذلك في الحال انتهى

(2)

.

وقال السنديّ: قيل: وهذا بظاهره يقتضي أن أمر افتراض الحجّ كلّ عام كان مفوّضًا إليه، حتى لو قال: نعم لحصل، وليس بمستبعد، إذ يجوز أن يأمر اللَّه تعالى بالإطلاق، ويفوّض أمر التقييد إلى الذي فوّض إليه البيان، فهو إن أراد أن يبقيه على الإطلاق يبقيه عليه، وإن أراد أن يقيّده بكلّ عام يقيّده به.

ثم فيه إشارة إلى كراهة السؤ الذي النصوص المطلقة، والتفتيش عن قيودها، بل ينبغي العمل بها على إطلاقها، حتى يظهر فيها قيد، وقد جاء القرآن موافقًا لهذه الكراهة -يعني قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية-. انتهى.

(3)

(لَوَجَبَتْ) أي هذه العبادة، أو فريضة الحجّ المدلول عليها بقوله:"قد فَرَضَ"، أو الحجة كلّ عام، أو حجج كثيرة على كلّ أحد (وَلَوْ وَجَبَتْ، مَا قُمْتُمْ بِهَا) أي ما قدرتم كلّكم على القيام بأدائها في كلّ عام، فتقعون بذلك في حرج عظيم (ذَرُونِي) وفي رواية البخاريّ:"دعوني" أي اتركوني من السؤال عن القيود في المطلقات. قال في "القاموس": ذَرْه: أي دَعْه، يَذَرُه تركًا، ولا تقل: وَذْرًا، وأصله وَذِرَهُ يَذَرُهُ، كوَسِعَه يَسَعُهُ، لكن ما نطقوا بما ضيه، ولا بمصدره، ولا باسم الفاعل. أو قيل: وَذِرْتُهُ شاذًّا انتهى.

قال في "الفتح" بعد أن ذكر أن مسلما أخرجه مطوّلًا -يعني كرواية المصنّف-: ما نصّه: وأخرجه الدارقطنيّ مختصرًا، وزاد فيه:"فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}، وله شاهد عن ابن عبّاس، عند الطبريّ في "التفسير"، وفيه: "لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، فاتركوني ما تركتكم

" الحديث، وفيه فأنزل اللَّه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ} الآية انتهى

(4)

.

(1)

- "شرح مسلم" ج 9 ص 106.

(2)

- "الفتح" ج 15 ص 191.

(3)

- "شرح السنديّ" ج 5 ص 110.

(4)

- "فتح" ج 15 ص 188.

ص: 279

(مَا تَرَكتُكُمْ) أي لأني مبعوث لبيان الشرائع، وتبليغ الأحكام، فما كان مشروعًا أبيّنه لكم لا مَحَالَةَ، ولا حاجة إلى السؤال.

وقال السنديّ: "ما" مصدرية ظرفيّة، أي مدّة تركي إياكم عن التكليف بالقيود فيها، وليس المراد لا تطلبوا مني العلم ما دام لا أبينُ لكم بنفسي. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "ما تركتكم" أي مدّة تركي إياكم بغير أمر بشيء، ولا نهي عن شيء. وإنما غاير بين اللفظين؛ لأنهم أماتوا الماضي، واسمَ الفاعل منهما، واسمَ مفعولهما، وأثبتوا الفعل المضارع، وهو "يَذَرُ"، وفعل الأمر، وهو "ذَرّ"، ومثله "دَعْ"، و"يَدَعُ"، ولكن سمع "وَدَعَ"، كما قُرىء به في الشاذّ في قوله تعالى:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3]، قرأ بذلك إبراهيم بن أبي عَبْلَة، وطائفة، وقال الشاعر [من الطويل]:

وَنَحْنُ وَدَعْنَا آلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ

فَرَائِسَ أَطْرَافِ الْمُثَقَّفَةِ السُّمْرِ

ويحتمل أن يكون ذكر ذلك على سبيل التفنّن في العبارة، وإلا لقال: اتركوني.

والمراد بهذا الأمر ترك السؤال عن شيء لم يقع، خشية أن ينزل به وجوبه، أو تحريمه، وعن كثرة السؤال؛ لما فيه غالبًا من التعنّت، وخشية أن تقع الإجابة بأمر يُستثقَلُ، فقد يؤدّي لترك الامتثال، فتقع المخالفة.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "ذروني ما تركتكم": يعني لا تكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تكون مقيّدَةً بوجهٍ مّا ظاهرٍ، وإن كانت صالحة لغيره، وبيانُ ذلك: أن قوله: "فحُجّوا"، وإن كان صالحًا للتكرار، فينبغي أن يُكتَفَى بما يصدُق عليه اللفظ، وهو المرّة الواحدة، فإنها مدلولةُ اللفظ قطعًا، وما زاد عليها يتغافل عنه، ولا يُكثَر السؤال فيه؛ لإمكان أن يكثر الجواب المترتّب عليه، فيضاهي ذلك قصّة بقرة بني إسرائيل، التي قيل لهم فيها: اذبحوا بقرة، فلو اقتصروا على ما يصدق عليه اللفظ، وبادروا إلى ذبح بقرة، أيّ بقرة كانت لكانوا ممتثلين، لكن لما أكثروا السؤال كثُر عليهم الجواب، فشدّدوا، فشُدّد عليهم، فذُمّوا على ذلك، فخاف النبيّ صلى الله عليه وسلم منه مثل هذا على أمته، ولذلك قال:"فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم"، وعلى هذا يُحمل قوله:"فإذا أمرتكم بشيء، فائتوا منه ما استطعتم"، يعني بشيء مطلق، كما إذا قال: صم، أو صلّ، أو تصدّق. فيكفي من ذلك أقلّ ما ينطلق عليه الاسم، فيصوم يومًا، ويصلّي ركعتين، ويتصدّق بشيء يُتصدّق بمثله، فإن قيّد شيئًا من ذلك بقيود، ووصفه بأوصاف

(1)

- "شرح السندي" ج 5 ص 110.

ص: 280

لم يكن بدّ من امتثال أمره على ما فصَّلَ، وقَيَّدَ، وإن كان فيه أشدّ المشقّات، وأشدّ التكاليف، وهذا مما لا يُختَلَف فيه إن شاء اللَّه تعالى أنه المراد بالحديث انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

وقد أخرج البزّار، وابن أبي حاتم في "تفسيره" من طريق أبي رافع، عن أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، مرفوعًا:"لو اعترض بنوا إسرائيل أدنى بقرة، فذبحوها، لكفتهم، ولكن شَدَّدُوا، فشدّد اللَّه عليهم". وفي السند عبّاد بن منصور، وحديثه من قبيل الحسن. وأورده الطبريّ، عن ابن عبّاس، موقوفًا. وعن أبي العالية، مقطوعًا. ذكره في "الفتح"

(2)

.

(فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) أي من اليهود والنصارى (بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ) كسؤال الرؤية، والكلام، وقضيّة البقرة.

ولفظ البخاريّ من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة:"فإنما أهلك من كان قبلكم سُؤَالُهُمْ". قال في "الفتح": قوله: "فإنما أهلك" بفتحات

(3)

، وقال بعد ذلك:"سؤالهم" بالرفع على أنه فاعل "أهلك". وفي رواية غير الكشميهنيّ: "أُهلك" بضمّ أوله، وكسر اللام، وقال بعد ذلك:"بسؤالهم" أي بسبب سؤالهم. وقوله: "واختلافهم" بالرفع، وبالجرّ على الوجهين. ووقع في غير رواية همام عند أحمد بلفظ:"فإنما أُهْلِكَ"، وفيه "بسؤالهم"، ويتعيّن الجرّ في "واختلافهم". وفي رواية الزهريّ:"فإنما هَلَكَ"، وفيه "سؤالُهم"، ويتعيّن الرفع في "واختلافهم". وأما قول النوويّ في "أربعينه": و"اختلافهم" برفع الفاء، لا بكسرها، فإنه باعتبار الرواية التي ذكرها، وهي التي من طريق الزهريّ انتهى

(4)

.

(وَاختِلَافِهِمْ) عطف على "كثرة السؤال"، لا على "السؤال"، إذ الاختلاف، وإن قلّ يؤدّي إلى الهلاك. ويحتمل أنه عطف على "سؤالهم"، فهو إِخْبَارًا عمن تقدّم بأنه كَثُرَ اختلافهم في الواقع، فأدّاهم إلى الهلاك، وهو لا ينافي أن القليل من الاختلاف مؤدّ إلى الفساد. قاله السنديّ

(5)

.

(عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ) يعني أنهم إذا أمرهم الأنبياء بعد السؤال، أو قبله اختلفوا عليهم،

(1)

- راجع "المفهم" ج 3 ص 447 - 448.

(2)

- "فتح" ج 15 ص 188.

(3)

- في هذا الضبط نظر، فليحرّر.

(4)

- "فتح" ج 15 ص 189.

(5)

- "شرح السنديّ" ج 5 ص 110 - 111.

ص: 281

فهلكوا، واستحقّوا الإهلاك.

قال الأبّيّ: قوله: "واختلافهم على أنبيائهم" هو زيادة على ما وقع، فإن الذي وقع إنما هو الإلحاح في السؤال، لا الاختلاف انتهى

(1)

.

(فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالشَّيْءِ) وفي نسخة: "بشيء"، ولمسلم:"بأمر". وفي رواية: "وما أمرتكم به"(فَخُذُوا بهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي خذوا من ذلك الأمر قدر استطاعتكم. وفي رواية: "فأتوا منه مَا استطعتم"، وفي رواية:"وإذا أمرتكم بالأمر، فأتمروا ما استطعتم".

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا من قواعد الإسلام المهمة، ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه ما لا يُحصَى من الأحكام، كالصلاة بأنواعها، فإذا عجز عن بعض أركانها، أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء، أو الغسل غسل الممكن، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته، أو لغسل النجاسة، فعل الممكن، وإذا وجبت إزالة منكرات، أو فطرة جماعة من تلزمه نفقتهم، أو نحو ذلك، وأمكنه البعض فعل الممكن، وإذا وجد ما يستر بعض عورته، أو حَفِظَ بعض الفاتحة أتى بالممكن، وأشباه هذا غير منحصرة، وهي مشهورة في كتب الفقه، والمقصود التنبيه على أصل ذلك انتهى كلام النوويّ

(2)

.

وقال غيره: فيه أن من عجز عن بعض الأمور لا يسقط عنه المقدور، وعبّر عنه بعض الفقهاء بأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، كما لا يسقط ما قدر عليه من أركان الصلاة بالعجز عن غيره، وتصحّ توبة الأعمى عن النظر المحرّم، والمجبوب عن الزنا؛ لأن الأعمى، والمجبوب قادران على الندم، فلا يسقط عنهما بعجزهما عن العزم على عدم العود؛ إذ لا يُتصوّر منهما العود عادة، فلا معنى للعزم على عدمه انتهى

(3)

.

وقال النوويّ: وهذا الحديث موافق يقول اللَّه تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وأما قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] ففيها مذهبان: أحدهما: أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . والثاني: -وهو الصحيح، أو الصواب، وبه جزم المحققون أنها ليس منسوخةً، بل قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} مفسّرة لها، ومبيّنة للمراد بها. قالوا: وحقّ تقاته، هو امتثال أمره، واجتناب نهيه، ولم يأمر اللَّه سبحانه، وتعالى إلا بالمستطاع، قال اللَّه تعالى: {لَا

(1)

- "شرح الأبيّ على صحيح مسلم" ج 3 ص 435.

(2)

- "شرح صحيح مسلم" ج 9 ص 106.

(3)

- "فتح" ج 15 ص 190.

ص: 282

{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحجّ: 78]. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وزعم بعضهم أن قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} نَسَخَ قولَهُ تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ، والصحيح أن لا نسخ، بل المراد بـ "حقّ تقاته" امتثال أمره، واجتناب نهيه مع القدرة، لا مع العجز انتهى

(2)

.

(وَاِذَا نَهْيتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ) أي من المحرمات (فَاجْتَنِبُوهُ") أي اتركوه كلّه.

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يعني أن النهي على نقيض الأمر، وذلك أنه لا يكون ممتَثَلًا بمقتضى النهي حتى لا يفعل واحدًا من آحاد ما يتناوله النهي، ومن فعل واحدًا فقد خالف، وعصى، فليس في النهي إلا ترك ما نهي عنه مطلقًا دائمًا، وحينئذ يكون ممتثلًا لترك ما أمر بتركه، بخلاف الأمر على ما تقدّم.

وهذا الأصل إذا فُهِم هو ومسألة مطلق الأمر؛ هل يُحمل على الفور، أو التراخي، أو على المرّة الواحدة، أو على التكرار؟ وفي هذا الحديث أبوابٌ من الفقه لا تخفى. انتهى كلام القرطبيّ

(3)

.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وأما قوله: "وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" فهو على إطلاقه، فإن وُجد عذرٌ يبيحه، كأكل الميتة عند الضرورة، وشرب الخمر عند الإكراه، أو التلفّظ بكلمة الكفر إذا أُكره، ونحو ذلك، فهذا ليس منهيًّا عنه في هذا الحال. واللَّه أعلم انتهى كلام النوويّ

(4)

.

وقال في "الفتح": ثم إن هذا النهي عامّ في جميع المناهي، ويُستثنى من ذلك ما يكره المكلف على فعله، كشرب الخمر، وهذا على رأي الجمهور.

وخالف قوم، فتمسّكوا بالعموم، فقالوا: الإكراه على ارتكاب المعصية لا يُبيحها. والصحيح عدم المؤاخذة إذا وُجد صورة الإكراه المعتبرة. واستثنى بعض الشافعيّة من ذلك الزنا، فقال: لا يُتصوّر الإكراه عليه، وكأنه أراد التمادي فيه، وإلا فلا مانع أن يَنْعَظَ

(5)

الرجل بغير سبب، فيكره على الإيلاج حينئذ، فيولج في الأجنبيّة، فإن مثل ذلك ليس بمحال، ولو فعله مختارًا لكان زانيًا، فتصوّر الإكراه على الزنا.

(1)

- "شرح صحيح مسلم" ج 9 ص 106.

(2)

- "فتح" ج 15 ص 191.

(3)

- "المفهم" ج 3 ص 448.

(4)

- "شرح صحيح مسلم" ج 9 ص 106.

(5)

- يقال: نَعَظَ ذكره نَعْظًا، ويُحرّك، ونُعُوظًا: قام. انتهى "القاموس".

ص: 283

وقال في موضع آخر: وقال ابن فرج في "شرح الأربعين": قوله: "فاجتنبوه" هو على إطلاقه حتى يوجد ما يُبيحه، كأكل الميتة عند الضرورة، وشرب الخمر عند الإكراه، والأصل في ذلك جواز التلفّظ بكلمة الكفر إذا كان القلب مطمئنًّا بالإيمان، كما نطق به القرآن انتهى.

والتحقيق أن المكلّف في ذلك كلّه ليس منهيًّا عنه في تلك الحال.

وأجاب الماورديّ بأن الكفّ عن المعاصي ترك، وهو سهلٌ، وعمل الطاعة فعلٌ، وهو يشقّ، فلذلك لم يُبَح ارتكاب المعصية، ولو مع العذر؛ لأنه ترك، والترك لا يعجز المعذور عنه، وأباح ترك العمل بالعذر؛ لأن العمل قد يعجز المعذور عنه.

وادّعى بعضهم أن قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} يتناول امتثال المأمور، واجتناب المنهيّ عنه، وقد قيد بالاستطاعة، واستويا، فحينئذ يكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي أن العجز يكثر تصوّره في الأمر، بخلاف النهي، فإن تصوّر العجز فيه محصور في الاضطرار. انتهى ما في "الفتح"

(1)

وهو بحث نفيس جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -1/ 2619 - وفي "الكبرى" 1/ 3598. وأخرجه (خ) في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة" 7288 (م) في "الحجّ" 1337 (ت) في "العلم" 2679 (ق) في "المقدّمة" 1 و 2 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7320 و 7449 و 27361 و 8450 و 9239 و 9488 و 9577 و 27258 و 9890 و 27312 و 10229. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان وجوب الحجّ (ومنها): أن الحجّ لا يتكرّر وجوبه، بل هو مرّة في العمر.

قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: لا خلاف في أن الحجّ لا يتكرّر وجوبه، إلا أن هذا الإجماع إنما حصل بدليل، أما نفس اللفظ فقد يوهم التكرار، ولذا سأل السائل، فإن

(1)

- "الفتح" ج 15 ص 189 - 191.

ص: 284

الحجّ في اللغة قصدٌ فيه تكرار انتهى

(1)

.

(ومنها): أنه يدلّ على أن المسلم إذا حج مرّة، ثم ارتدّ عن الإسلام -والعياذ باللَّه- ثم أسلم أنه لا يلزمه إعادة الحجّ. وهذا مذهب الشافعي -رحمه اللَّه تعالى-، وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، ومالك -رحمهم اللَّه تعالى- إلى أن المرتدّ لو عاد إلى الإسلام لا تعود إليه حسنات أعماله، ولكن لا يلزمه إعادة ما أدّاه منها قبل الرّدّة، إلا الحجّ، فيلزمه إعادته؛ لأن وقته العمر، فلما أحبط حجه بالردّة، ثم أدرك وقته مسلمًا لزمه، وكذا يلزمه إعادة فرض أدّاه، فارتد، ثم أسلم في الوقت

(2)

.

(ومنها): أن جميع الأشياء على الإباحة حتى يثبت دليل المنع من قبل الشارع (ومنها): أنه استدلّ به من قال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في الأحكام؛ لقوله: "ولو قلت: نعم، لوجبت". وأجاب من منع ذلك باحتمال أن يكون أوحي إليه ذلك في الحال، والقول بالمنع أرجح؛ لقوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أن من أُمر بشيء، فعجز عن بعضه، ففعل المقدور أنه يسقط عنه ما عجز عنه. وبذلك استدلّ المزنيّ -رحمه اللَّه تعالى- على أنّ ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه، ومن ثمّ كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد (ومنها): أن اعتناء الشارع بالمنهيّات فوق اعتنائه بالمأمورات؛ لأنه أطلق الاجتناب في المنهيّات، ولو مع المشقّة في الترك، وقيّد في المأمورات بقدر الطاقة. وهذا منقول عن الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى-.

[فإن قيل]: إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضًا؛ إذ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} .

[أجيب]: بأن الاستطاعة تطلق باعتبارين. قال الحافظ: كذا قيل، والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة لا يدلّ على المدّعَى من الاعتناء به، بل هو من جهة الكفّ، إذ كلّ أحد قادر على الكفّ، لولا داعية الشهوة مثلًا، فلا يُتصوّر عدم الاستطاعة عن الكفّ، بل كلّ مكلّف قادرٌ على الترك، بخلاف الفعل، فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثمّ قُيّد في الأمر بحسب الاستطاعة، دون النهي.

وعبّر الطوفي في هذا الموضع بأن ترك المنهيّ عنه عبارة عن استصحاب حال عدمه، أو الاستمرار على عدمه، وفعل المأمور به عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود. وقد نوزع بأن القدرة على استصحاب عدم المنهيّ عنه قد تتخلّف.

(1)

- "معالم السنن" ج 2 ص 275.

(2)

- راجع "المنهل العذب المورود" ج 10 ص 257 - 258.

ص: 285

واستدلّ له بجواز أكل المضطرّ الميتة. وأجيب بأن النهي في هذا عارضه الإذن بالتناول في تلك الحالة.

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن المكروه يجب اجتنابه؛ لعموم الأمر باجتناب المنهيّ عنه، فشمل الواجب والمندوب. وأجيب بأن قوله:"فاجتنبوه" يُعمل به في الإيجاب والندب بالاعتبارين، ويجيء مثل هذا السؤال وجوابه في الجانب الآخر، وهو الأمر.

وقال الفاكهانيّ: النهي يكون تارة مع المانع من النقيض، وهو المحرّم، وتارة لا معه، وهو المكروه، وظاهر الحديث يتناولهما.

(ومنها): أنه استدلّ به على أن المباح ليس مأمورًا به؛ لأن التأكيد في الفعل إنما يناسب الواجب والمندوب، وكذا عكسه.

وأجيب بأن من قال: المباح مأمور به، لم يُرد الأمر بمعنى الطلب، وإنما أراد بالمعنى الأعمّ، وهو الإذن.

(ومنها): أنه استدلّ به على أن الأمر لا يقتضي التكرار، ولا عدمه. وقيل: يقتضيه.

وقيل: بل يُتوقّف فيما زاد على مرّة. وحديث الباب يتمسّك به لذلك؛ لما في سببه أن السائل قال في الحجّ: "أكلّ عام؟ "، فلو كان مطلقه يقتضي التكرار، أو عدمه لم يحسُن السؤال، ولا العناية بالجواب. وقد يقال: إنما سأل استظهارًا واحتياطًا.

وقال المازريّ: يحتمل أن يقال: إن التكرار إنما احتمل من جهة أن الحجّ في اللغة قصد فيه تكرارٌ، فاحتمل عند السائل التكرار من جهة اللغة، لا من صيغة الأمر.

وقد تمسّك به من قال بإيجاب العمرة؛ لأن الأمر بالحجّ إذا كان معناه تكرار قصد البيت بحكم اللغة والاشتقاق، وقد ثبت في الإجماع أن الحجّ لا يجب إلا مرّة، فيكون العود إليه مرّة أخرى دالًّا على وجوب العمرة. وسيأتي الكلام على هذا في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى.

(ومنها): أنه استُدلّ به على النهي عن كثرة المسائل، والتعمّق في ذلك.

قال البغويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح السنّة": المسائل على وجهين: "أحدهما": ما كان على وجه التعليم لما يُحتاج إليه من أمر الدين، فهو جائز، بل مأمور به؛ لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} الآية [النحل: 43]، وعلى ذلك تتنزّل أسئلة الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم - عن الأنفال، والكلالة، وغيرهما.

"ثانيهما": ما كان على وجه التعنّت والتكلّف، وهو المراد في هذا الحديث. واللَّه أعلم.

ويؤيّده ورود الزجر في الحديث عن ذلك، وذمّ السلف، فعند أحمد من حديث

ص: 286

معاوية: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات". قال الأوزاعيّ: هي شداد المسائل، وقال الأوزاعيّ أيضًا: إن اللَّه إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقلّ الناس علما. وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: المراء في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل. وقال ابن العربيّ: كان النهي عن السؤال في العهد النبويّ خشية أن ينزل ما يشقّ عليهم، فأما بعده فقد أُمِن ذلك، لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة الكلام في المسائل التي لم تقع. قال: وإنه لمكروه إن لم يكن حرامًا إلا للعلماء، فإنهم فرّعوا، ومهّدوا، فنفع اللَّه من بعدهم بذلك، ولا سيّما مع ذهاب العلماء، ودروس العلم انتهى ملخّصا.

قال الحافظ: وينبغي أن يكون محلّ الكراهة للعالم، إذا شغله ذلك عمّا هو أهمّ منه.

وكان ينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجرّدًا عما يندر، ولا سيّما في المختصرات؛ ليسهل تناوله. واللَّه المستعان انتهى.

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى الاشتغال بالأهمّ المحتاج إليه عاجلًا عما لا يحتاج إليه في الحال، فكأنه قال: عليكم بفعل الأوامر، واجتناب النواهي، فاجعلوا اشتغالكم بها عوضًا عن الاشتغال بالسؤال عما لم يقع.

فينبغي للمسلم أن يبحث عما جاء عن اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يجتهد في تفهّم ذلك، والوقوف على المراد به، ثم يتشاغل بالعمل به، فإن كان من العلميّات يتشاغل بتصديقه، واعتقاد أحقيّته، وإن كان من العمليّات بذَلَ وُسْعه في القيام به، فعلًا وتركًا، فإن وجد وقتًا زائدًا على ذلك فلا بأس بأن يصرفه في الاشتغال بتعرّف حكم ما سيقع على قصد العمل به أن لو وقع، فأما إن كانت الهمّة مصروفةٌ عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع، وقد لا تقع مع الإعراض عن القيام بمقتضى ما سمع، فإن هذا مما يدخل في النهي، فالتفقّه في الدين إنما يُحمد إذا كان للعمل، لا للمراء والجدل

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): عقد الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة" بابًا مهمًّا جدًّا، له شدّة ارتباط بحديث الباب، وكتب الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في شرحه كلامًا نفيسًا أحببت إيراده تتميمًا للفائدة، ونشرًا للعائدة، قال -رحمه اللَّه تعالى-:

(1)

- راجع لهذه الفوائد "فتح الباري" في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة" ج 15 ص 188 - 192 طبعة دار الفكر.

ص: 287

"باب ما يكره من كثرة السؤال، وتكلّف ما لا يعنيه، وقول اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} "[المائدة: 101]. ثم ساق بسنده عن سعد بن أبي وقّاص - رضي اللَّه تعالى عنه -، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء، لم يُحرِّم، فحرّم من أجل مسألته"، ثم أورد بعده ثمانية أحاديث.

قال الشارح -رحمه اللَّه تعالى-: كأنه يريد أن يستدلّ بالآية على المدّعَى من الكراهة، وهو مصير منه إلى ترجيح بعض ما جاء في تفسيرها، وقد ذكرتُ الاختلاف في سبب نزولها في "تفسير سورة المائدة"، وترجيح ابن المنيّر أنه في كثرة المسائل عما كان، وعمّا لم يكن، وصنيع البخاريّ يقتضيه، والأحاديث التي ساقها في الباب تؤيّده. وقد اشتدّ إنكار جماعة من الفقهاء ذلك، منهم:

القاضي أبو بكر بن العربيّ، فقال: اعتقد قوم من الغافلين منع السؤال عن النوازل إلى أن تقع تعلّقًا بهذه الآية، وليس كذلك؛ لأنها مصرّحة بأن المنهيّ عنه ما تقع المسألة في جوابه، ومسائل النوازل ليست كذلك انتهى.

قال الحافظ: وهو كما قال؛ لأن ظاهرها اختصاص ذلك بزمان نزول الوحي، ويؤيّده حديث سعد الذي صدّر به المصنّف الباب:"من سأل عن شيء، لم يحرّم، فحرّم من أجل مسألته"، فإن مثل ذلك قد أُمن وقوعه، ويدخل في معنى حديث سعد ما أخرجه البزار، وقال: سنده صالح، وصححه الحاكم، من حديث أبي الدرداء - رضي اللَّه تعالى عنه -، رفعه:"ما أحلّ اللَّه في كتابه، فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه، فهو عفو، فاقبلوا من اللَّه عافيته، فإن اللَّه لم يكن ينسى شيئًا، ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} ". وأخرج الدارقطنيّ من حديث أبي ثعلبة - رضي اللَّه تعالى - عنه، رفعه:"إن اللَّه فرض فرائض، فلا تضيّعوها، وحدّ حدودًا، فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم، غيرَ نسيان، فلا تبحثوا عنها". وله شاهد من حديث سلمان - رضي اللَّه تعالى عنه -، أخرجه الترمذيّ. وآخر من حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى - عنهما، أخرجه أبو داود. وقد أخرج مسلم، وأصله في البخاريّ، من طريق ثابت، عن أنس - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: "كنّا نُهينا أن نسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية، فيسأله، ونحن نسمع

" فذكر الحديث. وللبخاريّ في قصّة اللعان من حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "فكره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسائل، وعابها". ولمسلم عن النوّاس بن سمعان رضي الله عنه، قال: "أقمت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم". ومراده أنه قدم وافدًا، فاستمرّ بتلك الصورة لِيُحَصِّلَ

ص: 288

المسائل، خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة، فيصير مهاجرًا، فيمتنع عليه السؤال. وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب، وفودًا كانوا، أو غيرهم.

وأخرج أحمد عن أبي أُمامة - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: لَمّا نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية. كنّا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم، فأتينا أعرابيًّا، فرشوناه بُردًا، وقلنا: سل النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولأبي يعلى عن البراء: "إن كان ليأتي عليّ السَّنَةُ أريد أن أسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الشيء، فأتهيّب، وإن كنّا لنتمنّى الأعراب -أي قدومهم؛ ليسألوا، فيسمعوا هم أجوبة سؤالات الأعراب، فيستفيدوها-.

وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة، فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية. ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرّر حكمه، أو مالهم بمعرفته حاجةٌ راهنةٌ، كالسؤال عن الذبح بالقصب، والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء، إذا أَمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة، وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن، كسؤالهم عن الكلالة، والخمر، والميسر، والقتال في الشهر الحرام، واليتامى، والمحيض، والنساء، والصيد، وغير ذلك، لكن الذين تعلّقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عما لم يقع أخذوه بطريق الإلحاق من جهة أن كثرة السؤال لما كانت سببًا للتكليف بما يشقّ، فحقّها أن تُجتنب.

وقد عقد الإمام الدارميّ -رحمه اللَّه تعالى- في أوائل "مسنده" لذلك بابًا، وأورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين آثارًا كثيرةً في ذلك، منها:

عن ابن عمر: "لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن". وعن عمر: "أحرّج عليكم أن تسألوا عما لم يكن، فإن لنا فيما كان شغلًا".

وعن زيد بن ثابت أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول: كان هذا، فإن قيل: لا، قال: دعوه حتى يكون. وعن أُبي بن كعب، وعن عمّار كذلك. وأخرج أبو داود في "المراسيل" من رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، مرفوعًا. ومن طريق طاوس، عن معاذ، رفعه:"لا تعجلوا بالبليّة قبل نزولها، فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سُدّد، أو وفّق، وإن عجلتم تشتّت بكم السبل". وهما مرسلان، يقوّي بعضٌ بعضًا. ومن وجه ثالث عن أشياخ الزبير بن سعيد، مرفوعًا:"لا يزال في أمتي من إذا سُئل سُدّد، وأُرشد، حتى يتساءلوا عما لم ينزل"

الحديث نحوه.

قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نصّ على قسمين:

(أحدهما): أن يُبحث عن دخوله في دلالة النصّ على اختلاف وجوهها، فهذا

ص: 289

مطلوب، لا مكروه، بل ربّما كان فرضًا على من تعيّن عليه من المجتهدين.

(ثانيهما): أن يدقّق النظر في وجوه الفروق، فيفرّق بين متماثلين بفرق ليس له أثرٌ في الشرع مع وجود وصف الجمع، أو بالعكس، بأن يجمع بين مترّقين بوصف طرديّ مثلًا، فهذا الذي ذمّه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود، رفعه:"هلك المتنطّعون". أخرجه مسلم، فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته، ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب، ولا في السنّة، ولا الإجماع، وهي نادرة الوقوع جدًّا، فيصرف فيها زمانًا كان صرفه في غيرها أولى، ولا سيّما إن لزم من ذلك إغفال التوسّع في بيان ما يكثر وقوعه، وأشدّ من ذلك في كثرة السؤال، البحثُ عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها، مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحسّ، كالسؤال عن وقت الساعة، وعن الروح، وعن مدّة هذه الأمّة، إلى أمثال ذلك مما لا يُعرف إلا بالنقل الصِّرْف، والكثير منه لم يثبت فيه شيء، فيجب الإيمان به من غير بحث، وأشدّ من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشكّ والحيرة.

وقال بعض الشرّاح مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن أن يسأل عن السِّلَعِ التي توجد في الأسواق، هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه، أو لا؟، فيجيبه بالجواز، فإن عاد، فقال: أخشى أن يكون من نهب، أو غصب، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة، فيحتاج أن يجيبه بالمنع، ويقيّد ذلك، إن ثبت شيء من ذلك حرم، وإن تردّد كره، أو كان خلاف الأولى، ولو سكت السائل عن هذا التنطّع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في التمثيل للتنطّع في السؤال بهذا المثال نظر لا يخفى لمن تأمّل. واللَّه تعالى أعلم.

قال: وإذا تقرّر ذلك، فمن يسدّ باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها، فإنه يقلّ فَهْمُهُ وعلمه، ومن توسّع في تفريع المسائل، وتوليدها، ولا سيّما فيما يقلّ وقوعه، أو يندر، ولا سيّما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة، فإنه يذمّ فعله، وهو عين الذي كرهه السلف.

ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب اللَّه، محافظًا على ما جاء في تفسيره عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه، ومفهومه، وعن معاني السنّة، وما دلّت عليه كذلك، مقتصرًا على ما يصلح للحجّيّة منها، فإنه الذي يُحمَد، ويُتنفع به، وعلى ذلك يُحمل عمل فقهاء الأمصار، من التابعين، فمن

ص: 290

بعدهم حتى حدثت الطائفة الثانية، فعارضتها الطائفة الأولى، فأكثر بينهم المراء والجداله، وتولّدت البغضاء، وتسمَّوْا خُصُومًا، وهم من أهل دين واحد، والواسط هو المعتدل من كلّ شيء، وإلى ذلك يشير قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب:"فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم"، فإن الاختلاف يجرّ إلى عدم الانقياد.

وهذا كلّه من حيث تقسيم المشتغلين بالعلم.

وأما العمل بما ورد في الكتاب والسنّة، والتشاغل به، فقد وقع الكلام في أيّهما أولى، والإنصاف أن يقال: كلُّ ما زاد على ما هو في حقّ المكلّف فرض عين، فالناس فيه على قسمين: مَنْ وجد في نفسه قوّةً على الفهم، والتحرير، فتشاغله بذلك أولى من إعراضه عنه، وتشاغلِهِ بالعبادة؛ لما فيه من النفع المتعدّي. ومن وجد في نفسه قصورًا، فإقباله على العبادة أولى لعسر اجتماع الأمرين

(1)

، فإن الأول لو ترك العلم لأوشك أن يضيع بعض الأحكام بإعراضه. والثاني لو أقبل على العلم، وترك العبادة فاته الأمران؛ لعدم حصول الأول له، وإعراضه به عن الثاني انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بَحْثٌ نفيس جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعمِ الوكيل.

2620 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُوسَى بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَلِيلِ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ» ، فَقَالَ: الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ: كُلُّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ، فَسَكَتَ، فَقَالَ: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، ثُمَّ إِذًا لَا تَسْمَعُونَ، وَلَا تُطِيعُونَ، وَلَكِنَّهُ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم تقدّموا غير اثنين:

1 -

(موسى بن سلمة) بن أبي مريم المصريّ، مولى بني جُمَح، مقبول [7].

قال أبو عمر الكنديّ: كان من أكتب الناس للعلم في زمانه. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن القطّان: مجهول. قال ابن يونس: يقال: مات سنة (163) ولم يُسِنّ. انفردٍ به المصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

2 -

(أبو سنان الدؤليّ) يزيد بن أميّة المدنيّ، مشهور بكيته، ويقال: اسمه ربيعة، ثقة [2].

قال أبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: وُلد زَمَن أحد. وذكره ابن حبّان في "الثقات"،

(1)

- ولقد أحسن بعضهم حيث قال فيمن هذا حاله:

وَمَنْ يَكُنْ فِي فَهْمِهِ الْبَلَادَهْ

فَلْيصْرِفِ الْوَقْتَ إِلَى الْعِبَادَهْ

ص: 291

وقال: أراده هشام بن إسماعيل على أن يسبّ عليًّا فأبى. وذكر هذه الحكاية البخاريّ في "تاريخه الكبير" بإسناده. وذكره في "الأوسط" في "فصل من مات ما بين الثمانين إلى التسعين". وذكره ابن عبد البرّ في "أسماء الصحابة".

