المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سنن النسائي المسمَّى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعه الفقير إلى مولاه - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ٢٤

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح سنن النسائي

المسمَّى

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعه الفقير إلى مولاه الغتي القدير

محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الأيتوبي الوَلَّوي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا اللَّه عنه وعن والديه آمين

الجزء الثالث والعشرون

دار آل بروم للنشر والتوزيع

ص: 1

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1424هـ - 2003م

دار آل بروم للنشر والتوزيع

المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم

ص ب: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوّال 055541026)

ص: 2

شرح سنن النسائي

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

‌22 - (مِيقَاتُ أَهْلِ الْعِرَاقِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "العراق": -بكسر العين المهملة، وتخفيف الراء-: إقليم معروف، ويذكّر، ويؤنّث، قيل: هو معرّب، وقيل: سمي عِرَاقًا؛ لأنه سَفَلَ من نجد، ودنا من البحر، أخذًا من عِرَاق الْقِرْبَة، والْمَزَادَة، وغير ذلك، وهو ما ثَنَوْهُ، ثم خَرَزُوه مَثْنِيًا، وينسب إلى العراق على لفظه، فيقال: عراقيّ، والاثنان عراقيّان، وللشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- تصنيف لطيفٌ، نَصَب الخلاف فيه مع أبي حنيفة، ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، واختار ما رَجَحَ عنده دليله، ويسمّى اختلاف العِرَاقِيَّين؛ لأن كلّ واحد منهما منسوب إلى العراق، فهما عراقيّان. قاله الفيّوميّ

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2656 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِمٍ، مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ عَنِ الْمُعَافَى، عَنْ أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم شرحه، والكلام على مسائله قبل بابين.

و"محمد بن عبد اللَّه بن عمّار الموصليّ

(2)

" الثقة الحافظ [10] 20/ 1220. من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-.

و"محمد بن عليّ" الأسديّ، أبو هاشم ابن أبي خِدَاش -بكسر المعجمة، وتخفيف الدال- الموصليّ، ثقة عابد [10].

قال العجليّ: ثقة رجلٌ صالحٌ. وقال تمتام: قلت لابن معين: " جامع الثوريّ" عن أبي هاشم، عن المعافى؟، فقال: إن هذا الرجل نظير المعافى، أو أفضل منه. وعن بشر بن الحارث أنه كان يقول: ودِدت أني ألقى اللَّه تعالى بمثل عمل أبي هاشم. وقال أحمد بن دباس الأزديّ: كنا عند المعافى، فأقبل أبو هاشم، فقال المعافى: أُراه من القوم -يعني الأبدال-.

وقال العجليّ: كلّ شيء رُوي عن أبي هاشم حديثان. وقال إدريس بن سُليم: كنا

(1)

- راجع "المصباح المنير" في مادة عرق.

(2)

-بفتح الميم، وسكون الواو، وكسر الصاد المهملة، بوزن مجلس: نسبة إلى موصل بلد بين العراق والجزيرة. قاله في "القاموس".

ص: 5

عند غسّان بن الربيع، أو يعلي بن مهديّ، فجاء نعي أبي هاشم، وقال قائلٌ: مات شيخ الموصل، فقال: نعم، وشيخ الجزيرة، ومصر، والشام.

وقال أبو زكريّا في "تاريخ الموصل": من أهل الصلاح، والفضل، والجهاد، قُتل في سبيل اللَّه تعالى بشِمْشَاط، مقبلاً، غير مُدبر، سنة (222).

روى له المصنّف حديث الباب فقط، وابن ماجه، حديثًا واحدًا أيضًا حديث حذيفة رضي الله عنه:"لا يقبل اللَّه لصاحب بدعة صومًا، ولا صلاةً".

وقوله: "ذات عِرق " -بكسر العين المهملة، وسكون الراء، بعدها قاف -: موضع على نحو مرحلتين من مكة، ويقال: هو من نجد الحجاز. أفاده الفيّوميّ.

وقال غيره: سمي الموضع بذلك لأن فيه عِرْقًا، وهو الجبل الصغير، وهي أرض سبخة، تُنبت الطرفاء، وقيل: العرق من الأرض السبخة، تُنبت الطرفاء. ويُسمى الضَّريبة -بفتح الضاد، وكسر الراء، بعدها ياء، ثم باء- وهي الحدّ الفاصل بين تهامة، ونجد، وتبعد عن مكة بالمراحل (2) وبالفراسيخ (16) وبالأميال (48) وبالكيلوات (80) يحرم منه الآن أهل العراق، وإيران، وحجاج الشرق كله. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد استوفيت البحث في هذا الحديث قريبًا، وإنما أتكلم هنا فيما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ميقات أهل العراق، فأقول:

(مسألة): اتفق أهل العلم على أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نصّ على المواقيت الأربعة المذكورة في حديث ابن عمر، وابن عبّاس رضي الله عنهما، وهي ذو الحليفة، والجحفة، وقرن، ويلملم.

واختلفوا في ذات عرق، هل صارت ميقاتًا لأهل العراق بتوقيت النبيّ صلى الله عليه وسلم ونصّه، أم باجتهاد عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنه -.

قال الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه": "باب ذات عرق لأهل العراق". 1531 - حدثني عليّ بن مسلم، حدثنا عبد اللَّه بن نمير، حدثنا عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لَما فُتِح هذان المصران، أتوا عمر، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حَدَّ لأهل نجد قرنا، وهو جَوْرٌ عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنا، شقّ علينا، قال:"فانظروا حَذْوَها من طريقكم، فَحَدَّ لهم ذات عرق".

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وظاهره أن عمر رضي الله عنه حدّ لهم ذات عِرْق باجتهاد منه. وقد روى الشافعيّ من طريق أبي الشعثاء، قال:"لم يوقّت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق شيئًا، فاتخذ الناس بحيال قرن ذات عرق". ورَوَى أحمد عن هُشيم، عن يحيى ابن سعيد وغيره، عن نافع، عن ابن عمر، فذكر حديث المواقيت، وزاد فيه: "قال ابن

ص: 6

عمر، فآثر الناس ذات عرق على قرن". وله عن سفيان، عن صدقة، عن ابن عمر، فذكر حديث المواقيت، "قال: فقال له قائل: فأين العراق؟ فقال ابن عمر: لم يكن يومئذ عراق". وفي "كتاب الاعتصام" من "صحيح البخاريّ" من طريق عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر، قال: "لم يكن عراق يومئذ". ووقع في "غرائب مالك" للداقطنيّ، من طريق عبد الرزّاق، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: "وقّت رسول اللَّه جمتَ لأهل العراق قرنًا". قال عبد الرزاق: قال لي بعضهم: إن مالكًا محاه من كتابه. قال الدارقطنيّ: تفرّد به عبد الرزاق. قال الحافظ: والإسناد إليه ثقات أثبات. وأخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده" عنه، وهو غريبٌ جدًّا، وحديث الباب يردّه.

وروى الشافعيّ من طريق طاوسٍ، قال:"لم يوقّت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات عرق، ولم يكن حينئذ أهل المشرق". وقال في "الأمّ": "لم يثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه حدّ ذات عرق، وإنما أجمع عليه الناس".

وهذا كلّه يدلّ على أن ميقات ذات عرق ليس منصوصًا، وبه قطع الغزالي، والرافعي في "شرح المسند"، والنوويّ في "شرح مسلم"، وكذا وقع في "المدوّنة" لمالك.

وصحح الحنفيّة، والحنابلة، وجمهور الشافعيّة، والرافعيّ في "الشرح الصغير"، والنوويّ في "شرح المهذّب" أنه منصوص. وقد وقع ذلك في حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم، إلا أنه مشكوك في رفعه، أخرجه من طريق ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرًا يُسألُ عن الْمُهَلّ، فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر. وأخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" بلفظ:"فقال: سمعت أحسبه يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم". وقد أخرجه أحمد من رواية ابن لَهِعة، وابنُ ماجه من رواية إبراهيم بن يزيد كلاهما، عن أبي الزبير، فلم يشكّا في رفعه.

ووقع في حديث عائشة، وفي حديث الحارث بن عمرو السهميّ كلاهما عند أحمد، وأبي داود، والنسائيّ. وهذا يدلّ على أن للحديث أصلاً، فلعلّ من قال: إنه غير منصوص لم يبلغه، أو رأى ضعف الحديث باعتبار أن كلّ طريق لا يخلو عن مقال.

ولهذا قال ابن خزيمة: رُويت في ذات عرق أخبارٌ لا يثبت شيء منها عند أهل الحديث.

وقال ابن المنذر: لم نجد في ذات عرق حديثًا ثابتًا. انتهى.

قال الحافظ: لكن الحديث بمجموع الطرق يقوى كما ذكرنا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الحافظ إنما هو بالنسبة لحديث جابر، وإلا فحديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - الذي عند المصنّف صحيح، لا كلام فيه، قال ابن حزم في "المحلّى" -بعد أن أخرج الحديث من طريق المصنّف-: ما نصّه: قال أبو

ص: 7

محمد: هشام بن بهرام، ثقة، والمعافى ثقة، كان سفيان يسميه الياقة الحمراء، وباقيهم أشهر من ذلك انتهى

(1)

.

والحاصل أن حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - صحيح لا كلام. واللَّه تعالى أعلم.

قال الحافظ: وأما إعلال من أعلّه بأن العراق لم تكن فُتحت يومئذ، فقال ابن عبد البرّ: هي غفلة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقّت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح، لكنه علم أنها ستفتح، فلا فرق في ذلك بين الشام والعراق انتهى. وبهذا أجاب الماورديّ، وآخرون.

قال الحافظ: لكن يظهر لي أن مراد من قال: لم يكن العراق يومئذ، أي لم يكن في تلك الجهة ناسٌ مسلمون، والسبب في قول ابن عمر ذلك، أنه روى الحديث بلفظ:"أن رجلاً قال: يا رسول اللَّه، من أين تأمرنا أن نُهلّ؟ "، فأجابه، وكلّ جهة عيّنها في حديث ابن عمر كان من قبلها ناس مسلمون، بخلاف المشرق، واللَّه أعلم. انتهى.

وقال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: روى مسلم في "صحيحه" عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - يُسأل عن الْمُهلّ؟، فقال: سمعت أحسبه رفع الحديث إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، وفيه:"ومهلّ أهل العراق من ذات عرق". وقال النووي في "شرح مسلم": هو غير ثابت؛ لعدم جزمه برفعه.

وأما قول الدارقطنيّ: إنه حديث ضعيف؛ لأن العراق لم تكن فُتحت في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكلامه في تضعيفه صحيح، ودليله ما ذكرته، وأما استدلاله لضعفه بعدم فتح العراق، ففاسد؛ لأنه لا يمتنع أن يُخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم لعلمه بأنه سيفتح، ويكون ذلك من معجزات النبوّة، والإخبارِ بالمغيّبات المستقبلات، كما أنه صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل الشام الجحفة في جميع الأحاديث الصحيحة ومعلوم أن الشام لم يكن فتح يومئذ، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بفتح الشام، واليمن، والعراق، وأنهم يأتون إليهنّ يبِسّون، والمدينة خيرٌ لهم، لو كانوا يعلمون. وأنه عليه السلام أخبر بأنه زُويت له مشارق الأرض، ومغاربها، وقال: سيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها، وأنهم سيفتحون مصر، وهي أرض يُذكر فيها القيراط. وأن عيسى عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء، شرقيَّ دمشق. وكلّ هذه الأحاديث في "الصحيح" انتهى.

وقال في "شرح المهذّب": إسناده صحيح، لكنه لم يجزم برفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا

(1)

- راجع "المحلّى" ج 7ص 71.

ص: 8

يثبت رفعه لمجرّد هذا. ورواه ابن ماجه من رواية إبراهيم بن يزيد الْخُوزيّ بإسناده عن جابر، مرفوعًا بغير شكّ، بلفظ "أهل المشرق"، لكن الخوزيّ ضعيف، لا يُحتجّ بروايته. ورواه الإمام أحمد في "مسنده" عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بلا شكّ أيضًا. لكنه من رواية الحجّاج بن أرطأة، وهو ضعيف.

قال وليّ الدين: في قول النوويّ: إن حديث جابر غير ثابت؛ لأنه لم يجزم برفعه نظر، فإن قوله:"أخسبه" معناه أظنّه، والظنّ في باب الرواية يتنزّل منزلة اليقين، فليس ذلك قادحًا في رفعه. وأيضًا فلو لم يصرّح برفعه، لا يقينًا، ولا ظنَّا، فهو منزّل منزلة المرفوع؛ لأن هذا لا يقال من قبل الرأي، وإنما يؤخذ توقيفًا من الشارع، لا سيّما وقد ضمّه جابر رضي الله عنه إلى المواقيت المنصوص عليها يقينًا باتفاق.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قول وليّ الدين: والظن في باب الروية الخ فيه نظر؛ إذ كثيرًا ما يردّ المحدّثون أحاديث كثيرة لعدم جزم راويها، كما لا يخفى على من تتبّع كتب السنّة. وكذا قوله: لا يقال من قبل الرأي الخ فيه نظر، إذ يشكل عليه تحديد عمر رضي الله عنه ذات عرق بالاجتهاد، فليُتأمّل.

قال: وروى أبو داود، والنسائيّ بإسناد صحيح، كما قال النوويّ، عن عائشة، فذكر حديث الباب. قال: وذكر ابن عديّ، عن يحيى بن محمد بن صاعد أن الإمام أحمد كان يُنكر على أفلح بن حُميد هذا الحديث، قال ابن عديّ: قد حدّث عنه ثقات الناس، وهو عندي صالح، وأحاديثه أرجو أن تكون مستقيمة كلّها، وهذا الحديث ينفرد به مُعافَى بن عمران عنه، وإنكار أحمد قوله:"ولأهل العراق ذات عرق"، ولم ينكر الباقي من إسناده ومتنه انتهى.

وصححه أبو العباس القرطبيّ. وقال الذهبيّ: هو صحيح غريب. وقال العراقيّ: إن إسناده جيّدٌ.

وروى أبو داود أيضًا عن الحارث بن عمرو السهميّ حديثًا، وفيه:"ووقّت -يعني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات عرق لأهل العراق". قال البيهقيّ: في إسناده من هو غير معروف.

قال وليّ الدين: زُرارة بن كَرِيم -بفتح الكاف- رَوَى عنه جماعة، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، والراوي عنه في سنن أبي داود عتبة بن عبد الملك كذلك، وباقي رجاله لا يحتاج إلى الفحص عنهم، فليس في إسناده من هو غير معروف، فإن كان فيهم من ليس معروفًا عند البيهقيّ، فهو معروف عند غيره.

وروى أحمد، والدارقطنيّ من رواية الحجّاج بن أرطاة، عن عمرو بن شُعيب، عن

ص: 9

أبيه، عن جدّه، قال:"وقّت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، فذكر الحديث، وفيه:"وقال: لأهل العراق ذات عرق".

وروى الشافعيّ، والبيهقيّ بإسناد حسن، عن عطاء، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً:"أنه وقّت لأهل المشرق ذات عرق".

قال الحافظ وليّ الدين: فهذه الأحاديث التي ذكرتها، وإن كان في كلّ منها ضعف، فمجموعها لا يقصر عن بلوغ درجة الاحتجاج به. وكذا ذكره النوويّ في "شرح المهذّب"، فالأرجح عندي أنه منصوص أيضًا.

قال ابن قُدامة: ويجوز أن يكون عمر، ومن سأله لم يعلموا توقيت النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات عرق، فقال ذلك برأيه، فأصاب، ووافق قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد كان كثير الإصابة رضي الله عنه اهـ. انتهى كلام وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": وأما ما أخرجه أبو داود، والترمذيّ، من وجه آخر عن ابن عبّاس "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المشرق العقيق

(2)

". فقد تفرّد به يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، وإن كان حفظه فقد جمع بينه وبين حديث جابر وغيره بأجوبة:

(منها): أن ذات عرق ميقات الوجوب، والعقيق ميقات الاستحباب؛ لأنه أبعد من ذات عرق. (ومنها): أن العقيق ميقات لبعض العراقيين، وهم أهل المدائن، والآخر ميقات لأهل البصرة، وقع ذلك في حديث لأنس عند الطبرانيّ، وإسناده ضعيف.

(ومنها): أن ذات عرق كانت أوّلاً في موضع العقيق الآن، ثم حُوّلت، وقربت إلى مكة، فعلى هذا، فذات عرق، والعقيق شيء واحد. ويتعيّن الإحرام من العقيق، ولم يقل به أحد، وإنما قالوا: يستحبّ احتياطًا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه التأويلات كلها لا حاجة إليها؛ لأن الحديث ضعيفٌ كما سبق، فلماذا هذه التأويلات المتكلّفة؟، واللَّه المستعان.

قال: وحكى ابن المنذر عن الحسن بن صالح أنه كان يُحرم من الرَّبَذَة، وهو قول القاسم بن عبد الرحمن، وخُصيف الجزريّ، قال ابن المنذر: وهو أشبه في النظر، إن كانت ذات عرق غير منصوصة، وذلك أنها تُحاذي ذا الحليفة، وذات عرق بعدها،

(1)

- راجع "طرح التثريب" 5/ 12 - 14.

(2)

- العقيق المذكور هنا واد يتدفّق ماؤه في غور تهامة، وهو غير العقيق المذكور في حديث عمر الذي أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، عن عكرمة، أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إنه سمع عمر رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أتاني الليلة آت من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة". أفاده في "الفتح" ج 4ص 169.

ص: 10

والحكم فيمن ليس له ميقات أن يحرم من أول ميقات يحاذيه، لكن لما سنّ عمر ذات عرق، وتبعه عليه الصحابة، واستمرّ عليه العمل، كان أولى بالاتباع. انتهى ما في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه آخر]: قال في "الفتح" أيضًا: ما حاصله: استُدلّ بتحديد عمر رضي الله عنه ذات عرق على أن من ليس له ميقات أن عليه أن يحرم إذا حاذى ميقاتًا من هذه المواقيت الخمسة، ولا شكّ أنها محيطة بالحرم، فذو الحليفة شاميّة، ويلملم يمانية، فهي مقابلها، وإن كانت إحداهما أقرب إلى مكة من الأخرى، وقرن شرقيّة، والجحفة غربيّة، فهي مقابلها، وإن كانت إحداهما كذلك، وذات عرق تحاذي قرنًا، فعلى هذا فلا تخلو بقعة من بقاع الأرض من أن تحاذي ميقاتًا من هذه المواقيت، فبطل قول من قال: من ليس له ميقات، ولا يحاذي ميقاتًا، هل يحرم من مقدار أبعد من المواقيت، أو أقربها؟، ثم حكى فيه خلافًا، والفرض أن هذه الصورة لا تتحقّق؛ لما قلته، إلا أن يكون قائله فرضه فيمن لم يَطّلِع على المحاذاة، كمن يجهلها. وقد نقل النوويّ في "شرح المهذّب" أنه يلزمه أن يُحرم على مرحلتين، اعتبارًا بقول عمر هذا في توقيته ذات عرق. وتُعُقّب بأن عمر إنما حدّها لأنها تحاذي قرنًا، وهذه الصورة إنما هي حيث يجهل المحاذاة، فلعلّ القائل بالمرحلتين أخذ بالأقلّ، لأن ما زاد عليه مشكوك فيه. لكن مقتضى الأخذ بالاحتياط أن يعتبر الأكثر الأبعد. ويحتمل أن يفرّق بين من عن يمين الكعبة، وبين من عن شمالها؛ لأن المواقيت التي عن يمينها أقرب من التي عن شمالها، فيقدر لليمين الأقرب، وللشمال الأبعد، واللَّه أعلم.

ثم إن مشروعيّة المحاذاة مختصّة بمن ليس له أمامه ميقات معيّنٌ، فأما من له ميقات معيّن، كالمصريّ مثلاً يمرّ ببدر، وهي تحاذي ذا الحليفة، فليس عليه أن يحرم منها، بل له التأخير حتى يأتي الجحفة، واللَّه تعالى أعلم انتهى ما في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور من أن من ليس له ميقات معيّن إذا لم يأت على ميقات من المواقيت المذكورة عليه يحرم من حذاء أقرب المواقيت إلى طريقه هو الحقّ؛ لما تقدّم من أثر عمر رضي الله عنه، فقد وافقه عليه الصحابة رضي الله عنهم، فيما وقّت به ذات عرق، حيث أمر أهل العراق بأن ينظروا حذو قرن من طريقهم، فيحرموا منه.

وأما قول ابن حزم: إنه يحرم من حيث شاء؛ وادعى أنه يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن

(1)

- "فتح" 4/ 168.

(2)

- راجع "الفتح" ج 4ص 166 - 169.

ص: 11

كان دون ذلك الخ" فبعيد، لأنه ليس دون المواقيت المذكورة، فكيف يتناوله الحديث، بل ما دلّ عليه ما نُقل عن عمر رضي الله عنه، ووافقه الصحابة عليه هو الصواب؛ لأننا وإن قلنا بصحة توقيت ذات عرق مرفوعًا، إلا أن عمر رضي الله عنه لما لم يسمع النصّ قال: "انظروا حذوها من طريقكم"، ووافقه الصحابة الذين لم يسمعوا التوقيت من النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فهو أولى بالاتباع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌23 - (مَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ)

2657 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، قَالَ: «هُنَّ

(1)

لَهُمْ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ، مِمَّنْ سِوَاهُنَّ

(2)

، لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، مِنْ حَيْثُ بَدَأَ، حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ أَهْلَ مَكَّةَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن جعفر": هو غندر. و"معمر": هو ابن راشد. والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى قبل بابين.

ودلالته على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- واضحةٌ، وهي أن من كان أهله داخل هذه المواقيت فميقاته مكان أهله، إن أراد النسك منه، وإلا فمن حيث أراد.

وقوله: "لمن أراد الحجّ والعمرة" فيه دلالة لمذهب الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-، أن من أراد دخول مكة لحاجة مّا، لا يلزمه الإحرام من الميقات، وهو الراجح، وسيأتي في محلّه -107/ 2867 - إن شاء اللَّه تعالى.

وقوله: "من حيث بدأ" بالهمز بمعنى أنشأ في الرواية الأخرى، وفي بعض النسخ "بدا" بالألف بدل الهمزة، فيحتمل أن تكون مبدلة من الهمزة تخفيفًا. ويحتمل أن يكون من بدا الشيءُ يبدو، بمعنى ظهر، أي من حيث ظهر له الإنشاء. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "حتى يبلغ ذلك أهل مكة" الإشارة إلى الحكم المذكور، أي حتى يبلغ

(1)

- وفي نسخة: "هي لهم".

(2)

- وفي نسخة: "ممن سواهم".

ص: 12

الحكم المذكور، وهو إنشاء الإحرام من مكانه أهل مكةَ، فينشؤون منها، وهذا بالنسبة للحجّ، وأما بالنسبة للعمرة، فميقاتهم أدنى الحلّ عند الجمهور، وهو الحقُّ؛ لحديث اعتمار عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من التنعيم، وقد تقدّم تمام البحث في ذلك قبل بابين، وباللَّه تعالى التوفيق.

ووقع في "الكبرى": "ما يبلغ ذلك أهل مكة"، والظاهر أنه غلط. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2658 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، فَهُنَّ لَهُمْ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ، مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ، فَمِنْ أَهْلِهِ، حَتَّى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متَّفق عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه قريبًا. و"حمّاد": هو ابن زيد. و"عمرو": هو ابن دينار. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌24 - (التَّعْرِيسُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ)

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على استحباب التعريس بالموضع المسمّى بـ "ذي الحليفة" اتباعًا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "التعريس": هو نزول المسافر للاستراحة. قال الخطابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: التعريس نزول استراحة لغير إقامة، وأكثر ما يكون آخر الليل، وخصّه بذلك الأصمعيّ، وأطلق أبو زيد انتهى

(1)

.

وقال في "النهاية": التعريس نزول المسافر آخر الليل، نَزْلَةً للنوم، والاستراحة، يقال منه: عرّس يُعرّس تعريسًا، ويقال فيه: أعرس، والْمُعَرَّسُ: موضع التعريس، وبه سمي مُعَرَّسُ ذي الحليفة، عرّس به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصلّى فيه الصبح، ثم رحل انتهى

(2)

.

(1)

- راجع "الفتح" ج 2ص 147 "كتاب الصلاة".

(2)

- راجع "النهاية في غريب الحديث" ج 3ص 206.

ص: 13

وقال في "المصباح": ما ملخّصه: عرّس المسافر: إذا نزل ليستريح نَزْلة، ثم يرتحلُ، قال أبو زيد: وقالوا: عرّس القوم في المنزل تعريسًا: إذا نزلوا، أيّ وقت كان، من ليل أو نهار انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2659 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَثْرُودٍ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، قَالَ: ابْنُ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ أَبَاهُ، قَالَ: بَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ، بِبَيْدَاءَ وَصَلَّى فِي مَسْجِدِهَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عيسى بن إبراهيم بن مَثْرُود) الغافقي، أبو موسى المصريّ، ثقة من صغار [10] 31/ 819.

2 -

(ابن وهب) عبد اللَّه المصري، ثقة ثبت [9] 9/ 9.

3 -

(يونس) بن يزيد الأيلي، ثقة [7] 9/ 9.

4 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري المدني الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

5 -

(عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر) العدوي، أبو بكر المدني، شقيق سالم، ثقة [3] 3/ 1451.

6 -

(أبوه) عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأن رجاله رجال الصحيح غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود، وأن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وأن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعي، وأن فيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - أنه (قَالَ: بَاتَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بذِي الْحُلَيفَةِ، بِبَيْدَاءَ) هكذا نسخ "المجتبى" ببيداء"، وليست هذه اللفظة في "الكبرَى"، وهي في "صحيح مسلم" بلفظ "مبدأه".

قال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: هو بفتح الميم، وضمّها، والباء ساكنة فيهما، أي ابتداء حجه، ومبدأه منصوب على الظرف، أي في ابتدائه انتهى

(1)

.

(1)

- راجع "شرح مسلم" للنوويّ ج 8ص 336.

ص: 14

وعلى ما في لفظ مسلم شرح السنديّ، ولعله وجد نسخة من "المجتبى" بهذا اللفظ، وإلا فالنسخ التي بين يديّ كلها باللفظ الأول. واللَّه تعالى أعلم.

و"البيداء": -بفتح الموحّدة، والمدّ-: المفازة، والجمع بِيدُ -بالكسر-، مثل بَيضاء، وبيض.

(وَصَلَّىَ فِي مَسْجِدِهَا) قال في "الفتح": يحتمل أن يكون للإحرام. ويحتمل أن يكون للفرض، وسيأتي من حديث أنس رضي الله عنه:"أنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر بذي الحليفة ركعتين". انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني هو الأظهر. واللَّه تعالى أعلم.

ثم إن الظاهر أن هذا النزول عند الذهاب إلى مكة، وهو ظاهر تصرّف المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. ويحتمل أن يكون في الرجوع، ويؤيّده حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - بلفظ:"وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات بها حتى أصبح". ويمكن الجمع بأنه كان يفعل الأمرين ذهابًا وإيابًا. أفاده في "الفتح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -24/ 2659 و 2660 و 2661 - وفي "الكبرى" 24/ 3639 و 3640 و 3641.

وأخرجه (خ) في "الصلاة" 483 و 492 و"الحج" 1514 و 1532 و 1533 و 1534 و 1541 و 1553 و 1554 و 1573 و 1574 و 1767 و 1799 و"المزارعة" 2336 و"الجهاد والسير" 2865 و"اللباس" 5851 و"الاعتصام بالكتاب والسنة" 7345 (م) في "الحج" 1186 و 1187 و 1188 و 1259 و 1257 و 1346 (د) في "المناسك " 1771 و 1772 و 2044 (ت) في "الحجّ" 818 (ق) في "المناسك" 2916 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4804 و 48227 و 5569 و 5600 و 5781 و 5858 و 5886 و 5968 و 66170 و 6191 (الموطأ) في "الحجّ"740. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان استحباب التعريس في

ص: 15

مُعرّس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، اقتداءً به، ولكنه ليس من النسك. (ومنها): فضل ذلك المعرَّس، حيث قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنك ببطحاء مباركة"، وفي رواية البخاريّ:"صلّ في هذا الوادي المبارك". (ومنها): استحباب نزول الحجّاج في منزل قريب من بلدهم، ومبيتهم به، ليجتمع إليهم من تأخّر عنهم، ممن أراد أن يرافقهم، وليستدرك حاجته من نسيها مثلا، فيرجع إليها من قريب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في التعريس بذي الحليفة:

قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: اختُلف في نزوله صلى الله عليه وسلم ببطحاء ذي الحليفة على أقوال:

(أحدها): أن ذلك جرى اتفاقًا، لا عن قصد، فهو كبقيّة منازل الحجّ، وهو ظاهر ما حكاه ابن عبد البرّ عن محمد بن الحسن، أنه قال: إنما هو مثل المنازل التي نزل بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من منازل طريق مكة، وبلغنا أن ابن عمر كان يتّبع آثاره تلك، فينزل بها، فكذلك قيل مثل ذلك بالْمُعرّس. وذكر محمد هذا توجيهًا لقول أبي حنيفة: من مَرّ بالْمُعَرّس من ذي الحليفة، راجعًا من مكة، فإن أحبّ أن يُعرّس به حتى يصلّي فَعَل، وليس ذلك عليه.

(ثانيها): أنه قصد النزول به، لكن لا لمعنى فيه. حكى القاضي عياض عن بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم إنما نزل به في رجوعه حتى يُصبح؛ لئلاّ يفجأ الناسُ أهاليهم ليلاً، كما نهى عنه صريحًا في الأحاديث المشهورة.

(ثالثها): أنه نزل به قصدًا، لمعنى فيه، وهو التبرّك به، ويدلّ له:"أنه صلى الله عليه وسلم أُتِي، فقيل له: إنك ببطحاء مباركة". وهو في "الصحيحين"، وغيرهما -وهي الرواية التالية للنسائي- ويدلّ له أيضًا صلاته صلى الله عليه وسلم به، وما فُهم من لفظ الحديث، من مواظبته على النزول به، لكنه ليس من مناسك الحجّ، بل هو سنّة مستقلّة. وبهذا قال الجمهور، قال مالك في "الموطّإ": لا ينبغي لأحد أن يُجاوز المعرّس إذا قفل حتى يصلّي فيه، وأنه من مرّ به في غير وقت صلاة، فليُقِم حتى تحَلّ الصلاةُ، ثم يُصلي ما بدا له؛ لأنه بلغني أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عرّس به، وأن عبد اللَّه بن عمر أناخ به. قال ابن عبد البرّ: واستحبّه الشافعيّ، ولم يأمر به. وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي: ليس نزوله صلى الله عليه وسلم بالمعَرَّس كسائر منازل طريق مكة؛ لأنه كان يُصلّي الفريضة حيث أمكنه، والمعرّس إنما كان يصلّي فيه نافلةً، ولا وجه لتزهيد الناس في الخير، ولو كان المعرّسُ كسائر المنازل ما أنكر ابن عمر على نافع تأخّره عنه. وذكر حديث موسى بن عقبة، عن نافع، أن ابن

ص: 16

عمر سبقه إلى المعرّس، فأبطأ عليه، فقال: ما حبسك؟، فذكر عذرًا، فقال: ظننت أنك أخذت الطريق، ولو فعلتَ لأوجعتك ضربًا.

(رابعها): أنه من مناسك الحجّ، وهذا شيء اقتضت عبارة ابن عبد البرّ في "التمهيد" حكايته عن ابن عمر، فإنه قال: وليس ذلك من سنن الحجّ، ومناسكه التي يجب على تاركها فدية، أو دم، عند أهل العلم، ولكنّه حسنُ عند جميعهم، إلا ابن عمر، فإنه جعله سنّة انتهى. فإن كانت هذه العبارة ليست صريحة في إيجاب ابن عمر فديةً بتركه، فهي صريحة في أن ابن عمر زاد على غيره من أهل العلم في استحبابه زيادةً لم يقولوا بها، فيُعدّ حينئذ مذهبًا غير ما تقدّم انتهى كلام وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح المذاهب عندي ما هب إليه الجمهور من استحباب التعريس في مُعرّس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة؛ اقتداء به صلى الله عليه وسلم، حيث أُتي، فقيل له:"صلّ في هذا الوادي المبارك". وفي لفظ: "أُتي فقيل له: إنك ببطحاء مباركة". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2660 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُوَيْدٍ، عَنْ زُهَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ -وَهُوَ فِي الْمُعَرَّسِ، بِذِي الْحُلَيْفَةِ- أُتِيَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"عبدة بن عبد اللَّه": هو الصفّار الخُزَاعيّ، أبو سهل البصريّ كوفيّ الأصل، ثقة [11] 18/ 800.

و"سُويد": هو ابن عمرو الكلبيّ، أبو الوليد الكوفيّ، ثقة عابد، من كبار [10] 67/ 1809.

و"زُهير": هو ابن معاوية بن حُدَيج الجعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، الثقة الثبت [7] 38/ 42.

وقوله: "وهو في المعرّس الخ" جملة حاليّة معترضة بين اسم "أنّ" وخبرها، وهو جملة "أُتي الخ".

و"المُعَرَّسُ" -بضمّ الميم، وفتح العين المهملة، وتشديد الراء المفتوحة، ثم سين مهملة- بصيغة اسم المفعول: موضع نزول المسافر للاستراحة، وهو هنا موضع تعريس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، قال الحافظ السيوطيّ في "شرحه": هو على ستة أميال من

(1)

- رجع "طرح التثريب" ج 5ص 181 - 182.

ص: 17

المدينة" انتهى.

والمراد بـ "المعرّس" هو وداي العقيق المذكور فيما أخرجه البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أتاني الليلة آتٍ من ربّي، فقال: صلّ في هذا الوادي المبارك، وقيل: عمرةٌ في حجة".

قال في "الفتح": هو بقرب المدينة، بينه وبين المدينة أربعة أميال

(1)

. روى الزبير بن بكّار في "أخبار المدينة" أن تُبّعًا لَمّا رجع من المدينة انحدر في مكان، فقال: هذا عقيق الأرض، فسمّي العقيق انتهى

(2)

.

وقوله: "أُتي" بالبناء للمفعول، أي أتاه ملك من ربّه، قال في "الفتح": هو جبريل.

و"البطحاء" تأنيث الأبطح، وهو مَسِيلٌ واسعٌ فيه دُقاق الحصى. أفاده في "القاموس".

والحديث أخرجه البخاريّ، والمسائل المتعلّقة به تقدّمت في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2661 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ، الَّتِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَصَلَّى بِهَا").

قال الجامع -عفا اللَّه تعالى عنه-: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، وهو ثقة.

و"ابنُ القاسم": هو عبد الرحمن الْعُتَقيّ المصريّ، صاحب مالك إمام دار الهجرة -رحمهم اللَّه تعالى-.

وقوله: "أناخ": أي أبرك راحلته، للاستراحة. والحديث أخرجه البخاري، وقد سبق البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

(1)

- تقدّم عن السيوطيّ أنه ستة أميال. فليحرّر. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

- "فتح" ج 4ص 171.

ص: 18

‌25 - (الْبَيْدَاءُ)

2662 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ -وَهُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْعَثُ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ- عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صَلَّى الظُّهْرَ بِالْبَيْدَاءِ، ثُمَّ رَكِبَ، وَصَعِدَ جَبَلَ الْبَيْدَاءِ، فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المروزي، نزيل نيسابور، ثقة ثبت إمام [10] 2/ 2.

2 -

(النضر بن شُمَيل) المازني، أبو الحسن النحوي البصري، نزيل مرو، ثقة ثبت من كبار [9] 41/ 45.

3 -

(أشعث بن عبد الملك) الحُمراني، أبو هانئ البصري، ثقة فقيه [6] 129/ 191.

4 -

(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصري الإمام الحجة الثبت، يرسل ويدلس [3] 32/ 36.

5 -

(أنس بن مالك) الصحابي الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى- وأن رجاله رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالبصريين غير شيخه كما سبق آنفًا. وأن فيه أنسًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة مات سنة (2) أو (93) وقد جاوز مائة سنة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكِ) الأنصاريّ النجّاريّ، خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رضي اللَّه تعالى - عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صلَّى الظُّهْرَ بِالْبَيْدَاءِ) قال في "النهاية": "البيداء": المفازة، لا شيء بها، وهي هنا اسم موضع، مخصوص بين مكة والمدينة، وأكثر ما تَرِدُ ويُراد بها هذه انتهى

(1)

. وقال أبو عبيد البكريّ: البيداء هذه فوق عَلَمي ذي الحليفة لمن صَعِدَ من

(1)

- راجع "النهاية" 1/ 171.

ص: 19

الوادي انتهى

(1)

.

(ثمَّ رَكِبَ) ولأبي داود: "ثم ركب راحلته"(وَصَعِدَ جَبَلَ الْبَيْدَاءِ، فَأَهَلَّ بِالْحَجَّ وَالْعُمْرَةِ) أي رفع صوته بالتلبية بهما معًا (حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ) الظرف متعلّق بـ "أهلّ" يعني أن إهلاله لم يتأخّر عن صلاة الظهر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، إن سلم من عنعنة الحسن، فإنه مدلّس. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 25/ 2662 و 56/ 2755 و 143/ 2931 - وفي "الكبرى" 25/ 3642 و 55/ 3736. وأخرجه (د) في "المناسك" 1774 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 12741 (الدارمي) في "المناسك" 1807. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): الصلاة عند البيداء (ومنها): أن الإحرام يكون بعد الصلاة (ومنها): أن الإهلال يكون على جبل البيداء، على ما دلّ عليه حديث أنس رضي الله عنه هذا، ويخالفه حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وغيره، وسيأتي الجمع بين الروايات المختلفة في هذا الباب في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): مشروعيّة رفع الصوت بالتلبية. (ومنها): مشروعيّة القرآن بالحجّ، وسيأتي بيان اختلاف العلماء، في أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم هل كان متمتعًا، أم قارنًا، أم مفردًا؟، في محله إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في مبدإ الإهلال بالحجّ، أو العمرة: ذهب الإمامان: مالك، والشافعيّ، وجمهور العلماء -رحمهم اللَّه تعالى- إلى أن الأفضل أن يُحرم إذا انبعثت به راحلته؛ لاتفاق أغلب الروايات في المعنى، وأصحّها، وأشهرها على أنه صلى الله عليه وسلم أهلّ عند انبعاث راحلته، وانبعاثُها هو استواؤها قائمة.

وذهب الأئمة: أبو حنيفة، وأحمد، وداود -رحمهم اللَّه تعالى- إلى أنه يُحرِم عقب الصلاة، وهو جالس في مصلاّه، قبل ركوب دابّته، وقبل قيامه، قال النوويّ: وهو قول

(1)

- راجع "زهر الربى" 5/ 128.

ص: 20

ضعيف للشافعيّ.

قال الحافظ: قد اتفق علماء الأمصار على جواز جميع ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ومنشأ هذا الخلاف: اختلاف الروايات عن الصحابة رضي الله عنهم في مبدإ إهلال النبيّ صلى الله عليه وسلم:

(فمنها): ما يدلّ على أنه أهلّ في دبر الصلاة في مسجد ذي الحليفة، كما في رواية ابن عبّاس، عند أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ، والبيهقيّ، وفي رواية أبي داود المازنيّ، عند ابن حزم -7/ 93 -

(1)

.

(ومنها): ما يدلّ على أنه أهلّ حين استوت به ناقته قائمة، خارج مسجد ذي الحليفة عند الشجرة، كما وقع في روايات ابن عمر، عند أحمد، والشيخين، وغيرهم. وفي حديث أنس عند البخاريّ، وأبي داود، والبيهقيّ، والطحاويّ. وقال الزيلعيّ بعد ذكر حديث أنس: وأخرج أي البخاريّ أيضًا عن عطاء، عن جابر، أن إهلال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته انتهى.

وقال المجد في "المنتقى" بعد ذكر حديث جابر: رواه البخاريّ، وقال: رواه أنس، وابن عباس انتهى.

(ومنها): ما يدلّ على أنه أهلّ حين استوت به على البيداء، أي بعد ما علا على شرف البيداء، كما وقع في روايات ابن عباس أيضًا عند أحمد، والبخاريّ، ومسلم، والنسائيّ، وأبي داود، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، والحاكم، والطحاويّ. وفي حديث جابر عند مسلم، والترمذيّ، والطحاويّ. وفي حديث أنس عند أحمد، والنسائيّ، وأبي داود. وفي حديث سعد بن أبي وقّاص عند أبي داود، والنسائيّ، والبيهقيّ، والحاكم.

ووجه الجمع بين هذه الروايات المختلفة أن الناس كانوا يأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم أرسالاً، جماعة بعد أخرى، فرأى قوم شروعه صلى الله عليه وسلم في الإهلال بعد الفراغ من صلاته بمسجد ذي الحليفة، فنقلوا عنه أنه أهلّ بذلك المكان، ثم أهلّ لَمّا استقلّت به راحلته، فسمعه

(1)

-هو ما أخرجه ابن حزم بسنده، عن محمد بن جرير الطبريّ، حدثني محمد بن عبد اللَّه بن سعيد الواسطي، نا يعقوب بن محمد، نا محمد بن موسى، نا إسحاق بن سعيد بن جبير، عن جعفر بن حمزة بن أبي داود المازنيّ، عن أبيه عن جدّه، أبي داود -وهو بدريّ- قال:"خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الحجّ، فلما كان بذي الحليفة، صلّى في المسجد أربع ركعات، ثم لبّى دبر الصلاة، ثم خرج إلى باب المسجد، فإذا راحلته قائمة، فلما انبعثت به أهلّ، فلما علا البيداء أهلّ". انتهى "المحلّى" 7/ 93.

ص: 21

آخرون، فظنّوا أنه شرع الآن في ذلك الوقت؛ لأنهم لم يسمعوا إهلاله بالمسجد، فقالوا: إنما أهلّ عند ما استقلّت به راحلته، ثم رَوَى كذلك من سمعه يُهلّ على شرف البيداء.

وإلى هذا الجمع مال ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-، حيث قال: صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين، ثم أهلّ بالحجّ والعمرة في مصلّاه، ثم ركب على ناقته، وأهلّ أيضًا، ثمّ أهلّ لَمّا استقلّت به على البيداء انتهى مختصرًا ملخّصًا

(1)

.

ويؤيّد هذا الجمع ما رواه أحمد، وأبو داود، والحاكم، والبيهقيّ، والطحاويّ، ولفظ أحمد:

2354 -

حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثنا خصيف بن عبد الرحمن الجزريّ، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لعبد اللَّه بن عباس: يا أبا العباس، عجبًا لاختلاف أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، في إهلال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حين أوجب، فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، فمن هنالك اختلفوا.

"خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حاجا، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه، أوجب في مجلسه، فأهل بالحج، حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام، فحفظوا عنه، ثم ركب، فلما استقلت به ناقته أهلّ، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يُهلّ، فقالوا: إنما أهل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما علا على شَرَف البيداء أهلّ، وأدرك ذلك منه أقوام، فقالوا: إنما أهلّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حين علا على شرف البيداء، وايم اللَّه لقد أوجب في مصلاه، وأهلّ حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء، فمن أخذ بقول عبد اللَّه بن عباس أهلّ في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه"

(2)

.

قال الطحاويّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد روايته حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - المذكور: فبيّن عبد اللَّه بن عبّاس الوجه الذي منه جاء اختلافهم، وأن إهلال النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي ابتدأ به الحجّ، ودخل به فيه كان في مصلاّه، فبهذا نأخذ، ينبغي للرجل إذا أراد الإحرام أن يصلي ركعتين، ثم يُحرم في دبرهما، كما فَعَل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد انتهى.

(1)

- راجع "زاد المعاد" 2/ 158 تحقيق الأرنؤط.

(2)

- قوله: "فمن أخذ بقول ابن عبّاس الخ من قول سعيد بن جبير، كما بينه أبو داود، في "سننه"،والحاكم في "مستدركه"، 1/ 451.

ص: 22

وقال الحافظ في "الفتح": وقد أزال الإشكال أي إشكال اختلاف الروايات في مكان إهلاله صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو داود، والحاكم من طريق سعيد بن جبير، قلت لابن عبّاس: عَجِبتُ

فذكر الحديث، ثم قال: فعلى هذا، فكان إنكار ابن عمر على من يخصّ الإهلال بالقيام على شرف البيداء انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في حمل إنكار ابن عمر على ما ذُكر نظر لا يخفى؛ إذ إنكاره غير قاصر على ذلك، كما يتّضح من مراجعة رواياته، فتأمّل. واللَّه تعالى أعلم.

وقال الشوكانيّ في شرح حديث ابن عباس المذكور: هذا الحديث يزول به الإشكال، ويجمع بين الروايات المختلفة بمافيه، فأوضحه، ثم قال: وهذا يدلّ على أن الأفضل لمن كان ميقاته ذا الحليفة أن يُهلّ في مسجدها بعد فراغه من الصلاة، ويكرّر الإهلال عند أن يركب على راحلته، وعند أن يمرّ بشرف البيداء انتهى.

وقال الحافظ في "الدراية": وقد ورد ما يجمع بين هذه الأحاديث من حديث ابن عبّاس، عند أبي داود، والحاكم، فذكره، ثم قال: وهذا لو ثبت لرجح ابتداء الإهلال عقب الصلاة، إلا أنه من رواية خُصيف، وفيه ضعف انتهى.

وقال أبو محمد ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-: حديث ابن عباس هذا في طريقه خُصيف، وهو ضعيف، وحديث أبي داود الأنصاريّ المازنيّ من طريقة قوم غير مشهورين.

والأحاديث الدّالّة على إحرامه صلى الله عليه وسلم بعد ما استقلّت به راحلته، وإحرامه بعد الاستواء على البيداء كلها صحيحة، متّفق على صحّتها، إلا أن في أحاديث ابن عمر زيادة على حديث جابر، وأنس، وعائشة رضي الله عنهم، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أهلّ من عند مسجد ذي الحليفة حين أدخل رجله في الغَرْز

(1)

، واستقلّت به الراحلة، وهذا صريح في الدلالة على أنه لم يكن عقب الركوب، ولا في مصلاّه، ولو صحّ حديث ابن عبّاس، وأبي داود لوجب تقديم العمل به على حديث ابن عمر؛ لما فيه من الزيادة، لكن لَمّا كان حديث ابن عمر متّفقًا على صحّته، ولم يصحّ حديثهما وجب المصير إليه دونهما. ولَمّا كان في حديث ابن عمر زيادة على حديث من سواه ممن اتّفق على صحّة روايته، وهي كون الإهلال من عند المسجد، فيكون ذلك قبل الاستواء على البيداء، وجب العمل به، ويكون من رواه عند الاستواء على البيداء إنما سمعه حالتئذ يلبّي، فظنّ أن ذلك أوّل إهلاله.

ويمكن أن يُقضى بحديث ابن عمر على حديث ابن عبّاس، ويكون قوله:"في مصلاّه" زيادة من الراوي، ليس من قول ابن عبّاس، ويصدق على من أحرم من عند

(1)

- الغَرْز، بوزن الفلس: ركاب الإبل.

ص: 23

المسجد عند استقلال ناقته به أنه لَمّا فرغ من ركعتيه أهلّ، ولا يلزم من ذلك التعقيب. وهذا الجمع أولى من إسقاط حديث من أصله. واللَّه أعلم انتهى كلام ابن حزم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن حزم حَسنٌ جدًّا.

وحاصله أن الإحرام يكون عند الركوب، حين يُدخل رجله في الغَرْز؛ لحديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، إذ فيه زيادة على غيره، كما قال ابن حزم. ولو صحّ حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - لكان هو المقدّم؛ لأن فيه زيادة على حديث ابن عمر؛ لأنه عقب الصلاة، وهو جالس؛ إلا أن في سنده خُصيف بن عبد الرحمن الجزريّ، وهو متكلّم فيه، ولا سيّما فيما خالف فيه الثقات.

وأما تصحيح الحاكم له على شرط مسلم، وموافقة الذهبيّ له، وكذا تحسين الترمذي على ما نقله الزيلعيّ عنه، وإن كانت النسخ الموجودة ليس فيها التحسين، وإنما قال: هذا حديثٌ غريبٌ، فكلّ هذا لا يخفى ما فيه من التساهل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌26 - (الْغُسْلُ لِلإِهْلَالِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عبارة "الكبرى": "أبواب الإحرام" - "الغسل للإهلال". قال ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى-: الإهلال: رفع الصوت بالتلبية، يقال: أهلّ المحرمُ بالحجّ يهُلّ إهلالاً: إذا لبّى، ورفع صوته. والْمُهَلّ بضم الميم -وفتح الهاء-: موضع الإهلال، وهو الميقات الذي يُحرمون منه، ويقع على الزمان، والمصدر. انتهى

(1)

.

وقال الفيّومّي -رحمه اللَّه تعالى-: أَهَلّ المولودُ إهلالاً: خرج صارخًا بالبناء للفاعل.

واستُهلّ بالبناء للمفعول عند قوم، وللفاعل عند قوم كذلك. وأهَلّ المحرمُ: ركع صوته بالتلبية عند الإحرام، وكلّ من رفع صوته فقد أهلّ إهلالاً، واستَهَلّ استهلالاً بالبناء للفاعل فيهما، وأُهلّ الهلالُ بالبناء للمفعول، وللفاعل أيضًا، ومنهم من يمنعه. واستُهلّ بالبناء للمفعول، ومنهم من يُجيز بناءه للفاعل. وهَلّ من باب ضرب لغةٌ أيضًا: إذا ظهر. وأهللنا الهلالَ، واستهللناه: رفعنا الصوت برؤيته. وأهلّ الرجل: رفع صوته

(1)

- راجع "النهاية" 5/ 271.

ص: 24

بذكر اللَّه تعالى عند نعمة، أو رؤية شيء يُعجبه. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2663 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، أَنَّهَا وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِالْبَيْدَاءِ، فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «مُرْهَا، فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لْتُهِلَّ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد/بن سلمة) بن أبي فاطمة المراديُّ الجَمَلِيُّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمد الأموي مولاهم، أبو عمرو المصريّ القاضي، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

3 -

(ابن القاسم) هو: عبد الرحمن العُتَقيُّ، أبو عبد اللَّه المصري الفقيه، صاحب مالك، ثقة من كبار [10] 19/ 20.

4 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الثقة الفقيه الحجة [7] 7/ 7.

5 -

(عبد الرحمن بن القاسم) بن محمد التيمي، أبو محمد المدني، ثقة جليل [6] 120/ 166.

6 -

(أبوه) عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي المدني الفقيه، ثقة فاضل، من كبار [3] 120/ 166.

7 -

(أسماء بنت عميس) رضي الله عنها تأتي قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأن رجاله رجال الصحيح غير شيخه الحارث، فقد تفرد به هو وأبو داود، وأنه مسلسل بالمدنيين من مالك والباقون مصريون، وأن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه القاسم من الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيسٍ) - بمهملتين مصغّرًا- ابن معد -بوزن سَعْد، أوله ميم- ابن

الحارث بن تيم بن كعب بن مالك بن قُحافة بن عامر بن ربيعة بن غانم بن معاوية بن زيد

(1)

- راجع "المصباح المنير" في مادة هلل.

ص: 25

الخعثمية، صحابيّة فاضلة، روت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنها ابنها عبد اللَّه بن جعفر، وحفيدها القاسم بن محمد، وعبد اللَّه بن عباس ابن أختها لبابة بنت الحارث، وابن أختها الأخرى عبد اللَّه بن شدّاد بن الهاد، وغيرهم. كانت أوّلاً تحت جعفر بن أبي طالب، ثم تزوّجها أبو بكر بعد قتل جعفر، فولدت له محمدًا، ثم عليّ بن أبي طالب، قيل: ولدت له ابنه عونًا، وقيل: ولدت له عونًا، ويحيى. وهي أخت ميمونة بن الحارث، أم المؤمنين لأمها، وأخت جماعة من الصحابيّات، لأب، أو أم، أو لأب وأم، ويقال: إن عدّتهنّ تسع. وقيل: عشر لأم، وستّ لأم وأب، هاجرت إلى الحبشة، مع زوجها جعفر، فولدت له هناك أولادًا. وقال ابن سعد، عن الواقديّ، عن محمد بن صالح، عن يزيد بن رُومان: أسلمت أسماء قبل دخول دار الأرقم، وبايعت، ثم هاجرت مع جعفر إلى الحبشة، فولدت له هناك عبد اللَّه، ومحمدًا، وعونًا، ثم تزوجها أبو بكر بعد قتل جعفر. وكان عمر يسألها عن تفسير المنام، ونُقل عنها أشياء من ذلك، ومن غيره. ويقال: إنها لما بلغها قتل ولدها محمد بن أبي بكر بمصر قامت إلى مسجد بيتها، وكظمت غيظها، حتى شَخَبَت ثدياها دمًا. وفي "الصحيح" عن أبي بردة، عن أسماء: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها: "لكم هجرتان، وللناس هجرة واحدة". وأخرج ابن سعد من مرسل الشعبيّ، قالت أسماء للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول اللَّه، إن رجالاً يفخرون علينا، ويزعمون أَنّا لسنا من المهاجرين الأولين، فقال:"بل لكم هجرتان". ثم أخرج من عدة أوجه أن أبا بكر الصديق أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عُميس. وأخرج ابن السكن بسند صحيح، عن الشعبيّ، قال: تزوّج عليّ أسماء بنت عُميس، فتفاخر ابناها محمد ابن جعفر، ومحمد بن أبي بكر، فقال كلّ منهما: أنا أكرم منك، وأبي خير من أبيك، فقال لها عليّ: اقض بينهما، فقالت: ما رأيت شابًّا خيرًا من جعفر، ولا كهلاً خيرًا من أبي بكر، فقال عليّ: فما أبقيت لنا؟، ماتت بعد عليّ - رضي اللَّه تعالى عنهم - أجمعين

(1)

. أخرجِ لها الأربعة. ولها في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. (أَنَّهَا وَلَدَتْ مُحَمَدَ بْنَ أَبِي بَكْبر الصَّدَّيقِ) من صغار الصحابة، وُلد في طريق مكة في حجة الوداع، ونشأ في حجر عليّ رضي الله عنه؛ لأنه كان زوج أمه، ورَوَى عن أبيه مرسلاً، وعن أمه، وغيرها قليلاً، ورَوَى عنه ابنه القاسم، وشهد مع عليّ الْجَمَل وصفّين، ثم أرسله إلى مصر أميرًا، فدخلها في شهر رمضان، سنة سبع وثلاثين، فولي إمارتها لعليّ، ثم جهّز معاوية عمرو بن العاص في عسكر إلى مصر، فقاتلهم محمد، وانهزم، ثم قتل

(1)

- راجع "الإصابة" 12/ 116/ 117. و "تهذيب التهذيب" 4/ 663/ 664.

ص: 26

في صفر سنة ثمان. حكاه ابن يونس، وقال: إنه اختفى لما انهزم في بيت امرأة، فأُخذ من بيتها، فقتل. وقال ابن عبد البرّ: كان عليّ يُثني عليه، ويفضّله، وكانت له عبادة واجتهاد، ولما بلغ عائشة قتله حزنت عليه جدًّا، وتولّت تربية ولده القاسم، فنشأ في حجرها، فكان من أفضل أهل زمانه

(1)

.

وفي "تهذيب التهذيب": قال ابن يونس: قَدِم مصر أميرًا عليها من قِبَل عليّ بن أبي طالب، وجُمع له صِلاتها وخَرَاجها، فدخل في رمضان سنة (37) وقيل: في صفر سنة (38) قبل يوم الْمُسَنّاة لَمّا انهزم المصريون، فقيل: إنه اختفى في بيت امرأة من غافق آواه فيه أخوها، وكان الذي يطلبه مُعاويةَ بن حُدَيج، فلقيتهم أخت الرجل الذي كان اَواه، وكانت ناقصة العقل، فظنّت أنهم يطلبون أخاها، فقالت: أدلّكم على محمد بن أبي بكر على أن لا تقتلوا أخي، قالوا: نعم، فدلّتهم عليه، فقال: احفظوني لأبي بكر، فقال معاوية: قتلتُ ثمانين من قومي في دم عثمان، وأتركك، وأنت صاحبه؟، فقتله، حدّثنا بذلك من أمره حسن بن محمد المدينيّ، عن يحيى بن بُكير، عن الليث، عن عبد الكريم بن الحارث بهذا، أو نحوه. وقال ابن حبّان: قيل: إن محمدًا قُتل في المعركة. وقيل: إن عمرو بن العاص قتله بعد أن أسره انتهى

(2)

.

(بالْبَيدَاءِ) متعلّق بـ "ولدت". وفي رواية لمسلم: "بالشجرة"، وفي أخرى:"بذي الحليَفة". قال النووي: هذه المواضع الثلاثة متقاربة، فالشجرة بذي الحليفة، وأما البيداء، فهي بطرف ذي الحليفة. قال القاضي عياض: يحتمل أنها نزلت بطرف البيداء؛ لتبعد عن الناس، وكان منزل النبيّ صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة حقيقةً، وهناك بات، وأحرم، فسمّي منزل الناس كلّهم باسم منزل إمامهم انتهى

(3)

.

(فَذَكَرَ أَبُو بَكْر ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي ذكر ولادتها، وسأله ماذا تصنع؟. وفي رواية مسلم:"فأرسلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كيف أصنع؟ ". قال الباجي في شرح رواية "الموطّإ": يحتمل أن أبا بكر سأل أن النفاس الذي يمنع الصلاة، والصوم، يمنع صحة الحجّ، فبيّن صلى الله عليه وسلم أنه لا ينافي الحجّ. ويحتمل أنه سأل عن اغتسالها للإحرام إن علم أن إحرامها بالحجّ يصحّ، فخاف أن النفاس يمنع الاغتسال الذي يوجب حكم الطهر انتهى.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مُرْهَا، فَلْتَغْتَسِلْ) فيه غسل النفساء للإحرام، وإن لم تطهر، وفي حكمها

(1)

- راجع "الإصابة" 9ص 308 - 309.

(2)

- راجع "تهذيب التهذيب" 3/ 523 - 524.

(3)

- راجع "شرح مسلم" للنوويّ 8/ 372.

ص: 27

الحائض، فهو غسل نظافة، لا غسل طهارة، لأنها لم تخرج عن نفاسها.

وقال الخطابيّ في "معالم السنن": في الحديث استحباب التشبّه من أهل التقصير بأهل الفضل والكمال، والاقتداء بأفعالهم، طمعًا في درك مراتبهم، ورجاءً لمشاركتهم في نيل المثوبة، ومعلوم أن اغتسال الحائض والنفساء قبل أوان الطهر لا يطهّرهما، ولا يخرجهما عن حكم الحدث، وإنما هو لفضيلة المكان والوقت.

قال وليّ الدين العراقيّ: هذا يدلّ على أن العلة عنده في اغتسالهما التشبّه بأهل الكمال، وهنّ الطاهرات. والظاهر أنه إنما هو لشمول المعنى الذي شُرع الغسل لأجله، وهو التنظيف، وقطع الرائحة الكريهة؛ لدفع أذاها عن الناس عند اجتماعهم، وبذلك عللَّه الرافعيّ، ولا يَرِد عليه التيمّم عند العجز

(1)

؛ لأن التنظيف هو أصل مشروعيته للإحرام، فلا ينافيه قيام التراب مقامه؛ لأنه يقوم مقام الغسل الواجب، فالمسنون أولى، وبعد استقرار الحكم قد لا توجد علته في بعض المحالّ انتهى

(2)

.

(ثُمَّ لِتُهِلَّ) أي لتلبّي بالحجّ. وفي الرواية التالية: "فأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يأمرها أن تغتسل، ثم تُهلّ بالحجّ، وتصنع ما يصنع الناس، إلا أنها لا تطوف بالبيت".

وفي حديث جابر بن عبد اللَّه الآتي -57/ 2761 - : "فقال: اغتسلي، واستثفري بثوب، ثم أهلّي". وفي 57/ 2762 - : "فأمرها أن تغتسل، وتستثفر بثوبها، وتُهلّ).

و"الاتثفار" بالثاء المثلّثة: أن تحتشي المرأة قطنًا، وتشدّ في وسطها شيئًا، وتأخذ خرقة عريضةً تجعلها على محلّ الدم، وتشدّ طرفيها من قدّامها، ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها، وهو شَبيه بثَفَر الدّابّة، بفتح الفاء.

والمقصود أن تجعل هناك ما يمنع من سيلان الدم؛ تنزيها أن تظهر النجاسة عليها، إذ لا تقدر على أكثر من ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أسماء بنت أبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا منقطع بهذا الإسناد، لكنه متصل من حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - عند مسلم 2900، وأبي داود 1743، وابن ماجه 2911، ومن حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - عند مسلم 2901، والمصنف

(1)

-أي عند من يراه كالشافعيّة، وإلا فبعض العلماء لا يراه.

(2)

-راجع "المرعاة" 9/ 4.

ص: 28

في "الطهارة" 214 و"الحيض" 392 و"الحج" 2660 و 2761، فهو حديث صحيح.

(المسألة الثانية): هذا الحديث مما تفرّد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- عن أصحاب الأصول، أخرجه هنا-26/ 2663 - وفي "الكبرى" 26/ 3643.

وأخرجه أحمد في "باقي مسند الأنصار"26544. ومالك في (الموطإ) في "الحجّ" 709. ورواه مالك أيضًا عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أن أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر بذي الحليفة، فأمرها أبو بكر أن تغتسل، ثم تُهلّ.

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى- في "الاستذكار": حديث عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن أسماء مرسل -أي منقطع-؛ لأنه لم يسمع القاسم من أسماء بنت عُميس. وقد رواه سليمان بن بلال، قال: حدثنا يحيى بن سعيد إلى آخر الرواية الآتية للمصنّف بعد هذا، قال: فذكره مسندًا.

قال: ورواه إسحاق بن محمد الفَرْويّ أيضًا مسندًا، عن عبد اللَّه بن عمر العمريّ، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. وعن نافع، عن ابن عمر أن أبابكر خرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعه أسماء بنت عميس، حتى إذا كانت بذي الحليفة ولدت أسماء محمد بن أبي بكر، فاستفتى لها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"مرها، فلتغتسل، ثم تُهلّ".

قال: مرسل مالك أقوى، وأثبت من مسانيد هؤلاء؛ لما ترى من اختلافهم في إسناده، والفَرْويّ ضعيف. وسليمان بن بلال أحد ثقات أهل المدينة.

وأما حديث مالك عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، فاختلفوا فيه عن سعيد، فرواه ابن وهب، عن الليث، ويونسَ، وعمرِو بنِ الحارث، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، مرفوعًا: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس، أم عبد اللَّه ابن جعفر، وكانت عاركًا

(1)

أن تغتسل، ثم تُهلّ بالحجّ". قال ابن شهاب: فلتفعل المرأة في العمرة ما تفعل في الحجّ.

ورواه ابن عيينة، عن عبد الكريم الجزريّ، وعن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب، موقوفًا على أبي بكر، كما رواه مالك. انتهى كلام ابن عبد البرّ ببعض تصرّف

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعيّة الغسل للإهلال.

(ومنها): سؤال الشخص ولو بواسطة عما يجهله من الأحكام الشرعيّة. (ومنها): أن

(1)

- العارك: هي الحائض، أو النفساء، وهو المراد هنا.

(2)

- راجع "الاستذكار" 11/ 7 - 10.

ص: 29

النفساء تؤمر بالغسل عند الإحرام للنظافة، لا للطهار، ومثلها الحائض (ومنها): أن النفاس لا يَمْنَعُ عن أفعال الحجّ، بخلاف الصلاة، والصوم (ومنها): أن النفساء وكذا الحائض لا يطوفان بالبيت حتى يطهرا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاغتسال للإحرام:

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: في أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الحائض، والنفساء بالغسل عند الإهلال دليلٌ على تأكيد الإحرام بالغسل بالحجّ، أو العمرة. إلا أن جمهور العلماء يستحبّونه، ولا يوجبونه، وما أعلم أحدًا من المتقدّمين أوجبه إلا الحسن البصريّ، فإنه قال في الحائض، والنفساء: إذا لم تغتسل عند الإهلال اغتسلت إذا ذكرت، وبه قال أهل الظاهر: الغسل واجب عند الإهلال على كلّ من أراد أن يهلّ، وعلى كلّ من أراد الحجّ طاهرًا كان، أو غير طاهر. وقد روي عن عطاء إيجابه، وروي عنه أن الوضوء يكفي منه. انتهى كلام ابن عبد البرّ

(1)

.

وقال العلاّمة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: من أراد الإحرام استُحبّ له أن يغتسل قبله في قول أكثر أهل العلم، منهم: طاوس، والنخعيّ، ومالك، والثوريّ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي؛ لما روى خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله، واغتسل. رواه الترمذيّ، وقال: حديث حسن غريب

(2)

.

وثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس، وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام. وأمر عائشة أن تغتسل عند الإهلال بالحجّ، وهي حائض. ولأن هذه العبادة يجتمع لها الناس، فسُنّ لها الاغتسال، كالجمعة. وليس ذلك واجبًا في قول عامة أهل العلم.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإحرام جائزٌ بغير اغتسال، وأنه غير واجب. وحكي عن الحسن أنه قال: إذا نسي الغسل يغتسل إذا ذكر.

وقال الأثرم: سمعت أبا عبد اللَّه، قيل له عن بعض أهل المدينة: من ترك الغسل عند الإحرام، فعليه دم؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لأسماء، وهي نفساء:"اغتسلي"، فكيف الطاهر؟ فأظهر التعجّب من هذا القول. وكان ابن عمر يغتسل أحيانًا، ويتوضّأ أحيانًا.

وأي ذلك فعل أجزأ، ولا يجب الاغتسال، ولا نُقل الأمر به، إلا لحائض، أو نفساء، ولو كان واجبًا لأمر به غيرهما. انتهى كلام ابن قدامة

(3)

.

(1)

- راجع "الاستذكار" 11/ 11.

(2)

- في سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد، متكلّم فيه، إلا أن لحديثه شواهد، فلا ينزل عن درجة الحسن. راجع "مرعاة المفاتيح" 8/ 469 - 470.

(3)

- راجع "المغني" 5/ 75 - 76.

ص: 30

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما تقدّم عن أبي عمر من نسبة إيجاب الغسل على من أراد الإحرام مطلقًا للظاهرية يحتاج إلى نظر، فإن الذي ذكره ابن حزم، وهو من أئمتهم الاستحاب فقط، إلا على النفساء وحدها، ولفظه:

[مسألة]: ونستحبّ الغسل عند الإحرام للرجال والنساء، وليس فرضًا إلا على النفساء وحدها، ثم أورد بسنده حديث الباب

(1)

.

قال الجامع: هذا الذي قاله ابن حزم هو الذي يترجّح عندي.

وحاصله: أن الاغتسال مستحبّ، إلا على النفساء، والحائض، فيجب عليهما؛ لورود النصّ بلفظ الأمر، ولم يوجد له صارف، لا من نصّ، ولا من إجماع، فيفيد الوجوب عليهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2664 -

(أَخْبَرَنِي

(2)

أَحْمَدُ بْنُ فَضَالَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ النَّسَائِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي

(3)

سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ- قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ:"أَنَّهُ خَرَجَ حَاجًّا، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ، أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةُ، فَلَمَّا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَلَدَتْ أَسْمَاءُ، مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَتَى أَبُو بَكْرٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْمُرَهَا، أَنْ تَغْتَسِلَ، ثُمَّ تُهِلَّ بِالْحَجِّ، وَتَصْنَعَ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ، إِلاَّ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن فَضالة -بفتح الفاء- ابن إبراهيم" أبو المنذر النسائيّ، صدوق ربما أخطأ [11].

روى عن خالد بن مَخْلَد، وعبد الرزّاق، وأبي عاصم، وغيرهم. وعنه المصنّف، وأبو عبد الرحمن هُبيرة بن الحسن الملقّب تُرْكَة. قال النسائيّ: لا بأس به. وقال مسلمة ابن قاسم: لا بأس به، وكان يخطئ. قال ابن عساكر: مات سنة (572). انفرد به المصنّف، روى عنه في أربعة مواضع، برقم-2664، وفي 4122 و 4620 و 5480.

"محمد بن أبي بكر" الصديق القرشيّ التيميّ، أبو القاسم المدنيّ، له رؤية، ولد عام حجة الوداع، وقُتل سنة (38). وكان عليّ يُثني عليه لعباده واجتهاده. روى له المصنّف وابن ماجه حديث الباب فقط. وتقدّمت ترجمته في شرح الحديث الماضي.

(1)

- راجع "المحلّى" 7/ 82.

(2)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(3)

- وفي نسخة: "حدثنا".

ص: 31

و"خالد بن مخلد": هو الْقَطَوَانيّ الكوفيّ، صدوق يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10] 192/ 307.

و"سليمان بن بلال": هو أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقة [8] 30/ 558.

وقوله: "حاجَّا" منصول على الحال من فاعل "خرج". وقوله: "حجة الوداع" بفتح الحاء المهملة، وكسرها، منصوب على أنه مفعول مطلق مبيّن للنوع، وسبب تسميتها بحجة الوداع؛ لكون النبيّ صلى الله عليه وسلم ودّع الناس فيها، وتمام شرح الحديث تقدم في الحديث الذي قبله. واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا فيه انقطاع؛ لأن محمد بن أبي بكر لم يسمع من أبيه، لكنه متّصل بأسانيد أُخر صحاح، كما أشرت إليه في الحديث الذي قبله، فهو صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه المصنّف هنا -26/ 2664 - وفي "الكبرى" 26/ 3644. وأخرجه (ق) في "المناسك" 2912. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌27 - (غَسْلُ الْمُحْرِمِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الغسل" -بفتح الغين المعجمة -: مصدر غَسَلَ الشيءَ، من باب ضرب، والغُسل بالضم اسم منه، والجمع أَغسال، مثل قُفْل وأقفال، وبعضهم يجعل المضموم والمفتوح بمعنًى، وعزاه إلى سيبويه. وقيل: الغُسل بالضمّ هو الماء الذي يُتطهّر به. أفاده في "المصباح".

والمراد به هنا غسل المحرم رأسه، وسائر بدنه. قال في "الفتح": عند قول البخاريّ: "باب الاغتسال للمحرم": أي ترَفُّهَا، وتنظّفًا، وتطهّرًا من الجنابة. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمحرم أن يغتسل من الجنابة. واختلفوا فيما عدا ذلك. وكأن

ص: 32

المصنّف أشار إلى ما رُوي عن مالك أنه كره للمحرم أن يُغطّي رأسه في الماء. وروى في "الموطّإ" عن نافع، عن ابن عمر، كان لا يغسل رأسه، وهو محرم، إلا من احتلام انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2665 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا بِالأَبْوَاءِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ: لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ، فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، أَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، بَيْنَ قَرْنَيِ الْبِئْرِ، وَهُوَ مُسْتَتِرٌ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، أَسْأَلُكَ، كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَغْسِلُ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ، حَتَّى بَدَا رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لإِنْسَانٍ: يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفيّ، أبو رجال البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس المذكور في الباب الماضي.

3 -

(زيد بن أسلم) العدوي مولاهم المدني، ثقة فقيه [3] 64/ 80.

4 -

(إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين) الهاشمي مولاهم، أبو إسحاق المدني، ثقة [3] 97/ 1041.

5 -

(أبوه) عبد اللَّه بن حنين الهاشمي مولاهم المدني، ثقة [3] 97/ 1041.

6 -

(أبو أيوب الأنصاري) خالد بن زيد رضي الله عنه يأتي قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه فبغلاني، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: زيد عن إبراهيم عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسلَمَ) العدويّ المدنيّ مولى عمر بن الخطاب التابعي (عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَينٍ).

(1)

- "فتح" 4/ 532 - 533.

ص: 33

قال في "الفتح": قوله: "عن زيد بن أسلم، عن إبراهيم" كذا في جميع "الموطّآت"، وأغرب يحيى بن يحيى الأندلسيّ، فأدخل بين زيد وإبراهيم نافعًا، قال ابن عبد البرّ: وذلك معدود من خطئه انتهى.

وقال أيضًا: قوله: "عَنْ إِبْرَاهِيمَ" في رواية ابن عيينة، عن زيد: أخبرني إبراهيم. أخرجه أحمد، وإسحاق، والحميديّ في "مسانيدهم"، عنه. وفي رواية ابن جريج عند أحمد: عن زيد بن أسلم: أن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين مولى ابن عبّاس أخبره. كذا قال: "مولى ابن عباس". وقد اختلف في ذلك، والمشهور أن حنينًا كان مولى للعبّاس، وهبه له النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأولاده موال له. قاله في "الفتح"(عَنْ أَبِيهِ) عبد اللَّه بن حنين (عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَبَّاسٍ) الحبر البحر المشهور - رضي اللَّه تعالى عنهما - (وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةً) ابن نوفل بن أُهيب بن عبد مناف بن زُهرة الزهريّ، أبي عبد الرحمن، له، ولأبيه صحبة - رضي اللَّه تعالى عنهما -، مات سنة (64 هـ).

والمراد أنه أخبر عن قصّتهما، فالكلام على حذف مضاف، فليس المراد أن عبد اللَّه ابن حنين أخبر بهذا الخبر راويًا عنهما.

وقوله (أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا) في تأويل المصدر بدل عن المجرور قبله، أي عن اختلافهما.

وفي رواية البخاريّ من رواية عبد اللَّه بن يوسف، عن مالك:"أن عبد اللَّه بن عباس، والمسور بن مَخْرَمة اختلفا الخ". وفي رواية ابن جريج عند أبي عوانة: كنت مع ابن عباس، والمسور.

(بِالْأَبْوَاءِ) بفتح الهمزة، وسكون الموحّدة وزان أَفّعال: موضع بين مكة والمدينة،

ويقال له: وَدّان

(1)

. قاله في "المصباح". أي وهما نازلان بها. وفي رواية ابن عيينة: "بالعَرْج"، وهو بفتح أوّله، وإسكان ثانيه: قرية جامعة قريبة من الأبواء.

(فَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ) الظاهر أنه قال ذلك اجتهادًا منه؛ لأنه ربما يتسبّب في انتتاف شعره، فخشيةً لذلك قال: لا يغسل (فَأرْسَلَني ابْنُ عَبّاسٍ، إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الأنصَارِيِّ) واسمه خالد بن زيد بن كُليب، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، شهد بدرًا، ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه حين قَدِمَ المدينة، مات غازيًا بالروم سنة (50هـ) وقيل: بعدها، تقدّمت ترجمته في 20/ 20.

زاد ابن جريج، فقال: "قل له: يقرأ عليك السلامَ ابنُ أخيك عبدُ اللَّه بن عباس،

(1)

- وفي "القاموس": موضع ترب وَدّان.

ص: 34

ويسألك".

(أَسْألُهُ عَنْ ذَلِكَ) أي عن حكم غسل المحرم رأسه (فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، بَيْنَ قَرْنَيِ الْبِئْرِ) بفتح القاف: تثنية قَرْن، وهما الخشبتان القائمتان على رأس البئر، وشبههما من البناء، وتُمدّ بينهما خشبة يُجرّ عليها الحبل المستقَى به، وتُعلّق عليها البكرة. قاله النوويّ

(1)

.

(وَهُوَ مُسْتَتِرٌ بِثَوْب) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل. ولفظ "الكبرى": وهو يُستَرُ بثوب" (فَسَّلَّمْتُ عَلَيْهِ) فيه أنه يُشرع السلام على من يغتسل، ولذا لم ينكر عليه أبو أيوب، وقد ثبت في "الصحيحين"، وغيرهما

(2)

في قصّة أم هانئ - رضي اللَّه تعالى عنها - أنها قالت: ذهبت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، عام الفتح، فوجدته يغتسل - وفاطمة ابنته تستره- قالت: فسلمت عليه، فقال: "من هذه؟

" الحديث.

زاد في رواية مسلم: "فقال: "من هذا؟ فقلت: أنا عبد اللَّه بن حُنين، أرسلني إليك عبد اللَّه بن عباس

" الحديث.

(وَقُلْتُ: أَرْسَلَنِي إِلَيكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ، أَسْأَلُكَ، كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، يَغْسِلُ رَأْسَهُ) قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: الظاهر أن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - كان عنده نصّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذه عن أبي أيوب، أو غيره، ولهذا قال عبد اللَّه بن حُنين لأبي أيوب: أسألك كيف كان يغسل رأسه؟، ولم يقل: هل كان يغسل رأسه، أوْلا؟، على حسب ما وقع فيه اختلاف بين المسور، وابن عباس.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ويحتمل أن يكون عبد اللَّه بن حُنين تصرّف في السؤال لفطنته، كأنه لَمّا قال له: سله، هل يغتسل المحرم، أوْلَا؟، فجاء، فوجده يغتسل، فهم من ذلك أنه يغتسل، فأحبّ أن لا يرجع إلا بفائدة، فسأله عن كيفيّة الغسل، وكأنه خصّ الرأس بالسؤال؛ لأنها موضع الإشكال في هذه المسألة؛ لأنها محلّ الشعر الذي يُخشى انتتافه، بخلاف بقية البدن غالبا انتهى كلام الحافظ

(3)

.

(وَهُوَ مُحْرِمٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ) الأنصاريّ رضي الله عنه (يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ) أي الذي جعله ساترًا بينه وبين الناس (فَطَأْطَأَهُ) أي أزاله عن رأسه. وفي رواية ابن عيينة، عن زيد:"جمع ثيابه إلى صدره حتى نظرت إليه"

(1)

-شرح مسلم 8/ 364.

(2)

-تقدّم للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- برقم -225. في "الطهارة".

(3)

-راجع "الفتح" 4/ 533 - 534.

ص: 35

(حَتَّى بَدَا رَأْسُهُ) أي ظهر لي رأسه، فرأيته. وفي رواية ابن جريج:"حتى رأيت رأسه، ووجهه".

(ثمَّ قَالَ: لإِنْسَانٍ" قال الحافظ: لم أقف على اسمه (يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ"إنسان". ومقول القول في رواية المصنّف محذوف، تقديره:"اصبُبْ". ولفظ البخاريّ: "ثم قال لإنسان يصبّ عليه: اصبب، فصبّ على رأسه

" (ثمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأقْبَلَ بِهمَا وَأَدْبَرَ) أي ذهب بيديه إلى جهة قُدَّامه، ثم ردّهما إلى ورائه، مبالغة في وصول الماء إلى البشرة.

وفي رواية ابن جريج: "فأمرّ أبو أيوب بيديه على رأسه جميعًا، على جميع رأسه، فأقبل بهما، وأدبر".

(وَقَالَ) أي أبو أيوب رضي الله عنه (هكذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ) وفي "الكبرى": "النبيّ"(صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ) زاد في رواية ابن عيينة، عن زيد:"فرجعت إليهما، فأخبرتهما، فقال المسور لابن عبّاس: لا أُماريك أبدًا". أي لا أجادلك. وأصل المراء استخراج ما عند الإنسان، يقال: أمرى فلانٌ فلانًا: إذا استخرج ما عنده. قاله ابن الأنباريّ. وأطلق ذلك في المجادلة؛ لأن كلاّ من المتجادلين يَستخرج ما عند الآخر من الحجة. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي أيوب الأنصاريّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-27/ 2665 وفي "الكبرى" 27/ 3645. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1840 (م) في "الحجّ" 1255 (د) في "المناسك" 1840 (ق) في "المناسك" 2934 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23018 و 23036 و 23066 (الموطأ) في "الحجّ" 712 (الدارمي) في "المناسك" 1793. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعيّة الاغتسال للمحرم.

(ومنها): غسل المحرم رأسه، وتشريبه شعره بالماء، ودلكه بيده إذا أمن تناثره. واستدلّ

(1)

- "فتح" 4/ 534.

ص: 36

به القرطبيّ على وجوب الدلك في الغسل، قال: لأن الغسل لو كان يتمّ بدونه لكان المحرم أحقّ بأن يجوز له تركه. قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه

(1)

.

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن تخليل شعر اللحية في الوضوء باق على استحبابه، خلافًا لمن قال: يكره، كالمتولّي من الشافعيّة، خشية انتتاف الشعر؛ لأن في الحديث:"ثم حرّك رأسه بيده". ولا فرق بين شعر الرأس واللحية، إلا أن يقال: إن شعر الرأس أصلب. والتحقيق أنه خلاف الأولى في حقّ بعض دون بعض. قاله السبكيّ الكبير. قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بل الإطلاق هو التحقيق؛ لأن الشارع الحكيم ما استثنى الحاجّ حين شرع تخليل اللحية. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): الرجوع إلى النصّ عند الاختلاف، وترك الاجتهاد، والقياس عند وجود النصّ.

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: في هذا الحديث من الفقه أن الصحابة رضي الله عنهم إذا اختلفوا لم تكن في قول واحد منهم حجة على غيره، إلا بدّليل يجب التسليم له، من الكتاب، أو السنّة، ألا ترى أن ابن عباس والمسور رضي الله عنهم لما اختلفا لم يكن لواحد منهما حجة على صاحبه حتى أدلى ابن عبّاس بالحجة بالسنة، ففلج -أي فاز، وغلب خصمه بحجته-.

وهذا يبيّن لك أن قوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم

(3)

" هو على ما فسّره المزنيّ وغيره، وأن ذلك في النقل؛ لأن جميعهم ثقات عدول، فواجب قبول من نقل كلّ واحد منهم، ولو كانوا كالنجوم في آرائهم، واجتهادهم إذا اختلفوا لقال ابن عباس للمسور: أنت نجم، وأنا نجمٌ، فلا عليك، وبأيّنا اقتدى المقتدي فقد اهتدى، ولَمَا احتاج لطلب البيّنة، والبرهان من السنّة على صحّة قوله.

وكذا سائر الصحابة رضي الله عنهم إذا اختلفوا حكمهم كحكم ابن عبّاس والمسور، وهم أوّل من تلا:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59].

قال العلماء: إلى كتاب اللَّه، وإلى سنة نبيّه صلى الله عليه وسلم ما كان حيًّا، فإن قُبض فإلى سنّته. ألا ترى أن ابن مسعود قيل له: أنَّ أبا موسى الأشعريّ قال في أخت، وابنة ابن: إن للابنة النصفَ، وللأخت السدسَ، ولا شيء لبنت الابن. وأنه قال للسائل: ائت ابن

(1)

- "فتح" 4/ 534.

(2)

- "فتح" 4/ 534.

(3)

-حديث واه سيأتي الكلام عليه.

ص: 37

مسعود، فإنه سيتابعنا، فقال ابن مسعود:{قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 56] أقضي فيها بقضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "للبنت النصفُ، ولابنة الابن السدسُ تكملة للثلثين، وما بقي فللأخت".

وبعضهم لم يرفع هذا الحديث، وجعله موقوفًا على ابن مسعود، وكلّهم رووا فيه:{قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} الآية.

وفي "الموطإ" أن أبا موسى الأشعريّ أفتى بجواز رضاع الكبير، وردّ ذلك عليه ابن مسعود، فقال أبو موسى: لا تسألوني ما دام هذا الحبر بين أظهركم.

وروى مالك عن ابن مسعود: أنه رجع عن قوله في الربيبة إلى قول أصحابه في المدينة

(1)

.

وهذا الباب طويل إذا كان الصحابة خير أُمّة أُخرجت للناس، وهم أهل العلم والفضل، لا يكون أحدهم حجة على صاحبه، إلا الحجة من كتاب اللَّه، أو سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فمن دونهم أولى أن يَعضِدَ قولَه بما يجب التسليم له.

قال مجاهد في قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} الآية [السبأ: 6] قال: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

قال مالك: الحكم حكمان: حكم جاء به كتاب اللَّه، وحكم أحكمته السنّةُ. قال: ومجتهدُ رأيه، فلعلّه يُوفّق، ومتكلّف، فطُعن عليه.

قال: وذكر ابن وضاح، عن ابن وهب، قال: قال لي مالك: الحكمة، والعلم نورٌ يهدي به اللَّه من يشاء، ويؤتي الحكمة من أحبّ من عباده، وليس بكثرة المسائل. قال

(1)

- رواه مالك في "الموطإ" في "كتاب النكاح" - "باب ما لا يجوز من نكاح الرجل أم امرأته"، ولفظه: وحدثني عن مالك، عن غير واحد، أن عبد اللَّه بن مسعود، استفتي وهو بالكوفة، عن نكاح الأم بعد الابنة، إذا لم تكن الابنة مُسّت، فأرخص في ذلك، ثم إن ابن مسعود، قدم المدينة، فسأل عن ذلك، فأخبر أنه ليس كما قال، وإنما الشرط في الربائب، فرجع ابن مسعود إلى الكوفة، فلم يصل إلى منزله، حتى أتى الرجل الذي أفتاه بذلك، فأمره أن يفارق امرأته، قال مالك، في الرجل تكون تحته المرأة، ثم ينكح أمها، فيصيبها: إنها تحرم عليه امرأته، ويفارقهما جميعًا، ويحرمان عليه أبدا، إذا كان قد أصاب الأم، فإن لم يصب الأم، لم تحرم عليه امرأته، وفارق الأم، وقال مالك، في الرجل يتزوج المرأة، ثم ينكح أمها، فيصيبها: إنه لا تحل له أمها أبدا، ولا تحل لأبيه، ولا لابنه، ولا تحل له ابنتها، وتحرم عليه امرأته، قال مالك: فأما الزنا، فإنه لا يحرم شيئًا من ذلك، لأن اللَّه تبارك وتعالى قال:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} ، فإنما حرم ما كان تزويجا، ولم يذكر تحريم الزنا، فكل تزويج كان على وجه الحلال، يصيب صاحبه امرأته، فهو بمنزلة التزويج الحلال، فهذا الذي سمعت، والذي عليه أمر الناس عندنا.

ص: 38

أبو عمر: وقد استوفينا هذا المعنى في "كتاب العلم"

(1)

. انتهى كلام أبي عمر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(2)

. وهو بحث نفيس جدًّا إلا ما يأتي من الكلام على الحديث الذي احتج به.

(ومنها): استتار الشخص عند الاغتسال بالثوب عند الاغتسال، وأن الذي كان يستره بالثوب، لا يطّلع منه على ما يتستّر به من مثله، فالسترة واجبة عن القريب والبعيد.

(ومنها): قبول خبر الواحد، وأن قبوله كان مشهورًا عند الصحابة رضي الله عنهم (ومنها): السلام على المتطهّر في وضوء، أو غسل، بخلاف الجالس على الحدث. (ومنها): جواز الاستعانة في الطهارة، ولكن الأولى تركها إلا لحاجة. قاله النوويّ

(3)

.

(ومنها): أن فيه الاعتراف للفاضل بفضله، وإنصاف الصحابة بعضهم بعضًا، - رضي اللَّه تعالى عنهم - أجمعين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): حيث ذكر الحافظ أبو عمر في كلامه السابق حديث: "أصحابي كالنجوم" موهمًا أنه حديث ثابت، مع أنه لا يثبت، وقد تَكَلّم فيه هو في غير هذا الكتاب، فلا بدّ من بيان ما قاله العلماء فيه

(4)

، حتى يتبيّن الحقّ، وكذلك ما اشتهر على الألسنة:"اختلاف أمتي رحمة".

أما الأول، فقد رُوي من حديث جابر، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث عمر بن الخطاب، وابنه عبد اللَّه:

(أما حديث جابر رضي الله عنه): فهو: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".

رواه ابن عبد البرّ في "جامع العلم" 2/ 91، وابن حزم في "الأحكام" 6/ 82 من طريق سلام بن سليم، قال: حدثنا الحارث بن غُضَين، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، مرفوعًا به.

وقال ابن عبد البرّ: هذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن الحارث بن غضين مجهول.

وقال ابن حزم: هذه رواية ساقطة، أبو سفيان ضعيف، والحارث بن غُضَين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك.

قال الشيخ الألباني: الحمل في هذا الحديث على سلام بن سليم- ويقال: ابن سليمان، وهو الطويل- أولى

(5)

، فإنه مجمع على ضعفه، بل قال ابن خراش: كذّاب.

(1)

-أي "كتاب جامع بيان العلم" 2/ 26 - 30.

(2)

- راجع "الاستذكار" 11/ 15 - 18.

(3)

- شرح النوويّ 8/ 364 - 365.

(4)

-لقد أجاد البحث في هذه الأحاديث المحدث الكبير الشيخ الألباني جزاه تعالى خيرًا على ما أفاد في كتابه "السلسلة الضعيفة" 1/ 76 - 85 - من رقم 57 إلى رقم 62 - فاستفد منه.

(5)

قوله: "أولى" خبر قوله: "الحملُ" وقوله: "ويقال إلى قوله: "الطويل" جملة معترضة.

ص: 39

وقال ابن حبان: روى أحاديث موضوعة. وأما أبو سفيان فليس ضعيفًا، كما قال ابن حزم، بل هو صدوق، كما قال الحافظ في "التقريب"، وأخرج له مسلم في "صحيحه". انتهى

(1)

.

(وأما حديث ابن عباس): فهو: "مهما أوتيتم من كتاب اللَّه، فالعمل به، لا عذر لأحدكم في تركه، فإن لم يكن في كتاب اللَّه، فسنة مني ماضية، فإن لم يكن سنة مني ماضية، فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيها أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة".

أخرجه الخطيب في "الكفاية" ص 48، وابن عساكر، وغيرهما من طريق سليمان بن أبي كريمة، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، مرفوعًا به.

وهذا الإسناد ضعيف جدًّا، سليمان بن أبي كريمة قال ابن أبي حاتم: ضعيف الحديث. وجويبر هو ابن سعيد الأزديّ متروك. والضحّاك لم يلق ابن عباس.

(وأما حديث عمر رضي الله عنه): فهو: "سألت ربي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي، فأوحى اللَّه إليّ يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء، بعضها أضوأ من بعض، فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم، فهو عندي على هدى".

رواه ابن بطّة في "الإبانة" 4/ 11، والخطيب، وابن عساكر، وغيرهم من طريق نعيم ابن حماد، ثنا عبد الرحيم بن زيد العمّيّ، عن أبيه، عن سعيد بن المسيّب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعًا به. قال ابن الجوزيّ في "العلل": هذا لا يصحّ، نعيم مجروح، وعبد الرحيم قال ابن معين: كذّاب. وفي "الميزان": هذا الحديث باطل.

(وأما حديث ابن عمر): فهو: "إنما أصحابي مثل النجوم، فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم".

ذكره ابن عبد البرّ معلقًا، من طريق أبي شهاب الحفاظ، عن حمزة الجزريّ، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعًا به. ووصله عبد بن حميد في "المنتخب من المسند"، قال: أخبرني أحمد بن يونس، حدثنا أبو شهاب به. وروا ابن بطة في "الإبانة". وفي سنده حمزة بن أبي حمزة قال الدارقطنيّ: متروك. وقال ابن عديّ: عامة مروياته موضوعة. وقال ابن حبّان: ينفرد عن الثقات بالموضوعات، حتى كأنه المتعمد لها، ولا تحل الرواية عنه.

وقد ساق له الذهبي في "الميزان" أحاديث من موضاعاته، هذا منها.

(1)

- راجع "الضعيفة" 1/ 78 - 79.

ص: 40

وقال أبو محمد ابن حزم: 6/ 83 - : فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلاً، بل لا شكّ أنها مكذوبة؛ لأن اللَّه تعالى يقول في صفة نبيّه صلى الله عليه وسلم:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3و4] فإذا كان كلامه صلى الله عليه وسلم في الشريعة حقًّا، وواجبًا، فهو من اللَّه تعالى بلا شكّ، وما كان من اللَّه تعالى، فلا يُختَلَف فيه، لقوله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وقد نهى اللَّه تعالى عن التفرّق والاختلاف بقوله: {وَلَا تَنَازَعُوا} [الأنفال: 46] فمن المحال أن يأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم باتباع كلّ قائل من الصحابة رضي الله عنهم، وفيهم من يحلّل الشيء، وغيره يحرّمه، ولو كان ذلك لكان بيع الخمر حلالاً، اقتداءً بسمرة بن جندب، ولكان أكل البَرَد للصائم حلالاً، اقتداءً بأبي طلحة، وحرامًا اقتداءً بغيره منهم، ولكان ترك الغسل من الإكسال واجبًا، اقتداء بعليّ، وعثمان، وطلحة، وأبي أيوب، وأبيّ بن كعب، وحرامًا اقتداء بعائشة، وابن عمر، وكلّ هذا مرويّ عندنا بالأسانيد الصحيحة.

ثم أطال في بيان بعض الآراء التي صدرت من الصحابة، وأخطأوا فيها السنّة، وذلك في حياته صلى الله عليه وسلم، وبعد مماته، ثم قال (86): فكيف يجوز تقليد قوم يُخطئون، ويصيبون؟.

وقال قبل ذلك 5/ 64 - تحت باب "ذمّ الاختلاف":

وإنما الفرض علينا اتباع ما جاء به القرآن عن اللَّه تعالى الذي شرع لنا دين الإسلام، وما صحّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي أمره اللَّه تعالى ببيان الدين

فصحّ أن الاختلاف لا يجب أن يراعى أصلاً، وقد غلط قومٌ، فقالوا: الاختلاف رحمة، واحتجّوا بما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم". قال: وهذا الحديث باطل مكذوب من توليد أهل الفسق؛ لوجوه ضروريّة:

(أحدها): أنه لم يصحّ من طريق النقل. (والثاني): أنه صلى الله عليه وسلم لم يَجُز أن يأمر بما نهى عنه، وهو عليه السلام قد أخبر أن أبا بكر قد أخطأ في تفسير فسّره، وكَذَب عمر في تأويل تأوله في الهجرة، وخطأ أبا السنابل في فتيا أفتى بها في العدّة. فمن المحال الممتنع الذي لا يجوز البتة أن يكون عليه السلام يأمر باتباع ما قد أخبر أنه خطأ، فيكون حينئذ أمر بالخطأ، تعالى اللَّه عن ذلك، وحاشا له صلى الله عليه وسلم من هذه الصفة، وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنهم يُخطئون، فلا يجوز أن يأمر باتباع من يُخطىء، إلا أن يكون عليه السلام أراد نقلهم لما رووا عنه، فهذا صحيح؛ لأنهم رضي الله عنهم كلهم ثقات، فمن أيهم نقل فقد اهتدى الناقل.

(والثالث): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يقول الباطل، بل قوله الحقّ، وتشبيه المشبه للمصيبين بالنجوم تشبيه فاسد، وكذب ظاهر؛ لأنه من أراد مطلع الجدي، فأمّ جهة مطلع

ص: 41

السرطان لم يهتد، بل قد ضلّ ضلالاً بعيدًا، وأخطأ خطأ فاحشًا، وليس كلّ النجوم يُهتدى بها في كلّ طريق، فبطل التشبيه المذكور، ووضح كذب ذلك الحديث، وسقوطه وضوحًا ضروريًّا انتهى.

ونقل خلاصته ابن الملقّن في "الخلاصة" 175/ 2 وأقرّه، وبه ختم على الحديث، وقال: وقال ابن حزم: خبر مكذوب، موضوع، باطل، لم يصحّ قط.

وروي هذا الحديث بلفظ آخر، وهو:

"أهل بيتي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم". وهو في نسخة أحمد بن نبيط الكذّاب.

وقد قال الذهبيّ في هذه النسخة: فيها بلايا، وأحمد بن إسحاق لا يحلّ الاحتجاج به، فإنه كذاب. وأقرّه الحافظ في "اللسان".

(وأما حديث: "اختلاف أمتي رحمة"): فلا أصل له، قال السبكي -رحمه اللَّه تعالى-: ليس بمعروف عند المحدّثين، ولم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع.

وأما قول السيوطيّ في "الجامع الصغير": ولعله خُرّج في بعض كتب الحفّاظ التي لم تصل إلينا. فمن أعجب ما يُسمع ويرى من أمثال السيوطيّ الجامع بين النقل والعقل، فهل نقول لكل حديث موضوع: فلعل له سندًا صحيحًا لم يصل إلينا، إن لهو العجب العجاب!.

وقال أبو محمد ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى- في "الأحكام في أصول الأحكام" 5/ 65 بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث: وهذا من أفسد قول يكون، لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطًا، وهذا ما لا يقوله مسلم، لأنه ليس إلا اتفاق، أو اختلاف، وليس إلا رحمة، أو سخط.

[فإن قيل]: إن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا، وهم أفاضل الناس، أفيلحقهم الذمّ المذكور؟.

[قلت]: أجاب عنه الإمام ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-، فقال في كتابه المذكور 5/ 67 - 68 - : كَلاّ ما يلحق أولئك شيء من هذا؛ لأن كلّ امرئ منهم تحرّى سبيل اللَّه، ووجهة الحقّ، فالمخطىء منهم مأجور أجرًا واحدًا؛ لنيته الجميلة في إرادة الخير، وقد رُفع عنهم الإثم في خطئهم؛ لأنهم لم يتعمّدوه، ولا قصدوه، ولا استهانوا بطلبهم، والمصيب منهم مأجور أجرين، وهكذا كلّ مسلم إلى يوم القيامة فيما خفي عليه من الدين، ولم يبلغه، وإنما الذمّ المذكور، والوعيد المنصوص لمن ترك التعلّق بحبل اللَّه تعالى، وهو القرآن، وكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد بلوغ النصّ إليه، وقيام الحجّة به عليه، وتعلّق

ص: 42

بفلان وفلان، مقلّدًا عامدًا للاختلاف، داعيًا إلى عصبيّة، وحميّة الجاهليّة، قاصدًا للفرقة، متحريًا في دعواه بردّ القرآن والسنة إليها، فإن وافقها النصّ أخذ به، وإن خالفها تعلّق بجاهليّته، وترك القرآن، وكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهولاء هو المختلفون المذمومون، وطبقة أخرى، وهم قوم بلغت بهم رقّة الدين، وقلّة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كلّ قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة في قول كلّ عالم، مقلّدين له غير طالبين ما أوجبه النصّ عن اللَّه، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-، وهو تحقيقٌ نفيس جدًّا لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌28 - (النهْيُ عَنِ الثِّيَاب الْمَصْبُوغَةِ بِالْوَرْسِ، وَالزَّعْفَرَانِ فِي الإِحْرَامِ)

2666 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ، ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِزَعْفَرَانٍ، أَوْ بِوَرْسٍ").

رجال هذا الإسناد تقدّم الكلام عليهم قريبًا والحديث يأتي شرحه في الذي بعده والسند تقدّم قبل باب، غير عبد اللَّه بن دينار العدويّ مولاهم المدنيّ، ثقة [4] 167/ 260. والصحابي يأتي في السند التالي،. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2667 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ ، قَالَ: «لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْعِمَامَةَ، وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ، وَلَا زَعْفَرَانٌ، وَلَا خُفَّيْنِ، إِلاَّ لِمَنْ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن منصور) الجّواز المكي، ثقة [10] 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة، أبو محمد المكي، ثقة ثبت [8] 1/ 1.

ص: 43

3 -

(الزهري) محمد بن مسلم أبو بكر المدني الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

4 -

(سالم) بن عبد اللَّه بن عمر العدوي المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 23/ 490.

5 -

(أبوه) عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله رجال الصحيح غير شيخه فإنه من أفراده، وأنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ والباقيان مكيان، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ، وفيه سالم أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وأن هذا الإسناد أحد الأسانيد التي قيل فيها: إنها أصح الأسانيد. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَالِمِ) بن عبد اللَّه (عَنْ أَبِيهِ) عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية نافع: "أن رجلاً سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". قال الحافظ: لم أقف على اسمه في شيء من الطرق. وفي رواية الليث، عن نافع بلفظ:"قام رجل، فقال: يا رسول اللَّه ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟ ". وفي رواية عمر بن نافع، عن أبيه:"أن رجلاً سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا". وفي رواية أيوب، عن نافع: "نادى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: ما

نلبس إذا أحرمنا".

وهذا مشعر بأن السؤال عن ذلك كان قبل الإحرام.

وقد حكى الدارقطنيّ، عن أبي بكر النيسابوريّ أن في رواية ابن جريج، والليث، عن نافع أن ذلك كان في المسجد. قال الحافظ: ولم أر ذلك في شيء من الطرق عنهما. نعم أخرج البيهقيّ 5/ 49 - من طريق عبد اللَّه بن عون، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قام رجل من هذا الباب -يعني بعض أبواب مسجد المدينة-، فقال: يا رسول اللَّه ما يلبس المحرم؟.

و5/ 49 من طريق حمّاد بن زيد، عن أيوب، ومن طريق عبد الوهّاب بن عطاء، عن عبد اللَّه بن عون، كلاهما عن نافع، عن ابن عمر: نادى رجل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم،. هو يخطب بذلك المكان " -وأشار نافع إلى مقدّم المسجد- فذكر الحديث. فظهر أن ذلك كان بالمدينة.

ص: 44

ووقع في حديث ابن عباس عند الشيخين: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعرفات، فقال: من لم يجد الإزار

" الحديث، فيحمل على التعدّد، ويؤيّده أن حديث ابن عمر أجاب به السائل، وحديث ابن عبّاس ابتدأ به في الخطبة انتهى

(1)

.

(مَا يَلْبَسُ)"ما" استفهاميّة، أو موصولة، أو موصوفة في محلّ نصب مفعول ثان لـ"سأل". و"يلبس" بفتح المثنّاة، والموحّدة، من اللبس بضم اللام، يقال: لبس الثوب يلبسه، من باب علم يعلم. وأما اللبس بفتح اللام، فهو مصدر لَبَستُ عليه الأمرَ ألبِسه، من باب ضرب: إذا خلطت عليه، ومنه اشتباهه، ولا يناسِبُ هنا.

(الْمُحْرِمُ) المراد به الرجل، لا المرأة؛ لأنها لا تمنع من لبس هذه الأنواع. قال ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: أجمعوا على أن للمرأة لبس جميع ما ذُكر، وإنما تشترك مع الرجل في منع الثوب الذي مسّه الزعفران، أو الورس، وسيأتي الكلام على ذلك، إن شاء اللَّه تعالى (مِنَ الثَّيَابِ؟) أي من أنواع الثياب، وهو بيان لـ"ما"، أو للمسؤول عنه.

[تنبيه]: قوله: "ما يلَبس المحرم من الثياب الخ" هذا هو المشهور في الرواية عن نافع، عن ابن عمر، وقد رواه أبو عوانة من طريق ابن جريج، عن نافع، بلفظ:"ما يترك المحرم؟ ". قال الحافظ: وهي شاذّة، والاختلاف فيها على ابن جريج، لا على نافع. وأخرجه أحمد 2/ 8 عن سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر، فقال مرّةً:"ما يترك؟ "، ومرّةً:"ما يلبس". وأخرجه أبو داود، عن ابن عيينة بلفظ:"ما يترك؟ " من غير شكّ. ورواه سالم، عن ابن عمر بلفظ:"أن رجلاً قال: ما يجتنب المحرم؟ ". أخرجه أحمد 2/ 34، وابن خزيمة، وأبو عوانة في "صحيحيهما" من طريق عبد الرزّاق، عن معمر، عن الزهريّ، عنه. وأخرجه البخاريّ في أواخر الحجّ من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهريّ بلفظ نافع، فالاختلاف فيه على الزهريّ يُشعر بأن بعضهم رواه بالمعنى، فاستقامت رواية نافع؛ لعدم الاختلاف فيها.

(قَالَ: "لا يَلْبَسُ") بالرفع على الخبر على الأشهر، وهو في معنى النهي. وروي بالجزم على أنه نهي.

وفي رواية نافع الآتية: 30/ 2669: "لا تلبسوا" بضمير الجمع.

وهذا الجواب مطابق للسؤال على إحدى الروايتين، وهي قول السائل:"ما يترك المحرم؟ "، أو "ما يجتنب المحرم؟ "، وأما على الرواية المشهورة، أي قول السائل:"ما يلبس المحرم"، فإن المسؤول عنه ما يلبسه المحرم، فأجيب بذكر ما لا يلبسه،

(1)

- "الفتح" 4/ 182.

ص: 45

والحكمة فيه أن ما يجتنبه المحرم، ويمتنع عليه لبسه محصور، فذِكْرُه أولى، ويبقى ما عداه على الإباحة، بخلاف ما يُباح لبسه، فإنه كثير، غير محصور، فذكره تطويل، وفيه تنبيه على أن السائل لم يُحسن السؤال، وأنه كان الأليق السؤال عما يتركه، فعدل عن مطابقته إلى ما هو أولى، وبعض علماء المعاني يسمّي هذا بـ "أسلوب حكيم"، وقريب منه قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} الآية [البقرة: 215]، فالسؤال عن جنس المنفق، فعدل عنه في الجواب إلى جنس المنفق عليه؛ لأنه أهمّ، وكان اعتناء السائل بالسؤال عنه أولى.

ومثله قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} الآية.

قال النوويّ في "شرح مسلم": قال العلماء: هذا من بديع الكلام، وجَزْله، فإنه صلى الله عليه وسلم سُئل عما يلبسه المحرم، فقال: لا تلبسوا كذا وكذا، فحصل في الجواب أنه لا يلبس المذكورات، ويلبس ما عداها، فكان التصريح بما لا يُلبس أولى؛ لأنه منحصر، فأما الملبوس الجائز للمحرم، فغير منحصر، فضبط الجميع بقوله:"لا يلبس كذا وكذا" يعني، وبلبس ما سواه انتهى.

وقال البيضاويّ: سئل عما يلبس، فأجاب بما لا يُلبس ليدلّ بالالتزام من طريق المفهوم على ما يجوز، وإنما عدل عن الجواب؛ لأنه أخصر، وأحصر. وفيه إشارة إلى أن حقّ السؤال عما لا يبلس.

وقال الشيخ ابن دقيق العيد في "شرح العمدة": فيه دليل على أن المعتبر في الجواب ما يحصل به المقصود، كيف كان؟ ولو بتغيير، أو زيادة، ولا يشترط المطابقة انتهى.

(الْقَمِيصَ) بالإفراد، وفي الرواية الآتية "القُمُص" بضمّتين، وهو جمع قميص، وهو نوع من الثياب معروف، وهو الدرع. وذكر ابن الهمام في أبواب النفقة من "فتح القدير" أنهما سواء، إلا أن القميص يكون مجيبًا من قبل الكتف، والدرع من قبل الصدر انتهى.

ونبّه به وبالسراويل على جميع ما في معناهما، وهو ما كان محيطًا، أو مخيطًا معمولاً على قدر البدن، أو قدر عضو منه، وذلك مثل الجبّة، والقميص، والقباء، والتُّبّان، والقفّاز.

(وَلَا الْبُرْنُسَ) بضمتين، جمعه برانيس بفتح الموحّدة، وكسر النون، قال الأزهريّ، وصاحب "المحكم"، وغيرهما: البرنس كلّ ثوب رأسه ملتزق به، درّاعة كانت، أو جبّة، أو مِمْطَرًا

(1)

، من البِرْس بكسر الباء، وهو القطن، والنون زائدة.

(1)

- "الممطر" بكسر الميم الأولى، وفتح الطاء: ما يُلبس في المطر، يُتوقّى به. ذكره في "المرعاة" 9/ 333.

ص: 46

قال النوويّ: نبّه بالعمائم، والبرانس على كلّ ساتر للرأس، مخيطًا كان، أو غيره حتى العصابة، فإنها حرام، فإن احتاج إليها لشجّة، أو صُداع، أو غيرهما شدّها، ولزمته الفدية انتهى.

وقال الخطّابيّ: ذكر العمامة، والبرنس معًا ليدلّ على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد، ولا بالنادر. قال: ومن النادر الْمِكْتَل يحمله على رأسه. قال الحافظ: إن أراد أنه يجعله على رأسه كلابس القبع صحّ ما قال، وإلا فمجرّد وضعه على رأسه على هيئات الحامل لحاجته لا يضرّ. ومما لا يضرّ أيضًا الانغماس في الماء، فإنه لا يسمى لا بسًا، وكذا ستر الرأس باليد انتهى.

وقال الحافظ وليّ الدين: والمشهور من مذهب الشافعيّ أنه لا تحريم في حمل المكتل، ولا فدية فيه، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وقال المالكيّة: لا بأس أن يحمل على رأسه ما لا بدّ له منه، كخَرْجِه، وجرابه، ولا يحمل ذلك لغيره تطوّعًا، ولا بإجارة، فإن فعل افتدى، ولا يحمل لنفسه تجارة، قال أشهب: إلا أن يكون عيشه بذلك انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تفرقة المالكية بين ما يحمله لنفسه، ولغيره يحتاج إلى دليل. واللَّه تعالى أعلم.

(وَلَا السَّرَاوِيلَ) هو واحد جاء بلفظ الجمع. وقيل: جمع سِرْوالة، وهو ثوب خاصّ بالنصف الأسفل من البدن. قال في "القاموس": السراويل فارسيّة معرّبة، جمعها سراويلات، أو هي جمع سِرْوال، وسِرْوالة انتهى. وقال صاحب "المحكم": السراويل فارسيّ معرّب، يذكّر، ويؤنّث، ولم يعرف الأصمعيّ فيها إلا التأنيث، والجمع سراويلات، والسراوين -بالنون-: السراويل. زعم يعقوب أن النون فيها بدلٌ من اللام. وقال أبو حاتم السجستانيّ: وسمعت من الأعراب من يقول: الشراويل -بالشين المعجمة- انتهى.

(وَلا الْعِمَامَةَ) -بكسر العين -: هي ما يُلفّ على الرأس. سميت بذلك لأنها تعمّ جميع الرأس. ونبّه به على كلّ ساتر للرأس مخيطًا، أو غير مخيط، حتى العصابة، فإنها حرام.

(وَلَا ثَوْبَا مَسَّهُ وَرْسٌ) -بفتح الواو، وسكون الراء، بعدها سين مهملة- قال في "القاموس": نبات كالسمسم، ليس إلا باليمن يُزرع ، فيبقى عشرين سنة، نافع للكلف طلاء، والبَهَق شُربًا. وقال الجوهريّ: الورس نبت أصفر يكون باليمن. وقال الحافظ: الورس نبت أصفر طيّب الريح، يُصبغ به.

قال ابن العربيّ: الورس ليس بطيب، ولكنه نبّه به على اجتناب الطيب، وما يشبهه

ص: 47

في ملاءمة الشمّ، فيؤخذ منه تحريم أنواع الطيب على المحرم، وهو مجمع عليه فيما يُقصد به التطيّب.

(وَلَا زَعْفَرَانٌ) بالتنكير والتنوين؛ لأنه ليس فيه إلا الألف والنون فقط، وهو لا يمنع الصرف، وهو بفتح الزاي، وسكون العين المهملة، وفتح الفاء، والراء-: اسم عربيّ.

وقيل: اسم عجميّ تصرّفت فيه العرب، فقالوا: ثوب مزعفرٌ، وقد زعفر ثوبه يزعفره زعفرةً، ويجمع على زعافر.

واستُدلّ بقوله: "مسّه" على تحريم ما صُبغ كلّه، أو بعضه، ولو خفيت رائحته. قال مالك في "الموطّإ": إنما يكره لبس المصبّغات؛ لأنها تنفض. وقال الشافعيّة: إذا صار الثوب بحيث لو أصابه الماء لم تفح له رائحة لم يُمنع. والحجة فيه حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، عند البخاريّ، وفيه: "ولم ينه عن شيء من الثياب، إلا المزعفرة التي تَرْدعُ الجلدَ

(1)

" الحديث.

وأما المغسول، فقال الجمهور: إذا ذهبت الرائحة جاز، خلافًا لمالك، ففي، "الموطإ": سئل مالك عن ثوب مسّه طيّب، ثم ذهب ريح الطيب منه، هل يُحرِم فيه؟، قال: نعم، ما لم يكن فيه صباغ زعفران، أو ورس انتهى.

واستُدلّ للجمهور بما رواه أبو معاوية عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع في هذا الحديث:"إلا أن يكون غسيلاً". أخرجه يحيى بن عبد الحميد الحِمّانيّ في "مسنده" عنه. ورَوَى الطحاويّ عن أحمد ابن أبي عمران أن يحيى بن معين أنكره على الحمانيّ، فقال له عبد الرحمن بن صالح الأزديّ: قد كتبته عن أبي معاوية، وقام في الحال، فأخرج له أصله، فكتبه عنه يحيى بن معين انتهى.

وهي زيادة شاذّة؛ لأن أبا معاوية، وإن كان متقنًا، لكن في حديثه عن غير الأعمش مقال. قال أحمد: أبو معاوية مضطرب الحديث في عبيد اللَّه، ولم يجىء بهذه الزيادة غيره. قال الحافظ: والحمّانيّ ضعيف، وعبد الرحمن الذي تابعه فيه مقال.

ورد العينيّ إعلال هذا الحديث بما ذُكر، وصحح الحديث، وقال: وقد روى أحمد في "مسنده" من حديث ابن عبّاس حديثًا يدلّ على جواز لبس المزعفر للمحرم، إذا لم يكن فيه نفضٌ، ولا ردع

(2)

.

(1)

-أي تلطخ، يقال: ردع: إذا التطخ، والردع أثر الطيب. قاله في "الفتح" 4/ 188.

(2)

-3303 - حدثنا يزيد، أخبرنا الحجاج، عن عطاء، أنه كان لا يرى بأسا، أن يحرم الرجل، في ثوب مصبوغ بزعفران، قد غسل، ليس فيه نفض، ولا ردع.

حدثنا يزيد، أخبرنا الحجاج، عن الحسين بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

ص: 48

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فيما قال العينيّ نظر لا يخفى، فإن أبا معاوية زيادةً على ما ذكر من اضطرابه في حديث غير الأعمش كما قال أحمد، فإنه مدلّس، كما صرّح به يعقوب بن شيبة، وابن سعد، وقد عنعنه هنا، فكيف يصحّ؟.

وأما الحديث الذي ذكره عن "المسند" ففي سنده حجاج بن أرطاة كثير التدليس عن الضعفاء وفيه أيضًا حسين بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه، وهو ضعيف، كما قاله الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 219. فالحقّ ما قاله الإمام مالك -رحمه اللَّه تعالى-، من عدم جواز لبس المصبوغ بزعفران، أوورس، وإن كان مغسولاً؛ لإطلاق حديث الباب، وعدم صحّة ما احتجّ به الجمهور، كما عرفته آنفًا. واللَّه تعالى أعلم.

واستدلّ به المهلّب على منع استدامة الطيب. وفيه نظر. واستنبط من منع لبس الثوب المزعفر منع أكل الطعام الذي فيه الزعفران. وهذا قول الشافعيّة. وعن المالكيّة خلاف. وقال الحنفيّة: لا يحرم؛ لأن المراد اللبس، والتطيّب، والآكل لا يُعدّ متطيّبًا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الحنفيّة عندي أقوى. واللَّه تعالى أعلم.

(وَلَا خُفَّيْنِ) تثنية خُفّ بضم، فتشديد، وفي رواية نافع الآتية:"ولا الخفاف"، وهو بالكسر جمع خفّ (إلاَّ لِمَنْ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ) وفي رواية نافع الآتية:"إلا أحد لا يجد نعلين". قال القاري: "أحد" بالرفع على البدلية من واو الضمير -يعني في رواية "لا تلبسوا". وقال في "شرح الموطإ" بالنصب عربيّ جيّد. وروي بالرفع، وهو المختار في الاستثناء المتّصل بعد النفي وشبهه. وقال الزين ابن المنيّر: يستفاد منه جواز استعمال "أحد" في الإثبات، خلافًا لمن خصّه بضرورة الشعر، كقوله:

وَقَدْ ظَهَرْتَ فلَا تخَفَى عَلَى أَحَدٍ

إلاَّ عَلَى أَحَدٍ لَا يَعْرِفُ الْقَمَرَا

قال: والذي يظهر لي بالاستقراء أنه لا يستعمل في الإثبات إلا إن كان يعقبه نفيٌ، وكان الإثبات حينئذ في سياق النفي.

(فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ) قال الحافظ: المراد بعدم الوجدان أن لا يقدر على تحصيله إما لفقده، أو عدم بذل المالك له، أو عجزه عن الثمن، إن وجد من يبيعه، أو الأجرة، ولو بيع بغبن لم يلزمه شراؤه، أو وهب له لم يجب قبوله إلا إن أعير له انتهى.

واستُدلّ به على أن من وجد النعلين لا يلبس الخفّين المقطوعين، وهو قول الجمهور، وأجازه الحنفيّة، وبعض الشافعيّة. وقال ابن العربيّ: إن صارا كالنعلين جاز، وإلا متى سترا من ظاهر الرجل شيئًا لم يجز إلا للفاقد. وقال الزرقانيّ: فإن لبسهما مع وجود النعلين افتدى عند مالك، والليث، وعن الشافعيّ قولان انتهى.

ص: 49

(فَلْيَقْطَعْهُمَا) وفي رواية نافع: "فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين". قال الحافظ: ظاهر الأمر للوجوب، لكنه لما شُرع للتسهيل لم يناسب التثقيل، وإنما هو للرخصة انتهى.

(حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ) يعني أن فاقد النعلين إذا أراد أن يلبس الخفين يقطعهما بحيث يصير الكعبان، وما فوقهما من الساق مكشوفًا، لا قطع موضع الكعبين فقط.

قال في "الفتح": والمراد كشف الكعبين في الإحرام، وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم. ويؤيّده ما روى ابن أبي شيبة، عن جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: إذا اضطرّ المحرم إلى الخفّين خرق ظهورهما، وترك فيهما قدر ما يستمسك رجلاه. وقال محمد بن الحسن، ومن تبعه من الحنفيّة: الكتب هنا هو العظم الذي في وسط القدم عند معقد الشراك. وقيل: إن ذلك لا يُعرف عند أهل اللغة.

وقيل: إنه لا يثبت عن محمد، وإن السبب في نقله عنه أن هشام بن عبيد اللَّه الرازيّ سمعه يقول في مسألة المحرم إذا لم يجد النعلين حيث يقطع خفيه، فأشار محمد بيده إلى موضع القطع، ونقله هشام إلى غسل الرجلين في الطهارة، وبهذا يتعقّب على من نقل عن أبي حنيفة كأبن بطّال أنه قال: إن الكتب هو الشاخص في ظهر القدم، فإنه لا يلزم من نقل ذلك عن محمد بن الحسن -على تقدير صحّته عنه- أن يكون قول أبي حنيفة. ونقل عن الأصمعيّ، وهو قول الإماميّة أن الكتب عظم مستدير تحت عظم الساق حيث مفصل الساق والقدم. وجمهور أهل اللغة على أن في كلّ قدم كعبين.

وظاهر الحديث أنه لا فدية على من لبسهما، إذا لم يجد النعلين. وعن الحنفيّة تجب. وتُعُقِّب بأنها لو وجبت لبيّنها النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه وقت الحاجة.

واستدلّ به على اشتراط القطع، خلافًا للمشهور عن أحمد، فإنه أجاز لبس الخفّين من غير قطع؛ لإطلاق حديث ابن عبّاس عند البخاريّ في أواخر الحجّ بلفظ:"ومن لم يجد نعلين، فليلبس خفّين". وتُعُقّب بأنه موافق على قاعدة حمل المطلق على المقيّد، فينبغي أن يقول بها هنا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: سيأتي للمصنف -38/ 2680 - من طريق أيوب، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - بلفظ:"وإذا لم يجد النعلين، فليليبس الخفّين، وليقطعهما أسفل من الكعبين"، فلو صحّت هذه الزيادة، فلا حاجة إلى القول بالتقييد بحديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -؛ لكنها لا تثبت في حديث ابن عباس، كما سيأتي بيانه هناك، إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 50

قال: وأجاب الحنابلة بأشياء: منها: دعوى النسخ في حديث ابن عمر، فقد روى الدارقطنيّ، من طريق عمرو بن دينار أنه روى عن ابن عمر حديثه، وعن جابر بن زيد عن ابن عبّاس حديثه، وقال: انظروا أيّ الحديثين قبلُ؟، ثم حكى الدارقطنيّ، عن أبي بكر النيسابوريّ أنه قال: حديث ابن عمر قبلُ، لأنه كان بالمدينة قبل الإحرام، وحديث ابن عباس بعرفات.

وأجاب الشافعيّ عن هذا في "الأمّ"، فقال: كلاهما صادق حافظ، وزيادة ابن عمر لا تخالف ابن عباس؛ لاحتمال أن تكون عزبت عنه، أو شكّ، أو قالها، فلم يقلها عنه بعض رواته انتهى.

قال: وسلك بعضهم الترجيح بين الحديثين، قال ابن الجوزيّ: حديث ابن عمر اختلف في وقفه ورفعه، وحديث ابن عباس لم يُختلف في رفعه انتهى.

قال الحافظ: وهو تعليل مردود، بل لم يُختلف على ابن عمر في رفع الأمر بالقطع إلا في رواية شاذّة، على أنه اختُلف في حديث ابن عبّاس أيضًا، فرواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفًا. ولا يرتاب أحد من المحدّثين أن حديث ابن عمر أصحّ من حديث ابن عبّاس؛ لأن حديث ابن عمر جاء بإسناد وُصف بكونه أصحّ الأسانيد، واتفق عليه عن ابن عمر غير واحد من الحفّاظ، منهم نافع، وسالم، بخلاف حديث ابن عبّاس، فلم يأت مرفوعًا إلا من رواية جابر بن زيد عنه، حتى قال الأصيليّ: إنه شيخٌ بصريّ، لا يُعرف، كذا قال. وهو معروف، موصوفٌ بالفقه عند الأئمة.

واستدلّ بعضهم بالقياس على السراويل، كما سيأتي البحث عنه فيه في حديث ابن عبّاس، إن شاء اللَّه تعالى.

وأجيب بأن القياس مع وجود النصّ فاسد الاعتبار.

واحتجّ بعضهم بقول عطاء: إن القطع فساد، واللَّه لا يحبّ الفساد. وأجيب بأن الفساد إنما يكون فيما نَهَى الشرع عنه، لا فيما أذن فيه.

وقال ابن الجوزيّ: يُحمل القطع على الإباحة، لا على الاشتراط؛ عملاً بالحديثين. ولا يخفى تكلّفه انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تبيّن بهذا أن ما ذهب إليه الجمهور من وجوب قطع الخفين، حتى يكونا أسفل من الكعبين، هو الحقّ، حملاً لحديث ابن عباس على حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهم -، وبه يحصل العمل بالحديثين، من غير إلغاء أحدهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

ص: 51

[تنبيه]: زاد الثوريّ في روايته لهذا الحديث عن أيوب، عن نافع:"ولا القباء".

أخرجه عبد الرزّاق عنه. قال الحافظ العراقيّ: وهو صحيح محفوظ من حديث سفيان الثوريّ، عن أيوب. ورواه الطبرانيّ من وجه آخر عن الثوري. وأخرجه الدارقطنيّ، والبيهقيّ من طريق حفص بن غياث، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع أيضًا بلفظ:"والأقبية". قال العراقيّ إسناده صحيح.

و"القباء" بالقاف والموحدة: معروف، ويطلق على كلّ ثوب مفرج. ومنع لبسه متّفق عليه، إلا أن أبا حنيفة قال: يشترط أن يدخل يديه في كميه، لا إذا ألقاه على كتفيه، ووافقه أبو ثور، والخرقيّ من الحنابلة. وحكى الماورديّ نظيره إن كان كمه ضيّقًا، فإن كان واسعًا فلا. قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الجمهور من أنه لا يجوز لبس القباء مطلقًا، سواء أدخل يديه في كميه أم لا هو الحقّ؛ لإطلاق النصّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-28/ 2666 و 2667 و 30/ 2669 و 31/ 2670 و 33/ 2673 و 34/ 2674 و 2675 و 35/ 2676 و 2677 و 36/ 2678 و 38/ 2680 و 39/ 2681 - وفي "الكبرى" 28/ 3646 و 3647 و 30/ 3649 و 31/ 3650 و 33/ 3653 و 34/ 3654 و 3655 و 35/ 3656 و 3657 و 36/ 3658 و 38/ 3660 و 39/ 3661.

وأخرجه (خ) في، "العلم" 134 و"الصلاة" 366 و"الحج" 1542 و 1838 و 1842 و"اللباس" 5794 و 5803 و 5805 و 5806 و 5847 و 5852 و (م) في "الحج" 1177 (د) في "المناسك" 1823 (ت) في "الحج" 833 (ق) في "المناسك" 2929 و 2930 و 2932 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4440 و 4468 و 4524 و 4726 و 4820 و 4841 و 4853 و 4881 و 5055 و 5087 و 5110 و 5144 و 5171 و 5286 و 5303 و 5314 و 5404 و 5408 و 5449 و 5503 و 5781 و 6208 (الموطأ) في "الحج" 716 و 717 (الدارمي) في "المناسك" 1798 و 1800. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- "فتح" 4/ 186.

ص: 52

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان النهي عن لبس الثياب المصبوغة بالورس والزعفران. (ومنها): أن فيه تحريم لبس هذه الأمور المذكورة، وما في معناها على المحرم، وهو مجمع عليه، فنبه بالقميص على كلّ مخيط معمول على قدر البدن، وبالسراويل على ما هو معمول على قدر عضو منه، وبالعمامة على الساتر للرأس، وإن لم يكن مخيطًا، وبالبرنس على الساتر له، وإن كان لبسه نادرًا، ومن ذلك يفهم تحريم ستر الرأس مطلقًا، وكذا يحرم ستر بعضه إذا كان قدرًا يقصد ستره لغرض، بخلاف الخيط ونحوه، ولا يضرّ الانغماس في الماء، والستر بكفه. وبالخفّ على كلّ ساتر للرجل من مداس، وجمجم، وجورب، وغيرها.

قال الحافظ وليّ الدين: ويقدح في دعوى الإجماع ما رواه سعيد بن منصور في "سننه" عن عطاء بن أبي رباح أنه رخّص للمحرم في لبس الخفّ في الدلجة. قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": ولا يعرف ذلك لغير عطاء، إلا أن الطحاويّ روى في "بيان المشكل" أن عمر رضي الله عنه رأى على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه خفّين، وهو محرم، فقال: وخفّين أيضًا، وأنت محرم؟ فقال: فعلته مع من هو خير منك. قال العراقيّ: فلعلّ هذا مستند عطاء، ويحتمل عدم وجدان عبد الرحمن للنعلين انتهى

(1)

.

(ومنها): أنه لا يجوز لبس الخفين المقطوعين إلا عند فقد النعلين، وهو الراجح من أقوال أهل العلم.

(ومنها): ما قال العلماء: الحكمة في تحريم اللباس المذكورة على المحرم، ولباسه الإزار والرداء أن يبعد عن الترفّه، ويتّصف بصفة الخاشع الذليل، وليتذكّر أنه محرم في كلّ وقت، فيكون أقرب إلى كثرة ادكاره، وأبلغ في مراقبته، وصيانته لعبادته، وامتناعه من ارتكاب المحظورات، وليتذكّر به الموت، ولباس الأكفان، وليتذكّر البعث يوم القيامة، حفاة، عُراة، مهطعين إلى الداعي. ذكره وليّ الدين

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 45 - 46.

(2)

-المصدر المذكور 5/ 55.

ص: 53

‌29 - (الْجُبّةُ فِي الإِحْرَامِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الجبّة" -بضمّ الجيم، وتشديد الموحّدة -: ثوب معروف، جمعه جُبَبٌ، وجِبَاب. قاله في "القاموس". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2668 -

(أَخْبَرَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ الْقُومَسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: لَيْتَنِي أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، فَبَيْنَا نَحْنُ بِالْجِعِرَّانَةِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّةٍ، فَأَتَاهُ الْوَحْيُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ عُمَرُ، أَنْ تَعَالَ، فَأَدْخَلْتُ رَأْسِي الْقُبَّةَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، قَدْ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ بِعُمْرَةٍ، مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَدْ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ؟ ، إِذْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَغِطُّ لِذَلِكَ، فَسُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: «أَيْنَ الرَّجُلُ الَّذِي سَأَلَنِي آنِفًا؟» ، فَأُتِيَ بِالرَّجُلِ، فَقَالَ: «أَمَّا الْجُبَّةُ فَاخْلَعْهَا، وَأَمَّا الطِّيبُ فَاغْسِلْهُ، ثُمَّ أَحْدِثْ إِحْرَامًا» ، قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: «ثُمَّ أَحْدِثْ إِحْرَامًا» ، مَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ، غَيْرَ نُوحِ بْنِ حَبِيبٍ، وَلَا أَحْسِبُهُ مَحْفُوظًا، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(نوح بن حبيب القُومَسِيّ) بضم القاف، وسكون الواو، أبو محمد، ثقة سني [10] 79/ 1010.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطّان البصري، ثقة ثبت إمام [9] 4/ 4.

3 -

(ابن جريج) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي الفقيه، ثقة فاضل يرسل ويدلس [6] 28/ 32.

4 -

(عطاء) بن أبي رباح أسلم المكي، ثقة فقيه فاضل [3] 112/ 154.

5 -

(صفوان بن يعلى) يأتي قريبًا.

6 -

(أبوه) يعلي بن أمية يأتي قريبًا أيضًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله رجال الصحيح غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود، وأنه مسلسل بالمكيين من ابن جريج، وأن فيه رواية تابعي عن تابعي، والابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 54

شرح الحديث

(عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ) التميميّ المكيّ الثقة [3] تقدمت ترجمته في -7/ 407 (عَنْ أَبيهِ) يعلي بن أُمية بن أبي عبيدة بن همّام التميميّ، حليف قُريش، وهو يعلى بن مُنية -بضمّ الميم، وسكون النون، بعدها تحتانية مفتوحة- وهي أمه، وقيل: جدّته، صحابيّ مشهور، مات رضي الله عنه سنة بضع وأربعين، تقدّمت ترجمته في -7/ 407 (أَنَّهُ قَالَ: لَيتَنِي) أي أتمنّى (أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية مسلم: "أن يعلى كان يقول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليتني أرى نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم

" (وَهُوَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ) ببناء الفعل للمفعول، والجملة في محلّ نصب على الحال من المفعول (فَبَينَا نَحْنُ بِالْجِعِرَّانَةِ) قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: فيها لغتان مشهورتان: إحداهما إسكان العين، وتخفيف الراء. والثانية: كسر العين، وتشديد الراء، والأولى أفصح، وبهما قال الشافعيّ، وأكثر أهل اللغة، وهكذا اللغتان في تخفيف الحديبية، وتشديدها، والأفصح التخفيف، وبه قال الشافعيّ، وموافقوه. انتهى

(1)

.

وهو اسم موضع بين مكة والطائف، وهو إلى مكة أقرب.

(وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّةٍ) جملة في محلّ نصب على الحال. والقُبّة -بضمّ القاف، وتشديد الموحّدة -: خيمة صغيرة، أعلاها مستديرة، جمعها قِبَاب، وقُبَبٌ. وفي رواية لمسلم:"وعلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ثوبٌ قد أُظلّ به عليه"، ولا تخالف بين الروايتين، لأن الثوب شيء خُصّ به صلى الله عليه وسلم داخل القبّة، للتظليل عليه به (فَأتاهُ الْوَحْيُ) أي نزل عليه الملك بالوحي من السماء. قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: لم أقف في شيء من الروايات على بيان المنزّل حينئذ من القرآن. وقد استدلّ به جماعة من العلماء على أن من الوحي ما لا يُتلى.

لكن وقع عند الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق أخرى أن المنزل حينئذ قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . ووجه الدلالة منه على المطلوب عموم الأمر بالإتمام، فإنه يتناول الهيئات، والصفات، واللَّه أعلم انتهى

(2)

. وقال في موضع آخر: ويستفاد منه أن المأمور به، وهو الإتمام يستدعي وجوب اجتناب ما يقع في العمرة انتهى

(3)

.

(فَأشَارَ إِليَّ عُمَرُ) بن خطاب رضي الله عنه ، لأنه طلب منه أن يريه النبيّ صلى الله عليه وسلم، في حال نزول الوحي عليه، ففي رواية لمسلم: "وكان عمر يستره إذا نزل عليه الوحي، يُظلّه، فقلت لعمر رضي الله عنه: إني أحبّ إذا نزل عليه الوحي أن أدخل رأسي معه في الثوب، فلما أُنزل

(1)

- "شرح مسلم" 8/ 317.

(2)

- "فتح" 4/ 453 - 454.

(3)

- "فتح" 4/ 173.

ص: 55

عليه، خمّره عمر رضي الله عنه بالثوب، فجئته، فأدخلت رأسي معه في الثوب

" (أَنْ تَعَالَ) "أن" تفسيريّة، وكأن عمر رضي الله عنه علم أن ذلك لا يشقّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَأدْخَلْتُ رَأْسِي الْقُبَّةَ) أي ليراه صلى الله عليه وسلم في حال نزول الوحي عليه (فَأَتَاهُ رَجُلٌ) الفاء هنا ليست للترتيب؛ لأن مجيء الرجل، واستفتاءه هو السبب في نزول ذلك الوحي، كما تفيده الروايات الأخرى، ففي رواية مسلم: "فلما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، وعلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ثوبٌ قد أُظلّ به عليه، معه ناسٌ من أصحابه، فيهم عمر، إذ جاءه رجلٌ عليه جبّة صوف، متضمّخٌ بطيب، فقال: يا رسول اللَّه، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة، في جبّة بعد ما نضمّخٌ بطيب؟، فنظر إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ساعةً، ثم سكت، فجاءه الوحي

" الحديث. وفي رواية للبخاريّ: "جاء أعرابيّ".

قال الحافظ: لم أقف على اسمه، لكن ذكر ابن فتحون في "الذيل" عن "تفسير الطرطوشيّ" أن اسمه عطاء ابن منية، قال ابن فتحون: إن ثبت ذلك، فهو أخو يعلى ابن منية رواي الخبر، ويجوز أن يكون خطأ من اسم الراوي، فإنه من رواية عطاء، عن صفوان بن يعلى ابن منية، عن أبيه. ومنهم من لم يذكر بين عطاء ويعلى أحدًا.

قال: ووقع في شرح شيخنا سراج الدين ابن الملقّن: ما نصّه: هذا الرجل يجوز أن يكون عمرو بن سواد، إذ في "كتاب الشفا" للقاضي عياض عنه، قال:"أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا متخلّقٌ، فقال: "ورس ورس حط حط، وغشيني بقضيب بيده في بطني، فأوجعني" الحديث. فقال شيخنا: لكن عمرو هذا لا يُدرك ذا، فإنه صاحب ابن وهب انتهى كلامه.

وهو معترض من وجهين:

أما أوّلاً: فليست هذه القصّة شبيهة بهذه القصّة، حتى يُفسّر صاحبها بها.

وأما ثانيًا: ففي الاستدراك غفلة عظيمة؛ لأن من يقول: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يُتخيّل فيه أنه صاحب ابن وهب، صاحب مالك، بل إن ثبت فهو آخر، وافق اسمه اسمه، واسم أبيه اسم أبيه، والفرض أنه لم يثبت؛ لأنه انقلب على شيخنا، وإنما الذي في "الشفاء" سواد بن عمرو، وقيل: سوادة بن عمرو، أخرج حديثه المذكور عبد الرزاق في "مصنّفه"، والبغويّ في "معجم الصحابة".

وروى الطحاويّ من طريق أبي حفص بن عمرو، عن يعلى أنه مرّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو متخلّق، فقال:"ألك امرأة؟ "، قال: لا، قال:"اذهب فاغسله". فقد يَتَوهّم من لا خبرة له أن يعلي بن أميّة هو صاحب القصّة، وليس كذلك، فإن رواي هذا الحديث يعلي بن مرّة الثقفيّ، وهي قصّة أخرى، غير قصّة صاحب الإحرام.

ص: 56

نعم روى الطحاويّ في موضع آخر أن يعلي بن أميّة صاحبُ القصّة، قال: حدثنا سليمان بن شعيب، حدثنا عبد الرحمن هو ابن زياد الوضّاحيّ، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن عطاء بن أبي رباح، أن رجلاً يقال له: يعلي بن أمية أحرم، وعليه جبّة، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينزعها". قال قتادة: قلت لعطاء: إنما كنّا نرى أن نشقّها، فقال عطاء: إن اللَّه لا يُحبّ الفساد. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

(قَدْ أَحرَمَ فِي جُبَّةِ) يعني أنه لابسها، وفي رواية للبخاريّ:"وعليه جبّة". وفي الرواية الآتية 44/ 2709 - من طريق عمرو، عن عطاء:"وعليه مقطّعات"، قال النووي: بفتح الطاء المشدّدة، وهي الثياب المخيطة. وقال في "النهاية": أي ثياب قصارٌ؛ لأنها قطعت عن بلوغ التمام. وقيل: المقطّع من الثياب: كلّ ما يفصل، ويُخاط من قميص، وغيره، وما لا يقطّع منها كالأزُر، والأردية انتهى.

(بِعُمْرَةٍ، مُتَضَمِّخٌ بطِيبٍ) بالضاد، والخاء المعجمتين: أي متلوّثٌ به، مكثرٌ منه، يقال: تضمّخ بالطيب: إَذا تلطّخ، وتلوّث به. وفي رواية عمرو:"وهو متضمّخٌ بخلوق". وفي الرواية الآتية من طريق قيس بن سعد، عن عطاء:"وهو مصفّرٌ لحيته، ورأسه". أي وهو بتشديد الفاء المكسورة، أي مستعملٌ للصفرة في لحيته، وتلك الصفرة هي الْخَلُوق (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَدْ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ؟) زاد في رواية لمسلم:"بعد ما تضمّخ بطيب"، وفي رواية له:"عليه جبّة، وعليها خَلُوقٌ". وهو بفتح الخاء المعجمة: نوع من الطيب، يُعمل فيه زعفران (إِذْ أُنْزِلَ) وفي نسخة:"إذ نزل"، وفي أخرى:"يُنزل"(عَلَيْهِ الْوَحْيُ) أي حامله، وهو جبريل عليه السلام (فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَغِطُّ) بفتح أوله، كسر الغين المعجمة، وتشديد الطاء المهملة: أي ينفخ. يقال: غطّ النائم يَغِطّ، من باب ضرب: إذا تردّد نَفَسه صاعدًا إلى حَلْقه، حتّى يسمعه مَنْ حولَه. أفاده في "المصباح". وفي رواية الشيخين:"فنظرت إليه، له غطيطٌ، قال: وأحسبه قال: كغطيط الْبَكْر". الغطيط: هو صوت النائم، أو المغمى عليه الذي يُردّده مع نفسه. و"البكر" -بفتح، فسكون-: هو الفَتِيّ من الإبل.

(لِذلِكَ) أي لنزول الوحي، وسببه هو شدّة الوحي، كما قال اللَّه تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]. وثبت في "صحيح البخاريّ عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها قالت: "ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيُفصَم عنه، وإن جبينه ليتفصّد عرقًا"

(1)

- "فتح" 4/ 172 - 173.

ص: 57

(فَسُرِّيَ عَنْهُ) -بضمّ السين، وتشديد الراء، مبنيًّا للمفعول، أي أُزيل ما به، وكشف عنه شيئًا بعد شيء (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَيْنَ الرَّجُلُ الَّذِي سَألَنِي آنِفًا؟ ") بالمدّ، والقصر، ككتف، وقرىء بهما قوله تعالى {قَالَ: آنِفًا} [سورة محمد صلى الله عليه وسلم: 16] أي مذ ساعة، أي في أوّل وقت يقرُبُ منّا. قاله في "القاموس"(فَأُتيَ بِالرَّجُلِ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أمَّا الْجُبَّةُ فَاخْلَعْهَا) وفي رواية: "فانزعها"، أي اقلعها فورًا، وأخرجها (وَأَمَّا الطَّيبُ فَاغْسِلْهُ) وفي رواية الشيخين:"فاغسله ثلاث مرّات". قال القاضي عياض وغيره: يحتمل أنه من لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون نصًّا في تكرار الغسل. ويحتمل أنه من كلام الصحابيّ، وأنه صلى الله عليه وسلم أعاد لفظ "اغسله" ثلاث مرّات على عادته أنه إذا تكلّم بكلمة أعادها ثلاث مرَّات لتُفهم انتهى.

وفي رواية للبخاريّ: قلت لعطاء: أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرّات؟،

فقال: نعم. قال الحافظ: القائل هو ابن جريج، وهو دالّ على أنه فهم من السياق أن قوله:"ثلاث مرَّات" من لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن يحتمل أن يكون من كلام الصحابيّ، وأنه صلى الله عليه وسلم أعاد لفظة "اغسله" مرّة، ثم مرّة على عادته أنه كان إذا تكلّم بكلمة أعادها ثلاثًا؛ لتُفهم عنه. نبّه عليه عياضٌ انتهى.

وفي رواية أبي داود، والبيهقيّ:"أمره أن ينزعها نزعًا، ويغتسل مرَّتين، أو ثلاثاً".

قال النوويّ: إنما أمره بالثلاث مبالغة في إزالة لونه، وريحه، والواجب الإزالة، فإن حصلت بمرّة كفت، ولم تجب الزيادة، ولعلّ الطيب الذي كان على هذا الرجل كثير، ويؤيّده قوله:"متضمّخٌ".

قال القاضي: ويحتمل أنه قال له ثلاث مرَّات: "اغسله"، فكرّر القول ثلاثًا. والصواب ما سبق. واللْه أعلم. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: صوّب النوويّ كون "ثلاث مرات" من لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الحقّ، فعلى هذا ففي قوله:"فإن حصلت بمرة كفت، ولم تجب الزيادة" نظر لا يخفى، بل الظاهر لزوم الثلاث، عملاً بظاهر الأمر، فتأمّل. واللَّه تعالى أعلم.

وفي رواية عمرو المذكورة: "ما كنت صائغًا في حجّك؟ "، قال: كنت أتّقي هذا، وأغسله، فقال:"ما كنت صائغًا في حجك، فاصنعه في عمرتك".

وهذا يدلّ على أن ذلك الرجل كان يعرف أعمال الحجّ قبل ذلك. قال ابن العربيّ: كأنهم كانوا في الجاهليّة يخلعون الثياب، ويجتنبون الطيب في الإحرام إذا حجّوا، وكانوا يتساهلون في ذلك في العمرة، فأخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن مجراهما واحد.

(1)

- "شرح مسلم" 8/ 320.

ص: 58

وقال ابن المنيّر في "الحاشية": قوله: "اصنع": معناه اترك؛ لأن المراد بيان ما يجتنبه المحرم، فيؤخذ منه فائدة حسنة، وهي أن الترك فعل. قال: وأما قول ابن بطّال: أراد الأدعية، وغيرها مما يشترك فيه الحجّ والعمرة، ففيه نظر؛ لأن التروك مشتركة، بخلاف الأعمال، فإن في الحجّ أشياء زائدة على العمرة، كالوقوف، وما بعده.

وقال النوويّ كما قال ابن بطّال، وزاد: ويستثنى من الأعمال ما يختصّ به الحجّ.

وقال الباجيّ: المأمور به غير نزع الثوب، وغسل الخلوق؛ لأنه صرّح له بهما، فلم يبق إلا الفدية. قال الحافظ: كذا قال، ولا وجه لهذا الحصر، بل الذي تبيّن من طريق أخرى أن المأمور به الغسل والنزع، وذلك أن عند مسلم، والنسائيّ من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، في هذا الحديث: فقال: "ما كنت صانعًا في حجك؟ "، قال: أنزع هذه الثياب، وأغسل عنّي هذا الخلوق، فقال:"ما كنت صانعًا في حجك، فاصنعه في عمرتك" انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي دلّت عليه هذه الرواية هو التفسير الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك"؛ لأن هذه الرواية بينت الاختصار الواقع في الحديث، فما قاله كلّ من ابن المنيّر، وابن بطّال، والنوويّ، والباجيّ، من التفسير مبنيَّ على عدم انتباههم إلى هذه الرواية الموضحة للمراد من الحديث.

والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم سأله عما كان يصنع في حجه بالنسبة للجبة، والخلوق، فكأنه قال له: ماذا تصنع إذا أحرمت بالحجّ، وعليك جبة، وخلوق؟، فقال أُبعدهما عنّي بالنزع، والغسل، فقال:"ما كنت صانعًا في حجك، فاصنعه في عمرتك"؛ أي لأنه لا فرق بينهما في هذا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(ثُمَّ أَحْدِثْ إِحْرَامًا") أمرٌ له بتجديد إحرامه بالعمرة، أي جدّد إحرامك بالعمرة، بعد أن تخلع الجبّة، وتغسل الطيب.

(قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ) النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- ("ثُمَّ أَحْدِثْ إِحْرَامًا"، مَا) وفي نسخة: "لا"(أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ، غيرَ نُوحِ بنِ حَبِيبٍ) يعني أن هذه الجملة مما تفرّد بها نوح ابن حبيب على غيره ممن روى الحديث عن يحيى بن سعيد.

فقوله: "ثم أحدِث إحرامًا" مبتدأ محكيّ لقصد لفظه، وجملة "ما أعلم الخ" خبره. و"غير" بالنصب بدلٌ من "أحدًا"(وَلَا أَحْسِبُهُ مَحْفُوظًا) أي لا أظنّ هذا الكلام محفوظًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا الكلام إعلال الزيادة المذكورة بتفرّد نوح بن حبيب بها، فإن سائر الحافّاظ ما ذكروها. (وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ)، وهو المستعان،

ص: 59

وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث يعلي بن أميّة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-29/ 2668 و 44/ 2709 و 2710 - وفي "الكبرى" 29/ 3648 و 44/ 3689 و 3690. وأخرجه (خ) في "الحج" 1789 و 1848 و"المغازي" 4329 و"فضائل القرآن" 4985 (م) في "الحجّ" 1180 وفي "القسامة" 1674 (د) في "المناسك" 1819 (ت) في "الحجّ" 835 (ق) في "الديات" 2656 (أحمد) في "مسند الشاميين" 17488 و 17504. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم لبس الجبّة في حالة الإحرام، وهو ما بيّنه في الحديث، وذلك وجوب نزعه في الحال. (ومنها): أن بعض الأحكام ثبت بالوحي، وإن لم يكن مما يتلى، لكن وقع في "الأسط" للطبرانيّ أن الذي نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} الآية. (ومنها): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم بالاجتهاد، إلا إذا لم يحضره الوحي. (ومنها): أن المفتي، والحاكم إذا لم يعرفا الحكم أمسكا عنه حتى يتبيّن لهما. (ومنها): أنه استدلّ به من منع استدامة الطيب بعد الإحرام؛ للأمر بغسل أثره من الثوب والبدن، وهو قول مالك، ومحمد بن الحسن. وأجاب الجمهور بأن قصّة يعلى كانت بالجعرانة، كما ثبت في هذا الحديث، وهي سنة ثمان بلا خلاف، وقد ثبت عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - أنها طيّبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيديها عند إحرامه، كما سيأتي -41/ 2684 - وكان ذلك في حجة الوداع، سنة عشر بلا خلاف، وإنما يؤخذ بالآخر، فالآخر من الأمر.

وبأن المأمور بغسله في قصّة يعلى إنما هو الخلوق، لا مطلق الطيب، فلعلّ علّة الأمر فيه ما خالطه من الزعفران، وقد ثبت النهي عن تزعفر الرجل مطلقًا، محرمًا، وغير محرم.

وفي حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "ولا يلبس -أي المحرم- من الثياب شيئًا مسّه زعفران". وفي حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "ولم يُنْهَ إلا عن الثياب المزعفرة"، والأصح ما ذهب إليه الجمهور، وسيأتي مزيد بسط في المسألة في الباب المذكور، إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 60

(ومنها): أن من أصابه طيّب في إحرامه، ناسيًا، أو جاهلاً، ثم علم، فبادر إلى إزالته، فلا كفّارة عليه، وهو المذهب الراجح. وسيأتي أيضًا بيان الخلاف في ذلك في المسألة الخامسة، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أن من أحرم وهو لابس مخيطًا، كالجبة، والقميص، جهلاً، أو نسيانًا لزمه نزعه، وليس عليه تمزيقه، ولا شقّه، وأنه إذا نزعه من رأسه لا يلزمه دم، وعليه الجمهور، وهو الحقّ، وسيأتي بيان الخلاف في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف العلماء فيمن أحرم، وعليه جبّة، أو قيمص، هل ينزعه، أو يشقّه؟:

ذهب الجمهور من فقهاء الأمصار إلى أنه ينزعه، ولا يشقّه.

وهو قول عطاء، وطاوس، وبه قال مالك، وأصحابه، والشافعيّ، وأصحابه، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، والثوريّ، وسائر فقهاء الأمصار، أصحاب الرأي والآثار.

وذهبت طائفة إلى أنه لا ينبغي أن ينزعه كما ينزع الحلال، بل يشقّه؛ لأنه إذا فعل ذلك غطّى رأسه، وذلك لا يجوز.

وممن قال بذلك الحسن، والشعبيّ، والنخعيّ، وأبو قلابة، وسعيد بن جبير، على اختلاف عنه. وروي عن عليّ نحوه.

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

: وحجّتهم ما رواه عبد الرزّاق، عن داود بن قيس، عن عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لَبيبة، أنه سمع ابني جابر بن عبد اللَّه، يحدّثان عن أبيهما رضي الله عنه، قال: بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم جالسٌ مع أصحابه شقّ قميصه، حتى خرج منه، فقيل له؟، فقال:"واعدتهم يقلّدون هديي اليوم، فنسيت".

ورواه أسد بن موسى، عن حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن عطاء بن عبد الملك، عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد:"فلبست قميصي، ونسيت، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي". وكان بعث ببُدّنه، وأقام بالمدينة.

واحتجّ الجمهور بحديث يعلي بن أميّة - رضي اللَّه تعالى عنه - المذكور في الباب. قال أبو عمر: ولا خلاف بين أهل الحديث أنه حديث صحيح، وحديث جابر الذي يرويه عبد الرحمن بن عطاء ضعيفٌ لا يُحتجّ به. وهو مردود أيضًا بحديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها قالت: "كنت أفتل قلائد هدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم يقلّده، ويبعث به،

(1)

- راجع "الاستذكار" 11/ 66 - 68.

ص: 61

ولا يحرم عليه شيء، أحلّه اللَّه له، حتى ينحر الهدي". متّفق عليه

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن الصواب ما قاله الجمهور، من أن من أحرم جاهلاً، أو ناسيا بقيمص، أو جبة، أو نحوهما عليه نزعه، نزعًا معتادًا، ولا يشقّه، ولا يخرقه؛ لحديث يعلى - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا، وأما ما احتجّ به المخالفون فمما لا يُلتفت إليه؛ لعدم صحته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف العلماء في لزوم الفدية من لبس ناسيًا أو جاهلاً: ذهب الأئمة: عطاء، والثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وداود، --رحمهم اللَّه تعالى-- إلى أن من لبس في إحرامه ما ليس له لبسه، كالقميص، والجبة، والقباء، ونحوها جاهلاً، أو ناسيًا، فبادر إلى نزعه، لا فدية عليه.

وذهب الإمام أبو حنيفة، والمزنيّ في رواية عنه إلى أنه يلزمه إذا غطّى رأسه متعمّدًا، أو ناسيًا يومًا إلى الليل، فإن كان أقلّ من ذلك، فعليه صدقة يتصدّق بها.

وذهب الإمام مالك إلى الفرق بين من بادر، فنزع، فلم يوجب عليه الفدية، وبين من تمادى وطال لبسه، فأوجبها عليه

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الأولون هو الأرجح عندي؛ لحديث يعلى - رضي اللَّه تعالى عنه - المذكور في الباب، حيث لم يأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفدية، ولو كانت الفدية لازمة له لبيّنها له النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌30 - (النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْقَمِيصِ لِلْمُحْرِمِ)

2669 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ

(1)

- سيأتي للمصنف برقم 72/ 2793.

(2)

- ذكر هذا الأقوال العينيّ في "عمدة القاري"، ونقلته بتصرّف، راجعه 7/ 422. طبعة شركة ومكتبة مطفى الباب الحلبيّ.

ص: 62

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَلْبَسُوا

(1)

الْقُمُصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلاَّ أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا الْوَرْسُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (135) من رباعيات الكتاب، وهو أعلى الأسانيد له، كما تقدّم غير مرّة، وقد تقدّم أيضًا أنه أصحّ الأسانيد مطلقًا، على ما ذهب إليه الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، والكلام على مسائل قبل باب. ودلالته على الترجمة واضحة.

وقوله: "القمص": بضمّتين، جميع قميص. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌31 - (النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ السَّرَاوِيلِ فِي الإِحْرَامِ)

2670 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ، إِذَا أَحْرَمْنَا؟ ، قَالَ: «لَا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ» -وَقَالَ عَمْرٌو مَرَّةً أُخْرَى-: «الْقُمُصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْخُفَّيْنِ، إِلاَّ أَنْ لَا يَكُونَ لأَحَدِكُمْ نَعْلَانِ، فَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ، وَلَا زَعْفَرَانٌ»).

"عمرو بن عليّ": هو الفلاّس. و"يحيى": هو القطّان. و"عبيد اللَّه": هو ابن عمر العمريّ الحافظ الحجة.

والكلام على الحديث كالكلام في سابقه.

وقوله: "زعفران". قال الحافظ السيوطيّ: منصرف؛ لأنه ليس فيه إلا الألف، والنون فقط انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

- وفي نسخة: "لا يلبس".

(2)

- "زهر الربى" 5/ 132.

ص: 63

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌32 - (الرُّخْصَةُ فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ لِمَنْ لَا يَجِدُ الإِزَارَ)

2671 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، وَهُوَ يَقُولُ: "السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَا يَجِدُ الإِزَارَ، وَالْخُفَّيْنِ لِمَنْ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ، لِلْمُحْرِمِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(حماد) بن زيد بن درهم الجَهْضَمي، أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت فقيه، من كبار [8] 2/ 2.

3 -

(عمرو) بن دينار الأثرم الجُمَحِيّ، أبو محمد المكي، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

4 -

(جابر بن زيد) الأزدي، أبو الشعثاء البصري، ثقة فقيه [3] 146/ 236.

5 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر الحبر رضي الله عنهما 27/ 31 - واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالبصريين غير شيخه فبغلاني، وعمرو فمكي، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه ابن عباس رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: سَمِعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ) أي بعرفة، ففي الرواية الآتية في "كتاب الزينة" من طريق شعبة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول بعرفات

" الحديث (وَهُوَ يَقُولُ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول (السَّرَاوِيلُ) مبتدأ على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، أي لبس السراويل، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَمَا يَلى الْمُضَافَ يأْتِي خَلَفًا

عَنْهُ فِي الإِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا

ص: 64

وخبره قوله (لِمَنْ لَا يَجِدُ الإِزَارَ) يعني أنه يجوز لبس السراويل لمن لا يجد الإزار.

وقد أخذ بظاهره الإمامَ أحمد -رحمه اللَّه تعالى-، فجوّز لبس السراويل من غير قطع، وهو الأصحّ عند أكثر الشافعيّة، وهو الحقّ؛ لقوّة دليله، كما سيأتي في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى.

والمراد بعدم وجدان الإزار أن لا يقدر على تحصيله، إما لفقده في ذلك الموضع، أو لعدم بذل المالك إياه، أو لعجزه عن الثمن إن باعه، أو الأجرة إن آجره. وهكذا المراد في عدم وجدان النعلين.

(وَالْخُفَّيْنِ لِمَنْ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ) هكذا نسخ "المجتبى"، ووقع في "الكبرى":

"والخفّان" بالألف، وهوَ الظاهر؛ لأنه مبتدأ، خبره الجارّ والمجرور بعده. وما هنا يُخرّج على مذهب الكوفيين القائلين بجواز حذف المضاف، وإبقاء المضاف إليه على حاله من الجرّ، وقاسوه في الاختيار، وحكوا عن العرب:"أطعمونا لحمًا سمينًا، شاةٍ" بجر "شاة"، أي لحم شاة. ولا يجيزه البصريون إلا في الضرورة الشعريّة، كقوله:

الآكِلُ الْمَالَ الْيَتِيمِ بَطَرَا

أي مال اليتيم. قاله السيوطيّ في "همع الهوامع"

(1)

.

وإنما كان هذا قليلاً لأن شرطه أن يكون معطوفًا على مماثل، كقوله:

أكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبِينَ امْرَءًا

وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارًا

أي وكلّ نار.

وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:

وَرُبَّمَا جَرُّوا الذِي أَبْقَوْا كَمَا

قَدْ كَانَ قَبْلَ حَذْفِ مَا تَقَدَّمَا

لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَا حُذِفْ

مُمَاثِلاً لِمَا عَلَيْهِ قَدْ عُطِفْ

وقوله (لِلْمُحْرِمِ) متعلّق بمحذوف خبرِ لمبتدإ مقدّر، أي وهذا الحكم كائنٌ للمحرم.

ولفظ "الكبرى": "المحرم". أي يعني المحرم، كما بينته رواية مسلم بلفظ:"يعني المحرم".

يعني أن جواز لبس السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفّين لمن لم يجد النعلين للمحرم فقط، وأما غيره فلا يشترط في جواز لبسه ذلك عدم وجدان الإزرار، والنعلين، بل يجوز له اللبس مطلقًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- راجع "همع الهوامع" 2/ 430.

ص: 65

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-32/ 2671 و 2672 و 33/ 2673 و 37/ 2679 وفي "الزينة" 100/ 5325 - وفي "الكبرى" 32/ 3651 و 3652 و 33/ 3653 و 37/ 3659 و 98/ 9664 و 99/ 9675.

وأخرجه (خ) في "الحجّ " 1745 و 1841 و 1843 و"اللباس" 5804 و 5853 (م) في "الحجّ" 1178 (د) في "المناسك" 1829 (ت) في "الحجّ" 834 (ق) في "المناسك" 2931 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 1851 و 1920 و 2016 و 2522 و 2578 و 3105 (الدارمي) في "المناسك"1799. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في جواز لبس السراويل لمن لم يجد الإزار: ذهب مالك، وأبو حنيفة إلى أنه لا يجوز لبس السراويل مطلقًا، وذهب الجمهور إلى جوازه لمن لا يجد الإزار، وهو الحقّ.

قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: ولم يبلغ ذلك مالكًا، فأنكره، ففي "الموطّإ": أنه سئل عما ذُكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل"، فقال مالك: لم أسمع بهذا، ولا أرى أن يلبس المحرم سراويل؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس السراويلات فيما نهى عنه من لبس الثياب التي لا ينبغي للمحرم أن يلبسها، ولم يستثن، كما استثنى في الخفّين. وبه قال أبو حنيفة، كما حكاه ابن المنذر، والخطّابيّ.

قال ابن عبد البرّ: وقال عطاء بن أبي رباح، والشافعيّ، وأصحابه، والثوريّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وداود: إذا لم يجد المحرم إزارًا لبس السراويل، ولا شيء عليه. وحكاه النوويّ عن الجمهور. قال: ولا حجة في حديث ابن عمر؛ لأنه ذكر فيه حالة وجود الإزار، وذكر في حديثي ابن عباس، وجابر رضي الله عنهم حالة العدم، فلا منافاة. واللَّه تعالى أعلم.

قال وليّ الدين: لم يأمر بقطع السراويل عند الإزار، كما في الخفّ، وبه قال أحمد، وهو الأصحّ عند أكثر الشافعيّة. وقال إمام الحرمين، والغزاليّ: لا يجوز لبس السراويل على حاله، إلا إذا لم يتأتّ فتقه، وجعله إزارًا، فإن تأتّى ذلك لم يجز لبسه، وإن لبسه لزمته الفدية. وقال الخطّابيّ: يُحكى عن أبي حنيفة أنه قال: يشقّ السراويل، ويتّزر به.

ص: 66

قال الخطابيّ: والأصل في المال أن تضييعه محرّم، والرخصة إذ جاءت في لبس السراويل، فظاهرها اللبس المعتاد، وستر العورة واجبٌ، فإذا فتق السراويل، واتّزر به، لم تستتر العورة، فأما الخفّ، فإنه لا يغطّي عورةً، وإنما هو لباس رفق، وزينة، فلا يشتبهان، قال: ومرسل الإذن في لباس السراويل إباحة لا تقتضي غرامة اهـ انتهى كلام وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن المذهب الصحيح هو ما عليه الجمهور، من جواز لبس السراويل لمن لم يجد الإزار بدون قطع، أو فتق، وأنه لا فدية عليه؛ لحديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - المذكور في الباب، وكذا حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم، فقد أباح الشارع لبسه بدون أن يأمر بقطعه، كما أمر في الخفّ، ولم يأمر بالفدية، فجاز لبسه كما هو، ولا تجب الفدية بذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2672 -

(أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَزَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ»).

"أبو بن محمد الوزّان": هو أبو محمد الرّقّيّ، ثقة [10] 28/ 32. و"إسماعيل": هو ابن عليّة. و"أيوب": هو السختياني.

والحديث متَّفّقٌ عليه، وشرحه، ومسائله تقدّمت في الحديث الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌33 - (النَّهْيُ عَنْ أَنْ تَنْتَقِبَ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وقع في نسخة: "أن تَتَنَقَّبَ". يقال: انَتَقَبَتِ المرأةُ، وتنقّبت: غطّت وجهها بالنقاب. وهو القِنَاع الذي تجعله المرأة على مارن أنفها، تستر به

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 53 - 55.

ص: 67

وجهها. وهو على وجوه: فإذا أدنته إلى عينها، فهو الْوَصْوَصَة، فإن أنزلته دون ذلك إلى الْمَحْجِرِ

(1)

، فهو النقاب، فإن كان على طرف الأنف، فهو اللَّفَام

(2)

. أفاده في "اللسان".

و"الحرام" في الأصل مصدر حَرُم الشيءُ؛ ولذا وُصفت به المرأة هنا؛ لأنه يستوي في الوصف بالمصدر الذكر والأنثى، والواحد، وغيره، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرَا

فَالْتَزَمُوا الإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا

فالحرام بمعنى المحرمة، من إطلاق المصدر، وإرادة اسم المفعول؛ للمبالغة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2673 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ، فِي الإِحْرَامِ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلَانِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ، مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا الْوَرْسُ، وَلَا تَنْتَقِبُ

(3)

الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (136) من راعيات الكتاب، وهو أعلى ما وقع للمصنف من الأسانيد، كما تقدّم غير مرّة.

وقوله: "ما أسفل من الكعبين" يحتمل أن تكون "ما" زائدة، والظرف متعلّق بـ "يلبس". ويحتمل أن تكون موصولة، والظرف صلتها، وهي بدل من "الخفّين".

والحديث مُتَّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، والكلام على مسائله، ولنتكلّم الآن على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وفيه مسائل:

(المسألة الأولى): أنه اختُلف في قوله: "ولا تنتقب المرأة الخ" هل هو مرفوع، أم من كلام ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -:

قال الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه"، مشيرًا إلى هذا الاختلاف:

1838 -

حدثنا عبد اللَّه بن يزيد، حدثنا الليث، حدثنا نافع، عن عبد اللَّه بن عمر، رضي الله عنهما، قال: قام رجل، فقال: يا رسول اللَّه، ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في

(1)

- وزان مجلس: ما ظهر من النقاب من الرجل والمرأة من الجفن الأسفل، وقد يكون من الأعلى. وقيل: ما دار بالعين من جميع الجوانب، وبدا من البُرْقُع، جمعه المحاجر. قاله في "المصباح".

(2)

- بالميم: هو ما على طرف الأنف من النقاب. اهـ "ق".

(3)

- وفي نسخة: "ولا تتنقّب".

ص: 68

الإحرام؟، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تلبسوا القميص، ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس، إلا أن يكون أحد ليست له نعلان، فليلبس الخفين، وليقطع أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئا مسه زعفران، ولا الورس، ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين".

تابعه موسى بن عقبة، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وجويرية، وابن إسحاق "في النقاب، والقفازين"، وقال عبيد اللَّه:"ولا ورسٌ"، وكان يقول:"لا تتنقب المحرمة، ولا تلبس القفازين". وقال، مالك عن نافع، عن ابن عمر:"لا تتنقب المحرمة". وتابعه ليث بن أبي سليم. انتهى.

قال في "الفتح": قوله: وقال عبيد اللَّه": يعني أن عبيد اللَّه المذكور خالف المذكورين قبلُ في رواية هذا الحديث عن نافع، فوافقهم على رفعه إلى قوله: "زعفران، ولا ورس"، وفصل بقية الحديث، فجعله من قول ابن عمر.

وقوله: "وقال مالك الخ" والغرض أن مالكًا اقتصر على الموقوف فقط، وفي ذلك تقويةٌ لرواية عبيد اللَّه، وظهر الإدراج في رواية غيره.

وقد استشكل ابن دقيق العيد الحكم بالإدراج في هذا الحديث لورود النهي عن النقاب، والقفّازين مفردًا، مرفوعًا، وللابتداء بالنهي عنهما في رواية ابن إسحاق المرفوعة عند أحمد، وأبي داود، والحاكم، قال: حدّثني نافع، عن ابن عمر بلفظ:"أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينهى النساء في إحرامهنّ عن القفّازين، والنقاب، وما مسّ الورس، والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبّت من ألوان الثياب".

وقال في "الاقتراح": دعوى الإدراج في أول المتن ضعيفة. وأجيب بأن الثقات إذا اختلفوا، وكان مع أحدهم زيادة قُدّمت، ولا سيّما إذا كان حافظًا، ولا سيما إن كان أحفظ، والأمر هنا كذلك، فإن عبيد اللَّه بن عمر في نافع أحفظ من جميع من خالفه، وقد فصل المرفوع من الموقوف، وأما الذي اقتصر على الموقوف، فرفعه، فقد شذّ بذلك، وهو ضعيف. وأما الذي ابتدأ في المرفوع بالموقوف، فإنه من التصرّف في الرواية بالمعنى، وكأنه رأى أشياء متعاطفة، فقدّم وأخّر؛ لجواز ذلك عنده، ومع الذي فصل زيادة علم، فهو أولى، أشار إلى ذلك الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ". انتهى المقصود من "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن قوله: "ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس

(1)

- "فتح" 4/ 529 - 530.

ص: 69

القفّازين" مختلف في رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو أنه من كلام ابن عمر - رضي اللَّه تعالى - عنهما، والذي مال إليه الحافظ العراقيّ، وتبعه الحافظ أن الأرجح الوقف.

لكن الذي يظهر أن البخاريّ يصحح الزيادة، فإنه أخرج الحديث من طريق الليث، عن نافع، مرفوعًا، ثم ذكر أنه تابع نافعا موسى بن عقبة، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة -وهو ابن أخي موسى بن عقبة- وجويرية بن أسماء، وابن إسحاق كلهم عن نافع في رفع النقاب والقفّازين، ثم ذكر مخالفة عبيد اللَّه لهم بوقفه، وأتبعه بأن مالكًا ذكر الانتقاب فقط موقوفًا، فظاهر هذا أنه يرى أن الرفع صحيح، لاتفاق هؤلاء الثقات، وأن هذا الخلاف لا يضرّهم.

وأيضًا فقد صرّح الترمذيّ بصحّة الحديث، فقال: حديث حسن صحيح، وكذا الحافظ أبو عمر، فقال في "الاستذكار": قال أبو عمر: قد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى المرأة الحرام عن النقاب، والقفّازين. روى الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قام رجل، فذكر رواية البخاريّ السابقة. قال أبو داود: روى هذا الحديث حاتم ابن إسماعيل، ويحيى بن أيوب، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما رواه الليث. ورواه أبو قُرّة موسى بن طارق، عن موسى بن عقبة، عن نافع، موقوفًا على ابن عمر.

قال أبو عمر: رفعه صحيحٌ، رواه ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعًا.

ورواه ابن المبارك، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعًا أيضًا انتهى كلام أبي عمر -رحمه اللَّه تعالى-.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بهذا أن الذين رفعوه أكثر، وهم الليث بن سعد، ومحمد بن إسحاق، وموسى بن عقبة، وجويرية بن أسماء، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة.

وعبيد اللَّه، وإن كان أحفظ الحديث نافع من غيره، فاتفاق هؤلاء على الرفع يقدّم على وقفه؛ لأن الرفع معه زيادة علم، وأيضًا أن من وقف لا يعارض من رفع؛ لأن الرافع نقل الرواية، والواقف نقل الفتوى، ولا تنافي بينهما؛ لأن العالم يروي الحديث أحيانًا، ويفتي بمقتضى ما رواه أحيانًا.

والحاصل أن حديث: "ولا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفّازين" صحيح مرفوعًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: أجمع أهل العلم على أن للمرأة المحرمة لبس القميص، والدرع، والسراويلات، والْخُمُر، والخفاف.

قال وليّ الدين: فدلّ النهي عن الانتقاب على تحريم ستر الوجه بما يُلاقيه، ويمسّه،

ص: 70

دون ما إذا كان متجافيًا عنه. وهذا قول الأئمة الأربعة، وبه قال الجمهور. وقال ابن المنذر: لا نعلم أحدًا من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رخّص فيه -يعني النقاب- ثم قال: وكانت أسماء بنت أبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنهما - تُغطّي وجهها، وهي محرمة. وروينا عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - أنها قالت: المحرمة تُغطّي وجهها، إن شاءت.

وقال ابن عبد البرّ: وعلى كراهة النقاب للمرأة جهور علماء المسلمين، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، من فقهاء الأمصار أجمعين، إلا شيء رُوي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تُغطّي وجهها، وهي محرمة، وعن عائشة أنها قالت: تُغطّي المرأة وجهها إن شاءت. وروي عنها أنها لا تفعل، وعليه الناس انتهى

(1)

.

وقال أبو محمد ابن حزم: ما حاصله: تلبس المرأة ما شاءت من كلّ ما ذكرنا أنه لا يلبسه الرجل، وتغطي رأسها، إلا أنها لا تنتقب أصلاً، لكن إما أن تكشف وجهها، وإما أن تُسدل عليه ثوبًا من فوق رأسها، فذلك لها إن شاءت انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من نهي المرأة عن الانتقاب، وعدم تغطية وجهها إلا بما كان متجافيًا هو الحقُّ.

والحاصل أن المرأة لا يجوز لها أن تنتقب، سواء كانت حرّة، أو أمة، ويجوز لها أن تُسدل على وجهها من فوق رأسها شيئًا متجافيًا يستر وجهها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم ستر الرجل وجهه:

ذهب الشافعيّ، وأحمد، والجمهور -رحمهم اللَّه تعالى- إلى أنه يجوز للمحرم ستر وجهه، ولا فدية عليه، وفيه آثارٌ عن الصحابة رضي الله عنهم

لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تنتقب المرأة"، فإنه يدلّ على أن هذا خاصّ بالمرأة، دون الرجل، وهو مقتضى ما ذكره أول الحديث فيما يتركه المحرم، فإنه لم يذكر منه ساتر الوجه.

وذهب أبو حنيفة، ومالك -رحمهما اللَّه تعالى- إلى منعه كالرأس، وهو رواية عن أحمد، وقالوا: إذا حرم على المرأة ستر وجهها مع احتياجها إلى ذلك، فالرجل أولى بتحريمه، وتمسّكوا أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته:"ولا تخمّروا رأسه، ولا وجهه".

وأجاب الجمهور عنه بأن النهي عن تغطية وجهه إنما كان لصيانة رأسه، لا لقصد كشف وجهه، ولا بدّ من هذا التأويل؛ لأن المتمسّكين بهذا الحديث، وهم الحنفيّة، والمالكيّة لا يقولون ببقاء أثر الإحرام بعد الموت، لا في الرأس، ولا في الوجه،

(1)

-راجع "طرح التثريب" 5/ 46 - 47.

(2)

- "المحلّى" 7/ 78.

ص: 71

والجمهور يقولون: لا إحرام في الوجه في حقّ الرجل، فحينئذ لم يقل بظاهره أحد منهم، ولا بدّ من تأويله، على أن المالكيّة قالوا: إنه لا فدية في تغطية المحرم وجهه، إلا في رواية ضعيفة جزم بها ابن المنذر عن مالك. قاله وليّ الدين

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الراجح عندي أنه يحرم على الرجل تغطية وجهه، كما يحرم عليه تغطية رأسه؛ لحديث "ولا تخمّروا وجهه، ورأسه"، وسيأتي في -47/ 2713 - أن زيادة "وجهه" زيادة محفوظة، خلافًا لمن أعلها بالشذوذ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌34 - (النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْبَرَانِيسِ فِي الإِحْرَام)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "البرانيس" جمع بُرْنُس: بضمَ، فسكون، وهو كلّ ثوب رأسه منه، ملتزق به، من درّاعة، أو جبّة، أو ممطر، أو غيره. وقال الجوهريّ: هي قلنسوة طويلة، كان النسّاك يلبسونها في صدر الإسلام، وهو من البرس -بكسر الباء-وهو القطن، والنون زائدة. وقيل: إنه غير عربيّ

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2674 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ،، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ

(3)

، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلاَّ أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا الْوَرْسُ»).

هذا الحديث متّفق عليه، وقد تقدّم سندًا، ومتنًا قبل ثلاثة أبواب، وتقدّم الكلام عليه مُستوفًى هناك. وباللَّه تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2675 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ هَارُونَ- قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ- عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ،

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 48.

(2)

- "عمدة القاري" 7/ 433.

(3)

- وفي نسخة: "القُمُصَ".

ص: 72

عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا نَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ، إِذَا أَحْرَمْنَا؟ ، قَالَ: «لَا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ

(1)

، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلَانِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا، مَسَّهُ وَرْسٌ، وَلَا زَعْفَرَانٌ»).

قال الجامع عفا الَله تعالى عنه: هذا الحديث متّفق عليه، و"محمد بن إسماعيل بن إبراهيم": هو المعروف أبوه بابن عُليّة. و"عمرو بن عليّ": هو الفلاّس. و"عمر بن نافع": هو ولد نافع شيخه هنا العدويّ، مولى ابن عمر المدنيّ، ثقة [6] 60/ 1770.

[تنبيه]: قال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "الكبرى" -2/ 335 - : عمر بن نافع، وأبو بكر بن نافع، وعبد اللَّه بن نافع، إخوة ثلاثة، وعبد اللَّه بن نافع ليس بثقة، ونافع مولى عبد اللَّه بن عمر ثقة حافظ انتهى.

ودلالة الحديث على الترجمة واضحة، وتقدم الكلام عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

34 -

(النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْعِمَامَةِ

(2)

فِي الإِحْرَامِ) (*)

2676 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَادَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا نَلْبَسُ إِذَا أَحْرَمْنَا؟ ، قَالَ: «لَا تَلْبَسِ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعِمَامَةَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا الْخُفَّيْنِ، إِلاَّ أَنْ لَا تَجِدَ نَعْلَيْنِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدِ النَّعْلَيْنِ، فَمَا دُونَ الْكَعْبَيْنِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو الأَشعث": هو أحمد بن المقدام العجليّ البصريّ، صدوق 138/ 319.

والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله، في -28/ 2667. وباللَّه تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- وفي نسخة: "القُمُص".

(2)

- وفي نسخة: "العمائم".

(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: تكرر هنا ترقيم 34 لبابين ثم سقط ترقيم 42 فأصبح ترقيم الأبواب هنا هكذا [34، 34، 35، 36، 37، 38، 39، 40، 42]، وصوابها هكذا [34، 35، 36، 37، 38، 39، 40، 41، 42]، وقد تركنا النص كما هو، وأصلحنا شجرة العناوين الجانبية

ص: 73

2677 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ،، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَادَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا نَلْبَسُ إِذَا أَحْرَمْنَا؟ ، قَالَ: «لَا تَلْبَسِ الْقَمِيصَ

(1)

، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلاَّ أَنْ لَا يَكُونَ نِعَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نِعَالٌ، فَخُفَّيْنِ، دُونَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِوَرْسٍ، أَوْ زَعْفَرَانٍ، أَوْ مَسَّهُ وَرْسٌ، أَوْ زَعْفَرَانٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفق عليه، كما سبق بيانه في الحديث الماضي، "وابن عون": هو عبد اللَّه بن عون بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقة ثبت فاضل، من أقران أيوب المذكور في السند السابق [5] 29/ 33.

وقوله: "إلا أن لا يكون نعال"، "يكون" هنا تامة، وكذا "يكن" بعدها، ولذا لم تحتج إلى خبر، بل اكتفت بمرفوعها، كما قال الحريريّ في "ملحته":

وإنْ تَقُلْ يَا قَوْمِ قَدْ كَانَ الْمَطَرْ

فَلَسْتَ تَحْتَاجُ لَهَا إِلَى خَبَرْ

والمعنى هنا: إلا أن لا يوجد نعال.

وقوله: "فخفّين" بالنصب مفعول لمحذوف دلّ عليه السابق، أي فالبَسْ خفّين، وهو جواب الشرط.

وقوله: "أو مسّه ورس الخ" الظاهر أن "أو" للشكّ من الراويّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

35 -

(النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْخُفينِ فِي الإِحْرَامِ)

2678 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا تَلْبَسُوا فِي الإِحْرَامِ الْقَمِيصَ

(3)

، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، كما سبق بيانه قريبًا، و"ابن

(1)

- وفي نسخة: "القُمُص".

(2)

- وفي نسخة: "حدثنا"، وفي أخرى:"أخبرنا".

(3)

- وفي نسخة: "القمص".

ص: 74

أبي زائدة": هو يحيى بن زكريا الكوفيّ الحافظ الثبت. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

36 -

(الرُّخْصَةُ فِي لُبْسِ الْخُفَّينِ فِي الإِحْرَامِ لِمَنْ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ)

2679 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ، وَإِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ»).

"عمرو": هو ابن دينار.

[تنبيه]: قوله: "وليقطعهما الخ" هذه الزيادة ليست في "الكبرى"، وإنما هي في "المجتبى" فقط في رواية إسماعيل، عن يزيد بن زريع.

وليست في رواية حماد بن زيد، عن عمرو، ولا في رواية إسماعيل ابن علية، عن أيوب المتقدّمتين في 32/ 2671 و 2672. والظاهر أنها غلط من النساخ، فإن سند "الكبرى" هو السند هنا، ويدلّ على ذلك صنيع المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، حيث أورد الحديث مستدلاً به على جواز لبس الخفين في الإحرام لمن لا يجد النعلين، ثم ترجم بعده ترجمة "قطعهما أسفل من الكعبين" ليدلّ على أن حديث ابن عباس هذا مطلق يُقيّده حديث ابن عمر المذكور في الباب التالي، فلو كان حديث ابن عباس فيه ذكر القطع، لما احتاج للترجمة الثانية، وإيراد حديث آخر فيها.

وعلى تقدير صحة النسخة فالزيادة في حديث ابن عبّاس شاذًة من غير شكّ؛ لأنها تفرّد بها إسماعيل بن مسعود، عن يزيد بن زيع، وقد خالفه فيها صالح بن حاتم بن وردان، وهو ثقة احتجّ به مسلم، فقال: نا يزيد بن زريع، وساقه، ولم يذكر تلك الزيادة. أخرجه الطبرانيّ في "الكبير"

(1)

، وتابع يزيد بن زيع إسماعيل ابن عُليّة، عن أيوب، كما سبق للمصنّف في -32/ 2672 - ورواه جميع الثقات عن عمرو بن دينار،

(1)

- راجع "إرواء الغليل" للشيخ الألبانيّ 4/ 194 - 195.

ص: 75

وهم حماد بن زيد، وشعبة، وابن عيينة، والثوريّ، وهشيم، وابن جريج، كلهم عن عمرو بن دينار، ولم يذكروا فيه تلك الزيادة

(1)

.

بل زاد ابن جريج زيادة أخرى تبطل تلك الزيادة، فقد قال في روايته: قلت: لم يقل: "ليقطعهما"؟ قال: لا. أخرجه الدارميّ، والطحاويّ، وأحمد 1/ 228.

والقائل: "قلت" هو إما عمرو بن دينار، وإما ابن جريج، وأيهما كان فعمرو بن دينار على علم بأنه ليس في حديث ابن عباس:"وليقطعهما"، فهو دليل قاطع على أنها غلط.

وأيضًا مما يوهنها قول أبي داود بعد أن ساق الحديث: هذا حديث أهل مكة، ومرجعه إلى البصرة، إلى جابر بن زيد، والذي تفرّد به منه ذكر السراويل، ولم يذكر القطع في الخفّ انتهى. وهذا أيضًا مما يؤيّد القطع بكونها غلطًا.