روى له أبو داود، والمصنّف، وابن ماجه حديث الباب فقط.

و"محمد بن يحيى بن عبد اللَّه النيسابوريّ": هو الإمام الحافظ الثبت الذهليّ [11] 196/ 314.

و"سعيد بن أبي مريم": هو سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الجمحيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الثقة الثبت الفقيه، من كبار [10] 3/ 2098.

و"عبد الجليل بن حُميد": هو اليحصبيّ، أبو مالك المصريّ، لا بأس به [7] 28/ 2492. من أفراد المصنّف.

وشرح الحديث يُعلم مما قبله.

وقوله: "ثم إذًا لا تسمعون" أي ثم إذا وجبت كلّ عام لا تسمعون سماع قبول.

وقوله: "لا تطيعون" كالتميم للأول، والتأكيد له، أو لبيان أن الطاعة تنتفي أصالة؛ لتعذّرها، أو تعسّرها؛ لاستلزام انتفاء السمع انتفاءها. واللَّه تعالى أعلم. قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

والحديث صحيح، أخرجه المصنّف هنا -1/ 2620 - وفي "الكبرى" 1/ 3599. وأخرجه (د) في "المناسك" 1721 (ق) في "المناسك" 2886 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 2304 و 2637 و 3500 (الدارمي) في "المناسك" 1788.

[تنبيه]: [فإن قيل]: كيف يصحّ هذا الحديث، وفي سنده موسى بن سلمة، وقد تقدّم عن ابن القطّان أنه قال مجهول، وقال في "التقريب": مقبول، يعني أنه يحتاج إلى متابع؟.

[أجيب]: بأن للحديث عدّة طرق يصحّ بها، فقد أخرجه أبو داود رقم -1721 - من طريق سفيان حسين، عن الزهريّ، بلفظ: أن الأقرع بن حابس، سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه الحجّ في كلّ سنة، أو مرّة واحدةً؟ قال:"بل مرّةً واحدة، فمن زاد، فهو تطوّع".

وسفيان بن حسين، عن الزهريّ، وإن كان فيه مقال، لكنه يصلح للمتابعات.

ورواه أحمد ج 1 ص 301 و 323 و 325 - من طريق سماك، عن عكرمة. وسماك،

(1)

- "شرح السنديّ" ج 5 ص 111.

ص: 292

عن عكرمة، وإن كان فيه مقال، لكنه يصلح للمتابعات.

ورواه البيهقيّ ج 4 ص 326 - من طريق سليمان بن كثير، عن الزهريّ، بلفظ:"قال: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: "يا أيها الناس إن اللَّه كتب عليكم الحجّ، فقام الأقرع بن حابس، فقال: أفي كلّ عام يا رسول اللَّه؟، قال: لو قلتها لو وجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها، ولم تستطيعوا أن تعملوا بها، الحجُّ مرّة، فمن زاد فهو تطوّع".

قال البيهقيّ: تابعه سفيان بن حسين، ومحمد بن أبي حفصة، عن الزهريّ، عن أبي سنان انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وسليمان عن الزهريّ، وإن تكلم فيه بعضهم، لكن قد احتجّ به مسلم، وأخرج له البخاريّ في المتابعات، وقال ابن عديّ: له عن الزهريّ أحاديث صالحة، ولا بأس به

(1)

، وقد تابعه سفيان بن حسين، ومحمد بن أبي حفصة.

والحاصل أن حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح؛ لما ذُكر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌2 - (وُجُوبُ الْعُمْرَةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على وجوب العمرة. "العمرة" -بضم العين المهملة، وسكون الميم-: في اللغة الزيارة. قال الشاعر:

يُهِلُّ بِالْفَرْقَدِ رُكْبَانُهَا

كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرُ

(2)

وقيل: هي القصد، يقال: اعتمر الأمرَ: أمّه، وقصد له، قال العجاج:

لَقَدْ غَزَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرْ

مَغْزًى بَعِيدًا مِنْ بَعِيدٍ وَضَبَرْ

(3)

وقيل: القصد إلى مكان عامر. وقيل: إنها مشتقّة من عمارة المسجد الحرام، وفي

(1)

- انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 2 ص 106.

(2)

-أي إذا انجلى لهم السحاب عن الفرقد أهلّوا، أي رفعوا أصواتهم بالتكبير كما يهلّ الراكب الذي يريد عمرة الحجّ؛ لأنهم كانوا يهتدون بالفرقد. وقيل: غير هذا المعنى راجع "اللسان".

(3)

- المعنى: حين قصد مغزى بعيدًا، ومعنى "ضَبَرَ": جمع قوائمه ليَثِب. اهـ "لسان".

ص: 293

الشرع: زيارة البيت الحرام، وقصده بكيفيّة مخصوصة. وقيل: هي في الشرع إحرام، وسعي، وطواف، وحلق، أو تقصير، سميت بذلك؛ لأنه يزار بها البيت، ويقصد.

وقال الراغب: العمارة: نقيض الخراب، والاعتمار، والعمرة: الزيارة التي فيها عمارة الودّ، وجعل في الشريعة للقصد المخصوص انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2621 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ سَالِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ

(2)

، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ، وَلَا الْعُمْرَةَ، وَلَا الظَّعْنَ، قَالَ:«فَحُجَّ عَنْ أَبِيكَ، وَاعْتَمِرْ» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني، ثم البصري، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(شعبة) الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 24/ 27.

4 -

(النعمان بن سالم) الطائفي، ثقة [4] 67/ 83.

5 -

(عمرو بن أوس) الثقفي الطائفي التابعي الكبير، ثقة [2] 17/ 653.

6 -

(أبو رَزين) العُقَيلي، واسمه لَقِيط -بفتح اللام، وكسر القاف- ابن عامر بن صَبِرة -بفتح الصاد المهملة، وكسر الموحّدة- ابن عبد اللَّه بن المُنْتَفِقِ بن عامر بن عُقَيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صَعْصَعَة، صحابي مشهور رضي الله عنه، روى له المصنف في هذا الكتاب برقم 87 و 114 و 2621 و 2637 و 4233 وتقدمت ترجمته في 71/ 87. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأن رجاله رجال الصحيح، غير الصحابيّ فإنه من رجال الأربعة، وأن نصفه الأول. مسلسل بالبصريين، والثاني بالطائفيين، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وأن صحابيه من المقلين من الرواية فليس له في الكتب الأربعة إلا نحو تسعة أحاديث، راجع، تحفة الأشراف" جـ 8 ص 332 - 334. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِيِ رَزِينٍ) الْعُقَيليّ رضي الله عنه، (أَنَّهُ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا

(1)

راجع "مفردات ألفاظ القرآن" ص 586.

(2)

- وفي نسخة: "عن أبي رزين العقيليّ".

ص: 294

يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ، وَلَا الْعُمْرَةَ) أي ماشيًا بنفسه (وَلَا الظَّعْنَ) -بفتحتين، أو بفتح، فسكون، والأولى معجمة، والثانية مهملة، أي الركوب على الدابة، يقال: ظَعَنَ يَظعَن -بالفتح فيهما- من باب منع، ظَعْنًا، ويحرّك: إذا سار، وأظعنه سيّره، والظعينة: الْهَوْدَج، فيه امرأةٌ، أم لا؟، جمعه ظُعْنٌ بالسكون، وظَعُنٌ بضمتين، وأَظْعان، والمرأة ما دامت في الهَوْدَج. أفاده في "القاموس".

وقال الفيّوميّ: ظَعَنَ ظَعْنًا، من باب نَفَع: ارتحل، والاسم ظَعَنٌ -بفتحتين- ويتعدّى بالهمزة، وبالحرف، فيقال: أظعنته، وظَعَنت به، والفاعل ظاعنٌ، والمفعول مظعون، والأصل مظعون به، لكن حُذفت الصلة لكثرة الاستعمال انتهى.

والمراد به هنا أنه لا يستطيع الركوب، وحاصل ما ذكره الرجل عن أبيه أنه لا يَقوَى على السير، ولا على الركوب؛ لكبر سنّه (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَحُجَّ عَنْ أَبِيكَ، وَاعْتَمِرْ) أي إذا كان أبوك لا يستطيع الحجّ، ولا العمرة، كما وصفته، فحجّ أنت بدلًا عنه، واعتمر.

[تنبيه]: قال الحافظ وليّ الدين العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى-: في هذا الحديث ردّ على ابن بشكوال، حيث قال في "مبهماته" في حديث: أنّ رجلًا قال: يا رسول اللَّه أين أبي؟، قال:"أبوك في النار": إنه أبو رزين العُقَيلي، فإن مقتضاه أن أباه كان كافرًا محكومًا له بالنار، وهذا الحديث يدلّ على أنه مسلم، مخاطب بالحجّ انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي رزين - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -2/ 2621 - وفي "الكبرى" 2/ 3600. وأخرجه (د) في "المناسك" 1810 (ت) في "الحجّ" 930 (ق) في "المناسك" 2906 (أحمد) في "مسند المدنيين" 15751 و 15757 و 15766. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان وجوب العمرة، واستدلال

(1)

- راجع "زهر الربى" ج 5 ص 111 - 112.

ص: 295

المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا الحديث على وجوب العمرة واضح، وقد سبقه إلى ذلك الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى-، فقد أخرج البيهقيّ في "سننه الكبرى" بسنده إلى أحمد بن سلمة، قال: سألت مسلم بن الحجّاج عن هذا الحديث -يعني حديث أبي رزين هذا- فقال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثًا أجود من هذا، ولا أصحّ منه، ولم يُجَوِّده أحد كما جوّده شعبة انتهى

(1)

. وسيأتي بيان مذاهب العلماء في حكم العمرة في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى.

(ومنها): مشروعيّة النيابة عمن لا يستطيع الحجّ ولا العمرة، كالشيخ الكبير (ومنها): وجوب الحجّ والعمرة على من وجد مالًا، ولم يستطع أن يحجّ بنفسه، لاستطاعة بغيره، وهو مذهب الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-، وسيأتي بيان الخلاف في ذلك في -9/ 2635 - إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وجوب العمرة:

ذهب الجمهور إلى أن العمرة واجبة، وممن نقل عنه هذا: عمر، وابن عبّاس، وابن عمر، وجابر، وطاوس، وعطاء، وابن المسيّب، وسعيد بن جُبير، والحسن البصريّ، وابن سيرين، والشعبيّ، ومسروق، وأبو بردة بن أبي موسى الأشعريّ، وعبد اللَّه بن شدّاد، والثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وداود، ذكره النوويّ في "المجموع"

(2)

، وبه قال ابن حزم، وزاد في "المحلّى": زيدَ بن ثابت، وابن مسعود، وعلي بن الحسن، ونافعا مولى ابن عمر، وهشام بن عروة، والحكم بن عتيبة، وقتادة، والأوزاعيّ قال: ولا يصحّ عن أحد من الصحابة خلاف لهم في هذا، إلا رواية ساقطة من طريق أبي معشر، عن إبراهيم أن عبد اللَّه قال: العمرة تطوّع، والصحيح عنه خلاف هذا كما ذكرنا، قال: ولا من التابعين، إلا إبراهيم النخعي وحده، وروايةً عن الشعبيّ، قد صحّ عنه خلافها، كما ذكرنا.

وذهب مالك، وأبو حنيفة، وأبو ثور إلى أنها سنة، وليست بواجبة، وحكاه ابن المنذر عن النخعيّ

(3)

.

وإلى المذهب الأول ميلُ المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، كما أوضحه في ترجمته، جازمًا، حيث "باب وجوب العمرة"، وإليه ميلُ الإمام البخاريّ أيضًا في "صحيحه"، حيث قال:"باب وجوب العمرة، وفضلها"، وقال ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -:

(1)

- "السنن الكبرى" ج 4 ص 350.

(2)

- "المجموع" ج 7 ص 11 - 12.

(3)

- المصدر المذكور.

ص: 296

ليس أحدٌ إلا وعليه حجة وعمرة. وقال ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: إنها لقرينتها في كتاب اللَّه عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] انتهى.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وجزم المصنّف بوجوب العمرة، وهو متابع في ذلك للمشهور عن الشافعيّ، وأحمد، وغيرهما، من أهل الأثر، والمشهور عن المالكية أن العمرة تطوّع، وهو قول الحنفيّة.

واستدلّوا بما رواه الحجّاج بن أرطاة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر: أَتى أعرابيّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟، فقال:"لا، وأن تعتمر خيرٌ لك". أخرجه الترمذيّ. والحجّاج ضعيف. وقد روى ابن لَهِيعة، عن عطاء، عن جابر، مرفوعًا:"الحجّ والعمرة فريضتان". أخرجه ابن عديّ. وابن لهيعة ضعيف، ولا يثبت في هذا الباب عن جابر شيء، بل رَوَى ابن الجهم المالكيّ بإسناد حسن عن جابر:"ليس مسلم إلا عليه عمرة". موقوف على جابر.

واستدلّ الأولون بما ذُكر في هذا الباب، وبقول صُبَيّ بن مَعْبَد لعمر: رأيت الحجّ والعمرة مكتوبين عليّ، فأهللت بهما، فقال له: هُديت لسنّة نبيّك". أخرجه أبو داود.

وروى ابن خزيمة وغيره في حديث عمر لسؤال جبريل عن الإيمان، والإِسلام، فوقع فيه:"وأن تحجّ، وتعتمر"، وإسناده قد أخرجه مسلم، لكن لم يسق لفظه، وبأحاديث أخرى غير ما ذُكر، وبقول اللَّه تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} الآية [البقرة: 196] أي أقيموهما. وزعم الطحاويّ أن معنى قول ابن عمر: " العمرة واجبة" أي وجوب كفاية. ولا يخفى بُعدُه مع اللفظ الوارد عن ابن عمر، فقد أخرجه ابن خزيمة، والدارقطنيّ، والحاكم بإسناد صحيح، عن نافع، أن ابن عمر كان يقول: ليس من خلق اللَّه أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع سبيلًا، فمن زاد فهو خير وتطوّع. وقال سعيد بن أبي عروبة، في "المناسك": عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الحجّ والعمرة فريضتان.

وأثر ابن عبّاس وصله الشافعيّ، وسعيد بن منصور، بإسناد صحيح. انتهى ما في "الفتح" بتصرّف

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور، من وجوب العمرة، هو الحقّ؛ لقوة الأدلة، ومن أقواها حديث الباب، كما أسلفته عن الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في كلامه السابق في المسألة الماضية، ومنها الآية المذكورة. ومن قال: إن المراد

(1)

- "فتح" ج 4 ص 431 - 432.

ص: 297

بها الإتمام بعد الشروع يردّه قراءة علقمة، ومسروق، وإبراهيم النخعيّ -كما أخرجه الطبريّ عنهم بأسانيد صحيحة- بلفظ:"وأقيموا"، فإن هذه القراءة صحيحة الأسانيد، وإن كانت آحادًا، فتبيّنُ المراد من القراءة المشهورة.

وقد ردّ ابن حزم على من قال: إن الآية لا تدلّ على كونها فرضًا، وإنما تدلّ على وجوب إتمامها على من دخل فيها، وكذا على بقية حججهم بأبلغ ردّ لا تجده في غير كتابه، راجع "المحلّى" 7/ 36 - 42.

ومن أقوى الأدلّة أيضًا على وجوبها ما أخرجه الدارقطنيّ، والبيهقيّ بإسناد صحيح، من حديث عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه - في قصّة سؤال جبريل للنبيّ صلى الله عليه وسلم المشهور، وفيه: فقال: يا محمد ما الإسلام؟ قال: "أن تشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحجّ البيت، وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتمّ الوضوء، وتصوم رمضان

" الحديث. قال البيهقيّ: رواه مسلم في "الصحيح" عن حجاج بن الشاعر، عن يونس، إلا أنه لم يسق متنه

(1)

. وأخرجه أيضًا ابن خزيمة، وابن حبَّان، والدارقطنيّ.

والحاصل أن الحقّ وجوب العمرة كالحجّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌3 - (فَضْلُ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ)

وفي نسخة: "فضل الحجة المبرورة".

2622 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(2)

سُوَيْدٌ -وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو الْكَلْبِيُّ- عَنْ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْحَجَّةُ الْمَبْرُورَةُ، لَيْسَ لَهَا جَزَاءٌ، إِلاَّ الْجَنَّةُ، وَالْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» ).

(1)

- "السنن الكبرى" ج 4 ص 349 - 350.

(2)

- وفي نسخة: "أنا".

ص: 298

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عبدة بن عبد اللَّه الصفّار) أبو سهل البصريّ، كوفيّ الأصل، ثقة [11] 18/ 800.

2 -

(سُويد بن عمرو الكلبيّ) أبو الوليد الكوفيّ العابد، من كبار [10] 67/ 1809.

3 -

(زُهير) بن معاوية بن حُدَيج الجعفيّ، أبو معاوية الكوفيّ، ثقة ثبت [7] 38/ 42.

4 -

(سهيل) بن أبي صالح السمّان المدنيّ، صدوق، تغيّر بآخره [6] 32/ 820.

5 -

(سُميّ) مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، المدنيّ، ثقة [6] 22/ 540.

6 -

(أبو صالح) ذكوان السمّان الزّيات المدنيّ، ثقة ثبت [3] 36/ 40.

7 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه -. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات "المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالمدنيين من سهيل والباقون كوفيون، وأن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سُمَيٍّ) قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: تفرّد سميّ بهذا الحديث، واحتاج إليه الناس فيه، فرواه عنه مالك، والسفيانان، وغيرهما، حتى إن سهيل بن أبي صالح حدّث به عن سُميّ، عن أبي صالح، فكأن سهيلًا لم يسمعه من أبيه، وتحقّق بذلك تفرّد سميّ به، فهو من غرائب الصحيح. انتهى.

(عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجَّةُ الْمَبْرُورَةُ) قال ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى-: هو الذي لا يخالطه شيء من المآثم. وقيل: هو المقبول الْمُقَابَلُ بالبرّ، وهو الثواب، يقال: بَرّ حجّه -بالبناء للفاعل- وبُرَّ حجّه -بالبناء للمفعول- وبرّ اللَّهُ حجّه وأبرّه بِرًّا بالكسر، وإبرارًا انتهى

(1)

.

وقال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: "الحجّ المبرور": هو المتقبّل. وقيل: الذي لا رياء فيه، ولا سمعة، ولا رفث، ولا فسوق، وكانت النفقة فيه من المال الطيّب.

وعن ابن عمر، قال: الحجّ المبرور إطعام الطعام، وحسن الصحبة. وروى ضمرة بن

(1)

- "النهاية" ج 1 ص 117.

ص: 299

ربيعة، عن ثور بن يزيد، قال: من أم هذا البيت، ولم يكن فيه ثلاث خصال، لم يَسلَم له حجه، من لم يكن له حلم يضبط به جهله، ووَرَعٌ عما حرّم اللَّه عليه، وحسن الصحبة لمن صحبه. ثم أخرج بسنده عن جابر - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما برّ الحجّ؟، قال:"إطعام الطعام، وطيب الكلام"

(1)

. قال: وذكر ابن شاهين بسنده، قال رجل للحسن: يا أبا سعيد ما الحجّ المبرور؟، قال: أن يدفع زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة انتهى كلام ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى- باختصار

(2)

.

وقال النوويّ: الأصح الأشهر أن المبرور هو الذي لا يخالطه إثم، مأخوذ من البرّ، وهو الطاعة. وقيل: هو المقبول، ومن علامة القبول أن يرجع خيرًا مما كان، ولا يعاود المعاصي. وقيل: هو الذي لا رياء فيه. وقيل: هو الذي لا يعقبه معصية، وهما داخلان فيما قبلهما انتهى

(3)

.

وقال الحافظ في "الفتح": قال ابن خالويه: المبرور المقبول. وقال غيره: الذي لا يخالطه شيء من الإثم. ورجّحه النوويّ. وقال القرطبيّ: الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي أنه الحجّ الذي وُفِّيَت أحكامه، ووقع موقعًا لما طُلب من المكلف على الوجه الأكمل. وقيل: إنه يظهر بآخره، فإن رجع خيرًا مما كان عُرف أنه مبرور. ولأحمد، والحاكم من حديث جابر: قالوا: يا رسول اللَّه ما برّ الحجّ؟ قال: "إطعام الطعام، وإفشاء السلام". وفي إسناده ضعف، فلو ثبت لكان هو المتعيّن، دون غيره انتهى كلام الحافظ بتصرّف يسير

(4)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث المذكور قال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الذهبيّ: صحيح. وحسّن سنده المنذريّ في "الترغيب" والهيثميّ في "مجمع الزوائد". لكن الحقّ تضعيفه كما قال الحافظ؛ لأن في سند أحمد محمد بن ثابت مجمع على ضعفه

(5)

، وفي سند الحاكم أيوب بن سويد، ضعّفه الجمهور، بل قال ابن معين: يسرق الأحاديث

(6)

. واللَّه تعالى أعلم.

وقال ابن العربيّ: الحجّ المبرور هو الذي لا معصية بعده. قال الأبيّ: وهو الظاهر؛

(1)

- قال الحافظ الهيثميّ في "مجمع الزوائد" ج 3 ص 207: رواه الطبرانيّ في "الأوسط"، بإسناده حسن، وسيأتي تعقبه قريبًا.

(2)

- راجع "الاستذكار" ج 11 ص 230 - 235.

(3)

- "شرح مسلم" ج 9 ص 122.

(4)

- "فتح" ج 4 ص 157.

(5)

- راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 3 ص 524 - 525.

(6)

- انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" ج 1 ص 204 - 205.

ص: 300

لقوله في الحديث الآخر: "من حجّ هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق

" الحديث، إذ المعنى: ثم لم يفعل شيئًا من ذلك، ولهذا عطفه بالفاء المشعرة بالتعقيب، وإذا فسّر بذلك كان الحديثان بمعنى واحد، وتفسير الحديث بالحديث أولى، ويكون الرجوع بلا ذنب كناية عن دخول الجنّة مع السابقين انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن العربي، واستظهره الأبيّ هو الأرجح عندي، لكن بإبدال قوله:"بعده" بلفظ "فيه"، يعني أن الحجّ المبرور هو الذي ليس فيه رفثٌ، ولا فسوقٌ، بمعنى أنه لا معصية في حال إيقاعه، بل اجتنب فيه المحظورات الشرعية حال أدائه.

والحاصل أن معنى الحديثين واحدٌ، فيكون حديث "من حجّ هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" تفسيرًا لمعنى قوله: "الحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنّة"، فإنه إذا رجع كيوم ولدته أمّه، أي ليس عليه شيء من الذنوب كان من أهل الجنّة السابقين إليها. واللَّه تعالى أعلم.

(لَيْسَ لَهَا جَزَاءٌ) أي ثوابٌ (إِلَّا الْجَنَّةُ) بالرفع، أو النصب، وهو نحو "ليس الطيب إلا المسك" بالرفع، فإن بني تميم يرفعونه حملًا لها على "ما" في الإهمال عند انتقاض النفي، كما حمل أهلُ الحجاز "ما" على "ليس" في الإعمال عند استيفاء شروطها، كذا قاله ابن هشام الأنصاريّ في "مغني اللبيب"

(2)

.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: "ليس له جزاء إلا الجنّة" معناه: أنه لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، بل لا بدّ أن يدخل الجنّة انتهى

(3)

.

وقال السنديّ: "ليس له جزاء إلا الجنّة": أي دخولُها أوّلًا، وإلا فمطلق الدخول يكفي فيه الإيمان، وعلى هذا فهذا الحديث من أدلّة أن الحجّ تغفر به الكبائر أيضًا؛ لحديث:"رجع كيوم ولدته أمه"، بل هذا الحديث يفيد مغفرة ما تقدّم من الذنوب، وما تأخّر. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(4)

.

(وَالْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ) أي منتهية إلى العمرة. قال القاري: أي العمرة المنضمّة إلى العمرة، أو العمرة الموصولة، أو المنتهية إلى العمرة. وقال المناويّ: أي العمرة حال كون الزمن بعدها ينتهي إلى العمرة، فـ "إلى" للانتهاء على أصلها. وقال الباجيّ، وتبعه

(1)

- شرح الأبيّ ج 3 ص 445.

(2)

- راجع "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" ج 1 ص 294، وذكر فيه قصّة جرت بين أبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر الثقفيّ.

(3)

- "شرح مسلم" ج 9 ص 122.

(4)

- "شرح السنديّ" ج 5 ص 112.

ص: 301

ابن التين: إن "إلى" يحتمل أن تكون بمعنى "مع"، كقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، وقوله:{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصفّ: 14]، فيكون التقدير: العمرة مع العمرة مكفّرة لما بينهما، فإذا كانت للغاية كان المكفّر هو العمرة الأولى، وإذا كانت بمعنى "مع" كان المكفّر العمرتين. ويدلّ للثاني حديث:"العمرتان تكفّران ما بينهما". أخرجه البيهقيّّ في "شعب الإيمان" من حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى - عنه. قال المناويّ: فيه من لم أعرفهم، ولم أرهم في كتب الرجال.

وقال السنديّ: قيل: يحتمل أن تكون "إلى" بمعنى "مع"، أي العمرة مع العمرة. أو بمعناها متعلّقة بـ "كفّارة"، أي تكفّر إلى العمرة، ولازمه أنها تكفّر الذنوب المتأخّرة. انتهى.

(كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا) هذا ظاهر في فضل العمرة، وأنها مكفّرة للخطايا الواقعة بين العمرتين.

قال الحافظ ابن العبد البرّ: "كفّارة لما بينهما" من الذنوب الصغائر، دون الكبائر، قال: وذهب بعض علماء عصرنا إلى تعميم ذلك، ثم بالغ في الإنكار عليه. قال الزرقاني: وكأنه يعني الباجيّ، فإنه قال:"ما" من ألفاظ العموم، فتقتضي من جهة اللفظ تكفير جميع ما يقع بينهما إلا ما خصّه الدليل.

واستشكل بعضهم كون العمرة كفّارة مع أن اجتناب الكبائر يكفّر، فماذا تكفّره العمرة.

وأجيب بأن تكفير العمرة مقيد بزمنها، وتكفير الاجتناب عامّ لجميع عمر العبد، فتغايرا من هذه الحيثيّة. ذكره الزرقانيّ

(1)

.

وقال العينيّ: ظاهر الحديث أن الأولى هي المكفّرة؛ لأنها التي وقع الخبر عنها أنها تكفّر، ولكن الظاهر من جهة المعنى أن العمرة الثانية هي التي تكفّر ما قبلها إلى العمرة التي قبلها، فإن التكفير قبل وقوع الذنب خلاف الظاهر انتهى

(2)

.

وقال الأبيّ: الأظهر أن الحديث خرج مخرج الحثّ على تكرير العمرة والإكثار منها؛ لأنه إذا حُمل على غير ذلك يُشكل بما إذا اعتمر مرّة واحدة، فإنه يلزم عليه أن لا فائدة لها؛ لأن فائدتها، وهو التكفير مشروطة بفعلها ثانية؛ إلا أن يقال: لم تنحصر فائدة العبادة في تكفير السيّئات، بل يكون فيها، وفي ثبوت الحسنات، ورفع الدرجات، كما

ورد في بعض الأحاديث: من فعل كذا كتب له كذا كذا حسنة، ومحيت عنه كذا كذا

(1)

- "شرح الزرقاني على الموطّأ" ج 2 ص 268.

(2)

- "عمدة القاري" ج 10 ص 108 - 109.

ص: 302

سيئة، ورفعت له كذا كذا درجة، فتكون فائدتها إذا لم تكرّر ثبوت الحسنات، ورفع الدرجات. وقال شيخنا أبو عبد اللَّه -يعني ابن عرفة-: إذا لم تكرّر كفّر بعض ما وقع بعدها، لا كلّه -واللَّه أعلم- بقدر ذلك البعض

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -3/ 2622 و 2623 و 5/ 2629 - وفي "الكبرى" 3/ 3601 و 3602 و 5/ 3608. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1773 (م) في "الحجّ" 1349 (ت) في "الحج" 933 (ق) في "المناسك" 2888 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7307 و 9625 و 9632 و (الموطأ) في "الحجّ" 776 (الدارمي) في "المناسك" 1795. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل الحجّ المبرور (ومنها): بيان فضل المتابعة بين العمرتين (ومنها): مشروعية الاستكثار من الاعتمار؛ خلافًا لقول من قال: يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرّة، كالمالكيّة، ولمن قال: مرّة في الشهر، من غيرهم، وسيأتي الكلام عليه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى.

(ومنها): أن قضية جعل العمرة مكفّرة، والحجّ جزاءه الجنّة أن الحجّ أكمل (ومنها): ما قاله الإمام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: في الحديث دليل على التفريق بين الحجّ والعمرة في التكرار، إذ لو كانت العمرة كالحجّ لا يُفعَل في السنة إلا مرّة لسوّى بينهما، ولم يفرّق. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في مشروعيّة تكرار العمرة:

ذهب الجمهور إلى استحباب تكرار العمرة في السنة الواحدة مرارًا، وهو المذهب الصحيح؛ للأحاديث الصحيحة الكثيرة في الترغيب في الاستكثار منها، كحديث الباب.

(1)

- شرح الأبيّ ج 3 ص 444.

(2)

- نقله في "المرعاة" ج 9 ص 306.

ص: 303

وذهب مالك، وأصحابه إلى أنه يكره أن يعتمر في السنة أكثر من عمرة. وقال آخرون: لا يعتمر في شهر أكثر من عمرة

(1)

.

قال الحافظ: واستدلّ لهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة، وأفعاله على الوجوب أو الندب.

وتُعُّقّب بأن المندوب لم ينحصر في أفعاله، فقد كان يترك الشيء، وهو يستحبّ فعله لرفع المشقّة عن أمّته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه، فثبت الاستحباب من غير تقييد انتهى

(2)

.

وقد حقّق المسألة الإمام ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى- ورد على القائلين بكراهة التكرار في كتابه "المحلّى"، ودونك عبارته:

[مسألة]: والحجّ لا يجوز إلا مرّة في السنة، وأما العمرة فنحبّ الإكثار منها؛ لما ذكرنا من فضلها، فأما الحجّ فلا خلاف فيه، وأما العمرة، فإننا روينا من طريق مجاهد، قال عليّ بن أبي طالب: في كلّ شهر عمرة. وعن القاسم بن محمد أنه كره عمرتين في شهر واحد. وعن عائشة أم المؤمنين أنها اعتمرت ثلاث مرّات في عام واحد. وعن سعيد بن جبير، والحسن البصريّ، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النخعيّ كراهة العمرة أكثر من مرّة في السنة، وهو قول مالك. وروينا عن طاوس: إذا مضت أيام التشريق، فاعتَمِر متى شئت. وعن عكرمة اعتَمِرْ متى أمكنك الموسَى. وعن عطاء إجازة العمرة مرَّتين في الشهر. وعن ابن عمر أنه اعتمر مرّتين في عام واحد مرّة في رجب، ومرّةً في شوّال. وعن أنس بن مالك أنه أقام مدّة بمكّة، فكلما جمّ رأسه

(3)

خرج فاعتمر. وهو قول الشافعيّ، وأبي حنيفة، وأبي سليمان -يعني داود الظاهريّ- وبه نأخذ؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أعمر عائشة مرّتين في الشهر الواحد، ولم يكره عليه السلام ذلك، بل حضّ عليها، وأخبر أنها تكفّر ما بينها، وبين العمرة الثانية فالإكثار منها أفضل، وباللَّه تعالى التوفيق.

واحتجّ من كره ذلك بأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في عام إلا مرّة واحدة.

قلنا: لا حجة في هذا؛ لأنه إنما يُكره ما حَضَّ على تركه، وهو عليه السلام لم يحجّ مذ هاجر إلا حجة واحدة، ولا اعتمر مذ هاجر إلا ثلاث عُمَر، فيلزمكم أن تكرهوا الحجّ إلا مرّة في العمر، وأن تكرهوا العمر إلا ثلاث مرّات في الدهر، وهذا خلاف

(1)

- راجع "شرح صحيح مسلم" للنوويّ ج 9 ص 122.

(2)

- "فتح" ج 4 ص 433.

(3)

-أي طال شعر رأسه، وتجمّع.

ص: 304

قولكم. وقد صحّ أنه كان عليه السلام يترك العمل، وهو يحبّ أن يعمل به، مخافة أن يشقّ على أمته، أو أن يُفْرَضَ عليهم.

والعجب أنهم يستحبون أن يصوم المرء أكثر من نصف الدهر، وأن يقوم أكثر من ثلث الليل، وقد صحّ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يصم قط شهرًا كاملا، ولا أكثر من نصف الدهر، ولا قام بأكثر من ثلاث عشرة ركعة، ولا أكثر من ثلث الليل، فلم يروا فعله عليه السلام ههنا حجة في كراهة ما زاد على صحّة نهيه عن الزيادة في الصوم، ومقدار ما يقام من الليل على أكثر من ذلك، وجعلوا فعله عليه السلام في أنه لم يعتمر في العام إلا مرّة مع حضّه على العمرة، والإكثار منها حجة في كراهة الزيادة على عمرة من العام، وهذا عجبٌ جدًّا انتهى كلام ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. وهو بَحْثٌ نفيسٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في أقوال أهل العلم في وقت العمرة:

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: واعلم أن جميع السنة وقت للعمرة، فتصحّ في كلّ وقت منها، إلا في حقّ من هو متلبّسٌ بالحج، فلا يصحّ اعتماره حتى يفرغ من الحجّ، ولا تكره عندنا لغير الحاجّ في يوم عرفة، والأضحى، والتشريق، وسائر السنة، وبهذا قال مالك، وأحمد، وجماهير العلماء.

وقال أبو حنيفة: تكره في خمسة أيام: يوم عرفة، والنحر، وأيام التشريق. وقال أبو يوسف: تكره في أربعة أيام: وهي عرفة، والتشريق انتهى كلام النوويّ

(2)

.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبّسًا بأعمال الحجّ، إلا ما نُقل عن الحنفيّة أنه يكره في يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق. ونقل الأثرم عن أحمد: إذا اعتمر فلا بدّ أن يحلق، أو يقصّر، فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيام؛ ليتمكّن من حلق الرأس فيها. قال ابن قُدامة: هذا يدلّ على كراهة الاعتمار عنده في دون عشرة أيام. انتهى كلام الحافظ

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي في استثناء الأيام التي ذكروا أن العمرة تكره فيها نظر، فالذي يظهر أنها تجوز في كلّ أيام السنة؛ إذ لا نصّ، ولا إجماع في استثناء بعض الأيام المذكورة، حتى نعتمد عليه في كراهتها فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"المحلّى" جـ 7 ص 68 - 69.

(2)

- "شرح صحيح مسلم" ج 9 ص 122.

(3)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 433.

ص: 305

2623 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُهَيْلٌ عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْحَجَّةُ الْمَبْرُورَةُ، لَيْسَ لَهَا ثَوَابٌ، إِلاَّ الْجَنَّةُ» ، مِثْلَهُ سَوَاءً، إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ: «تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُمَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا طريق ثان لحديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى - عنه.

و"عمرو بن منصور": هو أبو سعيد النسائيّ، ثقة ثبت [11] 108/ 147 من أفراد المصنّف.

و"حجّاج": هو ابن المنهال الأنماطيّ، أبو محمد البصريّ الحافظ الثبت الفاضل [9] 19/ 901.

وقوله: "مثله" يحتمل النصب على الحال، أي حال كونه مثل رواية زهير السابق. ويحتمل الرفع خبرًا لمقدّر، أي هو مثله. وقوله:"سواء" منصوب على الحال، أي حال كون الحديثين متساويين في اللفظ، إلا في القدر المستثى، كما أشار إليه بقوله:"إلا أنه قال: تكفّر ما بينهما"، والظاهر أن الضمير لشعبة. يعني أن شعبة قال في روايته:"تكفّر ما بينهما" بدل قول زهير: "كفّارة لما بينهما". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌4 - (فَضْلُ الْحَجِّ)

2624 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ ، قَالَ:«الإِيمَانُ بِاللَّهِ» ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ ، قَالَ:«الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ ، قَالَ:«ثُمَّ الْحَجُّ الْمَبْرُورُ» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن رافع) القشيريّ النيسابوري، ثقة عابد [11] 92/ 114.

2 -

(عبد الرزاق) بن همام الصنعاني، ثقة حافظ عمي بآخره فتغير، وكان يتشيع [9]

(1)

- وفي نسخة: "حدثنا"، وفي أخرى:"أخبرنا".

ص: 306

61/ 77.

3 -

(معمر) بن راشد، أبو عروة البصري نزيل اليمن، ثقة ثبت من كبار [7] 10/ 10.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم المدني الإمام الحجة [4] 1/ 1.

5 -

(ابن المسيّب) هو: سعيد الإمام الفقيه الحجة المدني، من كبار [3] 9/ 9.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أنه مما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، الزهريّ، عن سعيد، وفيه أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وهو سعيد، وفيه أبو هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - أكثر من روى الحديث في دهره. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هرَيْرَةَ) أنه (قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) ذكر الحافظ في "الفتح" أنّ السائل هو أبو ذرّ - رضي اللَّه تعالى عنه -.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فيه نظر؛ لا يخفى؛ لأن حديث أبي ذرّ - رضي اللَّه تعالى عنه - مخالف لهذا الحديث، فقد أخرج حديث أبي ذرّ - رضي اللَّه تعالى عنه - الشيخان، والمصنّف، وغيرهما، ونصّ البخاريّ، في "كتاب العتق":

2518 -

حدثنا عبيد اللَّه بن موسى، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي مُرَاوح، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم، أي العمل أفضل؟، قال:"إيمان باللَّه، وجهاد في سبيله"، قلت: فأي الرقاب أفضل؟، قال:"أعلاها ثمنا، وأنفسها عند أهلها"، قلت: فإن لم أفعل؟، قال:"تعين ضائعا، أو تصنع لأخرق"، قال: فإن لم أفعل؟، قال:"تدع الناس من الشر، فإنها صدقة، تصدق بها على نفسك".

فهذا الحديث لا يصلح أن يكون مفسّرًا للمبهم الواقع في حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هنا؛ للاختلاف الواضح بينهما، فتأمل. واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ) وفي رواية: "أيّ العمل" بالإفراد (أَفْضَلُ؟) أي أكثر ثوابا عند اللَّه تعالى (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الْإيمَانُ بِاللَّهِ") وفي رواية البخاريّ: "إيمان باللَّه ورسوله" بالتنكير، وكذا في الحجّ. قيل: عرّف الجهاد، دون الإيمان والحجّ؛ لأن المعرّف بلام الجنس كالنكرة في المعنى فيوافق تنكير قسيمية. وقيل: لأن الإيمان والحجّ لا يتكرّر وجوبهما، فناسبهما التنكير ليدلّ على الأفراد الشخصيّ، بخلاف

ص: 307

الجهاد، فإنه قد يتكزر، فعُزف، والتعريف للكمال؟ إذ الجهاد لو أتى به مرّة مع الاحتياج إلى التكرار لما كان أفضل كذا قيل.

وقد تعقّبه الحافظ في "الفتح"، واعترضه العينيّ على عادته بما لا طائل تحته.

قال الحافظ: وقع في مسند الحارث بن أبي أسامة: "ثم جهاد" أي بالتنكير، فقد ظهر من هذه الرواية أن التنكير والتعريف من تصرّف الرواة؛ لأن مخرجه واحد فطلب الفرق في مثل هذا غير طائلة انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وقع في رواية المصنّف بتعريف الثلاثة، فصحّ ما قاله الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- من أن ذلك من تصرّفات الرواة، لا من لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يبحث عن نكتة التنكير والتعريف. فتفطّن. واللَّه تعالى أعلم.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: فيه تصريح بأن العمل يطلق على الإيمان، والمراد به - واللَّه اعلم- الإيمان الذي يُدخل به في ملّة الإسلام، وهو التصديق بقلبه، والنطق بالشهادتين، فالتصديق عمل القلب، والنطق عمل اللسان، ولا يدخل في الإيمان هنا الأعمال بسائر الجوارح، كالصوم، والصلاة، والحجّ، والجهاد، وغيرها؛ لكونه جُعل قسيمًا للجهاد والحجّ؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم:"إيمان باللَّه ورسوله"، ولا يقال هذا في الأعمال، ولا يمنع من تسمية الأعمال المذكورة إيمانًا، فقد قدّمنا دلائله انتهى كلام النوويّ

(1)

.

(قَالَ) الرجل السائل (ثُمَّ مَاذَا؟) كلمة "ثم" للعطف الترتيبيّ، و"ما" مبتدأ، و"ذا" خبره، ثم أيّ شيء أفضل بعد الإيمان باللَّه؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (الْجهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) مبتدأ خبره محذوف، أي أفضل، يعني أن قتال الكفّار لإعلاء كلمَة اللَّه أفضل الأعمال بعد الإيمان (قَالَ) السائل أيضًا (ثُمَّ مَاذَا؟) أي ثمّ أيّ شيء أفضل بعد الجهاد في سبيل اللَّه؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ الْحَجُّ الْمَبْرُورُ) وفي نسخة:"ثم حجّ مبرور". أي أفضل من غيره.

[تنبيه]: إنما قدّم الجهاد على الحجّ مع أنه فرض كفاية، والحجّ فرض عين، لأنه كان أول الإسلام، ومحاربةِ أعدائه، والجدِّ في إظهاره. وقيل: هو محمول على الجهاد في وقت الزحف الملجىء، والنفير العامّ، فإنه حينئذ يجب الجهاد على الجميع، وإذا كان هكذا فالجهاد أولى بالتحريض، والتقديم من الحجّ؛ لأنه يكون حينئذ فرض عين، ووقوعه فرضَ عين إذ ذاك متكرّر، فكان أهمّ منه. وقيل: قُدّم لأن نفع الجهاد متعدّ؛ لما فيه من المصلحة العامّة للمسلمين، مع بذل النفس فيه بخلاف الحجّ فيهما؛ لأن نفعه قاصر، ولا يكون فيه بذل النفس. وقيل:"ثُمّ" ههنا للترتيب في الذكر، كقوله

(1)

- "شرح صحيح مسلم" ج 2 ص 265.

ص: 308

تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [البلد: 17]، فإنه من المعلوم أنه ليس المراد ها هنا الترتيب في الفعل

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -4/ 2624 و"الجهاد" 17/ 3130 و"الإيمان وشرائعه" 1/ 4985 - وفي "الكبرى" 4/ 3603 و"الجهاد" 14/ 4338 و"الإيمان وشرائعه" 1/ 11716

وأخرجه (خ) في "الإيمان" 26 (م) في "الإيمان" 83 (ت) في "الجهاد" 1658 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7536 و 7585 و 7803 و 8374 و 8805 و 9407 (الدارمي) في "الجهاد"2393. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل الحجّ المبرور، حيث جُعل تاليًا لدرجة الجهاد في سبيل اللَّه عز وجل (ومنها): أنه يدلّ على أن الإيمان من جملة الأعمال، وهو داخل فيها، وهو إطلاق صحيح لغة وشرعًا (ومنها): أن الأعمال تتفاوت في الدرجات، فأفضلها على الإطلاق الإيمان باللَّه تعالى (ومنها): بيان فضل الجهاد في سبيل اللَّه عز وجل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في الجمع بين الأحاديث المختلفة في بيان أفضل الأعمال:

قال الإمام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: أما معاني الأحاديث وفقهها، فقد يُستَشكَل الجمع بينها، مع ما جاء في معناها، من حيث إنه جعل في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الأفضل الإيمان باللَّه، ثم الجهاد، ثم الحجّ. وفي حديث أبي ذرّ رضي الله عنه الإيمان والجهاد، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه الصلاة، ثم برّ الوالدين، ثم الجهاد، وفي حديث عبد اللَّه بن عمرو: أيّ الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت، ومن لم تعرف". وفي حديث أبي موسى، وعبد اللَّه عمرو: أيّ المسلمين خير؟، قال:"من سلم المسلمون من لسانه ويده". وصحّ في حديث عثمان: "خيركم من تعلّم القرآن، وعلّمه"، وأمثال هذا في الصحيح كثيرة.

(1)

- راجع "المرعاة" ج 9 ص 300 - 301.

ص: 309

واختلف العلماء في الجمع بينها، فذكر الإمام الجليل أبو عبد اللَّه الْحَلِيميّ الشافعيّ، عن شيخه الإمام العلامة المتقن أبي بكر القفّال الشاشيّ الكبير -وهو غير القفّال الصغير المروزيّ المذكور في كتب متأخّري أصحابنا الخراسانيين، قال الْحَلِيميّ: وكان القفّال أعلم من لقيته من علماء عصره- أنه جمع بينها بوجهين:

(أحدهما): أن ذلك اختلاف جواب جرى على حسب اختلاف الأحوال والأشخاص، فإنه قد يقال: خير الأشياء كذا، ولا يراد به خير جميع الأشياء من جميع الوجوه، وفي جميع الأحوال، والأشخاص، بل في حال دون حال، أو نحو ذلك، واستشهد في ذلك بأخبار، منها عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"حجة لمن لم يحجّ أفضل من أربعين غزوة، وغزوة لمن حجّ أفضل من أربعين حجة"

(1)

.

(الوجه الثاني): أنه يجوز أن يكون المراد من أفضل الأعمال كذا، أو من خيرها، أو من خيركم من فعل كذا، فحذفت "من"، وهي مرادة، كما يقال: فلان أعقل الناس، وأفضلهم، ويراد أنه من أعقلهم، وأفضلهم.

ومن ذلك قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله"، ومعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس مطلقًا، ومن ذلك قولهم: أزهد الناس في العالم جيرانه، وقد يوجد في غيرهم من هو أزهد منهم فيه. هذا كلام القفّال -رحمه اللَّه تعالى-.

وعلى هذا الوجه الثاني يكون الإيمان أفضلها مطلقًا، والباقيات متساويةٌ في كونها من أفضل الأعمال والأحوال، ثم يعرف فضل بعضها على بعض بدلائل تدلّ عليها، وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص.

[فإن قيل]: فقد جاء في بعض هذه الروايات أفضلها كذا، ثم كذا بحرف "ثمّ"، وهي موضوعة للترتيب.

[فالجواب]: أن "ثمّ" هنا للترتيب في الذكر، كما قال تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 12 - 17]، ومعلوم أنه ليس المراد هنا الترتيب في الفعل، وكما قال تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا} - إلى قوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} الآية [الأنعام: 151]، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} الآية [الأعراف: 11]. ونظائر

(1)

- رواه البزّار من حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وهو حديث ضعيف. راجع ضعيف الجامع الصغير للشيخ الألباني ص 398.

ص: 310

ذلك كثيرة، وأنشدوا فيه:

قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ

ثُمَّ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ

وذكر القاضي عياض في الجمع بينهما وجهين:

(أحدهما): نحو الأول من الوجهين اللذين حكيناهما، قال: قيل: اختلف الجواب لاختلاف الأحوال، فأعلم كلّ قوم بما بهم حاجة إليه، أو بما لم يكمّلوه بعدُ من دعائم الإسلام، ولا بلغهم علمه.

(الثاني): أنه قدّم الجهاد على الحجّ؛ لأنه كان أول الإسلام، ومحاربة أعدائه، والجدّ في إظهاره.

وذكر صاحب "التحرير" هذا الوجه الثاني، ووجها آخر أن "ثم" لا تقتضي ترتيبًا، وهذا شاذّ عند أهل العربيّة والأصول، ثم قال صاحب "التحرير": والصحيح أنه محمولٌ على الجهاد وقت الزحف الملجىء، والنفير العامّ، فإنه حينئذ يجب الجهاد على الجميع، وإذا كان هكذا، فالجهاد أولى بالتحريض، والتقديم؛ لما في الجهاد من المصلحة العامّة، مع أنه متعيّنٌ متضيّق في هذا الحال، بخلاف الحجّ. واللَّه أعلم انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: خلاصة الجواب أنه لا اختلاف بين هذه الأحاديث؛ لإمكان الجمع بينها، إما بالحمل على اختلاف الأشخاص السائلين، والأحوال المناسبة لهم، وإما على أن "من" مقدّرة في الكلام، أي من أفضل الأعمال، ولا يشكل رواية "ثم" لأنها تأتي في الاستعمال العربيّ للترتيب الذكريّ، كالآيات السابقة. وقد تقدّم هذا البحث في "كتاب الصلاة" في باب "فضل الصلاة لوقتها" -51/ 610 - فراجعه تزدد علمًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2625 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَثْرُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ سُهَيْلَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَفْدُ اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: الْغَازِي، وَالْحَاجُّ، وَالْمُعْتَمِرُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه "عيسى بن إبراهيم بن مثرود

(1)

" الغافقيّ، أبي موسى المصريّ، ثقة، من صغار [10] 31/ 819 فإنه ممن انفرد به هو وأبو داود.

و"ابن وهب": هو عبد اللَّه الحافظ الفقيه الحجة المصريّ [9] 9/ 9.

(1)

-بفتح الميم، وسكون الثاء الثلّثة، بعدها راء، آخره دال مهملة.

ص: 311

و"مَخْرَمة": هو ابن بُكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ المدنيّ، صدوق [7] 28/ 438.

و"بُكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ" المدنيّ، نزيل مصر، ثقة [5] 135/ 211. واللَّه تعالى

أعلم.

شرح الحديث

عن أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَفْدُ اللَّهِ ثَلَاثَةٌ") مبتدأ وخبره، و"الوفد" -بفتح، فسكون- قال ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى-: قد تكرّر ذكر الوفد في الحديث، وهم القوم يجتمعون، وَيرِدون البلاد، واحدهم وافدٌ، وكذلك يقصدون الأمراء لزيارة، واسترفاد، وانتجاع، وغير ذلك، تقول: وَفَدَ يَفِد، فهو وافد، وأوفدته، فَوَفَدَ، وأوفَدَ على الشيء، فهو مُوفِدٌ: إذا أشرف انتهى

(1)

. وفي "الصحاح" وَفَد فلان على الأمير: أي ورد رسولًا، فهو وافد، والجمع وَفْدٌ، مثلُ صاحب وصَحْب. وفي "المصباح": وَفَد على القوم وَفْدًا، من باب وَعَد، ووُفُودًا، فهو وافد، وقد يُجمع على وُفّاد، ووُفّد، وعلى وَفْد، مثلُ صاحب وصَحْب. ومنه الحاجّ وَفد اللَّه، وجمع الوَفْدِ أَوْفاد، ووُفُود انتهى.

قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: فالمعنى السائرون إلى اللَّه تعالى القادمون عليه من المسافرين ثلاثة أصناف، فتخصيص هؤلاء من بين العابدين لاختصاص السفر بهم عادةً، والحديث إما بعد انقطاع الهجرة، أو قبلها، لكن ترك ذكرها لعدم دوامها، والسفرُ للعلم لا يطول غالبًا، فلم يُذكَر، والسفر إلى المساجد الثلاثة المذكورة في حديث:"لا تُشدّ الرحال، إلا إلى ثلاثة مساجد" ليس بمثابة السفر إلى الحجّ ونحوه، فتُرك. ويحتمل أن لا يراد بالعدد الحصر. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(2)

.

(الْغَازِي) بدل من "ثلاثة"، ويجوز قطعه بتقدير مبتدإ، أو فعلٍ، وكذا قوله (وَالْحَاجُّ، وَالْمُعْتَمِرُ) وفيه فضل هؤلاء الثلاثة، وتشبيههم بالوفد الذين يَقدَمون على الملوك والأمراء، فيُتحفونهم بالجوائز العظيمة، والعطيّات الجسيمة، فاللَّه سبحانه، وتعالى أولى وأكرم، فيكرم هؤلاء الثلاثة بكرامة ليس بعدها كرامة، بجنّات عدن، فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذّ الأعين، وفيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهم الفائزن الفوز الأبديّ، كما قال تعالى:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} الآية [آل عمران: 185]، وقال:

(1)

- "النهاية" ج 5 ص 209.

(2)

- "شرح السنديّ" ج 5 ص 112.

ص: 312

{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 101 - 103]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا -4/ 2625 وفي "الجهاد" 13/ 3121 - وفي "الكبرى" 4/ 3604 وفي "الجهاد" 11/ 4329. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2626 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «جِهَادُ الْكَبِيرِ، وَالصَّغِيرِ، وَالضَّعِيفِ، وَالْمَرْأَةِ، الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو مصريّ ثقة فقيه. و"شعيب": هو ابن الليث بن سعد، شيخِهِ هنا. و"خالد": هو ابن يزيد الجمحيّ المصريّ الثقة. و"ابن أبي هلال": هو سعيد المصريّ الثقة. ويزيد بن عبد اللَّه": هو ابن الهاد المدنيّ الثقة. فأول السند مصريّون إلى ابن أبي هلال، ومن بعده مدنيّون، وفيه رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض، وكلهم مدنيّون: يزيد، ومحمد بن إبراهيم، وأبو سلمة، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه أبو هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - أحد المكثرين السبعة، وقد تقدّم كلّ هذا غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِيِ هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنْ) وفي نسخة: "أن"(رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: " جِهَادُ الْكَبيرِ، وَالصَّغِيرِ) سقط من "الكبرى" لفظ "الصغير"(وَالضَّعِيفِ، وَالْمَرْأَةِ، الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ) أي هما بمنزلة الجهاد لفاعلهما، وكلّ هؤلاء المذكورين يمكن لهم الوصول إليهما، بخلاف الجهاد، فإنه شاقّ عليهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا إسناده صحيح، وهو من أفراد المصنّف، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا- 42626 - وفي "الكبرى" 4/ 3605. وأخرجه أحمد في باقي "مسند المكثرين" 9163. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 313

2627 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ -وَهُوَ ابْنُ عِيَاضٍ- عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أبو عمار الحسين بن حريث) الخزاعي مولاهم المروزي، ثقة [10] 44/ 52.

2 -

(الفضيل بن عياض) بن مسعود التيمي، أبو علي الزاهد المشهور، خراساني الأصل، وسكن مكة، ثقة عابد إمام [8] 21/ 388.

3 -

(منصور) بن المعتمر السلمي، أبو عَتَّاب الكوفي، ثقة ثبت [6] 2/ 2.

4 -

(أبو حازم) سلمان الأشجعي الكوفي، ثقة [3] 110/ 149.

5 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وإن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأن فيه الإخبار والتحديث والعنعنة، وكلها من صيغ الإتصال على الأصح في "عن" من غير المدلس، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: صرّح منصور بسماعه له عن أبي حازم في رواية شعبة، فانتفى بذلك تعليل من أعلّه بالاختلاف على منصور؛ لأن البيهقيّ أورده من طريق إبراهيم بن طهمان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي حازم، زاد فيه رجلًا، فإن كان إبراهيم حفظه، فلعلّه حمله منصور عن هلال، ثمّ لقي أبا حازم، فسمعه منه، فحدّث به على الوجهين، وصرّح أبو حازم بسماعه له من أبي هريرة عند البخاريّ من طريق شعبة. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ) في رواية البخاريّ من طريق سيّار، عن أبي حازم: "من حجّ للَّه". أي لابتغاء وجه اللَّه تعالى، والمراد به الإخلاص.

ولمسلم من طريق ابن جرير، عن منصور:"من أتى هذا البيت"، وهو يشمل الحجّ

(1)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 488.

ص: 314

والعمرة، وقد أخرجه الدارقطنيّ من طريق الأعمش، عن أبي حازم، بلفظ:"من حجّ، أو اعتمر"، لكن في الإسناد إلى الأعمش ضعف. قاله في "الفتح"

(1)

. وقال في موضع آخر: ويجوز حمل لفظ "حجّ" على ما هو أعمّ من الحجّ والعمرة، فتساوي رواية "من أتى" من حيث إن الغالب أن إتيانه إنما هو للحجّ، أو العمرة انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أنه لا تساوي بين الحجّ والعمرة في هذا الفضل، فالأولى حمل رواية "من أتى" على رواية "من حجّ"، فيكون المعنى: من أتى هذا البيت للحجّ، والدليل على ذلك التفريق الذي تقدّم في حديث:"العمرةُ إلى العمرة كفّارة لما بينهما، والحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنّة"، فهذا التفريق يرشد إلى زيادة فضل الحجّ على العمرة. واللَّه تعالى أعلم.

(فَلَمْ يَرْفُثْ) بتثليث الفاء في الماضي، والضمّ، والفتح في المضارع. والرفث: الجماع، وُيطلق على التعريض به، وعلى الفحش من القول. وقال الأزهريّ: الرفث اسم جامع لكلّ ما يريده الرجل من المرأة، وكان ابن عمر

(3)

يخصّه بما خوطب به النساء. وقال عياض: هذا من قول اللَّه تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} [البقرة: 197]، والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع انتهى.

قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعمّ من ذلك، وإليه نحا القرطبيّ، وهو المراد بقوله في "الصيام":"فإذا كان صوم أحدكم، فلا يرفث" انتهى

(4)

.

وفي "المصباح": رَفَث في منطقه رَفْثًا، من باب طلب، وَيَرْفِث بالكسر لغة: أفحش فيه، أو صرّح بما يكنى عنه من ذكر النكاح، وأرفث بالألف لغة، والرفث: النكاح، فقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} المراد الجماع، وقوله تعالى:{فَلَا رَفَثَ} قيل: فلا جماع. وقيل: فلا فُحش من القول. وقيل: الرفث يكون في الفرج بالجماع، وفي العين بالغمز للجماع، وفي اللسان للمواعدة به انتهى.

وفي "القاموس": الرفَثُ محرّكةٌ: الجماع، والفحش، كالرُّفُوث، وكلام النساء في الجماع، أو ما وُوجِهنَ به من الفحش. وقد رفث، كنَصَر، وفَرِحَ، وكَرُم، وأرفث انتهى.

(1)

- "فتح" ج 4 ص 158.

(2)

- "فتح" ج 4 ص 488.

(3)

- وفي شرح النووي على مسلم ج 9 ص 123: وكان ابن عبّاس. فليحرّر.

(4)

- "الفتح" ج 4 ص 158.

ص: 315

فيستفاد من عبارة "القاموس" أن ماضيه مثلث العين، ومضارعه فيه الضمّ، والفتح فقط،. فقول الحافظ في "الفتح": فاء الرفث مثلّثة في الماضي والمضارع، والأفصح الفتح في الماضي، والضمّ في المستقبل، يحتاج إلى نظر. واللَّه تعالى أعلم.

(وَلَمْ يَقسُقْ) أي لم يأت بسيّئة، ولا معصية. وأغرب ابن الأعرابيّ، فقال: إن لفظ الفسق لم يسمع في الجاهليّة، ولا في أشعارهم، وإنما هو إسلاميّ. وتُعُقّب بأنه كثُر استعماله في القرآن، وحكايته عمن قبل الإسلام. وقال غيره: أصله انفسقت الرُّطَبَة: إذا خرجت، فسمي الخارج عن الطاعة فاسقاً. قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في "القاموس": الفِسْق بالكسر: الترك لأمر اللَّه تعالى، والعصيان، والخروج عن طريق الحقّ، أو الفجور، كالفسوق، فسق، كنصر، وضرب، وكرم، فِسقًا، وفسوقاً، وإنه لفسق: خروج عن الحقّ، وفَسَقَ عن أمر ربّه: جار، والرُّطَبَة عن قشرها: خرجت، كانفسقت. قيل: ومنه الفاسق؛ لانسلاخه عن الخير، والفويسقة: الفأرة؛ لخروجها من جُحْرها على الناس انتهى

(2)

.

وإنما صرّح بنفي الفسق في الحجّ، مع كونه ممنوعًا في كلّ حال، وفي كلّ حين؛ لزيادة التقبيح، والتشنيع، ولزيادة تأكيد النهي عنه في الحجّ، وللتنبيه على أن الحجّ أبعد الأعمال عن الفسق. واللَّه تعالى أعلم.

(رَجَعَ) أي صار، أو رجع من ذنوبه، أو حجته، أو فرغ من أعمال الحجّ، وحَملُهُ على معنى رجع إلى بيته بعيد. قاله السنديّ (كَمَا وَلَدَتْهُ أمُّهُ)"ما" مصدريّة، فيكون المعنى على حذف مضاف، أي كحال ولادة أمه له، يعني أنه لا شيء عليه من الذنوب. وفي نسخة:"كيوم ولدته أمه". وفي رواية أحمد، والدارقطنيّ:"رجع كهيئته يوم ولدته أمه". أي بغير ذنب مشابها لنفسه يوم ولدته أمه، إذ لا معنى لتشبيه الشخص باليوم. أفاده السنديّ.

وظاهر الحديث غفران الصغائر والكبائر، والتَّبِعَات، وهو من أقوى الشواهد لحديث العبّاس بن مِرْداس المصرّح بذلك، وله شاهد من حديث ابن عمر في "تفسير الطبريّ". وإليه ذهب القرطبيّ، وعياضٌ، لكن قال الطبريّ: هو محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب، وعجز عن وفائها.

وقوله: "فلم يرفث"، والواو في قوله:"ولم يفسق" عطف على الشرط في قوله: "من حجّ"، وجوابه "رجع"، والجارّ والمجرور خبر له. ويحتمل أن يكون حالاً، أي

(1)

- "الفتح" ج 4 ص 158.

(2)

- راجع "القاموس" في مادّة فسق.

ص: 316

صار مشابهًا لنفسه في البراءة عن الذنوب في يوم ولدته أمه.

وقوله: "كيوم ولدته" يجوز بناء "يوم" على الفتح؛ لإضافته إلى جملة، ويجوز إعرابه، فيكون مجرورًا بالكسرة، كما قال ابن مالك في "خلاصته":

وَابْنِ أَوَ اعرِابْ مَا كَإذْ قَدْ أُجْرِيَا

وَاخْتَر بِنَا مَتْلُوٍّ فِعْلِ بُنِيَا

وَقَبلَ فِعْلِ مُعْرَبٍ أَو مُبتَدَا

أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا

قال الحافظ: وذكر لنا بعض الناس أن الطيبيّ أفاد أن الحديث إنما لم يُذكر فيه الجدال كما ذُكر في الآية على طريقة الاكتفاء بذكر البعض، وترك ما دلّ عليه ما ذُكر.

ويحتمل أن يقال: إن ذلك يختلف بالقصد؛ لأن وجوده لا يؤثّر في ترك مغفرة ذنوب الحاجّ إذا كان المراد به المجادلة في أحكام الحجّ فيما يظهر من الأدلّة، أو المجادلة بطريق التعميم، فلا يؤثّر أيضًا، فإن الفاحش منها داخل في عموم الرفث، والحسن منها ظاهر في عدم التأثير، والمستوي الطرفين لا يؤثّر أيضًا انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -42627 - وفي "الكبرى" 4/ 3606. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1521 و 1819 و 1820 (م) 1350 (ت) في "الحجّ" 811 (ق) في "المناسك" 2889 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7096 و 7334 و 9056 و 9904 و 10037 (الدارمي) في "المناسك" 1796. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل الحجّ (ومنها): أن الحجّ المستوفي للشروط المذكورة في هذا الحديث مكفّرٌ للذنوب، كبائرها، وصغائرها (ومنها): أن الفسوق، وإن كانت ممنوعة في جميع حالات العبد، إلا أن ذلك يتأكّد في حالة الحجّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2628 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنْ حَبِيبٍ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَمْرَةَ - عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، قَالَتْ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا

(1)

- "الفتح" ج 4ص 158.

ص: 317

رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَخْرُجُ، فَنُجَاهِدَ مَعَكَ؟ ، فَإِنِّي لَا أَرَى عَمَلاً فِي الْقُرْآنِ، أَفْضَلَ مِنَ الْجِهَادِ، قَالَ:«لَا وَلَكُنَّ أَحْسَنُ الْجِهَادِ، وَأَجْمَلُهُ حَجُّ الْبَيْتِ، حَجٌّ مَبْرُورٌ» ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) بن راهويه المروزي، نزيل نيسابور، ثقة ثبت إمام [10] 2/ 2.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبي، أبو عبد اللَّه الكوفي، نزيل الري وقاضيها، ثقة ثبت صحيح الكتاب [8] 2/ 2.

3 -

(حبيب بن أبي عمرة) القَصّاب، بيّاع القصب، ويقال: اللحّام، أبي عبد اللَّه الِحمّانيّ -بكسر المهملة- مولاهم، الكوفيّ، ثقة [6].

قال يحيى بن المغيرة الرازيّ، عن جرير بن عبد الحميد: كان ثقة، وكان من اللحّامين. وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال أحمد: شيخٌ ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث.

وقال البخاريّ، عن عليّ: له نحو خمسة عشر حديثًا. مات سنة (142). روى له الجماعة، سوى أبي داود، فروى له في "الناسخ والمنسوخ". وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم 2628 و 5548 وأعاده برقم 5549 وحديث 5559 وحديث 5575 وأعاده برقم 5576.

4 -

(عائشة بنت طدحة) بن عبيد اللَّه التمية، عمران، كانت فائقة الجمال، ثقة [3] 56/ 1947.

5 -

(عائشة أم المؤمنين) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله رجال الجماعة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ بتتِ طَلْحَةَ) بن عبيد اللَّه التيميّة أنها (قَالَتْ: أَخبَرَتْنِي أُمُ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَخْرُجُ) أي إلى الجهاد (فَنُجَاهِدَ مَعَكَ؟) بالنصب بـ "أن" مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية في جواب العرض، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَابٍ نَفْيٍ أَو طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

(فَإنَّي لَا أَرَى عَمَلاً فِي القُرآنِ، أَفْضَلَ مِنَ الْجِهَادِ) أي لكثرة ما يُذكر فيه من الثواب

ص: 318

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا) أي لا تخرجن معي إلى الجهاد، وإن كان فضله أكثر من غيره من الأعمال؛ لأن ذلك في حقّ الرجال، لا في حقّكنّ.

(وَلَكُنَّ أَفضلُ الْجِهَادِ) وفي نسخة: "أحسن الجهاد". قال في "الفتح": اختلف في ضبط "لكن"، فالأكثر بضم الكاف خطابًا للنسوة. قال القابسيّ: وهو الذي تميل إليه نفسي. وفي رواية الحمّويّ: "لَكِن" بكسر الكاف، وزيادة ألف قبلها، بلفظ الاستدراك، والأول أكثر فائدة؛ لأنه يشتمل على إثبات فضل الحجّ، وعلى جواب سؤالها عن الجهاد، وسمّاه جهادًا؛ لما فيه من مجاهدة النفس.

فقوله: "لكنّ" على الأول جارّ ومجرور خبر مقدّم، و"أفضل الجهاد" مبتدأ مؤخّر، و (أجمله) عطف عليه، وعلى الثاني فهو بتخفيف النون، أو تشديدها حرف استدراك، و"أفضل" مبتدأ خبره قوله (حَجُّ الْبَيْتِ) وقوله (حَجُّ مَبْرُورٌ) بدل منه.

والحديث أخرجه البخاريُّ بألفاظ، ففي "باب جهاد النساء"، من "كتاب الجهاد والسير": قالت استأذنت النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال:"جهادكنّ الحجّ". وفي رواية له في الباب المذكور: سأله أزواجه عن الجهاد؟، فقال:"نعم الجهاد الحجّ". ورواه في "باب فضل الحجّ المبرور" من أوائل "كتاب الحجّ"، وأول "الجهاد" بلفظ: قالت: يا رسول اللَّه نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال:"لكن أفضل الجهاد حجّ مبرور"، ورواه بنحوه أيضًا في "باب حجّ النساء"، وزاد:"فقالت عائشة: فلا أدع الحجّ بعد إذ سمعت هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". وراه ابن ماجه بلفظ: قلت: يا رسول اللَّه على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه، الحجّ والعمرة". وفي رواية للبيهقيّ: قالت: استأذنه نساؤه في الجهاد، فقال صلى الله عليه وسلم:"يكفيكنّ الحجّ، أو جهادكنّ الحجّ".

قال ابن بطّال: دلّ حديث عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء، وأنهنّ غير داخلات في قوله تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]، وهو إجماع، ولكن ليس في قوله:" جهادكنّ الحجّ" أنه ليس لهنّ أن يتطوّعن بالجهاد، وإنما فيه أن الحجّ أفضل لهنّ، وإنما لم يكن الجهاد عليهنّ واجبًا؛ لما فيه من مغايرة المطلوب منهنّ من الستر، ومجانبة الرجال، والحجُّ يمكنهنّ فيه مجانبة الرجال، والاستتار، فلذلك كان الحجّ أفضل لهنّ من الجهاد.

قال: وزعم بعض من ينتقص عائشة في قصّة الجمل أن قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] يقتضي تحريم السفر عليهنّ. قال: وهذا الحديث يردّ عليهم؛ لأنه قال: "لكن أفضل الجهاد"، فدلّ على أن لهنّ جهادًا غير الحجّ، والحج أفضل منه انتهى.

قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "لا" في جواب قولهنّ "ألا نخرج، فنجاهد معك؟ " أي ليس واجبًا عليكنّ، كما وجب على الرجال، ولم يرد بذلك تحريمه

ص: 319

عليهنّ، فقد ثبت في حديث أم عطيّة أنهنّ كنّ يخرجن، فيداوين الجرحى.

وفهمت عائشة، ومن وافقها من هذا الترغيب في الحجّ إباحة تكريره كما أبيح للرجال تكرير الجهاد، وخصّ به عموم قوله في حديث أبي واقد عند أحمد، وأبي داود، وغيرهما:"هذه، ثم ظهور الحُصُر"، وقوله تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ، وكان عمر متوقّفًا في ذلك، ثم ظهر له قوّة دليلها، فأذن لهنّ في آخر خلافته، ثم كان عثمان بعدُ يحجّ بهنّ في خلافته أيضًا، وقد وقف بعضهنّ عند ظاهر النهي.

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أبي واقد الليثيّ المشار إليه أخرجه أحمد، وغيره، ونصه عند أحمد:

حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن واقد بن أبي واقد الليثي، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لنسائه، في حجته:"هذه، ثم ظُهُور الْحُصُر"

(2)

.

وأخرجه أيضًا من طريق صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال لنسائه، عام حجة الوداع:"هذه، ثم ظهور الحصر، قال: فكن كلهن يحججن، إلا زينب بنت جحش، وسودة بنت زمعة، وكانتا تقولان: واللَّه لا تحركنا دابة، بعد أن سمعنا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: قالتا: واللَّه لا تحركنا دابة، بعد قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هذه، ثم ظهور الحصر" انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 4/ 2628 - وفي "الكبرى" 4/ 3607. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1520 و 1861 (ق) في "المناسك" 2901. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(ومنها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل الحجّ (ومنها): أن الحجّ للنساء أفضل من الجهاد في سبيل اللَّه تعالى (ومنها): ما قاله البيهقيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا دليل على أن المراد بحيث أبي واقد - رضي اللَّه تعالى عنه -يعني قوله: "هذه، ثم ظهور الحصر"- وجوب الحجّ عليهنّ مرّة واحدة كما بيّن وجوبه على الرجال مرّة، لا المنع من

(1)

- "فتح" ج 4ص 555 - 556.