والحاصل أن زيادة القطع في حديث ابن عباس المذكور في الباب لا صحّة لها أصلاً، والذي أراه أنها ممن بعد المصنّف من رواة "المجتبى"، بدليل عدم وجودها في "الكبرى" مع كون السند واحدًا، وبدليل إيراد المصنّف حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى - عنهما - بعد الترجمة التالية، إشارة إلى أن حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - مطلق، يُقيّد بحديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -. فقول التركماني في "الجوهر النقيّ" هذا إسناد جيد ليس بجيّد، وكذا قول وليّ الدين العراقيّ:"بإسناد صحيح" ليس بصحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

37 -

(قَطْعُهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ)

2692 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُحْرِمُ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يعقوب بن إبراهيم": هو الدَّوْرَقيّ.

والحديث متّفق عليه، وقد مرّ شرحه، والكلام على مسائله، غير مرّة، ولنتكلّم هنا على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو قطع الخفين من أسفل الكعبين، وفيه مسائل:

(1)

- راجع رواياتهم في "صحيح مسلم" 8/ 316 - 317. بنسخة "شرح النوويّ".

ص: 76

(المسألة الأولى): الحديث يدلّ على أن من لم يجد نعلين يجوز له لبس الخفّين بشرط قطعهما حتى يكونا أسفل من الكعين، وبهذا قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعيّ، والجمهور، وهو رواية عن أحمد، والمشهور عنه جواز لبسهما بحالهما عند فقد النعلين، ولا يجب قطعهما. واستدلّ له بحديث ابن عباس، وجابر رضي الله عنهم:"من لم يجد نعلين، فليلبس خفّين"، وهما في "الصحيح"، وليس فيهما ذكر القطع، وزعم أصحابه أن حديث ابن عمر المصرّح بقطعهما منسوخ، وقالوا: قطعهما إضاعة مال. وقال عمرو ابن دينار: ولا أدري أيّ الحديثين نسخ الآخر، انظروا أيهما قبلُ.

وقال الجمهور يجب حمل حديث ابن عباس، وجابر على حديث ابن عمر؛ لأنهما مطلقان، وفي حديث ابن عمر زيادة لم يذكراها يجب الأخذ بها. قال الشافعيّ: ابن عمر، وابن عباس، كلاهما صادقٌ حافظ، وليس زيادة أحدهما على الآخر شيئًا لم يؤدّه الآخر، إما عزب عنه، وإما شكّ فيه، فلم يؤدّه، وإما سكت عنه، وإما أدّاه فلم يُؤَدَّى عنه، لبعض هذه المعاني اختلفا انتهى.

وقولهم: إنه إضاعة مال مردود، فإن الإضاعة إنما تكون في المنهيّ عنه، وأما ما ورد به الشرع فهو حقّ يجب الإذعان له. واللَّه أعلم.

وحكى الخطّابيّ، عن عطاء بن أبي رباح أنه لا يقطعهما؛ لأن في قطعهما إفسادًا، ثم قال: يشبه أن يكون لم يبلغه حديث ابن عمر، قال: والعجب من أحمد في هذا، فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه، وقلّت سنة لم تبلغه. وقال ابن العربيّ: أما عطاء فيهم في الفتوى، وأما أحمد فعلى صراط مستقيم، قال: وهذه القولة لا أراها صحيحة، فإن حَمْلَ المطلق على المقيّد أصل أحمد انتهى. ذكره وليّ الدين

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن الراجح حمل حديث ابن عباس على حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهم -، وهو أن من لم يجد نعلين لبس الخفّين، ولكن يقطعهما حتى يكونا أسفل الكعبين، فبهذا يُجمَع بين الحديثين، وهو الطريق الذي يحصل به العمل بالحديثين، فيكون أولى من إبطال أحدهما بدعوى النسخ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): ظاهر الحديث أنه إذا فقد النعلين، ولبس الخفّين مقطوعين أسفل من الكفين، لم تلزمه فدية، إذ لو كانت لازمة لبيّنها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا موضع بيانها، وهو من جهة المعنى واضح، فإنه لم يرتكب محظورًا، وبهذا قال مالك، والشافعيّ،

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 52.

ص: 77

وآخرون -رحمهم اللَّه تعالى-.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه: عليه الفدية، كما إذا احتاج إلى حلق الرأس يحلقه، ويَفدِي. ذكره وليّ الدين

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الأولون هو الأرجح؛ عملاً بظاهر الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): دلّ الحديث على أنه لا يجوز لبس الخفّين مقطوعين إلا عند فقد النعلين، وهو الأصحّ عند أصحاب الشافعيّ، وبه قال مالك، والليث، وكذا قال الحنابلة: لو لبس واجد النعل خفًّا مقطوعًا تحت الكتب لزمته الفدية.

وذهب بعض الشافعيّة إلى جواز لبسه مع وجودهما؛ لأنه صار في معناهما، وهو قول أبي حنيفة، أو بعض أصحابه، حكاه ابن عبد البرّ، وابن العربيّ عن أبي حنيفة، وحكاه المحبّ الطبريّ عن بعض أصحابه. وحكي عن أبي حنيفة نفسه موافقة مالك، والجمهور.

وقال ابن العربيّ: والذي أقول: إنه إن كشف الكتب لبسهما إن لم يجد نعلين، وإن وجد النعلين لم يجز لبسهما، حتى يكون كهيئة النعل لا يستران من ظاهر الرجل شيئًا انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذكره ابن العربيّ -رحمه اللَّه تعالى- تحقيق حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): هذا الحكم خاصّ بالرجل، أما المرأة فلها لبس الخفّين مطلقًا.

قال ابن المنذر: وبه قال كلّ من يُحفظ عنه من أهل العلم انتهى. لكن في "سنن أبي داود": أن ابن عمر كان يصنع ذلك -يعني يقطع الخفّين- للمرأة المحرمة، ثم حدّثته صفيّة بنت أبي عُبيد أن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - حدّثتها: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد كان رخّص للنساء في الخفّين، فترك ذلك.

قال ابن عبد البرّ: لا يقول به أحد من أهل العلم فيما علمت، وهذا إنما كان من ورع ابن عمر، وكثرة اتباعه، فاستعمل ما حفظ على عمومه حتى بلغه فيه الخصوص انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

-"طرح التثريب" 5/ 52 - 53.

(2)

- المصدر المذكور.

ص: 78

38 -

(النَّهْيُ عَنْ أَنْ تَلْبَسَ الْمُحْرِمَةُ الْقُفَّازَيْنِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "القفّازان" -بضم القاف، وتشديد الفاء تثنية قُفّاز، بوزن تُفّاح: شيء تتخذه نساء الأعراب، ويُحشَى بقطن، يُغطّي كفّي المرأة، وأصابعها. وزاد بعضهم: وله أزرار على الساعدين، كالذي يلبسه حامل البازي. قاله في "المصباح المنير".

وقال في "الفتح": القفّاز: ما تلبسه المرأة في يدها، فيغطّي أصابعها، وكفّيها عند معاناة الشيء، كغَزْلٍ ونحوه، وهو لليد كالخفّ للرجل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2681 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلاً قَامَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ، فِي الإِحْرَامِ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ

(1)

، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ لَهُ نَعْلَانِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا يَلْبَسْ شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ، مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا الْوَرْسُ، وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه البخاري، وقد تقدّم البحث فيه غير مرّة، فما بقي إلا البحث فيما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، فأقول:

(مسألة): اختلف أهل العلم في لبس المرأة القفّازين:

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: وأما القفّازان، فاختلفوا فيهما أيضًا:

روُي عن سعد بن أبي وقّاص - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه كان يُلبس بناته، وهنّ محرمات القفّازين. ورخّصت فيهما عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - أيضًا. وبه قال عطاء، والثوريّ، ومحمد بن الحسن. وهو أحد قولي الشافعيّ. وقد يشبه أن يكون مذهبَ ابن عمر؛ لأنه كان يقول: إحرام المرأة في وجهها.

وقال مالك: إن لبست المرأة قفّازين افتدت. وللشافعيّ قولان في ذلك: أحدهما تفتدي، والآخر لا شيء عليها.

قال أبو عمر: الصواب عندي قول من نهى المرأة عن القفّازين، وأوجب عليها الفدية؛ لثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى كلام أبي عمر -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

(1)

- وفي نسخة: "القميص".

(2)

- "الاستذكار" 11/ 30 - 31.

ص: 79

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ جدًّا، إلا قوله:"وأوجب عليها الفدية؛ لثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "، فأين النصّ الذي يوجب الفدية؟. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

39 -

(التَّلْبِيدُ عِنْدَ الإِحْرَامِ)

قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: "التلبيد": مصدر لبّد، يقال: لبّدَ الشيءَ تلبيدًا: ألزق بعضه ببعض، حتى صار كما اللَّبْد

(1)

، ولبّد الحاجّ شعره بخطميّ، ونحوه كذلك حتى لا يتشعّث. قاله في "المصباح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2682 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أُخْتِهِ حَفْصَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا، وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ ، قَالَ: «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أُحِلَّ مِنَ الْحَجِّ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبيد اللَّه بن سعيد) أبو قُدَامة السرخسي، ثقة ثبت [10] 15/ 15.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطان البصري الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(عبيد اللَّه بن عمر) بن حفص بن عمر بن الخطاب العمري، أبو عثمان المدني، ثقة ثبت فقيه [5] 15/ 15.

4 -

(نافع) العدي مولى ابن عمر المدني، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.

5 -

(ابن عمر) هو: عبد اللَّه رضي الله عنهما 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

6 -

(حفصة) بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين رضي الله عنهما 39/ 583. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأنه

(1)

- "اللبد بكسر، فسكون، وزان حِمْل: ما تلبّد من شعر، أو صوف. اهـ "المصباح".

ص: 80

مسلسل بالمدنيين من عبيد اللَّه، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وصحابي عن صحابية، والأخ عن شقيقته. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - (عَنْ أُخْتِهِ حَفْصَةَ) بنت عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنها (قَالَتْ: قُلْتُ: لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا) زاد في الرواية الآتية -67/ 2781 - من طريق مالك، عن نافع:"بعمرة"، أي بجعل نسكهم عمرة بأمره صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، كما سيأتي.

وحكى الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى- عن ابن وهب أنه رواه عن مالك بهذه الزيادة، وأنه رواه بدونها القعنيّ، ويحيى بن بُكير، وأبو مصعب، وعبد اللَّه يوسف، ويحيى بن يحيى، وغيرهم.

قال: والمعنى واحد عند أهل العلم، قال: ولم يختلف الرواة عن مالك في قوله:

"ولم تحلّ أنت من عمرتك"، قال: وزعم بعض الناس أنه لم يقل أحدٌ في هذا الحديث عن نافع: "ولم تحلّ أنت من عمرتك" إلا مالك وحده. قال: وقد رواها غير مالك عبيد اللَّه بن عمر، وأيوب السختيانيّ، وهؤلاء هم حفّاظ أصحاب نافع، والحجة فيه على من خالفهم. ورواه ابن جريج، عن نافع، فلم يقل:"من عمرتك"، وزيادة مالك مقبولة؛ لحفظه، وإتقانه، لو انفرد بها، فكيف وقد تابعه من ذكرنا. قال: وما أعلم أحدًا في قديم الدهر، ولا حديثه ردّ حديث حفصة هذا بأن مالكًا انفرد بقوله:"من عمرتك" إلا هذا الرجل انتهى كلام ابن عبد البرّ بمعناه.

قال الحافظ وليّ الدين: وذكر بعضهم أن هذا الذي أشار إليه ابن عبد البرّ هو الأصيليّ، ورواية عبيد اللَّه بن عمر هذه رواها مسلم، وابن ماجه، وفيها:"من عمرتك"، ورواها البخاريّ بدون قولها:"من عمرتك"، ولفظ الشيخين فيها:"فلا أحلّ حتى أحلّ من الحجّ"، وفي لفظ المسلم:"حتى أنحر"، كرواية مالك، وكذا في رواية ابن ماجه. وروايةُ ابن جريج أخرجها مسلم، وأخرج البخاريّ مثلها من طريق موسى بن عقبة، عن نافع. وذكر البيهقيّ رواية موسى بن عقبة، ثم قال: وكذلك رواه شعيب بن أبي حمزة، عن نافع، لم يذكر فيه العمرة. واللَّه أعلم.

وفيه إشارة إلى الاختلاف في ذكر هذه اللفظة، ففيه ميلٌ لما تقدّم من الأصيليّ. وفي رواية مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن نافع، عن عبد اللَّه بن عمر أن حفصة قالت

فجعله من مسند ابن عمر، وكذا في "صحيح مسلم" من طريق عبيد اللَّه بن عمر. وفي حديث الباقين عن ابن عمر، عن حفصة. وفي رواية موسى بن عقبة، وابن

ص: 81

جريج حدثتني حفصة انتهى كلام وليّ الدين

(1)

.

وقال في "الفتح": ولم يقع في رواية مسلم قوله: "بعمرة"، وذكر ابن عبد البرّ أن أصحاب مالك ذكرها بعضهم، وحذفها بعضهم.

واستُشكل كيف حلّوا بعمرة مع قولها: "ولم تحلّ من عمرتك"؟.

والجواب أن المراد بقولها: "بعمرة" أي إن إحرامهم بعمرة كان سببًا لسرعة حلّهم. انتهى

(2)

.

وقال وليّ الدين: [إن قلت]: ما معنى قوله: "بعمرة"، وكيف يلتئم هذا مع قوله بعده:"من عمرتك"، كيف يحلّ بعمرة، ويحلّ منها؟.

[قلت]: الصحابة رضي الله عنهم حلّوا بعمرة، فإنهم فسخوا الحجّ إليها، فأتوا بأعمالها، وتحلّلوا منها، ولولا ذلك لاستمرّوا على الإحرام، حتى يأتوا بأعمال الحجّ، فكان إحرامهم بعمرة سبباً لسرعة حلّهم، وأما هو صلى الله عليه وسلم، فإنه أدخل العمرة على الحجّ، فلم يُفده الإحرام بالعمرة سرعةَ الإحلال؛ لبقائه على الحجّ، فشارك الصحابة في الإحرام بالعمرة، وفارقهم ببقائه على الحجّ، وفسخهم له، وهذا الذي ذكرته من إدخاله العمرة على الحجّ هو المعتمد. وعكس الخطابيّ ذلك، فقال في الكلام على هذا الحديث: هذا يُبيّن لك أنه كانت هناك عمرة، ولكنه أدخل عليها الحجّ، فصار قارنًا. ثم حكى الاتفاق على جواز إدخال الحجّ على العمرة قبل الطواف، والخلاف في إدخالها على الحجّ، منعه مالك، والشافعيّ، وأجازه أصحاب الرأي. هذا كلامه.

ومن يمنع إدخال العمرة على الحجّ يُجيب عن هذا الحديث على ما قرّرته أولاً بأن هذا من خصوصيّات هذه الحجّة، فقد وقعت فيها أمورٌ غريبة. واللَّه أعلم انتهى كلام وليّ الدين

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: منع إدخال العمرة على الحجّ بعد صحته منه صلى الله عليه وسلم لا وجه له، وسيأتي تحقيق القول فيه، إن شاء اللَّه تعالى.

(وَلَمْ تحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ؟) يجوز في "تحلّ"، وفي قوله الآتي:"فلا أحلّ" فتح أوّله، وضمّه، على أنه ثلاثيّ، ورباعيّ، وهما لغتان فيه، والفتح أوفق لقولها:"حَلُّوا". قاله وليّ الدين

(4)

. وفي "المصباح": وحلّ المحرمُ حِلاًّ بالكسر: خرج من إحرامه، وأحلّ

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 36 - 37.

(2)

- "فتح" 4/ 214.

(3)

- "طرح التثريب" 5/ 38.

(4)

- "طرح التثريب" 5/ 39.

ص: 82

بالألف مثلُهُ، فهو مُحلّ، وحِلٌّ أيضًا تسميةً بالمصدر، وحلالٌ أيضًا انتهى.

ولفظ البخاريّ: "ولم تحلل" بالفكّ، قال في "الفتح": بكسر اللام الأولى، أي لم تحلّ، وإظهار التضعيف لغة معروفة انتهى.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي) -بتشديد الباء الموحّدة، وبالدال المهملة- أي شعر رأسي، وتلبيد الشعر أن يُجعَل فيه شيء من صمغ، أو نحوه عند الإحرام لينضمّ الشعر، ويلتصق بعضه ببعض؛ احترازًا عن تعطّفه، وتقمّله، وإنما يَفعل ذلك من يطول مكثه في الإحرام. وفي هذا الحديث استحبابه، والمعنى فيه الإبقاء على الشعر، وقد نصّ عليه الشافعيّ، وأصحابه

(1)

.

(وَقلَّدْتُ هَدْيِي) بإسكان الدال، وتخفيف الياء، وبكسر الدال، وتشديد الياء لغتان. وتقليده أن يُعلَّق عليه شيئًا يُعرف به كونه هديًا، فإن كان من الإبل والبقر استُحبّ تقليده بنعلين، من النعال التي تُلبس في الرجلين، في الإحرام، ويستحبّ التصدّق بهما عند ذبح الهدي، وإن كان من الغنم استُحبّ تقليده بخُرَب القِرَب -بضمّ الخاء المعجمة، وفتح الراء- وهي عراها، وآذانها، وبالخيوط المفتولة، ونحوها.

وقد اتفق العلماء على استحباب سوق الهدي، وعلى استحباب تقليد الإبل، والبقر، واختلفوا في استحباب تقليد الغنم، فقال به الشافعيّ، والجمهور، وقال مالك، وأبو حنيفة: لا يستحبّ

(2)

. وسيأتي تمام البحث فيه في موضعه إن شاء اللَّه تعالى.

(فَلَا أُحِلُّ) تقدّم ضبطه بفتح أوله، وضمّه، من الحلّ، أو من الإحلال، ثلاثيًّا، ورباعيًّا (حَتَّى أُحِلَّ مِنَ الْحَجِّ) وفي رواية مالك الآتية:"حتى أنحر". أي فلا أتحلل من الإحرام حتى أفرغ من عمل الحجّ بنحر الهدي يوم النحر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث حفصة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-40/ 2682 و 67/ 2781 - وفي "الكبرى" 40/ 3662 و 66/ 3762. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1566 و 1697 و 1725 وفي "المغازي" 4398 وفي "اللباس"

(1)

- المصدر المذكور.

(2)

- "طرح التثريب" 5/ 39.

ص: 83

5916 (م) في "الحجّ" 1229 (د) في "المناسك" 1806 (ق) في "المناسك" 3046 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 25893 و 25987 (الموطأ) في "الحجّ"897. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان استحباب التلبيد، وقد سبق معناه. (ومنها): استحباب تقليد الهدي، وقد سبق معناه أيضًا. (ومنها): مشروعية سؤال الرعية رئيسهم عن فعله، إذا خفي عليهم وجهه.

(ومنها): أنه يدلّ على أن من ساق الهدي لا يتحلل من عمرته حتى يحلّ من الحجّ، ويفرغ منه؛ لأنه جعل العلة في بقائه على إحرامه كونه أهدى، وأخبر أنه لا يحلّ حتى ينحر الهدي، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد، ومن وافقهما، ويؤيّده قوله في حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"فأمر من لم يكن ساق الهدي أن يحلّ"، والأحاديث بذلك متضافرة.

وأجاب بعض المالكيّة، والشافعيّة عن ذلك بأن السبب في عدم تحللَّه من العمرة كونه أدخلها على الحجّ. وهو مشكل عليه؛ لأنه يقول: إن حجه كان مفردًا. وقال بعض العلماء: ليس لمن قال: كان مفردًا عن هذا الحديث انفصال؛ لأنه إن قال به استشكل عليه كونه علّل عدم التحلّل بسوق الهدي؛ لأن عدم التحلّل لا يمتنع على من كان قارنًا عنده. قاله في "الفتح"

(1)

.

(ومنها): أنه تمسّك به من ذهب إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع متمتّعًا لكونه أقرّ على أنه محرم بعمرة، والتمتّع هو الإحرام بالعمرة في أشهر الحجّ. وطَعْنُ من طعن في قوله:"من عمرتك" غيرُ ملتفت إليه كما تقدّم، لكن هذا التمسّك ضعيف، فإنه لو لم يكن إلا هذا اللفظ لاحتمل التمتّع، والقران، فتعيّن بقوله صلى الله عليه وسلم في رواية عبيد اللَّه بن عمر:"حتى أحلّ من الحجّ" أنه كان قارنًا، وهو في "الصحيحين" كما تقدّم. قاله وليّ الدين

(2)

.

(ومنها): أنه تمسّك به من ذهب إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، وهو متمسّكٌ قويّ. قال الحافظ وليّ الدين: وما أدري ما يقول من ذهب إلى التمتّع، هل يقول: استمرّ على العمرة خاصّةً، ولم يُحرم بالحجّ أصلاً، فيكون لم يحجّ في تلك السنة، وهذا لا يقوله أحد، أو أدخل عليها الحجّ، فصار قارنا، وصحّ ما قاله هؤلاء، فإن للقران حالتين:

(1)

- "فتح" 4/ 214.

(2)

- "طرح" 5/ 37.

ص: 84

إحداهما: أن يحرم بالنسكين ابتداء. والثاني: أن يحرم بالعمرة، ثم يدخل عليها الحجّ، وقوده في رواية عبيد اللَّه بن عمر:"حتى أحلّ من الحجّ" صريح في أنه كان قارنًا، وقولها:"من عمرتك" أي العمرة المضمومة إلى الحجّ.

قال النوويّ في "شرح مسلم": هذا دليل للمذهب الصحيح المختار أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا في حجة الوداع انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: الذاهبون إلى الإفراد أجابوا عن هذا الحديث بأجوبة:

(أحدها): أنها أرادت بالعمرة مطلق الإحرام. روى البيهقيّ بإسناده عن الشافعيّ أنه قال: فإن قيل: فما قول حفصة للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما شأن الناس حلّوا، ولم تحلل من عمرتك؟ ". قيل: أكثر الناس مع النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن معه هديٌ، وكانت حفصة معهم، فأمروا أن يجعلوا إحرامهم عمرة، ويحلّوا، فقالت: لم تحلل الناس، ولم تَحْلِل من عمرتك، يعني إحرامك الذي ابتدأته، وهم بنيّة واحدة -واللَّه أعلم- فقال:"لبْدت رأسي، وقلّت هديي، فلا أحلّ حتى أنحر بدني"، يعني -واللَّه أعلم- حتى يحلّ الحاجّ؛ لأن القضاء نزل عليه أن يجعل من كان معه هدي إحرامه حجًّا، وهذا من سعة لسان العرب الذي يكاد يعرف بالجواب فيه انتهى كلامه.

(ثانيها): أنها أرادت بالعمرة الحجّ؛ لأنهما يشتركان في كونهما قصدًا. (ثالثها): أنها ظنّت أنه معتمر. (رابعها): أن معنى قولها: "من عمرتك" أي لعمرتك بأن تفسخ حجّك إلى عمرة كما فعل غيرك. قال النوويّ في "شرح مسلم" بعد ذكره هذه الأجوبة: وكلّ هذا ضعيف، والصحيح ما سبق -يعني القرآن. ذكره وليّ الدين

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- حسن جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2683 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ -وَاللَّفْظُ لَهُ- عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُهِلُّ مُلَبِّدًا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "يهلّ ملبّدًا" -بضمّ الياء، من الإهلال، وهو رفع الصوت بالتلبية. و"التلبيد" أن يُجعل في رأسه صمغًا، أو غيره ليتلبّد شعره، أي يلتصق بعضه ببعض، فلا يتخللَّه غبار، ولا يصيبه الشعث، ولا القمل، وإنما يفعله من يطول مكثه في الإحرام.

(1)

-"شرح مسلم" 8/ 437.

(2)

- "طرح التثريب" 5/ 38 - 39.

ص: 85

فجملة "يُهلّ" حال من المفعول، و"ملبّدًا" حال من فاعل "يهلّ".

ولأبي داود، والحاكم من طريق نافع، عن ابن عمر "أنه صلى الله عليه وسلم لبّد رأسه بالعسل". قال ابن عبد السلام يحتمل أنه بفتح المهملتين. ويحتمل أنه بكسر المعجمة، وسكون المهملة، وهو ما يُغسل به الرأس، من خطميّ، أو غيره. قال الحافظ: ضبطناه في روايتنا في "سنن أبي داود" بالمهملتين انتهى

(1)

.

والحديث أخرجه المصنّف هنا -40/ 2683 - وفي "الكبرى" 40/ 3663. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1540 و 1549 و"اللباس" 5914 و 5915 (د) في "المناسك" 1747 (ق) في "المناسك" 3047 (أحمد) في "مسند المكثرين" 5978 و 6111.

ودلالته على الترجمة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. "وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

40 -

(إِبَاحَةِ الطِّيبِ عِنْدَ الإِحْرَامِ)

2684 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ إِحْرَامِهِ، حِينَ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ، وَعِنْدَ إِحْلَالِهِ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّ بِيَدَيَّ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(حماد) بن زيد بن درهم، أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت فقيه، من كبار [8] 2/ 2.

3 -

(عمرو) بن دينار الجمحي الأثرم، أبو محمد المكّي، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

4 -

(سالم) بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب العدوي المدني، ثقة ثبت فقيه [3] 23/ 490.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله رجال الصحيح، وفيه رواية

(1)

- "فتح" 4/ 180.

ص: 86

تابعي عن تابعيّ، وفيه سالم من الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة روت (2210) أحاديث واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ:"طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية عروة عنها: "كنت أطيّب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

قال وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: حقيقة قولها: "كنت أطيب الخ" تطييب بدنه، ولا يتناول ثيابه، وقد دلّ على اختصاص ذلك ببدنه الرواية التي فيها:"حتى أجد وبيص الطيب في رأسه، ولحيته". وقد اتفق الشافعيّة على أنه لا يستحبّ تطييب الثياب عند إرادة الإحرام، وشذّ المتولي، فحكى قولاً باستحبابه، وصححه في "المحرّر"، و"المنهاج". وفي جوازه خلاف عندهم، والأصحّ الجواز، فإذا قلنا بجوازه، فنزعه، ثم لبسه، ففي وجوب الفدية وجهان، صحح البغويّ وغيره الوجوب انتهى كلام وليّ الدين.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لا دليل على منع تطييب الثياب عند الإحرام، والأعجب تصحيح البغويّ وجوب الفدية؛ فأين الدليل على ذلك من الكتاب، أو السنة، أو الإجماع؟ واللَّه تعالى أعلم.

(عِنْدَ إِحْرَامِهِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ) أي وقت إرادته الإحرام (وَعِنْدَ إِحْلَالِهِ) أي عند إرادة إحلاله (قَبْلَ أَنْ يُحِلِّ) بضم أوله، وفتحه، من الإحلال، أو الحِلّ، كما تقدّم. أي قبل أن يحلّ كلّ الحلّ بالطواف، والمراد قبل أن يطوف بالبيت، ففي رواية القاسم عنها:"قبل أن يطوف بالبيت". وفي رواية عروة: "بعد ما رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت"(بيَدَيَّ) متعلَّق بـ "طيّبتُ". زاد في رواية عروة: "طيباً لا يُشبه طيبكم". وفي رواية له: "بأطيب ما أجد"، وفي أخرى:"بطيب فيه مسك". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفق عليه.

[تنبيه]: قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: ما حاصله: هذا الحديث لم يُختلف فيه عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، والأسانيد متواترة به، وهي صحاح. وقال الإمام ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى- بعد ذكر جُمَل من طرقه عن عائشة: ما نصّه: فهذه آثار

ص: 87

متواترة، متظاهرة، رواه عنها عروة، والقاسم، وسالم بن عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر، وعمرة، ومسروق، وعدقمة، والأسود، ورواه عن هؤلاء الناسُ الأعلام انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه في "كتاب الغسل"- 13/ 417 و 41/ 2685 و 2686 و 2687 و 2688 و 2689 و 2690 و 2691 و 2692 و 2693 و 2694 و 2695 و 2696 و 2697 و 2698 و 2699 و 2700 و 2701 و 2702 و 2703 و 42/ 2695 و 2696 و 2697 و 2698 و 2699 و 26700 و 2701 و 2702 و 2703 و 2704 و 2705 - وفي "الكبرى" 41/ 3664 و 3665 و 3666 و 3667 و 3668 و 3669 و 3670 و 3671 و 3672 و 42/ 3673 و 3674 و 3675 و 3676 و 3677 و 3678 و 3679 و 3680 و 3681 و 3682 و 3683 و 3684 و 3685.

وأخرجه (خ) في "الغسل" 267 و 270 و 271 وفي "الحجّ" 1538 و 1539 وفي "اللباس" 5918 و 5923 و (م) في "الحجّ" 1189 و 1190 و 1191 و 1192 و (د) في "المناسك" 1745 و 1746 و (ت) في "الحج" 917 (ق) في "المناسك" 2926 و 2927 و 2928 و 3042 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23591 و 23614 و 24240 و 24260 و 24413 و 24445 و 24462 و 24759 و 24874 و 24893 و 24948 و 24995 و 25058 و 25074 و 25195 و 25224 و 25247 و 27656 و 25289 و 253246 و 25402 و 25475 و 25486 و 255467 و 25549 و 25598 و 25630 و 257740 و 25864 (الدارميّ) في المناسك" 1801 و 1802 و 1803 (الموطأ) في "الحجّ" 727. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو إباحة الطيب للمحرم عند إرادة إحرامه (ومنها): أنه لا بأس باستدامة الطيب بعد الإحرام، ولا يضرّ بقاء لونه، ورائحته، وإنما يحرم في الإحرام ابتداؤه، وهو قول الجمهور، وهو الحقّ، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى.

(ومنها): استحباب الطيب بعد التحلّل الأول قبل الطواف. وقد نصّ عليه الشافعيّ، وتابعه أصحابه. (ومنها): استحباب الطيب مطلقًا؛ لأنه إذا فُعل في هذه الحالة التي من

(1)

- راجع "طرح التثريب" 5/ 74 - 75.

ص: 88

شأنها الشعث، فغيرها أولى. (ومنها): مشروعيّة خدمة المرأة زوجها.

(ومنها): أنه استُدلّ بقولها: "كنت أطيّب" على أن "كان" لا تقتضي التكرار؛ لأنها لم يقع منها ذلك إلا مرّة واحدة، وقد صرّحت في رواية عروة عنها بأن ذلك كان في حجة الوداع. كذا استدلّ به النوويّ في "شرح مسلم". وتُعُقّب بأن المدّعَى تكراره إنما هو التطيّب، لا الإحرام، ولا مانع من أن يتكرّر التطيّب لأجل الإحرام مع كون الإحرام مرّة واحدة، ولا يخفى ما فيه. وقال النوويّ في موضع آخر: المختار أنها لا تقتضي تكرارًا، ولا استمرارًا. وكذا قال الفخر في "المحصول". وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه، قال: ولهذا استفدنا من قولهم: "كان حاتم يَقري الضيف" أن ذلك كان يتكرّر منه.

وقال جماعة من المحقّقين: إنها تقتضي التكرار ظهورًا، وقد تقع قرينة تدلّ على عدمه، لكن يستفاد من سياقه لذلك المبالغة في إثبات ذلك، والمعنى أنها كانت تكرر فعل التطيّب لو تكرّر منه فعل الإحرام لما اطّلعت عليه من استحبابه لذلك، على أن هذه اللفظة لم تتّفق الروايات عنها عليها، فقد حُذفت في أكثر الطرق

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أنه استُدلّ به على حلّ الطيب وغيره، من محرمات الإحرام بعد رمي جمرة العقبة، ويستمرّ امتناع الجماع، ومتعلقاته على الطواف بالبيت، وهو دالّ على أن للحجّ تحلّلين، فمن قال: إن الحلق نسك، كما هو قول الجمهور، وهو الصحيح عند الشافعيّة يوقّف استعمال الطيب وغيره من المحرّمات المذكورة عليه. ويؤخذ ذلك من كونه صلى الله عليه وسلم في حجته رمى، ثم حلق، ثم طاف، فلولا أن الطيب بعد الرمي، والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها:"قبل أن يطوف بالبيت". قال النوويّ في "شرح المهذّب": ظاهر كلام ابن المنذر وغيره أنه لم يقل بان الحلق ليس بنسك إلا الشافعيّ، وهي رواية عن أحمد، وحكي عن أبي يوسف. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): طهارة المسك، وهو مجمع عليه، إلا في قول شاذّ، لا يُعتدّ به.

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الطيب عند الإحرام:

ذهب الجمهور إلى استحباب التطيّب عند إرادة الإحرام، ولو بقي لونه ورائحته بعد الإحرام.

وممن قال بذلك الأئمةُ: أبو حنيفة، والشافعيّ،، وأبو يوسف، وأحمد بن حنبل، وحكاه ابن المنذر عن سعد بن أبي وقّاص، وابن الزبير، وابن عبّاس، وإسحاق، وأبي

(1)

- راجع "الفتح" 4/ 178.

(2)

- "طرح التثريب" 5/ 83.

ص: 89

ثور، وأصحاب الرأي. وحكاه الخطّابيّ عن أكثر الصحابة. وحكاه ابن عبد البرّ عن أبي سعيد الخدريّ، وعبد اللَّه بن جعفر، وعائشة، وأمّ حبيبة، وعروة بن الزبير، والقاسم ابن محمد، والشعبيّ، والنخعيّ، وخارجة بن زيد، ومحمد بن الحنفيّة، قال: واختُلف في ذلك عن الحسن، وابن سيرين، وسعيد بن جبير. وقال به الثوريّ، والأوزاعيّ، وداود. وحكاه النوويّ عن جمهور العلماء من السلف والخلف، والمحدّثين، والفقهاء، وعدّ منهم غير من قدّمنا معاوية، وحكاه ابن قُدامة عن ابن جريج. قال ابن المنذر: وبه أقول.

وذهب مالك إلى منع أن يتطيّب قبل الإحرام بما تبقى رائحته بعده، لكنه قال: إن فعل فقد أساء، ولا فدية عليه. وحكى الشيخ أبو الظاهر قولاً بوجوب الفدية، وعلّله بأن بقاء الطيب كاستعماله. وقال محمد بن الحسن: يكره أن يتطيّب قبل الإحرام بما تبقى عينه بعده. وحكاه صاحب "الهداية" من الحنفيّة عن الشافعيّ، ولا يُعرف ذلك في مذهبه. وحكى ابن المنذر عن عطاء كراهة الطيب قبل الإحرام. وحكاه النوويّ عن الزهريّ. قال القاضي عياض: وحكي أيضًا عن جماعة من الصحابة، والتابعين.

وقال ابن عبد البرّ: وممن كره الطيب للمحرم قبل الإحرام عمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، وعبد اللَّه بن عمر، وعثمان بن أبي العاصي، وعطاء، وسالم بن عبد اللَّه، على اختلاف عنه، والزهريّ، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، على اختلاف عنهم. وهو اختيار أبي جعفر الطحاويّ؛ إلا أن مالكًا كان أخفّهم في ذلك قولاً، ذكر ابن عبد الحكم عنه، قال: وترك الطيب عند الإحرام أحبّ إلينا انتهى.

وقال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": والذي في "الصحيح" عن ابن عمر أنه قال: ما أحبّ أن أُصبح محرمًا أنضخ طيبًا"، وليس في هذا التصريح بالمنع منه انتهى.

وتأول هؤلاء حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا على أنه تطيّب، ثم اغتسل بعده، فذهب الطيب قبل الإحرام، قالوا: ويؤيّد هذا قولها في الرواية الأخرى في "صحيح مسلم": "طيّبتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند إحرامه، ثم طاف على نسائه، ثم أصبح محرمًا". فظاهره أنه إنما تطيّب لمباشرة نسائه، ثم زال بالغسل بعده، لا سيّما، وقد نُقل أنه كان يتطهّر من كلّ واحدة قبل الأخرى، فلا يبقى مع ذلك طيب، ويكون قولها:"ثم أصبح ينضخ طيبًا"، أي قبل غسله. وقد ثبت في رواية لمسلم أن ذلك الطيب كان ذَرِيرةً، وهي فُتاةُ قصب طيب، يُجاء به من الهند، وهي مما يذهبه الغسل. قالوا: وقولها: "كأني انظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو محرم"، المراد منه أثره، لا جرمه. هذا كلام المالكية.

ص: 90

قال النوويّ: ولا يوافق عليه، بل الصواب ما قاله الجمهور: إن الطيب مستحبّ للإحرام؛ لقولها: "طيبته لحرمه"، وهذا ظاهر في أن الطيب للإحرام، لا للنساء، ويعضده قولها:"كأني انظر إلى وَبيص الطيب". والتأويل الذي قالوه غير مقبول لمخالفته الظاهر بلا دليل يحملنا عليه انتهى.

وقال ابن عبد البرّ على لسان الذاهبين إلى استحباب الطيب للإحرام: لا معنى لحديث ابن المنتشر -يعني الذي فيه: "ثم طاف على نسائه" - لأنه ليس ممن يعارض به هؤلاء الأئمة، لو كان ما كان في لفظه حجة؛ لأن قوله:"طاف على نسائه" يحتمل أن يكون طوافه لغير جماع؛ ليعلّمهنّ كيف يُحرمن، وكيف يعملن في حجّهنّ، أو لغير ذلك، والدليل على ذلك ما رواه منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت:"كان يرى وبيص الطيب في مفارق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث، وهو محرم". قالوا: والصحيح في حديث ابن المنتشر ما رواه شعبة عنه، عن أبيه، عن عائشة، فقال فيه:"فيطوف على نسائه، ثم يصبح محرمًا، ينضخ طيبًا". قالوا: والنضخ في كلام العرب: اللطخ، والظهور، ومنه قوله تعالى:{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: 66] ذكر هذا كله وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: واحتجّ المالكيّة بأمور:

(منها): أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل بعد أن تطيّب، لقوله في رواية ابن المنتشر المتقدّمة في "الغسل":"ثم طاف بنسائه، ثم أصبح محرمًا". فإن المراد بالطواف الجماع، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يغتسل عند كلّ واحدة، ومن ضرورة ذلك أن لا يبقى للطيب أثر. ويردّه قوله في الرواية الماضية أيضًا:"ثم أصبح محرمًا، ينضخ طيبًا"، فهو ظاهر في أن نضخ الطيب -وهو ظهور رائحته- كان في حال إحرامه. ودعوى بعضهم أن فيه تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: طاف على نسائه، ينضخ طيبًا، ثم أصبح محرمًا خلافُ الظاهر، ويردّه قوله في رواية الحسن بن عبيد اللَّه، عن إبراهيم عند مسلم:"كان إذا أراد أن يُحرم يتطيّب بأطيب ما يجد، ثم أراه في رأسه، ولحيته بعد ذلك". وللنسائيّ

(1)

، وابن حبّان:"رأيت الطيب في مفرقه بعد ثلاث، وهو محرم".

وقال بعضهم: إن الوبيص كان بقايا الدهن المطيّب الذي تطيّب به، فزال، وبقي

(1)

- سيأتي للمصنّف في 42/ 2702 بلفظ: "لقد رأيت وبيص الطيب في مفارق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث. وفي 42/ 2703 "كنت أرى وبيص الطيب في مفرق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث".

ص: 91

أثره، من غير رائحة. ويردّه قول عائشة:"ينضخ طيبًا". وقال بعضهم: بقي أثره، لا عينه، قال ابن العربيّ: ليس في شيء من طرق حديث عائشة أن عينه بقيت انتهى. وقد روى أبو داود، وابن أبي شيبة، من طريق عائشة بنت طلحة، عن عائشة، قالت:"كنّا نضمّخ وجوهنا بالمسك المطيّب قبل أن نحرم، ثم نحرم، فنعرق، فيسيل على وجوهنا، ونحن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلا ينهانا". فهذا صريحٌ في بقاء عين الطيب، ولا يقال: إن ذلك خاصّ بالنساء؛ لأنهم أجمعوا على أن الرجال والنساء سواء في تحريم استعمال الطيب إذا كانوا محرمين.

وقال بعضهم: كان ذلك طيبًا لا رائحة له، تمسّكًا برواية الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة:"بطيب لا يشبه طيبكم"، قال بعض رواته: تعني لا بقاء له.

أخرجه النسائيّ -41/ 2688 - . ويردّ هذا التأويل ما في الذي قبله. ولمسلم من رواية منصور بن زاذان، عن عبد الرحمن بن القاسم:"بطيب فيه مسك"، وله من طريق الحسن بن عبيد اللَّه، عن إبراهيم:"كأني انظر إلى وبيص المسك". وللشيخين من طريق عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه:"بأطيب ما أجد". وللطحاويّ، والدارقطنيّ من طريق نافع، عن ابن عمر، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"بالغالية الجيّدة". وهذا يدلّ على أن قولها: "بطيب، لا يُشبه طيبكم" أي أطيب منه، لا كما فهمه القائل: تعني ليس له بقاء.

وادعى بعضهم أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، قاله المهلّب، وأبو الحسن القصّار، وأبو الفرج من المالكيّة. قال بعضهم: لأن الطيب من دواعي النكاح، فنَهَى الناس عنه، وكان هو أملك الناس لإربه، ففعله. ورجحه ابن العربيّ بكثرة ما ثبت له من الخصائص في النكاح. وقد ثبت عنه أنه قال:"حُبّب إليّ النساء والطيب". أخرجه النسائيّ من حديث أنس رضي الله عنه.

وتُعُقّب بأن الخصائص لا تثبت بالقياس. وقال المهلّب: إنما خُصّ بذلك لمباشرته الملائكة لأجل الوحي. وتُعقّب بأنه فرع ثبوت الخصوصيّة، وكيف بها؟. ويردّها حديث عائشة بنت طلحة المتقدّم. ورَوَى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت:"طيّبت أبي بالمسك لإحرامه حين أحرم"، وبقولها:"طيّبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيديّ هاتين". أخرجه الشيخان من طريق عمر بن عبد اللَّه بن عروة، عن جدّه، عنها، وعند البخاريّ من طريق سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، بلفظ:"وأشارت بيديها".

واعتذر بعض المالكيّة بأن عمل أهل المدينة على خلافه. وتُعُقب بما رواه النسائيّ،

ص: 92

من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن سليمان بن عبد الملك لَمّا حجّ، جمع ناسًا من أهل العلم، منهم القاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وسالم، وعبد اللَّه ابنا عبد اللَّه بن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، فسألهم عن التطيّب قبل الإفاضة، فكلّهم أمر به.

فهؤلاء فقهاء أهل المدينة، من التابعين، قد اتفقوا على ذلك، فكيف يدّعي مع ذلك العمل على خلافه انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن مما تقدّم من التحقيقات أن ما ذهب إليه الجمهور، من جواز استعمال الطيب عند إرادة الإحرام، ولو كان يبقى أثره بعد الإحرام هو الحقّ؛ لكونه سنة ثابتة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): دلّ الحديث على إباحة التطيّب بعد رمي جمرة العقبة، والحلق، وقبل طواف الإضافة، وهو المراد بالطواف هنا، وإنما قلنا: بعد رمي جمرة العقبة والحلق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رتّب هذه الأفعال يوم النحر هكذا، فرمى، ثم حلق، ثم طاف، فلولا أن التطيّب كان بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها:"قبل أن يطوف بالبيت".

قال النوويّ في "شرح مسلم": وهذا مذهب الشافعيّ، والعلماء كافّة، إلا مالكًا، فكرهه قبل طواف الإفاضة، وهو محجوج بهذا الحديث، وكذا حكاه القاضي عياض عن عامّة العلماء.

وقال الترمذيّ في "جامعه": رُوي عن عمر بن الخطّاب أنه قال: حَلّ كلّ شيء إلا النساء، والطيب. وقد ذهـ ب بعض أهل العلم إلى هذا، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، وهو قول أهل الكوفة انتهى.

وهذا الذي حكاه عن أهل الكوفة ليس بمعروف عنهم، وفي كتب الحنفية كـ"الهداية"، وغيرها الجزم بحلّ الطيب قبل الطواف.

ثم إن مالكًا مع قوله باستمرار تحريم الطيب يقول: إنه لا فدية عليه لو تطيّب، بخلاف الصيد، فإنه ممنوع منه عنده قبل الطواف كالطيب عنده، ومع ذلك فيقول بلزوم الفدية لو اصطاد، وهو محتاج إلى الفرق بينهما.

وحُكي عن بعض أهل الكوفة القول بتحريم الطيب قبل الطواف، وبلزوم الفدية لو

(1)

- "فتح" 4/ 178 - 180.

ص: 93

تطيّب، وهو القياس، أعني لزوم الفدية على القول بالتحريم، وبالفدية يقول الشافعية تفريعًا على قول شاذّ، حكاه بعضهم أن الطيب يستمرّ تحريمه إلى أن يطوف، وأنكر جماعة منهم هذا القول، وقطعوا بجوازه. واللَّه أعلم. قاله وليّ الدين

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحقّ ما ذهب إليه الجمهور من جواز الطيب قبل الطواف؛ لصحّة حديث الباب بذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): استدلّ بقولها: "لحِلّه قبل أن يطوف" على أنه حصل له التحلّل قبل الطواف. قال النوويّ في "شرح مسلم": وهذا متّفق عليه، ويوافقه كلامه في "شرح المهذّب"، فإنه أورد فيه من "سنن أبي داود" حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، مرفوعًا:"فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت، صِرْتم حُرُمًا، كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة، حتى تطوفوا به". وقال: إنه حديث صحيح. ثم حكى عن البيهقيّ أنه قال: لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال به. ثم قال النوويّ: فيكون الحديث منسوخًا، دلّ الإجماع على نسخه، فإن الإجماع لا يَنسخ، ولا يُنسخ، لكن يدلّ على ناسخ.

قال وليّ الدين: وكذا قال البيهقيّ في "الخلافيّات": يشبه إن كان قد حفظه ابن يسار صار منسوخًا، ويستدلّ بالإجماع في جواز لبس المخيط بعد التحلّل الأول على نسخه انتهى.

لكن الخلاف في ذلك موجود، قال ابن المنذر في "الإشراف" لَمّا حكى الخلاف فيما أُبيح للحاجّ بعد الرمي، وقبل الطواف: وفيه قول خامس، وهو أن المحرم إذا رمى الجمرة يكون في ثوبه حتى يطوف بالبيت، كذلك قال أبو قلابة. وقال عروة بن الزبير: من أخّر الطواف بالبيت يوم النحر إلى يوم النفر، فإنه لا يلبس القميص، ولا العمامة. وقد اختلف فيه عن الحسن البصريّ، وعطاء، والثوريّ انتهى كلام وليّ الدين.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - الذي أشار إليه هو ما أخرجه أبو داود في "سننه"، ولفظه:

1999 -

حدثنا أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين -المعنى واحد- قالا: حدثنا ابن أبي عدي، عن محمد بن إسحاق، حدثنا أبو عبيدة بن عبد اللَّه بن زمعة، عن أبيه، وعن أمه زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة، يحدثانه جميعا ذاك عنها، قالت: كانت ليلتي التي يصير إليّ فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مساء يوم النحر، فصار إليّ، ودخل عليّ وهب بن زمعة، ومعه رجل من آل أبي أمية، مُتَقَمَّصَين، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لوهب: "هل

(1)

- "طرح التثريب".

ص: 94

أفضت أبا عبد اللَّه؟ "، قال: لا، واللَّه يا رسول اللَّه، قال صلى الله عليه وسلم: "انزع عنك القميص"، قال: فنزعه من رأسه، ونزع صاحبه قميصه من رأسه، ثم قال: ولِمَ يا رسول اللَّه؟، قال: "إن هذا يوم رُخَّصَ لكم، إذا أنتم رميتم الجمرة أن تَحِلُّوا -يعني من كلّ ما حُرِمتُم منه، إلا النساء، فإذا أمسيتم، قبل أن تطوفوا هذا البيت، صرتم حُرُمًا، كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة، حتى تطوفوا به".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، فإن رجاله كلهم، معرفون، قد أخرجوا لهم في الصحيح، فابن إسحاق من رجال البخاريّ، وأبو عبيدة روى عنه جماعة، وهو من رجال مسلم، والباقون لا يسأل عنهم، وابن إسحاق، وإن كان مدلّسًا، إلا أنه صرّح هنا بالتحديث، فزالت العلّة، فوجب القول به.

والذين لم يقولوا بهذا الحديث لم يتعلّقوا بشيء يُعتدُّ به، وغاية ما تعلّقوا به هو دعوى النسخ بالإجماع، وقد عرفت أن هذه الدعوى باطلة، حيث ثبت خلاف جماعة، كأبي قلابة، وابن الزبير، والحسن البصريّ، وعطاء، والثوريّ، على خلاف عن هؤلاء الثلاثة، فأين الإجماع المزعوم؟.

والحاصل أنه ليس لترك العمل بهذا الحديث عذرٌ مقبولٌ، فالحقّ أن من أمسى، قبل أن يطوف بالبيت عاد محرمًا، فيجب عليه أن لا يتلبّس بشيء من محظوراة الإحرام حتى يطوف بالبيت، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لهذين الصحابيين:"صرتم حرمًا، كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة، حتى تطوفوا بالبيت"، وهذا مما غفل عنه كثير من أهل العلم، فضلاً عن العوامّ، فينبغي إفشاؤه حتى يعلمه العوامّ، فيعملوا به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): قال وليّ الدين: وإذا قلنا بقول الجمهور، فاختلف العلماء في كيفية ذلك التحلّل، فقال ابن حزم الظاهريّ: حلّ من كلّ وجه، وليس للحجّ إلا تحلّل واحد، فيباح له سائر المحرّمات على المحرم، إلا الجماع، فإنه مستمرّ التحريم إلى أن يطوف طواف الإفاضة، وليس ذلك لأنه بقي عليه شيء من إحرامه، بل انقضى إحرامه كلّه، ولكن الجماع محرّم على من هو في الحجّ، وإن لم يكن مُحْرِمًا.

وسبقه إلى ذلك الشيخ أبو حامد شيخ العراقيين، من الشافعيّة، فقال: ليس للحجّ إلا تحلّل واحد، فإذا رمى جمرة العقبة زال إحرامه، وبقي حكمه حتى يحلق، ويطوف، كما أن الحاثض إذا انقطع دمها زال الحيض، وبقي حكمه، وهو تحريم وطئها، حتى تغتسل. حكاه عنه صاحبه القاضي أبو الطيّب، وقال: هذا غلطٌ؛ لأن الطواف أحد أركان الحجّ، فكيف يزول الإحرام، وبعض الأركان باق، وهذان القائلان، وإن اتفقا

ص: 95

على تحلّل واحد، فقد اختلفا في ذلك التحلّل، فقال الشيخ أبو حامد: هو بما سنحكيه بعد هذا عن الشافعيّة. وقال ابن حزم: هو دخول وقت الرمي بطلوع الشمس يوم النحر، فإذا دخل وقت الرمي حلّ المحرم، سواء رمى، أو لم يرم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صحّ عنه جواز تقديم الطواف، والذبح، والرمي، والحلق بعضها على بعض، فإذا دخل وقتها بطل الإحرام، وإن لم يفعل شيئًا منها، وسبقه إلى ذلك أبو سعيد الإصطخريّ، من أئمّة الشافعيّة، فقال: إذا دخل وقت الرمي حصل التحلّل الأول، وإن لم يرم. وحكى صاحب "التقريب" وجهًا شاذًّا أنا إذا لم نجعل الحلق نسكًا حصل التحلّل الأول بمجرّد طلوع الفجر يوم النحر، وقائلا هذين القولين لا يوافقان ابن حزم على أن للحجّ تحلّلاً واحدًا، فمقالته مركّبة من أمرين، قال بكلّ منهما بعض الشافعيّة، ولا نعلم له سلفًا في مجموع مقالته. واللَّه أعلم.

وقال جمهور الفقهاء، من أصحاب المذاهب الأربعة: للحجّ تحلّلان، ثم اختلفوا في أمرين:

(أحدهما): فيما يحصل به التحلّل الأول، فقالت الشافعيّة: إن قلنا: إن الحلق نسك، وهو الصحيح المشهور، حصل التحلّل الأول بفعل أمرين من ثلاثة أمور: وهي رمي جمرة العقبة، والحلق، وطواف الإفاضة مع سعيه، إن لم يكن سعى عقب طواف القدوم، فإذا فعل اثنين منها، أيّ اثنين كانا، حصل التحلّل الأول.

وإن قلنا: إن الحلق ليس نسكًا، حصل التحلّل الأول بواحد من الرمي، والطواف، فأيهما فعله أوّلاً حلّ التحلّل الأول، وعند أصحابنا يجوز تقديم بعض هذه الأمور على بعض، وترتيبها بتقديم الرمي، ثم الحلق، ثم الطواف

(1)

مستحبّ فقط، قالوا: ولو لم يرم جمرة العقبة حتى خرجت أيام التشريق فات الرمي، ولزمه دم، ويصير كأنه رمى بالنسبة لحصول التحلّل به، والأصحّ عند الرافعيّ، والنوويّ أنه يتوقّف تحلّله على الإتيان ببدله، لكن نصّ الشافعيّ على خلافه. وحكى الرافعيّ وجهًا شاذًّا أنه يحصل التحلّل الأول بالرمي وحده، أو الطواف وحده، ولو قلنا: الحلق نسك.

وقالت الحنابلة: يحصل التحلّل الأول بالرمي، والحلق. وقالت المالكيّة: للحجّ تحلّلان، يحصل أحدهما برمي جمرة العقبة، والآخر بطواف الإفاضة، ولو قدّم طواف الإفاضة على جمرة العقبة، قال مَالك، وابن القاسم: يجزئه، وعليه هدي. وعن مالك أيضًا: لا يجزئه، وهو كمن لم يُفِضْ. وقال أصبغ: أحبّ إليّ أن يعيد الإفاضة، وهو

(1)

- رمز لها بعضهم بقوله: "رذحط"، الراء الرمي، والذال الذبح، والحاء الحلق، والطاء الطواف.

ص: 96

في يوم النحر آكد.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قول مالك، وابن القاسم المذكور مما لا يلتفت إليه؛ لمخالفته النصّ الصحيح الصريح، حيث إنه صلى الله عليه وسلم سئل عن تقديم بعض هذه الأفعال على بعضها، فقال:"افعل ولا حرج"، فكيف يقال: لا يجزئه، أو يجزئه، ولكن عليه هديّ، هذا شيء عجيب. واللَّه تعالى أعلم.

وقالت الحنفيّة: إن التحلّل الأول بالحلق خاصّة، دون الرمي، والطواف، فليسا من أسباب التحلّل، وفرقوا بأن التحلّل هو الجناية في غير أوانها، وذلك مختصّ بالحلق، وأما ذبح الهدي، فليس مما يتوقّف عليه التحلّل، إلا أن الحنفيّة، والحنابلة قالوا: إن المتمتع إذا كان معه هديٌ لا يحلّ من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، وقد خالفهم الجمهور في ذلك.

وقال الترمذيّ في "جامعه" في الكلام على هذا الحديث: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، يرون أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر، وذبح، وحلق، أو قصر، فقد حلّ له كلّ شيء، حرم عليه إلا النساء، وهو قول الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق. قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": فيه نظر من حيث إن المذكورين لا يتوقّف عندهم التحلّل الأول بالذبح، ثم حكى مقالة أبي حنيفة، وأحمد في المتمتّع الذي ساق الهدي، وقد تقدّمت انتهى.

وقال الإسنويّ في "المهمّات": اتفق الأصحاب على أنه لا مدخل للذبح في التحلّل.

قال وليّ الدين: يشكل على ذلك ما أجاب به أصحابنا من حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - في "الصحيح": من أحرم بعمرة، وأهدى، فلا يحلّ حتى ينحر هديه، فقالوا: تقديره: ومن أحرم بعمرة، وأهدى، فليهلّ بالحجّ، ولا يحلّ حتى ينحر هديه. قال: وممن ذكره النوويّ، وقال: ولا بدّ من هذا التأويل انتهى. ومقتضاه أن الحاجّ لا يحلّ حتى ينحر هديه.

وفي سنن الدارقطنيّ، والبيهقيّ، من حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا رميتم، وحلقتم، وذبحتم، فقد حلّ لكم كلّ شيء إلا النساء". لكنه حديث ضعيف، مداره على الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، ومع ذلك فاضطرب في إسناده، ولفظه، ورواه أبو داود بلفظ:"إذا رمى أحدكم جمرة العقبة، فقد حلّ له كلّ شيء، إلا النساء". ومقتضى كلام النوويّ في "شرح المهذّب" أن في رواية أبي داود ذكر الحلق أيضًا، وليس كذلك.

ص: 97

(الأمر الثاني): فيما يحلّ بالتحلّل الأول، وقد اتفق هؤلاء على أنه يحلّ به ما عدا الجماع، ومقدّماته، وعقد النكاح، والصيد، والطيب، وأجمعوا على أنه لا يحلّ الجماع، واختلفوا في بقيّة هذه الأمور:

فقال الشافعيّة يحلّ الصيد، والطيب، واختلفوا في عقد النكاح، والمباشرة فيما دون الفرج، وفيه قولان للشافعيّ، أصحّهما التحريم، كذا صححه النوويّ، ونقله عن الأكثرين، وذكر الرافعيّ أن القائلين به أكثر عددًا، وقولهم أوفق لظاهر النصّ في "المختصر"، لكنه صحّح في "الشرح الصغير" الحلّ، واقتضى كلامه في "المحرّر" التفصيل بين المسألتين، فصرّح بإباحة عقد النكاح بالأول، وجعل المباشرة داخلة فيما يحلّ بالثاني. وكلام الحنابلة موافق للمرجّح عندنا، وعبارة الشيخ مجد الدين ابن تيمية في "المحرّر": ثم قد حلّ من كلّ شيء، إلا النساء، وعنه يحلّ إلا الوطء في الفرج.

وكذا مذهب الحنفيّة، قال صاحب "الهداية": وقد حلّ له كلّ شيء، إلا النساء، ثم قال: ولا يحلّ الجماع فيما دون الفرج عندنا خلافًا للشافعيّ، فنصب الخلاف معه على أحد قوليه. وأما عقد النكاح فهو جائزٌ عندهم في الإحرام.

وقال المالكيّة: يستمرّ تحريم النساء، والصيد، والطيب، إلا أنهم أوجبوا في الصيد الجزاء، ولم يوجبوا في الطيب الفدية، كما تقدّم.

قال ابن حزم: وهذا عجيب، فإن احتجّوا بالأثر الوارد في تطييب النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يطوف بالبيت قلنا: لا يخلو هذا الأثر من أن يكون صحيحًا، ففرض عليكم ألا تخالفوه، وقد خالفتموه، أو غير صحيح، فلا تراعوه، وأوجبوا الفدية على من تطيّب، كما أوجبتموه على من تصيّد.

وقال ابن عبد البرّ: راعى مالك الاختلاف في هذه المسألة، فلم ير الفدية على من تطيّب بعد رمي جمرة العقبة، وقبل الإفاضة. وقال أبو العبّاس القرطبيّ: اعتذر أصحابنا عن هذا الحديث بادّعاء خصوصية النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك.

والجواب عنه: الأصل التشريع، وعدم التخصيص، والقول بالتخصيص يحتاج إلى دليل، وليس ثَمّ دليل على ذلك.

وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم فيما أبيح للحاجّ بعد رمي جمرة العقبة قبل الطواف بالبيت، فقال عبد اللَّه بن الزبير، وعائشة، وعلقمة، وسالم بن عبد اللَّه، وطاوس، والنخعيّ، وعبد اللَّه بن حسن، وخارجة بن زيد، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: يحلّ له كلّ شيء، إلا النساء. وروينا ذلك عن ابن عباس. وقال عمر بن الخطّاب، وابن عمر: يحلّ كلّ شيء، إلا النساء، والطيب.

ص: 98

وقال مالك: له كلّ شيء، إلا النساء، والطيب، والصيد. وقد اختلف فيه عن إسحاق، فذكر إسحاق بن منصور عنه ما ذكرناه، وذكر أبو داود الخفّاف عنه أنه قال: يحلّ له كلّ شيء، إلا النساء، والصيد. ثم قال: وفيه قول خامس، فذكر كلامه المتقدّم، وهو أن المحرم إذا رمى الجمرة يكون في ثوبه حتى يطوف بالبيت. ذكره وليّ الدين -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بتصرّف

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدّم أن القول الخامس الذي ذكره ابن المنذر هو الراجح؛ لصحة حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - المتقدّم، فقد تقدّم أن الحديث صحيح كما قال النوويّ وغيره، ولكنهم اعتلّوا لعدم العمل به بعلة غير مقبولة، فوجب العمل به، كما أوضحته سابقًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2685 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،،، بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ،،، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلّهم رجال الصحيح، وهذا الإسناد هو أصحّ أسانيد عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، والحديث متّفق عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في الحديث الذي قبله، وباللَّه تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2686 -

(أَخْبَرَنَا حُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ جَعْفَرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ

(2)

").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"يحيى بن سعيد": هو الأنصاريّ المدنيّ، والحديث مُتَّفق عليه، كما سبق آنفًا، وباللَّه تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2687 -

(أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ بَعْدَ مَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهَم رجال الصحيح، غير

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 78 - 82.

(2)

- وفي نسخة: "حين حلّ".

ص: 99

شيخه، وهو ثقة، فإنه من رجال الترمذيّ، والمصنّف.

و"سفيان": هو ابن عيينة.

وقوله: "لحرمه، ولحِلّه": أي لإحرامه، وإحلاله.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: يقال: حرمه: بضمّ الحاء، وكسرها لغتان، ومعناه لإحرامه. قال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: قيّدناه عن شيوخنا بالوجهين، قال: وبالضمّ قيّده الخطّابيّ، والهرويّ، وخطّأ الخطّابيّ أصحاب الحديث في كسره، وقيّده ثابت بالكسر، وحكى عن المحدّثين الضمّ، وخطّأهم فيه، وقال: صوابه الكسر، كما قال "لِحِلّه" انتهى. كلام النوويّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي في "النهاية" لابن الأثير، و"لسان العرب" لابن منظور: أن الحُرْم بالضم بمعنى الإحرام، وأما الحِرْم بالكسر، فهو الرجل المحرم، ولم يذكروا جواز الكسر بمعنى الإحرام فليُحَرَّرْ. والحديث متّفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2688 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو عُمَيْرٍ، عَنْ ضَمْرَةَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لإِحْلَالِهِ، وَطَيَّبْتُهُ لإِحْرَامِهِ، طِيبًا لَا يُشْبِهُ طِيبَكُمْ هَذَا"، تَعْنِي لَيْسَ لَهُ بَقَاءٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عيسى بن محمد" بن إسحاق، أبو عُمير ابن النحّاس -بمهملتين- الرَّمْليّ، ويقال: اسم جدّه عيسى، ثقة فاضل، من صغار [10].

قال إبراهيم بن الجنيد: سئل ابن معين عن أبي عمير ابن النحّاس؟ فقال: ثقة، من أحفظ الناس لحديث ضمرة. وقال أبو زرعة: كان ثقة، رِضًا. وقال أبو حاتم: كان من عُبّاد المسلمين، كان يطلب العلم وعلى ظهره خُرَيقة. وقال النسائيّ: ثقة. وقال الحضرميّ: مات سنة (256) وروى أبو طاهر بإسناد له، عن عمرو بن دُحيم أنه مات في رجب سنة (276) قال في "التهذيب": وهذا وَهَم. وقال مسلمة بن قاسم: توفي سنة (258) وهو ثقة.

روى عنه أبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وروى عنه المصنّف برقم -2688 و 3877 و 5736.

و"ضمرة" بن ربيعة، أبو عبد اللَّه الفلسطينيّ،، دمشقيّ الأصل، صدوق يهم قليلاً [9].

(1)

- "شرح مسلم" في "المقدّمة" 1/ 134.

ص: 100

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: رجل صالحٌ، صالح الحديث، من الثقات المأمونين، لم يكن بالشام رجلٌ يشبهه، وهو أحبّ إلينا من بقيّة. وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال آدم بن أبي إياس: ما رأيت أحدًا أعقل لما يخرج من رأسه منه.

وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا خيرًا، لم يكن هناك أفضل منه. مات في أول رمضان سنة (202) وكذا أرّخه ابن يونس، وقال: كان فقيههم في زمانه. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الساجيّ: صدوق يهم، عنده مناكير. وقال العجليّ: ثقة. وروى ضمرة عن الثوريّ، عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر:"من ملك ذا رَحِمٍ مَحْرَم، فهو عتيق". أنكره أحمد، وردّه ردًّا شديدًا، وقال: لو قال رجل: إن هذا كذب لما كان مخطئًا. وأخرجه الترمذيّ، وقال: لا يُتابع ضمرة عليه، وهو خطأ عند أهل الحديث.

روى له البخاريّ في "الأدب المفرد" والباقون إلا مسلمًا، وروى له المصنّف برقم 2688 و 3176 و 3877 و 4730 و 4805 و 5736.

وقوله: "تعني ليس له بقاء" هكذا فسّره بعض الرواة، ولم يُعلم التفسير ممن هو؟، وهذا التفسير غير صحيح، لمنافاته لسياق رواياتها المختلفة، كقولها:"كأني انظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وكقولها:"بطيب فيه مسك"، وقولها:"بأطيب الطيب"، وغير ذلك، بل الصحيح في تفسيره، كما يدلّ عليه سياق الروايات أنه أطيب من طيبكم، وأحسن، وقد تقدّم نحو هذا في كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-.

وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "تعني ليس له بقاء". يحتمل أن الضمير لطيب الناس، أي طيبكم الذي تستعملونه عند الإحرام ليس له بقاء، بخلاف طيّب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فهو كان باقيًا بعد الإحرام، كما سيجيء. أو لطيب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والتفسير على زعم الراوي، وإلا فقد تبيّن خلافه، وهي أرادت بقولها:"ليس يشبه طيبكم" أي كان أطيب من طيبكم، أو نحو هذا، لا ما فهم الراوي، واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الأول أشبه بمقضى سياق رواياتها، وأقرب إلى الصواب. والحديث صحيح الإسناد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2689 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: بِأَيِّ شَيْءٍ طَيَّبْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: "بِأَطْيَبِ الطِّيبِ، عِنْدَ حُرْمِهِ، وَحِلِّهِ").

(1)

-"شرح السنديّ" 5/ 137 - 138.

ص: 101

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح غير شيخه "محمد ابن منصور"، وهو الجوّاز المكيّ فإنه من أفراده، وهو ثقة. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"عروة بن عثمان" بن الزبير بن العوّام الأسديّ المدنيّ، أخو هشام، ثقة [6].

قال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال يعقوب بن شيبة: كان من خطباء الناس، وعلمائهم، وكان أصغر من هشام، لكنه مات قبله. وقال مصعب: أمه أم يحيى بنت الحكم بن أبي العاص، عمة عبد الملك بن مروان، وكان من وجوه قريش، وساداتهم. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، مات قبل الأربعين ومائة. وقال الواقديّ: مات في أول خلافة أبي جعفر. مات سنة (136). وقيل: سنة (137). روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وروى له المصنّف برقم -2689 و 2690 و 5074. والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق الكلام عليه. واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2690 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْوَزِيرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ إِحْرَامِهِ، بِأَطْيَبِ مَا أَجِدُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه "أحمد بن يحيى بن الوزير بن سليمان" التُّجِيبيّ -بضمّ المثنّاة، وكسر الجيم، بعدها تحتانيّة، ثم موحّدة- أبي عبد اللَّه المصريّ، ثقة [11].

قال النسائيّ: ثقة. وقال ابن يونس: كان فقيهًا، من جلساء ابن وهب، وكان عالمًا بالشعر والأدب، وأخبار الناس. يقال: كان مولده سنة (171)، مات في حبس ابن المدبّر لخراج كان عليه، في شوّال سنة (250).

وقال مسلمة بن القاسم الأندلسيّ: كان كثير الحديث، تفقّه للشافعيّ، وصحبه، وكان عنده مناكير، مات بمصر في السجن سنة (251).

وذكره الدارقطنيّ في الرواة عن الشافعيّ، وابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان قديم الموت، روى عنه يعقوب بن سفيان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي تقدم في تاريخ وفاته هو الذي ذكره في "تهذيب الكمال"، و"تهذيب التهذيب"، وذكر في "التقريب" أنه مات سنة (265) وله (94) سنة، وهذا محل نظر، فليُتَأَمَّل. واللَّه تعالى أعلم.

انفرد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، روى عنه في سبعة مواضع برقم 2690 و 3098 و 2132 و 3374 و 3388 و 3619 و 3832.

والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق الكلام عليه. واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 102

2691 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَطْيَبِ مَا أَجِدُ، لِحُرْمِهِ، وَلِحِلِّهِ، وَحِينَ يُرِيدُ أَنْ يَزُورَ الْبَيْتَ").

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح غير "أحمد بن حرب": هو الطائيّ الموصليّ، صدوق [10] 102/ 135، فإنه من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-.

و"ابن إدريس": هو عبد اللَّه الأوديّ الكوفيّ. و"يحيى بن سعيد": هو الأنصاريّ المدنيّ.

وقوله: "وحين يريد أن يزور البيت". قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: الظاهر أن الواو زائدة، أي ولحلّه حين يريد الخ، أو التقدير: وكان لحلّه حين يريد أن يزور الخ. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هو بمعنى قولها في الحديث التالي: "ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت، فما قاله السنديّ حسن. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

والحديث صحيح، وقد سبق الكلام عليه. واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2692 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: قَالَتْ: عَائِشَةُ: "طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإ سناد كلهم رجال الصحيح، و "يعقوب بن إبراهيم": هو الدَّوْرقّيّ البغداديّ. و"منصور": هو ابن زذان الثقفيّ، أبو المغيرة الواسطيّ الثقة الثبت العابد.

وقوله: "فيه مسك" فيه طهارة المسك، وهو متّفق عليه، إلا قولاً شاذًّا، كما تقدّم.

والحديث أخرجه مسلم، وقد مرّ الكلام عليه. وباللَّه تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2693 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ -يَعْنِي الْعَدَنِيَّ- عَنْ سُفْيَانَ ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

إِسْحَاقُ -يَعْنِي الأَزْرَقَ- قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

سُفْيَانُ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ، فِي رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُحْرِمٌ").

(1)

- وفي نسخة: "حدثنا".

(2)

- وفي نسخة: "أخبرنا". وفي أخرى: "حدثنا".

ص: 103

وقًالَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْر فِي حَدِيثِهِ: "وَبِيصِ طِيبِ الْمِسْكِ، فِي مَفْرِقِ

(1)

رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن نصر": هو النيسابوريّ الزاهد المقرئ الحافظ الفقيه الثقة، من أفراد المصنّف.

و"عبد اللَّه بن الوليد" بن ميمون، الأمويّ مولاهم أبو محمد المكيّ المعروف بالعدنيّ، صدوق، ربما أخطأ، من كبار [10].

قال حرب، عن أحمد: سمع من سفيان، وجعل يُصحح سماعه، ولكن لم يكن صاحب حديث، وحديثه حديث صحيح، وكان ربما أخطأ في الأسماء، وقد كتبت عنه أنا كثيرًا. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: لا أعرفه، لم أكتب عنه شيئًا. وقال أبو زرعة: صدوق. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يُحتجّ به. وقال ابن عديّ: روى عن الثوريّ "جامعه"، وقد روى عن الثوريّ غرائب غير "الجامع"، وعن غير الثوريّ، وما رأيت في حديثه شيئًا منكرًا فأذكره. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث. ونقل الساجيّ أن ابن معين ضعّفه. وقال البخاريّ: مقارب. وقال العقيليّ: ثقة معروف. وقال الأزديّ: يَهِم في أحاديث، وهو عندي وسطٌ. وقال الدارقطنيّ: ثقة مأمون.

علّق عنه البخاريّ، وأخرج له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف. وله عنده حديثان فقط، هذا برقم (2693)، وحديث رقم (4912)"قَطَعَ أبو بكر في مِجَنٍّ قيمته خمسة دراهم".

و"إسحاق الأزرق": هو ابن يوسف المخزوميّ الواسطيّ الثقة. و"سفيان": هو الثوريّ. و"الحسن بن عبيد اللَّه": هو النخعيّ، أبو عروة الكوفيّ الثقة الفاضل. و"إبراهيم": هو ابن يزيد النخعيّ. و"الأسود": هو ابن يزيد النخعيّ.

وقولها: "كأني انظر الخ" أرادت بذلك قوة تحققها لذلك، بحيث إنها لشدّة استحضارها له كأنها ناظرة إليه.

وقولها: "وبيص" بالموحدة المكسورة، وآخره صاد مهملة: هو البريق وزنًا ومعنًى.

وقال الإسماعيليّ: إن الوبيص زيادة على البريق، وأن المراد به التلألؤ، وأنه يدلّ على وجود عين قائمة، لا الريح فقط انتهى

(2)

.

وقولها: "في مفرق": بفتح الميم، وكسر الراء: هو المكان الذي يُفرق فيه الشعر في وسط الرأس.

والحديث متّفق عليه، وقد سبق الكلام عليه، واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2694 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ

(1)

- وفي نسخة: "مفارق".

(2)

- "فتح" 4/ 178.

ص: 104

مَنْصُورٍ، قَالَ: قَالَ: لِي إِبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قَالَتْ:"لَقَدْ كَانَ يُرَى وَبِيصُ الطِّيبِ، فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُحْرِمٌ").

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، و"سفيان": هو الثوريّ. و"منصور": هو ابن المعتمر.

وقولها: "في مفارق" جمع مفرق، قيل: إنما ذكرته بصيغة الجمع تعميمًا لجوانب الرأس التي يفرق فيها الشعر. والحديث متّفق عليه، كما مرّ الكلام عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌42 - (مَوْضِعُ الطِّيبِ)

2695 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ،، قَالَتْ: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ، فِي رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُحْرِمٌ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده هو، وأبي داود، وهو ثقة.

و" جرير": هو ابن عبد الجميد. و"منصور": هو ابن المعتمر. وفي الإسناد ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم، عن بعض، وكلهم كوفيّون.

وقوله: "وبيص" بفتح الواو، وكسر الموحّدة، بعدها ياء تحتانيّة، ثم صاد مهملة: هو البريق. وقال الإسماعيليّ: وبيص الطيب تلألؤه، وذلك لعين قائمة، لا للريح فقط

(1)

.

والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم الكلام عليه. واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2696 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ، فِي أُصُولِ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُحْرِمٌ").

(1)

- "فتح" 1/ 507. "كتاب الغسل".

ص: 105

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"أبو داود": هو سليمان بن داود الطيالسيّ البصريّ.

والحديث متّفق عليه، وقد مرّ تمام البحث فيه. واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2697 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ -يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضَّلِ- قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،،،، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ،،،، قَالَتْ: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ، فِي مَفْرِقِ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُحْرِمٌ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد كلهم رجال الصحيح، وفيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم، عن بعض، والثلاثة الأولون بصريون، والباقون كوفيون، إلا عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فمدنيّة. و"الحَكَم": هو ابن عتيبة. وسبق الكلام على الحديث وهو متّفق عليه. وباللَّه تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2698 -

(أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ الْعَسْكَرِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدٌ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ- عَنْ شُعْبَةَ،،، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ،،، قَالَتْ: "لَقَدْ رَأَيْتُ وَبِيصَ الطِّيبِ، فِي رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُحْرِمٌ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، والثلاثة الأولون بصريون، والباقون كوفيون تابعيّون، و"سليمان": هو الأعمش الآتي في السند التالي. والحديث تقدّم البحث فيه، وهو متّفق عليه، واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا، ونعمِ الوكيل.

2699 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ،، قَالَتْ: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ، فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يُهِلُّ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد كلهم رجال الصحيح، وهو مسلسل بالكوفيين، وثلاثة منهم تابعيون. و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير. والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم البحث فيه. واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2700 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ هَنَّادٌ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ، ادَّهَنَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُهُ

(1)

، حَتَّى أَرَى وَبِيصَهُ فِي رَأْسِهِ، وَلِحْيَتِهِ").

(1)

- وفي نسخة: "بأطيب دهن يجده".

ص: 106

تَابَعَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ، وَقَالَ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ عائِشَةَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"أبو الأحوص": هو سلاّم بن سليم الحنفيّ الكوفيّ. و"أبو إسحاق": هو عمرو بن اللَّه السبيعيّ الكوفيّ.

وقوله: "وقال هناد الخ" غرضه بيان اختلاف شيخيه في لفظي: "النبيّ"، و"رسول اللَّه". وهذا من شدة احتياط المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، حيث يراعي ألفاظ شيوخه إذا اختلفوا، وإن كان ذلك لا يؤثّر في تغيير المعنى، وإبدال لفظ النبيّ بالرسول، وعكسه فيه خلاف بين أهل الحديث، والأصحّ جواز تبديل أحدهما بالآخر كما أشار إليه الحافظ السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "ألفية الحديث" حيث قال:

وَجَازَ أَنْ يُبْدَلَ بِالنَّبِيَّ

رَسُولُهُ وَالْعَكْسُ فِي الْقَوِيِّ

وقوله: "تابعه إسرائيل" الضمير لأبي الأحوص، أي تابع إسرائيلُ بنُ يونس بن أبي إسحاق أبا الأحوص في رواية هذا الحديث، عن أبي إسحاق، ولكنه خالفه في السند، فجعله عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فأدخل عبد الرحمن بن الأسود واسطة بين أبي إسحاق، والأسود.

ورواية إسرائيل أخرجها الشيخان، ورواية أبي الأحوص تفرّد بها المصنّف، وقد تابع أبا الأحوص شريك بن عبد اللَّه النخعي، كما سيأتي بعد حديثين -2703.

وغرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا بيان الاختلاف الواقع في إسناد هذا الحديث، ولكن مثل هذا الاختلاف لا يضرّ، فإن إسرائيل، وإن كان يقدّم في حديث جدّه أبي إسحاق؛ لإتقانه، ولذا أخرجها الشيخان، إلا أن أبا الأحوص ثقة حافظ، وتابعه عليه شريك، فيحمل على أن أبا إسحاق كان يرويه بالطريقين، حيث سمعه عن الأسود بواسطة ابنه عبد الرحمن، ثم سمعه منه، فكان يحدّث به بالوجهين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وروية إسرائيل التي أشار إليها المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هي التي ساقها هنا بقوله:

2701 -

(أَخْبَرَنَا

(1)

عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِأَطْيَبِ مَا كُنْتُ أَجِدُ، مِنَ الطِّيبِ، حَتَّى أَرَى وَبِيصَ الطِّيبِ، فِي رَأْسِهِ،

(1)

- وفي نسخة: "أخبرني".

ص: 107

وَلِحْيَتِهِ، قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"عبدة بن عبد اللَّه": هو الصفّار الخزاعيّ البصريّ. و"يحيى ابن آدم": هو أبو زكريا الأمويّ مولاهم الكوفيّ الحافظ الفاضل. والحديث متّفق عليه، كما مرّ بيانه.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2702 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"لَقَدْ رَأَيْتُ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَعْدَ ثَلَاثٍ").

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمران بن يزيد": هو عمران بن خالد بن يزيد بن مسلم، نسب لجدّ، وهو دمشقيّ صدوق، من أفراد المصنّف.

و"عطاء بن السائب"، وإن كان من رجال البخاريّ، إلا أنه اختلط، فلا يقبل حديثه إلا عن طريق من روى عنه قبل الاختلاط، وقد جمعتهم بقولي:

يَا أَيُّها الطَّالِبُ لِلْفَائِدَةِ

اعْلَمْ هَدَاكَ اللَّه لِلسَّعادَةِ

أَنَّ عَطَاء ابْنَ سَائِبِ خَلَطْ

فَبِالرُّوَاةِ الأَخْذُ وَالرَّدُّ انْضَبَطْ

فَمَا رَوَى شُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ

زُهَيْرُ إِسْرَائِيلُ قُلْ مَرْضِيُّ

أَيوبُ زَائِدَةُ وَابْنُ زَيْدِ

كَذَا وَرَدُّ غَيْرِهِمْ ذُو أَيْدِ

(2)

وَابْنُ عُيَينَةَ لَدَى ابْنِ رَجَبِ

ذُكِرَ مَقْبُولاً فَخُذْهُ تُصِبِ

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا رَى ابْنُ سَلَمَهْ

وَرَجَّحِ الْوَقْفَ تَكُنْ ذَا مَكْرَمَهْ

وَهَكَذَا حَرَّرَهُ الأَعْلَامُ

فَاحْفَظ فَكُلُّ حَافِظٍ إِمامُ

(3)

فالراوي عنه هنا هو سفيان بن عيينة، والأرجح أنه ممن سمع قبل الاختلاط، فقد رَوَى الحميديّ، عن سفيان، قال: كنت سمعت من عطاء السائب قديمًا، ثم قدم علينا قدمة، فسمعته يحدّث ببعض ما كنت سمعته منه، فيخلط فيه، فاتقيته، واعتزلته. فهذا يدلّ على أن ابن عيينة إنما يحدّث عنه بما سمعه قبل الاختلاط.

(1)

- وفي نسخة: "أنا".

(2)

- أي ذو قوة.

(3)

- إسرائيل زدته من "تحفة الأشراف" 7/ 235. وابن عيينة زدته من "شرح علل الترمذيّ" للحافظ ابن رجب، وعزاه إلى الإمام أحمد.

ص: 108

وقال أبو داود: قال أحمد: سماع ابن عيينة مقارب -يعني عن عطاء بن السائب- سمع منه بالكوفة. انتهى. وهذا أيضًا دليل على أن الإمام أحمد يرى أن سماع ابن عيينة قبل الاختلاط.

والحاصل أن روايته هنا مقبودة فالحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2703 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ،، قَالَتْ:"كُنْتُ أَرَى وَبِيصَ الطِّيبِ، فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَعْدَ ثَلَاثٍ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "شريك": هو ابن عبد اللَّه النخعيّ القاضي الكوفيّ. وقولها: "بعد ثلاث" أي بعد ثلاث ليال، وهو كناية عن طول مكثه معه، فهو صريح في جواز التطيّب بما يبقى بعد الإحرام، ولو وقتًا طويلاً، والحديث فيه شريك متكلم فيه، وأبو إسحاق مختلط، لكنه صحيح بما سبق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2704 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ بِشْرٍ -يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضَّلِ- قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، عَنِ الطِّيبِ عِنْدَ الإِحْرَامِ؟ ، فَقَالَ: لأَنْ أَطَّلِيَ بِالْقَطِرَانِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ: "يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَقَدْ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَطُوفُ فِي نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ يَنْضَحُ طِيبًا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد رجال الصحيح.

و"إبراهيم بن محمد بن المنتشر": هو الهمدنيّ الكوفيّ الثقة. و"أبوه": هو محمد بن المنتشر بن الأجدع الهمدانيّ الكوفيّ الثقة.

وقوله: "لأن أطلي" يقال: طَلَيته بالطين، وغيره طَلْيًا، من باب رَمَى: إذا لطخته، واطّليت على افتعلتُ: إذا فعلت ذلك بنفسك، ولا يُذكر معه المفعول.

وهنا يحتمل أن يكون ثلاثيًّا مبنيًّا للمفعول، أو للفاعل، ويقدّر مفعوله: أي نفسي، ويحتمل أن يكون من باب الافتعال، فالطاء مشدّدة، وهي مبدلة من تاء الافتعال، كما قال ابن مالك في "خلاصته":

طَا تَا افْتِعَالٍ رُدَّ إِثْرَ مُطْبَقِ

فِي ادَّانَ وَازْدَدْ وَادَّكِرْ دَالاً بَقِي

واللام في "لأن" لام الابتداء مفتوحة، والمصدر المؤوّل مبتدأ خبره قوله:"أحبّ".

وقوله: "بالقطران" قال الفيّوميّ: هو ما يتحلّل من شجر الأَبْهَل، ويُطلَى به الإبل،

(1)

- وفي نسخة: "حدثنا"، وفي أخرى:"أنا".

ص: 109

وغيرها. وقَطْرَنتها: إذا طليتها به، وفيه لغتان: فتح القاف، وكسر الطاء، وبها قرأ السبعة في قوله تعالى:{سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} ، والثانية: كسر القاف، وسكون الطاء

انتهى.

وقول عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "يرحم اللَّه أبا عبد الرحمن الخ". تعني ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -، وإنما استرحمت له، إشعارًا بأنه قد سها فيما قاله، إذ لو استحضر فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك. قاله في "الفتح"

(1)

.

وقولها: "فيطوف في نسائه". قال الإسماعيليّ -رحمه اللَّه تعالى-: يحتمل أن يراد به الجماع، وأن يراد به تجديد العهد بهنّ انتهى.

وقولها: "ينضخ طيبًا". بفتح أوله، وبفتح الضاد المعجمة، وبالخاء المعجمة. قال الأصمعيّ: النضخ -بالمعجمة- أكثر من النضح -بالمهملة-. ويسوّى بينهما أبو زيد.

وقال ابن كيسان: إنه بالمعجمة لما ثخُنَ، وبالمهملة لما رَقّ. وظاهره أن عين الطيب بقيت بعد الإحرام، قال الإسماعيليّ: بحيث صار كأنه يتساقط منه الشيء بعد الشيء انتهى

(2)

. والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم في "كتاب برقم 13/ 417" وتقدم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تزدد علماً. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2705 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، وَسُفْيَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: لأَنْ أُصْبِحَ مُطَّلِيًا بِقَطِرَانٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا، أَنْضَحُ طِيبًا، فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَأَخْبَرْتُهَا بِقَوْلِهِ، فَقَالَتْ: "طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَطَافَ فِي نِسَائِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "وسفيان": هو الثوريّ، وهو بالجرّ عطف على "مسعر"، فكلاهما يروي عنه وكيع والحديث متفق عليه، كما مر بيانه في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

(1)

- "فتح" 1/ 502 في "كتاب الغسل".

(2)

- المصدر السابق 1/ 502.

ص: 110

‌43 - (الزَّعْفَرَانُ لِلْمُحْرِمِ)

أي حكم استعمال الزعفران للرجل المحرم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهره أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يرى أن النهي عن تزعفر الرجل خاصّ بالمحرم، جمعًا بينه، وبين أدلة إباحة التزعفر، لكن الذي يظهر لي، أن النهي على إطلاقه؛ لأن أحاديث النهي أرجح، وأقوى، فتقدّم على أحاديث الإباحة، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2706 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المروزي نزيل نيسابور، ثقة ثبت حجة [10] 2/ 2.

2 -

(إسماعيل) بن إبراهيم، ابن عليه، أبو بشر البصريُّ، ثقة ثبت [8] 18/ 19.

3 -

(عبد العزيز) بن صُهَيب البُنَاني البصري، ثقة [4] 18/ 19.

4 -

(أنس) بن مالك الصحابي الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (138) من رباعيات الكتاب، وهو مسلسل بالبصريين غير شيخه، فمروزي ثم نيسابوري، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، مات سنة (2) أو (93) وقد جاوز المائة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أنس) بن مالك الأنصاريّ النجّاريّ الخادم - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ:"نَهى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ) أي يستعمل الزعفران في بدنه، أو مطلقًا، وهو الأولى، للرواية الآتية -73/ 5257 - في "كتاب الزينة" من طريق زكريا بن يحيى بن عُمارة الأنصاريّ، عن عبد العزيز، بلفظ: "أن يُزعفر الرجلُ جلده". فدلّ على أن النهي في

ص: 111

البدن، لا في الثوب.

وقيّد بالرجل في رواية إسحاق، عن إسماعيل ابن عليّة، ورواية شعبة، عن إسماعيل الآتية بعده مطلقة، ولفظه:"نهى عن التزعفر". قال الحافظ: وكأنه اختصره، وإلا فقد رواه عن إسماعيل فوق عشرة من الحفّاظ، مقيّدًا بالرجل. ويحتمل أن يكون إسماعيل اختصره لَمّا حدّث به شعبة، والمطلق محمول على المقيّد انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-43/ 2706 و 2707 و 2708 وفي "الزينة" 73/ 5256 و 5257 - وفي "الكبرى" 43/ 3686 و 3687 و 3688 وفي "الزينة" 42/ 9414. وأخرجه (خ) في "اللباس" 5846 (م) في "اللباس والزينة" 2101 (د) في "الترجّل" 4179 (ت) في "الأدب" 2815 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 11567 و 12530. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): اختلف أهل العلم في النهي عن التزعفر للرجل:

ذهب الشافعيّ، وأبو حنيفة إلى منع الرجل عن التزعفر مطلقًا حلالاً كان، أو محرمًا.

وذهب مالك، وجماعة إلى جواز لبس المزعفر للحلال، وقالوا: إنما وقع النهي عنه للمحرم فقط.

قال "الفتح": وقد نقل البيهقيّ عن الشافعيّ، أنه قال: أنهى الرجل الحلال بكلّ حال أن يتزعفر، وآمره إذا تزعفر أن يغسله. قال: وأُرَخَّصُ في المعصفر؛ لأنني لم أجد أحدًا يحكي عنه إلا ما قال عليّ: "نهاني، ولا أقول: نهاكم". قال البيهقيّ: قد ورد ذلك عن غير عليّ، وساق حديث عبد اللَّه بن عمرو، قال: رأى عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين، فقال:"إن هذه من ثياب الكفّار، فلا تلبسهما". أخرجه مسلم، وفي لفظ له: فقلت: أغسلهما؟، قال:"لا، بل أحرقهما". قال البيهقيّ: فلو بلغ ذلك الشافعيّ لقال به، اتباعًا للسنّة، كعادته. وقد كره المعصفر جماعة من السلف، وممن قال بكراهته

(1)

-"فتح" 11/ 487 في "كتاب اللباس".

ص: 112

من أصحابنا -يعني الشافعيّة- الْحَليمِيُّ، ورخّص فيه جماعة، والسنة أولى بالاتباع انتهى. واللَّه أعلم.

ورخّص مالك في المعصفر، والمزعفر في البيوت، وكرهه في المحافل.

وقال ابن بطّال -رحمه اللَّه تعالى-: أجاز مالك، وجماعة لباس الثوب المزعفر للحلال، وقالوا: إنما وقع النهي عنه للمحرم خاصّة. وحمله الشافعيّ، والكوفيّون على المحرم وغير المحرم.

وحديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصبغ يدلّ على الجواز، فإن فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بالصفرة. وأخرج الحاكم من حديث عبد اللَّه بن جعفر، قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران. وفي سنده عبد اللَّه بن مصعب الزبيريّ، وفيه ضعف. وأخرج الطبرانيّ، من حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صبغ إزاره، ورداءه بزعفران. وفيه راو مجهول. ومن المستغرب قول ابن العربيّ: لم يرد في الثوب الأصفر حديث، وقد ورد فيه عدّة أحاديث، كما ترى. قال المهلّب: الصفرة أبهج الألوان إلى النفس، وقد أشار إلى ذلك ابن عبّاس رضي الله عنه في قوله تعالى:{صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} . قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال العلاّمة المباركفوريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأحوذيّ": والحديث دليل لأبي حنفية، والشافعيّ، ومن تبعهما في تحريم استعمال الرجل الزعفران في ثوبه، وبدنه، ولهما أحاديث أخر صحيحة.

ومذهب المالكيّة أن الممنوع إنما هو استعماله في البدن، دون الثوب. ودليلهم ما أخرجه أبو داود، عن أبي موسى، مرفوعًا:"لا يقبل اللَّه صلاة رجل في جسده شيء من خلوق". فإن مفهومه أن ما عدا الجسد لا يتناوله الوعيد.

وأجيب عن حديث أبي موسى هذا بأن في سنده أبا جعفر الرازيّ، وهو متكلّم فيه، وأحاديث النهي عن التزعفر مطلقًا أصحّ، وأرجح.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وأيضًا على تقدير صحّته، فاستدلالهم بالمفهوم، وأحاديث النهي منطوقة، فتقدّم عليه. واللَّه أعلم.

قال: فإن قلت: قد ثبت في "الصحيحين" من حديث أنس رضي الله عنه أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبه أثر صفرة، فسأله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنه تزوّج امرأة

الحديث، وفي رواية:"وعليه ردع زعفران"، فهذا الحديث يدلّ على جواز

(1)

- "فتح" 11/ 487 - 488. في "كتاب اللباس".

ص: 113

التزعفر، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يُنكر على عبد الرحمن بن عوف، فكيف التوفيق بين حديث أنس هذا، وبين حديثه المذكور في الباب، وما في معناه؟.

قلت: أشار البخاريّ إلى الجمع بأن حديث عبد الرحمن للمتزوّج، وأحاديث النهي لغير المتزوّج، حيث ترجم بقوله:"باب الصفرة للمتزوّج".

وقال الحافظ: إن أثر الصفرة التي كانت على عبد الرحمن تعلّقت به من جهة زوجته، فكان ذلك غير مقصود له، قال: ورجّحه النوويّ. وأجيب عن حديث عبد الرحمن بوجوه أخرى ذكرها الحافظ في "الفتح" في "باب الوليمة ولو بشاة"، من "كتاب النكاح".

فإن قلت: روى الشيخان عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: أن رجلا قال: يا رسول اللَّه ما يلبس المحرم من الثياب؟، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يلبس القمص

الحديث، وفيه: ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسّه زعفران، أو ورس".

فيستفاد من ظاهر هذا الحديث جواز لبس المزعفر لغير الرجل المحرم؛ لأنه قال ذلك في جواب السؤال عما يلبس المحرم، فدلّ على جوازه لغيره.

قلت: قال العراقيّ: الجمع بين الحديثين أنه يُحتمل أن يقال: إن جواب سؤالهم انتهى عند قوله: "أسفل من الكعبين"، ثم استأنف بهذا، ولا تعلّق له بالمسؤول عنه، فقال:"ولا تلبسوا شيئًا من الثياب إلى آخره" انتهى.

قال المباركفوريّ: والأولى في الجواب أن يقال: إن الجواز للحلال مستفاد من حديث ابن عمر بالمفهوم، والنهي ثابت من حديث أنس بالمنطوق، وقد تقرّر أن المنطوق مقدّم على المفهوم.

فإن قلت: روى النسائيّ من طريق عبد اللَّه بن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، كان يصبغ ثيابه بالزعفران، فقيل له؟، فقال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصبغ. قلت: عبد اللَّه بن زيد صدوق، فيه لين، وأصله في "الصحيح"، وليس فيه ذكر الصفرة انتهى كلام المباركفوريّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بتحريم المزعفر للرجل، محرمًا، أو غير محرم، هو الأرجح عندي؛ لحديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - المذكور في الباب، فإنه نصّ في ذلك، وكذلك حديث عبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنهما - المتقدّم، فإنه ظاهر فيه، حيث أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بحرقه بالنار، ولم يسمح له في غسله، فلو جاز لبسه لما شدّد عليه مثل هذا التشديد، وكذلك حديث عليّ رضي الله عنه: "نهاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن

(1)

-"تحفة الأحوذي" 8/ 100 - 101.

ص: 114

خاتم الذهب، وعن لبوس القسيّ، والمعصفر

" الحديث. وغير ذلك من الأحاديث.

والحاصل أن أحاديث النهي أرجح، فتقدّم على أحاديث الإباحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2707 -

(أَخْبَرَنِي كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ بَقِيَّةَ، عَنْ شُعْبَةَ،، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ التَّزَعْفُرِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "كثير بن عُبيد": هو الْمذحِجيّ، أبو الحسن الحمصيّ الحذّاء المقرئ الثقة. و"بقيّة": هو ابن الوليد الحمصيّ، وهو وإن كان صدوقًا، إلا أنه مدلس تدليس التسوية، لكنه تابعه آدم بن أبي إياس عند الترمذيّ في "كتاب الأدب" رقم 2815 - ، فرواه عن شعبة، عن إسماعيل به، فالحديث صحيح.

[تنبيه]: رواية شعبة عن إسماعيل بن إبراهيم، وهو ابن عليّة، من رواية الأكابر عن الأصاغر، كما قاله الحافظ

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: أشار في هامش "الهنديّة" أنه يوجد في بعض النسخ "عن سعيد" بدل "عن شعبة" وهو تصحيف بلا شكّ، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2708 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنِ التَّزَعْفُرِ"، قَالَ حَمَّادٌ: يَعْنِي لِلرِّجَالِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح"حماد": هو ابن زيد. والإسناد من رباعيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (139) من رباعيات الكتاب.

وقوله: "يعني للرجال" هكذا هو عند مسلم في "صحيحه"،ولعلّ حمادًا -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- لم يتيقن لفظة "للرجال"، فأدخل كلمة "يعني" تورّعًا، وإلا فقد ثبتت اللفظة من رواية إسماعيل ابن عليّة، عن عبد العزيز، عند المصنّف في حديث أول الباب، ومن رواية عبد الوارث بن سعيد، عن عبد العزيز، عن البخاريّ في "صحيحه" رقم 5846 ولفظه:"نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل". ورواية الترمذيّ من طريق قتيبة، وعبد الرحمن بن مهديّ، كلاهما عن حماد بن زيد ليس فيها كلة "يعني"، ولفظه: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن

(1)

- "فتح"11487. في "كتاب اللباس".

ص: 115

التزعفر للرجال". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌44 - (فِي الْخَلُوقِ لِلْمُحْرِمِ)

2709 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَعَلَيْهِ مُقَطَّعَاتٌ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِخَلُوقٍ، فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ، فَمَا أَصْنَعُ؟ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ؟

(1)

» ، قَالَ: كُنْتُ أَتَّقِي هَذَا، وَأَغْسِلُهُ، فَقَالَ:«مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ، فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه "محمد بن منصور": وهو الجوّاز المكيّ فإنه من أفراد المصنّف وهو ثقة. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"عمرو": هو ابن دينار. و "عطاء": هو ابن أبي رباح.

وقوله: "وعليه مقطّعات" قال النوويّ: بفتح الطاء المشدّدة، وهي الثياب المخيطة.

وقال في "النهاية": أي ثياب قصار؛ لأنها قطعت عن بلوغ التمام. وقيل: المقطّع من الثياب، كلّ ما يفصل، ويخاط، من قميص، وغيره، وما لا يقطّع منها كالأُزُر، والأردية انتهى

(2)

.

وقال السنديّ: المقطّع من الثياب المفصّل على البدن، أي الذي يفصّل أوّلاً على البدن، ثم يخاط، من قميص، وغيره

(3)

.

وقوله: "متضمّخ" بالضاد، والخاء المعجمتين: أي متلطّخ. وقوله: "بخلوق" -بفتح الخاء المعجمة، آخره قاف: طيّب معروف، مركّب، يتّخذ من الزعفران وغيره

(4)

.

وقوله: "ما كنت صانعًا في حجك؟! الأول استفهام، فلذا أجابه بقوله. "أتقي هذا الخ"، والثاني أمر له بأن يصنع في عمرته ما كان يصنعه في حجه. وهذا يدلّ على أن الرجل كان يعلم محظورات الحجّ، وإنما يجهل محظورات العمرة.

(1)

- وفي نسخة: "في حجتك".

(2)

- "النهاية" 4/ 81.

(3)

- "شرح السنديّ" 5/ 142.

(4)

-"زهر الربى" 5/ 142 - 143.

ص: 116

قال الباجيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم علم من حال السائل أنه عالم بما يفعل في الحجّ، وإلا فلا يصحّ أن يقول له ذلك؛ لأنه إذا لم يعلم ما يفعل الحاجّ لم يمكنه أن يمتثله المعتمر انتهى.

وقال ابن العربيّ -رحمه اللَّه تعالى-: كأنهم كانوا في الجاهليّة يخلعون الثياب، ويجتنبون الطيب في الإحرام، إذا حجّوا، وكانوا يتساهلون في ذلك في العمرة، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن مجراهما واحد انتهى

(1)

.

والحديث متّفق عليه، وتقدم تمام شرحه، وبيان مسائله في باب "الجبّة في الإحرام" -29/ 2668 - فراجعه تستفد، واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2710 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، وَهُوَ بِالْجِعِرَّانَةِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ، وَهُوَ مُصَفِّرٌ لِحْيَتَهُ وَرَأْسَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَحْرَمْتُ بِعُمْرَةٍ، وَأَنَا كَمَا تَرَى، فَقَالَ: «انْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ عَنْكَ الصُّفْرَةَ، وَمَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجَّتِكَ، فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن إسماعيل بن إبراهيم" وهو المعروف أبوه بابن عليّة، دمشقيّ ثقة، فإنه من أفراد المصنّف. و"قيس بن سعد": هو أبو عبد الملك المكيّ الثقة.

وقوله: "وهو مصفّر" بتشديد الفاء المكسورة: أي مستعمل للصفرة في لحيته، وتلك الصفرة هي الخلوق. والحديث متفق عليه، كما سبق بيانه فيما قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌45 - (الْكُحْلُ لِلْمُحْرِمِ)

أي هذا باب في ذكر الحديث الدّالّ على بيان حكم استعمال الكحل للمحرم، وهو المنع، إلا للضرورة كالرَّمَدِ، فيستعمل الصبر، ونحوه من الأدية التي ليس فيها طيب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(1)

- راجع "المرعاة" 9/ 348.

ص: 117

2711 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فِي الْمُحْرِمِ «إِذَا اشْتَكَى رَأْسَهُ وَعَيْنَيْهِ، أَنْ يُضَمِّدَهُمَا بِصَبِرٍ

(1)

»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور قبل باب.

2 -

(سفيان) بن عيينة المذكور في الباب الماضي.

3 -

(أيوب بن موسى) الأمويّ المكيّ، ثقة [6] 150/ 241.

4 -

(نُبيه -بضم النون، وفتح الموحّدة، آخره هاء، مصغّرًا- ابن وهب) بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزّي بن عثمان بن عبد الدار بن قُصيّ العبدريّ المدنيّ، ثقة، من صغار [3].

قال النسائيّ: ثقة. وحكى ابن عبد البرّ، عن ابن معين: ثقة. وقال ابن سعد: روى عنه نافع، وليس نُبيه بأسنّ منه، توفّي في فتنة الوليد بن يزيد، وكان ثقة قليل الحديث، أحاديثه حسان. وقال ابن أبي عاصم: كان من أشراف بني عبد الدار، معروف الدار، والنسب. وذكره ابن حبّان في "الثقات" في أتباع التابعين، وكأن روايته عنده عن أبي هريرة مرسلة. وقال أبو زرعة: حديثه عن عثمان مرسل. روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وروى له المصنّف في ستة مواضع، برقم -2711 و 2842 و 2843 و 2844 و 32745 و 3276.

5 -

(أبا بن عثمان) بن عفّان الأمويّ، وأمه أم عمرو بنت جندب الدوسيّة، أبو سعيد. وقيل: أبو عبد اللَّه، مدنيّ ثقة [3].

قال عمرو بن شُعيب: ما رأيت أعلم بحديث ولا فقه منه. وعدّه يحيى القطّان في فقهاء المدينة. وقال العجليّ: ثقة، من كبار التابعين. وقال ابن سعد: مدنيّ تابعيّ ثقة، وله أحاديث، وكان به صَمَمٌ، ووَضَحٌ، وأصابه الفالج قبل أن يموت بسنة. وحكى البخاريّ في "التاريخ" عن مالك أنه كان قد عَلِمَ أشياء من قضاء أبيه، وكان معلّم عبد اللَّه بن أبي بكر. وقال الأثرم: قلت لأحمد: أبان بن عثمان سمع من أبيه؟ قال: لا. قال الحافظ: حديثه في "صحيح مسلم" مصرّح بالسماع من أبيه. قال خليفة: مات في خلافة يزيد بن عبد الملك، ومات يزيد سنة (105).

روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، روى له المصنّف في هذا الكتاب في المواضع الستة التي تقدّمت في ترجمة نُبيه بن وهب.

6 -

(أبوه) عثمان بن عفان بن أبي العاص أمير المؤمنين رضي الله عنه تقدم في 68/ 84.

(1)

- وفي نسخة: "بالصبر".

ص: 118

واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأن رجاله عندهم رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالمدنيين من نُبَيْهٍ، وأن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعي، وهو من رواية الأقران، وأن صحابيه أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشرين بالجنة، وأحد السابقين إلى الإسلام، وكان يُلَقَّبُ بذي النورين؛ لأنه تزوج بابنتي النبي صلى الله عليه وسلم رُقَيَّة، ثم أم كلثوم - رضي اللَّه تعالى عنهم - جميعًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ) في "أبان" وجهان: الصرف، وعدمه، والصحيح الأشهر الصرف، فمن صرفه قال: وزنه فَعَال، ومن منعه قال: وزنه أفعَل. قاله النوويّ. قال بعضهم: من لم يصرف أبان، فهو أتان.

وأما عثمان فممنوع من الصرف؛ للعلمية، وزيادة الألف والنون. وأما عفّان، ففيه وجهان أيضًا: الصرف، وعدمه، فالصرف على تقدير أن نونه أصلية، من العفن، وعدمه على تقدير زيادتها مع الألف، من العفّة. واللَّه تعالى أعلم.

(عَنْ أَبِيهِ) عثمان بن عفّان الخليفة الراشد - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: (قال النبيّ صلى الله عليه وسلم". وفي الحديث قصّة ساقها مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه"، فقال:

1204 -

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب، جميعا عن ابن عيينة، قال أبو بكر: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا أيوب بن موسى، عن نُبَيه بن وهب، قال: خرجنا مع أبان بن عثمان، حتى إذا كنا بِمَلَلٍ

(1)

، اشتكى عمر بن عبيد اللَّه عينيه، فلما كنا بالرَّوْحَاء، اشتد وجعه، فأرسل إلى أبان بن عثمان يسأله، فأرسل إليه، أن اضْمِدْهُما بالصبر، فإن عثمان رضي الله عنه، حدث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، "في الرجل إذا اشتكى عينيه، وهو محرم، ضَمَّدَهما بالصبر".

(فِي الْمُحْرِمِ) متعلّق بـ "قال"، بمعنى حكم، فإن "قال" تأتي بمعنى "حكم"، كما نقله في "اللسان" عن ابن الأثير، وأقره عليه، أي حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المحرم (إِذَا اشْتَكَى رَأْسَهُ، وَعَيْنَيهِ) لفظ "رأسه" ليس في "صحيح مسلم"(أَنْ يُضَمَّدَهُمَا بِصَبِرِ) بالبناء

(1)

- "ملل" بفتح الميم بلا مين: اسم موضع على ثمانية وعشرين ميلاً من المدينة، وقيل: اثنان وعشرون. والروحاء أيضًا اسم موضع ..

ص: 119

للفاعل: أي يجعل عليهما صبرًا، ويداويهما به. وفي نسخة:"أن يُضمَّد" بالبناء للمفعول. يقال: ضَمَدَ الجرحَ يَضمِده، ويَضمُدُه، من بابي ضرب، ونصر، وضَمَّده بالتشديد: إذا شدّه بالضَّمَادة، وهي بالكسر: العصابة، كالضِّمَاد. أفاده في "القاموس".

وقال ابن الأثير: أصل الضّمْد: الشدّ، يقال: ضمد رأسه، وجُرْحَهُ: إذا شدّه بالضَّمَاد، وهي خرقة يُشدّ بها العضو المَؤُوف

(1)

، ثم قيل لوضع الدواء على الجرح، وغيره، وإن لم يُشدّ انتهى

(2)

.

و"الصبر": الدواء المرّ، وقال في "القاموس": عُصَارة شجر مُرّ.

قال الفيّوميّ: هو -بكسر الباء في الأشهر، وسكونها للتخفيف لغةٌ قليلةٌ، ومنهم من قال: لم يُسمع تخفيفه في السَّعَة. وحكى ابن السِّيدِ في "كتاب مثلّث اللغة" جواز التخفيف، كما في نظائره بسكون الباء مع فتح الصاد، وكسرها، فيكون فيه ثلاث لغات انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عثمان بن عفّان - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -45/ 2711 - وفي "الكبرى" 45/ 3691. وأخرجه (م) في "الحجّ" 1204 (د) في "المناسك" 1838 (ت) في "الحج" 952 (الدارمي) في "المناسك" 1930. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاكتحال للمحرم:

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: واتفق العلماء على جواز تضميد العين، وغيرها بالصبر، ونحوه، مما ليس بطيب، ولا فدية في ذلك، فإن احتاج إلى ما فيه طيب، جاز له فعله، وعليه الفدية واتفق العلماء على أن للمحرم أن يكتحل بكحل لا طيب فيه، إذا احتاج إليه، ولا فدية عليه فيه.

وأما الاكتحال للزينة، فمكروه عند الشافعيّ، وآخرين. ومنعه جماعة، منهم: أحمد، وإسحاق، وفي مذهب مالك قولان كالمذهبين، وفي إيجاب الفدية عندهم بذلك خلاف، واللَّه أعلم انتهى كلام النوويّ

(4)

.

(1)

- "المؤوف": اسم مفعول، من آفه: إذا أصابته الآفة.

(2)

- "النهاية" 3/ 99.

(3)

- ""المصباح المنير" في مادّة صبر.

(4)

- "شرح مسلم" 8/ 363.

ص: 120

وقال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ونَهْيُ أبان بن عثمان للسائل أن يكحل عينيه ليس على إطلاقه، وكأنه إنما نهاه عن أن يكحلها بما فيه طيب، وتضميد العين هو: لطخها، والصبر ليس بطيب. ولا خلاف في جواز مثل هذا مما ليس فيه طيب، ولا زينة، فلو اكتحل المحرم، أو المحرمة بما فيه طيب افتديا. وكذلك المرأة إذا اكتحلت للزينة، وإن لم يكن فيه طيب، فلو اكتحل الرجل للزينة، فأباحه قوم، وكرهه آخرون، وهم: أحمد، وإسحاق، والثوريّ. وعلى القول بالمنع، فهل تجب الفدية، أم لا؟ قولان، وبالثاني قال الشافعيّ، رجلاً كان، أو امرأة. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد، وإسحاق، من منع الكحل للمحرم، إلا لمرض أصابه، كالرَّمَد، ونحوه، فيكتحل بما ليس فيه طيب، كأن يضمده بالصبر، ونحوه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌46 - (الْكَرَاهِيَةُ فِي الثِّيَابِ الْمُصَبغَةِ لِلْمُحْرِمِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على كراهية لبس الثياب المصبغة للمحرم.

و"المصبغة": بضم الميم، وتشديد الموحّدة، اسم مفعول من التصبيغ، يقال: صبغ الثوب يصبغه، من باب منع، وضرب، ونصر صِبْغًا، وصِبَغًا، كعِنَب: إذا لوّنه. والتضعيف للمبالغة، ويحتمل أن يكون بضم الميم، وتخفيف الموحّدة، اسم مفعول من الإصباغ، كالإسباغ وزنًا، ومعنًى، يقال: أَصْبَغَ اللَّهُ النعمةَ: أسبغها. أفاده في "القاموس". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2712 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: أَتَيْنَا جَابِرًا، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَحَدَّثَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلْيُحْلِلْ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً» .

وَقَدِمَ عَلِيٌّ رضي الله عنه، مِنَ الْيَمَنِ بِهَدْيٍ، وَسَاقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ هَدْيًا، وَإِذَا

(1)

- "المفهم" 3/ 290.

ص: 121

فَاطِمَةُ، قَدْ لَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا، وَاكْتَحَلَتْ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ مُحَرِّشًا، أَسْتَفْتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَاطِمَةَ لَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا، وَاكْتَحَلَتْ، وَقَالَتْ: أَمَرَنِي بِهِ أَبِي، صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، أَنَا أَمَرْتُهَا» ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن المثني) العَنَزيّ، أبو موسى البصري، ثقة حافظ [10] 64/ 80.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطان البصري، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 4.

3 -

(جعفر بن محمد) الصادق المدني يأتي.

4 -

(أبوه) محمد بن علي الباقر يأتي أيضًا.

5 -

(جابر) بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - يأتي أيضًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله رجال الصحيح، وأن فيه رواية الابن عن أبيه، وأن جابر رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، وأن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الأئمة الستة دون واسطة، وقد نظمتهم بقولي:

اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ

ذَوُو الأُصُولِ السَّتَةِ الْوُعَاةُ

فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُوخِ الْمَهَرَهْ

الْحَافِظِينَ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ

أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ

نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْروٌ السَّرِي

وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا

ابْنُ الْمُثنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى

وقد تقدّم هذا كله غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا لطول العهد. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَعْفَرِ بْنِ محمد) أبي عبد اللَّه الهاشميّ المدنيّ المعروف بالصادق، صدوق فقيه إمام من [6] تقدّمت ترجمته في 123/ 18، أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي) هو: محمد بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشميّ، أبو جعفر المعروف بالباقر المدنيّ، ثقة فاضل من [4] تقدّمت ترجمته في 123/ 182 أنه (قَالَ: أَتَيْنَا جَابِرًا) أي ابن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ، أبا عبد اللَّه، وقيل: غيره صحابيّ مشهور، غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن أربع وتسعين سنة، تقدّمت ترجمته في 31/ 35 (فَسَأَلْنَاهُ عَنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي عن كيفيتها.

[اعلم]: أن حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كانت مروية من أحاديث كثير من الصحابة، إلا أنَّ

ص: 122

أحسنهم، وأتمهم سياقًا هو جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وأتم المحدّثين سوقًا لحديثه هو الإمام مسلم -رحمه اللَّه تعالى-، حيث ساقه مساقًا واحدًا، ولم يقتصر على بعض أجزائه، كما فعل الأئمة الآخرون، كالبخاريّ، والمصنّف، وبقية أصحاب الكتب، فإنهم يسوقون منه محلّ الاحتجاج لما يريدن الاحتجاج به، وحيث كانت رواية مسلم أتمّ أحببت أن أذكرها هنا تميمًا للفائدة، وتكميلاً للعائدة، ولتسهل الإحالة عليه فيما يأتي، إن شاء اللَّه تعالى، قال -رحمه اللَّه تعالى-:

1218 -

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وإسحق بن إبراهيم جميعا، عن حاتم، قال أبو بكر: حدثنا حاتم بن إسمعيل المدني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: دخلنا على جابر بن عبد اللَّه، فسأل عن القوم، حتى انتهى إليّ، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زِرِّي الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثديي، وأنا يومئذ غلام شابّ، فقال: مرحبا بك يا ابن أخي، سل عما شئت، فسألته، وهو أعمى، وحضر وقت الصلاة، فقام في نِسَاجة

(1)

، ملتحفا بها، كلما وضعها على منكبه، رجع طرفاها إليه، من صغرها، ورداؤه إلى جنبه، على المِشْجَب

(2)

، فصلى بنا، فقلت: أخبرني عن حجة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال بيده، فعقد تسعا، فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مكث تسع سنين، لم يحجّ، ثم أَذَّنَ في الناس في العاشرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حاجٌّ، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس، أن يأتم برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس، محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كيف أصنع؟ قال:"اغتسلي، واستثفري بثوب، وأحرمي"، فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء

(3)

، حتى إذا استوت به ناقته، على البيداء، نظرتُ إلى مد بصري، بين يديه من راكب، وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء، عملنا به، فأهل بالتوحيد، "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك، لا شريك لك"، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يردّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليهم، شيئا منه، ولزم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تلبيته، قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن، فرمل

(1)

-بكسر النون، وتخفيف السين: ثوب ملفّق على هيئة الطيلسان.

(2)

بكسر فسكون: هي خشبات موثقة، تُنصَب، فينشر عليها الثياب. اهـ"المصباح".

(3)

اسم ناقة النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 123

ثلاثاً، ومشي أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبي يقول: ولا أعلمه ذكره، إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقرأ في الركعتين:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثم رجع إلى الركن، فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا، قرأ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] أَبْدَأُ بما بدأ اللَّه به، فبدأ بالصفا، فرَقِيَ عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد اللَّه، وكبره، وقال:"لا إله إلا اللَّه وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، لا إله إلا اللَّه وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا، ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت

(1)

قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى، حتى أتى المروة، ففعل على المروة، كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة، فقال:"لو أني استقبلت، من أمري ما استدبرت، لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي، فليحل، وليجعلها عمرة"، فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول اللَّه، ألعامنا هذا، أم لأبد؟، فشبك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصابعه، واحدة في الأخرى، وقال:"دخلت العمرة في الحج"، مرتين، "لا، بل لأبد أبد"، وقدم عليٌّ من اليمن، ببدن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة رضي الله عنها، ممن حلّ، ولبست ثيابا صبيغا، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا، قال: فكان عليّ يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مُحَرِّشًا

(2)

على فاطمة، للذي صنعت، مستفتيا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال:"صدقت، صدقت، ماذا قلت، حين فرضت الحج؟ "، قال: قلت: اللَّهم إني أُهِلُّ بما أهل به رسولك، قال:"فإن معي الهدي، فلا تحل"، قال: فكان جماعة الهدي، الذي قدم به علي من اليمن، والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة، قال: فحل الناس كلهم، وقصروا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن كان معه هدي، فلما كان يومٌ التروية، توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج، وركب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلا، حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر، تضرب له بنمرة، فسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش، إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش، تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول

(1)

أي انحدرت.

(2)

أصل التحريش: تهيج بعض البهائم على بعض كالكباش، والديوك، والمراد به هنا ذكر ما يوجب عتابه لها. قاله ابن الأثير.

ص: 124

اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقَصْوَاء، فرُحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس، وقال: "إن دماءكم، وأموالكم، حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كلّ شيء من أمر الجاهلية، تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا، دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد، فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع، ربانا ربا عباس بن عبد المطّلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا اللَّه في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان اللَّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم، أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك، فاضربوهن ضربا، غير مبرح

(1)

، ولهن عليكم رزقهن، وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم، ما لن تضلوا بعده، إن اعتصمتم به، كتاب اللَّه، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ "، قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت، فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس: "اللَّهم اشهد، اللَّهم اشهد"، ثلاث مرات، ثم أذن، ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام، فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا، ثم ركب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حَبْلَ

(2)

المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا، حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا، حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد شَنَقَ

(3)

للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مَوْرِكِ

(4)

رحله، ويقول بيده اليمنى، "أيها الناس السكينةَ السكينةَ"، كلما أتى حبلا

(5)

من الحبال، أرخى لها قليلا، حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء، بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى طلع الفجر، وصلى الفجر، حين تبين له الصبح، بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهللَّه، ووحده، فدم يزل واقفا، حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس، وكان رجلا، حسن الشعر، أبيض وسيما، فلما دفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مرّت به ظعن يجرين، فطفق الفضل

(1)

أي غير جارح أو لا شديد، ولا شاق.

(2)

بالحاء المهملة والموحدة: أي مجتمعهم.

(3)

أي ضمْ وضّيَّقَ.

(4)

المورك بفتح، فسكون، وكسر راء: المرفقة التي تكون عند قادمة الرحل يضع الراكب رجله عليها ليستريح من وضع رجله في الركاب. قاله ابن الأثير.

(5)

الحبال في الرمل كالجبال في غير الرمل.

ص: 125

ينظر إليهن، فوضع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يده، من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى، التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليا، فنحر ما غَبَرَ

(1)

، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قِدْر، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها، ثم ركب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب، يسقون على زمزم، فقال:"انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم، لنزعت معكم"، فناولوه دلوا، فشرب منه

(2)

.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرحه": حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - حديث عظيم، مشتمل على جُمَل من الفوائد، ونفائس من مهمات القواعد، وهو من أفراد مسلم، لم يروه البخاريّ في "صحيحه"، ورواه أبو داود كرواية مسلم. قال القاضي: وقد تكلّم الناس على ما فيه من الفقه، وأكثروا، وصنّف فيه أبو بكر ابن المنذر جزءًا كبيرًا، وخرّج فيه من الفقه مائة ونيّفًا وخمسين نوعًا، ولو تقصّى لزاد على هذا القدر قريبٌ منه انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: لم يروه البخاريّ في "صحيحه"، كأنه أراد بهذا السياق مثل رواية مسلم بطوله، من رواية جعفر الصادق، عن أبيه، عنه، وإلا فقد أخرجه البخاريّ في عدة أبواب من "صحيحه"، لكن من رواية عطاء بن أبي رباح، عنه، مقطّعًا، كما سأذكره في المسألة الثانية، إن شاء اللَّه تعالى.

(فحَدَّثَنَا) أي جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) حين أمر أصحابه بأن يتحللوا عن إحرامهم بعمل العمرة، وشقّ عليهم ذلك، حيث إنهم توقّفوا، وتردّدوا، وراجعوه (لَوِ اسْتَقْبَلْتُ) أي لو علمت في قُبُلٍ (مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ) أي ما علمته في دُبُر منه، والمعنى لو ظهر لي هذا الأمر الذي ظهر لي الآن لأمرتكم به في أول الأمر، وابتداء خروجي، و (لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ) بضم السين، يعني لما جعلت عليّ هديًا،

(1)

بضمتين جمع ظعينة كسفينة وسُفُن: النساء في الهَوْدَج.

(2)

- راجع "صحيح مسلم" بنسخة شرح النوويّ 8/ 402 - 421.

(3)

- شرح مسلم 8/ 402 - 403.

ص: 126

وأشعرته، وقَلَّدته، وسقته بين يديّ، فإنه إذا ساق الهدي لا يحلّ حتى ينحر الهدي، ولا يَنحر إلا يوم النحر، فلا يصحّ له فسخ الحجّ بعمل العمرة، بخلاف من لم يسق الهدي، إذ يشرع له فسخ الحج بعمل العمرة.

وقال العلاّمة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: في قوله: "لو استقبلت الخ": يعني أنه لو كان هذا الوقت الذي تكلّم فيه هو وقت إحرامه لكان أحرم بعمرة، ولم يسق الهدي؛ لأن الذي استدبره هو الذي فعله، ومضى، فصار خلفه، والذي استقبله هو الذي لم يفعله بعدُ، بل هو أمامه، فمقتضاه أنه لو كان كذلك لأحرم بالعمرة دون الهدي انتهى.

وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: أي لو علمت في ابتداء شروعي ما علمت الآن من لحوق المشقّة بأصحابي، بانفرادهم بالفسخ، حتى توقّفوا، وتردّدوا، وراجعوه لما سُقت الهدي حتى فسخت معهم، قاله حين أمرهم بالفسخ، فتردّدوا انتهى.

وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متمتعًا. قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إنما قال هذا استطابة لنفوس أصحابه لئلا يجدوا في أنفسهم أنه أمرهم بخلاف ما يفعله في نفسه. وقد يستدلّ بهذا الحديث من يجعل التمتّع أفضل من غيره.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وفي الحديث: دليلٌ على جواز قول "لو" في التأسّف على فوات أمور الدين، ومصالح الشرع، وأما الحديث الصحيح في أنّ "لو" تفتح عمل الشيطان، فمحمول على التأسف على فوات حظوظ الدنيا، ونحوها، وقد كثُرت الأحاديث الصحيحة في استعمال "لو" في غير حظوظ الدنيا، ونحوها، فيجمع بين الأحاديث بما ذكرناه. واللَّه أعلم

(1)

.

(وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً) أي جلت الحجة التي أهللت بها عمرة، أي فسختها بعمل العمرة مثلكم. وقال السنديّ:"وجعلتها" أي النسك، والتأنيث باعتبار المفعول الثاني، أعني "عمرةً"؛ لكونه كالخبر في المعنى، أو لَجَعلت الحجّة انتهى

(2)

(فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ) الفاء فصيحيّة، أي إذا كان الأمر ما ذكرت لكم من أني لا أحلّ لكوني سُقت الهدي، ولا أتحلّل حتى يبلغ الهدي محلّه، فمن لم يكن معه هدي (فَلْيُحْلِلْ) تقدّم ضبطه بضم أوله، وفتحه، من الإحلال، أو الحِلّ. أي لِيَصِرْ حلالاً، وليَخْرُجْ من إحرامه بعد فراغه من أفعال العمرة، إذ قد أُبيح له ما حرم عليه بسبب الإحرام، حتى يستأنف الإحرام للحجّ.

(وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً) أي ليجعل الحجّة التي أتى بها من الميقات عمرة، أي ليحلل بعمل

(1)

-"شرح مسلم" 8/ 390.

(2)

- "شرح السنديّ" 5/ 143 - 144.

ص: 127

العمرة. والواو لمطلق الجمع؛ لأن الجعل مقدّم على الخروج؛ لأن المراد من الجعل الفسخ، وهو أن يفسخ نيّة الحجّ، ويقطع أفعاله، ويجعل إحرامه، وأفعاله للعمرة. أو الواو للععطف التفسيريّ. قاله القاريّ. وفي رواية عطاء، عن جابر: فقال: "أحلّوا من إحرامكم"

(1)

.

(وَقَدِمَ) بكسر الدال، يقال: قدِم البلدَ، من باب تعب، قدومًا: إذا دخلها (عَليٌّ رضي الله عنه، مِنَ الْيَمَنِ) وفي رواية عطاء، عن جابر:"فقدم عليّ من سعايته". قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: "السعاية" بكسر السين، قال القاضي عياض: قوله من سعايته: أي من عمله في السعي في الصدقات. قال: وقال بعض علمائنا: الذي في غير هذا الحديث أنه إنما بعث عليًّا رضي الله عنه أميرًا، لا عاملاً على الصدقات، إذ لا يجوز استعمال بني هاشم على الصدقات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للفضل بن عباس، وعبد المطّلب بن ربيعة حين سألاه ذلك:"إن الصدقة لا تحلّ لمحمد، ولا لآل محمد"، ولم يستعملهما.

قال القاضي: يحتمل أن عليًّا رضي الله عنه ولي الصدقات، وغيرها احتسابًا، أو أعطي عمالته عليها من غير الصدقة. قال: وهذا أشبه، لقوله:"من سعايته"، والسعاية تختصّ بالصدقة. هذا كلام القاضي.

قال النوويّ: وهذا الذي قاله حسنٌ، إلا قوله: إن السعاية تختصّ بالعمل على الصدقة، فليس كذلك؛ لأنها تستعمل في مطلق الولاية، وان كان أكثر استعمالها في الولاية على الصدقة. ومما يدلّ لما ذكرته حديث حُذيفة رضي الله عنه السابق في "كتاب الإيمان" من "صحيح مسلم"، قال في حديث رفع الأمانة:"ولقد أتى عليّ زمان، وما أبالي أيكم بايعتُ، لئن كان مسلمًا، ليردّنّه عليّ دينه، ولئن كان نصرانيًّا، أو يهوديًّا ليردّنّه عليّ ساعيه". يعني الوالي عليه. واللَّه أعلم انتهى كلام النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(2)

.

(بَهدْيٍ) متعلّق بـ "قَدِم"، أي اشترى من اليمن، وأتى به إلى مكة، لا أنه أخذه من السعاية على الصدقة؛ لما تقدّم آنفًا أن عُمَالة الصدقة لا تحلّ لأهل البيت (وَسَاقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ هَدْيًا) وفي حديث عليّ رضي الله عنه، قال: "أهدى النبيّ صلى الله عليه وسلم مائة بدنة

" الحديث. قال الحافظ: وفيه الندب إلى سوق الهدي من المواقيت، ومن الأماكن البعيدة، وهي من السنن التي أغفلها كثير من الناس انتهى

(3)

.

(1)

- راجع "المرعاة" 9/ 11 - 12.

(2)

- "شرح مسلم" 8/ 397 - 398.

(3)

- "فتح" 4/ 359.

ص: 128

(وَإذا فَاطِمَةُ)"إذا" هنا هي الفجائيّة، أي ففاجأ عليًّا رضي الله عنه كون فاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها - الخ (قَدْ لَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا) أي لأنه لا يلبسه من أحرم رجلاً كان، أو امرأة، وهذا محلّ الترجمة، حيث يدلّ عَلى تحريم لبس المصبوغ في حالة الإحرام، ووجه دلالته عليه أن عليًّا رضي الله عنه أنكر على فاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها - لبسها الصبيغ، وذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فأقرّه على إنكاره ذلك، إلا أنه بَيَّنَ له جواز ذلك لها، حيث تحللت من إحرامها. واللَّه أعلم.

(وَاكْتَحَلَتْ، قَالَ) عليّ رضي الله عنه (فَانْطَلَقْتُ) أي ذهبت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (مُحَرِّشًا) اسم فاعل من التحريش، وهو الإغراء، والمراد به هنا أن يذكر له ما يقتضي عتابها. وفي رواية مسلم:"محرّشًا على فاطمة للذي صنعتْ"(أَسْتَفْتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي أطلب منه الفتيا فيما فعلت فاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها -. وفي رواية مسلم: "مستفتيًا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها"(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَاطِمَةَ لَبسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا) أي مصبوغًا لا يحلّ لها أن تلبسه؛ حيث إنها محرمة (وَاكْتَحَلَتْ) أي اسَتعملت الكحل في عينها، وهو أيضًا لا يحلّ لها لما ذُكر (وَقَالَتْ: أَمَرَنِي بهِ أَبِي صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "أمرني به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، وفي أخرى:"أمرني النبيّ صلى الله عليه وسلم".

تعني أنه أمرها صلى الله عليه وسلم بما فعلت من لبس الصبيغ، والاكتحال، حين أمر أصحابه بالإحلال بعمل العمرة، حيث قال لهم حين قالوا: أيّ الحلّ؟، قال:"الحلّ كلّه"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، صَدَقَتْ) كرّره ثلاثًا للتوكيد، وهي رواية مسلم تكراره مرَّتين (أَنَا أَمَرْتُهَا) بما فعلت، هكذا اختصر المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- حديث جابر، وقد سقته من رواية مسلم فيما تقدّم -وللَّه الحمد-، وسيذكره المصنّف مقطّعًا في أبواب كثيرة، وسأشرح ما لم يُشرح ههنا في مواضعه، تكميلاً للفائدة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-46/ 26712 و 51/ 2740 و 52/ 2743 و 2744 و 53/ 2746 و 56/ 2756 و 58/ 2763 و 73/ 2798 و 77/ 2805 و 108/ 2872 و 149/ 2939 و 154/ 2944 و 163/ 2961 و 2962 و 164/ 2963 و 168/ 2969 و 2970 و 169/ 2971 و 170/ 2972 و 171/ 2973 و 172/ 2974 و 173/ 2975 و 178/ 2981 و 2982

ص: 129

و 2983 و 180/ 2984 و 181/ 2985 و 182/ 2986 و 202/ 3015 و 204/ 3021 و 3022 و 211/ 3045 و 215/ 3053 و 3054 و 220/ 3062 و 221/ 3063 و 226/ 3074 و 3075 و 227/ 3076 - وفي "الكبرى" 46/ 3692 و 51/ 3720 و 52/ 3723 و 3724 و 56/ 3742 و 57/ 3744 و 76/ 3786 و 107/ 3852 و 153/ 3936 و 163/ 3954 و 164/ 3955 و 168/ 3962 و 169/ 3964 و 170/ 3965 و 171/ 3966 و 172/ 3967 و 173/ 3968 و 174/ 3969 و 178/ 3977 و 3978 و 179/ 3979 و 180/ 3980 و 184/ 3985 و 190/ 3994 و 196/ 4001 و 198/ 4004 و 200/ 4006 و 201/ 4008 و 203/ 4016 و 212/ 4051 و 213/ 4052 و 218/ 4058 و 219/ 4059 و 225/ 4068 و 226/ 4069 و 231/ 4080 و 4081 و 232/ 4082 و 252/ 4119 و 4120 و 4121 و 4122 و 259/ 4138 و 260/ 4139 و 4140 و 261/ 4141 و 267/ 4154 و 4155 و 269/ 4167 و 271/ 4171 و 4176.

وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1557 و 1568 و 1570 و 1651 و 1785 وفي "الشركة" 2506 و"المغازي" 4352 و"التمنّي" 7230 و"الاعتصام بالكتاب والسنة" 7367 (م) في "الحجّ" 1245 (د) في "المناسك"2980 و 1788 (ت) في "الحجّ" 817 (ق) في "الصلاة" 1074 و"المناسك" 2980 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 13702 و 13801 و 13826 و 13905 و 13961 و 13971 و 1400 و 14484 و 14506 و 14525 و 14621 و 14735 و 14760 و 14821 (الدارمي) في "المناسك"1805. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تحريم لبس الثوب المصبوغ في الإحرام، وتقدّم وجه الاستدلال به. (ومنها): ما كان عليه السلف من سؤال أهل العلم عن السنن النبويّة حتى يعملوا بها، وشدّة حرصهم لذلك. (ومنها): جواز قول الإنسان لو كان كذا كان كذا، تأسفًا على فوات أمر دينيّ، والنهي الوارد في ذلك، وهو ما أخرجه مسلم في "كتاب القدر" من "صحيحه"-2664 - من حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير، وأحب إلى اللَّه، من المؤمن الضعيف، وفي كلّ خير، احرِصْ على ما ينفعك، واستعن باللَّه، ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر اللَّه، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان"، فإنه محمول على الأمور الدنيويّة. (ومنها): مشروعيّة فسخ الحج بعمل العمرة لمن لم يسق الهدي على الأرجح، وسيأتي اختلاف

ص: 130

أهل العلم فيه. (ومنها): أن من ساق هديًّا لا يحلّ من إحرامه، حتى يبلغ الهدي محلّه، وهو منحره يوم النحر. (ومنها): إنكار الرجل على امرأته إذا رأى منها ما يخالف الشرع، ولو كان لها تأويل، حتى يتبيّن له وجه تأويلها. (ومنها): مشروعيّة الهدي إلى مكة من الأماكن البعيدة. (ومنها): جواز لبس المصبوغ للنساء إذا لم تكن محرمة. (ومنها): جواز الاكتحال لها كذلك. وقد تقدّم أن حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا مشتمل على فوائد جمّة، لا يستقصيها إلا مؤلّف خاصّ به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌47 - (تَخْمِيرُ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أشار بهذه الترجمة إلى بيان تحريم تغطية وجه المحرم ورأسه، وهو وإن كان مخالفًا لما عليه كثير من الفقهاء، من عدم تحريم تغطية الوجه، إلا أن الدليل ساقه إلى القول به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2713 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بِشْرٍ، يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلاً وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَأَقْعَصَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَيُكَفَّنُ فِي ثَوْبَيْنِ، خَارِجًا رَأْسُهُ، وَوَجْهُهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا

(1)

»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدّم للمصنّف برقم 41/ 1904 - وتقدّم شرحه، والكلام على مسائله هناك، فما بقي إلا بيان بعض ما يستشكل منه، وبيان ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-.

فـ"محمد" شخ ابن بشّار هو ابن جعفر المعروف بغندر. و"أبو بشر": هو ابن أبي وَحْشيّة جعفر بن إياس.

(1)

- وفي نسخة: "يلبّي".

ص: 131

وقوله: "أن رجلاً" قال الحافظ: لم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على تسمية المحرم المذكور. وقد وهم بعض المتأخّرين، فزعم أن اسمه واقد بن عبد اللَّه، وعزاه لابن قتيبة في ترجمة عمر، من كتاب المغازي، وسبب الوهم أن ابن قتيبة لما ذكر ترجمة عمر، ذكر أولاده، ومنهم عبد اللَّه بن عمر، ثم ذكر أولاد عبد اللَّه بن عمر، فذكر فيهم واقد بن عبد اللَّه بن عمر، فقال: وقع عن بعيره، وهو محرم، فهلك، فظنّ هذا المتأخّر أن لواقد بن عبد اللَّه بن عمر صحبة، وأنه صاحب القصّة التي وقعت في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس كما ظنّ، فإن واقدًا المذكور لا صحبة له، فإن أمه صفيّة بنت أبي عُبيد، إنما تزوّجها أبوه في خلافة أبيه عمر، واختُلف في صحبتها. وذكره العجليّ، وغيره في التابعين، ووجدت في الصحابة واقد بن عبد اللَّه آخر، لكن لم أر في شيء من الأخبار أنه وقع عن بعيره، فهلك، بل ذكر غير واحد، منهم ابن سعد أنه مات في خلافة عمر، فبطل تفسير المبهم بأنه واقد بن عبد اللَّه من كلّ وجه انتهى كلام الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

وقوله: "وقع عن راحلته" كان وقوعه عند الصخرات من عرفة. وفي الحديث إطلاق الواقف على الراكب. كما قاله في "الفتح".

وقوله: "فأقعصته": أي قتلته الراحلة قتلاً سريعًا، يقال: قعصه، كمنعه: قتله مكانه، كأقعصه. قاله في "القاموس".

وقوله: "اغسلوه بماء وسدر" فيه جواز غسل المحرم بالسدر ونحوه مما لا يُعدّ طيبًا. وحكى المزنيّ عن الشافعيّ أنه استدلّ على جواز قطع سدر الحرم بهذا الحديث، لقوله فيه:"واغسلوه بماء وسدر" واللَّه أعلم. قاله في "الفتح".

وقوله: "خارجًا رأسه، ووجهه" هذا هو محلّ الترجمة، لأنه يدلّ على تحريم تغطية وجه المحرم، وليس الميت خاصًّا بهذا، بل هو عامٌ لكلّ محرم.

قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: قيل: كشف الوجه ليس لمراعاة الإحرام، وإنما هو لصيانة الرأس من التغطية. كذا ذكره النوويّ، وزعم أن هذا التأويل لازم عند الكل.

قال السنديّ: ظاهر الحديث يفيد أن المحرم يجب عليه كشف وجهه أيضًا، وأن الأمر بكشف وجه الميت لمراعاة الإحرام. نعم من لا يقول بمراعاة إحرام الميت يحمل الحديث على الخصوص، ولا يلزم منه أن يؤول الحديث، كما قال النوويّ. واللَّه أعلم.

(1)

- "فتح" 4/ 532.

ص: 132

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: دعوى الخصوصية مما لا دليل عليها، فالحقّ أنه عام لكلّ ميت، أنه يبعث محرمًا ملبيًا، كما دلّ عليه صريح هذا الحديث. واللَّه تعالى

أعلم.

وقوله: "يبعث يوم القيامة ملبيّا" أي على هيئته التي مات عليها، ومعه علامة لحجه، وهي دلالة لفضيلته، كما يجيىء الشهيد يوم القيامة، وأوداجه تشخب دمًا. قاله النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: واستدلّ بذلك على بقاء إحرامه؛ خلافًا للمالكيّة، والحنفيّة، وقد تمسّكوا من هذا الحديث بلفظة اختُلف في ثبوتها، وهي قوله:"ولا تخمّروا وجهه"، فقالوا: لا يجوز للمحرم تغطية وجهه، مع أنهم لا يقولون بظاهر هذا الحديث فيمن مات محرمًا. وأما الجمهور، فأخذوا بظاهر الحديث، وقالوا: إن في ثبوت ذكر الوجه مقالاً، وتردّد ابن المنذر في صحّته. وقال البيهقيّ: ذكر الوجه غريبٌ، وهو وَهَمٌ من بعض رواته.

وفي كلّ ذلك نظر، فإن الحديث ظاهره الصحّة، ولفظه عند مسلم من طريق إسرائيل، عن منصور، وأبي الزبير، كلاهما عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، فذكر الحديث، قال منصور:"ولا تغطوا وجهه". وقال أبو الزبير: "ولا تكشفوا وجهه". وأخرجه النسائيّ، من طريق عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير بلفظ:"ولا يُمسّ طيبًا خارج رأسه"، قال شعبة: ثم حدثني به بعد ذلك، فقال:"خارج رأسه ووجهه" انتهى. وهذه الرواية تتعلق بالتطيب، لا بالكشف، والتغطية، وشعبة أحفظ من كلّ من روى هذا الحديث، فلعلّ بعض رواته انتقل ذهنه من التطيب إلى التغطية.

وقال أهل الظاهر: يجوز للمحرم الحيّ تغطية وجهه، ولا يجوز للمحرم الذي يموت، عملاً بالظاهر في الموضعين.

وقال آخرون: هي واقعة عين، لا عموم لها؛ لأنه علّل ذلك بقوله:"فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا"، وهذا الأمر لا يتحقّق وجوده في غيره، فيكون خاصًّا بذلك الرجل، ولو استمر بقاؤه على إحرامه لأَمَرَ بقضاء مناسكه.

وقال أبو الحسن ابن القصّار: لو أريد تعميم هذا الحكم في كلّ محرم لقال: "فإن المحرم"، كما جاء:"أن الشهيد يبعث، وجرحه يثعب دمًا".

وأجيب بأن ظاهر الحديث ظاهر في أن العلّة في الأمر المذكور كونه كان في النسك، وهي عامة في كلّ محرم، والأصل أن كلّ ما ثبت لواحد في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثبت لغيره،

ص: 133

حتى يتّضح التخصيص. انتهى المقصود من كلام الحافظ

(1)

.

وقد أجاد المحدّث الكبيرالشيخ الألباني -حفظه اللَّه- في كتابه "إرواء الغليل"، حيث حقّق صحّة زيادة ذكر الوجه في هذا الحديث خلاف ما قاله البيهقيّ وغيره من أن ذكره غريب، وحاصل ما قاله الشيخ بعد ما خرّج الحديث:

وفي رواية منصور، عن سعيد بن جبير بلفظ:"ولا تغطوا وجهه"، بدل "ولا تخمّروا رأسه". رواه مسلم، وأبو عوانة، وابن الجارود، والبيهقيّ 3/ 293 - وكذلك رواه جماعة عن عمرو بن دينار، عن ابن جبير. أخرجه الطبرانيّ، والدارقطنيّ. وجمع بينهما سفيان، وهو الثوريّ، عن عمرو بن دينار بلفظ:"ولا تخمّروا رأسه، ولا وجهه".

أخرجه مسلم، وابن ماجه، والبيهقيّ، من طريقين عن وكيع، عن سفيان به. وتابع وكيعًا أبو داود الْحَفَريّ، عن سفيان به. أخرجه النسائيّ بسند صحيح. -يعني الحديث الآتي بعد هذا.

وتابعه أشعث بن سوّار، وهو ضعيف، وأبو مريم، وأظنه عبد الغفّار بن قاسم الأنصاريّ رافضيّ ليس بثقة، كلاهما عن عمرو بن دينار به. أخرجه الطبرانيّ. وفي رواية أبي الزبير، عن سعيد بن جبير بلفظ:"وأن يكشفوا وجهه -حسبته قال: ورأسه". أخرجه مسلم، وأبو عوانة، والبيهقيّ تعليقًا، وقال: وذكر الوجه فيه غريب، ورواية الجماعة الذين لم يشكوا، وساقوا المتن، أحسن سياقة أولى بأن تكون محفوظة.

ويرد عليه ما سبق من الطرق، والمتابعات التي لا شكّ فيها أصلاً، ولهذا تعقّبه ابن التركمانيّ.

قلت: قد صحّ النهي عن تغطيتهما، فجمعهما بعضهم، وأفرد بعضهم الرأس، وبعضهم الوجه، والكلّ صحيح، ولا وهم في شيء منه في متنه، وهذا أولى من تغليط مسلم. يعني في إخراجه للروايةِ التي فيها ذكر الوجه، وهو كما قال، فإنه يبعد جدًّا أن يجتمع أولئك الثقات على ذكر هذه الزيادة في الحديث خطأ منهم جميعًا، فهي زيادة محفوظة، إن شاء اللَّه تعالى.

وقد جاءت من طريق آخر عن سعيد بن جبير، يرويه شعبة، قال: سمعت أبا بشر يحدّث، عن سعيد بن جبير

فذكر الحديث بلفظ: "

وأن يكفّن في ثوبين، ولا يمسّ طيبًا، خارجٌ رأسُهُ، قال شعبة: ثم حدثني به بعد ذلك: خارج رأسه ووجهه". أخرجه مسلم، وأبو نعيم، والبيهقيّ. وأخرجه النسائيّ رقم 98/ 2854 - بلفظ:

(1)

- "فتح" 4/ 531.

ص: 134

"وكفّنوه في ثوبين، ثم قال على أثره: خارجًا رأسه، قال: ولا تمسّوه طيبًا، فإنه يُبعث يوم القيامة ملبيًا، قال شعبة: فسألته بعد عشر سنين، فجاء بالحديث كما كان يجيء به إلا أنه قال: ولا تخمّروا وجهه ورأسه". أخرجه من طريق خالد: حدّثنا شعبة به.

وأخرجه ابن حبّان في "صحيحه" من طريق أبي أسامة، عن شعبة بهذا اللفظ:"ولا تخمّروا وجهه ورأسه" كما في "الجوهر النقي". ثم أخرجه النسائيّ -100/ 2857 - من طريق خلف بن خليفة، عن أبي بشر بلفظ:"ولا يغطّى رأسه ووجهه". وإسناده على شرط مسلم، إلا أن خلفًا هذا كان اختلط في الآخر، ومن طريقه رواه ابن حزم في "حجة الوداع"، كما في "الجوهر النقي"، وعزاه إليه وحده، وهو قصور.

وأما قول الحافظ في "الفتح" 4/ 47 بعد أن ذكر رواية شعبة هذه من طريق مسلم: "وهذه الرواية تتعلّق بالتطيب، لا بالكشف والتغطية، وشعبة أحفظ كلّ من روى هذا الحديث، فلعلّ بعض رواته انتقل ذهنه من التطيّب إلى التغطية".

قلت: وهذا من الحافظ أمر عجيب، فإن الطرق كلها تدلّ أن الرواية إنما تتعلّق بالكشف، لا بالتطيب، على خلاف ما حملها عليه الحافظ، وإنما غرّه رواية مسلم، وفيها تقديم، وتأخير، كما دلّ على ذلك رواية النسائيّ وغيره، فقوله:"خارج رأسه" عند مسلم جملة حالية لقوله: "وأن يكفّن في ثوبين"، لا لقوله:"ولا يمسّ طيبًا" كما توهّم الحافظ، ويؤيّد ذلك رواية شعبة نفسه فضلاً عن غيره:"ولا تخمّروا وجهه ورأسه"، فإنها صريحة فيما ذكرنا.

وجملة القول أن زيادة الوجه في الحديث ثابتة محفوظة عن سعيد بن جبير من طرق عنه، فيجب على الشافعيّة أن يأخذوا بها كما أخذ بها الإمام أحمد في رواية عنه، كما يجب على الحنفيّة أن يأخذوا بالحديث، ولا يتأوله بالتأويلات البعيدة توفيقًا بينه وبين مذهب إمامهم انتهى كلام الشيخ الألباني، وهو تحقيقٌ نفيس جدًّا.

والحاصل أن زيادة "وجهه"صحيحة، فيجب العمل بها، فيحرم على المحرم تغطية وجهه، ورأسه، كما هو ظاهر مذهب المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2714 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ -يَعْنِي الْحَفَرِيَّ- عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثِيَابِهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ، وَرَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح "عبدة بن

ص: 135

عبد اللَّه الصفِّار": الخزاعيّ، أبو سهل البصريّ، كوفيّ الأصل الثقة. و"أبو داود الْحَفَريّ" -بفتحتين-: عُمَر بن سَعْد الثقة العابد الكوفيّ. و"سفيان": هو الثوريّ.

وقوله: "يبعث يوم القيامة ملبيًّا" فيه استحباب دوام التلبية في الإحرام، وأنها لا تنقطع بالتوجّه إلى عرفة

(1)

. والحديث متّفق عليه، وقد تقدم تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌48 - (إِفْرَادُ الْحَجِّ

(2)

)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: معنى إفراد الحجّ: هو الإهلال بالحجّ وحده في أشهره عند الجميع، وفي غير أشهره أيضًا عند مجيزيه، والاعتمار بعد الفراغ من الحجّ لمن شاء. قاله في "الفتح".

ومعنى قوله: "عند مجيزيه" أن الإحرام بالحجّ قبل أشهره مختلف فيه. قال ابن قُدامة: لا ينبغي أن يحرم بالحجّ قبل أشهره، هذا هو الأولى، فإن الإحرام بالحجّ قبل أشهره مكروه؛ لكونه إحرامًا به قبل وقته، فأشبه الإحرام به قبل ميقاته؛ ولأن في صحته اختلافًا، فإن أحرم به قبل أشهره صحّ، وإذا بقي على إحرامه إلى وقت الحجّ جاز، نصّ عليه أحمد، وهو قول مالك، والثوريّ، وأبي حنيفة، وإسحاق. وقال عطاء، وطاوس، ومجاهد، والشافعيّ: يجعله عمرة؛ لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] تقديره: وقت الحجّ أشهر، أو أشهر الحجّ أشهر معلومات، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، ومتى ثبت أنه وقته لم يجز تقديم إحرامه عليه، كأوقات الصلوات.

قال: ولنا قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فدلّ على أن جميع الأشهر ميقات انتهى كلام ابن قدامة.

وتعقّبه بعضهم: بأنه لو صحّ ذلك لجاز صيام رمضان في شهر آخر، فإن قوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} لا يختلف عن تعيين شهر رمضان باسمه، فإن قوله:

(1)

- "فتح" 4/ 532.

(2)

- "الإفراد".

ص: 136

{مَعْلُومَاتٌ} كتسميتها سواء انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه القائلون بعدم جواز تقديم إحرام الحجّ عن أشهره هو الصواب عندي؛ لصريح قوْل تعالى: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فقد عينها وبين أن الحجّ يقع فيها، لا في غيرها من الأشهر، ولا تخالف بين هذه الآية، وآية {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} فإن هذه محمولة على الأولى، فالمراد بالأهلة التي هي مواقيت للحجّ أهلّة أشهر الحجّ، لا مطلق الأهلّة، بدليل تعيين وقت أداء الحجّ، فإنه لا يجوز إيقاع الحجّ في رمضان مثلاً، بالإجماع، والإحرام جزء منه، فلا يجوز تقديم جزئه، كما لا يجوز تقديم كلّه، وهذا واضح لا خفاء فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2715 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَفْرَدَ الْحَجَّ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عبيد اللَّه بن سعيد) أبو قُدَامة السرخسي، ثقة ثبت [10] 15/ 15.

2 -

(إسحاق بن منصور) الكوسج، أبو يعقوب المروزي، ثقة ثبت [11] 72/ 88.

3 -

(عبد الرحمن) بن مهدي، أبو سعيد البصري الإمام الحجة الثبت [9] 42/ 47.

4 -

(مالك) بن أنس الإمام الحجة الفقيه المدني [7] 7/ 7. والباقون تقدموا قريبًا.

واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالمدنيين من مالك، وفيه رواية الابن عن أبيه وفيه القاسم بن محمد بن أبي بكر من الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَفْرَدَ الْحَجَّ) أي أحرم بالحجّ وحده. واحتجّ به من قال: كان حجه صلى الله عليه وسلم مفردًا، وهم عامّة الشافعيّة والمالكيّة، وحمله المحقّقون منهم كالقاضي عياض، والنوويّ، والحافظ، وغيرهم على أن فيه بيان ابتداء الحال، ثم صار قارنًا، فإنه لا يلزم من إهلاله بالحجّ أن لا يكون أدخل عليه العمرة. وحمله الحنفيّة، والحنابلة القائلون بكونه صلى الله عليه وسلم قارنًا ابتداء على أن

(1)

- راجع "المرعاة" 8/ 458.

ص: 137

عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - سمعت تلبيته بالحجّ فقط، وللقارن أن يُلبّي بأيهما شاء، فيقول تارةً: لبيك بحجة، وتارة لبيك بعمرة، وتارة لبيك بحجة وعمرة، فحكت عائشة ما سمعت، فلا يخالف قولُها من حكى أنه لبّى بهما جميعًا، وكان قارنًا من الابتداء، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في صفة إحرامه صلى الله عليه وسلم، في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى.

[اعلم]: أن الحجّ على ثلاثة أنواع: إفراد، وتمتّع، وقران، ويخيّر مريد الإحرام بين هذه الأنواع الثلاثة.

قال العلامة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: إن الإحرام يقع بالنسك من وجوه ثلاثة: تمتع، وإفراد، وقران، وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأيّ الأنساك الثلاثة شاء، وكذا حكى النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح المهذّب"، و"شرح مسلم" الإجماع على جواز الأنواع الثلاثة، وتأول ما ورد من النهي عن التمتّع عن بعض الصحابة.

وقال الحافظ وليّ الدين العراقيّ في "طرح التثريب": أجمعت الأمة على جواز تأدية نسكي الحجّ والعمرة بكل من هذه الأنواع الثلاثة: الإفراد، والتمتّع، والقران انتهى.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم

(1)

.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-48/ 2715 و 2716 - وفي "الكبرى" 48/ 3695 و 3696. وأخرجه (م) في "الحجّ" 1211 (د) في "المناسك" 1777 (ت) في "الحجّ" 825 (ق) في "المناسك" 2964 و 2695 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23557 و 25532 (الموطأ) في "الحجّ" 745 و 848 (الدارمي) في "المناسك" 1812. واللَّه تعالي أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في صفة حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم:

(اعلم): أنه اختلفت روايات الصحابة رضي الله عنهم في حجة صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، هل كان مفردًا، أو قارنًا، أو متمتّعًا، ورُوي كلّ منها في "الصحيحين"، وغيرهما، واختلف الناس في ذلك، وفي إحرامه على أقوال:

(1)

أورد الشيخ الألباني رحمه الله هذا الحديث في "ضعيف النسائي" ص 98 وقال: شاذ، وعزاه إلى الترمذي فقط، ولم يعزه إلى "صحيح مسلم"، ولا أدري من أين الشذوذ، فإن سنده صحيح، ومعناه صحيح كما تبين مما ذكرناه في هذا الشرح، وقد أخرجه مسلم في "صحيحه" بهذا اللفظ من طريق مالك المذكورة فتأمل بالانصاف، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 138

(أحدها): أنه حجّ مفردًا، لم يعتمر معه. حُكي هذا عن الإمام الشافعيّ وغيره. قال القسطلّاني في "المواهب": والذي ذهب إليه الشافعيّ في جماعة أنه صلى الله عليه وسلم حجّ مفردًا. وحكاه الزرقانيّ في "شرح المواهب" عن الإمام مالك. وحكي عن الشافعيّ وغيره أن نسبة القرآن والتمتّع إليه صلى الله عليه وسلم على سبيل الاتساع؛ لكونه أمر بهما انتهى. وبه جزم الخطابيّ، حيث قال: اختلفت الروايات فيما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم به محرمًا. والجواب عن ذلك أن كلّ راو أضاف إليه ما أمر به اتساعًا، ثم رجّح أنه كان أفرد الحجّ. قال الحافظ في "الفتح": هذا هو المشهور عند الشافعيّة، والمالكيّة، وقد بسط الشافعيّ القول فيه في اختلاف الحديث وغيره انتهى.

(القول الثاني): أنه لبّى بالعمرة وحدها، واستمرّ عليها حتى فرغ منها، ثم أحرم بعد ذلك بالحجّ، فكان متمتّعًا، وكان حجه حجّ تمتّع. قاله القاضي أبو يعلى وغيره.

(القول الثالث): أنه حجّ متمتّعًا تمتّعًا لم يحلّ فيه لأجل سوق الهدي، ولم يكن قارنًا. حكاه ابن القيّم عن صاحب "المغني" وغيره.

(القول الرابع): أنه لبّى بالحجّ وحده، وحج مفردًا، واعتمر بعده من التنعيم. قال الإمام ابن تيميّة: وهذا غلط، لم يقله أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا الأئمة الأربعة، ولا أحد من أهل الحديث انتهى. وقال الإمام ابن القيّم: الذين قالوا: إنه حجّ مفردًا، واعتمر عقبه من التنعيم، لا يُعلم لهم عذر البتّة، إلا أنهم سمعوا أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحجّ، وأن عادة المفردين أن يعتمروا من التنعيم، فتوهموا أنه فعل كذلك.

(القول الخامس): أنه لبّى بالحجّ مفردًا، ثم أدخل عليه العمرة، وصار قارنًا، فكان مفردًا ابتداءً، وقارنًا انتهاءً. وبه جزم عامة محققي الشافعيّة، وبعض المالكيّة.

قال النوويّ في "شرح المهذّب": والصواب الذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحجّ أوّلاً مفردًا، ثم أدخل عليه العمرة، فصار قارنًا، وإدخال العمرة على الحجّ جائز على أحد القولين عندنا، وعلى الأصحّ لا يجوز لنا، وجاز للنبيّ صلى الله عليه وسلم تلك السنة للحاجة انتهى.

واختاره القاضي عياض، إذ قال: أما إحرامه صلى الله عليه وسلم بنفسه، فأخذ بالأفضل، فأحرم مفردًا للحجّ، تضافرت به الروايات "الصحيحة" وأما رواية من روى أنه كان متمتّعًا، فمعناه أمر به. وأما رواية من روى القران، فهو إخبار عن آخر أحواله، لا عن ابتداء إحرامه؛ لأنه أدخل العمرة على الحجّ لَمّا جاء إلى الوادي، وقيل له:"قل عمرة في حجة" انتهى.

قال الحافظ: وهذا الجمع هو المعتمد، وقد سبق إليه قديمًا ابن المنذر، ومهّده المحبّ الطبريّ تمهيدًا بالغًا، يطول ذكره، ومحصّله: أن كلّ من روى عنه الإفراد حمل

ص: 139

على ما أهلّ به في أول الحال، وكلّ من روى عنه التمتّع أراد ما أمر به أصحابه، وكلّ من روى عنه القران أراد ما استقرّ عليه أمره.

(القول السادس): أنه لبّى بالعمرة وحدها، ثم لم يتحلّل منها إلى أن أدخل عليها الحجّ يوم التروية، فصار قارنًا. حكاه الحافظ عن الطحاويّ، وابن حبّان.

(القول السابع): أنه أحرم إحرامًا مطلقًا لم يُعيّن فيه نسكًا، ثم عيّنه بعدُ. رجحه الشافعيّ في "اختلاف الحديث"، كما قال الحافظ في "الفتح". وقال وليّ الدين العراقيّ: قال القاضي: وقال بعض علمائنا: إنه أحرم إحرمًا مطلقًا منتظرًا ما يؤمر به، من إفراد، أو تمتّع، أو قران، ثم أمر بالحجّ، ثم أمر بالعمرة في وادي العقيق بقوله:"صلّ في هذا الوادي، وقيل: عمرة في حجة". ثم قال القاضي في موضع آخر بعد ذلك: لا يصحّ قول من قال: أحرم النبيّ صلى الله عليه وسلم مطلقًا مبهمًا؛ لأن رواية جابر وغيره من الصحابة في الأحاديث الصحيحة تردّه، وهي مصرّحة بخلافه انتهى.

(القول الثامن): أنه لبّى بالحجّ والعمرة معًا، وكان قارنًا من أول الأمر. وحقّق هذا القول ابن الهمام في "شرح الهداية"، وابن القيّم في "الهدي"، وأجابا عن كلّ ما خالفه.

قال ابن القيّم: والصواب أنه أحرم بالحجّ والعمرة معًا من حيث أنشأ الإحرام، ولم يحلّ حتى حلّ منهما جميعًا، كما دلّت عليه النصوص المستفيضة التي تواترت تواترًا يعلمه أهل الحديث انتهى. وإليه مال ابن حزم في كتابه "حجة الوداع"، وتأول باقي الأحاديث إليه، كما حكاه النوويّ، والوليّ العراقيّ.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: والذي تجتمع به الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا بمعنى أنه أدخل العمرة على الحجّ بعد أن أهلّ به مفردًا، لا أنه أول ما أهلّ أحرم بالحجّ والعمرة معًا، وقد تقدّم حديث عمر مرفوعًا:"وقل: عمرة في حجة". وحديث أنس: "ثم أهلّ بحجّ وعمرة". ولمسلم من حيث عمران حصين: "جمع بين حج وعمرة". ولأبي داود، والنسائيّ من حديث البراء مرفوعًا:"إني سقت الهدي، وقرنت". وللنسائيّ من حديث عليّ مثله. ولأحمد من حديث سُراقة: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرن في حجة الوداع". وله من حديث أبي طلحة: " جمع بين الحجّ والعمرة". وللدارقطنيّ من حديث أبي سعيد، وأبي قتادة، والبزّار من حديث ابن أبي أوفى، ثلاثتهم مرفوعًا مثله.

وأجاب البيهقيّ عن هذه الأحاديث، وغيرها نصرة لمن قال: إنه صلى الله عليه وسلم كان مفردًا، فنقل عن سليمان بن حرب أن رواية أبي قلابة، عن أنس:"أنه سمعهم يصرخون بهما جميعًا"، أثبت من رواية من روى عنه أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الحجّ والعمرة.

ثم تعقّبه بأن قتادة وغيره من الحفّاظ رووه عن أنس كذلك، فالاختلاف فيه على أنس

ص: 140

نفسه، قال: فلعلّه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلّم غيره كيف يهلّ بالقران، فظنّ أنه أهلّ عن نفسه. وأجاب عن حديث حفصة بما نُقل عن الشافعيّ أن معنى قولها:"ولم تحلّ أنت من عمرتك"، أي من إحرامك كما تقدّم. وعن حديث عمر بأن جماعة رووه بلفظ:"صلّ في هذا الوادي، وقال: عمرة في حجة"، قال: وهؤلاء أكثر عددًا ممن رواه: "وقل: عمرة في حجة"، فيكون إذنًا في القرآن، لا أمرًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم في حال نفسه. وعن حديث عمران بأن المراد بذلك إذنه لأصحابه في القران بدليل روايته الأخرى: أنه صلى الله عليه وسلم أعمر بعض أهله في العشر، وروايته الأخرى أنه تمتّع، فإن مراده بكلّ ذلك إذنه في ذلك. وعن حديث البراء بأنه ساقه في قصّة عليّ، وقد رواها أنس، كما عند البخاريّ، وجابر، كما أخرجه مسلم، وليس فيها لفظ:"وقرنت"، وأخرج حديث مجاهد عن عائشة، قال:"لقد علم ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد اعتمر ثلاثًا، سوى التي قرنها في حجته"، أخرجه أبو داود. وقال البيهقيّ: تفرد أبو إسحاق عن مجاهد بهذا. وقد رواه منصور، عن مجاهد بلفظ:"فقالت: ما اعتمر في رجب قط". وقال: هذا هو المحفوظ. - ثم أشار إلى أنه اختلف فيه على أبي إسحاق، فرواه زهير بن معاوية عنه هكذا، وقال زكريا، عن أبي إسحاق، عن البراء. ثم روى حديث جابر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حجّ حجّتين قبل أن يهاجر، وحجة قرن معها عمرة"، يعني بعد ما هاجر، وحكي عن البخاريّ أنه أعلّه؛ لأنه من رواية زيد بن الحباب، عن الثوريّ، عن جعفر، عن أبيه، عنه. وزيد ربّما يهم في الشيء، والمحفوظ عن الثوريّ مرسل، والمعروف عن جابر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أهلّ بالحجّ خالصًا. ثم روى حديث ابن عبّاس نحو حديث مجاهد، عن عائشة، وأعلّه بداود العطّار، وقال: إنه تفرّد بوصله عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، ورواه ابن عيينة عن عمرو، فأرسله، ولم يذكر ابن عباس. ثم روى حديث الصُّبَيّ بن معبد أنه أهلّ بالحجّ والعمرة معًا، فأنكر عليه، فقال له عمر:"هديت لسنة نبيّك" الحديث، وهو في السنن" وفيه قصّة

(1)

، وأجاب عنه بأنه يدلّ على جواز القران؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قارنًا.

قال الحافظ: ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من التعسّف.

وقال النوويّ: الصواب الذي نعتقده أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، ويؤيّده أنه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في تلك السنة بعد الحجّ، ولا شكّ أن القران أفضل من الإفراد الذي لا يعتمر في سنته عندنا، ولم ينقل أحد أن الحجّ وحده أفضل من القرآن. كذا قال، والخلاف ثابت قديمًا

(1)

- سيأتي للمصنف في الباب التالي.

ص: 141

وحديثًا، أما قديمًا فالثابت عن عمر أنه قال:"إن أتمّ لحجكم وعمرتكم أن تنشؤوا لكلّ منهما سفرًا"، وعن ابن مسعود نحوه. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره. وأما حديثًا فقد صرّح القاضي حسين، والمتولّي بترجيح الإفراد، ولو لم يعتمر في تلك السنة. وقال صاحب "الهداية" من الحنفيّة: الخلاف بيننا وبين الشافعيّ مبنيّ على أن القارن يطوف طوافًا واحدًا، وسعيًا واحدًا، فبهذا قال: إن الإفراد أفضل، ونحن عندنا أن القارن يطوف طوافين، وسعيين، فهو أفضل؛ لكونه أكثر عملاً.

وقال الخطّابيّ: اختلفت الرواية فيما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم به محرمًا. والجواب عن ذلك بأن كلّ راو أضاف إليه ما أمر به اتساعًا، ثم رجّح بأنه كان أفرد الحجّ، وهذا هو المشهور عند المالكيّة، والشافعيّة، وقد بسط الشافعيّ القول فيه في "اختلاف الحديث" وغيره، ورجّح أنه صلى الله عليه وسلم أحرم مطلقًا ينتظر ما يؤمر به، فنزل عليه الحكم بذلك، وهو على الصفا. ورجحوا الإفراد أيضًا بأن الخلفاء الراشدين واظبوا عليه، ولا يُظنّ بهم المواظبة على ترك الأفضل، وبأنه لم ينقل عن أحد منهم أنه كره الإفراد، وقد نقل عنهم كراهية التمتع، والجمع بينهما حتى فعله عليّ لبيان الجواز، وبأن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع، بخلاف التمتع، والقران انتهى.

وهذا ينبني على أن دم القرآن دم جبران، وقد منعه من رجّح القرآن، وقال: إنه دم فضل وثواب، كالأضحيّة، ولو كان دم نقص لما قام الصيام مقامه، ولأنه يؤكل منه، ودم النقص لا يؤكل منه، كدم الجزاء. قاله الطحاويّ.

وقال عياض نحو ما قال الخطابيّ، وزاد: وأما إحرامه هو فقد تضافرت الروايات الصحيحة بأنه كان مفردًا. وأما رواية من روى متمتّعًا، فمعناه أمر به؛ لأنه صرّح بقوله:"ولولا أن معي الهدي لأحللت"، فصحّ أنه لم يتحلّل. وأما رواية من روى القران فهو إخبار عن آخر أحواله؛ لأنه أدخل العمرة على الحجّ لمّا جاء إلى الوادي، وقيل له:"قل: عمرة في حجة" انتهى.

قال الحافظ: وهذا الجمع هو المعتمد، وقد سبق إليه قديما ابن المنذر، وبيّنه ابن حزم في "حجة الوداع" بيانًا شافيًا، ومهّده المحبّ الطبريّ تمهيدًا بالغًا يطول ذكره، ومحصّله: أن كلّ روى عنه الإفراد حمل على ما أهلّ به في أول الحال، وكلّ من روى عنه التمتّع أراد ما أمر به أصحابه، وكل من روى عن القران أراد ما استقرّ عليه أمره، ويرجّح رواية من روى القرآن بأمور:

(منها): أن معه زيادة علم على من روى الإفراد وغيره. وبأن من روى الإفراد والتمتّع اختلف عليه في ذلك، فأشهر من روي عنه الإفراد عائشة، وقد ثبت عنها أنه

ص: 142

اعتمر مع حجته، كما تقدّم، وابن عمر، وقد ثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالعمرة، ثم أهلّ بالحجّ، وثبت عنه أنه جمع بين حج وعمرة، ثم حدّث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وجابر، وقد ثبت قوله: إنه اعتمر مع حجته أيضًا، وروى القران عنه جماعة من الصحابة، لم يختلف عليهم فيه، وبأنه لم يقع في شيء من الروايات النقل عنه من لفظه أنه قال: أفردت، ولا تمتّعت، بل صحّ عنه أنه قال:"قرنت"، وصحّ عنه أنه قال:"لولا أن معي الهدي لأحللت"، وأيضًا فإن من روى عنه القران لا يحتمل حديثه التأويل إلا بتعسّف، بخلاف من روى الإفراد، فإنه محمول على أول الحال، وينتفي التعارض، ويؤيّده أن من جاء عنه الإفراد جاء عنه صورة القران، كما تقدّم، ومن روى عنه التمتّع فإنه محمول على الاقتصار على سفر واحد للنسكين، ويؤيّده أن من جاء عنه التمتع لما وصفه وصفه بصورة القران؛ لأنهم اتفقوا على أنه لم يحلّ من عمرته حتى أتمّ عمل جميع الحجّ، وهذه إحدى صور القران، وأيضًا فإن رواية القرآن جاءت عن بضعة عشر صحابيًا بأسانيد جياد، بخلاف روايتي الإفراد، والتمتّع، وهذا يقتضي رفع الشكّ عن ذلك، والمصير إلى أنه كان قارنًا.

قال: ومن العلماء من جمع بين الأحاديث على نمط آخر مع موافقته على أنه كان قارنًا، كالطحاويّ، وابن حبّان، وغيرهما، فقيل: أهلّ أوّلًا بعمرة، ثم لم يتحلّل منها إلى أن أدخل عليها الحجّ يوم التروية، ومستند هذا القائل حديث ابن عمر بلفظ:"فبدأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالعمرة، ثم أهلّ بالحجّ"، وهذا لا ينافي إنكار ابن عمر على أنس كونه نقل أنه صلى الله عليه وسلم أهلّ الحجّ والعمرة؛ لاحتمال أن يكون محلّ إنكاره كونه نقل أنه أهلّ بهما معًا، وإنما المعروف عنده أنه أدخل أحد النسكين على الآخر، لكن جزمه بأنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالعمرة مخالف لما عليه أكثر الأحاديث، فهو مرجوح. وقيل: أهلّ أوّلاً بالحجّ مفردًا، ثم استمرّ على ذلك إلى أن أمر أصحابه بأن يفسخوا حجهم، فيجعلوه عمرة، وفسخ معهم، ومنعه من التحلّل من عمرته المذكورة ما ذكره من سوق الهدي، فاستمرّ معتمرًا إلى أن أدخل عليها الحجّ حتى تحلّل منهما جميعًا، وهذا يستلزم أنه أحرم بالحجّ أوّلاً وآخرًا، وهو محتمل، لكن الجمع الأول أولى.

وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم أهلّ بالحجّ مفردًا، واستمرّ عليه إلى أن تحلّل منه بمنى، ولم يعتمر في تلك السنة، وهو مقتضى من رجّح أنه كان مفردًا.

قال الحافظ: والذي يظهر لي أن من أنكر القران من الصحابة نفى أن يكون أهلّ بهما في أول الحال، ولا ينفي أن يكون أهلّ بالحجّ مفردًا، ثم أدخل عليه العمرة، فيجتمع

ص: 143

القولان، كما تقدّم، واللَّه أعلم انتهى المقصود من كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح في حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه حجّ قارنًا، وذلك أنه كان أوّلاً مفردًا، ثم أدخل عليه العمرة في وادي العقيق لما قيل له:"قل: عمرة في حجة"، فصار قارنًا، وأما من قال: تمتّع، فمعناه أمر به، وتمناه، وبهذا تجتمع الأحاديث في هذا الباب دون تعارض. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في أيّ الأنساك الثلاثة أفضل:

قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف العلماء في أفضل وجوه الإحرام بحسب اختلافهم فيما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع على أقوال: (أحدها): أن الأفضل الإفراد، وهو مذهب مالك، والشافعيّ، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر، وجابر، وعائشة، وأبي ثور، وحكاه النوويّ في "شرح المهذّب" عنهم، وعن عمر، وعثمان، وعليّ، وابن مسعود، والأوزاعيّ، وداود، قال المالكيّة، والشافعيّة: ثم الأفضل بعد الإفراد التمتّع، ثم القران.

(الثاني): أن التمتّع أفضل، وهو قول أحمد بن حنبل، قال ابن قُدامة في "المغني": وممن رُوي عنه اختيار التمتع ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وعائشة، والحسن، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وجابر بن زيد، وسالم، والقاسم، وعكرمة، وهو أحد قولي الشافعيّ، وحكاه الترمذيّ عنه، وعن أحمد، وإسحاق، وأهل الحديث، قال الحنابلة: ثم الأفضل بعد التمتع الإفراد، ثم القران.

(الثالث): أن القرآن أفضل، وهذا قول أبي حنيفة، وحكاه ابن المنذر عن سفيان الثوريّ، وإسحاق ابن راهويه، ثم قال: لا شكّ أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا انتهى.

وهو قول للشافعيّ، وقال به من أصحاب الشافعيّ المزنيّ، وأبو إسحاق المروزيّ، وإليه ذهب ابن حزم الظاهريّ، كما تقدّم، والمشهور عند الحنفيّة أن الأفضل بعد القران التمتّع، ثم الإفراد، وعن أبي حنيفة أن الإفراد أفضل من التمتّع.

(الرابع): أنه إن ساق الهدي فالقران أفضل، وإن لم يسقه فالتمتّع أفضل. حكاه المروزيّ عن أحمد بن حنبل.

(الخامس): أن الأنواع الثلاثة سواء في الفضيلة، لا فضيلة لبعضها على بعض. حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء.

(1)

- "فتح" 215 - 218.

ص: 144

(السادس): أن التمتّع والقران سواء، وهما أفضل من الإفراد. حكي عن أبي يوسف. ثم ذكر وليّ الدين أدلة ترجيح الشافعي الإفراد على غيره، وطوّل في ذلك.

(1)

.

وقال الحافظ- بعد أن ذكر أدلّة كونه صلى الله عليه وسلم قارنًا-: ومقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد والتمتّع، وهو قول جماعة من الصحابة، والتابعين، وبه قال الثوريّ، وأبو حنيفة، وإسحاق ابن راهويه، واختاره من الشافعية المزنيّ، وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزيّ، ومن المتأخرين تقيّ الدين السبكيّ، وبحث مع النوويّ في اختياره أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، وأن الإفراد مع ذلك أفضل، مستندًا إلى أنه صلى الله عليه وسلم اختار الإفراد أوّلاً، ثم أدخل عليه العمرة؛ لبيان جواز الاعتمار في أشهر الحجّ؛ لكونهم كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور، وملخّص ما يُتعقّب به كلامه أن البيان قد سبق منه صلى الله عليه وسلم في عُمَره الثلاث، فإنه أحرم بكل منها في ذي القعدة، عمرة الحديبية التي صُدّ عن البيت فيها، وعمرة القضية التي بعدها، وعمرة الجعرانة، ولو كان أراد باعتماره عمرة حجته بيان الجواز فقط، مع أن الأفضل خلافه لاكتفَى في ذلك باْمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة.

وذهب جماعة من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم إلى أن التمتع أفضل؛ لكونه صلى الله عليه وسلم تمنّاه، فقال:"لولا أني سُقت الهدي لأحللت"، ولا يتمنّى إلا الأفضل. وهو قول أحمد بن حنبل في المشهور عنه.

وأجيب بأنه إنما تمنّاه تطييبًا لقلوب أصحابه؛ لحزنهم على ذوات موافقته، وإلا فالأفضل ما اختاره اللَّه له، واستمرّ عليه.

وقال ابن قدامة: يترجّح التمتع بأن الذي يفرد إن اعتمر بعدها، فهي مختلف في إجزائها عن عمرة الإسلام، بخلاف عمرة التمتّع فهي مجزئة بلا خلاف، فيترجّح التمتّع على الإفراد، ويليه القران.

وقال من رجح القران: هو أشقّ من التمتع، وعمرته مجزئة بلا خلاف، فيكون أفضل منهما. وحكى عياض عن بعض العلماء أن الصور الثلاث في الفضل سواء، وهو مقتضى تصرّف ابن خزيمة في "صحيحه". وعن أبي يوسف القران، والتمتع في الفضل سواء، وهما أفضل من الإفراد. وعن أحمد: من ساق الهدي فالقران أفضل له؛ ليوافق فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن لم يسق الهدي فالتمتّع أفضل له؛ ليوافق ما تمناه، وأمر به

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 26 - 28.

ص: 145

أصحابه. زاد بعض أتباعه: ومن أراد أن ينشىء لعمرته من بلده سفرًا فالإفراد أفضل له. قال: وهذا أعدل المذاهب، وأشبهها بموافقة الأحاديث الصحيحة، فمن قال: الإفراد أفضل فعلى هذا؛ لأن أعمال سفرين للنسكين أكثر مشقّة، فيكون أعظم أجرًا، ولتُجزيء عنه عمرته من غير نقص، ولا اختلاف انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجّح لديّ بعد النظر في هذه الأقوال، وأدلتها أن القرآن أفضل لمن ساق الهدي موافقة لفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، والتمتع أفضل لمن لم يسق الهدي عملاً بأمر النبيّء صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام - رضي اللَّه تعالى عنهم -.

وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تعالى-، فإنه قال: وأما إذا أراد أن يجمع بين النسكين بسفرة واحدة، ويسوق الهدي، فالقران أفضل، اقتداء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حيث قرن، وساق الهدي.

وقال في تفضيل التمتع لمن لم يسق الهدي: فإن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذين حجوا معه، ولم يسوقوا الهدي أمرهم جميعهم أن يحجوا هكذا، أمرهم إذا طافوا بالبيت، وبين الصفا والمروة أن يحفوا من إحرامهم، ويجعلوها متعة، قال: ومعلوم أنهم أفضل الأمة بعده، ولا حجة تكون أفضل من حجة أفضل الأمة، مع أفضل الخلق بأمره، فكيف يكون حج من حج مفردًا، واعتمر عقب ذلك، أو قارنا، ولم يسق الهدي أفضل من حج هؤلاء معه بأمره.

قال: ويقال في الجواب عن الحديث: "لو استقبلت

": إنه لم يقل هذا لأجل أن الذي فعله مفضول، بل لأن أصحابه شقّ عليهم أن يحلّوا من إحرامهم مع بقائه محرمًا، فكان يختار موافقتهم ليفعلوا ما أُمروا به عن انشراح، أو موافقة. قال: وقد ينتقل من الأفضل للمفضول لما فيه من الموافقة، وائتلاف القلوب.

قال: وعلى هذا التقدير يكون اللَّه قد جمع له بين أن فعل الأفضل، وبين أن أعطاه بما يراه من الموافقة لهم ما في ذلك من الفضل، فاجتمع له الأجران، وهذا هو اللائق بحاله صلى الله عليه وسلم انتهى المقصود من كلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تعالى- بتصرّف

(2)

، وهو كلام نفيس جدًّا.

والحاصل أن من ساق الهدي فالقران له أفضل، ومن لم يسق الهدي فالتمتّع له أفضل. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- "فتح" 4/ 217 - 218.

(2)

- راجع "مجموع الفتاوى" 26/ 86 - 91.

ص: 146

2716 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،،، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ،،، قَالَتْ: "أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"محمد ابن عبد الرحمن أبو الأسود": هو المدنيّ المعروف بيتيم عروة الثقة الثبت.

وقوله: "أهلّ بالحجّ" أي رفع صوته بتلبية الحجّ. والحديث متّفق عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في الحديث الماضي. وباللَّه تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2717 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ عَائِشَةَ،، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِى الْحِجَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بِعُمْرَةٍ»).

قال الجامع عفا اللَّه تَعالى عنه: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"حماد": هو ابن زيد. و"هشام": هو ابن عروة.

وقولها: "موافين لهلال ذي الحجة"، أي مقاربين لطلوعه، من أوفى على الشيء: إذ أشرف عليه. وقد تقدّم في -16/ 2650 - أنها قالت: "خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة".

والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في -16/ 2650 - فراجعه تستفد. وموضع الاستدلال للترجمة قوله:"من شاء أن يُهلّ بحج فليهلّ"، فإنه صريح في جواز الإفراد بالحجّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2718 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الطَّبَرَانِيُّ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، وَسُلَيْمَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا نَرَى إِلاَّ أَنَّهُ الْحَجُّ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير "محمد بن إسماعيل أبي بكر الطبرانيّ" وهو ثقة [12] 3/ 1603. فإنه من أفراد المصنّف.

و"يحيى بن سعيد": هو القطّان. و"منصور": هو ابن المعتمر. و"سليمان": هو الأعمش. و"إبراهيم": هو النخعيّ.

وقوله: "لا نرى إلا الحجّ" بفتح النون: أي لا نعتقد. وقيل: بضمّ النون: أي لا نظنّ. والمراد لا ننوي إلا الحجّ؛ لكونه المقصود الأصليّ في الخروج، أو لأن الغالبين فيهم ما نووا إلا الحجّ. أو لأنهم كانوا في الجاهليّة يعتقدون أن العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور. والحديث متفق عليه، كما تقدّم الكلام عليه في الذي قبله.

ص: 147

وموضع الاستدلال منه قولها: "لا نرى إلا الحج"، ووجهه أنهم كانوا معتقدين إفراد الحجّ، ثم قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من شاء أن يهُلّ بحج، فليهلّ به"، فأباح لهم الإهلال بالحجّ المفرد، إن أرادوا ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب"

‌49 - (الْقِرَانُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -:، "القران" -بكسر القاف، وتخفيف الراء-: لغةً الجمع، يقال: قَرَن بين الحجّ والعمرة، من باب قتل، وفي لغة من باب ضرب: إذا جمع بينهما في الإحرام، والاسم القِرَان -بالكسر-، كأنه مأخوذ من قرَنَ الشخصُ للسائل: إذا جمع له بعيرين في قِرَانِ، وهو الحَبْلُ، والقَرَنُ لغة فيه. أفاده الفيّوميّ.

قال في "الفتح": وصورته الإهلال بالحجّ والعمرة معًا، وهذا لا خلاف في جوازه، أو الإهلال بالعمرة، ثم يدخل عليها الحجّ، أو عكسه. وهذا مختلف فيه انتهى

(1)

.

وقال المحبّ الطبريّ -رحمه اللَّه تعالى-: للقران ثلاث صور: [الأولى]: أن يُهلّ بهما جميعًا، وعليه دلّ ظواهر الأحاديث [الثانية]: أن يُهلّ بالعمرة، ثم يُخل عليها الحجّ قبل الطواف، وعليه دلّ حديث ابن عبّاس، وابن عمر، وعائشة، وحفصة رضي الله عنهم. [الثالثة]: عكسه، وفيه قولان للشافعيّ: أحدهما: لا يجوز، وبه قال مالك، وهو الأصحّ. والثاني: يجوز، وبه قال أبو حنيفة. والأول أصحّ، ويؤيده ما روي عن عليّ أنه سأله أبو نضرة، فقال: قد أهللت بالحجّ، فهل أستطيع أن أُضيف إليه عمرة؟ قال: لا، ذاك لو كنت بدأت بالعمرة. وبأن أفعال العمرة استُحقّت بالإحرام بالحجّ، فلم يبق في إدخالها فائدة، بخلاف العكس انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي رجحه المحبّ الطبريّ من عدم جواز إدخال العمرة على الحجّ فيه نظر لا يخفى، بل الصواب جوازه؛ لما صحّ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بدأ بالحجّ، ثم أدخل عليه العمرة، وأما الاحتجاج بأثر عليّ رضي الله عنه، فإنه احتجاج بالموقوف في معارضة المرفوع، وكذا الذي ذكره بعده، فإنه احتجاج بالقياس في مقابلة

(1)

- "فتح" 4/ 209.

(2)

- راجع "المرعاة" 8/ 459.

ص: 148

النصّ، وكلاهما غير صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2719 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قَالَ: الصُّبَيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، كُنْتُ أَعْرَابِيًّا نَصْرَانِيًّا، فَأَسْلَمْتُ، فَكُنْتُ حَرِيصًا عَلَى الْجِهَادِ، فَوَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ، فَأَتَيْتُ رَجُلاً مِنْ عَشِيرَتِي، يُقَالُ لَهُ: هُذَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَأَلْتُهُ؟ فَقَالَ: اجْمَعْهُمَا، ثُمَّ اذْبَحْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فَأَهْلَلْتُ بِهِمَا، فَلَمَّا أَتَيْتُ الْعُذَيْبَ، لَقِيَنِي سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، وَأَنَا أُهِلُّ بِهِمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: مَا هَذَا بِأَفْقَهَ مِنْ بَعِيرِهِ؟ ، فَأَتَيْتُ عُمَرَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أَسْلَمْتُ، وَأَنَا حَرِيصٌ عَلَى الْجِهَادِ، وَإِنِّي وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ، فَأَتَيْتُ هُذَيْمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَقُلْتُ يَا هَنَّاهُ، إِنِّي وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ، فَقَالَ: اجْمَعْهُمَا، ثُمَّ اذْبَحْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فَأَهْلَلْتُ بِهِمَا، فَلَمَّا أَتَيْنَا الْعُذَيْبَ، لَقِيَنِي سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: مَا هَذَا بِأَفْقَهَ مِنْ بَعِيرِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: "هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) المعروف بابن راهويهْ المروزي، ثم النيسابوريُّ، ثقة ثبت إمام [10] 2/ 2.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبي الكوفي، نزيل الري وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب [8] 2/ 2.

3 -

(منصور) بن المعتمر، أبو عَتَّاب الكوفي، ثقة ثبت فاضل [6] 2/ 2. والباقون يأتون قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأن رجاله رجال الصحيح غير الصُّبَي، كما سيأتي، وأن فيه رواية تابعي عن تابعي، وهو من رواية الأقران، وأن صحابيه أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشرين بالجنة - رضي اللَّه تعالى عنهم - أجمعين. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ المخضرم الكوفيّ الثقة الفقيه، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة، تقدّمت ترجمته في 2/ 2، أنه (قَالَ: قَالَ الصُّبَيُّ) -بضم الصاد المهملة، مصغرًا-، ووقع في "الكبرى" الضبيّ" بالضاد

ص: 149

المعجمة، وهو تصحيف، فليُتنبّه (بنُ مَعْبَدٍ) -بفتح الميم، وسكون المهملة، وفتح الموحّدة- التغلبيّ- بالمثنّاة، والغين المعجمة، وكسر اللام- مخضرم نزل الكوفة، روى عن عمر حديث الباب فقط. وعنه أبو وائل، ومسروق، وأبو إسحاق السبيعيّ، وزِرّ بن حُبَيش، والشعبيّ، وإبراهيم النخعيّ. ذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال مسلمة بن قاسم: تابعي ثقة، رأى عمر بن الخطّاب، وعامّة أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. وفي "التقريب": ثقة من [2]. روى له أبو داود، والمصنّف، وابن ماجه حديث الباب فقط.

(كُنْتُ أَعْرَابِيًّا) بالفتح واحد الأعراب بالفتح أيضًا، وهم أهل البدو من العرب، يكون صاحب نُجْعة، وارتياد للكلأ، سواء كانوا من العرب، أو من مواليهم، فمن نزل البادية، وجاور البادتين، وظَعَن بظَعْنهم، فهم أعراب، ومن نزل بلاد الرّيف، واستوطن المُدُن، والقُرَى العربيّة، وغيرها ممن ينتمي إلى العرب، فهم عرب، وإن لم يكونوا فُصحاء. أفاده في "المصباح" (نَصْرَانِيًّا) واحد النصارى. قال البيضاويّ في "تفسيره": والنصارى جمع نصران، كالندامى، والياء في نصرانيّ للمبالغة، كما في أحمريّ، سمّوا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام، أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها: نصران، أو ناصرة، فسمّوا باسمها، أو من اسمها انتهى. وقال الشهاب في "حاشيته": والياء للمبالغة، كما يقال للأحمر أحمريّ، إشارة إلى أنه عَرِيق في وصفه. وقيل: إنها للفرق بين الواحد، والجمع، كزنج وزنجيّ، وروم وروميّ انتهى

(1)

.

(فَأَسْلَمْتُ، فَكُنْتُ حَرِيصًا عَلَى الْجِهَادِ، فَوَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، مَكْتُوبَينِ عَلَيَّ) أي مفروضين عليّ (فَأَتيْتُ رَجُلاً مِنْ عَشِيرَتِي) بفتح المهملة، وكسر المعجمة: القبيلة، ولا واحد لها من لفظها، والجمع عَشِيرات، وعشائر. قاله في "المصباح" (يُقَالُ لَهُ: هُرَيْمُ ابْنُ عَبدِ اللَّهِ) هكذا في معظم نسخ "المجتبى" بالراء، ووقع في بعضها "هُديم" بالدال المهملة بدل الراء، ووقع مثله في نسخة "التاريخ الكبير" للبخاري 8/ 250 - والذي في "السنن الكبرى" للمصنّف:"هُذيم بن عبد اللَّه" بالذال المعجمة، بدل المهملة، والراء، وهو الذي في "تهذيب الكمال" - 30/ 160 - و"تهذيب التهذيب" -4/ 264 - و"تقريب التهذيب" ص 1019 - نسخة أبي الأشبال، وعبارته:(د س) هُذَيم بن عبد اللَّه التغلبيّ - بفتح المثتاة، وسكون المعجمة، وكسر اللام- ويقال: اسم أبيه: ثُرمُلة -بضم المثلّثة، والميم، بينهما راء ساكنة- وربّما قيل له هو: أُذَيم، تبدل الهاء همزة، مخضرم، مقبول، من الثانية انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن ما وقع في معظم نسخ "المجتبى" بالراء

(1)

- راجع "تفسير البيضاويّ"مع حاشية الشهاب الخفاجيّ 2/ 172.

ص: 150

تصحيف، والصواب ما في "الكبرى"، وهو "هذَيْم" بالذال المعجمة؛ لأنه الذي وقع في كتب الرجال، ويؤيّد ذلك أنه لم يُنبّه منهم أحد على أنه يضبط بالراء بدل الدال، فليُتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(فَسَاَلْتُهُ؟) أي عن كيفيّة أداء الحجّ والعمرة (فَقَالَ: اجْمَعْهُمَا) أي أهلّ بهما جميعًا حتى تكون قارنًا، فهذا يدلّ على أن هذيم بن عبد اللَّه له عدم بكيفيّة الحجّ والعمرة، وبجواز القرآن (ثمَّ اذْبَحْ مَا اسْتَيسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وأدناه شاة عند الجمهور، وفيه أن القارن عليه الهدي، واختلف فيه، والراجح الوجوب عليه (فَأَهْلَلْتُ بِهمَا) أي قرنت بينهما، وقلت لبيك اللَّهم بحجة وعمرة (فَلَمَّا أَتَيْتُ العُذَيْبَ) بالعين المهملة، مصغّر عذب: اسم ماء لبني تميم، على مرحلة من الكوفة. وقيل: سمي به؛ لأنه طرف أرض العرب، من العذَبَة، وهي طرف الشيء

(1)

(لَقِيَنِي سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ) بن يزيد بن عمرو بن سهم بن ثعلبة الباهليّ، أبو عبد اللَّه، وهو سلمان الخيل، يقال: إن له صحبة. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر. وعنه سُويد بن غَفَلَة، والصُّبيّ بن معبد، وأبو ائل، وغيرهم. وشهد فتوح الشام مع أبي أُمامة، ثم سكن العراق، وولاّه عمر قضاء الكوفة، ثم ولي غزوة أرمينية في زمن عثمان، فقتل ببَلَنْجَر سنة (25) وقيل: سنة (30) وقيل: سنة (31). ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، وقال: كان ثقة قليل الحديث. وقال العجليّ: كوفي ثقة، من كبار التابعين. وقال الآجريّ عن أبي داود: روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما أقلّ ما روى. روى له مسلم حديثًا واحدًا عن عمر في آخره:"أو يبخّلوني، فلستُ بباخل". وقال سلمة بن كهيل، عن سُويد بن غفلة: وجدت سوطًا، فأخذته، فعاب عليّ زيد بن صُوحان، وسلمان بن ربيعة، فذكرته لأبي، فقال: أحسنت، وأصبت السنّة. وقال ابن عبد البرّ في "الاستيعاب": ذكره أبو حاتم، والعُقيليّ في الصحابة. وإنما قيل له: سلمان الخيل؛ لأنه كان يلي الخيول في خلافة عمر، وهو أول من فرّق بين العتاق والهُجُن

(2)

فيما قيل. ذكره ابن حبّان في "الثقات" في التابعين، وقال: كان رجلاً صالحًا يَحُجّ كلّ سنّة، وهو أول قاض استُقضي بالكوفة.

(وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ) -بضمّ الصاد المهملة، وسكون الواو، بعدها حاء مهملة- ابن حُجر بن الحارث العبديّ، أبو سليمان. قال في "الإصابة": قال ابن الكلبيّ: أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصحبه. وتعقّبه ابن عبد البرّ، فقال: لا أعلم له صحبة، وإنما أدرك زمن

(1)

- راجه "زهر الربى" 5/ 146.

(2)

الهُجُن بضمتين جمع هَجِين كبَرِيد وبُرُد: الخيل الذي ولدته بِرْذَوْنَة من حَصَان عربي. أفاده في "المصباح".

ص: 151

النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان سيّدًا فاضلاً، حكى معمر بن المثنّى أن له وِفادة، ويؤيّده ما رواه عبد الرحمن بن مسعود العبديّ، قال: سعمت عليًّا رضي الله عنه يقول: قال رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم: "من سرّه أن ينظر إلى من يسبقه بعض أعضائه إلى الجنّة، فلينظر إلى زيد بن صُوحان". أخرجه أبو يعلى، وابن منده

(1)

. قُطعت يده يوم القادسيّة، وقُتل يوم الجمل، فقال: ادفنوني في ثيابي، فإني مخاصم. له ترجمة في "الإصابة" في القسم الثالث، من حرف الزاي

(2)

.

(وَأَنَا أُهِلُّ بِهمَا) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (فَقَالَ: أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: مَا هَذَا بِأفْقَهَ مِنْ بَعِيرِهِ؟) أي ليس بأكثر علمًا من بعيره. والمعنى: أن الصُّبَيّ بن معبد، وبعيره الذي ركبه سواء في عدم معرفة السنة، وذلك أن السنة في زعهما الإفراد بالحجّ.

وفي الرواية التالية: "فقال أحدهما: لأنت أضلّ من جملك هذا، فقال الصّبيّ: فلم تزل في نفسي حتى لقيت عمر بن الخطاب

"، وفي رواية أبي داود: "فكأنما أُلقي عليّ جبل". وفي رواية لأحمد: "فكأنما حُمِل عليّ بكلمتهما جبل" (فَأَتَيْتُ عُمَرَ) بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه - (فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أَسْلَمْتُ، وَأَنَا حَرِيصٌ عَلَى الجِهَادِ، وَإِنِي وَجَدْتُ الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ، فَأَتَيْتُ هُرَيمَ بْنَ عَبدِ اللَّهِ) تقدم أن الصَواب هذيم بن عبد اللَّه بالذال المعجمة، كما هو في "الكبرى" (فَقُلتُ: يَا هَنَاهْ) أي يا هذا، وأصله هن، أُلحقت الهاء لبيان الحركة، فصار يا هنة، وأشبعت الحركة، فصارت ألفًا، فقيل: يا هناه، بسكون الهاء، ولك ضمّ الهاء. قال الجوهريّ: هذه اللفظة تختصّ بالنداء. ذكره ابن الأثير

(3)

(إِنَّي وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ، فَقَالَ: اجْمَعْهُمَا، ثُمَّ اذْبَحْ مَا اسْتَيسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فَأَهْلَلْتُ بِهمَا، فَلَمَّا أَتَيْنَا العُذَيْبَ، لَقِيَنِي سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، فَقَالَ: أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: مَا هَذَا بِأَفْقَهَ مِنْ بَعِيرِهِ، فَقَالَ: عُمَرُ) - رضي اللَّه تعالى عنه - ("هُدِيتَ") بالبناء للمفعول: أي هداك اللَّه تعالى بواسطة من أفتاك (لِسُنَّةِ نَبِيكَ صلى الله عليه وسلم) أي لمعرفتها والعمل بها.

والمعنى: أنك لست أجهل من بعيرك، بل أنت أعلم منهما، حيث هُديت لسنّة نبيّك صلى الله عليه وسلم، وجهلاها.

وفي رواية لأحمد: "فقَدِمتُ على عمر رضي الله عنه، فأخبرته، فأقبل عليهما، فلامهما، وأقبل عليّ، فقال هُدِيت لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم "

(4)

. وفي لفظ: "وُفّقت

(1)

في سنده ضعف.

(2)

- راجع الإصابة 4/ 88 - 89.

(3)

-"النهاية" 5/ 279 - 280.

(4)

- هكذا في "المسند" مكررًا مرتين.

ص: 152

لسنة نبيّك".

وفيه أن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - كان من مذهبه جواز القران، وإنما كان يكره التمتّع، وينهى عنه، كما سيأتي، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث الصُّبيّ بن معبد عن عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -49/ 2719 و 2720 و 2721 - وفي "الكبرى" 49/ 3699 و 3700 و 3701. وأخرجه (د) في "المناسك" 1798 (ق) في "المناسك" 2970 (أحمد) في "مسند العشرة" 84 و 170 و 228 و 256 و 281. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز القران. (ومنها): ما كان عليه الصُّبيّ بن معبد من الفضل، حيث كان شديد الحرص على الخير والرغبة، والجدّ في عمل الخير. (ومنها): أن القارن عليه الهدي، وفيه خلاف، والراجح الوجوب، كما سبق. (ومنها): أنه ينبغي لمن لا يعلم أحكام دينه أن يسأل أهل العلم؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]. (ومنها): أن الحجّ والعمرة فريضتان، حيث إن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - أقرّه لما قال:"وإني وجدت الحجّ والعمرة مكتوبين". (ومنها): أن مذهب عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - مشروعيّة القرآن، وإنما كان ينهى عن التمتّع. (ومنها): أن قول الصحابيّ: من السنة كذا له حكم الرفع، وهو المشهور عند المحدثين، ولذا احتجّ المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بقول عمر رضي الله عنه:"هديت لسنة نبيّك صلى الله عليه وسلم " على مشروعيّة القران. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2720 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الصُّبَيُّ

فَذَكَرَ مِثْلَهُ، قَالَ: فَأَتَيْتُ عُمَرَ، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، إِلاَّ قَوْلَهُ يَا هَنَّاهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح غير الصُّبَيِّ كما سبق بيانه، و"إسحاق": هو ابن راهويه.

و"مصعب بن المقدام" الخثعميّ مولاهم، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، صدوق، له أوهام [9].

ص: 153

قال الغلابيّ، عن ابن معين: ثقة. وقال إبراهيم بن الجنيد، عن ابن معين: ما أرى به بأسًا. وقال أبو داود: لا بأس به. وقال أبو حاتم: صالح. وقال عبد اللَّه بن المدينيّ، عن أبيه: ضعيف. وقال ابن المنادي: كتبت عنه أيام ابن زُبيدة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال عليّ بن حكيم الأوديّ، عنه: كنت أرى رأي الإرجاء، فرأيت في المنام كأن في عنقي صَلِيبًا، فتركته. وقال العجليّ: كوفيّ متعبّد. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال يحيى بن معين: صالح. وقال ابن قانع: كوفيّ صالح. وقال الساجيّ: ضعيف الحديث، كان من العبّاد. قال أحمد بن حنبل: كان رجلاً صالحًا رأيت له كتابًا، فإذا هو كثير الخطإ، ثم نظرت في حديثه، فإذا أحاديثه متقاربة عن الثوريّ. قال محمد بن عبد اللَّه الحضرميّ وغيره: مات سنة (203). روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وأبي داود. وأخرج له المصنّف في خمسة مواضع برقم - 2719 و 3027 و 3622 و 4417 و 4827.

و"زائدة": هو ابن قُدامة.

وقوله: "فذكر مثله" الضمير في "ذكر" لزائدة، وفي "مثله" للحديث الماضي.

والحديث صحيح كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2721 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ -يَعْنِي ابْنَ إِسْحَاقَ- قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

ابْنُ جُرَيْجٍ ح وَأَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي حَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَغَيْرِهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، يُقَالُ لَهُ: شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ، أَبُو وَائِلٍ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي تَغْلِبَ، يُقَالُ لَهُ: الصُّبَيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، فَأَسْلَمَ، فَأَقْبَلَ فِي أَوَّلِ مَا حَجَّ، فَلَبَّى بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ جَمِيعًا، فَهُوَ كَذَلِكَ، يُلَبِّى بِهِمَا جَمِيعًا، فَمَرَّ عَلَى سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لأَنْتَ أَضَلُّ مِنْ جَمَلِكَ هَذَا، فَقَالَ الصُّبَيُّ: فَلَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِي، حَتَّى لَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:"هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم".

قَالَ: شَقِيقٌ وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ أَنَا، وَمَسْرُوقُ بْنُ الأَجْدَعِ، إِلَى الصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، نَسْتَذْكِرُهُ، فَلَقَدِ اخْتَلَفْنَا إِلَيْهِ مِرَارًا، أَنَا وَمَسْرُوقُ بْنُ الأَجْدَعِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح غير شيخيه فإنهما من أفراده و"عمران بن يزيد": هو عمران بن خالد بن يزيد الطائيّ الدمشقيّ، صدوق [11].

(1)

- وفي نسخة: "حدثنا"، وفي أخرى:"أخبرنا".

ص: 154

و"شعيب بن إسحاق": هو البصريّ، ثم الدمشقيّ، ثقة رمي بالإرجاء، من كبار [9].

و"إبراهيم بن الحسن": هو الخثعميّ، أبو إسحاق المقسميّ الثقة [11].

و"حجاج": هو ابن محمد الأعور الحافظ [9]. و"حسن بن مسلم " بن يَنّاق المكيّ الثقة [5].

وقوله: "وكنت اختلف": أي أتردد. وإنما أكثر التردّد في هذا الحديث لأنه وقع النهي عن ذلك من بعض الصحابة، كعثمان - رضي اللَّه تعالى عنه -، كما يأتي بعد هذا، فأعجبهما هذا الحديث، وحرصا على التأكد منه لذلك. وفيه ما كان عليه شقيق ومسروق من شدة الحرص في طلب العلم، ومراجعة أهله مراراً للتأكد. والحديث صحيح، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعمِ الوكيل.

2722 -

(أَخْبَرَنِي عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى -وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ- قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُثْمَانَ، فَسَمِعَ عَلِيًّا يُلَبِّي بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، فَقَالَ: أَلَمْ تَكُنْ تُنْهَى عَنْ هَذَا؟ ، قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُلَبِّي بِهِمَا جَمِيعًا، فَلَمْ أَدَعْ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِكَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمران بن يزيد) المذكور في السند الماضي.

2 -

(عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي نزل الشام مرابطًا، ثقة مأمون [8] 8/ 8.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مِهْران الكوفي، ثقة ثبت يدلس [5] 17/ 18.

[تنبيه]: قوله: "حدثنا الأعمش" هكذا في النسخة الهندية، و"الكبرى"-2/ 345 - و"تحفة الأشراف" -7/ 446 - وهو الصواب، ووقع في النسختين المطبوعتين من "المجتبى":"الأشعث"، وهو تصحيف، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(مسلم البَطين) هو: مسلم بن عمران، أبو عبد اللَّه الكوفيّ الثقة [6] 26/ 915.

6 -

(عليّ بن حسين) بن علي بن أبي طالب المدنيّ المعروف بزين العابدين الثقة المثبت العابد الفقيه الفاضل المشهور، قال ابن عيينة، عن الزهريّ: ما رأيت قرشيًّا أفضل منه [3] 78/ 95.

6 -

(مروان بن الحكم) بن أبي العاص الأموي، أبو عبد الملك المدني، ثقة [2]

ص: 155

118/ 163.

7 -

(عليّ) بن أبي طالب أبو الحسن الخليفة الراشد رضي الله عنه 74/ 91. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأن رجاله رجال الصحيح غير شيخه، فمن أفراده، وأن فيه رواية تابعي عن تابعي: علي عن مروان، وأن رواية الأعمش عن مسلم من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن الأعمش من الطبقة الخامسة، ومسلم من السادسة، وأن صحابيه أحد الخلفاء الأربعة والعشرة المبشرين بالجنة - رضي اللَّه تعالى عنهم -، وابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها، وأول من آمن من الصبيان، وأنه مات سنة أربعين، وهو يومئذ أفضل الأحياء من بني آدم في الأرض بإجماع أهل السنة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ) أنه (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُثْمَانَ) بن عفّان - رضي اللَّه تعالى - عنه في خلافته، وقد ثبت في "صحيح البخاريّ" من رواية سعيد بن المسيّب أن اختلافهما كان بعُسفان، ولفظه:"قال: اختلف عليّ وعثمان - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وهما بعُسفان في المتعة، فقال عليّ: ما تريد إلى أن تنهى عن أمر فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فلما رأى ذلك عليّ، أهلّ بهما جميعًا"(فَسَمِعَ عَلِيًّا) أي ابن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه - (يُلَبِّي بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ) أي قارنًا بينهما (فَقَالَ: أَلَمْ تكُنْ تُنْهَى عَنْ هَذَا؟) ببناء الفعل للمفعول، والخطاب لعليّ رضي الله عنه، وأراد عثمان رضي الله عنه نهيه الناس عن ذلك، ومن جملتهم عليّ رضي الله عنه. وفي بعض النسخ: "ألم نكن نَنْهَى عن هذا؟ بنون المتكلم، وعليه فالفعل مبنيّ للفاعل.

وقال السنديّ: قوله: "ألم تكن تُنهى" على صيغة الخطاب، و"تنهى" على بناء المفعول، أي أني أنهى الناس جميعًا عن الجمع، كما كان عمر ينهاهم، وأنت، فكيف لك أن تفعل، وتخالف أمر الخليفة، فأشار عليّ إلى أنه لا طاعة لأحد فيما يخالف سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمن علم بها انتهى.

وفي الرواية التالية: "أن عثمان نهى عن المتعة، وأن يجمع الرجل بين الحجّ والعمرة". قال في "الفتح": قوله: "وأن يجمع بينهما" يحتمل أن تكون الواو عاطفة، فيكون نهى عن التمتّع والقران معًا. ويحتمل أن يكون عطفًا تفسيريًا، وهو على ما تقدّم

ص: 156

أن السلف كانوا يطلقون على القرآن تمتّعًا، ووجهه أن القارن يتمتّع بترك النَّصَبِ بالسفر مرّتين، فيكون المراد أن يجمع بينهما قرانًا، أو إيقاعًا لهما في سنة واحدة بتقديم العمرة على الحجّ. وقد رواه النسائيّ من طريق عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيّب بلفظ:"نهى عثمان عن التمتّع"، وزاد فيه:"فلبّى عليّ، وأصحابه بالعمرة، فلم ينههم عثمان، فقال له عليّ: ألم تسمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تمتّع؟، قال: بلى"، وله من وجه آخر:"سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يلبّي بهما جميعًا"، زاد مسلم من طريق عبد اللَّه بن شقيق، عن عثمان، قال:"أجل، ولكنا كنّا خائفين".

قال النوويّ: لعله أشار إلى عمرة القضيّة سنة سبع، لكن لم يكن في تلك السنة حقيقة تمتّع، إنما كان عمرة وحدها.

قال الحافظ: هي رواية شاذّة، فقد روى الحديث مروان بن الحكم، وسعيد بن المسيّب، وهما أعلم من عبد اللَّه بن شقيق، فلم يقولا ذلك، والتمتّع إنما كان في حجة الوداع، وقد قال ابن مسعود -كما ثبت عنه في "الصحيحين" -:"كنّا آمن ما يكون الناس".

وقال القرطبيّ: قوله: "كنا خائفين" أي من أن يكون أجر من أفرد أعظم من أجر من تمتّع. كذا قال، وهو جمع حسن، ولكن لا يخفى بُعده.

ويحتمل أن يكون عثمان أشار إلى أن الأصل في اختياره صلى الله عليه وسلم فسخ الحجّ إلى العمرة في حجة الوداع دفع اعتقاد قريش منع العمرة في أشهر الحجّ، وكان ابتداء ذلك بالحديبية؛ لأن إحرامهم بالعمرة كان في ذي القعدة، وهو من أشهر الحجّ، وهناك يصحّ إطلاق كونهم خائفين، أي من وقوع القتال بينهم وبين المشركين، وكان المشركون صدّوهم عن الوصول إلى البيت، فتحلّلوا من عمرتهم، وكانت أول عمرة وقعت في أشهر الحجّ، ثم جاءت عمرة القضيّة في ذي القعدة أيضًا، ثم أراد صلى الله عليه وسلم تأكيد ذلك بالمبالغة فيه، حتى أمرهم بفسخ الحجّ إلى العمرة انتهى كلام الحافظ

(1)

.

(قَالَ) عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - (بَلَى) هي حرف إيجاب، فإذا قيل: ما قام زيد، وقلت في الجواب: بلى، فمعناه: إثبات، وإذا قيل: أليس كان كذا، وقلت: بلى، فمعناه التقرير، والإثبات، ولا تكون إلا بعد نفي، فهو أبدًا يرفع حكم النفي، ويوجب نقيضه، وهو الإثبات. أفاده في "المصباح". والمعنى هنا: بلى كنت نهيت عن هذا (وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُلَبِّي بِهمَا جَمِيعًا) وهذا موضع الترجمة، حيث إنه يدلّ

(1)

-"فتح" 4/ 212.

ص: 157

على جواز القران، وقد تقدّم أن إهلال النبيّ- صلى الله عليه وسلم بهما جميعًا، كان في نهاية الأمر، وإلا فإنه بدأ بالحجّ، إلا أنه أدخل عليه العمرة، فصار قارنًا (فَلَمْ أَدع قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِكَ) يعني أنه لا يسعني مخالفة سنته صلى الله عليه وسلم لأجل نهيك، لأن طاعة ولاة الأمر لا بدّ أن تكون في حدود الشرع، فإذا خالفوا ذلك، فلا طاعة لهم، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وفي الرواية التالية: "فقال عليّ رضي الله عنه: لم أكن لأع سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأحد من الناس". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -49/ 2722 و 2723 و 50/ 2733 - وفي "الكبرى" 49/ 3702 و 3753 و 55/ 3713. وأخرجه (خ) في "الحج" 1563 و 1569 (م) في "الحج" 1223 (أحمد) في "مسند العشرة" 758 و 1143 و1150 (الدارمي) في "المناسك" 1923. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعية القران، حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لبّى بهما جميعًا. (ومنها): إشاعة العالم ما عنده من العلم، وإظهاره للناس، ومناظرة ولاة الأمور، وغيرهم في تحقيقه لمن قوي على ذلك؛ لقصد مناصحة المسلمين (ومنها): البيان بالفعل مع القول؛ ليكون أبلغ. (ومنها): جواز الاستنباط من النصّ؛ لأن عثمان لم يخف عليه أن التمتّع والقران جائزان، وإنما نهى عنهما؛ ليُعمل بالأفضل، كما وقع لعمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، لكن خشي عليّ رضي الله عنه أن يحمل غيرُهُ النهيَ على التحريم، فأشاع جواز ذلك، وكلّ منهما مجتهد مأجور. (ومنها): ما ذكره ابن الحاجب، من كون حديث عثمان رضي الله عنه هذا دليلاً لمسألة اتفاق أهل العصر الثاني بعد اختلاف أهل العصر الأول، فقال: وفي "الصحيح" أن عثمان كان نهى عن المتعة. قال البغويّ: ثم صار إجماعًا.

قال الحافظ: وتُعُقّب بأن نهي عثمان عن المتعة إن كان المراد به الاعتمار في أشهر الحجّ قبل الحجّ، فلم يستقرّ الإجماع عليه؛ لأن الحنفيّة يخالفون فيه. وإن كان المراد به

ص: 158

فسخ الحجّ إلى العمرة، فكذلك الحنابلة يخالفون فيه، ثم وراء ذلك أن رواية النسائيّ السابقة مشعرة بأن عثمان رجع عن النهي، فلا يصحّ التمسّك به.

ولفظ البغويّ بعد أن ساق حديث عثمان في "شرح السنّة": هذا خلاف عليّ، وأكثر الصحابة على الجواز، واتفقت عليه الأئمة بعدُ، فحمله على أن عثمان نهى عن التمتّع المعهود، والظاهر أن عثمان ما كان يبطله، وإنما كان يرى أن الإفراد أفضل منه، وإذا كان كذلك، فلم تتفق الأئمة على ذلك، فإن الخلاف في أيّ الأمور الثلاثة أفضل باق. واللَّه أعلم

(1)

.

(ومنها): أن المجتهد لا يُلزِمُ مجتهدًا آخر بتقليده؛ لعدم إنكار عثمان على عليّ ذلك، مع كون عثمان الإمامَ، إذ ذاك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2723 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،،، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِىَّ بْنَ حُسَيْنٍ، يُحَدِّثُ عَنْ مَرْوَانَ، أَنَّ عُثْمَانَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَأَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَقَالَ: عَلِيٌّ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا، فَقَالَ: عُثْمَانُ: أَتَفْعَلُهَا، وَأَنَا أَنْهَى عَنْهَا؟ ، فَقَالَ: عَلِيٌّ: لَمْ أَكُنْ لأَدَعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"إسحاق": هو ابن راهويه. و"أبو عامر": هو عبد الملك بن عمرو العقديّ البصريّ الثقة. و"الحكم": هو ابن عُتيبة الكوفيّ الحافظ. والحديث متّفق عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في الحديث الماضي. وباللَّه تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2724 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا النَّضْرُ، عَنْ شُعْبَةَ،، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

"النضر": هو شُمَيل المازنيّ النحويّ، أبو الحسن البصريّ، نزيل مرو، الثقة الثبت.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2725 -

(أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، حِينَ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى الْيَمَنِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَلِيٌّ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«كَيْفَ صَنَعْتَ؟» ، قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِكَ، قَالَ:«فَإِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ، وَقَرَنْتُ» ، قَالَ: وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ

(1)

- "فتح" 4/ 212 - 213.

(2)

- وفي نسخة: "حدثنا".

ص: 159

من أَمْرِي، مَا اسْتدْبَرْتُ لَفَعَلْتُ، كَمَا فَعَلْتُمْ، وَلَكِنَّي سُقْتُ الْهَدْيَ، وَقَرَنْتُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(معاوية بن صالح) بن أبي عبيد اللَّه الأشعريّ، أبو عبيد اللَّه الدمشقيّ، صدوق [11].

قال النسائيّ: لا بأس به. وقال في "أسماء شيوخه": أرجو أن يكون صدوقًا. وكذا قال مسلمة بن قاسم، وقال هو، وابن يونس، والطحاويّ: مات بدمشق سنة (263). تفرّد به المصنّف، روى عنه حديث الباب هذا -2725 وحديثا في "كتاب تحريم الدم" برقم 4075 - في قصة غضب أبي بكر على رجل.

2 -

(يحيى بن معين) بن عون الغَطَفَاني مولاهم أبو زكريا البغدادي، ثقة حافظ مشهور، إمام الجرح والتعديل [10] 5/ 501.

3 -

(حجاج) بن محمد الأعور المصيصي، أبو محمد، ثقة ثبت، اختلط آخرًا لما قَدِمَ بغداد [9] 28/ 32.

4 -

(يونس) بن أبي إسحاق السبيعي، أبو إسرائيل الكوفي، صدوقِ يَهمُ قليلاً [5] 16/ 652.

5 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه السبيعي الكوفي، ثقة عابد اختلط بآخره [3] 38/ 42.

6 -

(البراء) بن عازب رضي الله عنهما تأتي ترجمته قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله رجال الصحيح غير شيخه، فإنه من أفراده، وأن فيه رواية تابعي عن تابعي، والابن عن أبيه، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ الْبَرَاءِ) بن عازب بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما -، نريل الكوفة، استُصغر يوم بدر، مات سنة (72) تقدّمت ترجمته في 86/ 105 أنه (قَالَ: كُتتُ مَعَ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (حِينَ أَمِّرَهُ) بتشديد الميم، من التأمير: أي جعله أميرًا (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى الْيَمَنِ) زاد في رواية أحمد بن محمد بن جعفر، عن ابن معين الآتية -52/ 2745 - :"فأصبت معه أواقي"، وهو جمع أوقيّة، وهي أربعون درهما (فَلَمَّا قَدِمَ) أي عليّ رضي الله عنه (عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي والنبيّ صلى الله عليه وسلم في مكة، قدم للحج، عام حجة الوداع (قَالَ: عَليِّ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ

ص: 160

- صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أحمد بن محمد بن جعفر المذكورة: "قال عليّ: وجدت فاطمة قد نضحت البيت بنَضُوح، قال: فتخطّيته، فقالت لي: مالك؟، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه، فأحلّوا، قال: قلت: إني أهللتُ بإهلال النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لي: "كيف صنعتَ؟

"، و"النضوح" بفتح النون: ضرب من الطيب تفوح رائحته (فَقَالَ: لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَيفَ صَنَعْتَ؟ ") أي في إحرامك، وفي حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه -: "ماذا قلت، حين فرضت الحجّ؟ "، قال: قلت: اللهمّ إني أُهلّ بما أهلّ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: "فإن معي الهدي، فلا تحلل

" (قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بإِهْلَالِكَ، قَالَ: "فَإنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ، وَقَرَنْتُ") أي جمعت بين الحجّ والعمرة، وقد علّق عَليّ رضي الله عنه إحرامه بإحرامه صلى الله عليه وسلم، فأمره بالبقاء على إحرامه قارنًا، كما بقي النبيّ صلى الله عليه وسلم على إحرامه.

وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا وأمثاله من أقوى الأدلّة على أنه كان قارنًا؛ لأنه مستند إلى قوله، والرجوع إلى قوله عند الاختلاف هو الواجب خصوصًا؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وعمومًا؛ لأن الكلام إذا كان في حال أحد، وحصل فيه الاختلاف يجب الرجوع فيه إلى قوله؛ لأنه أدرى بحاله، وما أسند أحد ممن قال بخلافه إلى قوله، فتعيّن القران. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

.

(قَالَ) البراء - رضي اللَّه تعالى عنه - (وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ) حين شق عليهم أمره لهم بالتحلل عن إحرام الحجّ بعمل العمرة ("لَوِ اسْتَقبَلْتُ مِنْ أَمْرِي، مَا اسْتَدْبَرْتُ لَفَعَلْتُ، كَمَا فَعَلْتُمْ) أي من عدم سوق الهدي، والتحلل بأداء العمرة (وَلَكِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ، وَقَرَنْتُ) أي فلا أحلّ حتى يبلغ الهدي محله، وهو يوم النحر بعد أداء الحجّ.

زاد في رواية أبي داود: قال: فقال لي: "انحر من البدن سبعًا وستين، أو ستا وستين، وأمسك لنفسك ثلاثا وثلاثين، أو أربعا وثلاثين، وأمسك لي من كلّ بدنة منها بضعة".

وفي حديث جابر رضي الله عنه المتقدّم: "وكان جماعة الهدي الذي قدم به عليّ من اليمن، والذي أتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة مائة".

وظاهر حديث أبي داود أن عليا رضي الله عنه نحر سبعا وستين، أو ستا وستين، ولكن في حديث جابر رضي الله عنه المتقدّم:"ثم انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المنحر، فنحر بيده ثلاثا وستين، وأمر عليا، فنحر ما غير، يقول: ما بقي".

(1)

- راجع "شرح السنديّ" 5/ 149.

ص: 161

قال النوويّ: إن هذا هو الصواب، لا ما وقع في رواية أبي داود، ولذا لم يذكر في رواية النسائيّ، والبيهقيّ قوله:"انحر من البدن سبعًا وستين، أو ستا وستين". وقد جمع بعضهم بأن المراد في حديث أبي داود: "انحر" أي هيئها لي في المنحر لأتولّى نحرها، أو أنه بعد أن أمر عليا بنحرها بدا له صلى الله عليه وسلم أن ينحرها بيده، فنحر ثلاثًا وستين، وأمر عليا بنحو الباقي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث البراء - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، ولا يضرّه عنعنعة أبي إسحاق، وإن كان مدلسًا؛ لأن حديث عليّ الماضي يشهد له، وكذا غيره من الأحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -49/ 2725 و 52/ 2745 - وفي "الكبرى" 49/ 3705 و 52/ 3726. وأخرجه (د) في "المناسك" 1797 (البيهقيّ) 5/ 15. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعيّة القران. (ومنها): استحباب التطيّب لمن تحلل من إحرامه. (ومنها): تعليق الشخص إحرامه بإحرام غيره. (ومنها): استحباب سوق الهدي من بلده. (ومنها): جواز قول الإنسان "لو كان كذا كان كذا" تأسفًا على ما فات إذا تعلقت به المصلحة الدينية، والنهي الوارد محمول على الحظوظ الدنيوية، كما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعمِ الوكيل.

2726 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، الصَّنْعَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفًا، يَقُولُ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: "جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَنْهَى عَنْهَا، وَقَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِهِ").

رجال الإسناد: ستة

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني ثم البصري، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميُّ، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الشهير [7] 24/ 27.

ص: 162

4 -

(حميد بن هلال) العدوي، أبو نصر البصري، ثقة فقيه [3] 4/ 4.

5 -

(مُطَرِّف) بن عبد اللَّه تأتي ترجمته قريبًا.

6 -

(عمران بن حصين) رضي الله عنهما يأتي قريبًا أيضًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالبصريين، وفيه رواية تابعي عن تابعي، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن حميد بن هلال أنه (قال: سَمِعْتُ مُطَرِّفًا) هو ابن عبد اللَّه بن الشِّخِّير العامريّ الْحَرَشيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ التابعيّ الكبير الثقة العابد الفاضل المشهور، من [2] تقدّمت ترجمته في 53/ 67 (يَقُولُ: قَالَ: لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ) بن عُبيد بن خَلَف الْخُزَاعيّ، أبو نُجَيد، أسلم عام خيبر، وصَحِب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان فاضلاً، وقضى بالكوفة، ومات رضي الله عنه سنة (52) بالبصرة، تقدّمت ترجمته في 201/ 321. وفي رواية لمسلم من طريق قتادة، عن مطرّف، قال: بعث إليّ عمران بن حُصين في مرضه الذي توفّي فيه، فقال: إني كنت محدّثك بأحاديث لعلّ اللَّه أن ينفعك بعدي، فإن عشتُ فاكتم عنّي، وإن من، فحدّث بها إن شئت، إنه قد سُلّم عليّ، واعلم أن نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حجّ وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب اللَّه

" فذكر الحديث. وفي رواية حميد ابن هلال، عن مطرّف: "وقد كان يسلم عليّ حتى اكتويتُ، فتُرِكتُ، ثم تَرَكْتُ الكيّ، فعاد".

ومعنى قول عمران بن حصين - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "قد كان يُسلّم عليّ الخ": أنه كانت به بواسير، فكان يصبر على ألمها، وكانت الملائكة تسلّم عليه، فاكتوى، فانقطع سلامهم عليه، ثم ترك الكيّ، فعاد سلامهم عليه. قاله النوويّ.

وقوله: "فاكتم عني الخ" أراد به الإخبار بالسلام عليه؛ لأنه كره أن يشاع عنه ذلك في حياته؛ لما فيه من التعرّض للفتنة، بخلاف ما بعد الموت. قاله النوويّ أيضًا

(1)

.

(جمًعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ حَجِّ وَعُمْرَةٍ) أي قرن بينهما. وفي رواية محمد بن واسع، عن مطرف الآتية:"تمتّعنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ". والتمتّع يشمل القران، والتمتع

(1)

- "شرح مسلم" 8/ 431 - 432.

ص: 163

المعروف، ولذا أورده المصنّف احتجاجًا به على مشروعية القران، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم قرن، والصحابة الذين لم يسوقوا الهدي تمتّعوا، فلا تنافي بين قوله:" جمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، وقوله:"تمتّعنا"(ثُمَّ تُوُفَّيَ) صلى الله عليه وسلم (قَبْلَ أَنْ يَنْهَى عَنْهَا) أنث الضمير باعتبار الخصلة، أي مات قبل أن ينهى عن هذه الخصلة بسنته (وَقَبْلَ أَنَّ يَنْزِلَ) وفي نسخة:"أن نزل"(الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِهِ) ذكر الضمير هنا باعتبار الفعل، أي قبل أن ينزل القرآن بتحريم هذا الفعل، وهو القِرَان. وفي الرواية التالية:"ثم لم ينزل فيها كتاب، ولم ينه عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم قال رجل برأيه ما شاء". وفي رواية البخاريّ: "تمتعنا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن، قال رجل برأيه ما شاء".

قال في "الفتح": قوله: "ونزل القرآن" أي بجوازه، يشير إلى قوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} الآية. وفي رواية للبخاريّ أيضًا في "التفسير من طريق أبي رجاء العطارديّ، عن عمران بلفظ: "أُنزلت آية المتعة في كتاب اللَّه، ففعلناها مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل قرآن بحرمة، فلم ينه عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء.

وقوله: "قال رجل برأيه ما شاء". وفي رواية أبي العلاء، عن مطرّف عند مسلم:"ارتأى كلّ امرئ بعدُ ما شاء أن يرتئي". قال الحافظ: قائل ذلك هو عمران بن حصين، ووهم من زعم أنه مطرّف الراوي عنه؛ لثبوت ذلك في رواية أبي رجاء، عن عمران، كما ذكرته قبلُ. وحكى الحميديّ أنه وقع في رواية أبي رجاء، عن عمران: قال البخاريّ: يقال: إنه عمر. أي الرجل الذي عناه عمران بن حصين.

قال الحافظ: لم أر هذا في شيء من الطرق التي اتصلت لنا من البخاريّ، لكن نقله الإسماعيليّ، عن البخاريّ كذلك، فهو عمدة الحميديّ في ذلك. وبهذا جزم القرطبيّ، والنوويّ، وغيرهما. وكأن البخاريّ أشار بذلك إلى رواية الجُرَيريّ، عن مطرّف، فقال في آخره:"ارتأى رجل برأيه ما شاء" يعني عمر. كذا في الأصل، أخرجه مسلم عن محمد بن حاتم، عن وكيع، عن الثوريّ، عنه.

وقال ابن التين: يحتمل أن يريد عمر، أو عثمان. وأغرب الكرمانيّ، فقال: ظاهر سياق كتاب البخاريّ أن المراد به عثمان. وكأنه لقرب عهده بقصّة عثمان مع عليّ جزم بذلك، وذلك غير لازم، فقد سبقت قصّة عمر مع أبي موسى في ذلك، ووقعت لمعاوية أيضًا مع سعد بن أبي وقاص في "صحيح مسلم" قصّة في ذلك.

قال الحافظ: والأولى أن يفسّر بعمر؛ فإنه أول من نهى عنها، وكأن من بعده كان تابعًا له في ذلك. وفي "صحيح مسلم" أيضًا أن ابن الزبير كان ينهى عنها، وابن عباس يأمر بها، فسألوا جابرًا، فأشار إلى أن أول من نهى عنها عمر.

ص: 164

ثم في حديث عمران ما يعكُرُ على عياض، وغيره في جزمهم أن المتعة التي نهى عنها عمر، وعثمان، هي فسخ الحجّ إلى العمرة، لا العمرة التي يحجّ بعدها، فإن في بعض طرقه عند مسلم التصريح بكونها متعة الحجّ، وفي رواية له أيضًا:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعمر بعض أهله في العشر"، وفي رواية له:"جمع بين حجّ وعمرة"، ومراده التمتّع المذكور، وهو الجمع بينهما في عام واحد انتهى المقصود من كلام الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذه الروايات كلها متفقة على أن مراد عمران أن التمتّع بالعمرة إلى الحجّ جائز، وكذلك القران، وفيه التصريح بإنكاره على عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه - منع التمتّع. وقد سبق تأويل فعل عمر أنه لم يرد إبطال التمتّع، بل ترجيح الإفراد عليه.

وقال قبل ذلك: المختار أن المتعة التي نهى عنها عثمان هي التمتّع المعروف في الحجّ، وكان عمر وعثمان ينهيان عنها نهيّ تنزيه، لا تحريم، وإنما نهيا عنها؛ لأن الإفراد أفضل، فكان عمر، وعثمان يأمران بالإفراد؛ لأنه أفضل، وينهيان عن التمتّع نهي تنزيه؛ لاْنهما مأمور بصلاح رعيّتهما، وكانا يريان الأمر بالإفراد من جملة صلاحهم. انتهى كلام النوويّ بتصرّف

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن الأظهر أن الرجل الذي أشار إليه عمران رضي الله عنه في كلامه السابق هو عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه -؛ لأن غيره تابع له في ذلك، وأن المتعة التي قال عنها عمران رضي الله عنه:"تمتّعنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " هي التمتّع المعروف الذي هو الاعتمار في أشهر الحج، ثم الحجّ بعده، ثم إن محمل نهي عمر وعثمان - رضي اللَّه تعالى عنهما - من ذلك هو الذي ذكره النووي، من أنهما رأيا ذلك أصلح، لكن الرأي يصيب، ويخطىء، فما صحّ عن رسول اللَّه رضي الله عنه أحقّ أن يتّبع، لا ما رأياه، فإنه صلى الله عليه وسلم هو الحجة على من سواه، وليس لأحد قولٌ، ولا فعلٌ، مع قوله، وفعله، قال اللَّه تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} الآية [النور: 54]، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية [الحشر: 7]، وقال:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- "فتح" 4/ 221 - 222.

(2)

- "شرح مسلم" 8/ 428 - 432.

ص: 165

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عمران بن حُصين - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -49/ 2726 و 2727 و 2728 و 50/ 2739 - وفي "الكبرى" 49/ 3706 و 3707 و 3708 و 50/ 3719. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1571 وفي "التفسير" 4518 (م) في "الحجّ" 1226 (ق) في "المناسك" 2978 (أحمد) في "مسند البصريين" 19332 و 19340 و 19438 (الدارمي) في "المناسك" 1813. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواز القران، وهو واضح في قوله:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جمع بين حجّ وعمرة". (ومنها): ما قاله في "الفتح"

(1)

: فيه جواز نسخ القرآن بالقرآن، ولا خلاف فيه، وجواز نسخه بالسنة، وفيه اختلاف شهير، ووجه الدلالة منه قوله:"ولم ينه عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، فإن مفهومه أنه لو نهى عنها لامتنعت، ويستلزم رفع الحكم، ومقتضاه جواز النسخ. وقد يؤخذ منه أن الإجماع لا يُنسَخ به؛ لكونه حصر وجوه المنع في نزول آية، أو نهي من النبيّ صلى الله عليه وسلم. (ومنها): وقوع الاجتهاد في الأحكام بين الصحابة رضي الله عنهم، وإنكار بعض المجتهدين على بعض بالنصّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2728 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: "تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَلَاثَةٌ: هَذَا أَحَدُهُمْ، لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ شَيْخٌ، يَرْوِي عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، يَرْوِى عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَالْحَسَنِ، مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو داود": هو سليمان بن سيف الْحَرَّانيّ الحافظ الثقة، من أفراد المصنّف.

و"مسلم بن إبراهيم": هو الأزديّ الْفَرَاهيديّ، أبو عمرو البصريّ الثقة المأمون

(1)

- "فتح" 5/ 222.

ص: 166

المكثر، من صغار [9] 62/ 2315. روى له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في خمس مواضع، برقم -2315 و 2728 و 4008 و 4858 و 4922.

و"إسماعيل بن مسلم" العبديّ، أبو محمد البصريّ القاضي، ثقة [6].

قال أحمد: ليس به بأس، ثقة. وقال ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقة.، زاد أبو حاتم: صالح الحديث. وقال أبو حاتم، عن مسلم بن إبراهيم: كان شعبة يقول: اذهبوا إلى إسماعيل بن مسلم العبديّ. وقال الدارقطنيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات".

روى له مسلم، والترمذيّ، والمصنّف، أخرج له في خمسة مواضع، برقم -2728 و 2739 و 5568 و 5569 و 5571.

و"محمد بن واسع" بن جابر بن الأخنس بن عائذ بن خارجة بن زياد بن شمس الأزديّ، أبو بكر، ويقال: أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة، عابد، كثير المناقب [5].

قال ابن المدينيّ: ما أعلمه سمع من أحد من الصحابة. وقال العجليّ: عابد ثقة، رجل صالح. وقال أبو حاتم: روى عن سالم، عن ابن عمر حديثًا منكرًا، وهو رجل صالحٌ من العبّاد. وقال الدارقطنيّ: عابدٌ ثقة، ولكن بُلي برواة ضعفاء. وقال سلّام بن أبي مطيع: حدّث رجل أيوب يومًا بحديث، فقال أيوب: من حدّثك بهذا؟ قال: محمد ابن واسع، قال: بخ. وقال ضمرة، عن ابن شَوْذب: لم يكن لمحمد بن واسع عبادة ظاهرة، وكان فتيا الناس إلى غيره، وإذا قيل: من أفضل أهل البصرة؟ قيل: محمد بن واسع. وقال مالك بن دينار: القرّاء ثلاثة: فقارىء للدينار، وقارىء للرحمن، وقارىء للملوك، وأبناء الدنيا، وإن محمد بن واسع من قرّاء الرحمن. وقال الأصمعيّ، عن سليمان التيميّ: ما أحدٌ أحبّ إليّ أن ألقى اللَّه تعالى بمثل صحيفته إلا محمد بن واسع. وقال مخلد بن الحسين، عن هشام: دعا مالكُ بن المنذر -وكان على شرطة البصرة- محمدَ بنَ واسع، فقال: اجلس على القضاء، فأبى. وقال موسى بن هارون: كان ناسكًا، عابدًا، وَرِعًا، رَفِيعًا، جليلاً، ثقةً، عالمًا، جمع الخير. وقال ابن حبّان في "الثقات": كان من العبّاد المتقشّفة، والزهّاد المتجرّدين للعبادة، وكان قد خرج إلى خراسان غازيًا، وفضائله ومناقبه كثيرة جدًّا. قال ابن سعد: مات بعد الحسن بعشر سنين. وقال جعفر بن سليمان: مات هو وثابت، ومالك بن دينار سنة (123) وقال خليفة: مات سنة (127).

روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وابن ماجه، وله عند مسلم، والمصنّف حديث واحدٌ حديث الباب فقط، إلا أن المصنّف أخرجه في موضعين هنا 49/ 2728، وفي

ص: 167

50/ 2739.

والحديث متفق عليه، وقد تقدم تمام البحث فيه في الحديث الذي قبله.

وقوله (قَالَ أبُو عَبْد الرَّحْمَنِ الخ) غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا بيان أن من يسمى بإسماعيل ابن مسلم ممن يروي الحديث ثلاثة أشخاص:

أما أحدهم فهو هَذَا الذي ذُكِرَ في هذا الإسناد، وقال عنه المصنّف هنا: لَا بَأْسَ بِهِ، وقد ذكرت ترجمته آنفًا، وأن المحدثين كلهم على أنه ثقة، ومنهم المصنّف، كما تقدم، عن "تهذيب الكمال" 3/ 196 - 198، و"تهذيب التهذيب" 3/ 722. و"التقريب" ص 35.

وأما الثاني: فالظاهر أنه المخزوميّ مولاهم المكيّ، فإن المصنّف قال: شَيْخٌ، يَرْوِي عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، لَا بَأْسَ بِهِ. ولم أجد من قيل: إنه يروي عن أبي الطفيل، إلا اثنين:

1 -

إسماعيل بن مسلم المكيّ، وهو الذي يأتي بعد هذا، وليس هو المقصود هنا قطعًا، لأن هذا قال عنه المصنّف: لا بأس به، وقال في ذاك متروك الحديث.

2 -

وإسماعيل بن مسلم المخزوميّ، فإن الحافظ الذهبيّ قال في "الميزان" 1/ 412 - : يروي عن سعيد بن جبير، وأبي الطفيل، صدوق مقلّ. وعنه وكيع، وجماعة. وهذا هو الذي يميل إليه القلب، فقد وثقه ابن معين. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: مكيّ صالح الحديث، قاله في "تهذيب الكمال"

(1)

. وقال في "تهذيب التهذيب": وقال النسائيّ في "التمييز": ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"

(2)

. وهو ليس من رجال الكتب الستة، وإنما يُذكر للتمييز.

وأما الثالث: فهو إِسْمَاعيلُ بْنُ مُسْلِمٍ المكيّ، أبو إسحاق البصريّ، سكن مكة، ولكثرة مجاورته قيل له: المكيّ، وكان فقيهًا مفتيًا. يَرْوِي عَنِ الزُّهْرِيَّ، وَالْحَسَنُ، وغيرهما: قال عنه المصنّف: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وعن أحمد: منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال ابن المدينيّ: لا يكتب حديثه. وقال الفلاس: كان ضعيفًا في الحديث، يَهِم فيه. وقال الجوزجانيّ: واه جدًّا. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث مختلط. وقال النسائيّ مرّة: ليس بثقة. إلى غير ذلك من الأقوال المذكورة في "تهذيب الكمال" 3/ 198 - 204. و"تهذب التهذيب" 1/ 167 - 168. وهو من رجال الترمذيّ، وابن ماجه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: جملة من اسمه إسماعيل بن مسلم، ممن له ذكر في

(1)

-"تهذيب الكمال" 3/ 205.

(2)

- "تهذيب "التهذيب" 1/ 168.

ص: 168

كتب الرجال تسعة، وقد ذكرهم الحافظ في "التقريب":

1 -

إسماعيل بن مسلم العبديّ المتقدّم، وهو من رجال مسلم، والترمذيّ، والمصنّف.

2 -

إسماعيل بن مسلم المكيّ الضعيف المتقدّم، وهو من رجال الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

إسماعيل بن مسلم السَّكونيّ، أبو الحسن ابن أبي زياد الشاميّ، قاضي الموصل، متروك، كذّبوه من [8]. من رجال ابن ماجه.

والباقون ذكروا للتمييز، وهم:

1 -

إسماعيل بن مسلم الطائيّ مجهول من [7].

2 -

إسماعيل بن مسلم المخزومي المتقدّم.

3 -

إسماعيل بن مسلم اليشكريّ، مجهول، وقيل: هو السكونيّ.

4 -

إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك، والد محمد، صدوق [6].

5 -

إسماعيل بن مسلم بن يسار، صدوق [7].

6 -

إسماعيل ابن مسلم الكوفيّ، صدوق [6]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2729 -

(أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يَحْيَى، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، وَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ ح وَأَنْبَأَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، كُلُّهُمْ عَنْ أَنَسٍ، سَمِعُوهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا، لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مجاهد بن موسى) الْخُوَارَزْمي الْخُتَّليّ، أبو علي نزيل بغداد [10] 85/ 102.

2 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدورقي البغدادي، ثقة حافظ [10] 21/ 22.

3 -

(هشيم) بن بَشِير الواسطي، ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي [7] 88/ 109.

4 -

(يحيى) بن أبي إسحاق الحضرمي مولاهم النحوي البصري، صدوق ربما أخطأ [5] 1/ 1438.

5 -

(عبد العزيز بن صهيب) البناني البصري، ثقة [4] 18/ 19.

6 -

(حميد الطويل) ابن أبي حميد، أبو عبيدة البصري، ثقة يدلس [5] 87/ 108.

7 -

(أنس) بن مالك الصحابي الشهير رضي الله عنه 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (140) من رباعيات

ص: 169

الكتاب، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأنه مسلسل بالبصريين غير شيخيه وهشيمًا كما سبق آنفًا، وأن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة روى (2286) حديثًا، وأنه آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن هشيم بن بشير (أَنْبَأنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) البنانيّ (وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ)(وَيَحْيَى ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، كلُّهُمْ عَنْ أَنَسٍ) ابن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنهم (سَمِعُوهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: لَبَّيْكَ) سيأتي بيان اشتقاق التلبية، ومعناها في الباب - 54/ 2747 - إن شاء اللَّه تعالى (عُمْرَة وَحَجًّا) منصوبان بفعل محذوف، تقديره: أريد عمرة وحجا، أو نويت عمرة وجحا. قاله أبو البقاء العكبريّ في "إعراب الحديث"

(1)

(لَبِّيْكَ عُمْرَة وَحَجَّا) كرره للتأكيد. وهذا من أصرح ما روي في كون النبيّ صلى الله عليه وسلم قارنًا، وهو موضع استدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- على الترجمة، ودلالته عليها واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-49/ 2729 و 2730 و 2731 وفي "الكبرى" 49/ 3709 و 3710 و 3711. وأخرجه (خ) في "الحج" 1551 و 1558 و 1715 وفي "المغازي" 4354 (م) في "الحج" 1232 و 1251 (د) في "المناسك" 1795 و 1796 (ت) في "الحج" 821 (ق) في "المناسك" 2968 و 2969 (أحمد) في "مسند المكثرين" 5125 و 13395 (الدارمي) في "المناسك" 1924. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2730 -

(أَخْبَرَنَا هَنِّادُ بْنُ السِّرِيِّ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُلَبِّي بِهمَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو الأحوص": هو سلاّم بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ الثقة الثبت. و"أبو إسحاق": هو عمرو بن عبد اللَّه السبيعيّ الكوفيّ المشهور. و"أبو أسماء" الصيقل -بالصاد المهملة- ويقال: السيقل -بالسين المهملة- مجهول [5].

(1)

-"إعراب الحديث النبويّ" ص 104.

ص: 170

روى عن أنس حديث الباب فقط. وعنه أبو إسحاق السبيعيّ. قال ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة: لا أعرف اسمه. وذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرّد به المصنّف بحديث الباب فقط.

والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2731 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يُحَدِّثُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يُلَبِّي بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا، فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، فَلَقِيتُ أَنَسًا، فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ أَنَسٌ: مَا تَعُدُّونَا إِلاَّ صِبْيَانًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا مَعًا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدموا قبل حديث إلا "بكر بن عبد اللَّه المزنيّ" أبا عبد اللَّه البصريّ الثقة الثبت الجليل [3] 87/ 107.

وقوله: "ما تعدّونا إلا صبيانا" أي كأنكم ما تأخذون بقولنا؛ لعدّكم إيانا صبيانًا حينئذ. قال النوويّ: يحتجّ به من يقول بالقران، وقد قدّمنا أن الصحيح المختار في حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان في أول إحرامه مفردًا، ثم أدخل العمرة على الحجّ، فصار قارنًا، وجمعنا بين الأحاديث أحسن جمع، فحديث ابن عمر هنا محمول على أول إحرامه صلى الله عليه وسلم، وحديث أنس محمول على أواخره، وأثنائه، وكأنه لم يسمعه أوّلاً، ولا بدّ من هذا التأويل، أو نحوه؛ لتكون رواية أنس موافقة لرواية الأكثرين، كما سبق. واللَّه أعلم انتهى كلام النوويّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "من يقول بالقران". هو الصحيح، وممن احتجّ به في مشروعيّة القرآن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، حيث أورده في "باب القران" محتجًّا به عليه.

وقد قدّمنا أن الأرجح كون القران أفضل لمن ساق الهدي؛ اتَّباعًا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والتمتّع أفضل لمن لم يسق الهدي؛ عملاً بأمره صلى الله عليه وسلم.

والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

-"شرح مسلم" 8/ 441.

ص: 171

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌50 - (التَّمَتُعُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "التمتّع": مصدر تمتّع، قال القاري: التمتّع في اللغة بمعنى التلذّذ، والانتفاع بالشيء، قال: وإنما سمّي متمتّعًا لانتفاعه بالتقرّب إلى اللَّه تعالى بالعبادتين، أو لتمتّعه بمحظورات الإحرام بعد التحلّل من العمرة، أو لانتفاعه بسقوط العودة إلى الميقات، ولا يبعُدُ أن يقال: لتمتعه بالحياة حتى أدرك إحرام الحجّ انتهى.

وقال الفيّوميّ: وتمتّعت به: انتفعت، ومنه تمتِّع بالعمرة إلى الحجّ: إذا أحرم بالعمرة في أشهر الحجّ، وبعد تمامها يُحرم بالحجّ، فإنه بالفراغ من أعمالها يَحلُ له ما كان حرُم عليه، فمن ثمّ يسمّى متمتعًا انتهى.

والتمتّع شرعًا: أن يهلّ بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحجّ، فإذا فرغ منها أحرم بالحجّ من عامه. قال الحافظ: أما التمتّع، فالمعروف أنه الاعتمار في أشهر الحجّ، ثمّ التحلّل من تلك العمرة، والإهلالُ بالحجّ في تلك السنة، ويُطلق التمتّع في عرف السلف على القران أيضًا. قال ابن عبد البرّ: لا خلاف بين العلماء أن التمتّع المراد بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} الآية [البقرة: 196] أنه الاعتمار في أشهر الحجّ قبل الحجّ. قال: ومن التمتّع أيضًا القران؛ لأنه تمتّع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده، ومن التمتّع أيضًا فسخ الحجّ إلى العمرة انتهى.

وقال ابن قُدامة في "المغني": قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أهلّ بعمرة في أشهر الحجّ من أهل الآفاق من الميقات، وقدم مكة، ففرغ منها، وأقام بها، وحجّ من عامه أنه متمتّع. وقال أيضًا: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في أن من اعتمر في غير أشهر الحجّ عمرة، وحلّ منها قبل أشهر الحجّ أنه لا يكون متمتّعًا، إلا قولين شاذّين: أحدهما عن طاوس أنه قال: إذا اعتمرت في غير أشهر الحجّ، ثم أقمت حتى الحجّ، فأنت متمتّع.

والثاني: عن الحسن أنه قال: من اعتمر بعد النحر فهي متمع. قال ابن المنذر: لا نعلم أحدًا قال بواحد من هذين القولين انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2732 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُخَرِّمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ

(1)

- راجع "المرعاة" 8/ 458 - 459.

ص: 172

الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَالَ لِلنَّاسِ:«مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى يَقْضِىَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لْيُهِلَّ بِالْحَجِّ، ثُمَّ لْيُهْدِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ» . فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ، وَمَشَى أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ رَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ، فَصَلَّى عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحِلَّ، مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَهْدَى، وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنَ النَّاسِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه بن المبارك) أبو جعفر البغداديّ الحافظ الثقة [11] 43/ 50.

[تنبيه]، قوله:"المخرميّ" بضم الميم، وفتح المعجمة، وكسر الراء المشدّدة- نسبة إلى مُخرّم كمحدِّثِ: محلّة ببغداد. واللَّه تعالى أعلم.

2 -

(حُجين بن المثنّى) أبو عُمير اليماميّ، سكن بغداد، وولي قضاء خراسان، ثقة [9] 180/ 1150.

3 -

(الليث) بن سعد، أبو الحارث الفهمي المصري الإمام الحجة الثبت [7] 31/ 35.

4 -

(عُقَيل) بن خالد الأيلي أبو خالد الأموي مولاهم، ثقة ثبت [6] 125/ 187.

5 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري الإمام الحجة المشهور [4] 1/ 1.

6 -

(سالم بن عبد اللَّه) بن عمر العدوي المدني الفقيه ثقة ثبت [3] 23/ 490.

7 -

(عبد اللَّه بن عمر) بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، ورواية الابن عن أبيه، وفيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد العبادلة الأربعة، واحد المكثرين السبعة، روى (2630) من الأحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 173

شرح الحديث

(عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "تمتّع" هو محمول على التمتّع اللغويّ، وهو القران، ومعناه أنه صلى الله عليه وسلم أحرم أوّلاً بالحجّ مفردًا، ثم أحرم بالعمرة، فصار قارنًا في آخر أمره، والقارن هو متمتّع من حيث اللغة، ومن حيث المعنى؛ لأنه ترفّهَ باتحاد الميقات، والإحرام، والفعل. ويتعيّن هذا التأويل هنا؛ لما قدمناه في الأبواب السابقة من الجمع بين الأحاديث في ذلك، وممن روى إفراد النبيّ صلى الله عليه وسلم ابن عمر الراوي هنا، وقد ذكره مسلم بعد هذا انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا الذي رُوي هنا عن ابن عمر من أنه صلى الله عليه وسلم تمتّع مخالف لما جاء عنه في الرواية الأخرى من أنه أفرد بالحجّ، واضطراب قوليه يدلّ على أنه لم يكن عنده من تحقيق الأمر ما كان عند من جزم بالأمر، كما فعل أنسٌ على ما تقدّم، حيث قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لبيك بحجة وعمرة".

ثم اعلم أن كلّ الرواة الذين رووا إحرام النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس منهم من قال: إنه صلى الله عليه وسلم حلّ من إحرامه ذلك حتى فرغ من عمل الحجّ، وإن كان قد أطلق عليه لفظ التمتع، بل قد قال ابن عمر في هذا الحديث: إنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالعمرة، ثم أهلّ بالحجّ، ولم يقل: إنه حلَّ من عمرته، بل قال في آخر الحديث بعد أن فرغ من طواف القدوم، أنه صلى الله عليه وسلم لم يَحلُل من شيء حَرُمَ عليه حتى قضى حجّه. وهذا نصّ في أنه لم يكن متمتّعًا، فتعيّن تأويل قوله: تمتّع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أن يكون معناه: قَرَنَ؛ لأن القارن يترفّه بإسقاط أحد العملين، وهذا الذي يدلّ عليه قوله بعد هذا، فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحجّ. ويحتمل أن يكون معناه أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا أذن في التمتّع أضافه إليه، وفيه بُعدٌ انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "تمتّع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ". قال المهلّب: معناه أمر بذلك؛ لأنه كان ينكر على أنس قوله: إنه قرن، ويقول: بل كان مفردًا. وأما قوله: "وبدأ فأهلّ بالعمرة"، فمعناه أمرهم بالتمتع، وهو أن يُهلّوا بالعمرة أوّلاً، ويقدّموها قبل الحجّ، قال: ولا بدّ من هذا التأويل لدفع التناقض عن ابن عمر.

قال الحافظ: لم يتعيّن هذا التأويل المتعسّف، وقد قال ابن المنيّر في "الحاشية": إنّ حَمْلَ قوله: "تمتع" على معنى أَمَرَ من أبعد التأويلات، والاستشهاد عليه بقوله:"رجم"، وإنما أمر بالرجم من أوهن الاستشهادات؛ لأن الرجم من وظيفة الإمام، والذي يتولاّه إنما يتولاّه نيابة عنه، وأما أعمال الحجّ، من إفراد، وقران، وتمتّع، فإنه

(1)

- "شرح مسلم للنوويّ" 8/ 434.

(2)

- "المفهم" 3/ 352.

ص: 174

وظيفة كلّ أحد عن نفسه. ثم أجاز تاويلاً آخر، وهو أن الراوي عَهِد أنّ الناس لا يفعلون إلا كفعله، لا سيما مع قوله:"خذوا عني مناسككم"، فلما تحقّق أن الناس تمتّعوا ظنّ أنه صلى الله عليه وسلم تمتّع، فأطلق ذلك.

قال الحافظ: ولم يتعين هذا أيضًا، بل يحتمل أن يكون معنى قوله:"تمتع" محمولاً على مدلوله اللغويّ، وهو الانتفاع لاسقاط عمل العمرة، والخروج إلى ميقاتها، وغيرها، بل قال النوويّ: إن هذا هو المتعيّن. قال: وقوله: "بالعمرة إلى الحجّ"، أي بإدخال العمرة على الحجّ، وقد قدّمنا في "باب التمتّع والقران" تقرير هذا التأويل.

وإنما المشكل هنا قوله: "بدأ، فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحجّ"؛ لأن الجمع بين الأحاديث الكثيرة في هذا الباب استقرّ كما تقدّم على أنه بدأ أوّلاً بالحجّ، ثم أدخل عليه العمرة، وهذا بالعكس.

وأجيب عنه بأن المراد به صورة الإهلال، أي لما أدخل العمرة على الحجّ لبّى بهما، فقال:"لبيك بعمرة، وحجة معًا".

وهذا مطابق لحديث أنس رضي الله عنه المتقدّم، لكن قد أنكر ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - ذلك على أنس، فيحتمل أن يُحمل إنكار ابن عمر عليه كونه أطلق أنه صلى الله عليه وسلم جمع بينهما، أي في ابتداء الأمر. وُيعيّن هذا التأويل قوله في نفس الحديث:"وتمتّع الناس الخ"، فإن الذين تمتّعوا إنما بدؤوا بالحجّ، لكن فسخوا حجهم إلى العمرة حتى حلّوا بعد ذلك بمكة، ثم حجّوا من عامهم انتهى كلام الحافظ

(1)

.

وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: اعلم: أن التمتّع عند الصحابة كان شاملاً للقران أيضًا، وإطلاقه على ما يقابل القرآان اصطلاح حادث، وقد جاء أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، فالوجه أن يراد بالتمتع ههنا في شأنه صلى الله عليه وسلم القران؛ توفيقًا بين الأحاديث. والمعنى انتفع بالعمرة إلى أن حجّ، مع الجمع بينهما في الإحرام. ومعنى قوله:"بدأ بالعمرة" أنه قدّم العمرة ذكراً في التلبية، فقال:"لبيك عمرةً وحجًّا" انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- تحقيق نفيس جدًّا، وهو خلاصة ما تقدّم في كلام العلماء الذين ذكرنا قولهم آنفًا. واللَّه تعالى أعلم.

(فِي حَجَّةِ الْوَدَاع، بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجَّ) أي بإدخال العمرة على الحجّ، حيث بدأ بالحجّ، ثم أدخل عليه العمرَة، فصار قارنًا، فـ"إلى" بمعنى "على"(وَأَهْدَى، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ) من عطف المبين على المبيّن (بِذِي الْحُلَيْفَةِ) هكذا نسخ "المجتبى""بذي الحليفة" بالباء، ولفظ "الكبرى":"من ذي الحليفة"، وهو الذي في "الصحيحين"، وهو واضح، ولما في "المجتبى" أيضًا وجه صحيح، وهو أن الباء فيه بمعنى "من"، كما قول الشاعر:

(1)

- "فتح" 4/ 358 - 359.

ص: 175

شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ

مَتَى لُجَجٍ

(1)

خُضْرٍ لَهُنّ نَئِيجُ

وفيه الندب إلى سوق الهدي من المواقيت، ومن الأماكن البعيدة. قال الحافظ: وهي من السنن التي أغفلها كثير من الناس انتهى.

(وَبَدَأ) بالهمزة، وفي بعض النسخ:"وبدا" بالألف، وهو مخفّف "ابدأ"(رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَهَلّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بالْحَجِّ) قد تقدّم قريبًا أن معناه أنه صلى الله عليه وسلم في أثناء تلبيته بدأ بالعمرة، ثم أتبعها الحجّ، فقَال:"لبيك عمرة، وحجا"، لا أنه أول ما أحرم أحرم بالعمرة، ثم أدخل عليها الحجّ، فإن هذا خلاف الأحاديث الصحيحة الكثيرة، كما تقدّم، فيتعيّن تأويله هكذا.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: هو محمول على التلبية في أثناء الإحرام، وليس المراد أنه أحرم في أول أمره بعمرة، ثم أحرم بحجّ؛ لأنه يفضي إلى مخالفة الأحاديث السابقة، وقد سبق بيان الجمع بين الروايات، فوجب تأويل هذا على موافقتها، ويؤيّد هذا التأويل قوله:"تمتع الناس مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحجّ، ومعلوم أن كثيرًا منهم، أو أكثرهم أحرموا بالحجّ أوّلاً مفردًا، وإنما فسخوه إلى العمرة آخرًا، فصاروا متمتعين، فقوله: "وتمتع الناس" يعني في آخر الأمر. انتهى كلام النوويّ

(2)

.

(وَتَمَتَعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِالعُمرَةِ إِلَى الْحَجِّ) معنى تمتّع الناس كما سبق قريبًا أنهم بدءوا بالحجّ، ثم فسخوه بعمل العمرة، فتحلّلوا (فَكَانَ مِنَ النّّاس مَنْ أَهْدَى) أي قدّم الهدي (فَسَاق الْهَدْيَ) من عطف التفسير على المفسّر (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ) أي قارب دخول مكة؛ لأنه قد جاء أنه قال لهم ذلك بسرف (قَال لِلنَّاسِ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى) أي سواء كان قارنا، أو معتمرًا، وبهذا أخذ الحنفيّة، والحنبلية، فإن عندهم أن من اعتمر، وأهدى لا يتحلل حتى ينحر هديه يوم النحر، وهو المذهب الصحيح المختار؛ لظواهر الأحاديث.

قال في "الفتح": واستدلّ به على أن من اعتمر، فساق هديًا، لا يتحلّل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، وقد تقدّم حديث حفصة، نحوه، ويأتي حديث عائشة من طريق عُقيل، عن الزهريّ، عن عروة، عنها بلفظ:"من أحرم بعمرة، فأهدى، فلا يحلّ حتى ينحر".

وتأول ذلك المالكيّة، والشافعيّة على أن معناه: ومن أحرم بعمرة، وأهدى، فليُهلّ بالحجّ، ولا يحلّ حتى ينحر هديه. ولا يخفى ما فيه، فإنه خلاف ظاهر الأحاديث المذكورة. انتهى

(3)

.

(فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ) تقدّم ضبطه بضم أوله، من الإحلال، وفتحه، من الحِلِّ (مِن شَيْءٍ

(1)

أي من لُجَجٍ.

(2)

- "شرح مسلم" 8/ 435.

(3)

- "فتح" 4/ 220.

ص: 176

حَرُمَ مِنْهُ) أي منع منه لأجل الإحرام (حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ) أي حتى ينتهي من عمل الحجّ بذبح الهدي يوم النحر

(وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بالْبَيْتِ) للعمرة (وَبالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أي وليطف بالصفا والمروة، أي لِيَسْعَ بينهما (وَلْيُقَصَّر) شعر رأسه. قال النوويّ: معناه أنه يفعل الطواف، والسعي، والتقصير، ويصير حلالاً. وهذا دليل على أن الحلق، أو التقصير نسك من مناسك الحجّ، وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعيّ، وجماهير العلماء. وقيل: استباحة محظور، وليس بنسك. وهذا ضعيف انتهى.

(وَلْيَحْلِلْ) أمر بمعنى الخبر، أي يصير بالتقصير حلالاً من العمرة، فله فعل ما كان محظورًا عليه في الإحرام، من الطيب، واللباس، وإتيان الحلائل، والصيد، وغير ذلك.

وإنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالتقصير دون الحلق، مع أنه أفضل؛ ليبقى للمتمتع شعر يحلقه في الحجّ، فإن الحلق في تحلل الحجّ أفضل منه في تحلّل العمرة. وقيل: إن قوله: "وليحلل" أمر باق على حاله، وهو أمر إباحة.

(ثُمَّ لِيُهِلَّ بالْحَجِّ) أي يحرم بالحجّ في وقت الخروج إلى عرفات، لا أنه يُهلّ به عقب تحللِّه من العمَرة، ولهذا قال:"ثم ليُهلّ"، فأتى بـ "ثمّ" التي هي للتراخي والمهلة. قاله النوويّ (ثُمَّ لِيُهْدِ) وفي نسخة:"ولْيُهْد".

وهذا معنى قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي} الآية [البقرة: 196]. قال القرطبيّ: ذهب جماعة من السلف إلى أنه شاة، وهو قول مالك. وقال جماعة أخرى: هو بقرة دون بقرة، ووبَدَنَةٌ دُونَ بَدَنَةٍ. وقيل: المراد بدنة، أو بقرة، أو شاة، أو شرك في دم انتهى

(1)

.

وقال النوويّ: المراد به هدي التمتع، فهو واجب بشروط، اتفق أصحابنا على أربعة منها، واختلفوا في ثلاثة، أحد الأربعة: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحجّ. الثاني: أن يحجّ من عامه. الثالث: أن يكون أفقيًا، لا من حاضري المسجد، وحاضروه أهل الحرم، ومن كان منه على مسافة، لا تقصر فيها الصلاة. الرابع: أن لا يعود إلى الميقات لإحرام الحجّ.

وأما الثلاثة، فأحدها: نيّة التمتع. والثاني: كون الحجّ والعمرة في سنة في شهر واحد. والأصحّ أن هذه الثلاثة

(2)

، لا تشترط. واللَّه أعلم. انتهى

(3)

.

(1)

-"المفهم" 3/ 353.

(2)

- لم يذكر الثالث في شرح مسلم، ولعله سقط سهوًا، وقد ذكره في "شرح المهذّب"، وهو وقوع النسكين عن شخص واحد، فقيل: يشترط، وقيل: لا يشترط، وذكر له صوارًا، منها: أن يستأجره شخص لحجّ، وآخر لعمرة. راجع "المجموع" 7/ 176.

(3)

- "شرح مسلم" 8/ 435.

ص: 177

(وَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا) المراد لم يجده هناك، إما لعدم الهدي، وإما لعدم ثمنه، وإما لكونه يباع بأكثر من ثمن المثل، وإما لكونه موجودًا، لكنه لا يبيعه صاحبه، ففي كلّ هذه الصور يكون عادمًا للهدي، فينتقل إلى الصوم، سواء كان واجدًا لثمنه في بلده، أم لا.

(فَلْيَصُمْ ثَلَاَثةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) أي بعد إحرامه بالحجّ. قال النوويّ: هذا هو الأفضل، فإن صامها قبل الإهلال بالحجّ أجزأه على الصحيح. وأما قبل التحلّل من العمرة فلا، على الصحيح. قاله مالك، وجوّزه الثوريّ، وأصحاب الرأي، وعلى الأول، فمن استحبّ صيام عرفة بعرفة قال: يُحرم يوم السابع ليصوم السابع، والثامن، والتاسع، وإلا فيُحرم وم السادس؛ ليفطر بعرفة، فإن فاته الصوم قضاه. وقيل: يسقط، ويستقرّ الهدي في ذمته، وهو قول الحنفية. وفي صوم أيام التشريق لهذا قولان للشافعية، أظهرهما لا يجوز. قال النوويّ: وأصحهما من حيث الدليل الجواز انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بالجواز هو الحقّ؛ لما أخرجه البخاريّ من حديث عائشة، وابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهم -، قالا:"لم يُرخّص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي".

وأخرج عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - أيضًا، قال:"الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحجّ إلى يوم عرفة، فإن لم يجد هديًا، ولم يصم صام أيام منّى". وعن عائشة مثله. والراجح أن مثل هذا له حكم الرفع، كما هو مقرّر في محله. واللَّه تعالى أعلم.

وقال القرطبّي -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "فليصم ثلاثة أيام في الحجّ". ذهب مالك، والشافعيّ إلى أن ذلك لا يكون إلا بعد الإحرام بالحجّ، وهو مقتضى الآية والحديث.

وقال أبو حنيفة، والثوريّ: يصحّ صوم الثلاثة الأيام بعد الإحرام بالعمرة، وقبل الإحرام بالحجّ، ولا يصومها بعد أيام الحجّ، وهو مخالف لنصّ الكتاب والسنّة. والاختيار عندنا تقديم صومها في أول أيام الإحرام، وآخر وقتها آخر أيام التشريق عندنا، وعند الشافعيّ، فمن فاته صومها في هذه الأيام صامها عندنا بعدُ. وقال أبو حنيفة: آخر وقتها يوم عرفة، فمن لم يصمها إلى يوم عرفة، فلا صيام عليه، ووجب عليه الهدي، وقال مثله الثوريّ، إذا ترك صيامها أيام الحجّ، وللشافعيّ قولٌ كقول أبي حنيفة انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه مالك، والشافعيّ -رحمهما اللَّه تعالى-

(1)

-"المفهم" 3/ 353.

ص: 178

أرجح عندي لموافقته لظاهر النصّ الصريح. واللَّه تعالى أعلم.

(وَسَبْعَةَ إِذا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ) هذا موافق لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} الآية [البقرة: 196].

قال النوويّ: وفي المراد بالرجوع خلاف، والصحيح في مذهب الشافعيّ أنه إذا رجع إلى أهله، وهذا هو الصواب؛ لهذا الحديث الصحيح الصريح. والثاني: إذا فرغ من الحجّ، ورجع إلى مكة من مني، وهذان القولان للشافعيّ، ومالك، وبالثاني قال أبو حنيفه.

قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: "إذا رجع إلى أهله" تفسير لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} ، وفيه أنه ليس المراد إذا فرغتم من النسك، كما قاله علماؤنا، ولا يخفى أن هذا مرفوع، لا من قول ابن عمر انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا إنصاف من السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-، حيث ترك ما عليه أهل مذهبه، لمخالفته النصّ الصريح، وجزاه اللَّه تعالى عن السنة خيرًا، وياليت كلّ أهل مذهب كانوا مثله، فإن السنة هي القاضية على كلّ رأي، ومذهب، وليس لأحد من الناس أن يحكم عليها بما يراه هو، ولا غيره من ذوي الرأي، قال تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} ، وقال:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، جعلنا اللَّه تعالى ممن ينصر السنة، ويذبّ عنها، بمنه وكرمه، إنه أرحم الراحمين، وأكرم المسؤولين.

قال النوويّ: ولو لم يصم الثلاثة، ولا السبعة حتى عاد إلى وطنه لزمه صوم عشرة أيام، وفي اشتراط التفريق بين الثلاثة والسبعة، إذا أراد صومها خلاف، قيل: لا يجب، والصحيح أنه يجب التفريق الواقع في الأدا، وهو بأربعة أيام، ومسافة الطريق بين مكة ووطنه. واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

(فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) طواف القدوم (حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ) أي ركن الحجر الأسود (أَوَّلَ شَيْءٍ) منصوب على الظرفية، متعلّق بما قبله، أي في ابتداء طوافه (ثُمَّ خَبَّ) أي أسرع، يقال: خبّ في الأمر خَبَبًا، من باب طلب: أسرع الأخذ فيه، ومنه الخببُ لضرب من الْعَدْو، وهو خطوٌ فسيح، دون العَنَق

(2)

. قاله الفيّومي (ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ) أي ثلاثة أشواط (مِنَ السَّبْعِ، وَمَشَى) على هينته بسكينة ووقار (أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ رَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالبَيْتِ) أي فرغ منه (فَصَلَّى عِنْدَ الْمَقَامِ) أي مقام إبراهيم عليه السلام، وهو حجر كان يقوم عليه إبراهيم عليه السلام وقت بناء الكعبة، ففي حديث ابن

(1)

-"شرح مسلم" 8/ 436.

(2)

- العنق -بفتحتين -: ضرب من السير فسيح سريع. اهـ "المصباح".

ص: 179

عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - في قصّة إبراهيم وإسماعيل - عليهما الصلاة والسلام -: "قال: -يعني إبراهيم- يا إسماعيل، إن اللَّه أمرني أن أبني ههنا بيتًا، وأشار إلى أَكَمَة مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام عليه، وهو يبني

" الحديث. أخرجه البخاريّ

(1)

.

(رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ) وهما واجبتان عند الحنفية، وهو قول لمالك والشافعيّ؛ للأمر بهما في قوله تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} الآية [البقرة: 125]، ولمواظبته صلى الله عليه وسلم عليهما. وقال أحمد: صلاة الطواف سنة، وهو الأصحّ عند الشافعيّة، حملوا الأمر في الآية على الاستحباب.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بالاستحباب هو المختار؛ لحديث: "خمس صلوات كتبهنّ اللَّه على عباده. . ."الحديث.

ويستحبّ أن يقرأ في الركعة الأولى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وفي الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ لما في "صحيح مسلم" من حديث جابر الطويل: "ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} الآية [البقرة: 125]، فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبي

(2)

يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: كان يقرأ في الركعتين {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} . وسيأتي للمصنّف -164/ 2963 - بسند صحيح، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما -: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى مقام إبراهيم، قرأ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، فصلى ركعتين، فقرأ فاتحة الكتاب، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، ثم عاد إلى الركن، فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا".

(فَانْصَرَفَ فَأتى الصَّفَا) ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم توجّه إلى الصفا عقب ركعتي الطواف قبل أن يسلتم الحجر، وأنه لم يستلمه حال الطواف، لكن ثبت في حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - الطويل عند مسلم في صفة حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ثم رجع إلى البيت، فاستلم الركن، ثم خرج من الباب إلى الصفا"، وسيأتي للمصنّف -156/ 2947 - في حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يستلم الركن اليماني، والحجر في كلّ طواف". ولأبي داوداد: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني، والحجر الأسود في كلّ طوفة"(فَطَافَ) أي سعى (بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أي بينهما (سَبْعَةَ

(1)

- انظر "الفتح" في "كتاب أحاديث الأنبياء" 6/ 255.

(2)

- القائل هو جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين المعروف بالصادق. وأبوه هو المعروف بالباقر.

ص: 180

أَطْوَافٍ) أي سبعة أشواط، رمل فيها بين الميلين الأخضرين (ثُمَّ لَمْ يَحِلَّ، مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ) أي بقي على إحرامه لم يحلّ له شيء من محظورات الإحرام (حَتَّى قَضَى حَجَّهُ) أي أدّى أكثر أعمال حجه من الوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة يوم النحر، وحلقه رأسه (وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ) أي دفع، قال الفيّوميّ: أفاض الناس من عرفات: دفعوا منها، وكلّ دفعة إفاضة، وأفاضوا من مني إلى مكة يوم النحر: رجعوا إليها، ومنه طواف الإفاضة، أي طواف الرجوع من مني إلى مكة انتهى.

(فَطَافَ بِالْبَيْتِ) طواف الإضافة (ثُمّ حَلَّ مِنْ كُلَّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ) أي مُنع منه، ومنه إتيان الحلائل (وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَهْدَى)"مَنْ" اسم موصول في محلّ رفع فاعل "فَعَلَ" مؤخّر، و"مثلَ" مفعول مقدّم، أي فعل الذين ساقوا الهدي من الصحابة رضي الله عنهم مثل فعله صلى الله عليه وسلم (وَسَاقَ الْهَدْيَ) عطف تفسير لـ"أهدى"(مِنَ النَّاسِ) بيان لمن أهدى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-50/ 2732 و 103/ 2862 و 142/ 2930 و 150/ 2940 و151/ 2941 و 152/ 2942 و 153/ 2943 و155/ 2946 و 2947/ 156 و 2948 و 157/ 2949 و 158/ 2950 و 2951 و 2952 و 2953 و 162/ 2960 و 167/ 2966 و 174/ 2976 -

وفي "الكبرى" 50/ 3712 و 103/ 3845 و 141/ 3917 و 150/ 3930 و 151/ 3931 و 3932 و 3933153/ 3935 و 155/ 3938 و 3939.