(2)

حديث حسن.

ص: 320

الزيادة انتهى (ومنها): أن الأمر بالقرار في البيوت في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ليس على سبيل الوجوب. كذا قيل، لكن الذي يظهر أن الأمر للوجوب، لكن المراد به عدم الخروج متبرجات تبرج الجاهليّة، بدليل قوله:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} ، فإذا خرجن محتجبات، غير متبرّجات بزينتهنّ، فلا منع عليهنّ. واللَّه تعالى أعلم. (ومنها): أنه يدلّ على جواز خروجهن للجهاد مع محارمهنّ؛ لقوله: "لكنّ أفضل الجهاد"، فإنه يدلّ على جواز الجهاد لهن، لأن ثبوت الأفضليّة للشيء على الشيء يستلزم ثبوت الفضل لعكسه. ويؤيّد ذلك حديث أم عطيّة - رضي اللَّه تعالى عنها - المتّفق عليه:"كنا نُداوي الكَلْمَى، ونقوم على المرضى". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌5 - (فَضْلِ الْعُمْرَةِ)

2629 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،،، بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،،، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ، لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفق عليه، وقد تقدّم للمصنّف قبل باب -3/ 2622 - وقد استوفيت شرحه، والكلام على مسائله هناك، وباللَه تعالى التوفيق.

ودلالته على الترجمة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌6 - (فَضْلِ الْمُتَابَعَةِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ)

2630 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَتَّابٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ،

ص: 321

فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه أبي داود سليمان بن سيف الحرّانيّ، فإنه من أفراده، وهو ثقة حافظ [11] 103/ 136. وكلهم تقدّموا غير:

1 -

(عزرة بن ثابت) بن أبي زيد بن أخطب الأنصاريّ البصريّ، ثقة [7].

قال ابن معين، وأبو داود، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: ثقة متقنٌ. وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به. روى له الجماعة، سوى أبي داود، فروى له في "القدر" وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم 2630 و 5242 و 5258 ..

و"أبو عتّاب": هو سهل بن حمّاد الدّلّال البصريّ، صدوق. [9] 103/ 136. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ) أبي محمد الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم المكيّ الثقة الثبت [4] 112/ 154 أنه (قَالَ: قَالَ ابْنُ عَباسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ" أي أوقعوا المتابعة بينهما، بأن تجعلوا كُلاًّ منهما تابعًا للآخر.

وقال السنديّ: أي اجعلوا أحدهما تابعاً للآخر واقعًا على عقبه، أي إذا حججتم، فاعتمروا، وإذا اعتمرتم، فحُجُّوا، فإنهما متتابعان

(1)

.

وقال الحفنيّ: أي ائتوا بهما متتابعين من غير طول فصل جدًّا، وليس المراد بالمتابعة تعاقبهما من غير فاصل، بل المراد كون الثاني بعد الأول بدون فاصل كبير، بحيث يُنسب للأول عرفًا.

وقال المحبّ الطبريّ: يجوز أن يراد به التتابع المشار إليه في قوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} ، فيأتّى بكلّ من النسكين عقب الآخر، بحيث لا يتخلّل بينهما زمان يصحّ إيقاع الثاني فيه، وهو الظاهر من لفظ المتابعة.

ويحتمل أن يراد إتباع أحدهما الآخرَ، ولو تخلّل بينهما زمان، بحيث يظهر مع ذلك الاهتمامُ بهما، ويُطلق عليه عرفًا أنه رَدِفَه، وتَبِعه. وهذا الاحتمال أظهر؛ إذ القصد الاهتمام بهما، وعدم الإهمال، وذلك يحصل بما ذكرناه، وسواء تقدّمت العمرة، أو تأخّرت؛ لأن اللفظ يصدق على الحالين انتهى

(2)

.

(1)

-"شرح السنديّ" ج 5ص 115.

(2)

-راجع "المرعاة" ج 9ص 389.

ص: 322

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاحتمال الثاني هو الأرجح عندي، كما استظهره المحب الطبري -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم.

(فَإنَّهُمَا) أي الحجّ والعمرة المتتابعين (يَنْفِيَانِ الفَقْرَ) أي يزيلان الفقر الظاهر بحصول غنى اَليد، والفقر الباطن بحصول غنى القلب (وَالذنُوبَ) أي يمحوانه، وفي حديث عامر بن ربيعة عند أحمد:"فإن متابعةٌ بينهما تنفي الفقر والذنوب"، وفي سنده عاصم ابن عبيد اللَّه، وهو ضعيف. وفي أخرى له، وللطبرانيّ في "الكبير":"فإن متابعة بينهما تزيد في العمر، والرزق، وتنفيان الفقر، والذنوب"، وفي السند عاصم المذكور أيضًا.

قيل: المراد بالذنوب الصغائر، لكن يأباه قوله (كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ) بكسر الكاف: زِقٌّ، أو جلد غليظ ذوحافات. وقال ابن سيده: الكبير: الزقّ الذي ينفخ فيه الحدَّاد، والجمع أَكْيار، وكِيَرة. أفاده في "اللسان".

وقال في "المرعاة": هو ما يَنفُخُ فيه الحدّاد من الزّقّ، أو الجلد؛ لإشعال النار للتصفية، وأما الموضع الذي يوقد فيه الفحم من حانوت الحدّاد فهو الكُور بضم الكاف. وقيل: بالعكس. وقيل: لا فرق بينهما

(1)

وقال السنديّ: كِير الحدّاد المبنيّ من الطين. وقيل: زقّ ينفخ به النار، فالمبنيّ من الطين كُور. والظاهر أن المراد ههنا نفس النار على الأول، ونفخها على الثاني انتهى

(2)

(خَبَثَ الْحَدِيدِ) بفتحتين، ويُروى بضمّ، فسكون: هو الوسخ، والرديء الخبيث. وفي حديث ابن مسعود الآتي بعد هذا:"كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضّة".

شبّه متابعة الحجّ والعمرة في إزالة الذنوب بإزالة النار خبث الحديد؛ لأن الإنسان مركوز في جِبلّته القوّة الشهويّة، والغضبيّة، محتاج لرياضةٍ تزيلها، والحجُّ جامع لأنواع الرياضات، مَن إنفاق المال، وجهد النفس بالجوع، والظمأ، والسهر، واقتحام المهالك، ومفارقة الوطن، ومهاجرة الإخوان، والخلاّن، وغير ذلك.

والحديث استدلّ به من قال بوجوب العمرة، فإن ظاهره التسوية بينهما. وفيه أن هذا استدلال بمجرّد اقتران العمرة بالحجّ، وهو لا يكون دليلاً على وجوبها، لما تقرّر في الأصول من ضعف دلالة الاقتران.

لكن تقدّم أن أدلّة وجوب العمرة أقوى، فالقول بوجوبها هو الأرجح، فراجع ما تقدّم في باب "وجوب العمرة" -2/ 2621 - . واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا

(1)

- راجع "المرعاة" ج 9 ص 390.

(2)

- "شرح السنديّ" ج 5 ص 115.

ص: 323

صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا -6/ 2630 - وفي "الكبرى" 5/ 3609. وفوائده تأتي في مسائل الحديث التالي، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2631 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، أَبُو خَالِدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجِّ الْمَبْرُورِ ثَوَابٌ دُونَ الْجَنَّةِ»).

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، "محمد بن يحيى بن أيوب" بن إبراهيم الثقفيّ، أبي يحيى المروزيّ القصريّ المعلّم، ثقة حافظ [10] 162/ 254، فقد انفرد به هو والترمذيّ.

و"سليمان بن حيّان، أبو خالد": هو الأحمر الكوفيّ، صدوق يخطئ [8] 30/ 921.

و"عمرو بن قيس": هو المُلائيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة متقن عابد [6] 92/ 1349.

و"عاصم": هو ابن بَهْدَلة، المعروف بابن أبي النَّجُود المقرئ المشهور الكوفيّ، صدوق له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في "الصحيحين" مقرون بغيره [6] 20/ 1221.

و"شقيق": هو ابن سلمة أبو وائل التابعي الكبير الحجة المشهور.

و"عبد اللَّه": هو ابن مسعود الصحابيّ الجديل - رضي اللَّه تعالى عنه -.

وشرح الحديث تقدّم في الذي قبله.

وقوله: "وليس للحج المبرور ثواب دون الجنّة" -أي سوى الجنّة- تقدّم شرحه في -3/ 2622 - فراجعه تستفد، واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 6/ 2631 - وفي "الكبرى" 6/ 3610. وأخرجه (ت) في "الحجّ" 810 (أحمد) في "مسند المكثرين" 3660. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو فضل المتابعة بين الحجّ والعمرة (ومنها): أن المتابعة بينهما سبب لإزالة الفقر الظاهر والباطن (ومنها): أنه سبب

ص: 324

لمحو الذنوب جميعًا (ومنها): جواز تشبيه الشيء الغائب المعقول بالشاهد المحسوس؛ زيادة في البيان والتوضيح (ومنها): بيان فضل الحجّ المبرور، وهو دخول الجنّة، وهو الفوز العظيم، {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} اللهم اجعلنا ممن يفوز بدخول الجنّة برحمتك يا أرحم الراحمين آمين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌7 - باب الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ الَّذِي نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ

2632 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَمَاتَتْ، فَأَتَى أَخُوهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ؟ ، فَقَالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُخْتِكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاقْضُوا اللَّهَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن بشار) بُنْدَار، أبو بكر العبدي البصري، ثقة حافظ [10] 24/ 27.

2 -

(محمد) بن جعفر غُنْدَر، أبو عبد اللَّه البصري، ثقة صحيح الكتاب [9] 21/ 22.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 24/ 27.

4 -

(أبو بشر) جعفر بن أبي وحشية إياس البصري، ثم الواسطي، ثقة من أثبت الناس في سعيد بن جبير [5] 13/ 520.

5 -

(سعيد بن جبير) الأسديّ مولاهم الكوفي، ثقة ثبت فقيه [3] 28/ 436.

6 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر الحبر رضي الله عنهما 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، وأن فيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه ابن عباس رضي الله عنهما من المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 325

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ امْرَأَة نَذَرَتْ أَنْ تحُجَّ) ولفظ البخاريّ في "الأيمان والنذور" من رواية آدم بن أبي إياس، عن شعبة: "أتى رجلٌ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أختي تذرت أن تحجّ، وإنها ماتت

". هكذا رواية شعبة، عن أبي بشر أن السائل رجل، وأن التي نذرت أخته، وخالفه في ذلك أبو عوانة، عن أبي بشر، فجعل السائلة امرأة من جهينة، والتي نذرت أمها، ولفظه عند البخاريّ في "الحجّ": "أن امرأة من جهينة، جاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحجّ، فلم تحجّ حتى ماتت، أفاحجّ عنها؟

".

قال في "الفتح": كذا رواه أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، من رواية أبي عوانة، عنه، وسيأتي في "النذور" من طريق شعبة، عن أبي بشر، بلفظ:"أتى رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن أختي نذرت أن تحجّ، وأنها ماتت"، فإن كان محفوظًا احتمل أن يكون كلٌّ منهما سأل، الأخ سأل عن أخته، والبنت سألت عن أمها، وثبت في "الصيام" من طريق أخرى عن سعيد بن جبير، بلفظ: "قالت امرأة: إن أمي ماتت، وعليها صوم شهر

". قال: وزعم بعض المخالفين أنه اضطرابٌ، يُعَلّ به الحديث، وليس كما قال، فإنه محمولٌ على أن المرأة سألت عن كلّ من الصوم، والحجّ،، ويدلّ عليه ما رواه مسلم عن بُريدة: أن امرأة قالت: يا رسول اللَّه إني تصدّقت على أمي بجارية، وإنها ماتت؟، قال: "وجب أجرك، وردّها عليك الميراث"، قالت: إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟، قال: "صومي عنها"، قالت: إنها لم تحجّ، أفأحجّ عنها؟، قال: "حجي عنها".

وللسؤال عن قلّة الحجّ من حديث ابن عبّاس أصلٌ آخر، أخرجه النسائيّ، من طريق سليمان بن يسار، عنه. -يعني الحديث الثاني في الباب التالي-. وله شاهد من حديث أنس، عند البزّار، والطبرانيّ، والدارقطنيّ انتهى ما في "الفتح" ببعض تصرّف

(1)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح" عند قوله: "أن امرأة من جهينة": ما نصّه: لم أقف على اسمها، ولا على اسم أبيها، لكن روى ابن وهب، عن عثمان بن عطاء الخراسانيّ، عن أبيه: أن غايثة، أو غاثية، أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي ماتت، وعليها نذر أن تمشي إلى الكعبة، فقال:"اقض عنها". أخرجه ابن منده في حرف الغين المعجمة من الصحابيّات، وتردّد هل هي بتقديم المثناة التحتانيّة على المثلّثة، أو بالعكس. وجزم ابن

(1)

- "الفتح" ج 4 ص 544.

ص: 326

طاهر في "المبهمات" بأنه اسم الجهنيّة المذكورة في حديث الباب.

وقد روى النسائيّ، وابن خزيمة، وأحمد من طريق موسى بن سلمة الْهُذليّ، عن ابن عباس، قال: "أمرت امرأة سنان بن عبد اللَّه الجهنيّ أن يسال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أمها توفيت، ولم تحُجّ

" الحديث، لفظ أحمد. ووقع عند النسائيّ "سنان بن سلمة"، والأول أصحّ. وهذا لا يفسّر به المبهم في حديث الباب أن المرأة سألت بنفسها، وفي هذا أن زوجها سأل لها. ويمكن الجمع بأن يكون نسبة السؤال إليها مجازيّة، وإنما الذي تولّى لها السؤال زوجها، وغايته أنه في هذه الرواية لم يصرّح بأن الحجة المسؤول عنها كانت نذرًا.

وأما ما روى ابن ماجه من طريق محمد بن كريب، عن أبيه، عن ابن عبّاس، عن سنان بن عبد اللَّه الجهنيّ أن عمّته حدّثته أنها أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي توفّيت، وعليها مشي إلى الكعبة نذرًا

" الحديث. فإن كان محفوظًا حُمل على واقعتين بأن تكون امرأته سألت على لسانه عن حجة أمها المفروضة، وباْن تكون عمته سألت بنفسها عن حجة أمها المنذورة، ويفسّر من في حديث الباب بأنها عمة سنان، واسمها غايثة، كما تقدّم، ولم تسمّ المرأة، ولا العمّة، ولا أمّ واحدة منهما انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر تصرف المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أنه يرى تعدد القصّتين، حيث ترجم بقوله:"الحجّ عن الميت الذي نذر أن يحجّ"، وأورد حديث ابن عناس في قصّة المرأة التي نذرت، ثم ترجم بقوله:"الحجّ عن الذي لم يحجّ"، فأورد حديثه في التي ماتت، ولم تحُجّ"، فجعل الباب الأول للحجّ عمن مات بعد النذر، والباب الثاني عمن مات، ولم ينذر، وصنيعه هو الظاهر. والحاصل أن القصّتين مختلفتان، ولا مانع من ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

(فَمَاتَتْ، فَاتى أخُوهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَألَهُ) أشار الحافظ إلى ترجيح كون السائل امرأة، في "كتاب الأيمان والنذور" من "الفتح"، فراجعه في 13/ 445. واللَّه تعالى أعلم.

(عَنْ ذلِكَ؟) أي عن قضاء ما نذرت به، وماتت قبل الوفاء بنذهار (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُخْتِكَ دَيْنٌ) فيه مشروعية القياس، وضرب المثل؛ ليكون أوضح، وأوقع في نفس السامع، وأقرب إلى سرعة فهمه (أكُنْتَ قَاضِيَهُ؟) أي الدين (قَالَ) الرجل (نَعَمْ)

(1)

- "فتح" ج 4 ص 543 - 544.

ص: 327

أي أقضيه (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَاقْضُوا اللَّه) أي أدّوا إليه ما وجب علكيم من حقّه (فَهُوَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ) الفاء تعليليّة؛ لأنه أحقّ بالوفاء من غيره.

قال الطيبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: في الحديث إشعارٌ بأن المسؤول عنه خلف مالاً، فأخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم -أن حقّ اللَّه مقدّم على حقّ العباد، وأوجب عليه الحجّ عنه، والجامع علّة المالية.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ولم يتحتّم في الجواب المذكور أن يكون خلف مالاً كما زعم؛ لأن قوله: "أكنت قاضيه" أعمّ من أن يكون المراد مما خلفه، أو تبرّعًا

انتهى

(1)

. وهو تعقُّبٌ جيّد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-7/ 2632 و 8/ 2633 - وفي "الكبرى" 7/ 3612 و 8/ 3613. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1852 و"الأيمان والنذور" 6699 و"الاعتصام بالكتاب والسنّة" 7315 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 2141 و 2514. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز الحجّ عن الميت الذي نذر أن يحجّ، ثم مات قبل الوفاء بنذره، وفيه اختلاف بين أهل العلم، فروى سعيد بن منصور وغيره، عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - بإسناد صحيح: لا يحجّ أحد عن أحد، ونحوه عن مالك، والليث، وعن مالك أيضًا إن أوصى بذلك، فليحجّ عنه، وإلا فلا، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى.

(ومنها): صحّة نذر الحجّ ممن لم يحجّ، فإذا حجّ أجزأه عن حجة الإسلام عند الجمهور، وعليه الحجّ عن النذر. وقيل: يجزئ عن النذر، ويحجّ حجة الإسلام. وقيل: يُجزىء عنهما

(2)

.

(ومنها): إثبات القياس (ومنها): تشبيه ما اختُلف فيه، وأشكل بما اتُّفِقَ عليه

(1)

- "فتح" ج 4 ص 545.

(2)

- "فتح" ج 4 ص 544.

ص: 328

(ومنها): أنه يستحبّ للمفتي التنبيه على وجه الدليل، إذا ترتّب على ذلك مصلحة، وهو أطيب لنفس المستفتي، وأدعى لإذعانه (ومنها): أن وفاء الدين الماليّ كان معلومًا عندهم، مقرّرًا، ولهذا حَسُن الإلحاق به (ومنها): أن من مات، وعليه حجّ وجب على وليّه أن يجهّز من يحُجّ عنه من رأس ماله، كما أن عليه قضاء ديونه، فقد أجمعوا على أن دين الآدميّ من رأس المال، فكذلك ما شُبّه به في القضاء. ويلتحق بالحجّ كلّ حقّ ثبت في ذمّته، من كفّارة، أو نذر، أو زكاة، أو غير ذلك (ومنها): أن في قوله: "فاللَّه أحقّ بالوفاء" دليلٌ على أنه مقدّم على دين الآدميّ، وهو أحد أقوال الشافعيّ. وقيل: بالعكس. وقيل: هما سواء.

(ومنها): أن الحديث دليلٌ لقول الجمهور بأن من ترك الصلاة عامدًا يجب عليه قضاؤها، ووجه ذلك أن ذلك التارك عليه دين للَّه تعالى، يطالبه به، ويعاقبه عليه، فإذا كان دينًا وجب الوفاء به، كسائر الديون التي تلزمه للآدمين، كما إذا أتلف مالاً، أو غصب، أو أودعه شخصٌ، فأفرط فيه، ونحو ذلك، بل هذا ألزم بالوفاء، لصريح قوله صلى الله عليه وسلم:"فاللَّه أحقّ بالوفاء"، وفي رواية أخرى:"فدين اللَّه أحقّ بالوفاء".

والحاصل أن وجوب قضاء الصلاة على من تركها عامدًا هو الأرجح، وقد تقدّم تمام البحث فيه في "كتاب الصلاة" في باب "فيمن نسي صلاة" -52/ 613 - فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الحجّ عن الميت:

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح المهذب": مذهب الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- المشهور أنه إذا مات، وعليه حجّ الإسلام، أو قضاء، أو نذر، وجب قضاؤها من تركته، أوصى بها، أم لم يوص. قال ابن المنذر: وبه قال عطاء، وابن سيرين، وروي عن أبي هريرة، وابن عبّاس، وهو قول أبي حنيفة، وأبي ثور، وابن المنذر.

وقال النخعيّ، وابن أبي ذئب: لا يحُجّ أحدٌ عن أحد. وقال مالك: إذا لم يوص به يتطوّع عنه بغير الحجّ، ويُهدى عنه، أو يتصدّق، أو يُعتق عنه انتهى كلام النوويّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المذهب الأول هو الأرحج؛ لقوّة دليله، كحديث الباب، وغيره. وقد تكلّم ابن حزم في هذه المسألة، ورجّح القول بالوجوب، وفنّد

(1)

- راجع "المجموع" ج 7 ص 101.

ص: 329

القول الثاني بما لا تراه في كتب غيره، فراجع "المحلّى" -7/ 53 - 62. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌8 - باب الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يَحُجَّ

2633 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنِي

(1)

مُوسَى بْنُ سَلَمَةَ الْهُذَلِيُّ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَتِ امْرَأَةُ سِنَانَ بْنِ سَلَمَةَ الْجُهَنِيِّ، أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ، وَلَمْ تَحُجَّ، أَفَيُجْزِئُ عَنْ أُمِّهَا، أَنْ تَحُجَّ عَنْهَا؟ ، قَالَ:«نَعَمْ، لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّهَا دَيْنٌ، فَقَضَتْهُ عَنْهَا، أَلَمْ يَكُنْ يُجْزِئُ عَنْهَا؟ ، فَلْتَحُجَّ عَنْ أُمِّهَا» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه "عمران بن موسى" القزّاز البصريّ، وهو ثقة، فإنه من رجال الأربعة، غير أبي داود.

و"عبدُ الوارث": هو ابن سعيد البصريّ. و"أبو التيّاح": هو يزيد بن حُميد الضُّبَعيّ البصريّ. و"موسى بن سلمة الْهُذليّ": هو البصريّ الثقة [4] 2/ 1443. والسند مسلسل بالبصريين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، أبو التيّاح، عن موسى بن سلمة.

[تنبيه]: قوله: "امرأة سنان بن سلمة الجهنيّ"، هكذا هو في رواية المصنّف هنا، وفي "الكبرى"، وهو غلط، والصواب:"سنان بن عبد اللَّه الجهنيّ"، كما هو عند أحمد، وابن خزيمة، ولفظ أحمد في "مسنده":

2514 -

حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا أبو التَّيَّاح، عن موسى بن سلمة، قال: حججت أنا، وسنان بن سلمة، ومع سنان بدنة، فأَزْحَفَت عليه، فَعَيَّ بشأنها، فقلت: لئن قدمت مكة، لأستَبحِثَنَّ عن هذا، قال: فلما قدمنا مكة، قلت: انطلق بنا إلى ابن عباس، فدخلنا عليه، وعنده جارية، وكان لي حاجتان، ولصاحبي

(1)

- وفي نسخة: "حدثنا".

ص: 330

حاجة، فقال: ألا أُخليك، قلت: لا، فقلت: كانت معي بدنة، فأَزحَفت علينا، فقلت: لئن قدمت مكة، لأستبحثن عن هذا، فقال ابن عباس: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالبدن، مع فلان، وأمره فيها بأمره، فلما قَفّا رجع، فقال: يا رسول اللَّه، ما أصنع بما أَزحف علي منها؟، قال: انحرها، واصبُغْ نعلها في دمها، واضربه على صفحتها، ولا تأكل منها أنت، ولا أحد من رفقتك"، قال: فقلت له: أكون في هذه المغازي، فأغنم، فأعتق عن أمي، أفيجزئ عنها أن أعتق؟، فقال ابن عباس: أمرت امرأة سنان

(1)

بن عبد اللَّه الجهني، أن يسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، عن أمها توفيت، ولم تحجج، أيجزئ عنها أن تحج عنها؟، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أرأيت لو كان على أمها دين، فقضته عنها، أكان يجزئ عن أمها؟ "، قال: نعم، قال:"فلتحجّ عن أمها"، وسأله عن ماء البحر؟، فقال:"ماء البحر طهور".

وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" مختصرًا بنحوه.

ولعله وقع في رواية المصنّف اشتباه سنان بن سلمة الذي انطلق مع موسى بن سلمة إلى ابن عبّاس، ليسأله، عن إزحاف بدنته، بسنان بن عبد اللَّه الجهني الذي سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم لامرأته، فوقع التصحيف، ولا سيّما مع عدم ذكر المصنف قصّة انطلاق الأول إلى ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

والحاصل أن سنان بن سلمة هو الذي انطلق مع موسى بن سلمة الجهني إلى ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، ليسأله عن إزحاف بدنته، والذي سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم لامرأته عن أمها التي ماتت، ولم تحجّ، هو سنان بن عبد اللَّه الجهنيّ، وقد نبّه الحافظ على ذلك في كلامه الذي قدّمناه عن "الفتح"، حيث قال: ووقع عند النسائيّ: سنان بن سلمة، والأول أصحّ انتهى، فتفطّن لهذا التنبيه، فإنه دقيق.

وشرح الحديث يعلم مما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في ببان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

(1)

- وقع في النسخة المطبوعة من المسند "سلمان بن عبد اللَّه"، والصواب "سنان بن عبد اللَّه، كما هو في "إطراف المسنِد المعتلي بأطراف مسند الحنبلي" للحافظ ابن حجر ج 3 ص 277. وهو الموافق لما "صحيح ابن خزيمة" ج 4 ص 343. واللَّه أعلم.

ص: 331

أخرجه هنا -8/ 2633 - وفي "الكبرى" 8/ 3613. وأخرجه (أحمد) 2514 (ابن خزيمة) 3034. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2634 -

(أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَكِيمٍ الأَوْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِيهَا مَاتَ، وَلَمْ يَحُجَّ؟ ، قَالَ: «حُجِّى عَنْ أَبِيكِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الحديث رجال الصحيح، غير شيخه "عثمان بن عبد اللَّه" بن محمد بن خُرَّزاد، أبي عمرو الشاميّ، ثقة، من صغار [11] 112/ 155. فإنه من أفراد المصنّف. و"عليّ بن حكيم"، فقد انفرد به هو، ومسلم. وكلهم تقدّموا، غير واحد، وهو:

1 -

(عليّ بن حكيم) بن ذُبيان -بمعجمة، بعدها موحّدة ساكنة، ثم تحتانيّة- الأوديّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقة [10].

قال ابن الجنيد، عن ابن معين: ثقة، ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال الآجريّ، عن أبي داود: صدوق، خرج مع أبي السرايا. وقال ابن قانع: كان ثقة صالحاً. وقال النسائيّ، ومحمد بن عبد اللَّه الحضرميّ: ثقة، مات سنة (231) في رمضان.

روى عنه البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم حديثين، وروى له المصنّف، حديث الباب فقط.

و"حميد بن عبد الرحمن الرُّؤاسيّ": هو أبو عوف الكوفيّ، ثقة [8] 2/ 497.

وفي السند ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم، عن بعض: أيوب، عن الزهريّ، عن سليمان بن يسار. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَباسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ امْرَأَةَ) الظاهر أن هذه المرأة غير امرأة سنان عبد اللَّه الجهنيّ السابقة، فإنها سألت عن أمها، وهذه سألت عن أبيها. واللَّه تعالى أعلم (سَألَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِيهَا) أي عن حكم الحجّ عن أبيها، وقوله (مَاتَ) جملة في محلّ نصب على الحال، وكذا قوله (وَلَمْ يَحُجَّ؟، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (حُجَّي عَنْ أَبِيكِ) فيه جواز حجّ المرأة عن الرجل، كعكسه المتقدّم في الباب الماضي، وسيأتي في باب مفرد، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان،

ص: 332

وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا صحيح الإسناد، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا -8/ 2634 - وفي "الكبرى" 8/ 3614. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: ظاهر صنيع المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أن هذا الحديث غير الحديث الآتي في الباب التالي، حيث أورده تحت ترجمة "الحجّ عن الميت الذي لم يحجّ"، وأورد الثاني تحت ترجمة "الحجّ عن الحيّ الذي لا يستمسك على الرحل"، فقول الشيخ الألباني في "صحيح النسائيّ" جـ 2/ 559: وهو مختصر الحديث الآتي. فيه نظر، لا يخفى، لأمرين:

(الأول): أن سياقه مختلف، فإن سؤال المرأة هنا عن أبيها مات، ولم يحجّ، وهناك عن أبيها الحيّ الذي لا يستطيع الحج.

(الثاني): صنيع المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، كما بينته آنفاً.

وقد أشار الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "النكت الظراف" إلى هذا الاختلاف، وأنهما قضيّتان، غير أنه قال:"عن أمها ماتت الخ"، ولعله وقع له هكذا في نسخته، ونصّ كلامه:

"حديث: كان الفضل رديف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة، من خثعم، فقالت: إن فريضة اللَّه في الحجّ أدركت أبي شيخًا كبيرا

إلى أن قال: سمعنا عن عثمان بن عبد اللَّه، عن عليّ بن حكيم، عن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسيّ، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن الزهريّ نحوه.

قلت: حديث أيوب هذا حديث آخر، لا يطابق الأول، لا في لفظه، ولا في معناه، وسياقه هكذا: أن امرأة سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أمها ماتت، ولم تحجّ؟، قال:"حجي عن أمك". قال حمزة الكنانيّ، أحد الرواة عن النسائيّ: هذا حديث غريبٌ، تفرّد به عليّ ابن حكيم. انتهى كلام الحافظ في نكته

(1)

.

والحاصل أن الحديثين مختلفان، فإن كان عليّ بن حكيم حفظه، فهما قصّتان، ويكون الحديث من أفراد المصنّف، كما أسلفته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

(1)

- راجع "النكت الظراف على الأطراف" ج 4 ص 466 - 467.

ص: 333

‌9 - باب الْحَجِّ عَنِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّحْلِ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الرحل" -بفتح، فسكون -: مَرْكبٌ للبعير، كالراحُول، جمعه أرحُلٌ، ورِحَالٌ. ومسكنك، وما تستصحبه من الأثاث. قاله في "القاموس". والمناسب هنا المعنى الأوّل.

وفي "المصباح": الرَّحْلُ: شيء يُعد للرَّحِيل، من وعاء للمتاع، ومَرْكب للبعير، وحِلْسٍ، ورَسَنٍ، وجمعه أرحُلٌ، ورِحَالٌ، مثلُ أَفْلُس، وسِهَام. انتهى.

وفي نسخة: "على الراحلة"، وهي: المركب من الإبل، ذكرًا كان أو أنثى، وبعضهم يقول: الراحلة التي تصلح أن تُرْحَلَ، وجمعها رَوَاحِلُ. قاله في "المصباح" أيضًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2635 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ، سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، غَدَاةَ جَمْعٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، عَلَى عِبَادِهِ، أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّحْلِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ ، قَالَ:«نَعَمْ» .

2636 -

(أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(سعيد بن عبد الرحمن أبو عبيد اللَّه المخزومي) المكي، ثقة، من صغار [10] 41/ 1277.

3 -

(سفيان) بن عيينة الحافط الثبت المكي [8] 1/ 1.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم الإمام الحجة [4] 1/ 1.

5 -

(سليمان بن يسار) الهلالي مولاهم المدني، ثقة فقيه فاضل من كبار [3] 122/ 156.

6 -

(ابن طاوس) هو: عبد اللَّه، أبو محمد اليماني، ثقة فاضل عابد [6] 11/ 514.

7 -

(أبوه) طاوس بن كيسان اليماني أبو عبد الرحمن، ثقة فاضل [3] 27/ 31.

8 -

(ابن عباس) - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 334

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأن رجاله رجال الصحيح غير شيخه الثاني، فقد تفرد به هو والترمذي، وفيه رواية تابعي عن تابعي، ورواية الابن عن أبيه، وفيه سليمان بن يسار أحد الفقهاء السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سُلَيمَانَ بْنِ يَسَارِ) وفي رواية الترمذيّ: حدثني سليمان بن يسار (عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -. وفي رواية للبخاريّ، من طريق شعيب، عن ابن شهاب، أَخبرني سليمان، أخبرني عبد اللَّه بن عباس.

هذه الرواية صريحة في أن هذا الحديث من مسند عبد اللَّه بن عبّاس - رضي اللَّه تعالى - عنهما، وهكذا رواه ابن عيينة هنا، ومالك، في -12/ 2641 - وصالح بن كيسان في 12/ 2642 - كلهم عن الزهريّ، وكذا هو عند أكثر الرواة، عن الزهريّ، عن سليمان، عند الشيخين، وغيرهما.

وخالفهم ابن جريج، عن الزهريّ في "الصحيحين" أيضًا، فقال: عن ابن عبّاس، عن الفضل، أن امرأة، فذكره، فجعله من مسند الفضل، وتابعه معمر.

وروى ابن ماجه من طريق محمد بن كريب، عن أبيه، عن ابن عبّاس، أخبرني حصين بن عوف الخثعميّ، قال: قلت: يا رسول اللَّه، إن أبي أدركه الحجّ، ولا يستطيع أن يحجّ

الحديث. قال الترمذيّ: سالت محمدًا -يعني البخاريّ- عن هذا؟ فقال: أصحّ شيء فيه ما رُوي عن ابن عباس، عن الفضل. قال: فيحتمل أن يكون ابن عبّاس سمعه من الفضل، ومن غيره، ثم رواه بغير واسطة انتهى.

قال الحافظ: وإنما رجّح البخاريّ الرواية عن الفضل؛ لأنه كان رِدْف النبيّ صلى الله عليه وسلم حينئذ، وكان عبد اللَّه بن عبّاس قد تقدّم من المزدلفة إلى منى مع الضَّعَفَة.

وأخرج البخاريّ في "باب التلبية، والتكبير" من طريق عطاء، عن ابن عبّاس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أردف الفضل، فأخبر الفضل أنه لم يزل يُلبّي حتى رمى الجمرة. فكأنّ الفضل حدّث أخاه بما شاهده في تلك الحالة.

ويحتمل أن يكون سؤال الخثعميّة وقع بعد رمي جمرة العقبة، فحضره ابن عبّاس، فنقله تارة عن أخيه؛ لكونه صاحب القصّة، وتارة عما شاهده، ويؤيّد ذلك ما وقع عند الترمذيّ، وأحمد، وابنه عبد اللَّه، والطبريّ، من حديث عليّ مما يدلّ على أن السؤال المذكور وقع عند الْمَنْحَر بعد الفراغ من الرمي، وأن العبّاس كان شاهدًا، ولفظ أحمد عندهم، من طريق عبيد اللَّه بن أبي رافع، عن عليّ رضي الله عنه قال: وقف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعرفة، فقال: "هذا الموقف، وعرفة كلها موقف

"، فذكر الحديث، وفيه: ثم أتى

ص: 335

الْمَنحَر، فقال:"هذا المنحر، ومنى كلّها منحر". قال: واستفتته، وفي رواية ابنه عبد اللَّه: ثم جاءته امرأة شابّةٌ، من خثعم، فقالت: إن أبي شيخ كبيرٌ، قد أفند، وقد أدركته فريضة اللَّه في الحجّ، أفيجزىء عنه أن أدّي عنه؟، قال:"نعم، فأدي عن أبيك"، قال: ولَوَى عنق الفضل، فقال العبّاس: يا رسول اللَّه، لِمَ لويت عنق ابن عمّك؟، قال:"رأيت شابًا، وشابّةٌ، فلم آمن عليهما الشيطان".

وظاهر هذا أن العبّاس كان حاضرًا لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد اللَّه أيضًا كان معه انتهى كلام الحافظ

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الحاصل أن الحديث صحيح من مسند عبد اللَّه بن عباس، ومن مسند الفضل بن عباس رضي الله عنهم، لكن كونه من مسند الفضل أرجح كما قال البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-؛ لأنه صاحب القصّة. واللَّه تعالى أعلم.

(أَنَّ امْرَأَةَ) قال الحافظ: لم تسمّ (من خَثْعَمَ) قال القسطلاّنيّ: -بفتح الخاء المعجمة، وسكون المثلّثة، وفتح العين المهملة- غير مصروف للعلميّة والتأنيث باعتبار القبيلة، لا العلميّة، ووزن الفعل، وهي قبيلة مشهورة، أي من اليمن. وقال السنديّ: غير منصرف للعلميّة ووزن الفعل

(2)

، أو التأنيث؛ لكونه اسم قبيلة.

وقال القاري: أبو قبيلة من اليمن، سمّوا به، ويجوز صرفه، ومنعه. وقال الرزقانيّ: قبيلة مشهورة، سميت باسم جدّها، واسمه أفتل بن أنمار. قال الكلبيّ: إنما سمي خثعم بجمل، يقال له: خثعم. ويقال: إنه لما تحالف ولد أفتل على إخوته نحروا بعيرًا، ثم تخثعموا بدمه، أي تلطّخوا به بلغتهم. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: اتفقت الروايات كلها، عن ابن شهاب على أن السائلة، كانت امرأة، وأنها سألت عن أبيها، وخالفه يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان، فاتفقت الرواة عنه على أن السائل رجل، ثم اختلفوا عليه في إسناده ومتنه:

أما إسناده، فقال هشيم عنه:"عن سليمان، عن عبد اللَّه بن عباس". وقال محمد بن سيرين عنه: "عن سليمان، عن الفضل". أخرجهما المصنّف في -11/ 2640 و 13/ 2643. وقال ابن علية عنه: "عن سليمان، حدّثني أحد ابني العبّاس: إما الفضل، وإما عبد اللَّه". أخرجه أحمد.

وأما المتن، فقال هشيم:"أن رجلا سأل، فقال: إن أبي مات". وقال ابن سيرين: "فجاء رجلٌ، فقال: إن أمي عجوز كبيرة". وقال ابن عُليّة: "فجاء رجلٌ، فقال: إن أبي وأمي".

(1)

- "فتح" ج 4 ص 546.

(2)

- وهكذا أيضًا في شرح السيوطيّ، لكن الظاهر أن منعه للعلميّة والتأنيث.

(3)

- شرح الزرقانيّ ج 2 ص 291.

ص: 336

وخالف الجميع معمرٌ، عن يحيى بن أبي إسحاق، فقال في روايته:"إن امرأة سألت عن أمّها".

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا الاختلاف كلّه عن سليمان بن يسار، فأحببنا أن ننظر في سياق غيره، فإذا كريب قد رواه عن ابن عبّاس، عن حصين بن عوف الخثعميّ، قال:"قلت: يا رسول اللَّه إن أبي أدركه الحجّ". وإذا عطاء الخراسانيّ، قد روى عن أبي الغوث بن حصين الخثعميّ أنه استفتى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن حجة كانت على أبيه". أخرجهما ابن ماجه، والرواية الأولى أقوى إسنادًا، وهذا يوافق رواية هشيم في أن السائل عن ذلك رجل سأل عن أبيه، ويوافقه ما روى الطبرانيّ من طريق عبد اللَّه بن شدّاد، عن الفضل بن عباس "أن رجلاً قال: يا رسول اللَّه، إن أبي شيخ كبير"، ويوافقهما مرسل الحسن، عند ابن خزيمة، فإنه أخرجه من طريق عوف، عن الحسن، قال: "بلغني أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أتاه رجل، فقال: إن أبي شيخ كبيرٌ، أدرك الإسلام، لم يحُجّ

" الحديث، ثم ساقه من طريق عوف، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنهم، قال مثله، إلا أنه قال: إن السائل سأل عن أمّه. وهذا يوافق رواية ابن سيرين أيضًا عن يحيى بن أبي إسحاق، كما تقدّم.

قال الحافظ: والذي يظهر لي من مجموع هذه الطرق أن السائل رجلٌ، وكانت ابنته معه، فسألت أيضًا، والمسؤول عنه أبو الرجل، وأمه جميعًا.

ويقرب من ذلك ما رواه أبو يعلى بإسناد قويّ من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، عن الفضل بن عبّاس، قال:"كنت ردف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأعرابيّ معه بنت حسناء، فجعل الأعرابيّ يَعرِضها لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوّجها، وجعلت ألتفت إليها، ويأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم برأسي، فيلويه، فكان يلبّي حتى رمى جمرة العقبة".

فعلى هذا فقول الشابّة: إن أبي، لعلّها أرادت به جدّها؛ لأن أباها كان معها، وكأنه أمرها أن تسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم ليسمع كلامها، ويراها رجاء أن يتزوّجها، فلما لم يرضها، سأل أبوها، عن أبيه، ولا مانع أن يسأل أيضًا عن أبويه.

وتحصّل من هذه الروايات أن اسم الرجل حصين بن عوف الخثعميّ. وأما ما وقع في الرواية الأخرى أنه أبو الغوث بن حصين فإن إسنادها ضعيف، ولعلّه كان فيه عن أبي الغوث حصين، فزيد في الرواية "ابن"، أو أن أبا الغوث أيضًا كان مع أبيه حصين، فسأل كما سأل أبوه وأخته، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

(1)

- "فتح" ج 4 ص 547 - 548.

ص: 337

وقيل: الأحسن في الجمع بين ذلك أن يقال: إن البنت المذكورة في رواية أبي يعلى كانت مع عمّ لها، لا مع أبيها، فإن التجوّز في رواية أبي يعلى من لفظ "معه بنت" أهون من التجوّز في جميع الروايات المختلفة الواردة بلفظ:"إن أبي شيخ كبير"، فالابنة سألت عن أبيها، والعمّ سأل عن أبيه. وأيضًا على ما أفاد الحافظ لم يبق الحاجة إلى سؤاله عن أبيه، بعد ما سألت هي عنه. انتهى

(1)

.

وذهب الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- إلى أن الأولى في الجمع أن يُحمل على تعدّد القضيّة، قال: إن السؤال وقع مرَّات، مرّة من امرأة عن أبيها، ومرّة من امرأة عن أمها، ومرّة من رجل عن أبيه، ومرّة في السؤال عن الشيخ الكبير، ومرّة في الحجّ عن الميت انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي جمع به الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- هو أقرب أوجه الجمع عندي، وأبعدها عن التكلّف. واللَّه تعالى أعلم.

ووقع السؤال عن هذه المسألة من شخص آخر، وهو أبو رَزِين الْعُقَيليّ، وقد تقدّم للمصنّف في -2/ 2621. وهي قصّة أخرى. قال الحافظ: ومن وحّد بينها وبين حديث الخثعميّة، فقد أبعد، وتكلّف. انتهى كلام الحافظ بتصرّف

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن في جعل الروايات المختلفة على يحيى بن أبي إسحاق مفسّرة للروايات المختلفة على الزهريّ عندي نظر؛ لأن روايات يحيى أسانيدها فيها كلامٌ؛ إذ هي مضطربة سندًا ومتنًا، كما سبق بيان ذلك، وكما سيأتي أيضًا قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم.

(سَألَتِ النبِيَّ صلى الله عليه وسلم، غَدَاةَ جَمعٍ) أي صباح مبيت الناس في جمع، وهي المزدلفة، سمّيت بذلك؛ لاجتماع الناس بها. وَيقال: لأن آدم عليه السلام اجتمع هناك بحوّاء. أفاده الفيّوميّ (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ) أي في أمره، وشأنه، ويمكن أن تكون "في" بمعنى "من" البيانيّة. قاله القاري. وفي رواية يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان -11/ 2640 - :"إن أبي أدركه الحجّ"(عَلَى عِبَادِهِ) متعلّقٌ بـ "فريضة"، أو بحال مقدّر (أَدْرَكَتْ أَبِي) لم يسمّ أيضًا، وهو مفعول "أدركت". وقوله (شَيْخًا) منصوب على الحال، أو بدلٌ من "أبي". وقوله (كَبِيرًا) نعت له. وفي نسخة:"شيخٌ كبيرٌ" بالرفع، وعليه فهو خبر لمحذوف، أي وهو شيخٌ كبيرٌ، والجملة حال في محلّ نصب.

قال السنديّ: قوله: "أدركت أبي شيخا كبيرًا" يفيد أن افتراض الحجّ لا يشترط له

(1)

- راجع "المرعاة" ج 9 ص 321.

(2)

- "فتح" ج 4 ص 547 - 548.

ص: 338

القدرة على السفر، وقد قرّر صلى الله عليه وسلم ذلك، فهو يؤيّد أن الاستطاعة المعتبرة في افتراض الحجّ ليست بالبدن، وإنما هي بالزاد والراحلة. واللَّه تعالى أعلم انتهى. وسيأتي تحقيق القول في هذا قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

(لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّحْلِ) تعني أنه لا يثبت على الدّابّة، ولا يستقرّ؛ لكبر سنّه. والجملة نعت لقوله:"شيخا". ويحتمل أن يكون حالاً أيضًا، فيكون من الأحوال المتداخلة، أو المترادفة.

والمراد أنه وجب عليه الحجّ، بأن أسلم، وهو بهذه الصفة.

وفي رواية يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان 11/ 2645:"لا يثبت على راحلته، فإن شددته خشيت أن يموت". وفي رواية مالك، عن ابن شهاب 12/ 2641:"لا يستطيع أن يثبت على الراحلة"، وفي رواية صالح بن كيسان، عن ابن شهاب 12/ 2642:"لا يستوي على الراحلة". وفي حديث أبي هريرة عند ابن خزيمة: "وإن شددته بالحبل على الراحلة، خشيت أن أقتله".

قال الحافظ: وهذا يفهم منه أن من قدر على غير هذين الأمرين، من الثبوت على الراحلة، أو الأمن عليه من الأذى لو رُبط لم يُرخّص له في الحجّ عنه، كمن يقدر على محلّ مُوَطّإ، كالمِحَفّة

(1)

انتهى.

(أَفَاَحُجُّ عَنْهُ؟) أي أيجوز لي أن أنوب عنه فأحجّ عنه؛ لأن ما بعد الفاء الداخلة عليها الهمزة معطوف على مقدّر، وقيل: لا حاجة إلى التقدير، بل الهمزة مقدّمة من تأخير، والأصل "فأأحج عنه"، فقدّمت؛ لأن لها صدر الكلام.

وفي رواية عبد العزيز، وشعيب:"فهل يقضي عنه". وفي حديث عليّ "هل يُجزىء عنه"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (نَعَمْ) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "احججي عن أبيك".

زاد في رواية صالح بن كيسان، عن ابن شهاب -12/ 2642 - :"فأخذ الفضل بن عبّاس يلتفت إليها، وكانت امرأة حسناء، وأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الفضل، فحوّل وجهه من الشقّ الآخر". وفي رواية عند البخاريّ: فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل يصرف وجه الفضل إلى الشقّ الآخر". وفي رواية:"وكان الفضل رجلاً وضيئًا، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة، فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها". وفي رواية: "فالتفت النبيّ صلى الله عليه وسلم، والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده، فأخذ بذقن الفضل، فدفع وجهه عن النظر إليها". ووقع في

(1)

-بكسر الميسم: مَرْكَبٌ من مراكب النساء، كالهودج. اهـ "المصباح".

ص: 339

رواية الطبريّ في حديث عليّ: "وكان الفضل غلامًا جميلاً، فإذا جاءت الجارية من هذا الشقّ صرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجه الفضل إلى الشقّ الآخر، فإذا جاءت إلى الشقّ الآخر، صرف وجهه عنه -وقال في آخره-: "رأيتُ غلامًا وجاريةً، فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان".

وقوله: 2636 - (أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرحْمَنِ، أَبُو عُبَيدِ اللَّهِ الْمَخْزُوميُّ) المكيّ، (قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) بن عيينة الإمام الحجة المشهور (عَنِ) عبد اللَّه (ابْنِ طَاوُسِ) أبي محمد اليمانيّ (عَنْ أَبِيهِ) طاوس بن كيسان اليمانيّ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى - عنهما (مِثْلَهُ) أي مثل رواية قتيبة، عن سفيان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-8/ 2634 و 9/ 2635 و 2636 و11/ 2639 و 2640 و 12/ 2641 و 2642 و 13/ 2643 وفي "كتاب آداب القضاء" 9/ 5389 و 5390 و 5391 و 5392 و 10/ 5393 و 5394 و 5395 و 5396 - وفي "الكبرى" 8/ 3614 و 9/ 3615 و 3616 و 11/ 3618 و 3619 و 3620 و 12/ 3621 و 3622 و 13/ 3623 و"كتاب القضاء" 16/ 5947 و 59485949 و 5950 و 5951 و 5952 و 5953 و 5954 و 59545.

وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1513 و 1854 و 1855 و"المغازي" 4399 و"الاستئذان" 6228 و (م) في "الحجّ " 1334 (د) في "المناسك" 1809 (ت) في "الحجّ" 928 (ق) في "المناسك" 2907 و 2909 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 1811 و 1824 و 1893 و 2190 و 2266 و 3033 و 3228 و 3365 (الموطأ) في "الحجّ" 806 "الدارميّ" في "المناسك"1833. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواز الحجّ عن الحيّ الذي لا يستمسك على الرحل (ومنها): جواز ركوب شخصين، فأكثر على دابّة، وهذا مما لا خلاف فيه إذا أطاقت الدّابّة ذلك (ومنها): إباحة الارتداف مع الأكابر، قال الحافظ ابن عبد البرّ: وذلك من التواضع، وأفعالُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلها سننٌ مرغوبٌ

ص: 340

فيها، يحسن التأسّي بها على كلّ حال، وجميل

(1)

الارتداف بالجليل من الرجال.

(ومنها): تواضع النبيّ صلى الله عليه وسلم (ومنها): منزلة الفضل بن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - عند النبيّ صلى الله عليه وسلم. (ومنها): منع النظر إلى الأجنبيّات، وغضّ البصر. قال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة. قال: وعندي أن فعله صلى الله عليه وسلم إذ غطّى وجه الفضل أبلغ من القول، ثم قال: لعلّ الفضل لم ينظر نظرًا ينكر، بل خشي عليه أن يؤول إلى ذلك، أو كان قبل نزل الأمر بإدناء الجلابيب. ويؤخذ منه التفريق بين الرجال والنساء في خشية الفتنة (ومنها): بيان ما ركّب في الآدميين من شهوات النساء في الرجال، والرجال في النساء، وما يُخاف من النظر إليهنّ، وكان الفضل من أجمل الشبّان في زمانه.

(ومنها): أن فيه الردّ على من زعم أن صوت المرأة عورة، فيجوز سماع صوت المرأة الأجنبيّة للأجانب، والاستماع إلى كلامها في الاستفتاء عن العلم، وإفتائها لمن سألها، وعلى هذا جرى الأمر من لدن العهد النبويّ، فكان الصحابة رضي الله عنهم يستفتون أمهات المؤمنين، ويسألونهنَّ عن أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكذلك يسألون الصحابيّات، وكانت النساء تترافع في الحكم إلى القضاة، ويستفتين العلماء، ويقع لهنّ التعامل بالبيع والشراء، ونحو ذلك، ولم يُنقل في ذلك إنكار عن أحد ممن يعتبر قوله، فالقول بأن صوت المرأة عورة قول مخالف للأدلّة الشرعية. فليتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أن على العالم، والإمام أن يغيّر من المنكر كلّ ما يمكنه بحسب ما يقدر عليه إذا رآه، وليس عليه ذلك فيما غاب عنه.

(ومنها): أنه يجب على الإمام أن يَحُول بين الرجال والنساء اللواتي لا يؤمن عليهنّ، ولا منهنّ الفتنة، ومن الخروج، والمشي منهنّ في الحواضر والأسواق، وحيث ينظرن إلى الرجال، وينظر إليهنّ. قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء"

(2)

.

(ومنها): ما قيل: إن فيه دليلاً على أن إحرام المرأة في وجهها، فتكشفه في الإحرام. ورَوَى أحمد، وابن خزيمة من وجه آخر عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال للفضل حين غطّى وجهه يوم عرفة:"هذا يوم من ملك فيه سمعه، وبصره، ولسانه غُفر له".

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: وقد زعم بعض أصحابنا أن في هذا الحديث

(1)

هكذا نسخة "الاستذكار" جـ 12ص 56 ولعل الأولى "ويَجْمُلُ الارتدافُ إلخ". واللَّه تعالى أعلم.

(2)

- متفق عليه.

ص: 341

دليلاً على أن للمرأة أن تحجّ، وإن لم يكن معها ذو محرم؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال للمرأة الخثعميّة:"حجي عن أبيك"، ولم يقل: إن كان معك ذو محرم. وهذا ليس بالقويّ من الدليل؛ لأن العلم ما نطق به، لا ما سكت عنه، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا يحلّ لامرأة تؤمن باللَّه، واليوم الآخر تسافر، إلا مع ذي محرم، أو زوج"

(1)

.

(ومنها): أن فيه برّ الوالدين، والاعتناء بأمرهما، والقيام بمصالحهما، من قضاء دين، وخدمة، ونفقة، وغير ذلك من أمور الدين والدنيا. (ومنها): ما قيل: إنه يدلّ على عدم وجوب العمرة؛ لأن المرأة الخثعميّة لم تذكرها. وتعُقّب بأن مجرّد ترك السؤال لا يدلّ على عدم الوجوب؛ لاستفادة ذلك من حكم الحجّ، ولاحتمال أن يكون اْبوها قد اعتمر قبل الحجّ. على أن السؤال عن الحجّ والعمرة قد وقع في حديث أبي رَزين الْعُقَيليّ رضي الله عنه، كما تقدّم.

(ومنها): ما قاله ابن العربيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إن حديث الخثعمّية أصل متّفق على صحّته في الحجّ، خارجٌ عن القاعدة المستقرّة في الشريعة، من أنه ليس للإنسان إلا ما سعى؛ رفقًا من اللَّه تعالى في استدراك ما فرّط فيه المرء بولده، وماله.

وتُعُقّب بأنه يمكن أن يدخل في عموم السعي، وبأن عموم السعي في الآية مخصوص اتفاقًا

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في جواز الحجّ عن الغير:

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: ما حاصله: اختلفوا في حجّ المرء عمن لا يطيق الحجّ من الأحياء، فذهب جماعة منهم إلى أن هذا الحديث مخصوص به أبو الخثعميّة، لا يجوز أن يُتَعدّى به إلى غيره، بدليل قول اللَّه عز وجل:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، ولم يكن أبو الخثعميّة ممن يلزمه الحجّ لَمّا لم يستطع إليه سبيلاً؛ فخصّ بأن يُقضى عنه، وينفعه ذلك، وخُصّت ابنته أيضًا أن تحجّ عن أبيها، وهو حيٌّ.

وممن قال بذلك مالكٌ، وأصحابه، قالوا: خُصّ أبو الخثعمية، والخثعميّةُ بذلك، كما خُصّ سالم مولى أبي حذيفة برضاعه في حال الكبر، وهذا مما يقول به المخالف، فيلزمه. ورُوي معنى قول مالك عن عبد اللَّه بن الزبير، وعكرمة، وعطاء، والضحّاك.

قال ابن الزبير: الاستطاعة القوّة. وقال عكرمة: الاستطاعة الصحّة. وقال أشهب: قيل

(1)

- متّفق عليه، واللفظ لمسلم.

(2)

- راجع لهذه الفوائد "كتاب الاستذكار" للحافظ أبي عمر -رحمه اللَّه تعالى- ج 12ص 56 - 58، و"فتح الباري" للحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه تعالى- ج 4ص550.

ص: 342

لمالك: الاستطاعة الزاد والراحلة؟ قال: لا واللَّه، وما ذاك إلا على قدر طاقة الناس، فربّ رجل يجد زادًا وراحلةً، ولا يقدر على المسير، وآخر يقوى يمشي على راحلته، وإنما هو كما قال اللَّه عز وجل:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} .

وذهب آخرون إلى أن الاستطاعة تكون في البدن والقدرة، وتكون أيضًا بالمال لمن لم يستطع ببدنه. واستدلّوا بهذا الحديث، وما كان مثله.

وممن قال بذلك الشافعيّ، وأبو حنيفة، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق. ورُوِي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعبد اللَّه بن عبّاس، وسعيد بن جبير، والحسن، وعمرو بن دينار، والسدّيّ، وجماعة سواهم، كلهم يقولون: السبيل: الزاد والراحلة. وهذا يدلّ على أن فرض الحجّ على البدن والمال. وروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "السبيل الزاد والراحلة"، من وجوه، منها مرسلة، ومنها ضعيفة. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الفتح":

وفي هذا الحديث من الفوائد جواز الحجّ عن الغير، واستدلّ الكوفيّون بعمومه على جواز صحّة حج من لم يحجّ نيابةً عن غيره. وخالفهم الجمهور، فخصّوه بمن حجّ عن نفسه. واستدلّوا بما في "السنن"، وصححه ابن خُزيمة، وغيره، من حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أيضًا: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُلبّي عن شُبْرُمة، فقال:"أحججت عن نفسك؟ "، فقال: لا، قال:"هذه عن نفسك، ثم احجج عن شُبْرُمة"

(2)

.

واستُدلّ به أيضًا على أنّ الاستطاعة تكون بالغير، كما تكون بالنفس. وعكس بعض المالكيّة، فقال: من لم يستطع بنفسه لم يلاقه الوجوب. وأجابوا عن حديث الباب بأنّ ذلك وقع من السائل على جهة التبرّع، وليس في شيء من طرقه تصريح بالوجوب.

وبأنها عبادة بدنيّة، فلا تصح النيابة فيها كالصلاة. وقد نقل الطبريّ وغيره الإجماع على أن النيابة لا تدخل في الصلاة. قالوا: ولأن العبادات فُرضت على جهة الابتلاء، وهو لا يوجد في العبادات البدنيّة، إلا بإتعاب البدن، فبه يظهر الانقياد، أو النفور، بخلاف الزكاة، فإن الابتلاء فيها بنقص المال، وهو حاصلٌ بالنفس، وبالغير.

وأُجيب بأن قياس الحجّ على الصلاة لا يصحّ؛ لأن عبادة الحجّ ماليّة بدنيّة معًا، فلا يترجّح إلحاقها بالصلاة على إلحاقها بالزكاة، ولهذا قال المازريّ: من غَلَّبَ حكم البدن

(1)

- راجع "الاستذكار" ج 12ص 56 - 62.

(2)

- رواه أبو داود رقم 8111 وابن ماجه رقم 2903.

ص: 343

في الحجّ ألحقه بالصلاة، ومن غَلَّبَ حكم المال ألحقه بالصدقة. وقد أجاز المالكيّة الحجّ عن الغير إذا أوصى به، ولم يجيزوا ذلك في الصلاة.

وبأن حصر الابتلاء في المباشرة ممنوع؛ لأنه يوجد في الآمر مِنْ بَذلِهِ المالَ في الأجرة.

وقال القاضي عياض: لا حُجّة للمخالف في حديث الباب؛ لأن قوله: "إن فريضة اللَّه على عباده الخ" معناه إن إلزام اللَّه عباده بالحجّ الذي وقع بشرط الاستطاعة صادف أبي بصفة من لا يستطيع، فهل أحجّ عنه؟، أي هل يجوز لي ذلك، أو هل فيه أجرٌ ومنفعة؟، فقال:"نعم".

وتُعُقّب بأن في بعض طرقه التصريح بالسؤال عن الإجزاء، فيتمّ الاستدلال، وتقدّم في بعض طرق مسلم:"إن أبي عليه فريضة اللَّه في الحجّ". ولأحمد في رواية: "والحجّ مكتوب عليه".

وادّعَى بعضهم أن هذه القصّة مختصّة بالخثعميّة، كما اختصّ سالم مولى أبي حذيفة بجواز إرضاع الكبير. حكاه ابن عبد البرّ.

وتُعُقّب بأن الأصل عدم الخصوصيّة. واحتجّ بعضهم لذلك بما رواه عبد الملك بن حبيب صاحب "الواضحة" بإسنادين مرسلين، فزاد في الحديث:"حُجّ عنه، وليس لأحد بعده". ولا حجة فيه لضعف الإسنادين، مع إرسالهما. وقد عارضه قوله في حديث الجهنيّة الماضي:"اقضُوا اللَّه، فاللَّه أحقّ بالوفاء".

وادّعَى آخرون منهم أن ذلك خاصّ بالابن يحجّ عن أبيه. ولا يخفى أنه جمود.

وقال القرطبيّ: رأى مالك أن ظاهر حديث الخثعميّة مخالف لظاهر القرآن، فرجّح ظاهر القرآن، ولا شكّ في ترجيحه من جهة تواتره، ومن جهة أن القول المذكور قول امرأة ظنّت ظنًّا، قال: ولا يقال: قد أجابها النبيّ صلى الله عليه وسلم على سؤالها، ولو كان ظنَّها غلطًا لبيّنه لها؛ لأنا نقول: إنما أجابها عن قولها: "أفأحُجّ عنه؟، قال: حجّي عنه"؛ لِمَا رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها انتهى.

وتُعُقّب بأنّ في تقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم لها على ذلك حجة ظاهرة.

وأما ما رواه عبد الرزّاق من حديث ابن عبّاس، فزاد في الحديث:"حجّ عن أبيك، فإن لم يزده خيرًا، لم يزده شرًّا". فقد جزم الحفّاظ بأنها رواية شاذّة، وعلى تقدير صحّتها فلا حجّة فيها للمخالف. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

(1)

- راجع "الفتح" ج 4 ص 549 - 550.

ص: 344

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن ما ذهب إليه من أجاز الحجّ عن الغير عند الضرورة أرجح؛ للأحاديث الصحيحة به، كحديث الخثعميّة، وغيرها، وكلّ ما اعترضوا به، فقد علمت جوابه فيما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: قال في "الفتح": ومن فروع المسألة أن لا فرق بين من استقرّ الوجوب في ذمّته قبل العضب

(1)

، أو طرأ عليه، خلافًا للحنفيّة. وللجمهور ظاهر قصّة الخثعميّة.

وأن من حجّ عن غيره وقع الحجّ عن المستنيب، خلافًا لمحمد بن الحسن، فقال: يقع عن المباشر، وللمحجوج عنه أجر النفقة.

واختلفوا فيما إذا عُوفِي المعضوب، فقال الجمهور: لا يجزيئه؛ لأنه تبيّن أنه لم يكن ميؤوسًا منه. وقال أحمد، وإسحاق: لا تلزمه الإعادة؛ لئلا يفضي إلى إيجاب حجتين.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الإمامان: أحمد وإسحاق من عدم لزوم الإعادة هو الصحيح عندي؛ لما ذكراه. واللَّه تعالى أعلم.

واتّفق من أجاز النيابة في الحجّ على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت، أو عضب، فلا يدخل المريض لأنه يُرجى برؤه، ولا المجنون؛ لأنه يرجى إفاقته، ولا المحبوس؛ لأنه يرجى خَلاصه، ولا الفقير؛ لأنه يمكن استغناؤه. انتهى ما في "الفتح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌10 - باب الْعُمْرَةِ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ

2637 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ، وَلَا الْعُمْرَةَ، وَالظَّعْنَ. قَالَ: «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ، وَاعْتَمِرْ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم للمصنّف رحمه الله

(1)

- "المعضوب": الضعيف، والزَّمِن لا حَرَاكَ به. قاله في "القاموس". وفي "المصباح": عضَبَه عَضبًا، من باب ضرب: قطعه، ورجل معضوبٌ: زَمِنٌ لا حَرَاكَ به، كأَنَّ الزَّمَانةَ عضبته، ومنعته الحركة انتهى.

ص: 345

تعالى في -2/ 2621 - رواه عن محمد بن عبد الأعلى الصنعانيّ، عن خالد بن الحارث الْهُجَيميّ، عن شعبة، وقد استوفيت -بحمد اللَّه تعالى- هناك شرحه، والكلام على مسائه، فراجعه تستفد.

ودلالته على الترجمة هنا واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌11 - (تَشْبِيهِ قَضَاءِ الْحَجِّ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ)

2638 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الرُّكُوبَ، وَأَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ، فِي الْحَجِّ، فَهَلْ يُجْزِئُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ ، قَالَ:«آنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ؟» ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَكُنْتَ تَقْضِيهِ» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:«فَحُجَّ عَنْهُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يوسف بن الزير" الأسديّ المكّيّ، مولى آل الزبير،

وقلبه بعضهم، مقبول [3].

روى عن الزبير بن العوّام، وابنه عبد اللَّه، ويزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان، وكان رضيعه. وعنه بكر بن عبد اللَّه المزنيّ، ومجاهد بن جبر. ذكره ابن حبّان في "الثقات". وحكى البخاريّ أنه يقال فيه: الزبير بن يوسف. وقال ابن جرير: مجهول لا يحتجّ به. انفرد به المصنّف. وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وأعاده برقم 2644 وحديث 3458 "الولد للفراش

".

والباقون رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة.

و"إسحاق": هو ابن راهويه. و"جرير": هو ابن عبد الحميد. و"منصور": هو ابن المعتمر. و"مجاهد": هو ابن جبر. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ) بن العوّام القرشيّ الأسديّ، أبي بكر، أو أبي خُبيب، الصحابيّ

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا"، وفي أخرى:"حدثنا".

ص: 346

الشهير، كان رضي الله عنه أول مولود في الإسلام بالمدينة من المهاجرين، وولي الخلافة تسع سنين، وقُتل في ذي الحجة سنة (73 هـ) وتقدمت ترجمته في 189/ 1161، أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُل مِنْ خَثْعَمَ) لِم يُسمّ (إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إنَّ أَبِي شَيخٌ كَبيرٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الرُّكُوبَ، وَأَدْرَكتْهُ فرِيضَةُ اللَّهَ، فِي الْحَجً) هذا فيه دليل على أن افتراض الحَجّ لا يشترط له القدرة على السفر بالبدن، وقد قرّر صلى الله عليه وسلم ذلك، فهو يؤيّد أن الاستطاعة المعتبرة في افتراض الحجّ ليست بالبدن فقط، بل تكون به، وبالمال وقد تقدّم تمام البحث في هذا قريبًا، فلا تَنْسَ. (فَهَل يُجْزِئُ) بضم الياء، من الإجزاء، وفي "الكبرى":"يَجزي" بدون همزة. يقال: جزى الأمر يَجزي جَزاءً، مثلُ قضى يقضي قضاء، وزنًا، وفي التنزيل:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48و 123]. ويستعمل أجزأ بالألف والهمزة بمعنى جزى، نقلهما الأخفش بمعنى واحد، فقال: الثلاثيّ من غير همز لغة الحجاز، والرباعيّ المهموز لغة تميم. أفاده الفيّوميّ. والمعنى: أيكفيه، ويقضي عنه؟ (أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("آنتَ أكبَرُ وَلَدِهِ؟) فيه أن أكبر الألاد أحقّ بتخليص ذمّة الأب من غيره (قَالَ) الرجل (نَعَمْ) أي أنا أكبر أولاده (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَرَأَيْتَ) أي أخبرني (لَوْ كَانَ عَلَيْهِ) أي على أبيك (دَيْنٌ، أكُنْتَ تَقْضِيهِ؟) أي تؤديه إلىِ صاحب الدين، فيقبله منك (قَالَ) الرجل (نَعَمْ) أي أفعل ذلك، ويُقبل منّي (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فحُجَّ عَنْهُ) أي فإنه يجزئ عنه.

وهذا محلّ الاستدلال للترجمة، حيث شبّه صلى الله عليه وسلم قضاء الحجّ بقضاء الدين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عبد اللَّه بن الزبير - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا ضعيف؛ لتفرّد يوسف بن الزبير به، وهو مجهول العدالة، فقد تقدّم عن ابن جرير أنه قال: مجهول لا يحتجّ به.

وهو من أفراد المصنّف، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا - 11/ 2638 و 14/ 2644 - وفي "الكبرى" 11/ 3618 و 14/ 3624. وأخرجه (أحمد) في "مسند المدنيين" 15670 و 15692 (الدارمي) في "المناسك" 1836. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2639 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ، خُشَيْشُ بْنُ أَصْرَمَ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ

(1)

، إِنَّ أَبِي مَاتَ، وَلَمْ يَحُجَّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ ، قَالَ: «أَرَأَيْتَ، لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟

(2)

» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:«فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» ).

(1)

- وفي نسخة: "يا نبيّ اللَّه".

(2)

- وفي نسخة: "أكنت تقضيه".

ص: 347

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الحكم بن أبان" العَدَنيّ، أبي عيسى، صدوق، عابد، له أوهام [6].

قال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو زرعة: صالح. وقال العجليّ: ثقة، صاحب سنّة، كان إذا هدأت العيون وقف في البحر إلى ركبتيه يذكر اللَّه حتى يصبح.

وقال سفيان بن عيينة: أتيت عدن، فلم أر مثل الحكم بن أبان. وقال ابن عيينة: قدم علينا يوسف بن يعقوب، قاضٍ كان لأهل اليمن، وكان يُذكر منه صلاحٌ، فسألته عن الحكم بن أبان؟ قال: ذاك سيّد أهل اليمن. وروى سفيان بن عبد الملك، عن ابن المبارك، قال: الحكم بن أبان، وأيوب بن سُويد، وحُسام بن مِصَكٌ ارم بهؤلاء.

وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: ربّما أخطأ، وإنما وقع المناكير في روايته من رواية ابنه إبراهيم، عنه، وإبراهيم ضعيف. وقال ابن عديّ في ترجمة حسين بن عيسى: الحكم بن أبان فيه ضعف، ولعلّ البلاء منه، لا من حسين بن عيسى. وحكى ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير، وابن المدينيّ، وأحمد بن حنبل. وقال ابن خزيمة في "صحيحه": تكلّم أهل المعرفة بالحديث في الاحتجاج بخبره. قال أحمد: مات سنة (154) وهو ابن (84) سنة.

روى له البخاريّ في " جزء القراءة"، والأربعة. وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا وحديث 3457، وأعاده بعده برقم 3458 و 3459.

وشرح الحديث يعلم مما سبق، وهو ضعيف؛ للكلام في الحكم بن أبان، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا -11/ 2639 - وفي "الكبرى" 11/ 3619. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2640 -

(أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْحَجُّ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَثْبُتُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَإِنْ شَدَدْتُهُ خَشِيتُ أَنْ يَمُوتَ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ ، قَالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ، أَكَانَ مُجْزِئًا» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَحُجَّ عَنْ أَبِيكَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: شرح الحديث يعلم مما سبق، ورجال إسناده ثقات، إلا أن فيه عنعنة هشيم، وهو مشهور بالتدليس، فالحديث ضعيف.

و"يحيى بن أبي إسحاق": هو البصريّ النحويّ، صدوقٌ ربّما أخطأ [5] 1/ 1438. وتقدم تخريج الحديث في -9/ 2635. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

ص: 348

‌12 - باب حَجِّ الْمَرْأَةِ عَنِ الرَّجُلِ

2641 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ، مِنْ خَثْعَمَ، تَسْتَفْتِيهِ، وَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، عَلَى عِبَادِهِ، أَدْرَكَتْ أَبِي، شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ ، قَالَ: «نَعَمْ» ، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ).