وأخرجه (خ) في "الوضوء" 166 و"الصلاة" 396 و 492 و"الحج" 1541 و 1573 و 1574 و 1603 و 16041616 و 1617 و 1624 و 1627 و 1744 و 1646 و 1647 و 1692 و 1794 (م) في "الحج" 1186 و 1187 و 1227 و 1234 و 1259 و 1261 و 1268 و 1257 و (د) في "المناسك" 1771 و 1772 و 1805 و 1865 و 1891 و 1904 و "اللباس" 40641 و"الترجّل" 4210 و (ت) في "الحجّ" 818 و 824 و 861 (ق) في "المناسك" 2916 و 2946 و 2950 و 2959 و 2974 و 2988 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4448 و 4571 و 4654 و 4614 و 4907 و 4829 و 4872 و 4963 و 5179 و 5216 و 5378 و 5421 و 5703 و 5726 و 5860 و 5907 و 6011 و 6202

ص: 181

و 6397 و 5726 و5860 و 5907 و 6011 و 6202 و 6397 و 6427 (الموطأ) في "الحجّ" 714 و 740 و 742 و 817 و 923 و (الدارمي) في "المناسك" 1838 و 1841 و 1842 و 1927 و 1931. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعية التمتع، وقد تقدّم أن التمتع يطلق على القران، وحديث الباب يكون دليلاً على التمتعين، فبالنسبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والصحابة الذين ساقوا الهدي معه فهو قران، وبالنسبة للذين لم يسوقوا الهدي، فتمتّعٌ بالمعنى المعروف عند الفقهاء. (ومنها): مشروعية سوق الهدي من الميقات لمن تيسّر له. (ومنها): أن من تمتع، ولم يسق الهدي، تحلّل بعد الطواف والسعي. (ومنها): أن قوله: "وليقصّر" يدلّ على أن التقصير، أو الحلق نسك من مناسك الحجّ، وبه قال الجمهور، وقيل: إنه يستباح به المحظور، وليس بنسك، وهو ضعيف. (ومنها): استحباب طواف القدوم، واستحباب الرمل في الأشواط الثلاثة منه، والمشي على الهِينة في البواقي. (ومنها): استحباب استلام الحجر الأسود في أول طوافه، وكذا كلما مرّ عليه. (ومنها): استحباب صلاة ركعتي الطواف، عند مقام إبراهيم عليه السلام. (ومنها): مشروعية السعي بين الصفا والمروة. (ومنها): مشروعية طواف الإفاضة يوم النحر، وأنه يحل به للمحرم كلّ شيء حرم عليه، من محظورات الإحرام، مطلقًا. (ومنها): وجوب الهدي لمن تمتع، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحجّ، وسبعة إذا رجع إلى أهله. (ومنها): أن قوله: "ثم لم يحلّ من شيء حرُم منه حتى قضى حجه" يردّ قول من قال: إنه صلى الله عليه وسلم كان متمتّعًا بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء، وهو الإحرام بالعمرة في أشهر الحجّ، والإحلال منها، وإردافها بأعمال الحجّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2733 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، يَقُولُ: حَجَّ عَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ، فَلَمَّا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، نَهَى عُثْمَانُ عَنِ التَّمَتُّعِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُ قَدِ ارْتَحَلَ، فَارْتَحِلُوا، فَلَبَّى عَلِيٌّ، وَأَصْحَابُهُ بِالْعُمْرَةِ، فَلَمْ يَنْهَهُمْ عُثْمَانُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَنْهَى عَنِ التَّمَتُّعِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَمَتَّعَ؟ قَالَ: بَلَى").

قاَل الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"عمرو بن عليّ": هو الفلاّس. و"يحيى بن سعيد": هو القطّان.

و"عبد الرحمن بن حرملة" بن عمرو بن سَنَّةَ -بفتح المهملة، وتثقيل النون-

ص: 182

الأسلميّ، أبو حرملة المدنيّ، صدوق ربما أخطأ [6].

قال يحيى بن سعيد: كنت سيء الحفظ، فرخّص لي سعيد في الكتابة. قال يحيى بن سعيد: محمد بن عمرو أحبّ إليّ من ابن حرملة، وكان ابن حرملة يُلقّن. وقال ابن خلاّد الباهليّ: سألت القطّان عنه، فضعّفه، ولم يدفعه. وقال إسحاق، عن ابن معين: صالح. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: يُخطىء. وقال ابن سعد: توفي سنة (145)، قال محمد بن عمر: وكان ثقة كثير الحديث. وقال الساجيّ: صدوق يهم في الحديث. وقال ابن عديّ: لم أر في حديثه حديثًا منكرًا. ونقل ابن خلفون عن ابن نمير أنه وثّقه. وقال الطحاويّ: لا يُعرف له سماع من أبي عليّ الهمدانيّ. روى له الجماعة سوى البخاريّ. روى له مسلم حديثًا واحدًا متابعة في القنوت. وروى له المصنّف حديث الباب فقط.

وقوله: "فلما كلنا ببعض الطريق الخ". وفي "صحيح البخاري"، من طريق عمرو بن مرّة، عن سعيد ابن المسيّب، أن اختلافهما كان بعُسْفان.

قال الفيّوميّ: عُسْفَان: موضع بين مكة والمدينة، ويُذكّر، ويؤنّث، وُيسمّى في زماننا مَدْرَج عثمان، وبينه وبين مكة نحو ثلاث مراحل، ونونه زائدة انتهى.

وقوله: "إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا" أي ارتحلوا معه، ملتين بالعمرة؛ ليعلم أنكم قدّمتم السنة على قوله، وأنه لا طاعة له في مقابلة السنّة. قاله السنديّ.

وقوله: "فلم ينههم عثمان" أي بعد أن سبق بينه وبين عليّ ما سبق، وعَلِم أن عليًّا، وأصحابه ما انتهوا عن ذلك بقوله. وقيل: هذا رجوع من عثمان عن النهي عن المتعة. ولكن يبعده آخر الحديث.

وفيه أن نهي عثمان عن التمتّع ليس نهي تحريم، وإنما هو من باب الأفضلية، إذ لولا ذلك لما سكت عن نهيهم، بل ألزمهم أن يرفضوا تمتّعهم.

وقوله: "ألم أُخبر" بضم الهمزة على بناء الفعل للمفعول، وكان عليًّا أراد أن يعيد معه الكلام ليرجع عن النهي.

والحاصل أن عمر وعثمان - رضي اللَّه تعالى عنهما - كانا يريان أن التمتّع في وقته صلى الله عليه وسلم كان بسبب من الأسباب، وتركه أفضل، وعليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - كان يرى أنه السنّة، وأنه الأفضل، وهو الصواب. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متفق عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في 49/ 2722. ودلالته على ما ترجم له، وهو مشروعية التمتّع واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 183

2734 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، عَامَ حَجَّ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُمَا يَذْكُرَانِ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَقَالَ: الضَّحَّاكُ: لَا يَصْنَعُ ذَلِكَ، إِلاَّ مَنْ جَهِلَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى،

فَقَالَ سَعْدٌ: بِئْسَمَا قُلْتَ، يَا ابْنَ أَخِي، قَالَ الضَّحَّاكُ: فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، قَالَ سَعْدٌ:"قَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَنَعْنَاهَا مَعَهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي أبو رجاء البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة الفقيه [7] 7/ 7.

3 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ المدنيّ الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

4 -

(محمد بن عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب) الهاشميّ النوفليّ المدنيّ، مقبول [3].

روى عن سعد بن أبي وقّاص، وأسامة بن زيد، ومعاوية، والضحّاك بن سفيان، وغيرهم. وعنه عمر بن عبد العزيز، والزهريّ. ذكره ابن حبّان في "الثقات". وجزم ابن عبد البرّ بأن الزهريّ تفرّد بالرواية عنه، قال: ولا يُعرف إلا برواية الزهريّ عنه. روى له الترمذيّ، والمصنّف، وله عندهما هذا الحديث فقط.

5 -

(سعد بن أبي وقّاص) مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول من رَمَى بسهم في سبيل اللَّه، ومناقبه كثيرة، مات رضي الله عنه بالعقيق سنة (55) على المشهور، تقدّم في 100/ 2032. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله، وأن رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد اللَّه كما مر آنفًا، وانه مسلسل بالمدنيين غير قتيبة فبغلاني، وأن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وأن صحابيه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول من رمى بسهم في سبيل اللَّه، وآخر من مات من العشرة رضي الله عنهم. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) الهاشميّ النوفليّ (أنَّهُ حَدَّثهُ) الضمير، اسم "أنّ" الأول لمحمد بن عبد اللَّه، والضمير المفعول

ص: 184

لابن شهاب (أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ) رحمه الله (وَالضحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ) بن خالد بن وهب الفهريّ، أبا أنيس الأمير المشهور، "صحابيّ صغير، قُتل - رضي اللَّه تعالى عنه - في وقعة مرج راهط سنة (64) تقدّمت ترجمته في 100/ 2032 (عَامَ حَجَّ مُعَاوِيَةُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -. وذكر أبو جعفر الطحاويّ -رحمه اللَّه تعالى- أن أول حجة حجها معاوية بعد أن استُخلف كانت في سنة أربع وأربعين، وآخر حجة حجها سنة سبع وخمسين. قاله في "الفتح"

(1)

(وَهُمَا) أي سعد، والضحاك (يَذْكُرَانِ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجَّ) أي يذكران حكمه، وجملة "وهما يذكران الخ" في محلّ نصب على الحال من فاعل "سمع" (فَقَالَ: الضَّحَّاكُ) بن قيس رضي الله عنه (لَا يَصْنَعُ ذَلِكَ) أي التمتع المذكور (إِلاَّ مَنْ جَهِلَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى) أي حكمه، وشرعه؛ لأن اللَّه تعالى يقول:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، فأمره بالإتمام يقتضي استمرار الإحرام، إلى فراغ الحجّ، ومنع التحلّل، والتمتّعُ فيه تحلّل. ويحتمل أنه قال ذلك اعتمادًا على نهي عمر رضي الله عنه، حيث إنه لا ينهى إلا عن غير المشروع، ويؤيد هذ قوله:"فإن عمر قد نهى عن ذلك"(فَقَالَ: سَعْدٌ) بن أبي قّاص رضي الله عنه (بِئْسَمَا قُلْتَ، يَا ابْنَ أَخِي) ناداه به تلطّفًا، وترقّقًا (قَالَ الضَّحَّاكُ) رضي الله عنه ذاكرًا حجته على ما قال (فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (نَهَى عَنْ ذَلِكَ) أي ونهيه لا يكون إلا عن خلاف السنّة، وخلاف حكم الشرع.

قال الباجيّ: إنما نهى عنه لأنه رأى الإفراد أفضل منها، ولم ينه عنه تحريمًا. وقال عياض: إنه نهى عن الفسخ، ولهذا كان يضرب الناس عليها، كما في "مسلم"، بناء على معتقده أن الفسخ خاصّ بتلك السنة. وقال النوويّ: والمختار أن عمر، وعثمان، وغيرهما إنما نهوا عن المتعة المعروفة التي هي الاعتمار في أشهر الحجّ، ثم الحجّ في عامه، وهو على التنزيه للترغيب، ثم انعقد الإجماع على جواز التمتع من غير كراهة، وبقي الخلاف في الأفضل انتهى.

(قَالَ: سَعْدٌ) رضي الله عنه (قَدْ صَنَعَهَا) أي المتعة، فتأنيث الضمير مع أنه يعود إلى "التمتع" بتأويله بالمتعة (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أراد بذلك التمتّع الذي هو القرآن؛ إذ التمتّع يطلق على القران، كما سبق، وقد صحّ أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، لا متمتعًا (وَصَنَعْنَاهَا مَعَهُ) أي تمتعنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والتمتّع الذي كان للصحابة فهو التمتع الحقيقيّ، لمن لم يسق الهدي، وأما من ساق الهدي، فالتمتع في حقّه هو التمتع بمعنى القران، كما سبق. وأراد سعد - رضي اللَّه تعالى عنه - بذلك أن التمتع مما ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قولاً، وفعلاً، فلا

(1)

- راجع "الفتح" 4/ 773. في "كتاب الصوم".

ص: 185

يُلتفت إلى نهي من الناس عمر، أوغيره؛ حيث إن السنة هي الحجة، لا غيرها من آراء الناس كائنًا من كان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو

المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سعد بن أبي وقّاص - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

[فإن قلت]: في سنده محمد بن عبد اللَّه بن الحارث قال عنه في "التقريب": مقبول، أي يحتاج إلى من يُتابعه، فكيف يكون صحيحًا؟.

[قلت]: حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه في المتعة أخرجه مسلم، في "صحيحه" دون ذكر قصّة الضحاك، -1225 - من طريق سليمان التيمي، عن غنيم بن قيس، قال: سألت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عن المتعة؟،- وفي رواية عن المتعة في الحجّ؟ - فقال: فعلناها، وهذا يومئذ كافر بالعُرُش -يعني بيوت مكة-. وقال في روايته: يعني معاوية.

وأيضًا فإن محمد بن عبد اللَّه بن الحارث قد رَوَى عنه الزهريّ، وعمر بن عبد العزيز، كما تقدّم، فارتفعت عنه جهالة العين، وأما ما تقدم من جزم ابن عبد البرّ بأنه لم يرو عنه غير الزهريّ فغير مقبول، فقد ذكر البخاريّ في "التاريخ الكبير" أنه روى عنه عمر بن عبد العزيز، راجع "التاريخ" - 1/ 125 - 126 - . وقد وثقه ابن حبّان.

ولأن لحديثه أيضًا شواهدَ من حديث عمران ابن حصين، وأبي موسى الأشعريّ، وابن عمر، وغيرهم - رضي اللَّه تعالى عنهم -.

والحاصل أن حديثه هذا صحيح. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-50/ 2734 - وفي "الكبرى" 50/ 3714. وأخرجه (ت) في "الحجّ" 823 (أحمد) في "مسند العشرة" 1506 (الموطأ) في "الحجّ" 771 (الدارميّ) في "المناسك" 1814. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعية المتعة.

(ومنها): ما كان عليه السلف من المناقشة العلميّة، وإبداء كلّ دليله الذي يستند إليه.

(ومنها): أن السنة هي الحجة بنفسها، ولا يضرّها مخالفة من خالفها بتأويل، وأن من خالفها يُعتذر عنه بأنه ما خالفها إلا لاجتهاد أداه إلى ذلك، ولذا لم يعنّف سعد، ولم

ص: 186

يذمّ عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - بأنه خالف السنة عمدًا، بل تركه ورأيه، وأظهر السنة، ودعا إليها، وهكذا واجب كلّ عالم، ألا ينتقص من أهل العلم أحدًا بمجرد مخالفته لبعض النصوص تأويلاً، ولا ينصب العداوة معه، بل يعتذر عنه بما استطاع من الأعذار، ويظهر الحقّ، ويدعو إلى السنة. (ومنها): أن في إنكار سعد على الضحاك قولَه دليلاً على أن العالم يلزمه إنكار ما سمعه من كلّ قول يُضاف به إلى العلم ما ليس بعلم إنكارًا فيه رفق، وتؤَدَة، ألا ترى قول سعد رضي الله عنه له:"ليس ما قلت يا ابن أخي"، فلما أخبره الضحاك أن عمر رضي الله عنه نهى عنها لم ير ذلك حجة؛ لما كان عنده حجة من السنة، وقال: صنعها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصنعناها معه. قاله أبو عمر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2735 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِالْمُتْعَةِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: رُوَيْدَكَ بِبَعْضِ فُتْيَاكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي، مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي النُّسُكِ بَعْدُ، حَتَّى لَقِيتُهُ، فَسَأَلْتُهُ؟ ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَدْ فَعَلَهُ، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أَنْ يَظَلُّوا مُعَرِّسِينَ بِهِنَّ، فِي الأَرَاكِ، ثُمَّ يَرُوحُوا بِالْحَجِّ، تَقْطُرُ رُءُوسُهُمْ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن المثنى) أبو موسى العَنَزِيّ البصري، ثقة حافظ [10] 64/ 80.

2 -

(محمد بن بشار) بُنْدَار العبديّ البصريّ، ثقة ثبت [10] 24/ 27.

3 -

(محمد) بن جعفر غُنْدَر البصري، ثقة صحيح الكتاب [9] 21/ 22.

4 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 24/ 47.

5 -

(الحكم) بن عُتْبَة الكندي، أبو محمد الكوفي، ثقة ثبت ربما دلس [5] 86/ 104.

6 -

(عمارة بن عمير) التيمي الكوفي، ثقة ثبت [4] 49/ 608.

7 -

(إبراهيم بن أبي موسى) الأشعريّ، وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسماه، وحنّكه بتمرة، ودعا له بالبركة، عِداده في أهل الكوفة. قال ابن حبان في الصحابة: لم يسمع

(1)

- راجه "الاستذكار" 11/ 209 - 210.

ص: 187

من النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة. وذكره جماعة في لصحابة على عادتهم فيمن له إدراك.

روى له مسلم، والمصنّف، وابن ماجه، له عندهم حديث الباب فقط. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الأئمة الستة بلا واسطة، وبالكوفيين بعده، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الحكم عن عمارة عن إبراهيم، وفيه رواية الابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس بن سُليم بن حضّار الأشعريّ الصحابي الشهير، أمّره عمر، ثم عثمان، وهو أحد الحَكَمين بصفين، مات - رضي اللَّه تعالى عنه - سنة (50) وقيل: بعدها تقدمت ترجمته في 3/ 3 (أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِالمتْعَةِ) أي بجواز التمتّع، وستأتي القصة مطوّلة بعد حديثين (فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: رُوَيدَكَ بِبَعْضِ فُتْيَاكَ) أي تمهّل عن بعض الأحكام التي تفتي الناس بها.

وفي "لسان العرب" نقلاً عن الأزهريّ -رحمه اللَّه تعالى-: اعلم أن رويدًا تلحقها الكاف، وهي في موضع أَفْعِلْ، وذلك قولك: رُويدَك زيدًا، ورويدَكم زيدًا، فهذه الكاف التي ألحقت لتبيين المخاطب في رويدًا، ولا موضع لها من الإعراب؛ لأنها ليست باسم، ورُويد غيرُ مضاف إليها، وهو متعدّ إلى زيد؛ لأنه اسم سمّي به الفعلُ، يعمل عمل الأفعال، وتفسير رُويدَ: مَهْلاً، وتفسير رويدَكَ: أمْهِلْ؛ لأن الكاف إنما تدخله إذا كان بمعنى أَفْعِلْ، دون غيره، وإنما حُرّكت الدال لالتقاء الساكنين، فنُصب نصبّ المصادر، وهو مصغّر، مأمور به؛ لأنه تصغير الترخيم من إرواد، وهو مصدر أرود يُروِدُ، وله أربعة أوجه: اسم فعل، وصفة، وحال، ومصدر، فالاسم نحو قولك: رُويدَ عمرًا، أي أرود عمرًا، بمعنى أمهله، والصفة نحو قولك: ساروا سيرًا رُويدًا.

والحال نحو قولك: سار القوم رُويدًا، لَمَّا اتصل بالمعرفة صار حالاً لها. والمصدر نحو قولك: رُويدَ عمرو بالإضافة، كقوله تعالى:{فَضَرْبَ الرِّقَابِ} ، وفي حديث أنجشة رضي الله عنه:"رُويدك رفقًا بالقوارير": أي أمهل، وتَأَنَّ، وارفُق انتهى ما في "اللسان".

ص: 188

وإلى بعض ما ذُكر أشار ابن مالك -رحمه اللَّه تعالى- في "الخلاصة" بقوله:

كَذَا رُويدَ بَلْهَ نَاصِبَيْنِ

وَيَعْمَلَانِ الْخَفْضَ مَصْدَرَيْنِ

ثم علّل ذلك الرجل أمره لأبي موسى بالتمهّل عن بعض فتياه بقوله (فَإِنَّكَ) الفاء تعليلية، أي لأنك (لَا تَدْرِي، مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ) عمر بن الخطّاب رضي الله عنه (في النُّسُكِ) أي شأن النسك (بَعْدُ) بالضم، من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها: أي بعد ما كنت تعرفه من جواز التمتّع.

(حَتَّى لَقِيتُهُ) أي أمير المؤمنين رضي الله عنه (فَسَأَلْتُهُ؟) وفي الرواية الآتية بعد حديثين: "فلما قدم قلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك؟ (فَقَالَ عُمَرُ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَدْ فَعَلَهُ) أي التمتّع، بمعنى القران، أو المراد التمتع المعروف، ومعناه أمر بفعله. وقال السنديّ: أي فلا نهي عنه لذاته، بل لأن الناس لا يؤدّون حقّ الحجّ لأجله انتهى (وَلَكِنْ كَرِهْتُ أَنْ يَظَلُّوا) بفتح التحتانيّة، والظاء، وتشديد اللام. قال الفيّوميّ: وظلّ يفعل كذا، من باب تَعِبَ ظُلُولاً: إذا فعله نهارًا. قال الخليل: لا تقول العرب: ظَلَّ إلا لعمل يكون بالنهار انتهى (مُعْرِسِينَ بِهنَّ) اسم فاعل من الإعراس، لا من التعريس، قال الفيّوميّ: وأعرس بامرأته بالألف: دخل بها، وأعرس عَمِلَ عُرْسًا، وأما عرّسَ بامرأته بالتثقيل على معنى الدخول، فقالوا: هو خطأ، وإنما يقال: عرّس: إذا نزل المسافر ليستريح نزلةً، ثم يرتحل. قال أبو زيد: وقالوا: عرّس القوم في المنزل تعريسًا: إذا نزلوا أيَّ وقت كان من ليل أو نهار، فالإعراس: دخول الرجل بامرأته، والتعريس: نزول المسافر ليستريح. انتهى. وضمير "بهنّ" للنساء بقرينة المقام، وإن لم يذكرن.

وقال القرطبي: ولا يصحّ أن يكون من التعريس؛ لأن الرواية بتخفيف العين والراء؛ ولأن التعريس إنما هو النزول من آخر الليل، كما تقدّم، ويناقضه قوله:"يظلون"، و"يرحون"، فإنهما إنما يقالان على عمل النهار انتهى

(1)

.

وأراد عمر رضي الله عنه وطأ النساء بعد التحلل من عمل العمرة. وقوله (في الأرَاكِ) متعلّق بقوله: "معرسين"، وهو بفتح الهمزة: شجر معروف ((ثُمَّ يَرُوحُوا بِالْحَجَّ) أي يذهبوا ملبين بالحجّ إلى مني، وعرفات (تَقْطُرُ رُءُوسُهُمْ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل.

وأراد بذلك أن الأفضل للحاجّ أن يتفرّق شعره، ويتغيّر حاله، والتمتع في حقّ غالب

(1)

-"المفهم" 3/ 348 - 349.

ص: 189

الناس صار مؤديًا إلى خلافه، فنهاهم لذلك.

وقال النوويّ: معناه كرهت التمتع؛ لأنه يقتضي التحلل ووطء النساء إلى حين الخروج إلى عرفات.

وقال الحافظ: وفي هذه الرواية تبيين عمر العلة التي لأجلها كره التمتع، وكان من رأي عمر رضي الله عنه عدم الترفّه للحجّ بكلّ طريق، فكره لهم قرب عهدهم بالنساء؛ لئلا يستمرّ الميل إلى ذلك بخلاف من بَعُدَ عهده به، ومن يُفطم ينفطم. وقد أخرج مسلم من حديث جابر رضي الله عنه أن عمر قال:"افصلوا حجكم من عمرتكم، فإنه أتمّ لحجكم، وأتمّ لعمرتكم". وفي رواية: "إن اللَّه يُحلّ لرسوله ما شاء، فأتموا الحجّ والعمرة كما أمركم اللَّه". انتهى كلام الحافظ.

ومال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- إلى أن ما كرهه عمر رضي الله عنه هو فسخ الحجّ بعمل العمرة، ونصّه عند قوله:"كرهت أن يظلّوا بهنّ معرسين": يعني أنه كره أن يحلّوا من حجهم بالفسخ المذكور، فيطؤون نساءهم قبل تمام الحجّ الذي كانوا أحرموا به. ولا يظنّ بمثل عمر رضي الله عنه الذي جعل اللَّه الحقّ على لسانه وقلبه أنه منع ما جوّزه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالرأي والمصلحة، فإن ذلك ظنُّ من لم يعرف عمر، ولا فهم استدلاله المذكور في الحديث. وإنما تمسك بقول اللَّه عز وجل:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، ففهم أن من تلبّس بشيء منهما وجب عليه إتمامه، ثم ظهر له أن ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه قضيّة مخصوصة على ما ذكرناه فيما تقدّم، فقضى بخصوصيّة ذلك لأولئك، ثم إنه أطلق الكراهية، وهو يريد بها التحريم، وتجنّب لفظ التحريم؛ لأنه مما أدّاه إليه اجتهاده، وهذه طريقة كبراء الأئمة، كمالك، والشافعيّ، وكثيرًا ما يقولون: أكره كذا، وهم يريدون التحريم، وهذا منهم تحرّزٌ، وحَذَرٌ من قوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} الآية [النحل: 116]. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: تحقيق حسنٌ، ويؤيّده ما ثبت من أن عمر رضي الله عنه كان يضرب الناس على هذا، فلولا أنه كان يرى تحريمه لما ضرب الناس عليه.

والحاصل أن تأويل ما ثبت عن عمر رضي الله عنه بما ذكر حسنٌ، ولكنه اجتهاد، خالفه فيه جلّ الصحابة، حيث خالف النصّ الصحيح الصريح، فلا يعوّل عليه، وإن اعتُذر عنه بما ذُكر ففسخ الحجّ بعمل العمرة مشروع مستمرّ، ينبغي العمل به، كما ذهب إليه المحققون. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 190

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي موسى الأشريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسأله الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -50/ 2735 - و 2738 و 52/ 2742 - وفي "الكبرى" 50/ 3715 و 3718 و 52/ 3722. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1559 و 1565 و 1724 و 1795 و"المغازي" 4346 و 4397 (م) في "الحجّ" 1221 و 1222 (ق) في "المناسك" 2979 (أحمد) في "مسند العشرة" 2755 و 353 و"مسند الكوفيين" 19011 و 19040 و 19054 و 1917 (الدارمي) في "المناسك" 1815. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو مشروعية التمتع (ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من نشر السنة. (ومنها): أن المجتهد ربما يخالف بعض السنن، مع علمه بها لتأويل يراه، ولا لوم عليه في ذلك، وإنما يذكّر لعله يتذكّر. (ومنها): أن العلة التي كره عمر رضي الله عنه التمتع من أجلها هي كون حال المتمتع مخالفًا لحال الحاجّ من كونه أشعث، أغبر، لكن مثل هذا الرأي المخالف لصريح السنة، وإن كان صاحبه يُعذر باجتهاده لا يُلتفت إليه. (ومنها): ما كان عليه الصحابة من تعظيم ولاة الأمور، فإن أبا مسى رضي الله عنه ترك فتياه لما بلغه منع عمر رضي الله عنه عن التمتع حتى استفسره. (ومنها): أن المجتهد ينبغي له إذا بلغه من غيره خلاف ما يعتقده أن يتأنى حتى يعرف دليل ذلك المخالف، فلعل عنده حجة أقوى من حجته، فيرجع إليها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2736 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبِي، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ، يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُتْعَةِ، وَإِنَّهَا لَفِى كِتَابِ اللَّهِ، وَلَقَدْ فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَعْنِي الْعُمْرَةَ فِي الْحَجِّ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه "محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق" المروزيّ، فإنه من أفراده هو والترمذيّ، وهو ثقة صاحب حديث.

و"أبوه": عليّ بن الحسن بن شقيق بن دينار، أبو عبد الرحمن المروزيّ الثقة الحافظ، من رجال الجماعة.

ص: 191

و"أبو حمزة": محمد بن ميمون السكّريّ المروزيّ الثقة الفاضل. و"مطرّف": هو ابن طريف، أبو بكر، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ الثقة الفاضل، من صغار [6] 2/ 327. و"سلمة بن كُهيل": أبو يحيى الكوفيّ الثقة. و"طاوس": هو ابن كيسان.

وقوله: "وإنها لفي كتاب اللَّه الخ" أي في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} الآية.

وأراد بذلك أن المتعة، وإن كانت في كتاب اللَّه تعالى، وسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إلا أنه يعلم من تأيلهما ما لا يعلمه غيره، فلذا نهاهم عنها متأوّلاً، لا قصدًا لمخالفتهما، إذ لا يُظنّ به - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه يقصد مخالفتهما، حاشا، وكلاّ، وقد تقدّم بيان ذلك قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح الإسناد، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا - 50/ 2736 - وفي "الكبرى" 50/ 3716. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2737 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: أَعَلِمْتَ أَنِّي قَصَّرْتُ مِنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عِنْدَ الْمَرْوَةِ، قَالَ: لَا، يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مُعَاوِيَةُ، يَنْهَى النَّاسَ عَنِ الْمُتْعَةِ، وَقَدْ تَمَتَّعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن) بن المسور بن مخرمة الزهري البصري، صدوق، من صغار [10] 42/ 48.

2 -

(سفيان) بن عيينة المكي الحجة الثبت [8] 1/ 1.

3 -

(هشام بن حُجَيْر) المكي، صدوق له أوهام [6] 19/ 2653.

4 -

(طاوس) بن كيسان الحميري مولاهم اليماني، ثقة فقيه فاضل [3] 27/ 31.

5 -

(معاوية) بن أبي سفيان الخليفة رضي الله عنهما 286/ 294. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ طَاوُسٍ) بن كيسان اليمانيّ، أنه (قَالَ: قَالَ مُعَاوَيةُ) بن أبي سفيان الخليفة

ص: 192

المشهور رضي الله عنه (لابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَعَلِمْتَ أَنِّي قَصَّرْتُ) بتشديد الصاد، من التقصير. وفي نسخة:"قد قصرت" بزيادة "قد"(مِنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي أخذت من شعر رأسه صلى الله عليه وسلم (عِنْدَ الْمَرْوَةِ) أي عند المكان المعروف بهذا الاسم، وهو في الأصل واحدة المرو، وهي الحجارة البيض، ثم سمي به الجبل المعروف بمكة.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا يشعر بأن ذلك كان في نسك، إما حج، أو عمرة، وقد ثبت أنه حلق في حجته، فتعيّن أن يكون في عمرة، ولا سيما وقد روى مسلم في هذا الحديث أن ذلك كان بالمروة، ولفظه:"قصّرت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمشقص على المرة"، أو "رأيته يُقَصَّر عنه بمقشقص، وهو على المروة".

وهذا يحتمل أن يكون في عمرة القضيّة، أو الجعرانة، لكن وقع عند مسلم من طريق أخرى عن طاوس بلفظ:"أما علمت أني قصّرت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمشقص، وهو على المروة، فقلت له: لا أعلم هذه إلا حجة عليك"، وبين المراد من ذلك في رواية النسائيّ، فقال بدل قوله:"فقلت له: لا الخ": يقول ابن عباس: "وهذه

(1)

على معاوية أن ينهى الناس عن المتعة، وقد تمتّع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، ولأحمد من وجه آخر عن طاوس عن ابن عباس، قال: "تمتع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى مات " الحديث. وقال: أول من نهى عنها معاوية، قال ابن عباس: فعجبت منه، وقد حدثني أنه قصّر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمشقص انتهى.

وهذا يدلّ على أن ابن عبّاس حمل ذلك على وقوعه في حجة الوداع لقوله لمعاوية: "إن هذه حجة عليك"، إذ لو كان في العمرة لما كان فيه على معاوية حجة. وأصرح منه ما وقع عند أحمد من طريق في بن سعد، عن عطاء:"أن معاوية حدّث أنه أخذ من أطراف شعر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أيام العشر بمشقص معي، وهو محرم"

(2)

. وفي كونه في حجة الوداع نظر؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحلّ حتى بلغ الهدي محله، فكيف يقصّر عنه على المروة.

وقد بالغ النوويّ هنا في الردّ على من زعم أن ذلك كان في حجة الوداع، فقال: هذا الحديث محمول على أن معاوية قصّر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارنًا، وثبت أنه حلق بمنى، وفرّق أبو طلحة شعره بين الناس، فلا يصحّ حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصحّ حمله أيضًا على عمرة القضاء

(1)

- هكذا في "الفتح" ولعل نسخة النسائي وقعت له هكذا، وإلا فلفظ النسائيّ الذي عندنا: "يقول ابن عباس: هذا معاوية ينهى الناس عن المتعة الخ. فليحرر.

(2)

- هذه الرواية ستأتي للمصنّف برقم 184/ 2989.

ص: 193

الواقعة سنة سبع؛ لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلمًا، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان. هذا هو الصحيح المشهور. ولا يصحّ قول من حمله على حجة الوداع، وزعم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان متمتّعًا؛ لأن هذا غلط فاحش، فقد تظاهرت الأحاديث في مسلم وغيره أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قيل له:"ما شأن الناس حلّوا من العمرة، ولم تحلّ أنت من عمرتك؟، فقال: إني لبّدت رأسي، وقلّدت هديي، فلا أحلّ حتى أنحر".

قال الحافظ: ولم يذكر الشيخ هنا ما مرّ في عمرة القضيّة، والذي رجحه من كون معاوية إنما أسلم يوم الفتح صحيح من حيث السند، لكن يمكن الجمع بأنه كان أسلم خفية، وكان يكتم إسلامه، ولم يتمكن من إظهاره إلا يوم الفتح. وقد أخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق" من ترجمة معاوية تصريح معاوية بأنه أسلم بين الحديبية والقضيّة، وأنه كان يُخفي إسلامه خوفًا من أبويه، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لما دخل في عمرة القضيّة مكة خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظروه وأصحابه يطوفون بالبيت، فلعلّ معاوية كان ممن تخلّف بمكة لسبب اقتضاه، ولا يعارضه أيضًا قول سعد بن أبي وقّاص فيما أخرجه مسلم وغيره:"فعلناها -يعني العمرة- في أشهر الحجّ، وهذا يومئذ كافر بالعُرُش" -بضمّتين- يعني بيوت مكة، يشير إلى معاوية؛ لأنه يحمل على أنه أخبر بما استصحبه من حاله، ولم يطّلع على إسلامه؛ لكونه كان يُخفيه. ويعكر على ما جوّزوه أن تقصيره كان في عمرة الجعرانة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ركب من الجعرانة بعد أن أحرم بعمرة، ولم يستصحب أحدًا معه إلا بعض أصحابه المهاجرين، فقدم مكة، فطاف، وسعى، وحلق، ورجع إلى الجعرانة، فأصبح بها كبائت، فخفيت عمرته على كثير من الناس. وكذا أخرجه الترمذيّ وغيره، ولم يعدّ معاوية فيمن صحبه حينئذ، ولا كان معاوية فيمن تخلّف عنه بمكة في غزوة حنين، حتى يقال: لعله وجده بمكة، بل كان مع القوم، وأعطاه مثل ما أعطى أباه من الغنيمة، مع جملة المؤلّفة. وأخرج الحاكم في "الإكليل" في آخر قصّة غزوة حنين أن الذي حلق رأسه صلى الله عليه وسلم في عمرته التي اعتمرها من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة.

فإن ثبت هذا، وثبت أن معاوية كان حينئذ معه، أو كان بمكة فقصّر عنه بالمروة أمكن الجمع بأن يكون معاوية قصر عنه أوّلاً، وكان الحلاّق غائبًا في بعض حاجته، ثم

حضر، فأمره أن يكمل إزالة الشعر بالحلق؛ لأنه أفضل، ففعل.

وإن ثبت أن ذلك كان في عمرة القضيّة، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم حلق فيها جاء هذا الاحتمال بعينه، وحصل التوفيق بين الأخبار كلها.

قال الحافظ: وهذا مما فتح اللَّه عليّ به في هذا الفتح، وللَّه الحمد، ثم للَّه الحمد أبدًا.

ص: 194

قال صاحب "الهدي": الأحاديث الصحيحة المستفيضة تدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحلّ من إحرامه إلى يوم النحر، كما أخبر عن نفسه بقوله:"فلا أحلّ حتى أنحر"، وهو خبر لا يدخله الوهم بخلاف خبر غيره، ثم قال: ولعلّ معاوية قصّر عنه في عمرة الجعرانة، فنسي بعد ذلك، وظنّ أنه كان في حجته انتهى.

قال الحافظ: ولا يعكر على هذا إلا رواية قيس بن سعد المتقدّمة لتصريحه فيها يكون ذلك في أيام العشر، إلا أنها شاذّة، وقد قال قيس بن سعد عقبها: والناس ينكرون ذلك انتهى.

ويعكر عليه قوله في رواية أحمد: "قصّرت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند المروة". أخرجه من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن ابن عباس.

وقال ابن حزم: يحتمل أن يكون معاوية قصّر عن رأس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقية شعر لم يكن الحلاّق استوفاه يوم النحر. وتعقّبه صاحب "الهدي" بأن الحالق لا يبقي شعرًا يقصر منه، ولا سيّما وقد قسم صلى الله عليه وسلم شعره بين الصحابة الشعرة والشعرتين، وأيضًا فهو صلى الله عليه وسلم لم يسع بين الصفا والمروة إلا سعيًا واحدًا في أول ما قدم، فماذا يصنع عند المروة في العشر.

قال الحافظ: وفي رواية العشر نظر كما تقدّم. وقد أشار النوويّ إلى ترجيح كونه في الجعرانة، وصوّبه المحبّ الطبريّ، وابن القيّم.

وفيه نظر؛ لأنه جاء أنه حلق في الجعرانة، واستبعاد بعضهم أن معاوية قصّر عنه في عمرة الحديبية لكونه لم يكن أسلم ليس ببعيد انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي ظهر لي مما سبق كله أن الأرجح هو الذي رجحه النوويّ، والمحبّ الطبريّ، وابن القيم من أنه محمول على أنه قصر معاوية عنه صلى الله عليه وسلم في الجعرانة، ولا يبعد أن يكون في عمرة القضيّة، ولا يعكر على ذلك ما مرّ عن الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم حلق فيها، لما تقدم في كلام الحافظ من الجمع، وأما الرواية التي تدلّ على أن ذلك كان في حجة الوداع فهي غلط من بعض الرواة، أو أن معاوية رضي الله عنه نفسه ظن ذلك؛ حيث نسي، كما قاله ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(قَالَ) ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - (لا) أي لا أعلم ذلك (يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسِ: هَذَا مُعَاوِيَةُ، يَنْهَى النَّاسَ عَنِ الْمُتْعَةِ، وَقَدْ تَمَتَّعَ النَّبِيّ) وفي نسخة: "رسول اللَّه"(صلى الله عليه وسلم) قد تقدّم توضيح معنى تمتّعه صلى الله عليه وسلم. وغرض ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - بهذا الإنكارُ

(1)

- "فتح" 4/ 390 - 392.

ص: 195

على معاوية رضي الله عنه في نهيه عن التمتع حيث خالف ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه تمتّع.

ويحتمل أن يكون إنكارًا منه على معاوية - رضي اللَّه تعالى عنهما - في نهيه عن ذلك مع أنه أخبره أنه قصّر عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا محمول على أن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - حمل ذلك على حجة الوداع، ولكن الصواب ما تقدّم من أنه صلى الله عليه وسلم يتحلّل في حجة الوداع إلا يوم النحر بمنى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث معاوية - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -50/ 2737 و 183/ 2987 و 2988 و 184/ 2989 - وفي "الكبرى" 50/ 3717 و 3981/ 181 و 3982 و 182/ 3983. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1730 (م) في "الحجّ" 1246 (د) في "المناسك" 1802 و 1803 (ت) في، "الحجّ" 822 (أحمد) في "مسند الشاميين" 16428 و 16442 و 16452. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعيّة التمتّع (ومنها): مشروعيّة التقصير في العمرة. (ومنها): الإنكار على من خالف السنة، وإن كان كبير القوم؛ إذ الحقّ أكبر منه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعمِ الوكيل.

2738 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسٍ -وَهُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ- عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ:«بِمَا أَهْلَلْتَ؟» ، قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«هَلْ سُقْتَ مِنْ هَدْيٍ؟» ، قُلْتُ: لَا،

قَالَ: «فَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حِلَّ» ، فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي، فَمَشَطَتْنِي، وَغَسَلَتْ رَأْسِي، فَكُنْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِذَلِكَ، فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَإِمَارَةِ عُمَرَ، وَإِنِّي لَقَائِمٌ بِالْمَوْسِمِ، إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي، مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فِي شَأْنِ النُّسُكِ، قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كُنَّا أَفْتَيْنَاهُ بِشَيْءٍ، فَلْيَتَّئِدْ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَادِمٌ عَلَيْكُمْ، فَائْتَمُّوا بِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هَذَا الَّذِي أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ؟ ، قَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ عز وجل، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل قَالَ:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ).

ص: 196

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن المثنى) المذكور قريبًا.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهدي البصري الثقة الثبت [9] 42/ 49.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الكوفي الحجة الثبت الإمام [7] 33/ 37.

4 -

(قيس بن مسلم) الْجَدَليّ -بفتح الجيم- العدوانيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة رمي

بالإرجاء [6].

قال عليّ، عن يحيى: كان مرجئًا، وهو أثبت من أبي قيس. وقال صالح بن أحمد، عن أبيه: ثقة في الحديث. وقال أحمد، عن سفيان: كانوا يقولون: ما رفع رأسه إلى السماء منذ كذا وكذا، تعظيمًا للَّه. وقال ابن معين، وأبو حاتم: ثقة. وقال أبو داود: كان مرجئًا. وقال النسائيّ: ثقة، وكان يرى الإرجاء. وعن أبي داود، عن شعبة أنه ذكره، فجعل يُثبّته. وقال العجليّ: كوفيّ ثقة. وقال يعقوب ابن سفيان: ثقة ثقة، وكان مرجئًا. وذكره ابن حبّان في "الثقات". قال أبو نعيم، والبخاريّ، ومطيّن: مات سنة (120) وكذا أرخه ابن سعد، وقال: كان ثقة ثبتًا، له حديث صالح. روى له الجماعة. أخرج له المصنّف في سبعة مواضع برقم 2738 و 2742 و 3002 و 4143 و 5008 و 5009 و 5012.

5 -

(طارق بن شهاب) بن عبد شمس البجليّ الأحمسيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، قال أبو داود: رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع

(1)

منه، مات سنة (2) أو (83) تقدِم في 204/ 324.

6 -

(أبوموسى) عبد اللَّه بن قيس الأشعري الصحابي المشهور رضي الله عنه تقدم في 3/ 3. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، وأن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الأئمة الستة بلا واسطة، وأنه مسلسل بالكوفيين من سفيان، والباقيان بصريان، وأن فيه روايته صحابي عن صحابي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي من اليمن، وفي رواية البخاريّ: "بعثني النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قومي باليمن

". (وَهُوَ بالبَطْحَاءِ) وفي رواية شعبة، عن قيس الآتية -52/ 2742 - : "والنبيّ صلى الله عليه وسلم منيخ بالبطحاء"، مَن أناخ بعيره: إذا أبركه. أي وهو نازل بالبطحاء، وذلك في ابتداء قدومه إلى مكة.

(1)

رجح في "الإصابة" كونه لقي النبي صلى الله عليه وسلم، فهو صحابي على الراجح، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه، فروايته عنه مرسلة، وهي مقبولة على الراجح. اهـ. والحاصل أن الراجح أنه صحابي، وقد تقدم تحقيق ذلك في 204/ 324.

ص: 197

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (بِمَا أَهْلَلْتَ؟) هكذا بإثبات ألف "ما" الاستفهامية وهي مجرورة، وهو قليل، وفي رواية البخاريّ:"بم أهللت"، بحذفها، وهو الأكثر في الاستعمال. وفي رواية شعبة الآتية:"أحججت؟ "، قلت: نعم، قال:"كيف قلت؟ "(قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية شعبة: "قلت: لبيك بإهلال، كإهلال النبيّ صلى الله عليه وسلم "، زاد في رواية للبخاريّ:"قال: أحسنت"(قَالَ: "هَلْ سُقْتَ مِنْ هَدْي؟ "، قُلْتُ: لا، قَالَ: "فَطُفْ بالْبَيتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أي اسعَ بينهما (ثُمَّ حِلَّ) بكسر الحاء المهملة، وتشديد اللام، أمر من حلّ المحرم يحلّ، من باب ضرب: إذا خرج من إحرامه، وتقدّم أن فيه لغة أخرى، وهي أَحِلّ، من الإحلال رباعيًّا (فَطُفْتُ بالْبَيْتِ، وَبالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةَ مِنْ قَوْمِي) وفي رواية شعبة عند البخاريّ: "امرأَة من قيس". قال الحافظ: والمتبادر إلى الذهن من هذا الإطلاق أنها من قيس عيلان، وليس بينهم وبين الأشعريين نسبة، لكن في رواية أيوب بن عائذ:"امرأة من نساء بني قيس"، وظهر لي من ذلك أن المراد بقيس قيس بن سليم والد أبي موسى الأشعريّ، وأن المرأة زوج بعض إخوته، وكان لأبي موسى من الإخوة أبو رُهْم، وأبو بردة، قيل: ومحمد. انتهى كلام الحافظ.

(فَمَشَطَتْنِي) بالتخفيف، ويحتمل التشديد، يقال: مشَطتُ الشَّعْرَ مَشْطًا، من بابي قتل، وضرب: سرّحته، والتثقيل مبالغة. قاله الفيّوميّ. والمعنى أنها سرّحت شعر رأس أبي موسى رضي الله عنه، وأصلحته (وَغَسَلَتْ رَأْسِي، فَكُنْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِذَلِكَ) أي بجواز التمتّع (فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (وَإِمَارَةِ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنه (وَإنِّي لَقَائِمٌ بِالْمَوْسِمِ) بفتح الميم، وسكون الواو، وكسر السين المهملة: أي في مكان اجتماع الحجّاج. قال الليث: موسم الحجّ، سمي موسمًا لأنه مَعْلَمٌ يُجتمع إليه. وقال ابن السكّيت: كلّ مَجمَع من الناس كثيرٍ هو موسم، ومنه موسم مني. أفاده في "اللسان"(إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي، مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ) عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنه - (فِي شَأْنِ النُّسُكِ، قُلْتُ: يَا أَيُّها النَّاسُ مَنْ كنَّا أَفْتَينَاهُ بشَيءٍ) أي من جواز المتعة (فَلْيَتَّئِدْ) بمثناة فوقية مشدّدة، بعدها همزة، افتعال من التؤدة: أي ليتأنّ، ولا يتعجّل بالمضيّ على فتيانا (فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - (قَادِمٌ عَلَيْكُمْ، فَأْتَمُّوا بِهِ) أي فاقتدوا به، وخذوا بقوله، واتركوا قولنا، إن خالفه (فَلَمَّا قَدِمَ) عمر رضي الله عنه (قُلتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هَذَا الذِي أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ؟، قَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ عز وجل، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل قَالَ:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أي وإتمام كلّ بإتيانه بسفر جديد، أو بإحرام جديد، لا يجعل أحدهما تابعا للآخر.

(وَإِنْ نَأْخُذْ) وفي نسخة: "إن تأخذ" بالتاء المثناة في الموضعين (بِسُنَّةِ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم، فَإنَّ نَبِينَا صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ) أي والمتمتّع يتحلّل إذا لم يسق الهدي. والحاصل

ص: 198

أن الجمع بين القرآن والسنة قد أداه إلى النهي عن التمتّع والقران جميعًا، فيحصل حينئذ الإتمام، والحلّ يوم النحر، لا قبله.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ومحصّل جواب عمر رضي الله عنه في منعه الناس من التحلّل بالعمرة أن كتاب اللَّه تعالى دالٌ على منع التحلّل؛ لأمره بالإتمام، فيقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحجّ، وأن سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أيضًا دالّة على ذلك؛ لأنه لم يحلّ حتى بلغ الهدي محلّه.

لكن الجواب عن ذلك ما أجاب به هو صلى الله عليه وسلم، حيث قال:"ولولا أن معي الهدي لأحللت"، فدلّ على جواز الإحلال لمن لم يكن معه هدي.

وتبيّن من مجموع ما جاء عن عمر رضي الله عنه في ذلك أنه منع منه سدًّا للذريعة. وقال المازريّ: قيل: إن المتعة التي نهى عنها عمر فسخ الحجّ إلى العمرة. وقيل: العمرة في أشهر الحجّ، ثم الحجّ من عامه، وعلى الثاني إنما نهى عنها ترغيبًا في الإفراد الذي هو أفضل، لا أنه يعتقد بطلانها، وتحريمها. وقال عياض: الظاهر أنه نهى عن الفسخ، ولهذا كان يضرب الناس عليها، كما رواه مسلم، بناء على مُعتقده أن الفسخ كان خاصًّا بتلك السنة.

قال النوويّ: والمختار أنه نهى عن المتعة المعروفة التي هي الاعتمار في أشهر الحجّ، ثم الحجّ من عامه، وهو على التنزيه للترغيب في الإفراد، كما يظهر من كلامه.

ثم انعقد الإجماع على جواز التمتّع من غير كراهة، وبقي الاختلاف في الأفضل.

قال الحافظ: ويمكن أن يتمسّك من يقول بأنه إنما نهى عن الفسخ بقوله في الحديث الذي أشرنا إليه قريبًا من مسلم: "إن اللَّه يُحلّ لرسوله ما شاء". واللَّه أعلم.

وفي قصّة أبي موسى، وعليّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - دلالة على جواز تعليق الإحرام بإحرام الغير مع اختلاف آخر الحديثين في التحلل، وذلك أن أبا موسى لم يكن معه هديٌ، فصار له حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم لو لم يكن معه هديٌ، وقد قال:"لولا الهدي لأحللت"، أي وفسخت الحجّ إلى العمرة، كما فعله أصحابه بأمره. وأما عليّ، فكان معه هديٌ، فلذلك أمره بالبقاء على إحرامه، وصار مثله قارنًا.

قال النوويّ: هذا هو الصواب، وقد تأوله الخطابيّ، وعياض بتأويلين غير مرضيين انتهى.

قال الحافظ: فأما تأويل الخطابيّ، فإنه قال: فعل أبي موسى يخالف فعل عليّ، وكأنه أراد بقوله: أهللت كإهلال النبيّ صلى الله عليه وسلم، أي كما يبيّنه لي، ويُعيّنه لي من أنواع ما يُحرِم به، فأمره أن يحلّ بعمل عمرة؛ لأنه لم يكن معه هديٌ. وأما تأويل عياض، فقال: المراد بقوله: "فكنت أفتي الناس بالمتعة" أي بفسخ الحجّ إلى العمرة. والحامل لهما على ذلك اعتقادهما أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردًا، مع قوله:"لولا أن معي الهدي لأحللت"،

ص: 199

أي فسخت الحجّ، وجعلته عمرة، فلهذا أمر أبا موسى بالتحلّل؛ لأنه لم يكن معه هديٌ، بخلاف عليّ. قال عياض: وجمهور الأئمة على أن فسخ الحجّ إلى العمرة كان خاصًّا بالصحابة انتهى.

وقال ابن المنيّر في "الحاشية": ظاهر كلام عمر التفريق بين ما دلّ عليه الكتاب، ودلّت عليه السنّة، وهذا التأويل يقتضي أنهما يرجعان إلى معنى واحد. ثم أجاب بأنه لعله أراد إبطال وهم من توهّم أنه خالف السنّة، حيث منع من الفسخ، فتبيّن أن الكتاب والسنة متوافقان على الأمر بالإتمام، وأن الفسخ كان خاصًّا بتلك السنة؛ لإبطال اعتقاد الجاهلية أن العمرة لا تصحّ في أشهر الحجّ انتهى.

وأما إذا قلنا: كان قارنا، على ما هو الصحيح المختار، فالمعتمد ما ذكر النوويّ. واللَّه أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم أن الصواب أن فسخ الحجّ إلى العمرة ليس خاصًا بتلك السنة، بل هو سنة مستمرة إلى يوم القيامة، كما بينه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتنبّه. واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

قال: واستُدِلّ به على جواز الإحرام المبهم، وأن المحرم به يصرفه لما شاء، وهو قول الشافعيّ، وأصحاب الحديث، ومحلّ ذلك ما إذا كان الوقت قابلاً، بناء على أن الحجّ لا ينعقد في غير أشهره. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-.

وتمام البحث في الحديث تقدّم قبل حديثين. واللَّه تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2739 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدْ تَمَتَّعَ، وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ، قَالَ فِيهَا قَائِلٌ بِرَأْيِهِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح غير شيخه "إبراهيم بن يعقوب" وهو الجُوزجانيّ، نزيل دمشق، الحافظ الثبت [11] 122/ 174 فإنه من أفراد المصنّف وأبي داود والترمذي. و"عثمان بن عمر": هو العبديّ البصريّ، بخاريّ الأصل، ثقة [9] 151/ 1118.

وقوله: "قال فيها" أي في النهي عن المتعة، قائل برأيه، أي فلا عبرة له في مقابلة صريح السنة. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفق عليه، وقد تقدم في 49/ 2726 - وتقدم تمام البحث فيه هناك،

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 200

فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌51 - (تَرْكُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الإِهْلَالِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أشار بهذه الترجمة إلى أن تسمية الحجّ، أو العمرة في أول الإهلال ليست واجبة، ووجه الاستدلال عليه بحديثي الباب أن قوله:"لا ننوي إلا الحجّ" صريح في أنهم حينما أنشأوا الإحرام أنشأوه بنية الحجّ، ثم أمرهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بفسخه بعمل العمرة، فتحللوا بذلك، فدلّ على أن تسمية النسك المعيّن حال الإحرام غير واجبة؛ لأنه لو كان واجبًا لما جاز أداء العمرة دون أن يسموها في وقت الإهلال، وهو استدلال واضح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2740 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: أَتَيْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَحَدَّثَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَكَثَ بِالْمَدِينَةِ، تِسْعَ حِجَجٍ، ثُمَّ أُذِّنَ فِي النَّاسِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجِّ هَذَا الْعَامِ، فَنَزَلَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ

(1)

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِخَمْسٍ بَقِينَ، مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ، وَخَرَجْنَا مَعَهُ، قَالَ جَابِرٌ: وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَيْنَ أَظْهُرِنَا، عَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ

(2)

، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ

(3)

، وَمَا عَمِلَ بِهِ، مِنْ شَيْءٍ، عَمِلْنَا، فَخَرَجْنَا لَا نَنْوِي إِلاَّ الْحَجَّ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"يعقوب ابن إبراهيم": هو الدورقيّ. و"يحيى بن سعيد": هو القطّان.

وقوله: "تسع حجج" بكسر الحاء المهملة، وبجيم مكرّرة: أي تسع سنين. وقوله: "ثم أذن" بتشديد الذال المعجمة، من التأذين، وهو الإعلام. أو بمدّ الهمزة، من الإيذان، وهو بمعناه: أي نادى، وأعلم، والمراد أنه أمر بالنداء، فنادى المنادي. ويحتمل أن يكون الفعل بضبطيه السابقين مبنيًّا للمفعول. أي أُعلم بذلك. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "حاجّ في هذا العام"، وفي بعض النسخ:"في حاجّ هذا العام" بإضافة "حاجّ"

(1)

- وفي نسخة: "يأتمّ رسول اللَّه" بإسقاط الباء.

(2)

- وفي نسخة: "الوحي".

(3)

- وفي نسخة: "بتأويله"، ولعل الباء زائدة.

ص: 201

إلى اسم الإشارة، ومعناه: أنه خارج في جملة من يحجّ في هذه السنة.

وقوله: "فنزل المدينة الخ" أي جاء إلى المدينة من خارجها حتى يخرج منها إلى مكة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يتعلم أحكام النسك منه بالقول والفعل. وفي "الكبرى":"فترك" بالتاء، والراء، والكاف، بدل "نزل"، وهو إن لم يكن تصحيفًا، فمعناه: أن خلقًا كثيرًا من أهل المدينة تركوها خارجين إلى الحجّ معه صلى الله عليه وسلم. والظاهر أنه تصحيف.

وقله: "يلتمس" أي يقصد، ويطلب، وإنما أفرد الضمير، باعتبار إفراد لفظة "كلّ". وقوله:"يأتمّ" بتشديد الميم: أي يقتدي به. وقوله: "ويفعل ما يفعل" تفسيرٌ للاقتداء، والمراد يفعل مثل ما يفعله صلى الله عليه وسلم، كما في رواية أبي داود.

وقوله: "ينزل عليه القرآن الخ" هو حثّ على التمسّك بما أخبر به عن فعله صلى الله عليه وسلم، حيث إنه ما يفعل شيئًا إلا عن وحي من اللَّه تعالى.

وقوله: "لا ننوي إلا الحجّ" أي لا نقصد إلا أداء الحجّ. قال السنديّ: أي في أول الأمر وقت الخروج من البيوت، وإلا فقد أحرم بعض بالعمرة، أو هو خبر عما كان عليه غالبهم، أو المراد أن المقصد الأصليّ من الخروج كان الحجّ، وإن نوى بعض العمرة انتهى.

والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان المسائل المتعلّقة به في 46/ 2712 - فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعمِ الوكيل.

2741 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْنَا لَا نَنْوِي إِلاَّ الْحَجَّ، فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ: «أَحِضْتِ؟» ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «إِنَّ هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عز وجل، عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْمُحْرِمُ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عبد اللَّه بن يزيد": هو الَمقرىء المكيّ. و"سفيان": هو ابن عيينة.

والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم الحديث في "أبواب الطهارة" -183/ 290 - وتقدّم شرحه هناك، وتقدم أيضًا تخريجه في 16/ 2650.

وقوله: "بسرف" بفتح، فكسر: موضع قريب من مكة، ممنوع من الصرف، وقد يُصرف، وهو الموضع الذي تزوّج به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث - رضي اللَّه تعالى عنها -، وبه توفيت، ودنت.

وقوله: "غير أن لا تطوفي بالبيت" بنصب "غير" على الاستثناء، و"أن" يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، وفيه ضمير الشأن، و"تطوفي" مجزوم بـ "لا" الناهية. والمعنى

ص: 202

لا تطوفي ما دمت حائضًا. ويجوز أن تكون "أن" ناصبة، و"لا" زائدة، والفعل منصوب بـ "أن"، وهو مؤول بالمصدر، أي غير طوافك.

وقال السنديّ: كلمة "لا" زائدة، أو هو استثناء مما يُفهم، أي لا فرق بينك، وبين المحرم غير أن لا تطوفي انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌52 - (الْحَجُّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ

(2)

يَقْصِدُهُ الْمُحْرِمُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف أشار بهذه الترجمة إلى جواز تعليق نية الحجّ بنيّة غيره.

ووجه الاستدلال بالأحاديث الآتية أن أبا موسى وعليّا - رضي اللَّه تعالى عنهما - أهل كلّ منهما بما أهلّ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فانعقد إحرامهما بذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2742 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ طَارِقَ بْنَ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى: أَقْبَلْتُ مِنَ الْيَمَنِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، مُنِيخٌ بِالْبَطْحَاءِ، حَيْثُ حَجَّ، فَقَالَ:«أَحَجَجْتَ؟» ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:«كَيْفَ قُلْتَ؟» ، قَالَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«فَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَحِلَّ» ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً، فَفَلَتْ رَأْسِي، فَجَعَلْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِذَلِكَ، حَتَّى كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا مُوسَى، رُوَيْدَكَ بَعْضَ فُتْيَاكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي، مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي النُّسُكِ بَعْدَكَ، قَالَ أَبُو مُوسَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كُنَّا أَفْتَيْنَاهُ، فَلْيَتَّئِدْ

(3)

، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ، فَائْتَمُّوا بِهِ، وَقَالَ عُمَرُ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَحِلَّ، حَتَّى بَلَغَ

(4)

الْهَدْىُ مَحِلَّهُ").

(1)

-"شرح السنديّ" 5/ 156.

(2)

- وفي نسخة: "بغير النيّة".

(3)

- وفي نسخة: "فليتّئده".

(4)

- وفي نسخة: "حتى يبلغ الهدي محله".

ص: 203

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث متّفق عليه، وقد تقدّم قبل باب -50/ 2738 - وتقدم البحث فيه مستوفًى هناك، ولنوضّح هنا بعض ما يُستشكلُ:

فـ"خالد": هو ابن الحارث الهجيميّ.

وقوله: "منيخ" اسم فاعل من أناخ: إذا أبرك. وقوله: "حيث حجّ" قال السنديّ: كأنه بمعنى "حين حجّ" من استعارة ظرف المكان للزمان. انتهى.

وقوله: "أحججت" أي أأحرمت بالحجّ؟.

وقوله: "فقلت رأسي" بالتخفيف: أي أخرجت ما فيه من القمل.

وقوله: "حتى كان في خلافة عمر" اسم "كان" ضمير يعود إلى الوقت، والجارّ والمجرور خبرها: أي إلى أن كان الوقت كائنا في خلافة عمر رضي الله عنه. وتمام الشرح تقدّم بالرقم المذكور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2743 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: أَتَيْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَحَدَّثَنَا أَنَّ عَلِيًّا، قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ بِهَدْيٍ، وَسَاقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ هَدْيًا، قَالَ لِعَلِيٍّ: «بِمَا أَهْلَلْتَ؟» ، قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعِيَ الْهَدْيُ، قَالَ: «فَلَا تَحِلَّ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم في -46/ 2712 - وقد استوفيت شرحه، والكلام على مسائله هناك. وموضع الاستدلال هنا قوله:"اللَّهم إني أهلّ بما أهلّ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، حيث إنه أهلّ بما نواه غيره، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأداه بذلك، فدلّ على جواز تعليق النية بنية غيره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2744 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ: قَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ سِعَايَتِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«بِمَا أَهْلَلْتَ يَا عَلِيُّ؟» ، قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«فَاهْدِ، وَامْكُثْ حَرَامًا، كَمَا أَنْتَ» ، قَالَ: وَأَهْدَي عَلِيٌّ لَهُ هَدْيًا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو عمران بن خالد بن يزيد، نُسب لجده، فإنه من أفراده، وهو ثقة.

و"شعيب": هو ابن إسحاق بن عبد الرحمن البصريّ، ثم الدمشقيّ.

وقوله: "عن ابن جُريج، قال عطاء الخ" يقدّر قبل قوله: "قال عطاء""أنه قال"، أي قال ابن جريج: قال عطاء الخ. فجملة "قال عطاء" مقول القول المقدّر. وجملة: "قال

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 204

جابر الخ" مقول "قال عطاء".

وقوله: "من سعايته" بكسر السين، أي من عمله.

وقوله: "وامكث حرامًا كما أنت". قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: أي ابْقَ محرمًا على ما أنت عليه من الإحرام.

قيل: ما فائدة قوله: "كما أنت"، وقوله:"وامكث محرمًا" يغني عنه.

قلت: كأنه صرّح بذلك تنبيهًا على أن ما عليه إحرام ليتبيّن بذلك أن الإحرام المبهم إحرام شرعًا، وهذا مطلوب مهمٌ، فيحتاج إلى زيادة التنبيه. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: ذكر ابن هشام الأنصاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "مغني اللبيب" إعراب قوله: "كن كما أنت": قيل: إن المعنى: على ما أنت عليه، وللنحويين في هذا المثال أعاريب:

(أحدها): هذا، وهو أن ما موصولة، وأنت مبتدأ، حُذف خبره. (والثاني): أنها موصولة، وأنت خبر حُذف مبتدؤه، أي كالذي هو أنت، وقد قيل بذلك في قوله تعالى:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ، أي كالذي هو لهم آلهة. (والثالث): أن "ما" زائدة ملغاة، والكاف أيضًا جارّة، و"أنت" ضمير مرفوع، أُنيب عن المجرور، كما في قولهم: ما أنا كأنت، والمعنى كن فيما يُستقبَلُ مماثلاً لنفسك فيما مضى. (والرابع): أن "ما" كافّة، و"اْنت " مبتدأ، حُذف خبره، أي "عليه"، أو "كائن" انتهى المقصود من كلام ابن هشام -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. والحديث متّفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2745 -

(أَخْبَرَنِي

(2)

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ، حِينَ أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْيَمَنِ، فَأَصَبْتُ مَعَهُ، أَوَاقِي، فَلَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ، عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ عَلِيٌّ: وَجَدْتُ فَاطِمَةَ، قَدْ نَضَحَتِ الْبَيْتَ بِنَضُوحٍ، قَالَ: فَتَخَطَّيْتُهُ، فَقَالَتْ لِي: مَا لَكَ؟ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ، فَأَحَلُّوا، قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي:«كَيْفَ صَنَعْتَ؟» ، قُلْتُ: إِنِّي أَهْلَلْتُ بِمَا أَهْلَلْتَ، قَالَ:«فَإِنِّي قَدْ سُقْتُ الْهَدْيَ، وَقَرَنْتُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن محمد بن جعفر" الطَّرَسُوسيّ، صدوق [12]. روى عن يحيى بن معين، وعاصم بن النضر الأحول. روى عنه المصنّف حديث

(1)

- راجع "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 177 - 178.

(2)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 205

الباب فقط، وجاء عنه منسوبًا في "الكبرى"، فقال:"طرسوسي". وقال ابن عساكر: إنما هو محمد بن أحمد بن جعفر الوكيعيّ، فقد ذكره النسائيّ في جملة شيوخه. وسماه مسلمة بن قاسم أحمد أيضًا، ووثقه. قال الحافظ: وهو وهم، ولم يذكر ابن يونس إلا محمد بن أحمد انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لم يظهر لي توهيم الحافظ المذكور؛ فإن المصنّف أدرى بمشايخه، وقد سماه هنا، وفي "الكبرى" أحمد بن محمد بن جعفر". فما هو سبب الوهم؟. واللَّه تعالى أعلم.

و"حجاج": هو ابن محمد الأعور المصّيصّي. والحديث صحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه في 49/ 2725.

وقوله: "قد نضحت البيت" أي طيبته. وقوله: "بنضوح" بفتح النون: ضرب من الطيب، تفوح رائحته.

وقوله: "فتخطيته": أي تجاوزته، وإنما تخطّاه؛ لئلا يتلطخ به، وهو محرم.

وقوله: "فقالت لي: مالك؟ " أي قالت فاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها -: أي شيء دعاك لتخطيه، وإنما قالت له ذلك لظنها أنه ممن تحلّل كغيره ممن لم يُهد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌53 - (إِذَا أَهَلَّ بِعمْرَةِ هَلْ يَجْعَل مَعَهَا حَجًّا)

2746 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، أَرَادَ الْحَجَّ، عَامَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَأَنَا أَخَافُ

(1)

أَنْ يَصُدُّوكَ، قَالَ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، إِذًا أَصْنَعَ، كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِنِّي أُشْهِدُكُمْ، أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عُمْرَةً، ثُمَّ خَرَجَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ، قَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، إِلاَّ وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجًّا، مَعَ عُمْرَتِي، وَأَهْدَى هَدْيًا، اشْتَرَاهُ بِقُدَيْدٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ يُهِلُّ بِهِمَا جَمِيعًا، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا

(1)

- وفي نسخة: "وإنا نخاف أن يصدّوك".

ص: 206

وَالْمَرْوَةِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْحَرْ، وَلَمْ يَحْلِقْ، وَلَمْ يُقَصِّرْ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ، فَنَحَرَ، وَحَلَقَ، فَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، بِطَوَافِهِ الأَوَّلِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي الثقة الثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد الإمام الحجة الثبت المصري [7] 31/ 35.

3 -

(نافع) العدوي مولى ابن عمر المدني الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.

4 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من رباعيات المصنف رحمه الله، وهو (141) من رباعيات الكتاب، وفيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ نَافِعٍ) العدويّ رحمه الله (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

هذا السياق يُشعر بأن الحديث عن نافع، عن ابن عمر بغير واسطة، لكن رواية جويرية الآتية في -102/ 2859 - تقتضي أن نافعًا حمل ذلك عن عبد اللَّه، وسالم ابني عبد اللَّه بن عمر، عن أبيهما، حيث قال فيها: عن جويرية، عن نافع، أن عبد اللَّه بن عبد اللَّه، وسالم بن عبد اللَّه أخبراه أنهما كلما عبد اللَّه بن عمر

فذكر القصّة، والحديث.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: هكذا قال البخاريّ عن عبد اللَّه بن محمد بن أسماء، ووافقه الحسن بن سفيان، وأبو يعلى عن عبد اللَّه، أخرجه الإسماعيليّ عنهما، وتابعهم معاذ بن المثنّى، عن عبد اللَّه بن محمد بن أسماء. أخرجه البيهقيّ. لكن في رواية موسى بن إسماعيل، عن جُويرية، عن نافع أن بعض بني عبد اللَّه بن عمر، قال له

فذكر الحديث. وظاهره أنه لنافع عن ابن عمر بغير واسطة. وقد عقّب البخاريّ رواية عبد اللَّه برواية موسى لينبّه على الاختلاف في ذلك، واقتصر في رواية موسى هنا على الإسناد، وساقه في "المغازي" بتمامه.

وقد رواه يحيى القطّان عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، كذلك، ولفظه:"أن عبد اللَّه ابن عبد اللَّه، وسالم بن عبد اللَّه كلّما عبد اللَّه"، فذكر الحديث. أخرجه مسلم. وقد أخرجه البخاريّ في "المغازي" عن مسدّد، عن يحيى، مختصرًا، قال فيه: عن نافع،

ص: 207

عن ابن عمر، أنه أهلّ، فذكر بعض الحديث. وفي قوله: عن نافع، عن ابن عمر دلالة على أنه لا واسطة بين نافع، وابن عمر فيه، كما هو ظاهر سياق مسلم. وأخرجه البخاريّ من طريق عمر بن محمد، عن نافع، مثل سياق يحيى، عن عبيد اللَّه سواء.

وأخرجه من طريق فُليح من طريق أيوب، والليث، كلهم عن نافع. وأعرض مسلم عن تخريج طريق جويرية، ووافق على طريق تخريج الليث، وأيوب، عن عبيد اللَّه بن عمر. وكذا أخرجه النسائيّ من طريق أيوب بن موسى، وإسماعيل بن أُميّة كلهم عن نافع، عن ابن عمر بغير واسطة.

قال: والذي يترجّح في نقدي أن ابني عبد اللَّه أخبرا نافعًا بما كلّما به أباهما، وأشارا عليه به من التأخّير ذلك العام، وأما بقيّة الفضّة فشاهدها نافع، وسمعها من ابن عمر؛ لملازمته إياه، فالمقصود من الحديث موصول، وعلى تقدير أن يكون نافع لم يسمع شيئًا من ذلك من ابن عمر، فقد عُرف الواسطة بينهما، وهي ولدا عبد اللَّه بن عمر، سالم، وعبد اللَّه، وهما ثقتان، لا مطعن فيهما. ولم أر من نبّه على ذلك من شُرّاح البخاريّ.

ووقع في رواية جويرية المذكورة عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بالتصغير، وفي رواية يحيى القطّان المذكورة عبد اللَّه بالتكبير، وكذا في رواية عمر بن محمد، عن نافع، قال البيهقيّ: عبد اللَّه -يعني مكبرًا- أصحّ.

قال الحافظ: وليس بمستبعد أن يكون كلّ منهما كلّم أباه في ذلك، ولعلّ نافعًا حضر كلام عبد اللَّه المكبّر مع أخيه سالم، ودم يحضر كلام عبيد اللَّه المصغّر مع أخيه سالم أيضًا، بل أخبراه بذلك، فقصّ عن كلّ ما انتهى إليه علمه انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "ووقع في رواية جويرية عبيد اللَّه مصغرًا الخ" هكذا في رواية البخاريّ من رواية محمد بن عبد اللَّه بن أسماء، عن جويرية، وإلا فرواية جويرية عند النسائيّ من طريق عبد اللَّه بن يزيد المقرئ عنه "عبد اللَّه بن عبد اللَّه" مكبرًا. وهذا الاختلاف يدلّ على أن المكبر أصحّ كما قاله البيهقيّ. واللَّه تعالى أعلم.

(أَرَادَ الْحَجَّ) وفي رواية البخاريّ من طريق مالك عن نافع: "أن عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - حين خرج إلى مكة معتمرًا

". قال الحافظ: لا اختلاف بينهما، فإنه خرج أوّلاً يريد الحجّ، فلما ذكروا له أمر الفتنة أحرم بالعمرة، ثم قال: ما شأنهما إلا واحدًا، فأضاف إليها الحجّ، فصار قارنًا انتهى

(2)

.

(عَامَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ) أي جاء ليقاتله من قبل مروان بن الحكم. وفي رواية

(1)

- "فتح" 4/ 469 - 470.

(2)

- المصدر المذكور.

ص: 208

جويرية الآتية: "لما نزل الجيش بابن الزبير قبل أن يُقتل". وفي رواية للبخاريّ: "ليالي نزل الجيش بابن الزبير"، وفي رواية له:"في الفتنة"، وفي رواية له:"أراد ابن عمر الحجّ عام حجّ الحروريّة". قال الحافظ: قوله في هذه الرواية: "عام حجة الحرورية"، وفي رواية الكشميهني:"حجّ الحرورية في عهد ابن الزبير" مغايل لقوله في "باب طواف القارن" من رواية الليث، عن نافع:"عام نزل الحجاج بابن الزبير"؛ لأن حجة الحرورية كانت في السنة التي مات فيها يزيد بن معاوية، سنة أربع وستين، وذلك قبل أن يتسمّى ابن الزبير بالخلافة، ونزول الحجاج بابن الزبير كان في سنة ثلاث وسبعين، وذلك في آخر أيام ابن الزبير، فإما أن يُحمل على أن الراوي أطلق على الحجاج، وأتباعه حرورية؛ لجامع ما بينهم من الخروج على أئمة الحقّ، وإما أن يُحمل على تعدّد القصّة. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وكان من شأن الزبير أنه لما مات معاوية بن يزيد ابن معاوية، ولم يستخلف، بقي الناس لا خليفة لهم جمادين، وأيامًا، من رجب، من سنة أربع وستين، فاجتمع من كان بمكة من أهل الحلّ والعقد، فبايعوا عبد اللَّه بن الزبير لتسع ليال بقين من رجب من السنة المذكورة، واستوسق له سلطان الجحاز، والعراق، وخراسان، وأعمال المشرق، وبايع أهل الشام، ومصر مروان بن الحكم في شهر رجب المذكور، ثم لم يزل أمرهما كذلك إلى أن توفّي مروان، وولي ابنه عبد الملك، فمنع الناس من الحجّ لئلا يبايعوا ابن الزبير، ثم إنه جيّش الجيوش إلى الحجاز، وأمّر عليهم الحجّاج، فقاتل أهل مكة، وحاصرهم إلى أن تغلّب عليهم، وقتل ابن الزبير، وصلبه، وذلك يوم الثلاثاء، لثلاث ليال، وقيل: لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة، سنة ثلاث وسبعين انتهى

(2)

.

(فَقِيلَ لَهُ) أي لابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -. وقع في رواية البخاريّ من طريق أيوب، عن نافع، أن القائل هو ولده عبد اللَّه بن عبد اللَّه، ولفظه: "قال عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما لأبيه: أقم، فإني لا آمن أن ستُصدّ عن البيت

". وفي رواية جويرية، عن نافع: أن عبد اللَّه بن عبد اللَّه، وسالم بن عبد اللَّه أخبراه أنهما كلما عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - ليالي نزل الجيش بابن الزبير، فقالا: لا يضرّك أن لا تحجّ العام، إنا نخاف أن يحال بينك وبين البيت

(إِنَّهُ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ) أي بين جيش ابن الزبير وجيش الحجاج (قِتَالٌ) بالرفع على أنه فاعل "كائن"(وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَصُدُّوكَ) أي يمنعوك عن الوصول إلى البيت، وأداء نسكك (قَالَ) ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - ({لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}) بضم الهمزة، وكسرها، وقد

(1)

- "فتح" 4/ 372.

(2)

- "المفهم" 3/ 355 - 356.

ص: 209

قرئ بهما في الآية

المذكورة. قاله القرطبيّ. أي قدوة حسنة (إِذًا أَصْنَعَ) بالنصب بـ "إذن"؛ لوجود شروط عملها التي أشار إليها ابن في "الخلاصة" بقوله:

وَنَصَبُوا بِـ "إِذَنٍ" الْمُسْتَقْبَلا

إِنْ صُدَّرَتْ وَالْفِعْلُ بَعْدُ مُوصَلَا

أَوْ قَبْلَهُ الْيَمِينُ وَانْصِبْ وَارْفَعَا

إِذَا "إِذَنْ" مِنْ بَعْدِ عَطْفٍ وَقَعَا

(كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم)"ما" اسم موصول، أي كالذي صنعه صلى الله عليه وسلم، أو حرف مصدريّ، أي كصنعه صلى الله عليه وسلم، يعني أنه إن صُدّ عن البيت حلّ من إحرامه، كما حلّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حين أُحصر بالحديبية؛ إذ صدّه المشركون عن البيت.

وقال النوويّ: وأما قوله: "صنعنا كما صنعنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ": فالصواب في معناه أنه أراد إن صددت، وحُصرت تحللت كما تحللنا عام الحديبية مع النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال القاضي: يحتمل أنه أراد أُهِلّ بعمرة كما أَهلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعمرة في العام الذي أُحصر.

قال: ويحتمل أنه أراد الأمرين، قال: وهو الأظهر. وليس بظاهر كما ادعاه، بل الصحيح الذي يقتضيه سياق كلامه ما قدّمناه انتهى.

وفي رواية جويرية: "فقال: "خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فحال كفّار قريش دون البيت، فنحر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هديه، وحدق رأسه، وأُشهدكم أني قد أوجبت العمرة إن شاء اللَّه، أنطلق، فإن خُلّي بيني وبين البيت طُفت، وإن حِيل بيني وبين البيت فعلت ما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنا معه

".

(إِنّي) بكسر الهمزة (أُشْهِدُكمْ، أَنَّي قَدْ أَوْجَبْتُ عُمْرَةً) أي ألزمت نفسي ذلك، والإيجاب هنا معناه الإلزام، وإنما قال ذلك لتعليم من أراو الاقتداء به، فإن الإشهاد في مثل هذا لا يحتاج إليه، ولا التلفظ بذلك، والنية كافية في صحة الإحرام. قاله وليّ الدين.

وفي رواية جويرية عند البخاريّ: "فأهلّ بالعمرة من ذي الحليفة"، وفي رواية أيوب:"فأهل بالعمرة من الدار". والمراد بالدار المنزل الذي نزله بذي الحليفة.

ويحتمل أن يُحمل على الدار التي بالمدينة، ويُجمع بأنه أهلّ بالعمرة من داخل بيته، ثم أعلن بها، وأظهرها بعد أن استقرّ بذي الحليفة. قاله في "الفتح".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاحتمال الثاني ضعيف، بل باطل، لأن رواية المصنّف الآتية 144/ 2933 من طريق أيوب السختياني، وأيوب بن موسى، وعبيد اللَّه كلهم، عن نافع، مصرّحة بما يزده، ولفظه: "قال: خرج عبد اللَّه بن عمر، فلما أتى ذا الحليفة، أهلّ بالعمرة، فسار قليلاً

"، فظهر بهذا أن الاحتمال الذي ذكروه في تفسير

ص: 210

الدار بداره في المدينة غير صحيح، بل الصواب أنه المنزل الذي نزله بذي الحليفة.

ولأن ابن عمر رضي الله عنهما معروف بشدة اتباعه للنبيّ صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن يخالفه في الإحرام قبل الميقات الذي حدّده صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، وقد قدّمنا أن الأرجح أنه لا يجوز الإحرام قبل الميقات، فالمعنى الأول هو المتعيّن هنا. فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ خَرَجَ) أي من المدينة (حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ) وفي رواية جويرية: "ثم سار ساعة، ثم قال: إنما شأنهما واحد

"، قال الحافظ: وهو يؤيّد الاحتمال الأول الماضي في أن المراد بالدار المنزل الذي نزله بذي الحليفة. وقال أيضًا: ولو كان إيجابه العمرة من داره التي بالمدينة لكان ما بينها وبين ظاهر البيداء أكثر من ساعة انتهى.

(قَالَ) ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - (مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، إِلاَّ وَاحِدٌ) أي فيما يتعلّق بالإحصار، والإحلال. وقال القرطبيّ: أي في حكم الصدّ، يعني أنه من صُدّ عن البيت بعدوّ، فله أن يحلّ من إحرامه، سواء كان محرمًا بحجّ، أو عمرة، وإن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما صُدّ عن عمرة؛ لكن لما كان الإحرام بالحجّ مساويًا للإحرام بالعمرة في الحكم حمله عليه انتهى.

وقال النووي: فيه صحة القياس، والعمل به، وأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملونه، فلهذا قاس الحجّ على العمرة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما تحلّل من الإحصار بعمرة عام الحديبية من إحرامه بعمرة وحدها انتهى

(1)

.

قال الحافظ وليّ الدين: ما ذكره في معنى كلام ابن عمر لا يتعيّن، فقد يكون معناه: ما أمرهما إلا واحد في إمكان الإحصار عن كلّ منهما، فكأنه كان أولاً رأى الإحصار عن الحجّ أقرب من الإحصار عن العمرة لطول زمن الحجّ، وكثرة أعماله، بخلاف العمرة، ويدلّ لهذا قوله في رواية عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع بعد قوله:"ما أمرهما إلا واحد": "إن حيل بيني وبين العمرة حيل بيني وبين الحجّ"، وهو في "الصحيح" انتهى

(2)

.

(أُشْهِدُكُمْ أَنَّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجًّا، مَعَ عُمْرَتِي) يعني أنه أدرف الحجّ على عمرته المتقدّمة، فصار قارنا. وفيه حجة على جواز إدخال الحج على العمرة، وهو مذهب الجمهور (وَأَهْدَى) بفتح الهمزة، فعل ماض من الإهداء (هَدْيًّا، اشْتَرَاهُ بِقُدَيْدٍ) بضم القاف مصغّرًا: موضع بين مكة والمدينة. يعني أنه قلّده هناك، وأشعره، ويعني به الهدي الذي وجب عليه لأجل قرانه.

(1)

-"شرح مسلم" 8/ 439.

(2)

- "طرح التثريب" 5/ 162.

ص: 211

وروى علي بن عبد العزيز، عن القعنبيّ، عن مالك في هذا الحديث:"وأهدى شاة"، فزاد ذكر الشاة، قال ابن عبد البرّ: وهو غير محفوظ عن ابن عمر، والدليل على غلطه أن ابن عمر كان مذهبه فيما استيسر من الهدي بقرة دون بقرة، أو بدنة دون بدنة.

ذكره عبد الرزّاق عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عنه. وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، قال: ما استيسر من الهدي: البدنة، والبقرة. وروي عن عمر، وابن عبّاس، وعليّ، وغيرهم: ما استيسر من الهدي شاة، وعليه العلماء انتهى

(1)

.

(ثُمَّ انْطَلَقَ يُهِلُّ بِهمَا جَمِيعًا) أي ذهب إلى البيت يرفع صوته بالحج والعمرة معًا (حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَطَافَ بالْبَيْتِ) يعني طواف القدوم، فقد حصل له ما أراده، ولم يقع له شيء مما توهّمه من الصَدّ (وَبالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أي سعى بينهما (وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْحَرْ) هديه (وَلَمْ يَحْلِقْ) رأسهَ (وَلَمْ يُقَصَّرْ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ)"كان" هنا تامّة، ولذا اكتفت بمرفوعها: أي حتى جاء يوم النحر (فنَحَرَ، وَحَلَقَ، فَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةِ، بِطَوَافِهِ الأَوَّلِ) قال القرطبيّ: يعني الطواف بين الصفا والمروة، وأما الطواف بالبيت، فلا يصحّ أن يقال فيه: إنه اكتفى بطواف القدوم عن طواف الإفاضة؛ لأنه هو الركن الذي لا بدّ منه للمفرد، والقارن، ولا قائل بأن طواف القدوم يُجزىء عن طواف الإفاضة بوجه انتهى

(2)

.

وقال ابن عبد البرّ: فيه حجة لمالك في قوله: إن طواف القدوم إذا وُصل بالسعي يُجزىء عن طواف الإفاضة لمن تركه جاهلاً، أو نسيه، حتى رجع إلى بلده، وعليه الهدي، قال: ولا أعلم أحدًا قاله غيره، وغير أصحابه. انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الصواب ما قاله القرطبيّ، من أن المراد بالطواف السعي، لا الطواف بالبيت، فإنه لا يكفى الطواف الأول عن الإفاضة، بدليل حديث جابر رضي الله عنه الصحيح، قال:"لم يطف النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا، طوافه الأول". فإن هذا صريح في كون المراد بالطواف الأول في حديث ابن عمر المذكور هو السعي بين الصفا والمروة، لا الطواف بالبيت، فإن جابرًا، وغيره قد نصّوا على أنه صلى الله عليه وسلم، وأصحابه أفاضوا يوم النحر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

وأما ما أطال به السنديّ نفسه، فلا أرى لنقله هنا وَجْهًا؛ لأن ما سبق يغني عنه، وأما استبعاده إطلاق الطواف على السعي، فعجيب منه، فإن هذا الحديث نفسه يُبطل ذلك،

(1)

- راجع "التمهيد" 15/ 190.

(2)

- "المفهم" 3/ 357 - 358.

(3)

- راجع "الاستذكار" 12/ 85.

ص: 212

فإنه قال: "فطاف بالبيت، وبالصفا والمروة"، وما أكثر مثل هذه العبارة في الأحاديث. فتبصّر، ولا تتحيّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) يعني أنه اكتفى بالطواف بين الصفا والمروة حين طاف للقدوم، ولم يُعِد السعي. وفيه حجة للجمهور على أبي حنيفة: إذ قال: إن القارن لا يكتفي بعمل واحد، بل لا بدّ من عمل كلّ واحد من الحجّ والعمرة، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في محله، باب "طواف القارن" -144/ 2932 - إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-53/ 2746 و 102/ 2855 و 144/ 2932 و 2933 - وفي "الكبرى" 53/ 3727 و 101/ 3842 و 139/ 3913 و 3914. وأخرجه (خ) في "الحج" 1639 و 1640 و 1693 و 1708 و 1726 و 1732 و 1806 و 1808 و 1810 و 1812 و 1813 و"المغازي" 4183 و 4184 و 4185 (م) في "الحج" 1230 و 1301 و 1304 (ت) في "الحج" 913 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4466 و 4581 و 4582 و 4944 و 5143 و 5276 و 51300 و 6188 و 6232 و 6355 (الموطأ) في "الحجّ" 808 (الدارمي) في "المناسك" 1893. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز إدخال الحجّ على العمرة. (ومنها): أن من أحصره العدوّ، أي منعه عن المضيّ في نسكه، سواء كان حجًا أو عمرة، جاز له التحلّل بأن ينحر هديه، ويحلق رأسه، أو يقصّر. والتحلّل بإحصار العدوّ مجمع عليه في الجملة، حكاه ابن المنذر عن كلّ من يُحفظ عنه من أهل العلم، وبه قالت الأئمة الأربعة، وإن اختلفوا في تفاصيل، وتفاريع، سيأتي توضيحها في مَحَلّها، باب "فيمن أُحصر بعدو" -102/ 2859 - إن شاء اللَّه تعالى.

(ومنها): أنه يجوز للحاج أن يخرج في الطريق المخوف إذا لم يتيقّن بالسوء، ورجى السلامة، وليس ذلك من إلقاء النفس إلى التهلكة. (ومنها): أن القارن يقتصر على طواف واحد، وسعي واحد، وبه قال الجمهور، وخالف الحنفية في ذلك، فأوجبوا

ص: 213

عليه طوافين، وسعيين، وسيأتي تحقيق فيه في محله إن شاء اللَّه تعالى.

(ومنها): أن القارن يهدي كالمتمتع، وبه قال العلماء، من فضّل منهم القران على غيره، ومن جعله مرجوحًا، ومن قال بإتيان القارن بأعمال النسكين، ومن قال بالاقتصار على عمل واحد. وخالف في ذلك ابن حزم، فقال: لا هدي على القارن. والراجح قول الجمهور، لأن التمتع والقران معناهما واحد في اللغة، وعرف السلف، فتشلمهما آية {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في مذاهب أهل العلم في إدخال الحجّ على العمرة، وعكسه:

ذهب جمهور السلف والخلف إلى جواز إدخال الحجّ على العمرة، وهو قول الأئمة الأربعة، لكن شرطه عند أكثرهم أن يكون قبل طواف العمرة، ثم اختلفوا، فقالت الشافعيّة، والحنابلة: الشرط في صحّته أن يكون قبل الشروع في الطواف، وبه قال أشهب من المالكيّة، وصوّبه ابن عبد البرّ.

وقالت الحنفيّة: الشرط أن يكون قبل مضيّ أكثر الطواف، فمتى كان إدخاله الحجّ على العمرة بعد مضيّ أربعة أشواط لم يصحّ. وقال ابن القاسم: يصحّ ما لم يكمل الطواف. وعنه رواية أخرى ما لم يركع ركعتي الطواف. وقال القاضي أبو محمد من المالكيّة: يصحّ ما لم يكمل السعي. فهذا مع ما تقدّم عن أشهب أربعة أقوال عند المالكيّة. وشذّ بعض الناس فمنع إدخال الحجّ على العمرة، وقال: لا يُدخَل إحرام على إحرام، كما لا تُدخل صلاة على صلاة. وحكاه ابن عبد البرّ عن أبي ثور، ثم نقل الإجماع على خلافه.

وأما إدخال العمرة على الحجّ فمنعه الجمهور، وهو قول مالك، والشافعيّ، وأحمد. وجوّزه أبو حنيفة، وهو قول قديم للشافعيّ. قاله وليّ الدين

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة -رحمه اللَّه تعالى- من جواز إدخال الحجّ على العمرة هو الحقّ عندي؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعله، ولم يرد نصّ يمنع عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 162.

ص: 214

‌54 - (كَيْفَيَّةُ التَّلْبِيَةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "التلبية": مصدر لَبّى: إذا قال: لبيك. قال الفيّوميّ: وألبّ بالمكان إلبابًا: أقام، ولبّ لبًّا، من باب قتل لغة فيه، وثُنّي هذا المصدر، مضافًا إلى كاف المخاطب، وقيل: لبيك، وسعديك: أي أنا ملازم طاعتك لزومًا بعد لُزوم. وعن الخليل أنهم ثنّوه على جهة التأكيد، وقال: اللبّ: الإقامة، وأصل لبيك: لبين لك، فحُذفت النون للإضافة. وعن يونس أنه غير مثنى، بل اسم مفرد، يتّصل به الضمير بمنزلة "على"، و"لدى"، إذا اتّصل به الضمير. وأنكره سيبويه، وقال: لو كان مثل "على"، و"لدى" ثبتت الياء مع المضمر، وبقيت الألف مع الظاهر، وحكي من كلامهم:"لبّيْ زيد" بالياء مع الإضافة إلى الظاهر، فثبوت الياء مع الإضافة إلى الظاهر يدلّ على أنه ليس مثل "على"، و"لدى". ولبّى الرجل تلبية: إذا قال: لبيك، ولبّى بالحجّ كذلك. قال ابن السكّيت: وقالت العرب: لبَأْتُ بالحجّ بالهمز، وليس أصله الهمز، بل الياء. وقال الفرّاء: وربّما خرجت بهم فصاحتهم حتى هَمَزُوا ما ليس بمهموز، فقالوا: لبّأْتُ بالحجّ، ورثأتُ الميت، ونحو ذلك، كما يتركون الهمز إلى غيره فصاحة، وبلاغة انتهى كلام الفيّوميّ

(1)

.