قال الجامع عفا اللَّه تعالىَ عنه: هذا الحديث متّفق عليه، وتقدم شرحه، والكلام على مسائله في -9/ 2635 - وباللَه تعالى التوفيق.

وقوله: "رَدِيف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ": الرديف -بفتح، فكسر-: هو الراكب خلف آخر، يقال: رَدِفته بكسر الدال المهملة: إذا ركبت خلفه، وأردفه: أركبه خلفه.

واستدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- به لما ترجم له واضح، وفيه ردّ على من كره أن تحجّ المرأة عن الرجل، دون العكس؛ لأن المرأة تلبس، والرجل لا يلبس. كما ذكره الحافظ أبو عمر في "الاستذكار" -12/ 67 - عن الثوريّ. فالحديث صريح في الردّ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2642 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ، اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ، أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَسْتَوِي عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ، أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ» ، فَأَخَذَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَكَانَتِ امْرَأَةً حَسْنَاءَ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْفَضْلَ، فَحَوَّلَ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله.

وقولها: "فهل يقضي عنه" أي فهل يؤدّي الواجب الذي عليه. وقوله: "فحوّل وجهه من الشّقّ الآخر" أي فحوّل الفضلُ وجهه من الشق الآخر إلى شقّ الخثعميّة لينظر إليها. أو كلمة "من" بمعنى "إلى"، وضمير حَوَّلَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن المراد بالشقّ الآخر

ص: 349

هو شق الخثعميّة، سمّي آخر لكون الفضل كان ناظرًا قبل ذلك إلى غير شقّها. واللَّه تعالى أعلم. قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌13 - (حَجِّ الرَّجُلِ عَنِ الْمَرْأَةِ)

2643 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ هَارُونَ- قَالَ: أَنْبَأَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَهُ رَجُلٌ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، وَإِنْ حَمَلْتُهَا لَمْ تَسْتَمْسِكْ، وَإِنْ رَبَطْتُهَا خَشِيتُ أَنْ أَقْتُلَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَحُجَّ عَنْ أُمِّكَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه انقطاعًا؛ لأن سليمان لم يسمع عن الفضل، كما قاله المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في -10/ 5395 - . "كتاب آداب القضاة".

وقال الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف" -8/ 264 - 265 - بعد نقل كلام المصنّف هذا: ما نصّه: رُوي عن سليمان بن يسار، عن عبد اللَّه بن عباس، عن أخيه الفضل بن عبّاس.

ورواه عليّ بن عاصم، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عبد اللَّه بن عبّاس. وقال: قلنا ليحيى: إن محمدًا -يعني ابن سيرين- حدّث عنك أنك حدّثت بهذا الحديث، عن سليمان بن يسار، عن الفضل بن عبّاس. فقال: ما حفظته إلا عن عبيد اللَّه بن عبّاس.

وقال محمد بن عمر الواقديّ: روى أيوب السختيانيّ هذا الحديث عن سليمان بن يسار، عن عبد اللَّه بن عبّاس، ولم يشكّ، وهو أقرب إلى الصواب؛ لأن الفضل بن عبّاس توفّي في زمن عمر بن الخطّاب بالشأم في طاعون عمواس، سنة ثمان عشرة، ولم يدركه سليمان بن يسار، وعبيد اللَّه بن العبّاس قد بقي إلى دهر يزيد بن معاوية بن

(1)

- "شرح السنديّ" ج 5ص 119 - 120.

ص: 350

أبي سفيان، وسليمان بن يسار يقول في هذا الحديث: حدّثني، فهذا أولى بالصواب، إن شاء اللَّه تعالى انتهى كلام المزيّ -رحمه اللَّه تعالى-.

و"هشام": هو ابن حسّان القُرْدُوسيّ البصريّ. و"محمد": هو ابن سيرين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌14 - (مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الرَّجُلِ أَكْبَرُ وَلَدِهِ)

2644 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ،، عَنْ يُوسُفَ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لِرَجُلٍ: «أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِ أَبِيكَ؟ ، فَحُجَّ عَنْهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث تقدّم في -11/ 2638 - وهو ضعيف لتفرّد يوسف بن الزبير، عن ابن الزبير به، وهو مجهول العدالة، وقال ابن جرير: لا يُحتجّ به، فعلى هذا لا يصلح للاستدلال به على الاستحباب الذي ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-.

و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌15 - (الْحَجِّ بِالصَّغِيرِ)

2645 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ صَبِيًّا لَهَا، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِهَذَا حَجٌّ؟ ، قَالَ: «نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ»).

ص: 351

رجال هذا الإسناد: سنة:

1 -

(محمد بن المثنى) أبو موسى العَنَزِيّ البصري، ثقة ثبت [10] 64/ 80.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان البصري الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الإمام الحجة المشهور [7] 33/ 37.

4 -

(محمد بن عقبة) بن أبي عيّاش الأسديّ مولى آل الزبير المدنيّ، ثقة [6].

قال اليمونيّ، عن أحمد: محمد بن عقبة، وإبراهيم بن عقبة، وموسى بن عقبة إخوة ثقات. وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: لا أعلم إلا خيرًا. وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: شيخٌ صالح. وقال ابن سعد: كان ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال المصنّف في "الكبرى" 2/ 327 - : إبراهيم، ومحمد، وموسى بنو عقبة ثقات كلهم، وأكثرهم حديثًا موسى بن عقبة، وهم من أهل المدينة انتهى.

روى له مسلم، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف حديث الباب فقط.

5 -

(كريب) بن أبي مسلم مولى ابن عباس المدني، ثقة [3] 161/ 253.

6 -

(ابن عباس) - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله رجال الصحيح، وأن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ امْرَأَةَ) لم تسمّ (رَفَعَتْ صَبيًّا لَهَا) وفي الرواية الآتية من طَريق إبراهيم بن عقبة، عن كريب -2648 - : "فأخرجتَ امرأة صبيَّا من الْمِحَفّة، فقالت

". وفي رواية أحمد، وأبي داود "ففزعت امرأة، فأخذت

بعضد صبيّ، فأخرجته من مِحَفّتها". و"المحفّة" بكسر الميم، وتشديد الفاء -: مركب للنساء، كالهودج، إلا أنها لا تُقبّب كما تقبّب الهوادج (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم " (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِهَذَا حَجَّ؟) أي أيحصل لهذا الصبيّ ثواب حجّ. فقوله: "حجّ" فاعل بالجارّ والمجرور؛ لاعتماده على الاستفهام. ويجوز أن يكون مبتدأ مؤخّرًا خبره الجارّ والمجرور قبله. وفي رواية لأحمد: "هل لهذا حجّ" (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (نَعَمْ) أي له حجّ (وَلَكِ أَجْرٌ) زادها صلى الله عليه وسلم على سؤالها؛ ترغيبًا لها.

قال عياض -رحمه اللَّه تعالى-: وأجرها فيما تكلّفته في أمره في ذلك، وتعليمه، وتجنيبه ما يجتنبه المحرم.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: معناه بسبب حملها، وتجنيبها إياه ما يجتنبه المحرم، وفعل ما يفعله المحرم.

ص: 352

وقال الصنعانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "لك أجر" أي بسبب حملها، وحجّها به، أو بسبب سؤالها عن ذلك الحكم، أو بسبب الأمرين.

قال القاريّ: أي أجر السببيّة، وهو تعليمه إن كان مميّزًا، أو أجر النيابة في الإحرام، والرمي، والإيقاف، والحمل في الطواف، والسعي، إن لم يكن مميّزًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.

[تنبيه]: قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "التمهيد": قد روى هذا الحديث عن إبراهيم بن عقبة جماعة من الأئمة الحفّاظ، فأكثرهم رواه مسندًا، وممن رواه مسندًا معمر، ومحمد بن إسحاق، وسفيان بن عيينة، وموسى بن عقبة، واختُلف فيه على الثوريّ، كما اختُلف على مالك، وكان عند الثوريّ عن إبراهيم، ومحمد ابني عقبة جميعًا، عن كريب.

فرواه أبو نُعيم الفضل بن دُكين، عن الثوريّ، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مسندًا.

ورواه وكيع، عن الثوريّ، عن محمد، وإبراهيم ابني عقبة، عن كريب مرسلاً. ورواه يحيى القطّان، عن الثوريّ، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، مرسلاً. وعن الثوريّ، عن محمد بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس، مسندًا. فقطع يحيى القطّان عن الثوريّ حديث إبراهيم، ووصل حديث محمد. ورواه محمد بن كثير، عن الثوريّ، عن محمد بن عقبة، عن كريب، عن ابن عبّاس، متّصلاً. ومن وصل هذا الحديث، وأسنده، فقوله أولى.

والحديث صحيح، مسند، ثابت الاتّصال، لا يضرّه تقصير من قصر به؛ لأن الذين أسندوه حفّاظٌ ثقات. انتهى كلام ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. وهو تحقيق حسن جدًّا. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-15/ 2645 و 2646 و 2647 و 2648 و 2649 - وفي "الكبرى" 15/ 3625 و 3626 و 3627 و 3628 و 3629. وأخرجه (م) في "الحجّ" 1336 (د) في "المناسك" 1736 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 1901 و 2188 و 2605 و 3185 و 3192 (الموطأ) في "الحجّ" 961. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- راجع "التمهيد" ج1 ص 99 - 100.

ص: 353

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعيّة الحجّ بالصغير مطلقًا، سواء كان مميّزًا، أم لا، إذا فَعَل عنه وليّه ما يفعل الحاجّ، وإلى هذا ذهب الجمهور، وسيأتي تحقيق القول فيه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها) أن الصبيّ يثاب على طاعته، ويكتب له حسناته (ومنها): ثبوت الأجر لوليّه إذا حجّ به. (ومنها): مشروعيّة الزيادة في الجواب على السؤال؛ زيادة في الفائدة، وهو من مقاصد البلغاء، ومنه حديث:"هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته"، فإن السؤال كان عن حكم ماء البحر، فزادهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجواب حكم ميتته؛ زيادة في الفائدة، أن السؤال هنا كان عن حكم حجّ الصبي، فبينه صلى الله عليه وسلم لها، وزادها ثبوت الأجر لها في ذلك، وأما قول كثير من الأصوليين: يجب أن يكون الجواب مطابقًا للسؤال، فليس المراد بالمطابقة عدم الزيادة، بل المراد أن يكون الجواب مفيدًا للحكم المسؤول. وقد تقدّم تحقيق هذا في أوائل هذا الشرح -47/ 59 - عند الكلام على حديث ماء البحر المذكور، فراجعه تستفد.

(ومنها): أن من جهل شيئًا عليه أن يسأل أهل العلم؛ قال اللَّه تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . (ومنها): أن على النساء أن يسألن عما يجهلنه من الأحكام، كالرجال، وأن يتفقّهن في الدين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم حجّ الصبيّ:

قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: أجازالحجّ بالصبيّ جماعة العلماء بالحجاز، والعراق، والشام، ومصر. وخالفهم في ذلك أهل البدع، فلم يروا الحجّ بهم، وقولهم مهجور عند العلماء؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم حجّ بأُغيلمة بني عبد المطّلب، وقال في الصبيّ: له حجّ، وللذي يُحِجّه أجر. وحجّ أبو بكر بابن الزبير في خرقة. وقال عمر: تُكتب للصبيّ حسناته، ولا تكتب عليه السيّئات. وحجّ السلف قديمًا وحديثًا بالصبيان والأطفال، يُعرّضونهم لرحمة اللَّه. وأخرج أبو داود بإسناد صحيح، عن عبد الملك بن الرَّبيع بن سَبْرة، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مُرُوا الصبيّ بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشرًا فاضربوه عليها". فكما تكون له صلاة، وليست عليه، كذلك له حجّ، وليس عليه.

وأكثر أهل العلم يرون الزكاة في أموال اليتامى، ومحالٌ ألا يؤجروا عليها، فالقلم إنما هو مرفوعٌ عنهم فيما أساءوا في أنفسهم، ألا ترى أن ما أتلفوه من الأمول ضمنوه، وكذلك الدماء، عمدهم فيها خطأ يؤديه عنهم من يؤديه عن الكبار في خطئهم.

وأجمع العلماء على أن من حجّ صغيرًا قبل البلوغ، أو حُجّ به طفلاً، ثم بلغ، لم يُجزه ذلك عن حجة الإسلام.

ص: 354

وقد شذّت فرقة، فأجازوا له حجه بهذا الحديث، وليس عند أهل العلم بشيء؛ لأن الفرض لا يؤدَّى إلا بعد الوجوب. وهذا ابن عبّاس هو الذي روى هذا الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان يفتي بالصبيّ يحجّ، ثم يَحتلم، قال: يحجّ حجة الإسلام. وفي المملوك يحجّ، ثم يُعتَق، قال: عليه الحجّ. ذكر عبد الرَّزَّاق عن الثوريّ، عن أبي إسحاق، عن أبي السفر، عن ابن عبّاس، وعن ابن عيينة، عن مطرّف، عن ابن عباس مثله. وعن الثوريّ، عن الأعمش، عن أبي ظَبْيان، عن ابن عبّاس مثله.

وعلى هذا جماعة علماء الأمصار، إلا داود بن عليّ، فإنه خالف في المملوك، فقال: يجزئه عن حجة الإسلام، ولا يجزئ الصبيّ. وذكر عبد الرزّاق، عن ابن جريج أنه أخبره، عن عطاء، قال: يقضي حجة الصغير عنه، فإذا بلغ فعليه حجة واجبة. قال: وأخبرنا معمرٌ، عن ابن طاوس، عن أبيه مثله.

واختلف الفقهاء في المراهق، والعبد يُحرمان بالحجّ، ثم يَحتلم هذا، ويُعتَق هذا قبل الوقوف بعرفة: فقال مالك: لا سبيل إلى رفض الإحرامين لهذين، ولا لأحد، ويتماديان على إحرامهما، ولا يُجزئهما حجّهما ذلك عن حجة الإسلام.

وقال الشافعيّ: إذا أحرم الصبيّ، ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة، فوقف بها محرمًا، أجزأه ذلك عن حجة الإسلام، ولم يحتج واحد منهما إلى تجديد إحرامه.

وقال أبو حنيفة: إذا أحرم الصبيّ، ثم بلغ في حال إحرامه، فإن جدّد إحرامًا قبل وقوفه بعرفة أجزأه، وإن لم يُجدّد إحرامًا لم يُجزئه. قال: وأما العبد؛ فلا يجزئه عن حجة الإسلام، وإن جدّد إحرامًا.

وقال مالك: يُحجّ بالصغير، ويجرّد بالإحرام، وُيمنع من الطيب، ومن كلّ ما يُمنع منه الكبير، فإن قوي على الطواف، والسعي، ورمي الجمار، وإلا طيف به محمولاً، ورُمي عنه، وإن أصاب صيدًا فُديَ عنه، وإن احتاج إلى ما يحتاج إليه الكبير فُعل به ذلك، وفُدي عنه. وهذا كلّه قول الشافعيّ، وأبي حنيفة، وجماعة الفقهاء؛ إلا أن أبا حنيفة قال: لا جزاء عليه في صيد، ولا فدية عليه في لباس، ولا طيب. انتهى كلام ابن عبد البرّ

(1)

.

وقال الإمام أبو محمد ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-: ونَستَحبّ الحجّ بالصبيّ، وإن كان صغيرًا، أو كبيرًا، وله حجّ، وأجر، وهو تطوّع، وللذي يَحجّ به أجرٌ، ويجتنب ما يجتنب المحرم، ولا شيء عليه إن واقع من ذلك ما لا يحلّ له، ويُطاف به، وُيرمى عنه الجمار إن لم يطق ذلك، ويجزىء الطائف به طوافُه ذلك عن نفسه، وكذلك ينبغي أن يدرّبوا، ويعلّموا الشرائع، من الصلاة، والصوم، إذا أطاقوا ذلك، ويُجنّبوا الحرام كلّه،

(1)

- راجع "الاستذكار" ج 13ص 329 - 334.

ص: 355

واللَّه تعالى يتفضّل بأن يأجرهم، ولا يكتب عليهم إثمًا حتى يبلغوا. قال: والحجّ عملٌ حسنٌ، وقال اللَّه تعالى:{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} .

[فإن قيل]: لا نية للصبيّ. [قلنا]: نعم، ولا تلزمه، إنما تلزم النيّة المخاطبَ المأمورَ المكلّف، والصبيّ ليس مخاطبًا، ولا مكلّفًا، ولا مأمورًا، وإنما أجره تفضّل من اللَّه تعالى، مجرّد عليه كما يتفضّل على الميت بعد موته، ولا نيّة له، ولا عمل بأن يأجره بدعاء ابنه له بعد موته، وبما يعمله غيره عنه، من حجّ، أو صيام، أو صدقة، ولا فرق، ويفعل اللَّه ما يشاء. وإذا كان الصبيّ قد رُفع عنه القدم، فلا جزاء عليه في صيد إن قتله في الحرم، أو في إحرامه، ولا في حلق رأسه لأذى به، ولا عن تمتّعه، ولا لإحصاره؛ لأنه غير مخاطب بشيء من ذلك، ولو لزمه هديٌ للزمه أن يعوّض منه الصيام، وهو في المتعة، وحلق الرأس، وجزاء الصيد، وهم لا يقولون هذا، ولا يفسد حجه بشيء مما ذكرنا، إنما هو ما عَمِلَ، أو عُمل به أُجر، وما لم يعمل، فلا إثم عليه.

وقد كان الصبيان يحضرون الصلاة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، صحّت بذلك آثارٌ كثيرة، كصلاته بأمامة بنت أبي العاص، وحضور ابن عبّاس معه الصلاة، وسماعه بكاء الصبيّ في الصلاة، وغير ذلك، ويجزي الطائف به طوافه عن نفسه؛ لأنه طائف، وحاملٌ، فهما عملان متغايران، لكلّ منهما حكم كما هو طائفٌ، وراكب، ولا فرق.

قال: فإن بلغ الصبيّ في حال إحرامه لزمه أن يجدّد إحرامًا، وَيشرع في عمل الحجّ، فإن فاتته عرفة، أو مزدلفة، فقد فاته الحجّ، ولا هدي عليه، ولا شيء، أما تجديده الإحرام؛ فلأنه قد صار مأمورًا بالحجّ، وهو قادرٌ عليه، فلزمه أن يبتديئه؛ لأن إحرامه الأوّل كان تطوعًا، والفرض أولى من التطوّع انتهى كلام ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله أبو محمد ابن حزم رحمه الله تحقيق نفيسٌ جدًّا، وحاصله جواز الحجّ بالصبيّ، وأنه يكتب له أجره، وأن من حجّ به يؤجر به أيضًا، وأنه يعمل ما يطيق أن يعمله من أعمال الحجّ، وما لا فليس عليه شيء، بل يعمل له من يحجّ به، مثل الرمي وغيره، ويطوف به حاملاً له، ويعتدّ بذلك الطواف لنفسه، وللصبيّ، وأنه يجنَّب فعل محظورات الحجّ، وإن ارتكب شيئًا من ذلك فلا شيء عليه لأنه مرفوعٌ عنه القلمُ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2646 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا لَهَا، مِنْ

(1)

راجع "المحلّى" ج7ص 276 - 277.

ص: 356

هَوْدَجٍ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِهَذَا حَجٌّ؟ ، قَالَ:«نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ» ).

قاَل الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمود بن كيلان": هو العدويّ مولاهم، أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 33/ 37. و "بشر بن السريّ": هو أبو عمرو البصريّ الأَفْوَهُ الواعظ، نزيل مكة، ثقة طُعِن فيه برأي جهم، ثم اعتذر، وتاب [9] 104/ 1365. والباقون تقدّموا في الذي قبله، والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي. واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2647 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: رَفَعَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَبِيًّا، فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ ، قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير "عمرو بن منصور": أبي سعيد النسائيّ، ثقة [11] 108/ 147، فإنه من أفراده. و"أبو نُعيم": هو الفضل بن دُكين الحافظ الثبت الكوفيّ [9] 11/ 516.

و"إبراهيم بن عقبة": هو أخو محمد في السندين الماضيين، ثقة [6] 50/ 609. والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه في الحديث الماضي. واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2648 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُقْبَةَ -رحمه اللَّه تعالى وَحَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ -وَاللَّفْظُ لَهُ- عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: صَدَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ، لَقِيَ قَوْمًا، فَقَالَ: «مَنْ أَنْتُمْ؟» ، قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، قَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ ، قَالُوا: رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: فَأَخْرَجَتِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، مِنَ الْمِحَفَّةِ، فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ ، قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح و"عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن" هو الزهريّ البصريّ، صدوق، من صغار [10] 42/ 48. و"سفيان" هنا: هو ابن عيينة، بخلافه فيما مضى، فإنه الثوريّ، فتنبّه.

وقوله: "صدر": أي رجع، يقال: صَدَرَ القومُ، وأصدرناهم: إذا صرفتهم، وصدرتُ عن الموضع صدرًا، من باب قتل: رجعت، قال الشاعر [من البسيط]:

وَلَيلَةٍ قَدْ جَعَلْتُ الصُّبْحَ مَوْعِدَهَا

صَدْرَ الْمَطِيَّةِ حَتَّى تَعْرِفَ السَّدَفَا

فصَدْرٌ مصدرٌ، والاسم الصَّدَرُ بفتحتين. قاله الفيّوميّ.

ودلّت هذه الرواية على أن هؤلاء القوم لَقُوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في رجوعه من الحجّ، لا في

ص: 357

ذهابه له. ومثله رواية البيهقيّ من طريق الشافعيّ، عن ابن عيينة: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَفَلَ، فلما كان بالروحاء لقي ركبًا

" الحديث. وفي رواية له من طريق إسماعيل بن إبراهيم ابن عقبة، عن أبيه: "بينما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسير بطريق مكة كلّمته امرأة

" الحديث.

وجزم به ابن القيّم في "الهدي"، حيث قال: ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم راجعًا إلى المدينة، فلمّا كان بالروحاء لقي ركبًا، فذكر قصّة الصبيّ. وقيل: وقعت هذه القصّة في مقدمه إلى بيت اللَّه، والمراد بالصدور، والقفول صدوره من المدينة للحجّ. ولا يخفى ما فيه. وارجع إلى "الْقِرَى لقاصد أم القُرَى" ص 49 - 50

(1)

.

وقد ثبت أن ذلك كان في حجة الوداع، فقد أخرج البيهقيّ أيضًا من طريق محمد بن سُوقة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: رَفَعَت امرأة صبيًّا لها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجته، فقالت: يا رسول اللَّه، ألهذا حجّ؟، قال:"نعم، ولك أجر".

وقوله: "فلما كان بالرَّحاء لقي قومًا"، ولأبي داود: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالروحاء، فلقي ركبًا، فسلّم عليهم

".

وقوله: "بالرَّوحاء" -بفتح الراء، وسكون الواو، بعدها حاء مهملة، ممدودًا على وزن حمراء -: اسم موضع بين مكة والمدينة على ثلاثين، أو أربعين ميلاً من المدينة.

أفاده في "القاموس"، و"المصباح". وقال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى- في "المشارق": هي من أعمال الفُرْع

(2)

، بينها وبين المدينة نحو أربعين ميلاً. وفي "صحيح مسلم" في "كتاب الأذان": أن الرَّوحاء ستة وثلاثون ميلاً. وفي "كتاب ابن أبي شيبة": ثلاثون ميلاً.

وقوله: "قالوا: من أنتم الخ". قال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: يحتمل أن يكون هذا اللقاء كان ليلاً، فلم يعرفوه صلى الله عليه وسلم. ويحتمل كونه نهارًا، لكنّهم لم يروه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، لعدم هجرتهم، فأسلموا في بلدانهم، ولم يهاجروا قبل ذلك انتهى

(3)

.

وقوله: "قالوا: رسول اللَّه" أي وأصحابه، ففيه حذف الواو مع ما عطفت، مثل قولهم: راكب الناقة طَليحَانِ، أي راكب الناقة، والناقة، قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَالْفَاءُ قَذ تحُذَفُ مَعْ مَا عَطَفَتْ

وَالْوَاوُ إِذ لَا لَبْسَ وَهْيَ انْفَرَدَتْ

بِعَطْفِ عَامِل مُزَالٍ قَدْ بَقِي

مَعْمُولُهُ دَفَعًا لِوَهْمٍ اتُّقِي

أي نحن رسول اللَّه، والصحابة.

(1)

- راجع "المرعاة" ج 8ص 309.

(2)

- "الفزع" بضم، فسكون، وزان قُفْل: عَمَلٌ من أعمال المدينة. أفاده في "المصباح".

(3)

- راجع "شرح صحيح مسلم" للنوويّ ج 9ص 103.

ص: 358

وقوله: "فأخرجت امرأة صبيًّا من الْمِحَفة""المحفّة" -بكسر الميم، وحكي فتحها، وتشديدِ الفا-: مَرْكبٌ من مراكب النساء، كالهوج؛ إلا أنها لا تُقبّب كما يُقبّب الهودج. أي لا يُجعل فوقها قُبّة. كذا في "الصحاح"

(1)

.

والحديث صحيح تقدّم الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2649 -

(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ سَعْدٍ ابْنُ أَخِي رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ، أَبُو الرَّبِيعِ وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِامْرَأَةٍ، وَهِيَ فِي خِدْرِهَا، مَعَهَا صَبِيٌّ، فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ ، قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ»).

"سليمان بن داود" مصريّ ثقة، من أفراد المصنّف، وأبي داود. وقوله:"وهي في خِدْرها" بكسر الخاء المعجمة: أي سِتْرها.

والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق الكلام عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌16 - (الْوَقْتِ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ لِلْحَجِّ)

أي هذا باب ذكر الحديث الذي فيه بيان الوقت الذي خرج فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة لأداء فريضة الحجّ.

وعبارته في "الكبرى": "الوقت الذي خرج فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من المدينة للحجّ"،

2650 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ، تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِخَمْسٍ بَقِينَ، مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ، لَا نُرَى إِلاَّ الْحَجَّ، حَتَّى إِذَا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ أَنْ يَحِلَّ).

(1)

- "شرح السندي" ج 5ص 121.

ص: 359

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَنَّاد بن السَّرِيّ) التميميُّ، أبو السري الكوفي، ثقة [10] 23/ 25.

2 -

(ابن أي زائدة) هو: يحيى بن زكريا بن أبي زائدة الهَمْدَاني، أبو سعيد الكوفي، ثقة متقن، من كبار [9] 93/ 115.

3 -

(يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاري، أبو سعيد المدني القاضى، ثقة ثبت [5] 22/ 23.

4 -

(عمرة) بنت عبد الرحمن بن سَعْدَ الأنصارية المدنية، ثقة [3] 134/ 203.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. ومنها: أن رجاله كلهم رجال الصحيح. ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين من يحيى، والباقيان كوفيان. ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعيّة. ومنها: أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة روت (2210) أحاديث واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ -رحمه اللَّه تعالى- أنه (قَالَ: أَخبَرَتْنِي عَمْرَةُ) بنت عبد الرحمن (أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - (تَقُولُ: خَرَجْنَا) أي من المدينة.

واختُلف في عدد الذين كانوا معه صلى الله عليه وسلم، فقيل: كانوا تسعين ألفًا. ويقال: مائة ألف وأربعة عشر ألفًا. ويقال: أكثر من ذلك. حكاه البيهقيّ. قال الزرقانيّ: هذا في عدّة الذين خرجوا معه، وأما الذين حجّوا معه، فأكثر المقيمين بمكّة، والذين أتوا من اليمن مع عليّ، وأبي موسى الأشعريّ - رضي اللَّه تعالى عنهما -. انتهى. وقال القاري: بلغ جملة من معه صلى الله عليه وسلم تسعين ألفًا، وقيل: مائة وثلاثين ألفًا انتهى. وقال الشيخ الدهلويّ في "اللمعات": ورد في بعض الروايات أنهم كانوا أكثر من الحصر والإحصاء، ولم يعينوا عددهم، وقد بلغوا في غزوة تبوك التي هي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم مائة ألف، وحجة الوداع كانت بعد ذلك، ولا بدّ أن يزدادوا فيها. ويُروى مائة ألف وأربعة عشر ألفًا. وفي رواية مائة ألف وعشرون ألفًا انتهى

(1)

.

وإلى هذا الاختلاف أشار الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "ألفيّة السيرة"، حيث قال:

(1)

- راجع "المرعاة" ج 8ص 452.

ص: 360

فِي الْعَشْرِ كَانَتْ حِجَّةُ الْوَدَاعِ

لَا يُحْصَرُ الْوَافُونَ بِاطِّلَاعِ

فَقِيلَ كَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا

أَوْ ضِعْفَهَا وَزِدْ عَلَيْهَا ضِعْفَا

(مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِخَمْسٍ) وفي رواية: "لخمس ليال"(بَقِينَ، مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ) بفتح القاف، وتكسر: اسم الشهر الذي بين شوّال، وذي الحجة، قال الفيّوميّ: والجمع ذوات القَعْدة، وذوات الْقَعَدَات، والتثنية ذواتا الْقَعْدّة، وذواتا القَعْدتين، فثنّوا الاسمين، وجمعوهما، وهو عزيز؛ لأن الكلمتين بمنزلة كلمة واحدة، ولا تتوالى على كلمة علامتا تثنية، ولا جمع انتهى.

وكذا وقع في حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - عند البخاريّ في "باب الخروج آخر الشهر: من "كتاب الجهاد"، وفي "باب ما يلبس المحرم من الثياب"، من "كتاب الحجّ"، وكذا وقع في حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - عند المصنّف - 51/ 2740 - قال القسطلاّنيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يقتضي أن تكون قالته عائشة بعد انقضاء الشهر، ولو قالته قبله لقالت: إن بقين انتهى.

وقال الحافظ: فيه استعمال الفصيح في التاريخ، وهو ما دام في النصف الأول من الشهر يؤرّخ بما خلا، وإذا دخل النصف الثاني يؤرّخ بما بقي. وقال أيضًا: فيه ردّ على من منع إطلاق القول في التاريخ؛ لئلا يكون الشهر ناقصًا، فلا يصحّ الكلام، فيقول مثلاً: لخمس، إن بقين بزيادة أداة الشرط، وحجّة الجواز أن الإطلاق يكون على الغالب انتهى. ويؤيّده ما ورد في ليالي القدر عند الترمذيّ من حديث أبي بكرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، رفعه: "التمسوها في تسع يبقين، أو سبع يبقين

" الحديث. وما وقع في حديث آخر: "في تاسعة تبقى، وسابعة تبقى".

واختُلف في يوم خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة، والراجح أنه يوم السبت، وسيأتي تحقيق الخلاف فيه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.

زاد في الرواية الآتية -58/ 2764 - من طريق عروة، عن عائشة:"في عام حجة الوداع" -بكسر الحاء المهملة، وفتحها، وبفتح الواو، وكسرها، قال النوويّ رحمه الله تَعَالَى-: سميت بذلك؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ودّع الناس فيها، وقال:"لعلَّي لا أحُجّ بعد عامي هذا"، فلم يحجّ بعد الهجرة غيرها، وكانت سنة عشر من الهجرة. وفيه دليل على أنه لا بأس بالتسمية بذلك؛ خلافًا لمن كرهه، وتُسمّى "البلاغ" أيضًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال فيها:"هل بلّغتُ"، و"حجة الإسلام"؛ لأنها التي حجّ فيها بأهل الإسلام، ليس فيها مشرك انتهى.

(لَا نُرَى) بضم النون: أي لا نظنّ. وقال ابن التين: ضبطه بعضهم بفتح النون، وبعضهم بضمّها

(1)

(إِلاَّ الْحَجَّ) وفي رواية عنها: "لا ننوي إلا الحجّ"، وفي أخرى: "لا

(1)

- "عمدة القاري" ج 8ص 31.

ص: 361

نذكر إلا الحجّ"، وفي أخرى: "مهلّين بالحجّ". وفي أخرى: "لبينا بالحجّ". وظاهر هذه الروايات أن عائشة مع غيرها من الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم -، كانو أوّلاً محرمين بالحجّ، لكن هذا يُستشكل مع ما يأتي لها في -186/ 2991 - من رواية عروة عنها: "فمنّا من أهلّ بالحجّ، ومنّا من أهلّ بعمرة". وفي رواية للبخاريّ:"فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من أهلّ بحج وعمرة، ومنّا من أهلّ بالحجّ".

وقد ذكر الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- الجمع بأن الأول يُحمل على أنها ذكرت ما كانوا يَعهدونه من ترك الاعتمار في أشهر الحجّ، فخرجوا، لا يعرفون إلا الحجّ، ثمّ بيّن لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وجوه الإحرام، وجوّز لهم الاعتمار في أشهر الحجّ".

وسيأتي في -48/ 2717 - من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عنها:"فقال: من شاء أن يهُلّ بحجّ فليُهلّ، ومن شاء أن يهُلّ بعمرة فليهلّ بعمرة". ولأحمد من طريق ابن شهاب، عن عروة: "فقال: من شاء فليهلّ بعمرة، ومن شاء فليهلّ بحجّ.

قال: وأما عائشة نفسها، فقد جاء عند البخاريّ من طريق هشام بن عروة عن أبيه، عنها، أنها قالت:"وكنت ممن أهلّ بعمرة". زاد أحمد من وجه آخر عن الزهريّ: "ولم أسق هديًا". فادعى إسماعيل القاضي وغيره أن هذا غلط من عروة، والصواب رواية الأسود، والقاسم، وعروة عنها أنها أهلّت بالحج مفردًا.

وتُعُقّب بأن قول عروة عنها إنها أهلّت بعمرة صريحٌ، وأما قول الأسود وغيره عنها:"لا نرى إلا الحجّ"، فليس صريحًا في إهلالها بحجّ مفرد، فالجمع بينهما ما تقدّم، من غير تغليط عروة، وهو أعلم الناس بحديثها. وقد وافقه جابر بن عبد اللَّه الصحابيّ، كما أخرجه مسلم عنه. وكذا طاوس، ومجاهد، عن عائشة.

ويحتمل في الجمع أيضًا أن يقال: أهلّت عائشة بالحجّ مفردًا، كما فعل غيرها من الصحابة، وعلى هذا ينزّل حديث الأسود، ومن تبعه:"ثمّ أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم يد أصحابه أن يفسخوا الحجّ إلى العمرة، ففعلت عائشة ما صنعوا، فصارت متمتّعة". وعلى هذا يتنزّل حديث عروة: "ثم لما دخلت مكّة، وهي حائض، فلم تقدر على الطواف لأجل الحيض، أمرها أن تُحرم بالحجّ"، على ما سيأتي من الاختلاف في ذلك، واللَّه أعلم انتهى كلام الحافظ بتصرّف

(1)

.

وقد تعقّب هذا الجمع صاحب "مرعاة المفاتيح" في 8/ 456 - وسيأتي ذكره عند ذكر الاختلاف والجمع بين الروايات في كون عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - أهلّت متمتعة، أو مفردة بحج، أو عمرة مستوفّى في 58/ 2763 إن شاء اللَّه تعالى.

(1)

- راجع "الفتح" ج 4ص 209 - 210.

ص: 362

(حَتَّى إِذَا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ) أي قرُبنا منها (أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ أَنْ يَحِلَّ) أي يجعل نسكه عمرة. ولْي بقاء هذا الحكم خلاف، والحقّ بقاؤه، كما هو مذهب الإمام أحمد، وعليه المصنّف، وجمهور المحدّثين، وسيأتي تمام البحث فيه في-77/ 2803 - باب "إباحة فسخ الحجّ بعمرة لمن لم يسق الهدي"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-16/ 2650 و 48/ 2717 و 2718 و 51/ 2741 و 58/ 2764 و 77/ 2803 و 2804 و 185/ 2990 و 186/ 2991 وفي "الطهارة" 151/ 242 و 183/ 295 و"الحيض" 1/ 348 - وفي "الكبرى" 16/ 3630 و 48/ 3696 و 3697 و 3698 و 51/ 3721 و 57/ 3745 و"الحيض" 163/ 283.

وأخرجه (خ) في "الحيض" 294 و 305 و 316 و 317 و 319 و"الحجّ" 1518 و 1556 و 1560 و 1561 و 1638 و 1650 و 1709 و 1720 و 1783 (م) في "الحجّ" 1211 و 1228 و (د) في "المناسك" 1750 و 1778 و 1779 و 1781 و 1782 و (ت) في "الحجّ" 945 (ق) في "المناسك" 2963 و 2981 و 3000 و 3075 و"الأضاحي" 3135 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23556 و 23589 و 24355 و 24779 و 24788 و 24913 و 25050 و 25091 و 35310 و 25534 و 25554 و 25578 و 27654 و 25812 (الموطأ) في "الحجّ" 746 و 896 و 940 و 941 و (الدارمي) في "المناسك" 1846 و 1954. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان الوقت الذي خرج فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكّة للحجّ، وهو لخمس بقين من ذي القَعدة، على ما تقدّم إيضاحه (ومنها): أن الحجّ ليس خاصًّا بالرجال، بل يعمّ النساء أيضًا (ومنها): مشروعيّة حجّ الرجل مع امرأته (ومنها): أَمْرُ من لم يسق الهدي بفسخ الحجّ بعمل العمرة، وعليه المحقّقون من أهل الحديث والفقه كما سيأتي تحقيقه في بابه إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): اختُلف في يوم خروجه صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقوال:

ص: 363

(الأول): أنه خرج يوم الجمعة، وهذا وَهَمٌ قبيح، وخطأ فاحش، تردّه الروايات الصحيحة، إذ من المعلوم الذي لا ريب فيه أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم خروجه بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين.

(القول الثاني): ما ذهب إليه ابن حزم، واختاره العينيّ في "شرح البخاريّ" أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم الخميس، لستّ بقين من ذي القعدة. حكى هذا القول ابنُ القيّم في "الهدي" عن ابن حزم، وذكر كلامه مفصّلاً، ثم بسط في الرّدّ عليه، وسيأتي شيء من كلامه مع الجواب عنه.

(القول الثالث): ما اختاره المحقّقون من شُرّاح الحديث، وأصحاب التواريخ أنّ خروجه صلى الله عليه وسلم كان لخمس بقين من ذي القعدة يوم السبت. وبه جزم ابن القيّم في "الهدي"، وهو ما اختاره الحافظ في "الفتح"، إذ قال في شرح قول ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -:"وذلك لخمس بقين من ذي القعدة": ما لفظه: أخرج مسلم مثله من حديث عائشة، واحتجّ به ابن حزم في "كتاب حجة الوداع" له على أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم الخميس، قال: لأن أول ذي الحجّة كان يوم الخميس بلا شكّ؛ لأن الوقفة كانت يوم الجمعة بلا خلاف، وظاهر قول ابن عباس:"لخمس" يقتضي أن يكون خروجه من المدينة يوم الجمعة، بناءٌ على ترك يوم الخروج، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعًا، كما سيأتي من حديث أنس رضي الله عنه، فتبيّن أنه لم يكن يوم الجمعة، فتعيّن أنه يوم الخميس.

وتعقّبه ابن القيّم بأن المتعيّن أن يكون يوم السبت، بناء على عدّ يوم الخروج، أو على ترك عدّه، ويكون ذو القعدة تسعًا وعشرين يومًا انتهى. ويؤيّده ما رواه ابن سعد، والحاكم في "الإكليل" أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم السبت، لخمس بقين من ذي القعدة. وقال الحافظ أيضًا: جزم ابن حزم بأن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم الخميس. وفيه نظر؛ لأن أول ذي الحجّة كان يوم الخميس قطعًا؛ لما ثبت، وتواتر أن وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة، وتعيّن أن أول الشهر يوم الخميس، فلا يصحّ أن يكون خروجه يوم الخميس، بل ظاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة، لكن ثبت في "الصحيحين" عن أنس صلى الله عليه وسلم:"صلينا الظهر مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين". فدلّ على أنّ خروجهم لم يكن يوم الجمعة، فما بقي إلا أن يكون خروجهم يوم السبت، ويُحمَل قول من قال:"لخمس بقين" أي إن كان الشهر ثلاثين، فاتفق أن جاء تسعًا وعشرين فيكون يوم الخميس أول ذي الحجة بعد مضيّ أربع ليال، لا خمس. وبهذا تتّفق الأخبار. هكذا جمع الحافظ عماد الدين ابن كثير بين الروايات، وقوّى هذا الجمع بقول جابر رضي الله عنه أنه خرج لخمس بقين، أو أربع، وكان دخوله صلى الله عليه وسلم مكّة صُبْحَ رابعة، كما ثبت في حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وذلك يوم الأحد، وهذا يؤيّد أن

ص: 364

خروجه من المدينة كان يوم السبت، كما تقدّم، فيكون مكثه في الطريق ثمان ليال، وهي المسافة الوسطى انتهى.

وقال في شرح "باب الخروج آخر الشهر" من "كتاب الجهاد": قد استشكل قول ابن عباس، وعائشة رضي الله عنها أنه خرج لخمس بقين؛ لأن ذا الحجة كان أوله الخميس؛ للاتفاق على أن الوقفة كانت يوم الجمعة، فيلزم من ذلك أن يكون خرج يوم الجمعة، ولا يصحّ ذلك؛ لقول أنس رضي الله عنه: إنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعًا، ثم خرج.

وأجيب بأن الخروج كان السبت، وإنما قال الصحابة:"لخمس بقين" بناء على العدد؛ لأن ذا القعدة كان أوله الأربعاء، فاتّفق أن جاء ناقصًا، فجاء أول ذي الحجة الخميس، فظهر أن الذي كان بقي من الشهر أربع، لا خمس. كذا أجاب به جمع من العلماء.

ويحتمل أن يكون الذي قال: "لخمس بقين" أراد ضمّ يوم الخروج إلى ما بقي؛ لأن التأهّب وقع في أوله، وإن اتّفق التأخير إلى أن صُلّيت الظهر، فكأنهم لَمّا تأهّبوا باتوا ليلة السبت على سفر اعتدّوا به من جملة أيام السفر. واللَّه تعالى أعلم.

وقال العلامة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: وجه ما اخترناه أن الحديث صريحٌ في أنه خرج لخمس بقين، وهي يوم السبت، والأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، فهذه خمس، وعلى قول ابن حزم يكون خروجه لسبع بقين، فإن لم يعدّ يوم الخروج كان لست، وأيّهما كان، فهو خلاف الحديث، وإن اعتبر الليالي كان خروجه لستّ ليال بقين، لا لخمس، فلا يصحّ الجمع بين خروجه يوم الخميس، وبين بقاء خمس من الشهر البتّة، بخلاف ما إذا كان الخروج يوم السبت كان الباقي بيوم الخروج خمساً بلا شكّ. ويدلّ عليه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر لهم في خطبته شأن الإحرام، وما يلبس المحرم بالمدينة على منبره، والظاهر أن هذا كان يوم الجمعة؛ لأنه لم ينقل أنه جمعهم، ونادى فيهم لحضور الخطبة، وقد شهد ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذه الخطبة بالمدينة على منبره، وكان عادته صلى الله عليه وسلم أن يعلّمهم في كلّ وقت ما يحتاجون إليه، إذا حضر فعله، فأولى الأوقات به الجمعة التي تلي خروجه، والظاهر أنه لم يكن ليدع الجمعة، وبينه وبينها بعض يوم، من غير ضرورة، وقد اجتمع إليه الخَلْق، وهو أحرص الناس على تعليمهم الدين، وقد حضر ذلك الجمع العظيم، والجمع بينه وبين الحجّ ممكن، بلا تفويت. واللَّه تعالى أعلم

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن أرجح الأقوال أن خروجه صلى الله عليه وسلم كان يوم السبت، وبهذا تجتمع الروايات المختلفة في هذا لباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب،

(1)

- راجع "المرعاة" ج 8ص 452 - 454.

ص: 365

وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

(الْمَوَاقِيتُ)

أي هذه أبواب ذكر الأحاديث الدّالّة على مواقيت الحجّ. ولفظ "الكبرى": "أبواب المواقيت".

قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: الوقت: مقدار من الزمان مفروض لأمرٍ مّا، وكلّ شيء قدّرت له حينًا، فقد وقّتّه توقيتَا، وكذلك ما قدّرت له غايةً، والجمع أوقات، والميقات: الوقت، والجمع مواقيت، وقد استُعِير الوقت للمكان، ومنه مواقيت الحجّ لمواضع الإحرام، ووقّت اللَّه الصلاةَ توقيتًا، ووَقَتَهَا يَقِتها، من با وعد: حدّد لها وقتًا، ثم قيل لكلّ محدود: مَوْقُوت، ومُوَقَّت انتهى.

وقال العينيّ -رحمه اللَّه تعالى- "المواقيت": جمع مِيقات، على وزن مِفْعال، وأصله مِوْقات،، قُلبت الواو ياء؛ لسكونها، وانكسار ما قبلها، من وَقَتَ الشيءَ يَقِته: إذا بين حدّه، وكذا وَقّته يوقّته، ثم اتُّسع فيه، فأطلق على المكان، فقيل للموضع: ميقات، والميقات يُطلق على الزمانيّ والمكانيّ، وههنا المراد المكانيّ

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

‌17 - (مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ)

أي مدينة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، و"المدينة": المصر الجامع، وزنها فَعِيلةٌ؛ لأنها من مَدَنَ. وقيل: مَفْعِلَة -بفتح الميم- لأنها من دان، والجمع مُدُنٌ، ومدائنُ بالهمز على القول بأصالة الميم، ووزنها فَعَائل، وبغير همز على القول بزيادة الميم، ووزنها مَفَاعل؛ لأن للياء أصلاً في الحركة، فتردّ إليه، ونظيرها في الاختلاف معايش. قاله الفيّوميّ. واللَّه

(1)

- راجع "عمدة القاري" ج 7 ص 403.

ص: 366

تعالى أعلم بالصواب.

2651 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ». قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ»).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي، أبو رجاء البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام المدني الحجة المشهور [7] 7/ 7.

3 -

(نافع) العدوي مولى ابن عمر المدني الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.

4 -

(ابن عمر) هو: عبد اللَّه رضي الله عنهما 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من رباعيات المصنف رحمه الله، وهو (133) من رباعايت الكتاب. ومنها: أنه أصحّ الأسانيد على الإطلاق على ما نقل عن الإمام البخاري رحمه الله. ومنها: أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه فبغلاني، والظاهر أنه دخل المدينة للأخذ من مشايخها. ومنها: أن رجاله كلهم رجال الصحيح. ومنها: أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَخْبَرَهُ) يقدّر قبل أخبره لفظة "أنه" أي أن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - أخبر نافعًا. ولفظ "الكبرى": "أن عبد اللَّه بن عمر أخبره"، وهو واضح (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) أي بعد أن سأله سائل عن محلّ الإهلال، ففي رواية الليث الآتية في الباب التالي:"أن رجلاً قام في المسجد، فقال: يا رسول اللَّه، من أين تأمرنا أن نُهلّ؟، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يهلّ

" ("يُهِلُّ) بضمّ الياء، من الإهلال، يقال: أهلّ المحرم: إذا رفع صوته بالتلبية، وكلّ من رفع صوته، فقد أهلّ إهلالاً، واستَهَلّ استهلالاً، بالبناء للفاعل فيهما. قاله في "المصباح".

وهو خبر بمعنى الأمر، لأن خبر الشارع آكد في الطلب من الأمر، والمراد به أنه لا يقدّم الإهلال، ولا يؤخّر عن هذه المواقيت، وبهذا قال بعض أهل العلم، وهو الراجح عندي، وقال الجمهور: المراد أنه لا يؤخّر عنها، إذ التقديم عندهم جائز، وسيأتي تمام البحث في ذلك، قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى

(أَهْلُ الْمَدِينَةِ) النبويّة، أي سُكّانها، ومرّ على ميقاتهم (مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ) -بضمّ الحاء

ص: 367

المهملة، وفتح اللام- تصغير الْحَلَفَة -بفتح اللام، وكسرها -، وهي واحد الْحَلْفاء: وهو نبت معروف.

و"ذوالحليفة": موضع معروف بقرب المدينة، بينه وبينها نحو ستّة أميال. قاله النوويّ، وقبله الغزاليّ، والقاضي عياض، ثم قال: وقيل: سبعة أميال. وكذا قال الشافعيّ، كما في "المعرفة"، والمجد في "القاموس"، وياقوت الحمويّ في "معجم البلدان"

(1)

.

وقال ابن حزم: أربعة أميال. وذكر ابن الصبّاغ، وتبعه الرافعي من الشافعيّة أن بينهما ميلاً. قال المحبّ الطبريّ: وهو وهَم، والحسّ يردّ ذلك. وقال الإسنويّ في "المهمات": الصواب المعروف المشاهد أنها ثلاثة أميال، أو تزيد قليلاً.

قال وليّ الدين: والقائلون بما ذكرناه أولاً أتقن في ذلك. وذكره المحبّ الطبريّ عالم الحجاز، وصوّبه الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ"، وهو من مَأْمَنِ مياه بني جُشَم، بينهم وبين خَفَاجَةِ العقيليين، وهو أبعد المواقيت من مكّة، بينهما نحو عشر مراحل، أو تسع، أما ذو الحليفة المذكور في حديث رافع بن خديج: "كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة

"، فهو موضع آخر، قال الداوديّ: ليس هو المهلَّ الذي بقرب المدينة. ذكره وليّ الدين في "الطرح"

(2)

.

وقال السمهوديّ في "وفاء الفاء" ص 1194: وقد اختبرت ذلك بالمساحة، فكان من عَتَبَة باب المسجد النبويّ المعروف بـ "باب السلام" إلى عَتَبَة باب مسجد الشجرة بذي الحليفة تسعة عشر ألف ذراع وسبعمائة ذراع واثنين وثلاثين ذراعًا ونصف ذراع بذراع اليد -وذراع اليد على ما ذكره المحبّ الطبريّ، والنوويّ، وغيرهما أربعة وعشرون إصبعًا، كلّ إصبع ستّ شعيرات مضمومة بعضها إلى بعض- وذلك خمسة أميال وثلثا ميل ينقص مائة ذراع انتهى.

وقال الحافظ: ذو الحليفة مكان معروف، بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين. قاله ابن حزم في "المحلّى" 7/ 70 وقال غيره: بينهما عشر مراحل، قال: وبها مسجد يُعرف بمسجد الشجرة خراب، وبها بئر، يقال لها: بئر عليّ انتهى.

وقال العيني: وبذي الحليفة عدّة آبار، ومسجدان لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، المسجد الكبير الذي يُحرم منه الناس، والمسجد الآخر مسجد الْمُعَرَّس انتهى.

وقال صاحب "تيسير العلاّم": ذو الحليفة، وتسمّى الآن آبار عليّ، وتبعد عن مكّة

(1)

- راجع "المرعاة" ج 8ص 342.

(2)

- راجع "طرح التثريب" ج 5ص 9.

ص: 368

بالمراحل (10)، وبالفراسخ (80) وبالأميال (240) وبالكيلوات (430) والمرحلة هي مسيرة يوم وليلة يسير الإبل المحمّلة الأثقال سيرًا معتادًا، ويقدّر بها العرب الأوائل، فأخذها عنهم العلماء. انتهى.

وزاد في "توضيح الأحكام": وتبلغ المسافة بينها وبين المسجد النبويّ (13) كيلاً، وهي أبعد المواقيت انتهى

(1)

.

(وَأَهْلُ الشَّامِ) هي بلاد معروفة، وهي من العَرِيش إلى بالس. وقيل: إلى الفرات. قاله النوويّ في "شرح سنن أبي داود". وقال السمعانيّ: هي بلاد بين الجزيرة والغور إلى الساحل، ويجوز فيها التذكير والتأنيث، والهمز وتركه، وأما شآم بفتح الهمزة والمدّ، فأباه أكثرهم، إلا في النسب

(2)

(مِنَ الْجُحْفَةِ) أي يُهلّ أهل الشام، وكذا من سلك طريقهم من الموضع المسمّى بالحجفة. وهي بضمّ الجيم، وإسكان الحاء المهملة، وفتح الفاء قرية كبيرة كانت عامرة، ذات منبر، وهي الآن خربة، بينها وبين البحر الأحمر بالأميال (6) وبالكيلوات (10). قال ابن حزم: وهي فيما بين المغرب والشمال من مكّة، ومنها إلى مكة اثنان وثمانون ميلاً.

وقال في "تيسير العلاّم": تبعد من مكة بالمراحل (5) وبالفراسخ (4) وبالأميال (120) وبالكيلوات (201) ويحرم منها أهل مصر، والشام، والمغرب، ومن ورائهم، من أهل الأندلس، والروم، والتكرور. قيل: إنها ذهبت أعلامها، ولم يبق إلا رسوم خفيّة، لا يكاد يعرفها إلا سكّان بعض البوادي، فلذا -واللَّه تعالى أعلم- اختار الناس الإحرام احتياطاً من المكان المسمّى برابغ -براء، وموحّدة، وغين معجمة، بوزن فاعل- لأنها قرية قبل حذائها بقليل. وقيل: لا يحرمون من الجحفة لوخمها، وكثرة حُمّاها، فلا ينزلها أحد إلا حُمّ، وسمّاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر عند الشيخين "مَهيَعَة" -بفتح الميم، وإسكان الهاء، وفتح التحتانيّة، والعين المهملة، بوزن عَلْقَمة-. وقيل: -بكسر الهاء، مع إسكان الياء، على وزن لَطِيفة- والصحيح المشهور الأول.

وسمّيت الحجفة لأن السيل أجحف بها. قال ابن الكلبيّ: كان العماليق يسكنون يثرب، فوقع بينهم وبين بني عَبِيل -بفتح الموحّدة- وهم إخوة عاد حربٌ، فأخرجوهم من يثرب، فنزلوا مهيعة، فجاء سيل، فاجتحفهم، أي استأصلهم، فسميت جحفة

(3)

.

(1)

- "توضيح الأحكام" ج 3ص 275.

(2)

- "طرح التثريب" ج 5ص 9 - 10.

(3)

- راجع "الفتح" ج 4ص 161.

ص: 369

(وَأَهْلُ نَجْدٍ) -بفتح النون، وإسكان الجيم، وآخره دال مهملة -: قال في "الصحاح": هو ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق. وقال في المشارق: ما بين جُرَش إلى سواد الكوفة، وحده مما يلي المغرب الحجازُ، وعن يسار الكعبة اليمنُ، قال: ونجد كلها من عمل اليمامة. وقال في "النهاية": النجد ما ارتفع من الأرض، وهو اسم خاصّ لما دون الحجاز مما يلي العراق

(1)

.

وقال في "الفتح": أما نجد، فهو كلّ مكان مرتفع، وهو اسم لعشرة مواضع، والمراد منها هنا التي أعلاها تهامة، واليمن، وأسفلها الشام، والعراق انتهى

(2)

.

(مِنْ قَرْنٍ) ويقال له: قرن المنازل. وهو بفتح القاف، وسكون الراء المهملة بلا خلاف بين أهل العلم، من أهل الحديث، واللغة، والتاريخ، والأسماء، وغيرهم، كما قاله النوويّ، قال: وغَلِط الجوهريّ في "صحاحه" غلطتين فاحشتين، فقال: بفتح الراء، وزعم أن أويسًا القَرَنيّ -رحمه اللَّه تعالى- منسوب إليه. والصواب إسكان الراء، وأن أويسًا منسوب إلى قبيلة معروفة، يقال لهم: بنو قَرَن، وهم بطن من مراد، القبيلة المعروفة، ينسب إليها المراديّ.

قال الحافظ وليّ الدين: وحكى القاضي في "المشارق" عن تعليق القابسيّ أن من قال: قرن بالإسكان أراد الجبل المشرف على الموضع، ومن قال: قرَن بالفتح أراد الطريق الذي يفترق منه، فإنه موضع فيه طرق مفترقة انتهى. وهذا يدلّ على أن فيه خلافًا.

ويقال له: قرن المنازل، وقرن الثعالب. قال النوويّ: وهو على مرحلتين من مكة، قالوا: وهو أقرب المواقيت إلى مكة. وقال في "المشارق": هو على يوم وليلة من مكة، وهو قريب مما مرّ عن النوويّ.

قال وليّ الدين: وفيما حكاه النوويّ من أن قرنًا أقرب المواقيت إلى مكة نظر، فقد ذكر ابن حزم أن بينها وبين مكة اثنين وأربعين ميلاً، وأن بين يلملم ومكة ثلاثين ميلاً، فتكون يلميلم أقرب المواقيت إلى مكّة، واللَّه أعلم انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح" بعد أن نقل ما تقدّم عن تعليق القابسيّ: ما نصّه: والجبل المذكور بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتان. وحكى الروياني عن بعض قدماء الشافعيّة أن المكان الذي يقال له: قرن موضعان: أحدهما في هبوط، وهو الذي يقال له: قرن

(1)

- "طرح التثريب" ج 5ص 10.

(2)

- "فتح" ج 4ص 162.

(3)

- "طرح التثريب" ج 5ص 10.

ص: 370

المنازل. والآخر في صعود، وهو الذي يقال له: قرن الثعالب، والمعروف الأول.

وفي "أخبار مكة" للفاكهيّ أن قرن الثعالب جبل مشرف على أسفل منى، بينه وبين مسجد مني ألف وخمسمائة ذراع، وقيل له: قرن الثعالب؛ لكثرة ما كان يأوي إليه من الثعالب. فظهر أن قرن الثعالب ليس من المواقيت.

وقد وقع ذكره في حديث عائشة في إتيان النبيّ صلى الله عليه وسلم الطائف، يدعوهم إلى الإسلام، ورَدّهِم عليه، قال: "فلم أَسْتَفِقْ إلا وأنا بقرن الثعالب

" الحديث. ذكره ابن إسحاق في "السيرة النبويّة".

ووقع في مرسل عطاء عند الشافعيّ: "ولأهل نجد قرن، ولمن سلك نجدًا من أهل اليمن، وغيرهم قرن المنازل". ووقع في عبارة القاضي حسين في سياقه لحديث ابن عبّاس- الآتي في الباب الثالث: "ولأهل نجد اليمنِ، ونجد الحجازِ قرن". وهذا لا يوجد في شيء من طرق حديث ابن عباس، وإنما يوجد ذلك من مرسل عطاء، وهو المعتمد، فإن لأهل اليمن إذا قصدوا مكة طريقين: إحداهما طريق أهل الجبال، وهم يَصِلُون إلى قرن، أو يُحاذونه، فهو مقياتهم، كما هو ميقات أهل المشرق. والأخرى طريق أهل تهامة، فيمرّون بيلملم، أو يحاذونه، وهو ميقاتهم، لا يشاركهم فيه إلا من أتى عليه من غيرهم انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

وقال صاحب "توضيح الأحكام": قرن المنازل، ويسمّى السيل الكبير، ومسافته من بطن الوادي إلى مكة المكرمة (78) كيلو متر. انتهى

(2)

.

(قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية سالم الآتية في الباب التالي: وكان ابن عمر يقول: لم أفقه هذه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وفي -21/ 2655 - : "وذُكِر لي، ولم أسمع أنه قال: "ويهلّ الخ". وفي رواية للبخاريّ: "زعموا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال، ولم أسمعه".

قال الحافظ: وهو يشعر بأن الذي بَلَّغَ ابن عمر ذلك جماعةٌ. وقد ثبت ذلك من حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، كما في الباب الآتي بعد بابين، ومن حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم، ومن حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - الآتي بعد باب، ومن حديث الحارث بن عمرو السهميّ عند أحمد، وأبي داود، والنسائيّ (قَالَ: "وَيِهُلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ) المراد بعض أهل اليمن، وهو تهامة، فأما نجد، فإن ميقاته قرن؛ وذلك لأن اليمن يشمل نجدًا وتهامة، فأطلق اليمن، وأريد بعضه، وهو تهامة منه خاصة. وقوله

(1)

- "فتح" ج 4ص162.

(2)

- "توضيح الأحكام" ج 3ص 276.

ص: 371

فيما مضى: "نجد" تناول نجد الحجاز، ونجد اليمن، وكلاهما ميقاته قرن. قاله وليّ الدين

(1)

.

(مِنْ يَلَمْلَمَ) -بفتح التحتانيّة، والسلام، وسكون الميم، بعدها لام مفتوحة، ثم ميم، وهو جبل من جبال تهامة، على مرحلتين من مكة. وقال ابن حزم: هو جنوب من مكّة، ومنه إلى مكة ثلاثون ميلاً. وفي "شرح المهذب": يُصرف، ولا يُصرف. قال العينيّ: إن أريد الجبل فمنصرف، وإن أريد البقعة، فغير منصرف البتّة، بخلاف قرن، فإنه على تقدير إرادة البقعة يجوز صرفه؛ لأجل سكون وسطه. ويقال فيه "ألملم" بالهمزة، وهو الأصل، والياء تسهيل لها. وحكى ابن سِيدَهْ فيه:"يَرمرم" براءين بدل اللامين. وقال صاحب "تيسير العلام": وتبعد عن مكة بالمراحل (2) وبالفراسخ (16) وبالأميال (48) وبالكيلوات (80). انتهى.

[تنبيه]: أبعد المواقيت من مكة ذو الحليفة ميقات أهل المدينة، فقيل: الحكمة في ذلك أن تعظم أجور أهل المدينة. وقيل: رفقًا بأهل الآفاق؛ لأن أهل المدينة أقرب الآفاق إلى مكة، أي ممن له ميقاة معيّن. ذكره في "الفتح".

وقد نظم بعضهم هذه المواقيت في بيتين، فقال [من الكامل]:

عِرْقُ الْعِرَاقِ يَلَمْلَمُ اليَمَنِ

وَبِذِى الحُلَيفَةِ يُحْرِمُ الْمَدَنِي

لِلشَّامِ جَحْفَةُ إِنْ مَرَرْتَ بِها

وِلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ فَاسْتَبِنِ

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-17/ 2651 و 18/ 2652 و 21/ 2655 - وفي "الكبرى" 17/ 3631 و 18/ 3632 و 21/ 3635. وأخرجه (خ) في "العلم" 133 و"الحج" 1522 و 1525 و 1528 و"الاعتصام بالكتاب والسنة" 7344 (م) في "الحجّ" 1182 (د) في "المناسك" 1737 (ت) في "الحجّ" 831 (ق) في "المناسك" 29141 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4441 و 4541 و 4570 و5050 و 5068 و5150 و5301 و 5517 و 610 و 6354 (الموطأ) في "الحجّ" 732 (الدارمي) في "المناسك" 1790. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- "طرح التثريب" ج 5ص11.

ص: 372

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ميقات أهل المدينة. (ومنها): أنه لا يجوز لأحد يريد مكة للحج والعمرة أن يتجاوز هذه المواقيت إلا متلبّسًا بالإحرام منها. (ومنها): أنه لا يجوز لأحد أن ينشىء الإحرام قبل هذه المواقيت، حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم حدّها له، فلذا لا يرى بعض المحققين، كالبخاريّ، جواز الإحرام قبلها أصلاً، وهو الأرجح عندي؛ لظواهر النصوص، وسيأتي تحقيق ذلك في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أن في التحديد المذكور تعظيم شأن هذا البيت، وتشريفه بجعل هذا الْحِمَى الذي لا يتجاوزه حاجّ، أو معتمر، حتى يأتي بهذه الهيئة، خاشعًا للَّه تعالى، معظّمًا لشعائره، ومحارمه. (ومنها): أن في تعدّد هذا التحديد رحمةً من اللَّه تعالى بخلقه، وتسهيلاً لهم، إذ لو كان الميقات واحدًا لجميع البلدان لشقّ ذلك على مريدي النسك. (ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوّة، حيث حدّد النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه المواقيت قبل إسلام أهلها؛ إشارة إلى أنهم سيدخلون في الإسلام، وأنهم سيحجّون، فيضطرّون إلى مواقيت ينشؤون منها الإحرام، فجاء الأمر كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم تقديم الإحرام على المواقيت المذكورة:

ذهب الجمهور إلى أن تقديم الإحرام على هذه المواقيت جائز، وإن كان خلاف الأولى، بل ادّعَى ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك، ولكن يردّه وجود الخلاف فيه، كما سيأتي.

وذهبت طائفة إلى أن التقديم لا يجوز، نقل ذلك عن إسحاق، وداود، وابن حزم، وغيرهم، وهو مذهب البخاريّ.

قال الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه": "باب فرض مواقيت الحجّ والعمرة".

1522 -

حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا زُهير، قال: حدثني زيد بن جُبَير، أنه أتى عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما في منزله، وله فُسطاط، وسُرادق، فسألتُهُ من أين يجوز أن أعتمر؟، قال:"فرضها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لأهل نجد قرنا، ولأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشأم الجحفة".

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ومعنى فرض: قدّر، وأوجب، وهو ظاهر نصّ المصنّف، وأنه لا يُجيز الإحرام بالحجّ والعمرة من قبل الميقات، ويزيد ذلك وضوحًا

ص: 373

ما سيأتي بعد قليل، حيث قال:"باب ميقات أهل المدينة، ولا يهُلّون قبل ذي الحليفة". وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على الجواز. وفيه نظر، فقد نُقل عن إسحاق، وداود، وغيرهما عدم الجواز، وهو ظاهر جواب ابن عمر، ويؤيّده القياس على الميقات الزماني، فقد أجمعوا على أنه لا يجوز التقدّم عليه انتهى المقصود من كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-.

وقد اعترض العينيّ على كلام الحافظ هذا كعادته بما لا يُلفت إليه؛ حيث إنه مجرّد تحامل، وتعصّب، فالحقّ هو الذي قرّره الحافظ بان مذهب الإمام البخاريّ أنه لا يجوز أن يحرم قبل الميقات، فقوله:"ولا يهلّون قبل ذي الحليفة" صريح في كونه لا يرى جواز الإحرام قبل الميقات، وهو الظاهر، وأما دعوى الإجماع فقد عرفت أنه باطل، فقد خالف فيه جماعة من أهل العلم.

قال الصنعانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم، وهل يكره؟ قيل: نعم؛ لأن قول الصحابة: وقّت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، يقضي بالإهلال من هذه المواقيت، ويقضي بنفي النقص، والزيادة، فإن لم تكن الزيادة محرّمة، فلا أقلّ من أن يكون تركها أفضل، ولولا ما قيل من الإجماع بجواز ذلك لقلنا بتحريمه؛ لأدلّة التوقيت.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد عرفت فيما سبق أن دعوى الإجماع غير صحيحة، فوجب القول بتحريمه، فتنبّه.

قال: ولأن الزيادة على المقدّرات، من المشروعات، كأعداد الصلاة، ورمي الجمار، لا تُشرع، كالنقص منها، وإنما لم نجزم بتحريم ذلك؛ لما ذكرنا من الإجماع؛ ولأنه روي عن عدّة من الصحابة تقديم الإحرام على الميقات، فأحرم ابن عمر من بيت المقدس، وأحرم أنس من العقيق، وأحرم ابن عبّاس من الشام، وأهلّ عمران بن حصين من البصرة، وأهلّ ابن مسعود من القادسيّة.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاستدلال من الصنعاني عجيب، كيف يحتجّ هنا بما نُقل عن ابن عباس، وغيره في معارضة الأحاديث المرفوعة، ويرد قوله: من أراد من أهل مكة أن يعتمر خرج إلى التنعيم، ويجاوز الحرم. بأنه أثر موقوف، لا يقاوم المرفوع. مع أنه يوافق المرفوع في كونه صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم؟. وكذا ردّه قول المحبّ الطبريّ: إنه لا يعلم أحدا جعل مكة ميقاتًا للعمرة. فقال: جوابه أنه صلى الله عليه وسلم جعلها ميقاتًا لها بهذا الحديث؟. فهلا قال هنا إن هذه الآثار عن الصحابة لا تقام المرفوع. إن هذا تناقض عجيب.

ص: 374

قال: وورد في تفسير الآية أن الحجّ والعمرة تمامهما بهما من دُويرة أهلك عن عليّ، وابن مسعود، وإن كان قد تؤُوّل بأن مرادهما أن ينشأ لهما مفردًا من بلده، كما أنشأ صلى الله عليه وسلم لعمرة الحديبية والقضاء سفرًا من بلده، ويدلّ لهذا التأويل أن عليًّا رضي الله عنه لم يفعل ذلك، ولا أحد من الخلفاء الراشدين، ولم يحرموا بحجّ، ولا عمرة إلا من الميقات، بل لم يفعله صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون ذلك تمام الحجّ، ولم يفعله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الخلفاء، ولا جماهير الصحابة.

قال: نعم الإحرام من بيت المقدس بخصوصه ورد فيه حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"من أهلّ من المسجد الأقصى بعمرة، أو بحجّة، غُفر له ما تقدّم من ذنبه"

(1)

، وله ألفاظ عند أبي داود، وابن ماجه.

قال: فيكون هذا مخصوصًا ببيت المقدس، فيكون الإحرام منه خاصّة أفضل من الإحرام من المواقيت، ويدلّ له إحرام ابن عمر منه، ولم يفعل ذلك من المدينة، على أن منهم من ضعّف الحديث، ومنهم من تأوله بان المراد ينشىء لهما السفر من هنالك انتهى كلام الصنعاني -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

وقال العلامة ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: ما ملخّصه: أما ما نُقل عن عمر، وعليّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - أنهما قالا: إتمام العمرة أن تنشئها من بلدك. فمعناه أن تنشىء لها سفرًا من بلدك تقصد له، ليس أن تحرم بها من أهلك. قال أحمد: كان سفيان يفسّره بهذا، وكذلك فسره به أحمد. ولايصحّ أن يفسّر بنفس الإحرام، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ما أحرموا بها من بيوتهم، وقد أمرهم اللَّه تعالى بإتمام العمرة، فلو حمل على ذلك لكان النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه تاركين لأمر اللَّه، ثم إن عمر وعليًّا ما كانا يحرمان إلا من الميقات، أفتراهما يريان أن ذلك ليس بإتمام لها، ويفعلانه؟ هذا لا ينبغي أن يتوهّمه أحد، ولذلك أنكر عمر على عمران إحرامه من البصرة، واشتد عليه. انتهى كلام ابن قدامة بتصرف، واختصار

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أما الحديث المذكور في الإحرام من بيت المقدس، فإنه ضعيف، لا يصلح لمعارضة الأحاديث الصحيحة؛ لتفرّد حُكيمة بنت أميّة الأخنسية به، قال عنها في "التقريب": مقبولة، أي لا بدّ لها من متابع، وليس لها متابع، والراوي عنها يحيى بن أبي سفيان قال عنه أبو حاتم: ليس بالمشهور.