وقال في "الفتح": "التلبية: مصدر لبّى: أي قال: لبيك، ولا يكون عامله إلا مضمرًا. وهو لفظ مثنى عند سيبويه، ومن تبعه. وقال يونس بن حبيب: هو اسم مفرد، وألفه إنما انقلبت ياء لاتصالها بالضمير، كـ"لديّ"، و"عليّ". ورد بأنها تقلب ياء مع المظهر. وعن الفرّاء: هو منصوب على المصدر، وأصله لبًّا لك، فثُنّي على التأكيد، أي إلبابًا بعد إلباب، وهذه التثنية ليست حقيقية، بل هي للتكثير، أو المبالغة، ومعناه: إجابة بعد إجابة، أو إجابةً لازمةً. قال ابن الأنباريّ: ثنّوا "لبيك" كما ثنّوا "حَنَانيك"، أي تحتنًا بعد تحنّن. وقيل: معنى "لبيك": اتجاهي، وقصدي إليك، مأخوذ من قولهم: داري تلب دارك، أي تواجهها. وقيل: معناها: مَحَبَّتِي لك، مأخوذ من قولهم: امرأة لبّة: إذا كانت محبّةً ولدها، عاطفة عليه. وقيل: معناها: إخلاصي لك، مأخوذ من قولهم: حسبٌ لباب، إذا كان خالصًا محضًا، ومن ذلك لبّ الطعام، ولُبابه. وقيل: معناها: أنا مقيم على طاعتك، وإجابتك، مأخوذ من قولهم: لبّ الرجلُ بالمكان،

(1)

-"المصباح المنير" في مادة لبّ.

ص: 215

وألبّ: إذا أقام فيه، ولزمه. قال ابن الأنباريّ: وبهذا قال الخليل، والأحمر، وقال إبراهيم الحربيّ: معنى "لبيك" قربًا منك، وطاعة، والإلباب: القرب. وقال أبو نصر: معناه: أنا مُلبّ بين يديك، أي خاضع. حكى هذه الأقوال القاضي عياض، وغيره.

قال الزمخشريّ في "الفائق": وهو منصوب على المصدر، للتكثير، ولا يكون عامله إلا مضمرًا، كأنه قال: أُلِبُّ إلبابًا بعد إلباب.

قال ابن عبد البرّ: ومعنى "التلبية": إجابة اللَّه فيما فرض عليهم من حجّ بيته، والإقامة على طاعته، فالمحرم بتلبيته مستجيب لدعاء اللَّه إياه في إيجاب الحجّ عليه، ومن أجل الاستجابة -واللَّه أعلم- لبّى؛ لأن من دُعي، فقال: لبيك، فقد استجاب. ثم قال: وقال جماعة، من أهل العلم: إن معنى التلبية إجابة إبراهيم عليه السلام حين أذّن في الناس بالحجّ. وقال القاضي عياض: قيل: وهذه الإجابة لقوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} انتهى.

قال الحافظ: وهذا أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم بأسانيدهم في "تفاسيرهم" عن ابن عبّاس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وقتادة، وغير واحد، والأسانيد إليهم قويّة، وأقوى ما فيه عن ابن عباس ما أخرجه أحمد بن منيع في "مسنده"، وابن أبي حاتم من طريق قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عنه، قال:"لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، قيل له: أذّن في الناس بالحجّ، قال: ربّ، وما يبلغ صوتي؟، قال: أذّن، وعلي البلاغ، قال: فنادى إبراهيم: يا أيها الناس كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض، أفلا ترون أن الناس يجيئون من أقصى الأرض، يُلبّون".

ومن طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عبّاس، وفيه:"فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، وأول من أجاب أهل اليمن، فليس حاجّ يحجّ من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ".

قال ابن المنيّر في "الحاشية": وفي مشروعيّة التلبية تنبيه على إكرام اللَّه تعالى لعباده بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه سبحانه وتعالى انتهى ما في "الفتح" بزيادة من "طرح التثريب"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2747 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: إِنَّ سَالِمًا أَخْبَرَنِي، أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ، يَقُولُ:

(1)

-"فتح" 4/ 191 - 192. "طرح التثريب" 5/ 89 - 90.

ص: 216

«لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ، لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ» ، وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَرْكَعُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ النَّاقَةُ قَائِمَةً، عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، أَهَلَّ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عيسى بن إبراهيم) ابن عيسى بن مَثْرود، أبو موسى المصري، ثقة من صغار [10] 31/ 819.

2 -

(ابن وهب) عبد اللَّه، أبو محمد المصري ثقة ثبت [9] 9/ 9.

3 -

(يونس) بن يزيد الأيلي، ثقة [7] 9/ 9.

4 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري المدني الحجة الثبت [4] 1/ 1.

5 -

(سالم) بن عبد اللَّه بن عمر المدني الفقيه، ثقة ثبت [3] 23/ 490.

6 -

(أبوه) عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده وأبي داود، والترمذي، وأن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعي عن تابعي، والابن عن أبيه، وفيه سالم أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، أنه (قَالَ: إِنَّ سَالِمًا أَخْبَرَنِي، أَنَّ أَبَاهُ) عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ) بضمّ أوله، من الإهلال، أي يرفع صوته (يَقُولُ) بدل من "يُهلّ"، أو في محلّ نصب حال من الفاعل (لَبَّيْكَ) تقد الكلام في اشتقاقها، ومعناها قريبًا (اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ) أي يا اللَّه أنا مقيم ببابك إقامة بعد إقامة، ومجيب نداءك إجابة بعد إجابة، فتثنية "لبيك" تفيد التكرار والتأكيد، كما قوله تعالى:{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} الآية [الملك: 4] أي كرات كثيرة، وتكرار "لبيك" لزيادة التأكيد، كما أن دخول جملة "اللَّهم" بين المؤكَّد والمؤكَّد لذلك أيضًا (لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَبَّيْكَ) قيل: إنه استئناف، فيستحسن الوقف على "لبيك" الثانية، كما يستحسن على الرابعة. قال القاري: التلبية الأولى المؤكدة بالثانية لإثبات الألوهيّة،

ص: 217

وهذه بطرفيها لنفي الشركة النديّة، والمثليّة في الذات والصفات انتهى

(1)

(إِنَّ الْحَمْدَ) روي بكسر الهمزة على الاستئناف، وفتحها على التعليل، وجهان مشهوران لأهل الحديث واللغة. قال الجمهور: والكسر أجود. وحكاه الزمخشريّ عن أبي حنيفة، وابن قُدامة عن أحمد بن حنبل. وحكاه ابن عبد البرّ عن اختيار أهل العربيّة. وقال الخطابيّ: الفتح رواية العامّة. وحكاه الزمخشريّ عن الشافعيّ. وقال ثعلب: الاختيار الكسر، وهو أجود في المعنى من الفتح؛ لأن من كسر جعل معناه: إن الحمد، والنعمة لك على كلّ حال، ومن فتح قال: معناه: لبيك لهذا السبب. وكذا رجّح الكسر ابن دقيق العيد، والنوويّ، قال ابن دقيق العيد: لأنه يقتضي أن تكون الإجابة مطلقة غير معلّلة، وأن الحمد، والنعمة للَّه على كلّ حال، والفتح يدلّ على التعليل، فكأنه يقول: أجبتك لهذا السبب، والأول أعمّ، وأكثر فائدة. وقال ابن الهمام: الكسر أوجه، ويجوز الفتح، أما الكسر فهو على استئناف الثناء، وتكون التلبية للذات، والفتح على أنه تعليل للتلبية، أي لبيك؛ لأن الحمد والنعمة لك. ومال الباجيّ إلى أنه لا مزيّة لأحد الوجهين على الآخر. وقال ابن عبد البرّ: المعنى عندي واحد، لأنه يحتمل أن يكون من فتح الهمزة أراد لبيك لأن الحمد على كلّ حال، والملك لك، والنعمة وحدك، دون غيرك، حقيقة، لا شريك لك.

وتعقّب بأن التقييد ليس في الحمد، وإنما هو في التلبية، فمعنى الفتح تلبيته بسبب أن له الحمد، ومعنى الكسر تلبيته مطلقًا، غير معلّل، ولا مقيّد، فهو أبلغ في الاستجابة للَّه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن هذا التعقّب فيه نظر؛ لأن التقييد والإطلاق هنا سواء في المعنى؛ لأن ما قُيّد بما لا حصر له، ولا نهاية، مثل الإطلاق، ولا فرق، فثبوت الحمد للَّه تعالى لا نهاية، ولا حصر له، فالتلبية المقيدة به، كالتلبية المطلقة في المعنى، فما قاله ابن عبد البرّ لا غبار عليه.

والحاصل أنه لا فرق في الحقيقة هنا بين الكسر، والفتح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(وَالنَّعْمَةَ لَكَ) المشهور فيه النصب. قال عياضك ويجوز الرفع على الابتداء، ويكون الخبر محذوفًا والتقدير: إن الحمد لك، والنعمةُ مستقرّة لك. قال ابن الأنباريّ: إن شئت جعلت خبر "إنّ" محذوفًا، والموجود خبر المبتدإ تقديره: إن الحمد لك، والنعمة

(1)

- راجع "المرعات" 8/ 443.

ص: 218

مستقرّة لك (وَالْمُلْكَ) بالنصب أيضًا على المشهور، ويجوز الرفع، وتقديره: والملك كذلك. قاله الحافظ. وقال الحافظ وليّ الدين: فيه وجهان أيضًا، أشهرهما النصب عطفًا على اسم "إنّ"، والثاني الرفع على الابتداء، والخبر محذوف؛ لدلالة الخبر المتقدم عليه. ويحتمل أن تقديره: والملك كذلك. وقال القاري: بالنصب عطف على "الحمد"، ولذا يستحبّ الوقف عند قوله:"والملك".

قال ابن المنيّر: قرن الحمد والنعمة، وأفرد "الملك"؛ لأن الحمد متعلَّق النعمة، ولهذا يقال: الحمد للَّه على نعمه، فيجمع بينهما، كأنه قال: لا حمد إلا لك؛ لأنه لا نعمة إلا لك، وأما الملك فهو معنى مستقلّ بنفسه، ذُكر لتحقيق أن النعمة كلها للَّه؛ لأنه صاحب الملك. قال القاري: ولا مانع من أن يكون "الملك" مرفوعًا، وخبره قول (لَا شَرِيكَ لَكَ) أي فيه.

(وَأَنَّ) بفتح همزة "أنّ" لكونه معطوفًا على "أنّ أباه"، أي وأخبرني أن (عَبْدَ اللَّه بْنَ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللُّهِ صلى الله عليه وسلم، يَرْكَعُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ) أي يصلي ركعتين، والظاهر أنهما صلاة الظهر. قال العلامة اين القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: لم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر. وقال: المحفوظ أنه إنما أهلّ بعد صلاة الظهر، وقال أيضًا: قد قال ابن عمر: "ما أهلّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره. وقد قال أنس: إنه صلى الظهر، ثم ركب. والحديثان في "الصحيح"، فإذا جمعت أحدهما إلى الآخر تبيّن أنه إنما أهلّ بعد صلاة الظهر انتهى مخلصًا. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تعالى- في "مناسكه": يستحبّ أن يُحرم عقب صلاة، إما فرض، وإما تطوّع، إن كان وقت تطوّع، في أحد القولين، وفي الآخر: إن كان يصلّي فرضًا أحرم عقبه، وإلا فليس للإحرام صلاة تخصّه، وهذا أرجح انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما رجّحه شيخ الإسلام -رحمه اللَّه تعالى- هو الذي يظهر لي. واللَّه تعالى أعلم.

(ثمَّ، إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ النَّاقةُ قَائِمَةً) أي اعتدلت قائمة من بروكها (عِنْدَ مَسْجدِ ذِي الخلَيْفَةِ، أَهَلَّ) أي رفع صوته (بِهؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ) أي بكلمات التلبية السابقة. واللهَ تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفق عليه.

ص: 219

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-54/ 2747 و 2748 و 2749 و 2750 - وفي "الكبرى" 54/ 3728 و 3729 و 3735 و 3731. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1549 و"اللباس" 5915 (م) 1184 في "الحجّ" (د) في "المناسك" 1812 (ت) في "الحج" 825 (ق) في "المناسك" 2918 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4443 و 4806 و 4877 و 4977 و 4999 و 5051 و 5067 و 5132 و 5484 و 5985 و 6111 (الموطأ) في "الحج" 738 (الدارمي) في "المناسك" 1808. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان كيفية التلبية. (ومنها): أن فيه دلالة على أن مشروعيّة الحجّ لإظهار الفاقة، والتضرع إلى اللَّه تعالى، والابتهال، والثناء، والتوحيد، والتمجيد. (ومنها): استحباب الإحرام بعد أداء ركعتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أحرم بعدهما. (ومنها): أن وقت الإهلال حينما يركب دابته، أو سيارته، أو نحو ذلك. (ومنها): أن الإحرام يكون عند الميقات المحدّد، لا قبله، ولا بعده؛ إذ لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم التقديم عليه، ولا التأخير عنه، فما قاله بعض أهل العلم من استحباب الإهلال من دُويرة أهله مخالف للسنة قولاً، وفعلاً. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف العلماء في حكم الزيادة على التلبية المذكورة:

قال الإمام أبو جعفر الطحاويّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن أخرج أحاديث التلبية من حديث ابن عمر، وابن مسعود، وعائشة، وجابر، وعمرو بن معديكرب: أجمع المسلمون على هذه التلبية، غير أن قوماً قالوا: لا بأس أن يزيد فيها من الذكر للَّه ما أحبّ، وهو قول محمد، والثوريّ، والأوزاعيّ، واحتجّوا بحديث أبي هريرة - يعني الذي أخرجه النسائيّ، وابن ماجه، وصححه ابن حبّان، والحاكم- قال:"كان من تلبية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لبيك إله الحقّ لبيك"

(1)

وبزيادة ابن عمر الآتي برقم - 2750 - .

وخالفهم آخرون، فقالوا: لا ينبغي ان يزاد على ما علمه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الناس، كما في حديث عمرو بن معديكرب، ثم فعله هو، ولم يقل: لبّوا بما شئتم مما هو من جنس هذا، بل علّمهم كما علّمهم التكبير في الصلاة، فكذا لا ينبغي أن يتعدّى في ذلك شيئًا

(1)

- هو الآتي للمصنف برقم -2752.

ص: 220

مما علّمه. ثم أخرج حديث عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه، أنه سمع رجلاً يقول:"لبيك ذا المعارج"، فقال: إنه لذو المعارج، وما هكذا كنا نلبّي على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال: فهذا سعد قد كره الزيادة في التلبية، وبه نأخذ انتهى.

قال الحافظ: ويدلّ على الجواز ما وقع عند النسائيّ من طريق عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كان من تلبية النبيّ صلى الله عليه وسلم

"، فذكره. ففيه دلالة على أنه قد كان يلبّي بغير ذلك، وما رواه مسلم عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: "كان عمر يُهلّ بهذا -يعني تلبية النبيّ صلى الله عليه وسلم المذكور في الباب- ويزيد: لبيك اللَّهم لبيك، وسعديك، والخير كله في يديك، والرغباء إليك، والعمل".

وروى سعيد بن منصور، من طريق الأسود بن يزيد، أنه كان يقول:"لبيك غفار الذنوب".

وفي حديث جابر الطويل في صفة حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم: "حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهلّ بالتوحيد، لبيك اللَّهم لبيك الخ"، قال:"وأهلّ الناس بهذا الذي يهُلّون به، فلم يردّ عليهم شيئًا منه، ولزم تلبيته".

وأخرجه أبو داود من الوجه الذي أخرجه مسلم، قال:"والناس يزيدون: ذا المعاج، ونحوه من الكلام، والشعبي صلى الله عليه وسلم يسمع، فلا يقول لهم شيئًا". وفي رواية البيهقيّ: "ذا المعارج، وذا الفواضل".

وهذا يدلّ على أن الاقتصار على التلبية المرفوعة أفضل لمداومته هو صلى الله عليه وسلم عليها، وأنه لا بأس بالزيادة؛ لكونه لم يردّها عليهم، وأقرّهم عليها.

وهو قول الجمهور، وبه صرّح أشهب. وحكى ابن عبد البرّ عن مالك الكراهة، قال: وهو أحد قولي الشافعيّ. وقال الشيخ أبو حامد: حكى أهل العراق عن الشافعيّ -يعني في القديم- أنه كره الزيادة على المرفوع، وغلطوا، بل لا يكره، ولا يستحبّ.

وحكى الترمذيّ عن الشافعيّ، قال: فإن زاد في التلبية شيئًا من تعظيم اللَّه فلا بأس، وأحبُّ إليّ أن يقتصر على تلبية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وذلك أن ابن عمر حفظ التلبية عنه، ثم زاد من قبله زيادة. ونصب البيهقيّ الخلاف بين أبي حنيفة، والشافعيّ، فقال: الاقتصار على المرفوع أحبّ، ولا ضيق على أحد أن يزيد عليها. قال: وقال أبو حنيفة: إن زاد فحسن. وحكى في "المعرفة" عن الشافعيّ قال: ولا ضيق على أحد في قول ما جاء عن ابن عمر، وغيره، من تعظيم اللَّه، ودعائه، غير أن الاختيار عندي أن يفرد ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك انتهى.

وهذا أعدل الوجوه، فيفرد ما جاء مرفوعًا، وإذا اختار قول ما جاء موقوفًا، أو أنشأه

ص: 221

هو من قبل نفسه، مما يليق قاله على انفراده حتى لا يختلط بالمرفوع، وهو شبيه بحال الدعاء في التشهد، فإنه قال فيه:"ثم ليتخير من المسألة، والثناء ما شاء"، أي بعد أن يفرغ من المرفوع، كما تقدّم ذلك في موضعه انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الحافظ تبعًا للإمام الشافعيّ -رحمهما اللَّه تعالى- تحقيق نفيسٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حقيقة الإحرام في الحجّ والعمرة، وحكمه:

(اعلم): أن الإحرام لغة هو الدخول في التحريم، يقال: أحرم الشخص: نوى الدخول في شيء حرُم عليه به ما كان حلالاً له، وهذا كما يقال: أنجد: إذا أتى نجدًا، وأتهم: إذا أتى تهامة. قاله الفيّوميّ.

وشرعًا: نية الدخول في النسك مع التلبية، أو سوق الهدي، لا نية أن يحجّ، أو يعتمر، فإن ذلك لا يسمى إحرامًا، وكذا التجرّد، وترك سائر المحظورات لكونه محرما بدونها. قال شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه اللَّه تعالى-: لا يكون الرجل محرمًا بمجرّد ما في قلبه من قصد الحجّ ونيته، فإن القصد ما زال في القلب منذ خرج من بلده، بل لا بدّ من قول، أو عمل يصير به محرمًا، هذا هو الصحيح من القولين انتهى

(1)

.

وقال العلامة ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى-: الإحرام: الدخول في أحد النسكين، والتشاغل بأعمالهما، وقد كان شيخنا العلامة أبو محمد بن عبد السلام يستشكل معرفة حقيقة الإحرام جدًّا، ويبحث فيه كثيرًا، وإذا قيل: إنه النيّة اعترض عليه بأن النية شرط في الحجّ الذي الإحرام ركنه، وشرط الشيء غيره، ويعترض على أنه التلبية بأنها ليست بركن، والإحرام ركن، هذا أو قريب منه، وكان يحرم على تعيين فعل تتعلق به النية في الابتداء انتهى.

وقال العلامة الشوكاني -رحمه اللَّه تعالى- عند قول صاحب "حدائق الأزهار": وإنما ينعقد -أي الإحرام- بالنية مقارنة لتلبيد، أو تقليد: ما نصّه:

أقول: الإحرام هو مصير الشخص من الحالة التي كان يحلّ له فيها ما يحرم عليه بعدها إلى الحالة التي يحرم عليه فيها ما كان يحلّ له فيها، ولو لم يكن إلا مجرّد الكفّ عن محظورات الإحرام لكان ذلك معنى معقولاً لكلّ عاقل، كالصوم فإنه ليس إلا الكفّ عن تناول المفطرات، فمن قال: إنه لا يعقل معنى الإحرام، وإنه ليس هناك إلا مجرّد النية، وإن النية لا تُنوى، وإلا لزم التسلسل، فقد أخطأ خطأ بيّنًا، ومعلوم أن الشريعة

(1)

- انظر "مجموع الفتاوى" 26/ 108.

ص: 222

المطهرة بعضها أوامر، وبعضها نواهٍ، والتعبّد في النواهي ليس إلا بالكفّ، فيلزمه أن يطرد هذا التشكيك الركيك في شطر الشريعة.

وأما إيجاب النيّة فقد عرّفناك غير مرّة أن كلّ عمل يحتاج إلى النيّة، والعمل يشمل الفعل، والترك، والقول، والفعل، وعرّفناك أن ظاهر الأدلة يقتضي أن النية شرط في جميع ما تقدّم من العبادات؛ لدلالة أدلّتها على أن عدمها يؤثّر في العدم، وهذا هو معنى الشرط عند أهل الأصول.

وأما كون النية تقارن التلبية، فقد ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في دواوين الإسلام من غير وجه أنه أهلّ ملبيًّا، وقد قدّمنا لك أن أفعاله، وأقواله في الحجّ محمولة على الوجوب لأنها بيان لمجمل القرآن، وامتثال لأمره صلى الله عليه وسلم لأمته أن يأخذوا عنه مناسكهم، فمن ادعى في شيء منها أنه غير واجب، فلا يقبل منه ذلك إلا بدّليل.

وأما كونها تقارن التلبيد، فلما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية "أنه لما كان بذي الحليفة قلّد الهدي، وأشعره، وأحرم بالعمرة" انتهى

(1)

.

وقال العلامة ابن رشد -رحمه اللَّه تعالى-: اتفقوا على أن الإحرام لا يكون إلا بنية، واختلفوا هل تجزئ النية فيه من غير تلبية؟ فقال مالك، والشافعيُّ: تجزئ النية من غير تلبية. وقال أبو حنيفة: التلبية في الحجّ كالتكبيرة في الإحرام بالصلاة، إلا أنه يجزئ عنده كلّ لفظ يقوم مقام التلبية، كما في افتتاح الصلاة عنده انتهى.

وقال العلامة ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: يستحبّ للإنسان النطق بما أحرم به؛ ليزول الالتباس، فإن لم ينطق بشيء، واقتصر على مجرّد النية كفاه في قول إمامنا، ومالك، والشافعيّ. وقال أبو حنيفة: لا ينعقد بمجرد النية حتى ينضاف إليها التلبية، أو سوق الهدي؛ لحديث خلاّد بن السائب الأنصاري، عن أبيه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"أتاني جبريل، فقال: يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية". رواه المصنّف في الباب التالي وقال الترمذيّ: حديث حسن صحيح. انتهى

(2)

.

وقال صاحب "المرعاة": قد تواترت الروايات المصرّحة بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة، وسمى، وعيّن ما أحرم به، من إفراد، أو قران، أو تمتّع، واتفقت على تعيين النسك في التلبية الأولى التي تكون عند عقد الإحرام، وإن اختلفت في نوعه، وصرّحت أيضًا بأنه صلى الله عليه وسلم لبّى عند ذلك، كما ورد في الروايات، وقال:"خذوا عني مناسككم"، فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا الإحرام، والتلبية، والتسمية، وهذا القدر

(1)

- راجع "السيل الجرار" 2/ 171.

(2)

- راجع "المغني" 5/ 91 - 92.

ص: 223

هو الذي قام عليه الدليل، أما كون الإحرام شرطًا، أو ركنًا، وكون التلبية مسنونة، أو مستحبّة،، أو واجبة يصحّ الحجّ بدونها، وتجبر بدم، وكذا كون الذكر الدالّ على تعظيم اللَّه سوى التلبية مجزئًا، والتلقظ بالنيّة، بأن يقول: نويت العمرة، أو نويت الحجّ، أو نويت العمرة، والحجّ، أو اللَّهم إنى أريد العمرة، أو الحجّ، أو اللَّهم إني أهلّ، أو أحرم بكذا، فكلّ ذلك لم يرد فيه دليلٌ خاصّ، والخير كله في اتباعه صلى الله عليه وسلم، فعلى كل من وصل إلى ميقاته، ممن يريد الحج، أو العمرة أن يُحرم، وينوي بقلبه الدخول في النسك الذي يريده، ويعزم عليه بقلبه؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكلّ امرئ ما نوى"، وُيشرع التلفظ بما نوى كما نقل، فإن كانت نية العمرة، قال: لبيك عمرة، أو اللَّهم لبيك عمرة، وإن كانت نية الحج قال: لبيك حجًا، أو اللَّهم لبيك حجًا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ولا يشرع التلفظ بما نوى إلا في الإحرام خاصّة؛ لوروده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأما الصلاة، والطواف، والصيام، وغير ذلك من العبادات، فلا ينبغي له أن يتلفّظ بشيء منها بالنية؛ لأن ذلك لم يثبت، ولو كان التلفظ بالنية مشروعًا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأوضحه للأمة بفعله، أو قوله، ولَسَبَق إليه السلف الصالح. هذا انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله صاحب "المرعاة" -رحمه اللَّه تعالى- تحقيق نفيسٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في حكم التلبية:

قال في "الفتح": وفيها مذاهب أربعة، يمكن توصيلها إلى عشرة:

(الأول): أنها سنة من السنن، لا يجب بتركها شيء. وهو قول الشافعيّ، وأحمد. (ثانيها): واجبة، ويجب بتركها دم. حكاه الماورديّ، عن ابن أبي هريرة، من الشافعيّة، وقال: إنه وجد للشافعيّ نصًّا يدلّ عليه. وحكاه ابن قدامة عن بعض المالكيّة، والخطابيّ عن مالك، وأبي حنيفة. وأغرب النوويّ، فحكى عن مالك أنها سنة، ويجب بتركها دم، ولا يُعرف ذلك عندهم، إلا أن ابن الجلّاب قال: التلبية في الحجّ مسنونة، غير مفروضة. وقال ابن التين: يريد أنها ليست من أركان الحجّ، وإلا فهي واجبة، ولذلك يجب بتركها الدم، ولو لم تكن واجبة لم يجب. وحكى ابن العربيّ أنه يجب عندهم بترك تكرارها دم، وهذا قدر زائد على أصل الوجوب.

(ثالثها): واجبة، لكن يقوم مقامها فعل يتعلّق بالحجّ، كالتوجّه على الطريق، وبهذا صدّر ابن شاس، من المالكيّة كلامه في "الجواهر" له. وحكى صاحب "الهداية" من الحنفيّة مثله، لكن زاد القول الذي يقوم مقام التلبية من الذكر، كما في مذهبهم من أنه لا يجب لفظ معيّن. وقال ابن المنذر: قال أصحاب الرأي: إن كبّر، أو هلّل، أو سبّح،

ص: 224

ينوي بذلك الإحرام فهو محرم.

(رابعها): أنها ركن في الإحرام، لا ينعقد بدونها، حكاه ابن عبد البرّ عن الثوريّ، وأبي حنيفة، وابن حبيب من المالكيّة، والزبيريّ من الشافعيّة، وأهل الظاهر، قالوا: هي نظير تكبيرة الإحرام للصلاة. ويقوّيه ما تقدّم من بحث ابن عبد السلام عن حقيقة الإحرام، وهو قول عطاء، أخرجه سعيد بن منصور، بإسناد صحيح عنه، قال: التلبية فرض الحجّ. وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر، وطاوس، وعكرمة. وحكى النوويّ عن داود أنه لا بدّ من رفع الصوت بها، وهذا قدر زائد على أصل كونها ركنًا انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح الأقوال عندي قول من قال بوجوب التلبية في الحجّ، أو العمرة مع ركع الصوت؛ لحديث خلاّد بن السائب، عن أبيه رضي الله عنه الآتي في الباب التالي، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: جاءني جبريل، فقال: يا محمد مُر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية". وهو حديث صحيح، والأمر للوجوب.

ثم إن هذا الوجوب يحصل بمرة واحدة عند الإحرام، فما زاد على ذلك يكون سنة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2748 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدًا، وَأَبَا بَكْرٍ: ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُمَا سَمِعَا نَافِعًا، يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا، غير:

1 -

(أبي بكر بن محمد بن زيد) بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب العدويّ المدنيّ، ثقة، من كبار [7].

روى عن عن أبيه، وعم أبيه سالم، ونافع مولى ابن عمر. وعنه أخوه عمر، وابن أخيه عثمان بن واقد، وشعبة، وعطّاف بن خالد.

قال أبو حاتم: ثقة لا بأس به، لا يسمّى. قال الواقديّ: مات بعد خروج محمد بن عبد اللَّه بن حسن. وقيل: سنة (150). تفرّد به المصنّف بحديث الباب فقط.

والحديث متفق عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى وليّ

(1)

- "فتح" 4/ 194.

ص: 225

التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2749 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ،، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: تَلْبِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وهو أصحّ الأسانيد مطلقًا على ما نقل عن الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-، وإذا روى أحمد، عن الشافعيّ، عن مالك به يسمّى سلسلة الذهب، وهو أعلى الأسانيد للمصنّف؛ لأنه من رباعياته، وهو (142) من رباعيات الكتاب.

وقوله: "تلبية الخ" مبتدأ، خبره قوله:"لبيك الخ" لقصد لفظه، ويجوز العكس.

والحديث متّفق عليه، وقد سبق البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2750 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ تَلْبِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ» ، وَزَادَ فِيهِ ابْنُ عُمَرَ: "لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ، وَالْعَمَلُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا، وشيخه أحد شيوخ الأئمة الستة دون واسطة، و"أبو بشر": هو جعفر بن أبي وحشية إياس.

وقوله: "والرغباء إليك" فيه ثلاثة أوجه: فتح الراء، والمدّ، وهو أشهرها. وضمّ الراء مع القصر، وهو مشهور أيضًا. وفتح الراء، مع القصر، وهو غريب. حكاه أبو عليّ الجبائيّ، وغيره، ونظير الوجهين الأولين العلياء، والعليا، والنعماء، والنعمى، ومعنى اللفظة: الطلب، والمسألة، أي إنه تعالى هو المطلوب المسؤول منه، فبيده جميع الأمور. قال شمر: رَغَبُ النفس: سَعَة الأمل، وطلب الكثير. ذكره وليّ الدين

(1)

.

وقوله: "والعمل": أي إن العمل كله للَّه تعالى؛ لأنه المستحقّ للعبادة وحده، وفيه حذف يحتمل أن يقدر كالذي قبله: أي والعمل إليك، إي إليك القصد به، والانتهاء به إليك؛ لتجازي عليه. ويحتمل أن يقدّر: والعمل لك.

والحديث متفق عليه، وقد تقدم تمام البحث فيه، وفي مسائله قريبًا. واللَّه تعالى

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 92.

ص: 226

أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2751 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدموا غير:

1 -

(أبا بن تغلب) -بفتح المثنّاة، وسكون المعجمة، وكسر اللام- الرَّبَعِيّ، أبي سَعد الكوفي، ثقة تُكلّم فيه للتشيّع [7].

قال أحمد، ويحيى، والنسائيّ: ثقة. وزاد أبو حاتم: صالح. وقال ابن عجلان: حدثنا أبان بن تغلب، رجل من أهل العراق، من النسّاك ثقة. ولما خرّج الحاكم حديث أبان في "مستدركه" قال: كان قاصّ الشيعة، وهو ثقة. ومدحه ابن عيينة بالفصاحة والبيان. وقال العقيليّ: سمعت أبا عبد اللَّه يذكر عنه عقلاً وأدبًا، وصحّة حديث، إلا أنه كان غاليًا في التشيّع. وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال الأزديّ: كان غاليًا في التشيّع، وما أعلم به في الحديث بأسًا. وقال الجوزجانيّ: زائغ مذموم المذهب، مجاهر. وقال ابن عديّ: له نسخ عامتها مستقيمة، إذا روى عنه ثقة، وهو من أهل الصدق في الروايات، وإن كان مذهبه مذهب الشيعة، وهو في الرواية صالح، لا بأس به.

قال الحافظ: هذا قول منصف، وأما الْجُوزَجانيّ، فلا عبرة بحطّه على الكوفيين، فالتشيّع في عرف المتقدّمين هو اعتقاد تفضيل عليّ على عثمان، وأن عليًّا كان مصيبًا في حروبه، وأن مخالفه مخطئ، مع تقديم الشيخين، وتفضيلهما، وربما اعتقد بعضهم أن عليًّا أفضل الخلق بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإذا كان معتقد ذلك ورعًا، ديّنًا، صادقًا، مجتهدًا، فلا تردّ روايته بهذا، لا سيما إن كان غير داعية. وأما التشيع في عرف المتأخّرين، فهو الرفض المحض، فلا تقبل رواية الرافضيّ الغالي، ولا كرامة انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ذكره الحافظ من التفصيل فيمن يطعن بالتشيع حسن جدًّا. واللَّه تعالى أعلم.

وذكره ابن حبّان في "الثقات" وأرخ وفاته سنة (141) وكذا ابن منجويه. وقال أبو نعيم في "تاريخه": مات سنة (140) وكان غاية من الغايات. وقال أحمد بن سيّار: مات بعد سنة (141).

روى له الجماعة سوى البخاريّ، وله عند المصنّف حديث الباب فقط.

و"أبو إسحاق": هو السبيعيّ.

وشرح الحديث يُعلم مما سبق، وهو صحيح، ولا يضرّه عنعنة أبي إسحاق؛ لأنه

ص: 227

يشهد له ما تقدّم، وانفرد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- من بين أصحاب الأصول، أخرجه هنا -54/ 2751 - وفي "الكبرى" 54/ 3732. وأخرجه (أحمد) في "مسند المكثرين" 38887. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2752 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ» .

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَ هَذَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، إِلاَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ، رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ الأعرجِ

(1)

مُرْسَلاً).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير:

1 -

(عبد اللَّه بن الفضل) بن العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ المدنيّ، ثقة [4].

قال حرب عن أحمد: لا بأس به. وقال ابن معين، وأبو حاتم، وابن المدينيّ، والنسائيّ، والعجليّ، وابن البرقيّ: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يروي عن ابن عمر، وأنس، إن كان سمع منهما. قال الحافظ: كذا قال، وقد صرّح بالسماع من أنس عند البخاريّ في "سورة المنافقين". وقال ابن عبد البرّ: لم يسمع من عبيد اللَّه ابن أبي رافع. روى له الجماعة. وله عند المصنف في خمسة مواضع برقم -2752 و 3260 و 3261 و 3262 و 3264.

و"حميد بن عبد الرحمن": هو الرؤاسيّ الكوفيّ. و"عبد العزيز بن أبي سلمة": هو الماجشون.

وقوله: "إله الحقّ" يحتمل أن يكون منادى حذف منه حرف النداء، أي يا إله الحقّ. ويحتمل أن يكون منصوبًا على الاختصاص، أي أخصّ إله الحقّ.

والحديث صحيح، أخرجه المصنّف هنا-54/ 2752 - وفي "الكبرى" 54/ 3733.

وأخرجه (ق) في "المناسك" 2920 (أحمد) في "باقى مسند المكثرين" 8415 و 9815. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

(1)

- وفي نسخة: "عنه مرسلاً".

ص: 228

‌55 - (رَفْعُ الصَّوتِ بِالإِهْلَالِ)

2753 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ خَلاَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ أَصْحَابَكَ، أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) بن رهويه المروزي نزيل نيسابور، ثقة ثبت إمام [10] 2/ 2.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت المكي [8] 1/ 1.

3 -

(عبد اللَّه بن أبي بكر) بن محمد ابن عمرو بن حزم الأنصاريّ المدنيّ القاضي الثقة [5] 118/ 163.

4 -

عبد الملك بن أبي بكر) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزوميّ المدنيّ، ثقة [5] 122/ 179.

5 -

(خلاد بن السائب) بن خلاّد بن سُويد الأنصاريّ الخزجيّ، ثقة [3].

ذكره جماعة في الصحابة، منهم ابن حبَّان، ولم يرفع نسبه، وقال: له صحبة، ثم أعاده في التابعين. وذكره ابن منده، وأبو نعيم، وغيرهما، وشبهتهم في ذلك الحديث الذي رواه عنه عبد الملك بن أبي بكر، فقال: عن خلاد، عن أبيه، رفعه. وقيل: خلاد ابن السائب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال الترمذيّ: والسائب بن خلاد أصحّ. وقال ابن عبد البرّ: مختلف في صحبته. وقال ابن أبي حاتم: خلاد بن السائب بن خلاد بن سويد له صحبة. وقال بعضهم: السائب بن خلاد. وقال العجليّ: خلاد بن السائب مدني ما نعرفه.

وفي "التقريب": ووهم من ذكره في الصحابة. روى له الأربعة، وله عند المصنّف حديث الباب فقط.

6 -

(أبوه) السائب بن خلاد بن سُويد بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس الخزرجيّ، أبو سهلة المدنيّ. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعنه ابنه خلاّد، وصالح بن خَيْوان، وعطاء بن يسار، ومحمد بن كعب القُرَظيّ، وعبد الرحمن بن الحارث بن أبي صَعْصَعة، وعبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، على اختلاف فيهما.

وقيل: إنهما اثنان، وإن والد خلاّد ما روى عنه سوى ابنه. قال ابن عبد البرّ: لم يرو عنه

ص: 229

غير ابنه خلاّد فيما علمت، وحديثه في رفع الصوت بالتلبية مختلف فيه، استعمله عمر على اليمن. وقال أبو نعيم: السائب بن خلاد بن سُويد أبو سهلة توفي سنة (71) فيما قال الواقديّ. وقال أبو عبيد: شهد بدرًا، وولي اليمن لمعاوية. وقال قبل ذلك: السائب بن خلاّد الجهنيّ والد خلاد حدّث عنه ابنه.

وقال البخاريّ: السائب بن خلاد، أبو سهلة بن بلحارث بن الخزرج. قاله مالك، وابن جريج، وابن عُيينة، عن عبد اللَّه بن أبي بكر، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن خلاد بن السائب بن خلاد بن سويد، عن أبيه. ثم قال: السائب الجهنيّ. قال لي هُدبة عن حماد بن الجعد، عن قتادة، عن خلاد ابن السائب الجهنيّ، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الاستنجاء بثلاثة أحجار".

قال الحافظ: وكذا فرّق بينهما جماعة من المصنّفين. واللَّه أعلم.

روى له الأربعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب حديث الباب فقط. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله رجال الصحيح إلى عبد الملك، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: عبد اللَّه عن عبد الملك عن خلاد، ورواية الابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ خَلاَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ) السائب بن خلاد بن سُويد - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: جَاءَنِي جِبْرِيلُ) عليه السلام. وفي رواية الترمذيّ: "أتاني جبريل، فأمرني أن آمر أصحابي

" الحديث (فَقَالَ: لِي: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ) بضم الميم، سكون الراء، فعل أمر من أمر يأمر، من باب قتل، والأصل اؤمر، فخفّف بالحذف؛ لكثرة الاستعمال، وقد يستعمل أيضًا على الأصل إذا تقدّمه عاطف، كقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} الآية، ومثله في الحذف المذكوركلمة "خُذ"، أمر من الأخذ، و"كُلْ"، أمر من الأكل، وإلى هذا أشار ابن مالك في "لاميّته" حيث قال:

وَشَذَّ بِالحَذْفِ مُرْ وَخُذْ وَكُلْ وَفَشَا

وَأْمُرْ وَمُسْتنْدَرٌ تَتْمِيمُ خُذْ وَكُلَا

(أَصْحَابَكَ) بالنصب على المفعولية. واستدلّ بهذا من قال: إن المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية؛ لأن الأمر خاصّ بالصحابة، فلم تدخل الصحابيات، وهو قول الجمهور، وروي عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: لا ترفع المرأة صوتها بالتلبية. وعن ابن

ص: 230

عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: ليس على النساء أن يرفعن أصواتهنّ بالتلبية

(1)

. وقال مالك: ترفع المرأة صوتها قدر ما تسمع نفسها. وخالف فيه ابن حزم، فأوجب عليها رفع الصوت كالرجل؛ لدخولها في هذا الحديث، وسيأتي ترجيح ما ذهب إليه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى ..

(أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بالتَّلْبيَةِ) إظهارًا لشعار الإحرام، وتعليمًا للجاهل ما يُستحبّ له في ذلك المقام. واللَّه تعَالىَ أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث السائب بن خلاّد - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

[تنبيه]: قال الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وروى بعضهم هذا الحديث عن خالد ابن السائب، عن زيد بن خالد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يصحّ، والصحيح هو خلاد بن السائب، عن أبيه، وهو خلاد بن السائب بن خلاد بن سُوَيد الأنصاريّ. انتهى. وقال ابن عبد البرّ: هذا حديث اختُلِفَ في إسناده اختلافًا كثيرًا، وأرجو أن تكون رواية مالك أصح، يعني عن خلاد بن السائب، عن أبيه.

وذكر الحافظ في "الفتح" هذا الحديث في رواية خالد بن السائب، عن أبيه، وذكر من أخرجه، وصححه، ثم قال: ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف على التابعي في صحابيه. انتهى. وقال في "التلخيص الحبير" بعد ذكر تصحيح الترمذي، ونقل كلامه: وقال البيهقي أيضًا: الأول، أي خلاد بن السائب عن أبيه هو الصحيح، وأما بن حبان فصححهما، وتبعه الحاكم، وزاد رواية ثالثة من طريق المطلب بن عبد اللَّه، عن أبي هريرة انتهى

(2)

.

وقال الحاكم 1/ 450 بعد رواية الحديث من طريق عبد الملك، عن خلاد، عن أبيه، ومن طريق المطّلب بن عبد اللَّه، عن خلاد، عن زيد، ومن طريق المطلب بن عبد اللَّه بسماعه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: ما لفظه: وهذه الأسانيد كلها صحيحة، وليس يُعَلَّل واحد منها الآخرَ، فإن السلف رضي الله عنهم كان يجتمع عندهم الأسانيد لمتن واحد، كما يجتمع عندنا الآن. انتهى، ووافقه الذهبي.

قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: قد تبين بما ذُكِرَ أن حديث الباب صحيح، لا تؤثر فيه الاختلافات المذكورة، إما لترجيح رواية خلاد، عن أبيه التي أخرجها المصنف هنا،

(1)

سيأتي أن أثري ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم ضعيفان.

(2)

راجع "التلخيص" 2/ 456 - 457.

ص: 231

كما هو رأي الترمذي، والبيهقي، وغيرهما، وهو الراجح عندي، أو لتصحيح كلّ الطرق، كما ذهب إليه ابن حبان، والحاكم. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-55/ 2754 - وفي "الكبرى" 55/ 3734. وأخرجه (ت) في "الحجّ" 829 (ق) في "المناسك" 2922 (أحمد) في "مسند المدنيين" 16122 و 16131 (الموطأ) في "الحجّ" 744 (الدارمي) في "المناسك" 1809. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم رفع الصوت بالتلبية:

ذهب الجمهور إلى أن رفع الصوت بالتلبية مستحب، وليس بواجب، وذهب الظاهرية إلى أنه واجب؛ لظاهر الأمر، وهو الحقّ؛ لما ثبت في الأصول من أن الأمر يقتضي الوجوب إلا لدليل صارف عنه، وليس هنا صارف، قال العلامة الشوكاني رحمه الله: وهو ظاهر قوله: "فأمرني أن آحر أصحابي"، ولا سيما وأفعال الحج، وأقواله بيان لمجمل واجب هو قول اللَّه تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني مناسككم"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي ما ذهب إليه الظاهرية من أن رفع الصوت بالتلبية من واجبات الحج والعمرة؛ لظاهر حديث الباب؛ إذ ورد بصيغة الأمر، وهي للوجوب إذا لم يوجد صارف، ولا صارف هنا، بل النصوص تؤيده كما في الآية والحديث المذكورين في كلام الشوكاني رحمه الله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في رفع المرأة صوتها بالتلبية:

ذهب بعضهم إلى أن المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية، قال النووي في "شرح المهذب": ولا تجهر المرأة، بل تقتصر على سماع نفسها، قال الروياني: فإن رفعت صوتها لم يحرم؛ لأنه ليس بعورة على الصحيح، وكذا قال غيره: لا يحرم، لكن يكره صرح به الدارميّ، والقاضي أبو الطيب، والبندنيجي. انتهى

(2)

.

وقال أبو محمد ابن حزم: وبرفع الرجل والمرأة صوتهما بها، ولابدّ، وهو فرض ولو مرّة.

قال: وقال بعض الناس: يكره رفع الصوت، وهذا خلاف للسنة، وقال بعضهم: لا ترفع المرأة، هذا خطأ، وتخصيص بلا دليل، وقد كان الناس يسمعون كلام أمهات

(1)

"نيل الأوطار" جـ 4/ 342 - 343.

(2)

"المجموع" 7/ 259.

ص: 232

المؤمنين، ولا حرج في ذلك. ثم أخرج من طريق ابن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، عن أبيه، قال: خرج معاوية ليلة النفر، فسمع صوت تلبية، فقال: من هذا؟ قيل: عائشة أم المؤمنين اعتمرت من التنعيم، فذكر ذلك لعائشة، فقالت: لو سألني لأخبرته، فهذه أم المؤمنين ترفع صوتها حتى يسمعها معاوية في حاله التي كان فيها.

[فإن قيل]: قد رُوِيَ عن ابن عباس. لا ترفع المرأة صوتها بالتلبية، وعن ابن عمر: ليس على النساء أن يرفعن أصواتهنّ بالتلبية.

[قلنا]: رواية ابن عمر هي من طريق عيسى بن أبي عيسى الخياط، وهو ضعيف، ورواية ابن عباس هي من طريق إبراهيم بن أبي حبيبة، وهو ضعيف، ولو صحتا لكانت رواية عائشة موافقة للنص. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما قاله ابن حزم رحمه الله هو الأرجح؛ لظواهر النصوص.

فأما القائلون: لا ترفع المرأة صوتها فلم يأتوا بحجة مُقنِعة، وأما دعوى بعضهم الإجماع على أنها لا ترفع صوتها بالتلبية فغير صحيحة؛ إذ ليس فيها إجماع كما سمعته في كلام النووي، وابن حزم، فتبصّر بالإنصاف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في رفع الصوت بالتلبية في المساجد: قال المحب الطبري رحمه الله: رفع الصوت بالتلبية عند الشافعية مشروع في المساجد وغيرها، وقال مالك: لا يرفع صوته بها في مساجر الجماعة، بل يُسمِع نفسه ومن يليه، إلا في مسجد مني، والمسجد الحرام، فإنه يرفع صوته بها، وهو قول قديم للشافعي، وزاد مسجد عرفة؛ لأن هذه المساجد تختص بالنسك. انتهى.

وقال ابن قدامة رحمه الله: لا يستحب رفع الصوت في الأمصار، ولا في مساجدها إلا مكة ومسجد الحرام، وهو قول مالك، وقال الشافعي: يلبي في المساجد كلها. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله هو الأرجح؛ لإطلاق النصّ من غير تفريق بين مكان ومكان، لكن إن كان هناك من يتضرر برفع الصوت، كمصل ونحوه لا يرفع؛ لحديث:"لا ضرر ولا ضرار"

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"المحلّى" جـ 7/ 93 - 95.

(2)

حديث صحيح أخرجه أحمد وابن ماجه.

ص: 233

‌56 - (الْعَمَلُ فِي الإِهْلَالِ)

2754 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَهَلَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(عبد السلام) بن حَرْب بن سَلْم النَّهْديّ -بالنون- الْمُلَائيّ -بضم الميم، وتخفيف اللام- أبو بكر الكوفيّ، بصريّ الأصل، ثقة حافظ، له مناكير، من صغار [8].

قال الحسن بن عيسى: سألت عبد اللَّه بن المبارك عنه؟ فقال: قد عرفته. وكان إذا قال: قد عرفته، فقد أهلكه. وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: كنا ننكر من عبد السلام شيئًا، كان لا يقول: حدثنا، إلا في حديث واحد، أو حديثين. وقال أحمد: وقيل لابن المبارك في عبد السلام بن حرب، فقال: ما تحملني رِجْلِي إليه. وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: صدوق. وقال غيره، عن يحيى: ليس به بأس، يُكتب حديثه. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. وقال الترمذيّ: ثقة حافظ. وقال النسائيّ في "التمييز": ليس به بأس. وقال الدارقطنيّ: ثقة حجة. وقال العجليّ: قدم الكوفة يوم مات أبو إسحاق السبيعيّ، وهو عند الكوفيين ثقة ثبت، والبغداديون يستنكرون بعض حديثه، والكوفيون أعلم به. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة في حديثه لين. وقال ابن سعد: كان به ضعف في الحديث، وكان عَسِرًا. وذكره الدارقطنيّ، والحاكم، وأبو إسحاق الحبّال، وغير واحد في أفراد البخاريّ، وحديثه في مسلم قليل. قال محمد بن الحجّاج الضبّيّ: ولد سنة (91) ومات سنة (187) وفيها أرّخه ابن نمير، وغيره. روى له الجماعة. وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط برقم 2754 و 2879.

3 -

(خُصَيف) بن عبد الرحمن الجزريّ، أبو عون صدوق، سيء الحفظ، خلط بآخره، ورمي بالإرجاء [5] 59/ 1353.

4 -

(سعيد بن جُبير) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه فاضل [3] 28/ 436.

5 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر الحبر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال

ص: 234

الصحيح، غير خصيف، وهو ضعيف. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ.

(ومنها): أن فيه ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد العبادلة الأربعة المجموعين في قول السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "ألفية الحديث":

وَالْبَحْرُ وَابْنَا عُمَرٍ وَعَمْرِ

وَابْنُ الزبَيرِ فِي اشْتِهَار يَجْرِي

دُونَ ابْنِ مَسعود لَهُمْ عَبَادِلَهْ

وَغَلَّطُوا مَنْ غَيْرَ هَذَا مَالَ لَهْ

وهو أحد المكثرين السبعة المجموعين في قول بعضهم:

إِذَا قِيلَ مَنْ في الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ

مَقَالَتُهُمْ لَيسَتْ عَنِ الْحَقَّ خَارِجَهْ

فَقُلْ هُمْ عُبَيدُ اللَّه عُرْوَةُ قَاسِمٌ

سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ

وقد تقدّم هذا كلّه، وإنما أعدته تذكيرًا لطول العهد به. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَهَلَّ) أي رفع صوته بالتلبية (فِي دُبُرِ الصَّلاةِ) بضم الدال المهملة، والموحّدة أيضًا: أي عقبها.

والحديث يدلّ على استحباب الإهل. عقب الصلاة. قال الإمام الترمذيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بعد أن أخرج الحديث: وهو الذي يستحبّه أهل العلم أن يُحرم الرجل في دُبُر الصلاة انتهى.

وبهذا أخذ الحنفية، فقالوا: المستحبّ أن يحرم عقب الصلاة، وهو جالس قبل ركوب دابته، وقبل قيامه، وهو قول ضعيف للشافعيّ. واحتجّوا بحديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا، لكنه ضعيف؛ كما سيأتي.

وذهب مالك، والشافعيّ، والجمهور إلى أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته؛ لما في "الصحيحين"، وغيرهما من حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -:"أنه صلى الله عليه وسلم أهلّ حين استوت به راحلته". وفي لفظ لمسلم: "كان صلى الله عليه وسلم إذا وضع رجله في الغرز، وانبعثت به راحلته قائمة أهلّ". وفي لفظ: "لم أره يهُلّ حتى تنبعث به راحلته". وللبخاريّ من حديث أنس رضي الله عنه: "فلما ركب راحلته، واستوت به أهلّ". وله من حديث جابر رضي الله عنه: "إن إهلال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته".

ولمسلم من حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهلّ". وقد تقدم ما يجمع بين هذه الأحاديث من حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - عند أحمد، وأبي داود، والحاكم، قال الحافظ: لو ثبت لرجح ابتداء الإهلال عقب الصلاة، إلا أنه من رواية خُصيف بن عبد الرحمن الجزريّ، وفيه

ص: 235

ضعف. قال: وقد اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - ضعيف؛ لأن في سنده خصيف بن عبد الرحمن الجزريّ، وهو سيء الحفظ مختلط. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان موضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -56/ 2754 - وفي "الكبرى" 56/ 3735. وأخرجه (ت) في "الحجّ" 819 (الدارمي) في "المناسك" 1806. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2755 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأَنَا النَّضْرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْعَثُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِالْبَيْدَاءِ، ثُمَّ رَكِبَ، وَصَعِدَ جَبَلَ الْبَيْدَاءِ، وَأَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، و"النضر": هو ابن شُميل. و"أشعث": هو ابن عبد الملك الْحُمْرَانيّ. و"الحسن": هو ابن أبي الحسن يسار البصريّ.

والحديث ضعيفٌ؛ لأن الحسن مدلّسٌ، وقد عنعنه، وقد تقدّم سندًا ومتنًا في 25/ 2662 - وتقدم شرحه، والكلام على مسائله هناك، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2756 -

(أَخْبَرَنِي عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ صَلَّى، وَهُوَ صَامِتٌ، حَتَّى أَتَى الْبَيْدَاءَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وهو طرف من حديث جابر رضي الله عنه الطويل، وقد تقدّم طرف منه في 51/ 2740 - وتقدّم تخريجه والكلام على بعض مسائله هناك، واستدلّ به هنا على ابتداء وقت الإهلال، وهو موافق لحديث أنس الذي قبله في أن أول الإهلال على البيداء، لكن حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - فيه زيادة على حديثهما، فإنه يدلّ على أن أول الإهلال حين تنبعث به راحلته، والزيادة من الثقة مقبولة، فيكون العمل عليه، كما تقدّم تمام البحث فيه.

ص: 236

و"شعيب": هو ابن إسحاق بن عبد الرحمن الأمويّ الدمشقيّ.

وقوله: "وهو صامت حتى أتى البيداء": يعني أنه لم يهُلّ بعد الصلاة، بل سكت إلى أن أتى البيداء، فأهلّ هناك.

وهذا محمول على علم جابر رضي الله عنه، وإلا فقد صحّ أن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى - عنهما في أحاديثه الآتية بعدُ، وتقدّمت أيضًا أثبت الإهلال قبل البيداء عند مسجد ذي الحليفة، حينما انبعثت به راحلته، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2757 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ، يَقُولُ: بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ، الَّتِي تَكْذِبُونَ فِيهَا، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلاَّ مِنْ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور قريبًا.

2 -

(حاتم بن إسماعيل) الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوق يهم، صحيح الكتاب [8] 24/ 543.

3 -

(موسى بن عُقبة) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم، ثقة فقيه، إمام في المغازي [5] 96/ 122.

4 -

(سالم) بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب العدوي المدنيّ، ثقة ثبت فقيه عابدًا [3] 23/ 490.

5 -

(أبوه) عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، والظاهر أنه دخلها للأخذ عن أهلها. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه سالم من الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَالِمٍ) ابن عبد اللَّه (أنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ) عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -

ص: 237

(يَقُولُ: بَيدَاؤُكُمْ هَذِهِ، الَّتِي تَكْذِبُونَ فِيهَا) ووقع في "شرح السنديّ""الذي تكذبون فيها" قال السنديّ: هكذا في النسخة التي كانت عندي بتذكير الموصول، وكأنه لاعتبار أنه المكان، وأما التأنيث، فهو الأصل، ثم رأيت أن التأنيث في غالب النسخ، فلعه المعتمد.

ومعنى "تكذبون فيها": في شأنها، ونسبة الإحرام إليها بأنه كان من عندها انتهى

(1)

. وفي رواية مسلم: "كان ابن عمر إذا قيل له: الإحرام من البيداء، قال: البيداء التي تكذبون فيها

" (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا أَهَلَّ) أي ما رفع صوته بالتلبية (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلاَّ مِنْ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ) أي حين ركب، لا حين فرغ من الركعتين، فإن ابن عمر كان يرى الإهلال عند الركوب. وفي رواية مسلم: "من عند الشجرة حين قام به بعيره". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -56/ 2757 و 2758 و 2759 و 2760 - وفي "الكبرى" 56/ 3738 و 3739 و 3740 و 3741. وأخرجه (خ) في "الوضوء" 166 و"الحجّ" 1541 و"الجهاد والسير" 2865 (م) 1186 و 1187 (د) في "المناسك" 1771 و 1772 و 1805 (ت) في "الحجّ" 818 (ق) في "المناسك" 2916 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4827 و 5858 (الموطأ) 740 و 741. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2758 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ يُهِلُّ، حِينَ تَسْتَوِي بِهِ قَائِمَةً).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه عيسى ابن إبراهيم بن عيسى بن مَثْرُود الغافقيّ المصريّ، فقد انفرد به هو، وأبو داود.

وقوله: "قائمة" نصب على الحال.

والحديث متّفق عليه، وشرحه واضح، وتقدم تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

- "شرح السنديّ" 5/ 163.

ص: 238

2759 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ ح وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ -يَعْنِي ابْنَ يُوسُفَ- عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ نَافِعٍ،، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ، حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "شعيب": هو ابن إسحاق. و"محمد بن إسماعيل": هو المعروف أبو بابن عليّة. و"إسحاق بن يوسف": هو الأزرق الواسطيّ الحافظ.

والحديث متّفق عليه، وشرحه واضح، وقد سبق الكلام عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2760 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَابْنِ إِسْحَاقَ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: رَأَيْتُكَ تُهِلُّ إِذَا اسْتَوَتْ بِكَ نَاقَتُكَ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُهِلُّ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ، وَانْبَعَثَتْ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"محمد ابن العلاء": هو أبو كريب، أحد مشايخ الأئمة الستة دون واسطة. و"ابن إدريس": هو عبد اللَّه الأوديّ الكوفيّ. و"عبيد اللَّه": هو ابن عمر العمريّ المدنيّ الثبت. و"ابن إسحاق": هو محمد المطلبيّ صاحب المغازيّ. و"المقبريّ": هو سعيد بن كيسان. و"عبيد بن جُريج": هو التيميّ مولاهم المدنيّ الثقة. [3] 95/ 117.

وقوله: "وابن جريج الخ" بالجرّ عطفًا على عبيد اللَّه، فابن إدريس يروي عن الأربعة: عبيد اللَّه، وابن جريج، وابن إسحاق، ومالك، وكلهم يروون عن سعيد المقبريّ، وما وقع في النسخ المطوعة من "المجتبى" من ضبطه بالقلم برفع "ابن جريج"، وما بعده، فغلط فاحش، فليتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: "ابن جريج" هذا غير "عبيد بن جريج" المذكور بعده، واسمه عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي، وإنما نبهت عليه وإن كان واضحًا؛ لأن بعض من لا إلمام له بعلم الرجال ربما لبّس عليه. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "انبعثت" أي سارت، ومضت ذاهبة.

والحديث متّفقٌ عليه، وأخرجه المصنّف من طريق ابن جريج مقطّعًا في مواضع، وقد ساقه البخاريّ في "صحيحه" مطولاً، فقال:

166 -

حدثنا عبد اللَّه بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن سعيد المقبري، عن عبيد ابن جريج، أنه قال لعبد اللَّه بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، رأيتك تصنع أربعا، لم أر

ص: 239

أحدا، من أصحابك يصنعها، قال: وما هي، يا ابن جريج، قال: رأيتك لا تمس من الأركان، إلا اليمانيين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة، أهلّ الناس إذا رأوا الهلال، ولم تهلّ أنت حتى كان يوم التروية، قال عبد اللَّه:"أما الأركان، فإنى لم أر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يمس إلا اليمانيين، وأما النعال السبتية، فإني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يلبس النعل التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها، فأنا أحبّ أن ألبسها، وأما الصفرة، فإني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يصبغ بها، فأنا أحبّ أن أصبغ بها، وأما الإهلال، فإني لم أر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يهلّ حتى تنبعث به راحلته"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌57 - (إِهْلَالُ النُّفَسَاءِ)

2761 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ، أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تِسْعَ سِنِينَ، لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ، يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ رَاكِبًا، أَوْ رَاجِلاً، إِلاَّ قَدِمَ فَتَدَارَكَ النَّاسُ، لِيَخْرُجُوا مَعَهُ، حَتَّى جَاءَ ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، ثُمَّ أَهِلِّي» ، فَفَعَلَتْ، مُخْتَصَرٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو مصريّ، فقيه ثقة. "وشعيب": هو ابن الليث بن سعد المصريّ الفقيه الثقة. و"ابن الهاد": هو يزيد بن عبد اللَّه بن أسامة بن الهاد الليثيّ المدنيّ الفقيه الثقة.

وقوله: "أقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" أي بالمدينة بعد الهجرة. وقوله: "فتدارك الناس": أي لَحِق آخرهم أولهم، يعني أنهم اجتمعوا في المدينة حتى يحجوا معه صلى الله عليه وسلم.

وقوله: "واستثفري بثوب": أي شُدِّي محلّ الدم بثوب.

وقوله: "مختصر": خبر لمحذوف: أي هذا الحديث مختصر من حديث جابر الطويل، وقد ذكرته بطوله في هذا الشرح في باب "ترك التسمية" -51/ 2740 - من رواية مسلم في "صحيحه"، وكذلك تقدّم تخريج الحديث هناك، فراجعه تستفد.

(1)

- راجع "صحيح البخاريّ" 1/ 359 بنسخة "الفتح".

ص: 240

والحديث يدلّ على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز إهلال النفساء بالحجّ والعمرة، وأن النَّفَاسَ ليس من موانعهما، بخلاف الصلاة، والصوم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2762 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: نَفَسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تَسْأَلُهُ كَيْفَ تَفْعَلُ؟ ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ، وَتَسْتَثْفِرَ بِثَوْبِهَا، وَتُهِلَّ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح.

وقوله: "نفست": من باب سَمِعَ، وعُنِي: ولدت، وحاضت، والكسر فيه أكثر. أفاده في "القاموس". وقال الفيّوميّ: ونُفِست المرأةُ بالبناء للمفعول، فهي نُفَسَاء، والجمع نِفَاس بالكسر، ومثله عُشَراء، وعِشَار، وبعض العرب يقول: نَفِسَت تَنْفَسُ، من باب تعب، فهي نافس، مثل حائض، والولد منفوس، والنفاس بالكسر أيضًا اسم من ذلك، ونَفِست تَنْفَس، من باب تَعِب: حاضت. ونُقل عن الأصمعيّ: نُفست بالبناء للمفعول أيضًا، وليس بالمشهور في الكتب في الحيض، ولا يقال في الحيض: نُفِست بالبناء للمفعول، وهو من النَّفْس، وهو الدم، ومنه قولهم: لا نَفْسَ له سائلة، أي لا دم له يجري، وسمي الدم نَفْسًا؛ لأن النفس التي هي اسم لجملة الحيوان قوامها بالدم، والنفساء من هذا انتهى كلام الفيّومي.

والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌58 - (فِي الْمُهِلَّةِ بِالْعُمْرَةِ تَحِيضُ، وَتَخَافُ فَوْتَ الْحَجِّ)

أي هذا باب في ذكر الأحاديث الدالة على حكم المرأة التي أهلّت بالعمرة، ثم حاضت، وخافت أن يفوتها الحجّ، وحكمها أنها تهلّ بالحج، فتكون قارنَةً، ثم تفعل

ص: 241

أعمال الحجّ كلها، إلا الطواف بالبيت، فإنها تؤخره حتى تطهر، كما فعلت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - عام حجة الوداع؛ لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم لها بذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2763 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَقْبَلْنَا مُهِلِّينَ، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، وَأَقْبَلَتْ عَائِشَةُ مُهِلَّةً بِعُمْرَةٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ عَرَكَتْ، حَتَّى إِذَا قَدِمْنَا، طُفْنَا بِالْكَعْبَةِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَحِلَّ مِنَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، قَالَ: فَقُلْنَا: حِلُّ مَاذَا؟ ، قَالَ: «الْحِلُّ كُلُّهُ» ، فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ، وَتَطَيَّبْنَا بِالطِّيبِ، وَلَبِسْنَا ثِيَابَنَا، وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ، إِلاَّ أَرْبَعُ لَيَالٍ، ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ، فَوَجَدَهَا تَبْكِي، فَقَالَ: «مَا شَأْنُكِ؟» ، فَقَالَتْ: شَأْنِي أَنِّي قَدْ حِضْتُ، وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ، وَلَمْ أُحْلِلْ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إِلَى الْحَجِّ الآنَ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا أَمْرٌ، كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاغْتَسِلِي، ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ» ، فَفَعَلَتْ، وَوَقَفَتِ الْمَوِاقِفَ، حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ، طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعًا» ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي، أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، حَتَّى حَجَجْتُ، قَالَ: «فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ» ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي المصريّ الإمام الحافظ الحجة [7] 31/ 35.

3 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4] 31/ 35.

4 -

(جابر بن عبد اللَّه) بن عمرو بن حَرَام السِّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (143) من رباعيّات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه مصريين، ومكيّين. (ومنها): أن فيه جابر بن عبد الفَه - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 242

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: أَقْبَلْنَا مُهِلَّينَ، مَعَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، بِحَجَّ مُفْرَدٍ) هذا باعتبار أغلبهم، وإلا فبعضهم قرن، كالنبيّ صلى الله عليه وسلم (وَأَقْبَلَتْ عَائِشَةُ مُهِلَّة بعُمْرَةٍ) أي باعتبار آخر أمرها، وإلا فإنما أهلوا في الميقات بالحجّ، لكن لما أمر خيرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في الطريق أن يجعلوها عمرة، فمنهم من جعلها عمرة، ومنهم من استمرّ على حجه حتى عزم الأمر عند المروة، ففرض عليهم أن يتحللوا بالعمرة، فصاروا كلهم معتمرين (حَتَّى إِذَا كنَّا بِسَرِفَ) بفتح المهملة، وكسر الراء، بعدها فاء: موضع قريبٌ من مكة بينهما نحو من عشرة أميال، وهو ممنوع من الصرف، وقد يصرف. قاله في "الفتح"

(1)

(عَرَكَتْ) أي حاضت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -. يقال: عَرَكت تعرُك عُرُوكًا، من باب قعد: إذا حاضت (حَتَّى إِذَا قَدِمْنَا، طُفْنَا بالْكَعْبَةِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أي وسعينا بينهما (فَأمَرَنَا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَحِلَّ مِنَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، قَالَ: فَقُلْنَا: حِلُّ مَاذَا؟) أي أيّ نوع من الحلّ؟، فإن الإحرام يحصل به حُرُم متعدّدة (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الْحِلُّ كُلُّهُ") مبتدأ خبره محذوف، أي جائز، أو فاعل لفعل مقدّر، أي يجوز الحلّ، و"كله" توكيد. يعني أن كلّ الأشياء التي منعت بسبب الإحرام تحل (فَوَاقَعْنَا النَّسَاءَ) أي جامعناهنّ (وَتَطَيَّبْنَا بِالطَّيبِ، وَلَبِسْنَا ثِيَابَنَا) أي الثياب الممنوع لبسها في الإحرام (وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ، إِلاَّ أَرْبَعُ لَيَالٍ) يعني أنه لم يبق للوقوف بعرفة إلا أربع ليال، وذلك لأنهم دخلوا مكة لأربع ليال مضين من ذي الحجة، فطافوا، وتحللوا، فلم يبق بينهم وبين عرفة إلا ليلة الخامس، والسادس، والسابع، والثامن (ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ الترْوِيَةِ) أي أحرمنا بالحجّ يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، وسمي بذلك؛ لأن الماء كان قليلاً بمنى، فكانوا يرتوون من الماء لما بَعْدُ. قاله الفيّوميّ.

قال النوويّ: وفيه دليل لمذهب الشافعيّ، وموافقيه أن من كان بمكة، وأراد الإحرام بالحجّ استُحبّ له أن يُحرم يوم التروية، ولا يقدّمه عليه انتهى (ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (فَوَجَدَهَا تَبْكِي، فَقَالَ: "مَا شَأْنُكِ؟ "، فَقَالَتْ: شَأْنِي أَنِّي قَدْ حِضْتُ، وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ) أي من إحرامهم بالحجّ بعمل العمرة (وَلَمْ أُحْلِلْ) بضم أوله، وفتحه كما مرّ غير مرّة، ثم ذكرت سبب عدم إحلالها بقولها (وَلَمْ أطُفْ بِالْبَيْتِ) أي لكونها حائضًا (وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إِلَى الْحَجِّ الآنَ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّ هَذَا) إشارة إلى الحيض الذي حلّ بها، فمنعها من الطواف بالبيت (أَمْرٌ، كَتَبَهُ اللَّهُ) أي قدّره من غير

(1)

- "فتح" 1/ 533 في "كتاب الحيض".

ص: 243

اختيار العبد فيه، فلا عتب على العبد به (عَلَى بَنَاتِ آدَمَ) قال النوويّ: هذا تسلية لها، وتخفيف لهمها، ومعناه أنك لست مختصّة به، بل كلّ بنات آدم يكون منهنّ هذا، كما يكون منهنّ، ومن الرجال البول والغائط، وغيرهما. وقد استدلّ البخاريّ في "صحيحه" في "كتاب الحيض" بعموم هذا الحديث على أن الحيض كان في جميع بنات آدم، وأنكر به على من قال: إن الحيض أول ما أرسل، ووقع في بني إسرائيل انتهى.

ولفظ البخاريّ: "باب كيف كان بدء الحيض، وقول النبيّ: "هذا شيء كتبه اللَّه على بنات آدم". وقال بعضهم: كان أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل. قال أبو عبد اللَّه: وحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم أكثر انتهى.

والذي أشار إليه البخاريّ هو ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن مسعود بإسناد صحيح، قال:"كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلّون جميعًا، فكانت المرأة تتشرّف للرجل، فألقى اللَّه عليهنّ الحيض، ومنعهنّ المساجد". وعنده عن عائشة نحوه.

قال الداوديّ ليس بينهما مخالفة، فإن نساء بني إسرائيل من بنات آدم، فعلى هذا فقوله: "بنات آدم عام أريد به الخصوص.

قال الحافظ: ويمكن أن يجمع بينهما مع القول بتعميمه بأن الذي أرسل على نساء بني إسرائيل طول مكثه بهنّ عقوبة لهنّ، لا ابتداء وجوده. وقد روى الطبريّ، وغيره عن ابن عباس وغيره أن قوله تعالى في قصّة إبراهيم:{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} الآية [هود: 17] أي حاضت، والقصّة متقدّمة على بني إسرائيل بلا ريب. وروى الحاكم، وابن المنذر بإسناد صحيح، عن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -:"أن ابتداء الحيض كان على حواء بعد أن أُهبطت من الجنّة". وإذا كان كذلك، فبنات آدم بناتها. واللَّه أعلم

(1)

.

(فَاغتَسِلي) قال النووي: هذا الغسل هو الغسل للإحرام، وقد سبق بيانه، وأنه يستحبّ لكلّ من أراد الإحرام بحجّ، أو عمرة، سواء الحائض، وغيرها انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد سبق أن الراجح وجوبه على الحائض والنفساء؛ لظاهر الأمر. واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ أَهِلَّي بِالْحَجِّ"، فَفَعَلَتْ، وَوَقَفَتِ الْمَوَاقِفَ) أي عرفة، ومزدلفة، ومنى (حَتَّى إِذَا طَهَرَت) بفتح الطاء، وضمها، والفتح أفصح.

واعلم أن طهر عائشة هذا المذكور كان يوم السبت، وهو يوم النحر في حجة الوداع، وكان ابتداء حيضها هذا يوم السبت أيضًا لثلاث خلون من ذي الحجة سنة عشر. ذكره

(1)

- "فتح" 1/ 532 "كتاب الحيض".

ص: 244

أبو محمد ابن حزم في "كتاب حجة الوداع"

(1)

.

(طَافَتْ بِالْكعْبَةِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أي سعت بينهما (ثُمَّ قَالَ: "قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعًا) هذا صريح في أن عمرتها لم تبطل، ولم تخرج منها، وأن قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى:"ارفضي عمرتك"، و"دعي عمرتك" ليس معناه إبطالها بالكلية، والخروج منها، فإن العمرة، والحجّ لا يصحّ الخروج منهما بعد الإحرام بنية الخروج، وإنما يُخرج منهما بالتحلل بعد فراغهما، فيكون معناه: ارفضي العمل فيها، وإتمام أفعالها التي هي الطواف، والسعي، وتقصير شعر الرأس، فأمرها صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن أفعال العمرة، وأن تحرم بالحجّ، فتصير قارنة، وتقف بعرفات، وتفعل المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، فتؤخّره حتى تطهر، وكذلك فعلت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -. فقوله صلى الله عليه وسلم هنا:"قد حللت من حجتك، وعمرتك جميعًا" يوضح هذا التأويل.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: يستنبط منه -أي من قوله: "قد حللت من حجتك، وعمرتك جميعا" - ثلاث مسائل:

[إحداها]: أن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - كانت قارنة، ولم تبطل عمرتها، وأن الرفض المذكور متأول كما سبق.

[والثانية]: أن القارن يكفيه طواف واحد، وسعي واحد، وهو مذهب الشافعيّ، والجمهور، وقال أبو حنيفة، وطائفة: يلزمه طوافان وسعيان.

[والثالثة]: أن السعي بين الصفا والمروة يشترط وقوعه بعد طواف صحيح، وموضع الدلالة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصنع ما يصنع الحاجّ، غير الطواف بالبيت، ولم تسع كما لم تطف، فلو لم يكن السعي متوقّفًا على تقدم الطواف عليه لما أخرته انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في هذا الاستدلال نظر لا يخفى، فإن حديث "سعيت قبل أن أطوف، قال: طف ولا حرج" يردّ عليه فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِني أَجِدُ فِي نَفْسِي) أي حيث لم أعتمر عمرة مستقلّة، كسائر أمهات المؤمنين (أنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، حَتَّى حَجَجْتُ) أي انتهيت من الحجّ (قَالَ: "فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَأعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ"، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ) بفتح الحاء، وسكون الصاد المهملتين: أي ليلة المبيت بالمحصّب بعد النفر من منى.

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وهي الليلة التي ينزل الناس فيها المحصّب عند انصرافهم من مني إلى مكة. والتحصيب: إقامتهم بالمحصّب، وهو الشِّعْب الذي

(1)

-"شرح مسلم" 8/ 394.

(2)

-"شرح مسلم" 8/ 393 - 394.

ص: 245

مخرجه إلى الأبطح، وهو منزل النبيّ صلى الله عليه وسلم حين انصرف من حجته، وهو خيف بني كنانة الذي تقاسمت فيه في الصحيفة التي كتبوها بمقاطعة بني هاشم، وهو بين مكة ومنى، وربما يُسمّى الأبطح، والبطحاء؛ لقربه منه، ونُزُولُهُ بعد النفر من منى، والإقامة به إلى أن يصلي الظهر، والعصر، والعشاءين، ويخرج منه ليلًا سنةٌ عند مالك، والشافعيٌ، وبعض السلف؛ اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يره بعضهم. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم، وقد تقدّم في -46/ 2712 - وتقدم شرحه، وبيان مسائله هناك -وللَّه الحمد والمنة- فلم يبق هنا إلا إيضاح بعض مسائله التي لم تذكر هناك:

(المسألة الأولى): في اختلاف أهل العلم في اشتراط الطهارة للطواف بالبيت:

قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى- عند قوله: "غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري":

فيه نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها، وتغتسل، والنهي في العبادات يقتضي الفساد، وذلك يقتضي بطلان الطواف لو فعلته، وفي معناه الجنابة، وكذا سائر الأحداث، وهذا يدلّ على اشتراط الطهارة في صحّة الطواف. وقد ذكر هذا الاستدلال ابن المنذر، وغيره.

ويدلّ له أيضًا ما رواه البيهقيّ وغيره من حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أن اللَّه أباح فيه الكلام". لكن الصحيح وقفه على ابن عبّاس، كما ذكره البيهقيّ وغيره. وقد يقال: إنه مرفوع حكمًا، وإن لم يكن مرفوعًا لفظًا؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي.

ويدلّ له أيضًا ما رواه البخاريّ، ومسلم عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ، ثم طاف بالبيت"، مع قوله صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني مناسككم".

وبهذا قال مالك، والشافعيّ، وأحمد، وأكثر العلماء من السلف والخلف. وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر، والحسن بن عليّ، وأبي العالية، ومالك، والثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وحكاه الخطابيّ عن عامة أهل العلم، وحكاه النوويّ في "شرح المهذّب" عن عامة العلماء، قال: وانفرد أبو حنيفة، فقال: الطهارة ليست بشرط للطواف، فلو طاف، وعليه نجاسة، أو محدثًا، أو جنبًا صحّ

(1)

- "المفهم" 3/ 307.

ص: 246

طوافه، واختلف أصحابه في كون الطهارة واجبة مع اتفاقهم على أنها ليست شرطًا، فمن أوجبها منهم قال: إن طاف محدثًا لزمه شاة، وإن طاف جنبًا لزمه بدنة، قالوا: ويعيد ما دام بمكة.

وعن أحمد روايتان: إحداهما: كمذهبنا -يعني الشافعيّة-. والثانية: إن أقام بمكة أعاده، وإن رجع إلى بلده جبره بدم.

وقال داود: الطهارة للطواف واجبة، فإن طاف محدثًا أجزأه، إلا الحائض. وقال المنصوريّ من أصحاب داود: الطهارة شرط كمذهبنا انتهى.

قال وليّ الدين: وفيما ذكره من انفراد أبي حنيفة بذلك نظر، فقد روى ابن أبي شيبة في "مصنّفه" عن غندر، عن شعبة، قال: سألت الحكم، وحمادًا، ومنصورًا، وسليمان، عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة، فلم يروا به بأسًا. وروى ابن أبي شيبة أيضًا عن عطاء، قال: إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف، فصاعدًا، ثم حاضت أجزأ عنها. وذكر ابن حزم في "المحلّى" عن عطاء، قال: حاضت امرأة، وهي تطوف مع عائشة أم المؤمنين، فأتمّت بها عائشة بقية طوافها، قال ابن حزم: فهذه أم المؤمنين لم تر الطهارة من شروط الطواف انتهى.

وفي تقييد هذه الرواية عن أحمد بالعود إلى بلده نظر، فقد حكى المجد ابن تيمية في "المحرّر" رواية عن أحمد أن الطهارة واجبة تُجبر بالدم، ولم يقيّد ذلك بشيء. وعند المالكية قول يوافق هذا فحكى ابن شاس في "الجواهر" عن المغيرة أنه إن طاف غير متطهّر أعاد ما دام بمكة، فإن أصاب النساء، وخرج إلى بلده أجزأه. وقال ابن حزم من أهل الظاهر: الطواف بالبيت على غير طهارة جائز للننفساء، ولا يحرم إلا على الحائض فقط؛ للنهي فيه. وهذا جمود عجيب، وقد تقدّم في حديث ابن عباس ذكر النفساء مع الحائض، وسكت عليه أبو داود، وحسّنه الترمذيّ انتهى كلام وليّ الدين -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجّح عندي قول الجمهور من أن الطهارة واجبة للطواف؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "حتى تطهري"، فعلق حلّ الطواف بالطهارة، فلولا أنها شرط فيه لما علق حله بها، ولحديث: "الطواف بالبيت صلاة

" الحديث، فإنه وإن قيل بوقفه، إلا أن له حكم الرفع، كما تقدّم، وسيأتي أنه صحيح مرفوعًا في -136/ 2922 - فيفيد وجوب الطهارة مثل الصلاة، وبأنه صلى الله عليه وسلم توضأ، ثم طاف بالبيت، وقد

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 119 - 121.

ص: 247

قال: "خذوا عني مناسككم"، فهذه الأدلة يستفاد منها وجوب الطهارة للطواف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): الظاهر أن اشتراط الطهارة في الطواف يعم البدن والثوب، والمكان الذي يطؤه في الطواف، وبهذا قال الشافعية، والمالكية، والحنابلة، وغيرهم، لكن اغتفر المالكية ذلك مع النسيان

(1)

. قال النووي في "شرح المهذّب": والذي أطلقه الأصحاب أنه لو لاقى النجاسة ببدنه، أو ثوبه، أو مشى عليها عمدًا، أو سهوًا لم يصحّ طوافه. قال: ومما عمّت به البلوى غلبة النجاسة في موضع الطواف من جهة الطير، وغيره، وقد اختار جماعة من أصحابنا المتأخرين المحققين العفو عنها، وينبغي أن يقال: يُعفى عما يشقّ الاحتراز عنه من ذلك، كنظائره انتهى كلام النوويّ

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله النووي من نجاسة خرء الطير ونحوه مبنيّ على مذهبه، والراجح أن هذه الأشياء ليس بنجس؛ لعدم وجود دليل على ذلك، وقد تقدّم تحقيق ذلك في أوائل هذا الشرح في "أبواب الطهارة"، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط الطهارة للسعي بين الصفا والمروة:

ذهب إلى عدم اشتراطها جمهور العلماء من السلف والخلف، وحكاه ابن المنذر عن عطاء بن أبي رباح، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، قال: وكان الحسن البصريّ يقول: إن ذكره قبل أن يحلّ، فليُعد الطواف، وإن ذكره بعد ما حلّ فلا شيء عليه. وقال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدًا اشترط الطهارة فيه إلا الحسن، فإنه قال: إن سعى على غير طهارة، فإن ذكر قبل أن يحلّ فليُعد، وإن ذكر بعد ما حلّ فلا شيء عليه انتهى.

قال الحافظ وليّ الدين: وفيه نظر من وجهين:

[أحدهما]: أنه كلام متهافت، فإن اشتراط الطهارة ينافي الإجزاء مع فقدها، وما علمت أحدًا نقل عنه الاشتراط، ولعله يقول بالوجوب فقط، بل في "مصنف ابن أبي شيبة" عن الحسن، وابن سيرين أنهما لم يريا بأسًا أن يطوف الرجل بين الصفا والمروة على غير وضوء، وكان الوضوء أحبّ إليهما، وهذا يقتضي أن الحسن إنما يقول باستحباب الطهارة له، كما يقوله غيره من العلماء.

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 121 - 122.

(2)

-"المجموع" 8/ 20.

ص: 248

[ثانيهما]: أن الحسن لم ينفرد بذلك، ففي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي العالية أنه قال: لا تقرأ الحائض القرآن، ولا تصلي، ولا تطوف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، وقال: الطواف بين الصفا والمروة عدل الطواف بالبيت. وعن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة". وهو في "الموطإ" عن ابن عمر أيضًا: "لا تطوف بالبيت، ولا تسعى بين الصفا والمروة، ولا تقرب المسجد حتى تطهر". وهو رواية عن أحمد بن حنبل أنه تجب له الطهارة كالطواف، حكاها عن ابن تيمية في "المحرّر". انتهى كلام وليّ الدين

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: جاء في رواية يحيى بن يحيى في "الموطإ" في حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، مرفوعًا:"غير أن لا تطوفي بالبيت، ولا بين الصفا والمروة حتى تطهري". قال ابن عبد البرّ: لم يقله من رواة "الموطإ"، ولا غيرهم إلا يحيى انتهى.

وأشار بهذا إلى أنها شاذّة، فإن صحّت هذه الرواية دلّت على وجوب الطهارة للسعي، وإلا فالأصل البقاء على جواز السعي بلا طهارة، لعدم دليل الوجوب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: اختلف في جواز السعي قبل الطواف، فذهب الجمهور -كما قاله في "الفتح" - إلى أنه لا يجوز، وحكي ابن المنذر عن عطاء قولين فيمن بدأ بالسعي قبل الطواف بالبيت، وبالإجزاء قال بعض أهل الحديث، واحتجّ بحديث أسامة بن شريك:"أن رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: سعيت قبل أن أطوف؟، قال: طف، ولا حرج" وهو حديث صحيح. وتأوله الجمهور على من سعى بعد طواف القدوم، وقبل طواف الإفاضة. قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي ذهب إليه القائلون بجوزا تقديم السعي على الطواف هو الأرجح عندي؛ لحديث أسامة رضي الله عنه المذكور، وما أول به الجمهور فيه نظر؛ إذ لو كان كذلك لاستفصله النبيّ صلى الله عليه وسلم هل سعى بعد طواف القدوم أم لا؟، فلما لم يستفصله عُلم أنه على عمومه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2764 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ - وَاللَّفْظُ لَهُ- عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ،

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 122 - 123.

(2)

-"فتح" 4/ 314.

ص: 249

عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» ، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«انْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَدَعِي الْعُمْرَةَ» ، فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا قَضَيْتُ الْحَجَّ، أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْتُ، قَالَ:«هَذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِكِ» ، فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ، بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن سلمة) بن أبي فاطمة المراديّ الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمد الأمويّ مولاهم، أبو عمرو المصريّ القاضي، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

3 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن الْعُتَقيّ، أبو عبد اللَّه المصريّ، صاحب مالك، ثقة فقيه، من كبار [10] 19/ 20.

4 -

(مالك) بن أنس، أبو عبد اللَّه المدنيّ الإمام الحجة المشهور [7] 7/ 7.

5 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام المدنيّ الحجة الثبت [4] 1/ 1.

6 -

(عروة بن الزبير) بن العوّام الأسديّ المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.

7 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، فقد تفرّد به هو، وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من مالك، والباقون مصريون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم) أي من المدينة (فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) بفتح الواو، وكسرها، أي في عام حجة الوداع،

ص: 250

وهو السنة العاشرة، أو بسبب أداء حجة الوداع، وقد تقدم سبب تسميته بهذا الاسم (فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ) أي أحرم بعضنا بعمرة، ومنهم عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -كما تقدم في حديث جابر رضي الله عنه المتقدم.

قال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: اختلفت الروايات عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - فيما أحرمت به، اختلافا كثيرًا، فذكر مسلم من ذلك ما قدّمناه -يعني قولها:"ولم أهلّ إلا بعمرة"- وفي رواية لمسلم أيضًا عنها "خرجنا لا نرى إلا الحجّ"، وفي رواية القاسم عنها:"خرجنا مهلّين بالحجّ"، وفي رواية:"لا نذكر إلا الحجّ"، وكلّ هذه الروايات صريحة في أنها أحرمت بالحجّ، وفي رواية الأسود عنها:"نلبّي لا نذكر حجًا، ولا عمرة".

قال القاضي: واختلف العلماء في الكلام على حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فقال مالك: ليس العمل على حديث عروة، عن عائشة عندنا قديمًا، ولا حديثًا. وقال بعضهم: يترجّح أنها كانت محرمة بحجّ؛ لأنها رواية عمرة، والأسود، والقاسم، وغلّطوا عروة في العمرة. وممن ذهب إلى هذا القاضي إسماعيل، ورجّحوا رواية غير عروة على روايته؛ لأن عروة قال في رواية حماد بن زيد، عن هشام، عنه: حدّثني غير واحد أن النبيّ رضي الله عنه قال لها: "دعي عمرتك"، فقد بان أنه لم يسمع الحديث منها.

قال القاضي -رحمه اللَّه تعالى-: وليس هذا بواضح؛ لأنه يحتمل أنها ممن حدّثه ذلك. قالوا أيضًا: ولأن رواية عمرة، والقاسم نسّقت عمل عائشة في الحجّ من أوله إلى آخره، ولهذا قال القاسم عن رواية عمرة: أنبأتك بالحديث على وجهه. قالوا: ولأن رواية عروة إنما أخبر عن إحرام عائشة، والجمع بين الروايات ممكن، فأحرمت أوّلاً بالحجّ كما صحّ عنها في رواية الأكثرين، وكما هو الأصحّ من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابِهِ، ثم أحرمت بالعمرة حين أمر النبيّ كتَ أصحابه بفسخ الحجّ إلى العمرة، وهكذا فسّره القاسم في حديثه، فأخبر عروة عنها باعتمارها في آخر الأمر، ولم يذكر أول أمرها.

قال القاضي: وقد تعارض هذا بما صحّ عنها في إخبارها عن فعل الصحابة، واختلافهم في الإحرام، وأنها أحرمت هي بعمرة، فالحاصل أنها أحرمت بحجّ، ثم فسخته إلى عمرة حين أُمر الناس بالفسخ، فلما حاضت، وتعذّر عليها إتمام العمرة، والتحلّل منها، وإدراك الإحرام بالحجّ، أمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإحرام بالحجّ، فأحرمت، فصار مُدخلة للحجّ على العمرة، وقارنة. انتهى كلام القاضي -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

(1)

- "شرح صحيح مسلم" للنوويّ 8/ 376 - 377.

ص: 251

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى- تحقيق نفيسٌ جدًّا. وحاصله أن رواية عروة أنها أهلّت بالعمرة صحيحة، لأنها محمولة على آخر أمرها، بعد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بفسخ الحجّ إلى العمرة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلْيُهْلِلْ بالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ) أي ليصير قارنًا (ثُمَّ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعَا) لأنه ممنوع التحَلل حتى يبلغ الهدي محله.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذه الرواية مفسّرة للمحذوف من الرواية التي احتجّ بها أبو حنيفة، وأحمد، وموافقوهما -يعني قوله:"ومن أحرم بعمرة، وأهدى فلا يحلّ حتى ينحر هديه" على أن المعتمر، والمتمتّع إذا كان معه هدي، لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، ومذهب مالك، والشافعيّ، وموافقيهما أنه إذا طاف، وسعى، وحلق، حلّ من عمرته، وحلّ له كلّ شيء فيِ الحال، سواء ساق الهدي، أم لا، واحتجّوا بالقياس على من لم يسق الهدي، وبأنه تَحلَّلَ من نسكه، فوجب أن يحلّ له كل شيء، كما لو تحلّل المحرم بالحجّ. وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الروايات التي ذكرها مسلم بعدها، والتي ذكرها قبلها عن عائشة، قالت خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من كان معه هدي، فليُهلّ بالحجّ مع العمرة، ثم لا يحلّ حتى يحلّ منهما جميعًا". فهذه الرواية مفسّرة للمحذوف من الرواية التي احتجوا بها، وتقديرها: ومن أحرم بعمرة، وأهدى، فليهلّ بالحج، ولا يحلّ حتى ينحر هديه، ولا بدّ من هذا التأويل؛ لأن القضيّة واحدة، والراوي واحد، فيتعيّن الجمع بين الروايتين على ما ذكرنا انتهى كلام النوويّ بتصرّف

(1)

.