(1)

الحديث ضعيف كما سيأتي قريبًا، فلا يصلح للاحتجاج به كما زعمه الصنعاني، فتنبه.

(2)

- "سبل السلام" ج 2ص 325 - 326.

(3)

- 5/ 68.

ص: 375

وأعله المنذريّ في "مختصر سنن أبي داود" 2/ 285 بالاضطراب

(1)

، قال: وقد اختلف الرواة في متنه، وإسناده اختلافاً كثيرًا، وكذا أعله الحافظ ابن كثير بالاضطراب

(2)

، كما في "نيل الأوطار" 4/ 253. فلا يعارض أحاديث المواقيت الصحاح.

ومثله ما أخرجه البيهقيّ من طريق جابر بن نوح، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، قال:"من تمام الحجّ أن تحرم من دُويرة أهلك". فإنه حديث منكر، لتفرّد جابر بن نوح به، كما قال ابن عديّ 50/ 2 - وهو متّفق على ضعفه.

فقول الشوكانيّ في "نيله" 4/ 254: ثبت هذا مرفوعا من حديث أبي هريرة، أخرجه ابن عديّ، والبيهقيّ، مما لا يُلتفت إليه.

وروي أيضًا موقوفا على عليّ رضي الله عنه، وفي سنده عبد اللَّه بن سلمة المراديّ، وهو وإن وثّقه بعضهم، إلا قد تغير حفظه، كما ثبت ذلك عن شعبة. وقال البخاري: لا يتابع في حديثه. وقال أبو أحمد الحاكم: حديثه ليس بمستقيم.

وكذلك لا يصحّ ما رواه أحمد، والثقفيّ في "مشيخته النيسابوريين" من طريق الحسن ابن هادية، قال: لقيت ابن عمر، فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل عمان، قال: من أهل عمان؟ قلت: نعم، قال: أفلا أحدثك ما سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قلت: بلى، فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأعلم أرضًا يقال لها: عمان، ينزح بجانبها البحر، الحجة منها أفضل من حجتين من غيرها". قال الشيخ الألباني: رجاله كلهم ثقات، معروفون، غير ابن هادية هذا، فقد ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وأما ابن حبّان فقد ذكره في "الثقات" 1/ 14 وهذا منه على عادته في توثيق المجهولين، وتوثيق ابن حبان هذا هو عمدة الهيثمي حين قال في "المجمع" 3/ 217: رواه أحمد، ورجاله ثقات. وحجة الفاضل أحمد محمد شاكر في قوله في تعليقه على "المسند": إسناده صحيح، وهذا غير صحيح؛ لما سبق، وكم له في هذا التعليق وغير من مثل هذه التصحيحات المبنيّة على مثل هذه التوثيقات التي لا يعتمد عليها لضعف مستندها انتهى كلام الشيخ الألباني.

(1)

- هذا هو الصواب، وقد صحح الحديث في "الترغيب والترهيب" 2/ 119 و 120، قال: رواه ابن ماجه بإسناد صحيح. وتصحيحه هذا غير صحيح؛ لما عرفت من اضطرابه، وجهالة حكيمة. فتنبّه. نَبَّهَ على ذلك الشيخ الألباني في "الضعيفة" 1/ 248 رقم 211.

(2)

- وأما تضعيف ابن قدامة له في "مغنيه" بابن أبي فُديك، وابن إسحاق، فليس كذلك، فإن الكلام فيهما لا يعلّ الحديث، فإنهما من رجال الصحيح، وإنما علة الحديث ما ذكرنا، فتنبّه.

ص: 376

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وعلى تقدير صحته فليس دليلاً على مسألتنا هذه، فإنه لم يقل: من أهلّ منها، وإنما قال:"الحجة منها أفضل الخ"، وهذا لا يستلزم الإحرام منها، وإنما هو بيان لفضل الحجّة من تلك البلدة، فتنبّه.

فتبيّن بهذا أنه لا يصحّ في إباحة تقديم الإحرام على المواقيت شيء.

والحاصل أنه ليس لمن قال بإباحة تقديم الإحرام على الميقات دليلٌ، لا من نصّ، ولا من إجماع، بل هي اجتهادات ممن فعله، تعارض ما صحّ عن الشارع الحكيم تحديده، مع أنه قد ثبت إنكار غيرهم عليهم فعلهم ذلك، فلا يُعارض به ما صحّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذ الحجة في فعله، وقوله، لا في فعل غيره، أو قوله.

فالمذهب الحقّ هو ما ذهب إليه من قال بعدم جواز تقديم الإحرام على المواقيت المحدّدة، كإسحاق، والبخاريّ، وداود الظاهريّ، وابن حزم، كما تقدم، كما أنه لا يجوز تقديمه على المواقيت الزمانيّة بالإجماع، فكذا هذا، إذ لا فرق بينهما.

وما أحسن ما قال الشاطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "الاعتصام" -1/ 167 - ومن قبله الهرويّ في "ذمّ الكلام" عن الزبير بن بكار: قال: حدّثني ابن عُيينة، قال: سمعت مالك بن أنس، وأتاه رجل، فقال: يا أبا عبد اللَّه، من أين أُحرم؟ قال: من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أريد أن أُحرم من المسجد، من عند القبر، قال: لا تفعل، فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: فأيّ فتنة في هذه؟، إنما هي أميالٌ أزيدها، قال: وأيّ فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إني سمعت اللَّه يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] انتهى.

فالواجب على المسلم أن يحرص على موافقة حجه، وعمرته السنة الثابتة؛ ليقعا له على الوجه المطلوب شرعًا، ولا يخالف بعلّة أن فلانًا قال كذا، وأن فلانًا فعل كذا، إذ الحجة هو الذي صحّ عمن قال اللَّه تعالى في حقّه:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} الآية، وقال:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية، وقال:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} ، وقال:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، وقال:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

ص: 377

‌18 - باب مِيقَاتِ أَهْلِ الشَّامِ

2652 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلاً قَامَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ؟ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ» .

قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَيَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ» ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَمْ أَفْقَهْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وهو من رباعيات المصنف، وهو (134) من رباعيات الكتاب، والحديث متفق عليه، وقد تقدم شرحه، وبيان مسائله في الباب الماضي.

وقوله: "أن رجلا قام في المسجد". قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: لم أقف على اسم هذا الرجل، والمراد بالمسجد مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم. ويستفاد من أن السؤال عن مواقيت الحجّ كان قبل السفر من المدينة. انتهى

(1)

.

وقوله: "من أين تأمرنا إلى قوله: يهلّ الخ" وجه كونه جواب الأمر ما تقدّم من أن خبر الشارع بمعنى الأمر. قاله السنديّ

(2)

.

وقوله: "ويزعمون الخ" يُفَسَّر الزاعمون بمن رَوَى الحديث تامًّا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كابن عبّاس، وغيره من الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم -.

وفيه دليلٌ على إطلاق الزعم على القول المحقّق؛ لأن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - سمع ذلك من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يفهمه، لقوله:"لم أفقه هذه"، أي الجملة الأخيرة، فصار يرويها عن غيره. وهذا دالّ على شدّة تحرّيه، وورعه. قاله في "الفتح"

(3)

.

وقوله: "لم أفقه" -بفتح القاف. قال الفيّوميّ: الفقه: فَهْمُ الشيء. قال ابن فارس: وكلّ علم لشيء فهو فقهٌ، والفقه على لسان حملة الشرع علم خاصّ. وفقِهَ فَقَهًا، من باب تعب: إذا علم، وفَقُه بالضمّ مثله. وقيل: بالضمّ: إذا صار الفقه له سجيّة. قال أبو زيد: رجلٌ فَقهٌ بضم القاف وكسرها، وامرأة فقهة بالضمّ. ويتعدّى بالألف، فيقال: أفقهتك الشيء، وهو يتفقّه في العلم، مثل يتعلّم انتهى.

(1)

- راجع "الفتح" ج1 ص 311 في "كتاب العلم".

(2)

- "شرح السنديّ" ج 5ص 122 - 123.

(3)

- "الفتح" ج1 ص 311. "كتاب العلم".

ص: 378

والمناسب هنا فتح القاف لأنه تعدى إلى اسم الإشارة.

فمراد ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - بقوله: "لم أفقه هذا الخ" أنه لم يفهم قوله صلى الله عليه وسلم: "ويُهلّ أهل اليمن من يلملم" من لسان صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه من الصحابة رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌19 - (مِيقَاتِ أَهْلِ مِصْرَ)

2653 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ بَهْرَامَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعَافَى، عَنْ أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّامِ، وَمِصْرَ الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "هشام بن بهرام

(1)

" -بفتح الموحّدة، وكسرها - المدائنيّ، أبو محمد، ثقة، من كبار [10].

قال ابن وَارَة: حدثنا هشام بن بهرام، وكان ثقة. وقال الخطيب: كان ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: وكان مستقيم الحديث. وقال غيره: كان حيًا سنة (219). روى عنه أبو داود، وأخرج له المصنّف بواسطة عمرو بن منصور النسائيّ حديث الباب فقط.

و"المعافى": هو ابن عمران الأزدي الفهميّ، أبو مسعود الموصليّ، ثقة عابد فقيه، من كبار [9] 36/ 1271.

و"أفلح بن حُميد" بن نافع الأنصاريّ النجّاريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، يقال له: ابن صُفَيراء، ثقة [7].

قال أحمد: صالح. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة ليس به بأس. وقال ابن صاعد: كان أحمد يُنكر على أفلح قوله: "ولأهل عرق ذات عرق". قال ابن عديّ: ولم ينكر أحمد -يعني سوى هذه اللفظة- وقد تفرّد بها عن أفلح معافى، وهو عندي

(1)

- ضبطه الحافظ السيوطيّ في "شرحه"، وتبعه السنديّ بفتح الباء الموحّدة، وكسرها. ولم أره لغيرهما.

ص: 379

صالح، وأحاديثه أرجو أن تكون مستقيمة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: لم يُحدّث عنه يحيى. قال: وروى أفلح حديثين منكرين: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يد أشعر". وحديث" "وقّت لأهل العراق ذات عرق". وكناه عبد الغنيّ أبا محمد، والمعروف أن كنيته أبو عبد الرحمن. وقال ابن حبّان في "الثقات": كان مكفوفًا، مات سنة (165). وقال الواقديّ: مات سنة (158). روى له الجماعة، سوى الترمذيّ. وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وأعاده برقم 2656 وحديث رقم 2772 وأعاده برقم 2783.

و"القاسم": هو ابن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيمي الثقة الحجة، أحد الفقهاء السبعة [3] 120/ 166.

وشرح الحديث يعلم مما سبق، وهو صحيح، أخرجه المصنّف هنا -19/ 2653 و 22/ 2656 - وفي "الكبرى" 19/ 3633 و 22/ 3636. وأخرجه (د) في "المناسك" 1739. واللَّه تعالى أعلم.

وهو دليل على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أن ميقات أهل مصر الجحفة. قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: وهذه زيادة يجب الأخذ بها، وعليها العمل انتهى

(1)

.

وقال الحافظ في "الفتح": والمكان الذي يُحرم منه المصريّون الآن رابغ بوزن فاعل -براء، وموحّدة، وغين معجمة- قريبٌ من الجحفة. واختصّت الجحفة بالحمّى، فلا ينزلها أحد إلا حمّ. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌20 - (مِيقَاتِ أَهْلِ الْيَمَنِ)

2654 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ

(1)

- راجع "طرح التثريب" ج 5ص 10.

(2)

- راجع "الفتح" ج 4ص 161.

ص: 380

قَرْنًا، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَقَالَ:«هُنَّ لَهُنَّ، وَلِكُلِّ آتٍ، أَتَى عَلَيْهِنَّ، مِنْ غَيْرِهِنَّ، فَمَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ، حَيْثُ يُنْشِئُ، حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ» ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الربيع بن سليمان) بن عبد الجبار المرادي، أبو محمد المصريّ المؤذن، تلميذ الإمام الشافعي، ثقة [11] 195/ 311.

2 -

(يحيى بن حسان) التّنِّيسيُّ، البصري، ثقة [9] 55/ 624.

3 -

(وُهيب) بن خالد بن عجلان أبو بكر البصري، ثقة ثبت تغير بآخره قليلاً [7] 21/ 427.

4 -

(حماد بن زيد) بن درهم، أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت فقيه، من كبار [8] 2/ 2.

5 -

(عبد اللَّه بن طاوس) أبو محمد اليماني، ثقة فاضل [6] 11/ 514.

6 -

(أبوه) طاوس بن كيسان الحميري مولاهم، أبو عبد الرحمن اليماني ثقة فقيه فاضل [3] 27/ 31.

7 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر الحبر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وأن رجاله رجال الصحيح غير شيخه فمن رجال الأربعة، وأن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ابن عباس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - ("أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَّتَ) أي حدّد، وأصل التوقيت: أن يُجعل للشيء وقت يختصّ به، ثم اتّسع فيه، فأُطلق على المكان أيضًا. قال ابن الأثير: التوقيت، والتأقيت أن يُجعل للشيء وقتٌ يختصّ به، وهو بيان مقدار المدّة، يقال: وقّت الشيء -بالتشديد- يوقّته، ووَقَتَ- بالتخفيف- يَقِته: إذا بيّن حدّه، ثمّ اتُّسِع فيه، فقيل للموضع ميقات. انتهى

(1)

.

وقال ابن دقيق العيد: قيل: إن التوقيت في الأصل ذكر الوقت. والصواب أن يقال:

(1)

- راجع "النهاية" ج 5ص 212.

ص: 381

تعليق الحكم بالوقت، ثم استعمل في التحديد للشيء مطلقًا؛ لأن التوقيت تحديد بالوقت، فيصير التحديد من لوازم الوقت. وقوله هنا:"وقت" يحتمل أن يريد به التحديد، أي حدّ هذه المواضع للإحرام. ويحتمل أن يريد به تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بشرط إرادة الحجّ، أو العمرة انتهى

(1)

.

وقال عياض: "وَقّت": أي حدّد، وقد يكون بمعنى أوجب، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} انتهى. قال الحافظ: ويؤيّده الرواية الماضية بلفظ: "فرض". انتهى

(2)

.

(لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) أي مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم (ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَلِآَهْل الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (هُنَّ لَهُنَّ) أي المواقيت المذكورة للجماعات المذكورة، أَو لأهلهنّ، على حذف مضاف.

قال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: كذا جاءت الرواية في "الصحيحين" وغيرهما عند أكثر الرواة، قال: ووقع عند بعض رواة البخاريّ، ومسلم:"فهنّ لهم"، وكذا رواه أبو داود، وغيره -وهي الرواية الآتية للنسائيّ في -23/ 2658 - وكذا ذكره مسلم من رواية ابن أبي شيبة، وهو الوجه؛ لأنه ضمير أهل هذه المواضع. قال: ووجه الرواية المشهورة، أن الضمير في "لهنّ" عائد على المواضع، والأقطار المذكورة، وهي المدينة، والشام، واليمن، ونجد، أي هذه المواقيت لهذه الأقطار، والمراد لأهلها، فحَذَف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه انتهى

(3)

.

(وَلِكُلِّ آتٍ أَتَي عَلَيهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ) وفي رواية عبد اللَّه بن طاوس، وعمرو بن دينار، عن طاوس:"ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ". يعني أن هذه المواقيت تكون محلّ إحرام لكلّ شخص أتي عليها من كير أهل البلاد المذكورة.

قال في "الفتح": وهذا يدخل في ذلك من دخل بلدًا ذات ميقات، ومن لم يدخل، فالذي لا يدخل لا إشكال فيه، إذا لم يكن له ميقات معيّن، والذي يدخل فيه خلاف، كالشاميّ إذا أراد الحجّ، فدخل المدينة، فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها، ولا يؤخر حتى يأتي الجحفة التي هي ميقاته الأصليّ، فإن أخّر أساء، ولزمه دم عند الجمهور.

وأطلق النوويّ الاتفاق، ونفى الخلاف في "شرحيه لمسلم، والمهذّب" في هذه المساْلة، فلعلّه أراد في مذهب الشافعيّ، وإلا فالمعروف عند المالكيّة أن للشاميّ مثلاً

(1)

- "شرح العمدة" ج 3ص 457 بنسخة الحاشية.

(2)

- راجع "الفتح" ج 4161.

(3)

- راجع "شرح مسلم" للنوويّ ج 8ص 323.

ص: 382

إذا جاوز ذا الحليفة بغير إحرام إلى ميقاته الأصليّ، وهو الجحفة جاز له ذلك، وإن كان الأفضل خلافه. وبه قالت الحنفيّة، وأبو ثور، وابن المنذر من الشافعيّة

(1)

.

قال ابن دقيق العيد: قوله: "لأهل الشام الجحفة" يشمل من مرّ من أهل الشام بذي الحليفة، ومن لم يمرّ. وقوله:"ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ" يشمل الشاميّ إذا مرّ بذي الحليفة وغيره، فههنا عمومان قد تعارضا انتهى ملخّصًا

(2)

.

قال الحافظ: ويحصل الانفكاك عنه بأن قوله: "هنّ لهنّ" مفسّر لقوله مثلاً: "لأهل المدينة ذو الحليفة"، وأن المراد بأهل المدينة ساكنوها، ومن سلك طريق سفرهم، فمرّ على ميقاتهم، ويؤيّده عراقيّ خرج من المدينة، فليس له مجاوزة ميقات المدينة غير محرم، ويترجّح بهذا قول الجمهور، وينتفي التعارض انتهى

(3)

.

وقال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى- بعد ذكر كلام ابن دقيق العيد: ما نصّه: دو سلك ما ذكرته أوّلاً من أن المراد بأهل المدينة من سلك طريق سفرهم، ومرّ على ميقاتهم، لم يَرِد هذا الإشكال، ولم يتعارض هنا دليلان، ومن المعلوم أن من ليس بين يديه ميقات لأهل بلده التي هي محلّ سكنه، كاليمني من المدينة، ليس له مجاوزة ميقات أهل المدينة غير محرم، وذلك يدلّ على ما ذكرناه أنه ليس المراد بأهل المدينة سُكّانها، وإنما المراد بأهلها من حجّ منها، وسلك طريق أهلها، ولو حملناه على سكانها لوردت هذه الصورة، وحصل الاضطراب في هذا، فنفرّق في الغريب الطارئ على المدينة مثلاً بين أن يكون بين يديه ميقات لأهل بلده أم لا، فنحمل أهل المدينة تارة على سكانها، وتارة على سكانها والواردين عليها، ويصير هذا تفريقًا بغير دليل، وإذا حملنا أهل المديمة على ما ذكرناه لم يحصل في ذلك اضطراب، ومشى اللفظ على مدلول واحد في الأحوال كلّها، واللَّه أعلم انتهى كلام وليّ الدين.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم.

وقال صاحب "مرعاة المفاتيح" -بعد ذكرما تقدّم-: وقد عُلم مما ذكرنا أن ههنا

(1)

- عدّ ابن المنذر من مقلدي الشافعيّ غير صحيح، بل هو مجتهد مستقلّ غير مقلّد، تشهد بذلك كتبه، ومخالفته للشافعي لا تقلّ عن مخالفته للأئمة الآخرين، ومجرد كونه انتسب إلى الشافعي في أول أمره، لا يستلزم أن يكون دائمًا كذلك، وإلا للزم كون الشافعي نفسه مالكيا، فإنه تلميذه، ومن الآخذين عنه، وكذا كون أحمد شافعيا، فإنه ممن أخذ عنه، وهكذا، فتأمّل بالإنصاف، ولا تتهوّر بتقليد ذوي الاعتساف.

(2)

- "إحكام الأحكام" ج 3ص 461 - 462. بنسخة الحاشية.

(3)

- "فتح" ج 4ص 163.

ص: 383

ثلاث صور، أو ثلاث مسائل:

(إحداها): أن يمرّ من ليس ميقاته بين يديه، كاليمنيّ، والعراقيّ، والنجديّ يمرّ أحدهم بذي الحليفة، وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة أنه يلزمه الإحرام من ذي الحليفة، ولا يجوز له المجاوزة عنها بغير إحرام؛ لأنه ليس ميقاته بين يديه، وعليه حملت المالكيّة:"ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ".

(والثانية): أن يمرّ من ميقاته بين يديه، كالشاميّ مثلاً بذي الحليفة، واختلفوا فيه، فقالت الشافعيّة، والحنابلة، وإسحاق: يلزمه الإحرام من ذي الحليفة، ولا يجوز له التأخير إلى ميقاته، أي الجحفة؛ لظاهر الحديث، خلافًا للمالكية، والحنفيّة، وأبي ثور، وابن المنذر.

(والثالثة): أن المدنيّ إذا جاوز عن ميقاته إلى الجحفة، فهل يجوز له ذلك، أم لا؟، وبالأول قالت الحنفيّة، كما في كتب فروعهم، وبالثاني قال الجمهور، وهو القول الراجح المُعَوَّلُ عليه عندنا. انتهى كلام صاحب "المرعاة"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الصواب عندي أن من مرّ على أيّ ميقات من المواقيت المحدّدة شرعًا، لا يجوز له أن يتجاوزها بغير إحرام، مطلقًا، سواء كان من أهل تلك المواقيت، أم من غيرهم، وسواء كان ميقاته أمامه، أم لا، عملاً بظاهر النصّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: زاد في رواية عبد اللَّه بن طاوس الآتية: "لمن أراد الحجّ والعمرة"، وفي رواية عمرو بن دينار الآتية أيضًا:"ممن أراد الحجّ والعمرة". وفيه دلالة على جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد الحجّ، أو العمرة، وهذا هو المذهب الصحيح، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك، في محلّه -107/ 2867 - باب "دخول مكة بغير إحرامِ" إن شاء اللَّه تعالى.

(فمَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ) أي داخل الميقات (حَيْثُ يُنْشِئُ) أي يهلّ من حيث ينشىء السفر، من أنشأ: إذا أحدث، يفيد أنه ليس لمن كان داخل الميقات أن يؤخّر الإحرام عن أهله، حيث إن ذلك المحلّ هو الميقات في حقّه.

ولفظ عبد اللَّه بن طاوس الآتي في -23/ 2657 - : "ومن كان دون ذلك من حيث بدأ". ولفظ عمرو بن دينار الآتي في -23/ 2658: "فمن كان دونهنّ، فمن أهله". وهذا يوضّح أن المراد بقوله هنا: "حيث ينشيء" مكانه الذي فيه أهله.

(1)

- راجع "مرعاة المفاتيح" ج 8ص 350 - 351.

ص: 384

ولفظ البخاريّ: "ومن كان دون ذلك، فمن حيث أنشأ". قال في "الفتح": أي فميقاته من حيث أنشأ الإحرام، إذا سافر من مكانه إلى مكة، وهذا متّفق عليه، إلا ما روي عن مجاهد أنه قال: ميقات هؤلاء نفس مكّة. انتهى. قال ابن عبد البرّ: إنه قول شاذّ.

وقال العينيّ: الفاء في جواب الشرط، أي فمُهَلُّهُ من حيث قصد الذهاب إلى مكة، يعني أنه يهلّ من ذلك الموضع. انتهى.

وقال القاري: ولم يذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم حكم أهل المواقيت نفسها، والجمهور على أن حكمها حكم داخل المواقيت، خلافًا للطحاويّ، حيث جعل حكمها حكم الآفاقيّ انتهى.

(حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ) أي الحكم المذكور، وهو إنشاء الإحرام من مكانه (عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ) أي فليس لهم أن يؤخّروا الإحرام عن مكّة. ولفظ ابن طاوس الآتي في 33/ 2657:"حتى يبلغ ذلك أهل مكة". ولفظ عمرو الآتي في 33/ 2658: "حتى إن أهل مكة يُهلون منها".

ولفظ البخاريّ: "حتى أهل مكة من مكة". قال العينيّ: يجوز في لفظ "أهل" الجرّ؛ لأن "حتى" تكون حرفا جارًّا بمنزلة "إلى"، ويجوز الرفع على أنه مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره:"حتى أهل مكة يهلون من مكة"، كما في قولك: جاء القوم حتى المشاة، أي حتى المشاة جاءوا. انتهى.

وقال في "الفتح": أي لا يحتاجون إلى الخروج إلى الميقات للإحرام منه، بل يُحرمون من مكة، كالآفاقيّ الذي بين الميقات، ومكة، فإنه يُحرم من مكانه، ولا يحتاج إلى الرجوع إلى الميقات ليُحرم منه. وهذا خاصّ بالحاجّ، وأما المعتمر فلا بدّ له من الخروج إلى أدنى الحلّ، كالتنعيم، ونحوه.

قال المحبّ الطبريّ: لا أعلم أحدًا جعل مكة ميقاتًا للعمرة، فتعيّن حمله على القارن.

واختلف في القارن، فذهب الجمهور إلى أن حكمه حكم الحاجّ في الإهلال من مكة. وقال ابن الماجشون: يجب عليه الخروج إلى أدنى الحلّ. ووجهه أن العمرة إنما تندرج في الحجّ فيما محلّه واحدٌ، كالطواف والسعي، عند من يقول بذلك، وأما الإحرام فمحله فيهما مختلف.

وجواب هذ الاستشكال أن المقصود من الخروج إلى الحلّ في حقّ المعتمر أن يَرِدَ على البيت الحرام من الحلّ، فيصحّ كونه وافدًا عليه، وهذا يحصل للقارن لخروجه إلى عرفة، وهي من الحلّ، ورجوعه إلى البيت لطواف الإفاضة، فحصل المقصود بذلك أيضًا.

ص: 385

[تنبيه]: الأفضل في كلّ ميقات أن يُحرم من طرفه الأبعد من مكة، فلو أحرم من طرفه الأقرب جاز. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-20/ 2654 و 23/ 2657 و 2658 - وفي "الكبرى" 20/ 3634 و 23/ 3637 و 3638. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1524 و 1526 و 1529 و 1530 و 1845 (م) في "الحجّ" 1181 (د) في "المناسك" 1737 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 2129 و 2240 و 2272 و 3056 و 13138 (الدارميّ) 1792. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ميقات أهل اليمن. (ومنها): أنه يدلّ على أنه لا يجوز تأخير الإحرام من هذه المواضع المحدّدة، وفيه ردّ على الحنفيّة حيث جوّزوا لمن كان داخل الميقات التأخير إلى آخر الحلّ، ولأهل مكّة إلى آخر الحرم، فإنه مخالف لصريح قوله صلى الله عليه وسلم: في هذا الحديث: "فمن كان دونهنّ، فمن أهله، حتى إن أهل مكة يُهلّون منها".

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن من سافر غير قاصد للنسك، فجاوز الميقات، ثم بدا له بعد ذلك النسك أنه يُحرم من حيث تجدّد له القصد، ولا يرجع إلى الميقات؛ لقوله:"فمن حيث أنشاء".

(ومنها): أنه استدلّ به ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى- على أن من ليس له ميقات، فميقاته من حيث شاء. قال في "الفتح": ولا دلالة فيه؛ لأنه يختصّ بمن دون الميقات، أي إلى جهة مكة انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لولا أثر عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه - في تحديد ذات عرق بمحاذات الميقات، لكان لما قاله ابن حزم وجه، لكن الحقّ هو ما عليه الجمهور؛ لما ذُكر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في ميقات أهل مكة للعمرة:

(1)

- "فتح" ج 4ص 164.

ص: 386

ذهب الجمهور إلى أن أهل مكة يجب عليهم الخروج إلى أدنى الحلّ، كالتنعيم، عملاً بقصّة عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، حيث أمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى التنعيم للعمرة.

قال الإمام أبو محمد ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-: ومن أراد العمرة -وهو بمكة- إما من أهلها، أو من غير أهلها، ففرض عليه أن يخرج للإحرام بها إلى الحلّ، ولا بدّ، فيخرج إلى أي الحلّ شاء، ويهلّ بها؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر بالخروج من مكة إلى التنعيم ليعتمر بها منه، واعتمر عليه السلام من الجعرانة، فوجب ذلك في العمرة خاصّة. انتهى

(1)

.

وقال العلاّمة ابن قدامة عند قول الخرقيّ -رحمهما اللَّه تعالى-: "وأهل مكة إذا أرادوا العمرة، فمن الحلّ، وإذا أرادوا الحجّ فمن مكة": ما حاصله: أهل مكة من كان بها، سواء كان مقيمًا بها، أو غير مقيم؛ لأن كلّ من أتى على ميقات كان ميقاتًا له، فكذلك كلّ من كان بمكة، فهي ميقاته للحجّ؛ وإن أراد العمرة، فمن الحلّ، لا نعلم في هذا خلافاً، ولذلك أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر أن يُعمر عائشة - رضي اللَّه تعالى - عنها من التنعيم. متّفق عليه، وكانت بمكة يومئذ. والأصل في هذا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"حتى أهل مكة يهلّون منها". يعني للحج. وقال أيضًا: "ومن كان أهله دون الميقات، فمن حيث يُنشىء، حتى يأتي ذلك على أهل مكة". وهذا في الحج، فأما في العمرة فميقاتهم في حقّهم الحلّ، من أي الجوانب شاء؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بإعمار عائشة من التنعيم، وهو أدنى الحلّ إلى مكة. وقال ابن سيرين: بلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل مكة التنعيم. وقال ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: يا أهل مكة من أتى منكم العمرة، فليجعل بينه وبينها بطن محسّر. يعني إذا أحرم بها من ناحية المزدلفة.

وإنما لزم الإحرام من الحلّ ليجمع في النسك بين الحلّ والحرم، فإنه لو أحرم من الحرم لما جمع بينهما فيه؛ لأن أفعال العمرة كلها في الحرم، بخلاف الحجّ، فإنه يفتقر إلى الخروج إلى عرفة، فيجتمع له الحلّ والحرم، والعمرة بخلاف ذلك.

ومن أيّ الحلّ أحرم جاز، وإنما أعمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة من التنعيم لأنه أقرب الحلّ إلى مكة انتهى كلام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن ميقات أهل مكة للعمرة هو الحلّ، سواء كان التنعيم، أو غيره، فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى أهل مكة من مكة

(1)

- راجع "المحلّى" 7/ 98 - 99.

(2)

- راجع "المغني" 5/ 59 - 60.

ص: 387

للحجّ والعمرة" محمول على الحجّ المفرد، والقران، لا على العمرة، بدليل عمرة عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من التنعيم؛ ولم يخالف في هذا أحد من أهل العلم.

وأما ما قاله الصنعاني -بعد أن نقل كلام المحبّ الطبريّ أنه لا يعلم أحدًا جعل مكة ميقاتًا للعمرة في حقّ المكيّ-: ما حاصله جوابه أنه صلى الله عليه وسلم جعلها ميقاتَا لها بهذا الحديث، ثم ذكر أثر ابن عباس المتقدم، وقوله أيضًا:"من أراد من أهل مكة أن يعتمر خرج إلى التنعيم، ويجاوز الحرم". قال: فأجاب عنه بأنها آثار موقوفة لا تقام المرفوع.

قال: وأما ما ثبت من أمره صلى الله عليه وسلم لعائشة بالخروج إلى التنعيم لتحرم بعمرة، فلم يُرد إلا تطييب قلبها بدخولها إلى مكة معتمرة كصواحباتها إلى آخر كلامه، فجوابه كما يلي:

أما قوله: جوابه أنه صلى الله عليه وسلم جعلها ميقاتًا الخ، فجوابه نعم، إنه صلى الله عليه وسلم جعلها ميقاتا للمفرد بالحج، وللقارن، وأما العمرة فجعل الحلّ ميقاتًا لها، بدليل حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، يؤيّد ذلك أثر ابن عباس، وما أخرجه الفاكهيّ وغيره عن محمد بن سيرين، قال: بلغنا: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل مكة التنعيم". وعن عطاء قال: من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها، فليخرج إلى التنعيم، أو إلى الجعرانة، فليُحرم منها.

وأثر ابن سرين وإن كان مرسلاً إلا أنه اعتضد بقول ابن عباس، وبقول أهل العلم كافّة، كما تقدّم عن المحبّ الطبريّ أنه لا يعلم في ذلك خلافًا، والمرسل إذا اعتضد يكون حجة، كما هو معلوم في مصطلح أهل الحديث.

وأما قوله: إنه صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم تطييبا لقلبها، فمما لا ينبغي لمثله أن يقوله، فهل النبيّ صلى الله عليه وسلم يطيّب قلبها بخلاف ما شرعه اللَّه تعالى، كلاّ، ثم كلاّ، فلو لم يكن الاعتمار من التنعيم هو المشروع لما أمرها به.

وحاصل أمر عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها ممن شمله التوقيت المتقدّم، لأننا إن قلنا: إنها آفاقية، فميقاتها ذو الحليفة، وإن قلنا: إنها مكية -وهو الحقّ؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى أهل مكة من مكة" يشمل المقيم بها، والوارد إليها، بدليل أن الصحابة الذين فسخوا الحجّ بعمل العمرة من أهل المدينة أهلّوا من مكة بأمره صلى الله عليه وسلم فميقاتها مكة، فلما أمرها بالإحرام من التنعيم علمنا أن ميقات أهل مكة للعمرة هو الحلّ، وإنما لم نقل بتعيّن التنعيم ميقاتًا، لقول عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، كما رواه الطحاويّ، من طريق ابن أبي مليكة عنها، أنها قالت:"وكان أدنانا من الحرم التنعيم، فاعتمرت منه". فدلّ على أن المقصود هو الخروج إلى الحلّ مطلقًا.

والحاصل أن ميقات أهل مكة للعمرة المفردة من التنعيم، أو غيره من الحلّ، لا

ص: 388

يجوز غير ذلك، وأما المفرد بالحجّ، أو القارن، فميقاتهم مكة؛ عملاً بما صحّ لدينا من الأحاديث في كلّ ذلك، دون أن يكون هناك اختلاف بينها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: اختلفوا هل يتعيّن التنعيم لمن اعتمر من مكة؟، قال الطحاويّ -رحمه الله تَعَالَى-: ذهب قوم إلى أنه لا ميقات للعمرة لمن بمكة إلا التنعيم، ولا ينبغي مجاوزته، كما لا ينبغي مجاوزة المواقيت التي للحجّ.

وخالفهم آخرون، فقالوا: ميقات العمرة الحلّ، وإنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة بالإحرام من التنعيم؛ لأنه كان أقرب الحلّ من مكة. ثم روى من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة في حديثها، قال. "وكان أدنانا من الحرم التنعيم، فاعتمرت منه". فثبت بذلك أن ميقات مكة للعمرة الحلّ، وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء. ذكره في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌21 - (مِيقَاتِ أَهْلِ نَجْدٍ)

2667 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ. عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ. عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ» .

وَذُكِرَ لِي، وَلَمْ أَسْمَعْ، أَنَّهُ قَالَ:«وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدّم شرحه مستوفًى، وكذا الكلام على مسائله قبل ثلاثة أبواب.

ودلالته على الترجمة واضحة، و"سفيان": هو ابن عيينة -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

(1)

- "فتح" 4/ 443.

ص: 389

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإِتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، - عفا اللَّه تعالى عنه - وعن والديه ومشايخه آمين: قد انتهيت من كتابة الجزء الثالث والعشرين من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى-، المسمّى "ذخيرةَ العُقْبَى في شرح المجتبى"، أو "غاية المنى في شرح المجتنى".

وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، في مكة المكرمة زادها اللَّه تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني من خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأعْظِمْ به تكريمًا.

وأخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة اللَّه، وبركاته".

ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الرابع والعشرون عشر مفتتحًا بالباب 22 "ميقات أهل العراق" الحديث رقم 2656.

"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

ص: 390