وقال الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن ذكر نحو ما ذكره النوويّ من التأويل: ولا يخفى ما فيه من التعسّف انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أنّ ما ذهب إليه الحنفية، والحنابلة من أن المعتمر إذا ساق الهدي لا يتحلّل حتى ينحر هديه هو الحقّ؛ لصحة الحديث بذلك، وتأويله على خلاف ظاهره تعسّف ظاهر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ) تقدّم أنها حاضت بسرف، وتمادى بها الحيض إلى يوم النحر (فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أي لقوله صلى الله عليه وسلم لها: "افعلي ما يفعل الحاجّ، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري" (فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،

(1)

- "شرح مسلم" 8/ 379 - 380.

ص: 252

فَقَالَ: "انْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي) أي سرّحي شعرك بالمشط.

ذهب الجمهور إلى أن معنى الحديث: أنه أمرها أن تترك أعمال العمرة، من الطواف، والسعي، والتقصير، وأن تُدخل الحجّ على العمرة، فتكون قارنة، وليس المراد بترك العمرة إبطالها جملة، وإنما المراد ترك أعمالها، وإرادف الحجّ عليها، حتى تصير قارنة، وتندرج أفعال العمرة في أفعال الحجّ.

وذهب الحنفية إلى أن معنى الحديث: أنه أمرها بأن تخرج من إحرام العمرة، وتتركها باستباحة المحظورات من التمشيط، وغيره؛ لعدم القدرة على الإتيان بأفعالها بسبب الحيض.

والراجح ما ذهب إليه الجمهور؛ إذ لا يلزم من التمشيط وغيره الخروج من الإحرام، وإبطال العمرة.

قال النوويّ: ولا يلزم منه إبطال العمرة؛ لأن نقض الشعر، والامتشاط جائزان في الإحرام على الراجح، بحيث لا ينتف شعرًا.

ولكن يكره الامتشاط إلا لعذر، وتأول العلماء فعل عائشة هذا على أنها كانت معذروة بأن كان في رأسها أذى، فأباح لها الامتشاط كما أباح لكعب بن عجرة الحلق للأذي.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كون امتشاط عائشة للعذر يحتاج إلى دليل، والظاهر أنه يجوز بدون عذر، واللَّه تعالى أعلم.

وقيل: ليس المراد بالامتشاط هنا حقيقة الامتشاط بالمشط، بل تسريح الشعر بالأصابع للغسل لإحرامها بالحجّ، لا سيما إن كانت لبّدت رأسها كما هو السنّة، وكما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا يصحّ غسلها إلا بإيصال الماء إلى جميع شعرها، ويلزم من هذا نقضه انتهى

(1)

.

وقال العلامة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: أما قوله: "وانقضي رأسك، وامتشطي" فهذا مما أعضل على الناس، ولهم فيها أربعة مسالك:

[أحدها]: أنه دليل على رفض العمرة، كما قالت الحنفية.

[المسلك الثاني]: أنه دليل على أنه يجوز للمحرم أن يمشي رأسه، ولا دليل من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع على منعه من ذلك، ولا تحريمه. وهذا قول ابن حزم وغيره.

(1)

- "شرح مسلم" 8/ 378.

ص: 253

[المسلك الثالث]: تعليل هذه اللفظة، وردّها بأن عروة انفرد بها، وخالف بها سائر الرواة، وقد روى حديثها طاوس، والقاسم، والأسود، وغيرهم، فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة.

[المسلك الرابع]: أن قوله: "دعي العمرة" أي دعيها بحالها، لا تخرجي منها، وليس المراد تركها، قالوا: ويدلّ عليه وجهان: أحدهما: قوله: "يسعك طوافك لحجك، وعمرتك". الثاني: قوله: "كوني في عمرتك"، قالوا: وهذا أولى من حمله على رفضها لسلامته من التناقض انتهى.

(وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَدَعيِ الْعُمْرَةَ") أي اتركي أعمالها؛ لدخولها في عمل الحجّ، حيث كانت قارنة.

وقال القرطبيّ: هذا محمول على ترك عملها، لا على رفضها، والخروج منها؛ بدليل قوله في الرواية الأخرى:"وأمسكي" مكان "ودعي" وهو ظاهر في استدامتها حكم العمرة التي أحرمت بها، وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"يسعك طوافك لحجك، وعمرتك"، وهذا نصّ على أن حكم عمرتها باق عليها انتهى

(1)

.

(فَفَعَلْتُ، فَلَمِّا قَضَيتُ الْحَجَّ) أي أديته بإتمام أعماله (أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) الصديق القرشيّ التيميّ، يكنى أبا عبد اللَّه. وقيل: أبا محمد. وقيل: أبا عثمان، أمه أم رُومان والدة عائشة، فهو شقيقها، وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة. وقيل: عبد العزّى، فغيّره النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتأخر إسلامه إلى أيام الهدنة، فأسلم، وحسن إسلامه. وقيل: إنما أسلم يوم الفتح هو ومعاوية في وقت واحد. ويقال: إنه شهد بدرًا مع المشركين، ودعا إلى البراز، فقام إليه أبوه ليبارزه، فذكر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له: متّعنا بنفسك، ثم أسلم، وحسن إسلامه، وصحب النبيّ صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية، وكان أسنّ ولد أبي بكر. قال الزبير بن بكار: كان رجلاً صالحًا، وكانت فيه دُعابة. وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيّب في حديث ذكره أن عبد الرحمن بن أبي بكر لم يجرّب عليه كذبة قط. وقال ابن عبد البرّ: كان من أشجع رجال قريش، وأرماهم بسهم، وحضر اليمامة مع خالد بن الوليد، فقتل سبعة من كبارهم، منهم مُحَكّمَ اليمامة ابن طفيل، رماه بسهم في نحوه، فقتله. وأخرج الزبير عن عبد اللَّه بن نافع، قال: خطب معاوية، فدعا الناس إلى بيعة يزيد، فكلمه الحسين بن عليّ، وابن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فقال له

(1)

-"المفهم" 3/ 301.

ص: 254

عبد الرحمن: أهرقلية، كلما مات قيصر كان قيصر مكانه؟ لا نفعل واللَّه أبدًا، وبعث إليه معاوية بعد ذلك بمائة ألف درهم، فردّها، وقال: لا أبيع ديني بدنياي، وخرج إلى مكة، فمات بها قبل أن تتمّ البيعة ليزيد، وكان موته فجأة من نومة نامها بمكان على عشرة أميال من مكة. وقيل: توفي بحبشيّ، وهو على اثني عشر ميلاً من مكة، فحمل إلى مكة، فدفن بها، ولما بلغ عائشة خبره، خرجت حاجة، فوقفت على قبره، وأنشدت أبيات متمم بن نويرة في أخيه مالك:

وَكنَّا كَنَدْمَانَي جُذَيمَةَ حِقْبَةً

مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا

فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأنَّي وَمَالِكَا

بِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيلَةً مَعَا

ثم قالت: لو حضرت دفنتك حيث متّ. روى عبد الرحمن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحاديث، منها في "الصحيح"، وعن أبيه، وروى عنه ابنه عبد اللَّه، وحفصة، وابن أخيه القاسم ابن محمد، وغيرهم. قال الخزرجيّ: له ثمانية أحاديث، اتفقا على ثلاثة. مات سنة (53) قاله ابن سعد. وقيل: بعد ذلك

(1)

.

(إِلَى التَّنْعِيم، فَاعْتَمَرْتُ) أي أحرمت بها، وأديت أعمالها (قَالَ: هَذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِكِ) قال الزركشي: المشهور رفع "مكان" على الخبر: أي عوض عمرتك التي تركتها لأجل حيضك، ويجوز النصب على الظرف. وقال بعضهم: لا يجوز غيره، والعامل محذوف، تقديره: هذه كائنة مكانَ عمرتك، أو مجعولة مكانها انتهى

(2)

.

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إنما قال لها هذا؛ لأنها لم تطب نفسًا بالعمرة التي أردفت عليها؛ لأنها طافت طوافًا واحدًا، وسعت سعيًا واحدًا، كما جاء عنها من حديث جابر: أنها قال: يا رسول اللَّه إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، فقال لعبد الرحمن: أعمرها من التنعيم، فلما فرغت منها، قال لها هذه المقالة تطييبًا لقلبها؛ ألا ترى أنه قد حكم بصحّة العمرة الْمُرْدَف عليها، وعلى هذا فلا يكون فيه حجة لمن يقول: إنها رفضت العمرة المتقدّمة، وهذه قضاء لتلك المرفوضة، لما قررناه، فتدبّره، وأنصّ ما يدلّ على صحة ما قلناه قولها: وأمرني أن أعتمر من التنعيم مكان عمرتي التي أدركني الحجّ، ولبم أحلل منها. انتهى

(3)

.

(فَطَافَ) أي طواف العمرة (الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ) وحدها، تعني الذين أفردوا العمرة

(1)

- "الإصابة" 6/ 295 - 297. "تهذيب التهذيب" 2/ 492. "مرعاة" 9/ 56.

(2)

- "زهر الربى" 5/ 167.

(3)

- "المفهم" 3/ 301 - 302.

ص: 255

عن الحجّ (بِالْبَيْتِ) متعلق بـ "طاف"(وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أي سعوا بينهما. قال القاري: الطواف يراد به الدور الذي يشمل السعي، فصحّ العطف، ولم يحتج إلى تقدير عامل، وجعله نظير "علفتها تبنًا وماء باردا"(ثُمَّ حَلُّوا) أي خرجوا من العمرة بالحلق، أو التقصير، ثم أحرموا بالحج من مكة (ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ) أي للحج يوم النحر، وهو طواف الإفاضة (بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى) أي إلى مكة، وقد سقط عنهم طواف القدوم إجماعًا لأنهم صاروا في حكم أهل مكة، والمكيّ لا طواف عليه للقدوم، إلا ما حُكي عن الإمام أحمد أن المتمتع يطوف يوم النحر أولا للقدوم، ثم يطوف طوافًا آخر للحج، وخالفه الجمهور، وهو الصواب؛ إذ لم ينقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه الذين تمتعوا معه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أنهم طافوا الطواف المذكور. واللَّه تعالى أعلم (لِحَجَّهِمْ) فيه أن المتمتّع عليه طواف لعمرته، وطواف لحجه بعد رجوعه من منى (وَأَمَّا الذينَ جمًعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) أي ابتداء، أو إدخالا لأحدهما على الآخر (فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا) تعني أن الذين قرنوا بينهما اكتفوا بطواف واحد؛ لأن أفعال العمرة تندرج في أفعال الحجّ، وبهذا قال الجمهور، وهو الحقّ، وقال الحنفيّة: إن القارن عليه طوافان، وسعيان، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في باب "طواف القارن" -144/ 2932 - إن شاء اللَّه تعالى.

[تنبيه]: قيل: هذا الحديث بظاهره مشكل على الجميع؛ لأنه يدلّ على اكتفائهم بطواف واحد، وقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أنهم طافوا ثلاثة أطوفة: الأول طواف القدوم. والثاني: طواف الإفاضة. والثالث: طواف الوداع.

وقد أجابوا عن ذلك، وأحسن ما رأيت في ذلك ما كتبه السنديّ في "حاشيته على البخاريّ": حيث قال: ظاهر الحديث أنهم إنما اقتصروا من الطوافين الذين طافهما السابقون على أحدهما، إما الأول، وإما الثاني، وليس الأمر كذلك، بل هم أيضًا طافوا الطوافين، الأول، والثاني جميعًا، وذلك مما لا خلاف فيه، وقد جاء صريحًا عن ابن عمر، ففي "صحيح مسلم" عنه، و"بدأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحجّ"، إلى أن قال:"وطاف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة"، إلى أن قال:"ونحر هديه يوم النحر، وأفاض، وطاف بالبيت، وفعل مثل ما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أهدى، وساق الهدي من الناس".

ثم ذكر حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - أنها أخبرت بمثل ذلك، قال: فالمراد كما سبق أنهم طافوا للركن طوافًا واحدًا، والسابقون طافوا للركن طوافين.

وقال أيضًا: قولها: "وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافًا

ص: 256

واحدًا": أي ما طافوا طواف الفرض إلا طوافًا واحدًا، هو طواف الإفاضة، والذي طافوا أولاً كان طواف القدوم الذي هو من السنن، لا من الفرائض، بخلاف الذين حلّوا، فإنهم طافوا أوّلاً فرض العمرة، ثم فرض الحجّ، فطافوا طوافين للفرض، ولم ترد أن الذين جمعوا ما طافوا أوّلاً حين القدوم، أو ما طافوا آخرًا بعد الرجوع من منى، كما يفيده ظاهر الكلام، كيف والنبيّ صلى الله عليه وسلم كان من الذين جمعوا على التحقيق، وعلى مقتضى هذا الحديث؛ لأنه كان معه الهدي البتّة، وقد ثبت أنه طاف أوّلاً حين قدم، وطاف ثانيًا طواف الافاضة، حين رجع من منى، بل لعله ما ثبت أن أحدًا ترك الطواف عند القدوم، ولا طواف الإفاضة، فلا فرق بين الطائفتين، إلا بصفة الافتراض، فطواف من حلّ كان مرَّتين فرضًا، وطواف من لم يحلّ كان مرّة فرضًا. واللَّه أعلم.

والحاصل أن إحدى الطائفتين طافوا طوافين للنسكين، والثانية طافوا لهما واحدًا انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا التأويل الذي قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- في معنى حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - المذكور تأويل نفيسٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم في -16/ 2650 - وتقدّم تخريجه هناك، فراجعه، تستفد، ونذكر هنا بعض الفوائد التي اشتمل عليها:

(فمنها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان أن المرأة المعتمرة إذا حاضت، وخافت فوت الحجّ أدخلت الحج على عمرتها، فصارت قارنة. (ومنها): مشروعيّة حجّ الرجل مع زوجته. (ومنها): أن من ساق الهدي لا يتحلل حتى يبلغ الهدي محله. (ومنها): أن الحائض تنقض ضفر رأسها، وتمتشط، وتغتسل للإهلال بالحجّ. (ومنها): أن من كان بمكة، وأراد العمرة فلا بدّ من خروجه إلى الحلّ، وأدناه التنعيم. (ومنها): أن المتمتّع لا بدّ له من طوافين، وسعيين. (ومنها): أن القارن يطوف طوافًا واحدًا، وسعيًا واحدًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 257

‌59 - (الاشْتِرَاطُ فِي الْحَجِّ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المراد اشتراط التحلل عن الإحرام عند حصول ما يمنع من المضي في النسك، وقد اختلف فيه العلماء، والراجح مشروعيته، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2765 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبِيبٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ ضُبَاعَةَ أَرَادَتِ الْحَجَّ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَشْتَرِطَ، فَفَعَلَتْ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هارون بن عبد اللَّه) بن مروان الحمّال البزّاز، أبو موسى البغداديّ، ثقة [10] 50/ 62.

2 -

(أبو داود) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقة حافظ [9] 13/ 343.

3 -

(حبيب) بن أبي حبيب الجرميّ، واسم أبيه يزيد البصريّ الأنماطيّ، صدوق يخطئ [7] 44/ 590.

4 -

(عمرو بن هَرِم) الأزديّ البصريّ، ثقة [6] 44/ 590.

5 -

(سعيد بن جُبير) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقة فقيه فاضل [3] 28/ 436.

6 -

(عكرمة) مولى ابن عباس المدنيّ بربريّ الأصل، ثقة ثبت فقيه [3] 21/ 325.

7 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، فقد أخرجه مسلم بهذا السند في "صحيحه". (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فبغداديّ، وسعيد، فكوفيّ، وعكرمة، فمدنيّ كما مرّ آنفًا. (ومنها): أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ ضُبَاعَةَ) -بضم الضاد المعجمة، بعدها باء موحّدة، مخفّفة، وبعد الألف عين مهملة- بنت الزبير بن عبد المطّلب الهاشميّة، بنت عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، تزوّجها المقداد بن عمرو، فولدت له عبد اللَّه، وكريمة، فقتل عبد اللَّه يوم الجمل مع عائشة. روت ضباعة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن زوجها المقداد.

ص: 258

وعنها ابنتها كريمة بنت المقداد، وابن عباس، وعائشة، وابن المسيب، وعروة، وغيرهم. قال ابن عبد البرّ: لضباعة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحاديث: منها الاشتراط في الحجّ. قال الزبير بن بكّار: لم يكن للزبير بن عبد المطلب عقب إلا من بنتيه: ضباعة، وأختها أم الحكم.

[تنبيه]: قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: وأما قوله في رواية ابن ماجه من حديث أسماء، أو سعدى:"دخل على ضباعة بنت عبد المطلب"، فهو وَهَمٌ، لا يتأوّل بما قاله والدي -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح الترمذيّ" من أنه نسبة إلى جدّها كقوله صلى الله عليه وسلم:"أنا ابن عبد المطّلب"، لأنه عَقَّبَ ذلك بقوله: فقال: "ما يمنعك يا عمّتاه من الحجّ"؛ فدلّ على أنه بني على أنها بنت عبد المطّلب حقيقة حتى تكون عمته صلى الله عليه وسلم، وهو وَهَمٌ. قال الزبير بن بكار. وليس للزبير بقية إلا من بنتيه أم الحكم، وضباعة انتهى.

وكانت تحت المقداد ابن الأسود، كما هو مصرّح به في رواية "الصحيحين" وبسبب ذلك أورد البخاريّ هذا الحديث في "كتاب النكاح" في "باب الأكفاء في الدين" يشير إلى تزوجها بالمقداد، وليس كفؤًا لها من حيث النسب، فإنه كنديّ، وليس كندة أكفاء لقريش، فضلاً عن بني هاشم، عند من يعتبر الكفاءة في النسب من العلماء، وإنما هو كفؤ لها في الدين فقط.

ووقع في كلام إمام الحرمين، والغزاليّ أنها ضباعة الأسلمية، وهو غلط فاحش، كما قال النوويّ، وغيره، والصواب الهاشمية، وليس في الصحابة أخرى يقال لها: ضباعة الأسلميّة، ولكنهما وَهِما في نسبتها، نعم في الصحابة أخرى تسمى ضباعة بنت الحارث أنصارية، وهي أخت أم عطية انتهى كلام وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

(أَرَادَتِ الْحَجَّ) وفي رواية هلال بن خبّاب، عن سعيد بن جبير الآتية: "أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه، إني أريد الحجّ، فكيف أقول

؟ ". وفي رواية أبي الزبير، عن طاوس، وعكرمة: "فقالت: يا رسول اللَّه، إني امرأة ثقيلة، وإني أريد الحج، فكيف تأمرني؟

". وفي حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - الآتي: "دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ضُباعة، فقالت: يا رسول اللَّه إني شاكية، وإني أريد الحجّ

".

قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: قولها: "إني أريد الحجّ" قد يقتضي ظاهره أنها قالت له ذلك ابتداء، وفي "صحيح البخاريّ":"لعلك أردت الحجّ"، وفي "صحيح

(1)

-"طرح التثريب" 5/ 167.

ص: 259

مسلم" من ذلك الوجه: "أردت الحجّ".

ولا منافاة، فقد تكون إنما قالت: إني أريد الحجّ في جواب استفهامه لها، وليس اللفظ صريحًا في أنها قالت ذلك ابتداء، وكذا قوله في رواية ابن ماجه من حديث ضباعة أنه صلى الله عليه وسلم قال لها:"أما تريدين الحجّ العام؟ "، ومن رواية أسماء، أو سعدى:"ما يمنعك من الحجّ؟ "، كلّ ذلك يقتضي أن كلامها كان جوابًا لسؤاله، لكن في حديث ابن عباس عند مسلم، وأصحاب السنن الأربعة: "أن ضباعة أتت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت

"، وهذا قد ينافي قوله في حديث عائشة: "دخل على ضباعة

". وقد يُجمع بينهما بأنها أتت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن إذ ذاك في منزله، ثم جاء، فدخل عليها، وهي في منزله. وفي حديث ابن عباس عند أبي داود، والترمذيّ: أنها قالت له: إني أريد الحجّ، فأشترط؟، فقال لها: "نعم"، وهذا يقتضي أن أمره بالاشتراط ما كان إلا بعد استئذانها انتهىَ كلام وليّ الدين

(1)

.

(فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَشْتَرِطَ) وفي رواية هلال، عن سعيد:"قال: قولي: لبيك اللَّهم لبيك، ومحلّي من الأرض حيث تحبسني، فإن لك على ربك ما استثنيت"(فَفَعَلَتْ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي فاشترطت من أجل أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لها بذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-59/ 2765 و 60/ 2766 و 2767 - وفي "الكبرى" 59/ 58/ 3746 و 3747 و 59/ 3739. وأخرجه (م) في "الحج" 1208 (د) في "المناسك" 1776 (ت) في "الحجّ" 941 (ق) في "المناسك" 2938 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 3107 و 3292 (الدارميّ) في "المناسك" 1811. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: حديث قصّة ضُباعة - رضي اللَّه تعالى عنها - أخرجه الشيخان، وأصحاب السنن، وغيرهم، وروه الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- عن ابن عيينة، عن هشام، عن أبيه، مرسلاً، وقال: لو ثبت حديث عروة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الاستثناء لم أَعْدُهُ إلى غيره؛ لأنه لا يحلّ عندي خلاف ما ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 168.

ص: 260

قال البيهقيّ: أما حديث ابن عيينة، فقد رواه عنه عبد الجبّار بن العلاء موصولاً بذكر عائشة فيه. وثبت وصله أيضًا من جهة أبي أسامة حماد بن أسامة، أخرجه البخاريّ، ومسلم.

وثبت عن معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أخرجه مسلم. وعن عطاء، وسعيد بن جبير، وطاوس، وعكرمة، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو مخرّج في "صحيح مسلم" انتهى.

وأخرج حديث ابن عباس أيضًا أصحاب السنن الأربعة، ورواه ابن حبّان في "صحيحه"، والدارقطنيّ من رواية عبيد اللَّه بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن عائشة. وقال ابن حزم: وقال الشافعيّ: إن صحّ الخبر قلت به. قال: قد صحّ الخبر، وبالغ في الصحّة، فهو قوله، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأبي سليمان -يعني داود -.

وفي الباب أيضًا عن أسماء بنت أبي بكر، أو سعدى بنت عوف. رواه ابن ماجه على الشكّ هكذا، وجابر، رواه البيهقيّ. وقال ابن حزم في "المحلّى" بعد ذكر هذه الأحاديث سوى حديث أسماء، أو سعدى، فهذه آثار متظاهرة، متواترة، لا يسع أحدًا الخروج عنها.

وقال النسائيّ: لا أعلم أحدًا أسنده عن الزهريّ، غير معمر. وقال في موضع آخر: لم يسنده عن معمر غير عبد الرزاق فيما أعلم.

وأشار القاضي عياض إلى تضعيف الحديث، فانه قال: قال الأصيليّ: لا يثبت في الاشتراط إسناد صحيح. وقال: قال النسائيّ: لا أعلم أسنده عن الزهريّ غير معمر.

قال النوويّ في "شرح مسلم": وهذا الذي عرّض به القاضي، وقاله الأصيليّ من تضعيف الحديث غلط فاحش جدًّا، نبهت عليه لئلا يغترّ به؛ لأن هذا الحديث مشهور في صحيحي البخاريّ، ومسلم، وسنن أبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وسائر كتب الحديث المعتمدة من طُرُق متعدّدة بأسانيد كثيرة عن جماعة من الصحابة، وفيما ذكره مسلم من تنويع طرقه أبلغ كفاية.

وقال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": والنسائيّ، لم يقل بانفراد معمر به مطلقًا، بل بانفراده به عن الزهريّ، ولا يلزم من الانفراد المقيّد، الانفراد المطلق، فقد أسنده معمر، وأبو أسامة، وسفيان بن عيينة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، وأسنده القاسم عنها، ولو انفرد به معمر مطلقًا لم يضره، وكم في "الصحيحين" من الانفراد، ولا يضرّ إرسال الشافعيّ له، فالحكم لمن وصل. هذا معنى كلامه. ذكر الحافظ وليّ الدين -رحمه

ص: 261

اللَّه تعالى

(1)

وهو بحث نفيس جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (المسألة الثالثة): في الفوائد التي اشتمل عليها حديث ضباعة برواياته المختلفة

(2)

: (منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعية الاشتراط في الحجّ. (ومنها): أن دخوله صلى الله عليه وسلم على ضباعة - رضي اللَّه تعالى عنها - عيادة، أو زيارة، وصلة، فإنها قريبته، كما تقدّم، وفيه بيان تواضعه صلى الله عليه وسلم، وصلته لرحمه، وتفقده، وهو محمول على أن الخلوة هناك كانت منتفية، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يخلو بالأجنبيات، ولا يصافحهنّ، وإن كان لو فعل ذلك لم يلزم منه مفسدة؛ لعصمته، لكنهم لم يعدّوا ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فهو في ذلك كغيره في التحريم. ذكره وليّ الدين

(3)

.

(ومنها): أن الحديث ورد في الحجّ، ولكن العمرة في معناه، فلو أحرم بعمرة، فشرط التحلّل منها عند المرض كان كذلك. قال وليّ الدين: ولا خلاف في هذا بين المجوّزين للاشتراط فيما أعلم، ولعلّ العمرة داخلة في قوله في رواية النسائيّ من حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - الآتية:"فإن لكِ على ربّك ما استثنيت". وقد عزى ابن قدامة في "المغني" هذا الحديث لمسلم، وفيه هذه الزيادة، وليسست عند مسلم انتهى

(4)

.

(ومنها): أنه قد يستدلّ به على أن المشترط لذلك يحلّ بمجرّد المرض والعجز، ولا يحتاج إلى إحلال. وقد قال الشافعية: إن اشترط التحلّل بذلك، فلا يحلّ إلا بالتحلّل، وإن قال: إذا مرضت، فأنا حلال، فهل يحتاج في هذه الصورة إلى تحلل، أو يصير حلالاً بنفس المرض، فيه وجهان لهم، الذي نصّ عليه الشافعيّ أنه يصير حلالاً بنفس المرض. قال وليّ الدين: ودلالة الحديث محتملة، فإن قوله:"محلّي" يحتمل أن يكون معناه موضع حلي، ويحتمل أن يكون معناه موضع إحلالي. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الاحتمال الأول هو الظاهر، فما نصّ عليه الشافعي هو الأرجح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(ومنها): أن المراد بالتحلل أن يصير نفسه حلالاً، فلو شرط أن ينقلب حجه عمرة عند المرض، فذكر الشافعيّة أنه أولى بالصحّة من شرط التحلل، ونصّ عليه الشافعي،

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 165 - 167.

(2)

- هذه الفوائد ليست قاصرة على السياق المتقدم للحديث، بل لما اشتمل عليه روايات حديثُ. قصةِ ضباعة كلها.

(3)

- "طرح التثريب" 5/ 171.

(4)

- المصدر السابق.

ص: 262

وإذا أجاز إبطال العبادة للعجز، فنقلها إلى عبادة أخرى أولى بالجواز.

وروى ابن خزيمة في "صحيحه"، والبيهقيّ في "سننه" من رواية يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب، عن ضُباعة، قالت: قلت: يا رسول اللَّه، إني أريد الحجّ، فكيف أهلّ بالحجّ؟ قال:"قولي: اللَّهم إني أُهلّ بالحجّ إن أذنت لي به، وأعنتني عليه، ويسّرته لي، وإن حبستني فعمرة، وإن حبستني عنهما جميعًا، فمجلّي حيث حبستني".

قال الحافظ وليّ الدين: وهذه زيادة حسنة، يجب الأخذ بها، ويقال: ينبغي أن لا يجوز للحاجّ شرط التحلل منه مطلقًا، إلا مع العجز عنه، وعن العمرة، فمع القدرة على العمرة لا ينتقل للتحلّل المطلق انتهى

(1)

.

(ومنها): أنّ سبب الحديث إنما هو في التحلل بالمرض لكن قوله: "حبستني" يصدق بالحبس بالمرض، وبغيره من الأعذار كذهاب النفقة، وفراغها، وضلال الطريق، والخطإ في العدد. وقد صرّح الشافعيّة، والحنابلة بأن هذه الأعذار كالمرض في جواز شرط التحلّل بها، ومن الشافعية من خالف فيه.

(ومنها): أن ظاهر الحديث أنه لا يجب عليه عند التحلُّل بالشرط دم، إذ لو وجب لذكره صلى الله عليه وسلم، فإنه وقت الاحتياج إليه، وبهذا صرّح الحنابلة، والظاهريّة، وهو الأصحّ عند الشافعيّة. ومحلّ الخلاف عندهم في حالة الإطلاق، فلو شرط التحلّل بالهدي لزمه قطعًا، وإن شرطه بلا هدي لم يلزمه قطعًا

(2)

. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أن الحنابلة ذكروا أن هذا الشرط يؤثّر في إسقاط الدم فيما إذا حبسه عدوّ. وقالت الشافعية: لا يسقط دم الإحصار بهذا الشرط؛ لأن التحلل بالإحصار جائز بلا شرط، فشرطه لاغٍ. ومنهم من حكى فيه خلافًا. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أنه استَدلّ به الجمهور على أنه لا يجوز التحلل بالإحصار بالمرض من غير شرط، إذ لو جاز التحلل به لم يكن لاشتراطه معنى. (ومنها): أنه لا يجب القضاء عند التحلل بشرط، وبه صرّح الشافعية، وغيرهم. (ومنها): أن المفهوم من لفظ الشرط أنه لا بدّ من مقارنته للإحرام، فإنه متى سبقه، أو تأخر عنه لم يكن شرطًا، وقد صرّح بذلك في قوله في حديث ابن عباس:"اشترطي عند إحرامك"، وهو بهذا اللفظ في "مصنّف ابن أبي شيبة". (ومنها): أن ظاهر الحديث أنه لا بدّ من التلفظ بهذا الشرط كغيره من الشروط، وهو ظاهر كلام الشافعية، وذكر فيه ابن قدامة احتمالين: أحدهما: هذا، قال: ويدلّ عليه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: "قولي: محلّي من الأرض حيث

(1)

- المصدر السابق 5/ 172.

(2)

- المصدر السابق.

ص: 263

تحبسني"، وكذا في حديث عائشة في "الصحيحين". و"قولي: اللَّهم محلي حيث حبستني". والثاني: أنه تكفي فيه النية، ووجهه بأنه تبع لعقد الإحرام، والإحرام ينعقد بالنيّة. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أنه لا يتعيّن في الاشتراط اللفظ المذكور في الحديث، بل كلّ ما يؤدّي معناه يقوم مقامه في ذلك. قال ابن قُدامة: وغير هذا اللفظ مما يؤدي معناه يقوم مقامه لأن المقصود المعنى، والعبارة إنما يعتبر لتأدية المعنى، ثم استشهد بقول علقمة: اللَّهم إني أريد العمرة إن تيسرت، وإلا فلا حرج عليّ. وبقول شريح: اللَّهم قد عرفت نيتي، وما أريد، فإن كان أمرا تتمه، فهو أحبّ إليّ، وإلا فلا حرج عليّ. ونحوه عن الأسود.

وقالت عائشة لعروة: قل: اللَّهم إني أريد الحج، وإياه نويت، فإن تيسر، وإلا فعمرة. ونحوه عن عميرة بن زياد. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أن قوله: "محلّي حيث حبستني" يدلّ على أن المحصر يحلّ حيث يحبس، وهناك ينحر هديه، ولو كان في الحلّ، وبه قال الشافعيّ، وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا ينحر هديه إلا في الحرم. والأول أصحّ. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أنه خرج بقوله: "حيث حبستي ما إذا شرط التحلّل بلا عذر، بأن قال في إحرامه: متى شئت، أو كسلت خرجت، فإن هذا لا يعتبر اتفاقًا

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاشتراط في الإحرام:

اختلفوا في ذلك على مذاهب:

(المذهب الأول): جوازه، وهو مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم. وهو المشهور من مذهب الشافعيّ، فإنه نصّ عليه في القديم، وعلّق القول به في الجديد على صحة الحديث، وقد صحّ، كما تقدم. وقد روى ابن أبي شيبة فعله عن عليّ، وعلقمة، والأسود، وشُريح، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. والأمر به عن عائشة، وعبد اللَّه بن مسعود. وعن عثمان أنه رأى رجلاً واقفا بعرفة، فقال له: أشارطت؟، فقال: نعم. وعن الحسن، وعطاء في المحرم قالا: له شرطه.

وروى البيهقيّ الأمر به عن أم سلمة. وقال ابن المنذر: ممن روينا عنه أنه رأى الاشتراط عند الإحرام عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن مسعود، وعمار بن ياسر، وهو مذهب عَبيدة السلمانيّ، والأسود بن يزيد، وعلقمة، وشُريح، وسعيد بن المسيّب، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة، وعطاء بن يسار، وأحمد، وإسحاق، وأبي

(1)

- راجع "طرح التثريب في شرح التقريب" 5/ 171 - 173.

ص: 264

ثور، وبه قال الشافعيّ إذ هو بالعراق، ثم وقف عنه بمصر، وبالأول أقول. وحكاه ابن حزم عن جمهور الصحابة. وحكاه الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ " عن جمهور الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم.

(المذهب الثاني): استحبابه، وهو مذهب الإمام أحمد، فإن ابن قدامة جزم به في "المغني"، وهو المفهوم من قول الخرقيّ، والمجد ابن تيمية في "مختصريهما" عند ذكر الإحرام.

(المذهب الثالث): إيجابه، وإليه ذهب ابن حزم الظاهريّ، تمسّكًا بالأمر.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا عزا وليّ الدين الوجوب إلى الظاهرية، وكذا الحافظ في "الفتح"

(1)

والذي ذكره ابن حزم في "المحلّى" 7/ 99 - الاستحباب، فليحرّر. واللَّه تعالى أعلم.

(المذهب الرابع): إنكاره، وهذا مذهب الحنفية، والمالكيّة. وروى ابن أبي شيبة عن هشام بن عروة، قال: كان أبي لا يرى الاشتراط في الحجّ شيئًا. وعن إبراهيم النخعيّ: كانوا لا يشترطون، ولا يرون الشرط شيئًا. وعن طاوس، والحكم، وحماد: الاشتراط في الحجّ ليس بشيء. وعن سعيد بن جبير: إنما الاشتراط في الحجّ فيما بين الناس، وعنه أيضًا: المستثني، وغير المستثني سواء. وعن إبراهيم التيميّ: كان علقمة يشترط في الحجّ، ولا يراه شيئًا. وروى الترمذيّ، وصححه، والنسائيّ عن ابن عمر أنه كان ينكر الاشتراط في الحجّ، ويقول: أليس حسبكم سنة نبيّكم صلى الله عليه وسلم "، زاد النسائيّ في روايته: أنه لم يشترط. أي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في "صحيح البخاريّ" بدون أوله، ولفظه: "أليس حسبكم سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إن حُبس أحدكم عن الحجّ طاف بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم حلّ من كلّ شيء حتى يحج عامًا قابلا، فيهدي، أويُطعم، إن لم يجد هديًا".

وحكى ابن المنذر إنكاره عن الزهريّ أيضًا. وحكاه ابن عبد البرّ عن سفيان الثوريّ. وحكاه المحبّ الطبريّ عن أحمد، وهو غلط، فالمعروف عنه ما قدمناه. قال ابن قدامة: وعن أبي حنيفة أن الاشتراط يفيد إسقاط الدم، فأما التحلل فهو ثابت عنده بكل إحصار.

وقال ابن حزم: روينا عن إبراهيم: كانوا يستحبّون أن يشترطوا، وكانوا لا يرون الشرط شيئًا لو أن الرجل ابتلي. وروينا عنه: كانوا يكرهون أن يشترطوا في الحجّ. قال ابن حزم: هذا تناقض مرّة كانوا يستحبّون، ومرّة كانوا يكرهون، فأقل ما في هذا ترك

(1)

- "فتح" 4/ 475.

ص: 265

رواية إبراهيم لاضطرابها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في بيان مُتمسَّك كلّ مذهب من هذه المذاهب:

قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: من قال بالجواز تمسّك بهذا الحديث، ورأى أن الأمر به ترخيص، وتوسعة، وتخفيف، ورفق، وأنه يتعلّق بمصلحة دنيوية، وهي ما يحصل لها من المشقّة بمصابرة الإحرام مع المرض.

ومن قال بالاستحباب رأى المصلحة فيه دينيّة، وهو الاحتياط للعبادة، فإنها بتقدير عدمه قد يعرض لها مرض يُشَعّث العبادة، ويوقع فيها الخلل، وهذا بعيد.

ومن قال بالوجوب حمل الأمر على حقيقته، وهو أبعد من الذي قبله، ولو كان واجبًا لما أخلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بفعله، ولا الصحابة رضي الله عنهم، ولو فعلوا ذلك في حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم لنقل، وقد صرّح ابن عمر بأنه لم يشترط، كما تقدّم ذكره، ولما لم يأمر به إلا هذه المرأة الواحدة بعد شكايتها له علمنا أن ذلك ترخيص حرّك ذكره هذا السبب، وهو شكواها.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بالوجوب يحتاج إلى ثبوته، كما أسلفته. واللَّه تعالى أعلم.

ومن قال بالإنكار منهم من ضعّف الحديث كما تقدّم ذكره، ورده. ومنهم من أوله، وفي تأويله أوجه:

(أحدها): أنه خاصّ بضباعة، حكاه الخطّابيّ عن بعضهم، قال: وقال: يشبه أن يكون بها مرض، أو حال كان غالب ظنها أنه يعوقها عن إتمام الحجّ، وهذا كما أذن لأصحابه في رفض الحجّ، وليس ذلك لغيرهم.

وقال النوويّ في "شرح مسلم" بعد ذكره هذا المذهب: وحملوا الحديث على أنها قضية عين، وأنه مخصوص بضباعة، وحكاه في "شرح المهذّب" عن الرويانيّ من الشافعيّة، ثمِ قال: وهذا تأويل باطلٌ، ومخالف لنصّ الشافعيّ، فإنه إنما قال: لو صحّ الحديث لم أعْدُهُ، ولم يتأوله، ولم يخصّه.

(الثاني): أن معناه: محلي حيث حبستني بالموت، أي إذا أدركتني الوفاة انقطع إحرامي. حكاه النوويّ في "شرح المهذّب" عن إمام الحرمين، ثم قال: وهذا تأويل ظاهر الفساد، وعجبت من جلالة الإمام كيف قاله؟.

(الثالث): أن المراد التحلل بعمرة، لا مطلقًا، حكاه المحبّ الطبريّ عن بعضهم. ويردّه حديث ضباعة المتقدّم، حيث قال لها: "قولي: اللَّهم إني أريد الحجّ إن أذنت لي به، وأعنتني عليه، ويسرته لي، وإن حبستني، فعمرة، وإن حبستني عنهما جميعًا،

ص: 266

فمحلّي حيث حبستني". فإن هذا فيه التصريح بالتحلل المطلق عن الحجّ والعمرة معًا.

وحكى ابن حزم عن بعضهم أن هذا الحديث مخالف لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، ولقوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].

وعن بعضهم أنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: "كلّ شرط ليس في كتاب اللَّه، فهو باطل". وعن

بعضهم أن هذا الخبر رواه عروة، وعطاء، وسعيد بن جبير، وطاوس، وروي عنهم

خلافه. ثم قال ابن حزم: سمعناكم تعتلّون بهذا في الصاحب، فعديتموه إلى التابع، وإن درجتموه بلغ إلينا، وإلى من بعدنا، فصار كلّ من بلغه حديث، فتركه حجة في ردّه، ولئن خالف هؤلاء ما رووا، فقد رواه غيرهم، ولم يخالفه، وأطنب ابن حزم في ردّ هذه المقالات، وهي حقيقة بذلك واللَّه تعالى أعلم.

قال وليّ الدين. والظنّ بمن يُعتمد عليه ممن خالف هذا الحديث أنه لم يبلغه، قال البيهقيّ: عندي أن ابن عمر لو بلغه حديث ضباعة في الاشتراط لم ينكره، كما لم ينكره أبوه انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أو يحمل على أنه بلغه، لكن تأوله بشيء من التأويلات السابقة.

والحاصل أن الحقّ هو قول الجمهور، وهو جواز الاشتراط، وأنه إذا اشترط، وحصل المانع تحلّل، ولم يلزمه شيء من الدم أو غيره، عملاً بظاهر الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌60 - (كَيْفَ يَقُولُ إِذَا اشْتَرَطَ)

2766 -

(أَخْبَرَنَا

(1)

إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ الأَحْوَلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ خَبَّابٍ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنِ الرَّجُلِ يَحُجُّ يَشْتَرِطُ، قَالَ: الشَّرْطُ بَيْنَ النَّاسِ، فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثَهُ -يَعْنِي عِكْرِمَةَ- فَحَدَّثَنِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، فَكَيْفَ أَقُولُ؟ ، قَالَ: «قُولِى لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَمَحِلِّى مِنَ الأَرْضِ،

(1)

- وفي نسخة: "أخبرني".

ص: 267

حَيْثُ تَحْبِسُنِي، فَإِنَّ لَكِ عَلَى رَبِّكِ مَا اسْتَثْنَيْتِ»).

قال الجَامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إبراهيم بن يعقوب": هو الجوزجانيّ الحافظ.

و"أبو النعمان": هو محمد بن الفضل الملقّب بعارم.

و"ثابت بن يزيد الأحول" أبو زيد البصريّ، ثقة ثبت [7].

قال ابن معين: ثقة. وقال أبو أبو زرعة: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: أوثق من عبد الأعلى، وأحفظ من عاصم الأحول. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال عفّان: دلّنا عليه شعبة. ووثقه أبو داود. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان عطارًا بالبصرة. قيل: مات سنة (169). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

و"هلال بن خبّاب" العبديّ مولاهم، أبو علاء البصريّ، نزيل المدائن، صدوق تغيّر بآخره [5] 81/ 1013.

وقوله: "الشرط بين الناس" هذا يحتمل وجهين:

[أحدهما]: أن الشرط إنما يكون بين الناس، لا بين العبد وربه سبحانه وتعالى، فإنه لا يجوز، وعلى هذا فمراده بذكر الحديث أنه يعلم الحديث، ولكنه تأوله بأنه مخصوص بهذه المرأة، لا يتعداها إلى غيرها.

[والثاني]: أنه مثل الشرط بين الناس، فيجوز. والأول هو الظاهر. واللَّه تعالى أعلم.

و"محلّي": -بفتح الميم، وكسر الحاء، وتشديد اللام- أي مكان تحلّلي، أو وقت حلولي؛ لأن المحلّ يطلق على المكان، والزمان، لكن المناسب هنا المكان، بدليل قوله:"حيث حبستني من الأرض". واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "حبستني" أي منعتني من السير بسبب ثقل المرض.

وقوله: "فإن لك على ربك ما استثنيت" أي إن لك على اللَّه تعالى ما اشترطته من التحلّل عند الحبس بالمرض.

والحديث صحيحٌ، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2779 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

شُعَيْبٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(3)

ابْنُ

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(3)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 268

جُرَيْجٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا، وَعِكْرِمَةَ، يُخْبِرَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَتْ ضُبَاعَةُ بِنْتُ الزُّبَيْرِ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ، وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أُهِلَّ، قَالَ:«أَهِلِّي، وَاشْتَرِطِي، إِنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمران بن يزيد": هو عمران بن خالد بن يزيد الطائيّ الدمشقيّ، صدوق، من أفراد المصنّف.

و"شعيب": هو ابن إسحاق بن عبد الرحمن الأمويّ الدمشقيّ الثقة.

وقولها: "إني امرأة ثقيلة" أي أثقلني المرض، واشتدّ عليّ.

وقوله: "إن محلي الخ" يجوز في "أن" فتح الهمزة، وهو الظاهر المرويّ، وكسرها على أن يكون المعنى: قولي: هذا اللفظ، وهو:"إن محلّي حيث حبستني".

والحديث أخرجه مسلم، وزاد في آخره من طريق محمد بن بكر، عن ابن جريج: قال: "فأدركت". ومعناه أن ضباعة أدركت الحجّ، ولم تحلل حتى فرغت منه. قاله النوويّ

(2)

. وتمام الكلام على الحديث تقدّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2768 -

(أَخْبَرَنَا

(3)

إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(4)

عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(5)

مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي شَاكِيَةٌ، وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«حُجِّي، وَاشْتَرِطِي، إِنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي» .

قَالَ إِسْحَاقُ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ: كِلَاهُمَا عَنْ عَائِشَةَ: هِشَامٌ، وَالزُّهْرِيُّ؟ ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا، أَسْنَدَ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ غَيْرَ مَعْمَرٍ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"إسحاق": هو ابن راهويه.

وقوله: "دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ" تقدم الجمع بينه وبين الرواية السابقة أنها أتت

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

-"شرح مسلم" 8/ 370 - 371.

(3)

- وفي نسخة: "أخبرني".

(4)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(5)

- وفي نسخة: "أخبرني".

ص: 269

النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت الخ" في شرح الحديث، فلا تنس. واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

وقولها: "إني شاكية" -بالشين المعجمة-: أي مريضة، والشَّكوُ، كالدَّلْوِ، والشَّكْوَى -بالقصر-، والشَّكْواءُ -بالمدّ، والشَّكَاةُ -بالهاء-، والشَّكَاءُ -بالمدّ-: المرض. أفاده في "القاموس".

وقوله: "قلت لعبد الرزاق الخ". يعني أن إسحاق بن راهويه تأكد عن عبد الرزاق كون رواية كلّ من هشام بن عروة، والزهريّ، من حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، لا من حديث غيرها، كابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - مثلاً. وهذا قاله إسحاق من باب التأكّد، لا اتهاما لشيخه عبد الرزاق في روايته. والحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" من الطريقين.

وقوله: "لا أعلم أحدًا أسنده الخ" يعني أنه انفرد بإسناد هذا الحديث معمر عن الزهريّ.

وعبارته في "الكبرى": "لا أعلم أحدًا أسند هذا الحديث، حديثَ الزهريّ غير عبد الرزاق، عن معمر" انتهى

(1)

. وهذا يفيد أيضًا أن عبد الرزاق انفرد عن معمر بإسناده، لكن مثل هذا الانفراد لا يؤثّر في صحة الحديث، فقد أخرجه الشيخان في "صحيحيهما".

وقد تقدّم عن الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- أنه قال في "شرح الترمذيّ": والنسائيّ لم يقل بانفراد معمر به مطلقًا، بل بانفراده به عن الزهريّ، ولا يلزم من الانفراد المقيّد الانفراد المطلق، فقد أسنده معمر، وأبو أسامة، وسفيان بن عيينة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وأسنده القاسم عنها. ولو انفرد به معمر مطلقًا لم يضره، وكم في "الصحيحين" من الانفراد. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": وقول النسائيّ هذا لا يلزم منه تضعيف طريق الزهريّ التي تفرّد بها معمر، فضلاً عن بقية الطرق؛ لأن معمرًا ثقة حافظ، فلا يضرّه التفرّد، كيف؟، وقد وُجد لما رواه شواهد كثيرة انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

- راجع "السنن الكبرى" للمصنف 2/ 358 رقم 58/ 3748.

(2)

- راجع "طرح التثريب" 5/ 166 - 167.

(3)

-"فتح" 4/ 475.

ص: 270

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه المصنّف هنا -60/ 2768 - وفي "الكبرى" 58/ 3748. وأخرجه (خ) في "النكاح" 5089 (م) في "الحجّ" 1207 (أحمد) في "مسند الأنصار" 24780 و 25131. واللَّه تعالى أعلم.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌61 - (مَا يَفْعَلُ مَنْ حُبِسَ عَنِ الْحَجِّ، وَلَمْ يَكُنْ اشْتَرَطَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "يَفعَل" بالبناء للفاعل، وقوله:"حُبس" بالبناء للمفعول، وأشار -رحمه اللَّه تعالى- بهذه الترجمة إلى بيان حكم من لم يشترط في الإحرام إذا حُبس عن المضيّ في إحرامه، فإنه يختلف عن حكم من اشترط الذي تقدّم في البابين الماضيين، حيث إنه إذا حُبس عن المضيّ يتحلّل بدون شيء من القضاء، والهدي، وأما من لم يشترط، فإنه يجب عليه أن يتحلل بالطواف والسعي، والحلق، أو التقصير، إن تمكن، ثم عليه القضاء من قابل، ويجب عليه الهدي أيضًا، أو الصوم إن لم يجد هديًا، وسيأتي بين اختلاف العلماء في ذلك في -102/ 2859 - "فيمن أحصر بعدو"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2769 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ، يُنْكِرُ الاِشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ، وَيَقُولُ: أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ، طَافَ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلاً، وَيُهْدِي، وَيَصُومُ، إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أحمد بن عمرو بن السرح) أبو الطاهر المصريّ، ثقة [10] 35/ 39.

ص: 271

2 -

(الحارث بن مسكين) الأمويّ مولاهم، أبو عمرو المصريّ، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

3 -

(ابن وهب) عبد اللَّه المصريّ، ثقة ثبت حافظ [9] 9/ 9.

4 -

(يونس) بن يزيد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقة [7] 9/ 9.

5 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ المدنيّ، ثقة ثبت حجة [4] 1/ 1.

6 -

(سالم) بن عبد اللَّه بن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت عابد [3] 23/ 490.

7 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، فقد تفرّد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، والباقون مصريّون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه سالم من الفقهاء السبعة على بعض الأقوال وفيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سالِمٍ) بن عبد اللَّه، أنه (قَالَ: كانَ ابْنُ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (يُنْكِرُ الاشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ) قال في "الفتح": وأشار ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - بإنكار الاشتراط إلى ما كان يفتي به ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -. قال البيهقيّ: لو بلغ ابن عمر حدثنا ضباعة في الاشتراط لقال به انتهى.

ثم إن إنكار ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - يحتمل أن يكون لعدم اطلاعه على قصة ضباعة - رضي اللَّه تعالى عنها -، كما أشار إليه البيهقيّ في كلامه المذكور آنفًا، أو لتأويله بأنه مخصوص بها، كما أوله غيره، وأيا ما كان فالحجة في حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لا في إنكاره. واللَّه تعالى أعلم.

(وَيَقُولُ) وفي نسخة: "فيقول" بالفاء (أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ) أي يكفيكم؛ لأن معنى الحسب الكفاية، ومنه {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، أي كافينا (سُنَّةَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم) زاد في الرواية التالية:"إنه لم يشترط".

فقوله: "حسبكم" مرفوع على أنه اسم "ليس"، و"سنةَ رسول اللَّه" بالنصب على أنه خبر "ليس"، والجملة الشرطية، وهي قوله:"إن حبس الخ" تفسير للسنة، فمحلها النصب بدلاً عن "سنةَ"، أو الرفع خبرًا لمحذوف، أي هي.

ص: 272

وقال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: ضبطنا "سنةَ" بالنصب على الاختصاص، أو على إضمار فعل: أي تمسّكوا، ونحوه. وقال السيهيليّ -رحمه اللَّه تعالى-: من نصب "سنة" فهو بإضمار الأمر، كأنه قال: الزموا سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن يقال: خبر "ليس" على قول عياض، والسهيليّ جملة قوله:"طاف بالبيت الخ". قال العينيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وهو أيضًا سدّ مسدّ جواب الشرط.

قال الطبريّ: قوله: "حسبكم سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" فيه إشعار بالتسوية بين حصر العَدُوّ والمرض، فإن معنى قوله:"حسبكم سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" أي في التحلّل بهذا العذر، دون اشتراط

(1)

.

(إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجَّ) ببناء الفعل للمفعول: أي مُنِعَ عن ركن الحجّ الأعظم، وهو الوقوف بعرفة بسبب من الأسباب، كالمرض، أو العدوّ (طَافَ بِالْبَيْتِ) أي إذا أمكنه ذلك، وفي رواية عبد الرزاق: إن حَبس أحدًا منكم حابس عن البيت، فإذا وصل إليه طاف به

الحديث (وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أي سعى بينهما، زاد في الرواية التالية:"ثم ليحلق، أو يقصّر"(ثُمَّ حَلِّ) أي بالحلق والذبح (مِنْ كلِّ شَيءٍ) حرُم عليه بالإحرام (حَتَّى يَحُجِّ عَامًا) ظرف متعلّق بما قبله (قَابِلاً) صفة لـ"عاما"(وَيُهْدِي) بضم أوله، من الإهداء، أي يذبح شاة؛ إذ التحلّل لا يحصل إلا بنية التحلّل، والذبح، والحلق. قاله الكرمانيّ (وَيَصُومُ، إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا) أي حيث شاء. وفي قوله: "حتى يحجّ عامًا قابلاً" دلالة على وجوب الحجّ من القابل على من أحصر، وفيه اختلاف بين أهل العلم في ذلك، سيأتي بيانه في -102/ 2859 - إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -61/ 2769 و 2770 - وفي "الكبرى" 60/ 3750 و 3751. وأخرجه (خ) في "كتاب المحصر" 1810 (ت) في "الحجّ" 942 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4466 و 4582 و 5143. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- راجع "المرعاة" 8/ 437 - 438.

ص: 273

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم من لم يشترط في إحرامه، وهو أنه يتحلّل بالطواف، والسعي، والحلق، أو التقصير، ثم يقضى من قابل، وعليه الهدي في ذلك، أو الصوم. (ومنها): الحثّ على التأسى بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. (ومنها): أن من حبسه حابس، وهو يقدر على الطواف بالبيت وبيت الصفا والمروة، لا يجوز له أن يتحلل بدون ذلك. (ومنها): وجوب القضاء على من حُصر بعدوّ، أو نحوه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2770 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ الاِشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ، وَيَقُولُ: مَا حَسْبُكُمْ، سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم، إِنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ، فَإِنْ حَبَسَ أَحَدَكُمْ حَابِسٌ، فَلْيَأْتِ الْبَيْتَ، فَلْيَطُفْ بِهِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ لْيَحْلِقْ، أَوْ يُقَصِّرْ، ثُمَّ لْيُحْلِلْ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة.

وقوله: "ما حسبكم الخ" بتقدير همزة الاستفهام التقريريّ، فهو بمعنى قوله الماضي:"أليس حسبكم الخ". وقوله: "إنه لم يشترط" بكسر الهمزة، جملة مستأنفة، أو هو بدل من "سنة"، ويحتمل أن يكون بفتح الهمزة، ويكون بدلاً أيضًا، أو خبرًا لمحذوف، أي هي عدم اشراطه. والحديث أخرجه البخاريّ، وقد مرّ الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌62 - (إِشْعَارُ الْهَدْيِ)

وفي "الكبرى""أبواب الهدي" - "إشعار الهدي".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الإشعار": مصدر أشعر، يقال: أشعرت البدنةَ إشعارًا: حَزَزتُ سنامها حتى يسيل الدم، فيُعلَمَ أنها هدي، فهي شعيرة. قاله الفيّوميّ.

ص: 274

و"الهدي" -بفتح الهاء، وإسكان الدال، وكسرها، مع تشديد الياء، لغتان، والأول أفصح: اسم لما يهُدَى إلى الحرم من النعم، شاة كانت، أو بقرة، أو بعيرًا؛ ليُتقرّب بإراقة دمه في الحرم. قيل: والواحدة هديّة. قال الجوهريّ. الهديُ ما يُهدى إلى الحرم من النعم، والهديّ على فعيل مثله، وقرىء:{حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] بالتخفيف والتشديد، الواحدة هَدْية، وهَدِيّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب

(1)

.

2771 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ح وَأَنْبَأَنَا

(2)

يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ، مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ، قَلَّدَ الْهَدْيَ، وَأَشْعَرَ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ

مُخْتَصَرٌ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعانيّ، ثم البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(محمد بن ثور) الصنعانيّ، أبو عبد اللَّه العابد الثقة [9] 102/ 2035.

3 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدَّوْرقيّ، أبو يوسف البغداديّ، ثقة حافظ [10] 21/ 22.

4 -

(يحيى بن سعيد) القطّان البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

5 -

(عبد اللَّه بن المبارك) الحنظليّ المروزيّ الإمام الحجة الثبت [8] 32/ 36.

6 -

(معمر) بن راشد البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت [7] 10/ 10.

7 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم المذكور قريبًا.

8 -

(عروة) بن الزبير المذكور قريبًا أيضًا.

9 -

(المسور بن مخرمة) نوفل بن أُهيب بن عبد مناف بن زُهرة الزهريّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما -، مات سنة (64)، تقدّم في 37/ 936.

(1)

- راجع "المرعاة" 9/ 191.

(2)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 275

10 -

(مروان بن الحكم) بن أبي العاص بن أميّة، أبو عبد الملك الأمويّ المدنيّ، ليست له صحبة [2] 118/ 163. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بالنسبة للسند الأول، ومن سباعياته بالنسبة للثاني. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسدسل بالمدنيين من الزهريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَا) قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: هذه الرواية بالنسبة إلى مروان مرسلة لأنه لا صحبة له، وأما المسور فهي بالنسبة إليه أيضًا مرسلة؛ لأنه لم يحضر القصّة. وقد ثبت في رواية البخاريّ من طريق عُقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أنه سمع مروان، والمسور بن مخرمة - رضي اللَّه تعالى عنهما -، يُخبران عن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

"، فذكر بعض هذا الحديث، وقد سمع المسور، ومروان من جماعة من الصحابة، شهدوا هذه القصّة، كعمر، وعثمان، وعليّ، والمغيرة بن شعبة، وأم سلمة، وسهل بن حُنيف، وغيرهم. ووقع في نفس هذا الحديث شيء يدلّ على أنه عن عمر رضي الله عنه. وقد روى أبو الأسود، عن عروة هذه القصّة، فلم يذكر المسور، ولا مروان، لكن أرسلها، وهي كذلك في "مغازي عروة بن الزبير"، أخرجها ابن عائذ في "المغازي" بطولها. وأخرجها الحاكم في "الإكليل" من طريق أبي الأسود، عن عروة أيضًا، مقطّعة انتهى كلام الحافظ

(1)

.

(خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ) تقدّم ضبط الحيبية، وهي بئر سمي المكان بها. وقيل: شجرة حدباء، صُغّرت، وسمي المكان بها. قال المحبّ الطبريّ: الحديبية قرية قريبة من مكة، أكثرها في الحرم. ووقع في رواية ابن إسحاق في "المغازي" عن الزهريّ:"خرج عام الحديبية، يريد زيارة البيت، لا يريد قتالاً".

ووقع عند ابن سعد: "أنه خرج يوم الاثنين لهلال ذي القعدة"(فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً، مِنْ أَصْحَابِهِ) ووقع عند البخاريّ في رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء

(1)

- "فتح" 8/ 680. في "كتاب الشروط".

ص: 276

- رضي الله عنه: "كنا أربع عشرة مائة"، وفي رواية زهير عنه:"أنهم كانوا ألفًا وأربعمائة، أو أكثر". ووقع في حديث جابر رضي الله عنه من طريق سالم بن أبي الجعد عنه: "أنهم كانوا خمس عشرة مائة"، ومن طريق قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: بلغني عن جابر: "أنهم كانوا أربع عشرة مائة"، فقال سعيد: حدثني جابر: "أنهم كانوا خمس عشرة مائة"، ومن طريق عمرو بن دينار، عن جابر:"كانوا ألفًا وأربعمائة"، ومن طريق عبد اللَّه بن أبي أوفى:"كانوا ألفًا وثلاثمائة". ووقع عند ابن أبي شيبة من حديث مُجمِّع بن جارية: "كانوا ألفًا وخمسمائة".

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال: ألفًا وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال: ألفا وأربعمائة ألغاه، ويؤيده قوله في حديث البراء:"ألفًا وأربعمائة، أو أكثر"، واعتمد على هذا الجمع النوويّ. وأما البيهقيّ، فمال إلى الترجيح، وقال: إن رواية من قال: "ألفا وأربعمائة" أصحّ، ثم ساقه من طريق أبي الزبير، ومن طريق أبي سفيان، كلاهما عن جابر كذلك، ومن رواية معقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع، والبراء بن عازب، ومن طريق قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه. ومعظم هذه الطرق عند مسلم. ووقع عند ابن سعد في حديث معقل بن يسار:"زهاء ألف وأربعمائة"، وهو ظاهر في عدم التحديد. وأما قول عبد اللَّه أبي أوفى:"ألفًا وثلاثمائة"، فيمكن حمله على ما اطلع هو عليه، واطلع غيره على زيادة ناس، لم يطّلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة، أو العدد الذي ذكره جملة من ابتداء الخروج من المدينة، والزائد تلاحقوا بهم بعد ذلك، أو العدد الذي ذكره هو عدد المقاتلة، والزيادة عليها من الأتباع من الخدم، والنساء، والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم. وأما قول ابن إسحاق: إنهم كانوا سبعمائة، فلم يوافق عليه؛ لأنه قاله استنباطًا من قول جابر:"نحرنا البدنة عن عشرة"، وكانوا نحروا سبعين بدنة. وهذا لا يدلّ على أنهم لم ينحروا غير البدن، مع أن بعضهم لم يكن أحرم أَصلاً.

وجمع الحافظ أيضًا بين رواية الباب بأنهم كانو بضع عشرة مائة، وبين ما تقدّم بأن الذين بايعوا كانوا كما تقدم، وزاد على ذلك كانوا غائبين عنها، كمن توجه مع عثمان إلى مكة، على أن لفظ البضع يصدق على الخمس، والأربع، فلا تخالف.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: التوجيه الأخير هو الأقرب عندي. واللَّه تعالى أعلم

ص: 277

قال: وجزم موسى بن عقبة بأنهم كانوا ألفاً وستمائة. وفي حديث سلمة بن الأكوع عند ابن أبي شيبة ألفًا وسبعمائة. وحكى ابن سعد أنهم كانوا ألفًا وخمسمائة وخمسة وعشرين. وهذا إن ثبت تحرير بالغ، ثم وجدته موصولاً عن ابن عباس عند ابن مردويه. وفيه ردّ على ابن دحية حيث زعم أن سبب الاختلاف في عددهم أن الذي ذكر عددهم لم يقصد التحديد، وإنما ذكره بالحدس والتخمين واللَّه أعلم انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

(حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ، قَلَّدَ الْهَدْيَ) قال الفيّوميّ: تقليد الهدي: هو أن يعلّق بعنق البعير قطعة من جلد ليُعلَم أنه هديٌ، فيكفّ الناس عنه انتهى. وسيأتي ما يقلّد به بعد باب (وَأَشْعَرَ) الهدي، وإشعار الهدي: هو أن يفعل فيه علامة يُعلَم بها أنه هدي.

قال العينيّ: هو في اللغة: الإعلام، مأخوذ من الشعور، وهو العلم بالشيء، من شعر يشعُر، كنصر ينصر. وقال الراغب: الشعر معروف، قال تعالى:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} الآية [النحل: 80] ومنه استعيرت شعرت كذا: أي علمت علمًا في الدقّة، كإصابة الشعر، وسمي الشاعر شاعرًا لفطنته، ودقة معرفته {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} الآية [المائدة: 2] أي ما يُهدى إلى بيت اللَّه، سمي بذلك لأنها تُشعر، أي تعلم بأن تُدمى بشعيرة، أي حديدة انتهى. وفي الشرع: هو أن يشقّ أحد سنامي البدن، وُيطعن فيه حتى يسيل دمها؛ ليُعرف أنها هديٌ، وتتميّز إن خُلطت، وتُعرف إن ضلّت، وَيرتدع عنها السرّاق، ويأكلها الفقراء، إذا ذُبحت في الطريق لخوف الهلاك.

(وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ) وقوله (مُخْتَصَرٌ) خبر لمحذوف: أي هذا الحديث مختصر من الحديث الطويل، وقد ساقه البخاريّ بطوله في "كتاب الشروط، وهو من أطول الأحاديث في البخاريّ، ونصّه:

2734 -

حدثني عبد اللَّه بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، قال: أخبرني الزهريّ، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان، يُصَدِّق كل واحد منهما، حديث صاحبه، قالا: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، زَمَنَ الحديبية، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالد بن الوليد بالغميم، في خيل لقريش، طَليعة، فخذوا ذات اليمين، فواللَّه ما شعر بهم خالد، حتى إذا هُمْ بِقَتَرَة الجيش، فانطلق يركُض، نذيرا لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثنية التي يُهبَط عليهم منها، بَرَكَت به راحلته، فقال الناس: حَلْ حَلْ، فألَحَّت، فقالوا: خَلأت القَصْوَاء،

(1)

- "فتح" 8/ 207 - 208. في "كتاب الشروط".

ص: 278

خَلأت القصواء، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بِخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألوني خُطّة

(1)

، يُعَظِّمون فيها حرمات اللَّه، إلا أعطيتهم إياها"، ثم زجرها، فوثبت، قال: فعدل عنهم، حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثَمَد

(2)

، قليل الماء، يَتَبَرَّضُهُ الناس تَبَرُّضًا

(3)

، فلم يُلبثه الناس، حتى نزحوه، وشُكي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العطشُ، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فواللَّه ما زال يَجِيش

(4)

لهم بالرَّيّ، حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك، إذ جاء بُديل بن ورقاء الخزاعي، في نفر من قومه، من خزاعة، وكانوا عَيْبَة نصح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(5)

، من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم الْعُوذُ المطافيل

(6)

، وهم مقاتلوك، وصادّوك عن البيت، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكَتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، فعلوا، وإلا فقد جموا

(7)

، وإن هم أبوا، فوالذي نفسي بيده، لأقاتلنهم على أمري هذا، حتى تنفرد سالفتي، وليُنفذن اللَّه أمره"، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول، قال: فانطلق، حتى أتى قريشا، قال: إنا قد جئناكم من هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نَعرِضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا، أن تخبرنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول: كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود، فقال: أي قوم، ألستم با لوالد، قالوا: بلى، قال: أولست بالولد، قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني، قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون، أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بَلّحوا عليّ، جئتكم بأهلي وولدي، ومن أطاعني، قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد، اقبلوها، ودعوني آتيه، قالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب، اجتاح أهله قبلك وإن تكن الأخرى فإني

(1)

- أي خصلة.

(2)

- أي حفيرة فيها ماء مثمود، أي قليل.

(3)

- أي يأخذون منه قليلاً قليلاً.

(4)

- أي يفور.

(5)

- أي موضع النصح له، والأمانة على سرّه.

(6)

- العُوذ بالضم جم عائذ: وهي الناقة ذات اللبن. والمطافيل الأمهات التي معها أطفالها.

(7)

-أي استراحوا.

ص: 279

واللَّه لأرى وجوها، وإني لأرى أوشابا من الناس، خليقا أن يفروا، ويدعوك، فقال له أبو بكر الصديق: امصص ببظر اللات، أنحن نفر عنه، وندعه، فقال: من ذا؟، قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي، لم أَجزِك بها، لأجبتك، قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة، قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف، وعليه الْمِغفَر، فكلما أهوى عروة بيده، إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟، قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غُدَر، ألست، أسعى في غدرتك، وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية، فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء"، ثم إن عروة، جعل يَرمُقُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فواللَّه ما تنخم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نخامة، إلا وقعت في كف رجل منهم، فدَلَكَ بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر، تعظيما له، فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، واللَّه لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، واللَّه إن رأيت ملكا قط، يعظمه أصحابه، ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، واللَّه إن تنخم نخامة، إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدّون إليه النظر، تعظيما له، وإنه قد عَرَضَ عليكم خُطّة رُشد، فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له"، فبُعِثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك، قال: سبحان اللَّه، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه، قال: رأيت البدن قد قُلَّدَت، وأُشعِرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت، فقام رجل منهم، يقال له: مِكْرَز بن حفص، فقال: دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:""هذا مكرز، وهو رجل فاجر"، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه، إذ جاء سهيل بن عمرو، قال معمر: فأخبرني أيوب، عن عكرمة، أنه لما جاء سهيل بن عمرو، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لقد سهل لكم من أمركم"، قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات، اكتب بيننا وبينكم كتابا، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم"، قال سهيل: أما الرحمن فواللَّه، ما أدري ما هو؟، ولكن اكتب، باسمك اللَّهم، كما كنت

ص: 280

تكتب، فقال المسلمون: واللَّه لا نكتبها، إلا بسم اللَّه الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اكتب باسمك اللَّهم"، ثم قال:"هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللَّه"، فقال سهيل: واللَّه لو كنا نعلمِ أنك رسول اللَّه، ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب، محمد بن عبد اللَّه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"واللَّه إني لرسول اللَّه، وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد اللَّه"، قال الزهري: وذلك لقوله: "لا يسألوني خطة، يعظمون فيها حرمات اللَّه، إلا أعطيتهم إياها"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"على أن تخلوا بيننا وبين البيت، فنطوف به"، فقال سهيل: واللَّه لا تتحدث العرب، أنا أخذنا ضَغْطَةً، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك، إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان اللَّه، كيف يرد إلى المشركين، وقد جاء مسلما، فبينما هم كذلك، إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو، يَرْسُف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه، بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد، أول ما أقاضيك عليه، أن ترده إليّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنا لم نقض الكتاب بعدُ"، قال: فواللَّه إذًا لم أصالحك على شيء أبدا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فأجزه لي"، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال:"بلى فافعل"، قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: بل قد أجزناه لك، قال أبو جندل: أي معشرٍ المسلمين، أُرَدّ إلى المشركين، وقد جئت مسلما، ألا ترون ما قد لقيت، وكان قد عُذِّب عذابا شديدا في اللَّه، قال: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألست نبي اللَّه حقا؟، قال:"بلى"، قلت: ألسنا على الحقّ، وعدونا على الباطل، قال:"بلى"، قلت: فَلِمَ نعطي الدنية في ديننا، إذاً؟، قال:"إني رسول اللَّه، ولست أَعصيه، وهو ناصري"، قلت: أوليس كنت تحدثنا، أنا سنأتي البيت، فنطوف به؟، قال:"بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ "، قال: قلت: لا، قال:"فإنك آتيه، ومطوف به"، قال: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي اللَّه حقا؟، قال: بدى، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟، قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذًا؟، قال: أيها الرجل، إنه لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فواللَّه إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا، أنا سنأتي البيت، ونطوف به؟، قال: بلى، أفأخبرك، أنك تأتيه العام؟، قلت: لا، قال: فإنك آتيه، ومطوف به، قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا، قال: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"قوموا، فانحروا، ثم احلقوا"، قال: فواللَّه ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي اللَّه،

ص: 281

أتحب ذلك، اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك، فيحلقك، فخرج، فلم يكلم أحدا منهم، حتى فعل ذلك، نحو بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك، قاموا، فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، ثم جاءه نسوة مؤمنات، فأنزل اللَّه تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} حتى بلغ {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فطلق عمر يومئذ امرأتين، كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان ابن أمية، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير، رجل من قريش، وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهدَ الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به، حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: واللَّه إني لأرى سيفك هذا، يا فلان جيدا، فاستله الآخر، فقال: أجل واللَّه، إنه لجيد، لقد جربت به، ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني انظر إليه، فأمكنه منه، فضربه، حتى برد، وفَرّ الآخر، حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين رآه:"لقد رأى هذا ذُعْرًا"، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قُتل واللَّه صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أبو بصير، فقال: يا نبي اللَّه، قد واللَّه أوفى اللَّه ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني اللَّه منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ويلُ أمه مِسْعَر حرب، لو كان له أحد"، فلما سمع ذلك، عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل، قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فواللَّه ما يسمعون بعير، خرجت لقريش إلى الشأم، إلا اعترضوا لها، فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تناشده باللَّه والرحم، لَمّا أرسل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأنزل اللَّه تعالى:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} حتى بلغ {الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26] وكانت حميتهم أنهم لم يُقِرّوا أنه نبي اللَّه، ولم يقروا ببسم اللَّه الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت، قال أبو عبد اللَّه:{مَعَرَّةٌ} العر الجرب {تَزَيَّلُوا} تميزوا، وحميت القوم: منعتهم حماية، وأحميت الحمى: جعلته حمى، لا يُدخل، وأحميت الحديد، وأحميت الرجل: إذا أغضبته إحماء، وقال عقيل، عن الزهري: قال عروة: فأخبرتني عائشة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كان يمتحنهن، وبلغنا أنه لما أنزل اللَّه تعالى أن يَرُدُّوا إلى المشركين ما أنفقوا، على من هاجر من أزواجهم، وحكم على المسلمين، أن لا يمسكوا بعصم الكوافر، أن عمر طلق امرأتين: قُرَيبة بنت أبي أمية، وابنة جرول الخزاعي، فتزوج قريبة

ص: 282

معاوية، وتزوج الأخرى أبو جهم، فلما أبى الكفار، أن يُقرّوا بأداء ما أنفق المسلمون على أزواجهم، أنزل اللَّه تعالى {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} [الممتحنة: 11] والعقب ما يؤدي المسلمون إلى من هاجرت امرأته من الكفار، فأمر أن يعطى من ذهب له زوج، من المسلمين، ما أنفق من صداق نساء الكفار، اللائي هاجرن، وما نعلم أن أحدا من المهاجرات، ارتدت بعد إيمانها، وبلغنا أن أبا بصير بن أسيد الثقفي، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا، مهاجرا في المدة، فكتب الأخنس بن شَرِيق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يسأله أبا بصير، فذكر الحديث. انتهى واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -62/ 2771 - وفي "الكبرى" 61/ 3752. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1695 و 1811 و"الشروط" 2713 و 3714 و"المغازي" 5841 و 4181 و 4182 (د) في "الجهاد" 2765 و 2766 و"السنة" 4655 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 18430 و 18441 و 8445. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعية استحباب إشعار الهدي.

(ومنها): أن فائدة الإشعار الإعلام بأنها صارت هديًا؛ ليتبعها من يحتاج إلى ذلك، وحتى لو اختلطت بغيرها تميّزت، أو ضلّت عرفت، أو عطبت عرفها المساكين بالعلامة، فأكلوها، مع ما في ذلك من تعظيم شعار الشرع، وحثّ الغير عليه. قاله الحافظ. وقال الشاه وليّ اللَّه الدهلوي: السرّ في الإشعار التنويه بشعائر اللَّه، وأحكام الملة الحنيفية، يرى ذلك منه الأقاصي والأداني، وأن يكون فعل القلب منضبطًا بفعل ظاهر انتهى.

(ومنها): استحباب تقديد الهدي. (ومنها): مشروعية الإحرام بالعمرة المفردة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): دل حديث الباب على أن الإشعار سنة، وبه قال الجمهور، ومنهم

ص: 283

الأئمة الثلاثة. وذهب أبو حنيفة إلى أن الإشعار بدعة مكروه؛ لأنه مثلة، وتعذيب للحيوان، وهو حرام، وإنما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم لأن المشركين لا يمتنعون عن التعرّض للَّهدي إلا بالإشعار.

وردّ عليه بأن قوله هذا مخالف للأحاديث الصحيحة الواردة بالإشعار، وليس هو مثلة، بل هو كالفصد، والحجامة، والختان، والكيّ؛ للمصلحة، وأيضًا إن تعرض المشركين في ذلك الوقت بعيد لقوة الإسلام. وقد قيل: إن كراهة أبي حنيفة له إنما كان من أهل زمانه، فإنهم كانوا يبالغون فيه بحيث يُخاف سراية الجراحة، وفساد العضو. كذا في "اللمعات"

(1)

.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وبمشروعية الإشعار قال الجمهور، من السلف والخلف. وذكر الطحاويّ في "اختلاف العلماء" كراهته عن أبي حنيفة. وذهب غيره إلى استحبابه للاتباع حتى صاحباه أبو يوسف، ومحمد، فقالا: هو حسن. قال: وقال مالك: يختصّ الإشعار بما لها سنام. قال الطحاويّ: ثبت عن عائشة، وابن عباس التخيير في الإشعار وتركه، فدلّ على أنه ليس بنسك، لكنه غير مكروه لثبوت فعله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ: وأبعد من منع الإشعار، واعتلّ باحتمال أنه كان مشروعًا قبل النهي عن المثلة، فإن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، بل وقع الإشعار في حجة الوداع، وذلك بعد النهي عن المثلة بزمان.

وقال الخطابيّ وغيره: اعتلال من كره الإشعار بأنه من المثلة مردود، بل هو باب آخر كالكيّ، وشقّ أذن الحيوان؛ ليصير علامة، وغيرذلك من الوسم، وكالختان، والحجامة، وشفقةُ الإنسان على المال عادةٌ، فلا يخشى ما توهّموه من سريان الجرح حتى يفضي إلى الهلاك، ولو كان ذلك هو الملحوظ لقيّده الذي كرهه به، كأن يقول: الإشعار الذي يفضي بالجرح إلى السراية حتى تهلك البدنة مكروه، فكان قريبًا.

وقد كثر تشنيع المتقدّمين على أبي حنيفة في إطلاقه كراهة الإشعار، وانتصر له الطحاويّ في "المعاني"، فقال: لم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار، وإنما كره ما يُفعل على وجه يخاف منه هلاك البُدْن، كسراية الجرح، ولا سيما مع الطعن بالشفرة، فأراد سدّ الباب عن العامة؛ لأنهم لا يُراعون الحدّ في ذلك، وأما من كان عارفًا بالسنة في ذلك فلا.

وفي هذا تعقّب على الخطابيّ حيث قال: لا أعلم أحدًا كره الإشعار إلا أبا حنيفة،

(1)

- راجع "المرعاة" 9/ 192.

ص: 284

وخالفاه صاحباه، فقالا بقول الجماعة انتهى.

وروي عن إبراهيم النخعيّ أيضًا أنه كره الإشعار، ذكر ذلك الترمذيّ، قال: سمعت أبا السائب يقول: كنا عند وكيع، فقال له رجل: روي عن إبراهيم النخعيّ أنه قال: الإشعار مثلة، فقال وكيع: أقول لك: أشعر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتقول قال إبراهيم؟ ما أحقّك بأن تحبس انتهى.

وفيه تعقّب على ابن حزم في زعمه أنه ليس لأبي حنيفة في ذلك سلف. وقد بالغ ابن حزم في هذا الموضع، ويتعيّن الرجوع إلى ما قال الطحاويّ، فإنه أعلم من غيره بأقوال أصحابه انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن مما تقدّم من الأدلّة أن مشروعية الإشعار هو الحقّ، ومن قال بأنه بدعة، فيعتذر عنه بأنه لم تبلغه السنة، أو بلغته عن طريق غير مرضيّ عنده، أو تأوله بتاويل أخطأ فيه.

والحاصل أن الإشعار سنة ثابتة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه الكرام رضي اللَّه تعالى عنهم، وعمن تبعهم بإحسان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: اتفق من قال بالإشعار بإلحاق البقر في ذلك بالإبل، إلا سعيد بن جبير، واتفقوا على أن الغنم لا تُشعر؛ لضعفها، ولكون صوفها، أو شعرها يستر موضع الإشعار، وأما على ما نقل عن مالك، فلكونها ليست من ذات أسنمة. واللَّه أعلم انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في ذكر باب جامع لمسائل الهدي:

(اعلم): أنه قد عقد العلامة ابن رشد -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "بداية المجتهد، ونهاية المقتصد" بابًا جامعًا لأقوال العلماء فيما يتعلّق بالهدي، أحببت إيراده هنا؛ لكونه يجمع شتات الأقوال التي سأذكر كثيرًا منها في الأبواب الآتية، إن شاء اللَّه تعالى.

قال -رحمه اللَّه تعالى-: إن النظر في الهدي يشتمل على معرفة وجوبه، وعلى معرفة جنسه، وعلى معرفة سِنَّهِ، وكيفية سَوْقه، ومن أين يساق؟، وإلى أين يُنتَهَى بسوقه؟ وهو موضع نحوه، وحكم لحمه بعد النحر.

فنقول: إنهم قد أجمعوا على أن الهدي المسوق في هذه العبادة منه واجب، ومنه تطوع، فالواجب منه ما هو واجب بالنذر، ومنه ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة، ومنه ما هو واجب لأنه كفارة.

(1)

- "فتح" 4/ 364 - 365.

(2)

- "فتح" 4/ 365.

ص: 285

فأما ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة، فهو هدي المتمتع باتفاق، وهدي القارن باختلاف، وأما الذي هو كفارة فهدي القضاء على مذهب من يشترط فيه الهدي، وهدي كفارة الصيد، وهدي إلقاء الأذى والتفث، وما أشبه ذلك من الهدي الذي قاسه الفقهاء في الإخلال بنسك نسك منها على المنصوص عليه.

فأما جنس الهدي، فإن العلماء متفقون على أنه لا يكون الهدي إلا من الأزواج الثمانية التي نص اللَّه عليها، وأن الأفضل في الهدايا هي الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، ثم المعز، وإنما اختلفوا في الضحايا.

وأما الأسنان فإنهم أجمعوا أن الثني فما فوقه يجزي منها، وأنه لا يجزئ الجذع من المعز في الضحايا والهدايا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بردة:"تجزي عنك، ولا تجزي عن أحد بعدك"

(1)

، واختلفوا في الجذع من الضأن، فأكثر أهل العلم يقولون بجوازه في الهدايا والضحايا، وكان ابن عمر يقول: لا يجزي في الهدايا إلا الثني من كلّ جنس، ولا خلاف في أن الأغلى ثمنا من الهدايا أفضل، وكان الزبير يقول لبنيه: يا بَنِيَّ لا يهُدينّ أحدكم للَّه من الهدي شيئا يستحي أن يهديه لكريمه، فإن اللَّه أكرم الكرماء، وأحق من اختير له، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الرقاب - وقد قيل له: أيها أفضل؟ - فقال: "أغلاها ثمنا، وأنفسها عند أهلها"

(2)

. وليس في عدد الهدي حد معلوم، وكان هدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مائة

(3)

.

وأما كيفية سوق الهدي، فهو التقليد والإشعار بأنه هدي؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية، فلما كان بذي الحليفة قَلَّد الهدي، وأشعره وأحرم

(4)

، وإذا كان الهدي من الإبل والبقر، فلا خلاف أنه يُقَلَّد نعلا أو نعلين، أو ما أشبه ذلك لمن لم يجد النعال.

واختلفوا في تقليد الغنم، فقال مالك وأبو حنيفة: لا تقلد الغنم، وقال الشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وداود: تقلد؛ لحديث الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أهدى إلى البيت مَرّةً غنما، فقلده

(5)

. واستحبوا توجيهه إلى القبلة في حين تقليده، واستحب مالك الإشعار من الجانب الأيسر؛ لما رواه عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا أهدى هديا من المدينة قلده، وأشعره بذي الحليفة، قلده قبل أن

(1)

- متّفقٌ عليه من حديث البراء بن عازب - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

(2)

- متّفقٌ عليه.

(3)

- متّفقٌ عليه.

(4)

- حديث صحيح.

(5)

- متّفقٌ عليه، وسيأتي للمصنف برقم 72/ 2797.

ص: 286

يشعره، وذلك في مكان واحد، وهو موجه للقبلة، يقلده بنعلين، ويشعره من الشق الأيسر، ثم يُساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة، ثم يُدفع به معهم إذا دفعوا، وإذا قَدِم مني غداة النحر نحوه قبل أن يَحلِق أو يقصر، وكان هو ينحر هديه بيده، يَصُفُّهُنّ قياما، ويوجههن للقبلة، ثم يأكل، ويطعم.

واستحب الشافعي، وأحمد، وأبو ثور الإشعار من الجانب الأيمن؛ لحديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنه، فأشعرها من صفحة سنامها الأيمن، ثم سَلَتَ الدم عنها، وقلدها بنعلين، ثم ركب راحلته، فلما استوت على البيداء أهل بالحج

(1)

.

وأما من أين يساق الهدي؟ فإن مالكا يرى أن من سنته أن يُساق من الحل، ولذلك ذهب إلى أن من اشترى الهدي بمكة، ولم يُدخله من الحل أن عليه أن يَقِفه بعرفة، وإن لم يفعل فعليه البدل، وأما إن كان أدخله من الحل، فيستحب له أن يَقِفه بعرفة، وهو قول ابن عمر، وبه قال الليث. وقال الشافعي، والثوري، وأبو ثور: وقوف الهدي بعرفة سنة، ولا حرج على من لم يقفه كان داخلا من الحل أو لم يكن. وقال أبو حنيفة: ليس توقيف الهدي بعرفة من السنة.

وحجة مالك في إدخال الهدي من الحل إلى الحرم، أن النبي عليه الصلاة والسلام كذلك فعل، وقال:"خذوا عني مناسككم". وقال الشافعي: التعريف سنة مثل التقليد. وقال أبو حنيفة: ليس التعريف بسنة، وإنما فعل ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأن مسكنه كان خارج الحرم، وروي عن عائشة التخيير في تعريف الهدي أو لا تعريفه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الأرجح قول من قال باستحباب التعريف؛ اتباعًا لفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما القول بالوجوب فيحتاج إلى دليل، وليس حديث:"خذوا عنّي مناسككم" دليلاً على الوجوب؛ لأنهم متّفقون في أشياء على أنها مستحبّة مع أن الحديث يشملها. واللَّه تعالى أعلم.

وأما محله فهو البيت العتيق، كما قال تعالى:{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحجّ: 33]، وقال:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وأجمع العلماء على أن الكعبة لا يجوز لأحد فيها ذبح، وكذلك المسجد الحرام، وأن المعنى في قوله:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أنه إنما أراد به النحر بمكة؛ إحسانا منه لمساكينهم وفقرائهم. وكان مالك

(1)

- سيأتي في الباب التالي أن هذا المذهب هو الأصحّ؛ لحديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وأما أثر ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - فموقوف، لا يعارض المرفوع، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 287

يقول: إنما المعنى في قوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} مكة. وكان لا يجيز لمن نحر هديه في الحرم إلا أن ينحره بمكة. وقال الشافعي، وأبو حنيفة: إن نحره في غير مكة من الحرم أجزأه. وقال الطبري: يجوز نحو الهدي حيث شاء المهدي، إلا هدي القران، وجزاء الصيد، فإنهما لا ينحران إلا بالحرم.

وبالجملة فالنحر بمنى إجماع من العلماء، وفي العمرة بمكة إلا ما اختلفوا فيه من نحر المحصر. وعند مالك إن نحر للحج بمكة، والعمرة بمنى أجزأه، وحجة مالك في أنه لا يجوز النحر بالحرم إلا بمكة قوله صلى الله عليه وسلم:"وكل فجاج مكة وطرقها منحر"

(1)

. واستثنى مالك من ذلك هدي الفدية، فأجاز ذبحه بغير مكة.

وأما متى ينحر؟، فإن مالكا قال: إن ذبح هدي التمتع، أو التطوع قبل يوم النحر لم يجزه، وجوّزه أبو حنيفة في التطوع، وقال الشافعي: يجوز في كليهما قبل يوم النحر، ولا خلاف عند الجمهور أن ما عُدل من الهدي بالصيام أنه يجوز حيث شاء؛ لأنه لا منفعة في ذلك، لا لأهل الحرم ولا لأهل مكة، وإنما اختلفوا في الصدقة المعدولة عن الهدي، فجمهور العلماء على أنها لمساكين مكة والحرم؛ لأنها بدل من جزاء الصيد الذي هو لهم، وقال مالك: الإطعام كالصيام يجوز بغير مكة.

وأما صفة النحر فالجمهور مجمعون على أن التسمية مستحبة فيها؛ لأنها ذكاة، ومنهم من استحب مع التسمية التكبير.

وشمتحب للمهدي أن يلي نحو هديه بيده، وإن استخلف جاز، وكذلك فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هديه، ومن سنتها أن تُنحَر قياما؛ لقوله سبحانه وتعالى:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحجّ: 36].

وأما ما يجوز لصاحب الهدي من الانتفاع به وبلحمه، فإن في ذلك مسائل مشهورة:(أحدها): هل يجوز له ركوب الهدي الواجب أو التطوع، فذهب أهل الظاهر إلى أن ركوبه جائز، من ضرورة ومن غير ضرورة، وبعضهم أوجب ذلك، وكره جمهور فقهاء الأمصار ركوبها من غير ضرورة، والحجة للجمهور ما أخرجه أبو داود

(2)

عن جابر رضي الله عنه، وقد سئل عن ركوب الهدي، فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "اركبها بالمعروف، إذا أُلجئت إليها حتى تجد ظهرا"، ومن طريق المعنى أن الانتفاع بما قُصد به القربة إلى اللَّه تعالى منعه مفهوم من الشريعة، وحجة أهل الظاهر ما رواه مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، رأى رجلا يسوق بدنة،

(1)

- حديث صحيح.

(2)

- بل أخرجه مسلم، فكان الأولى أن يعزوه إليه، وسيأتي للمصنّف برقم 76/ 2802.

ص: 288

فقال: "اركبها"، فقال: يا رسول اللَّه إنها هدي، فقال:"اركبها ويلك" في الثانية، أو الثالثة.

وأجمعوا على أن هدي التطوع إذا بلغ محله أنه يأكل منه صاحبه كسائر الناس، وأنه إذا عطب قبل أن يبلغ محله خَلَّى بينه وبين الناس، ولم يأكل منه، وزاد داود: ولا يطعم منه شيئًا أهل رفقته؛ لما ثبت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بعث بالهدي مع ناجية الأسلمي، وقال له: إن عَطِب منها شيء، فانحره، ثم اصبُغْ نعليه في دمه، وخل بينه وبين الناس"

(1)

، ورُوي عن ابن عباس هذا الحديثُ، فزاد فيه:"ولا تأكل منه أنت، ولا أهل رفقتك"، وقال بهذه الزيادة داود، وأبو ثور.

واختلفوا فيما يجب على من أكل منه، فقال مالك: إن أكل منه وجب عليه بدله، وقال الشافعيّ، وأبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وابن حبيب من أصحاب مالك: عليه قيمة ما أكل، أو أمر بأكله، طعاما يتصدق به، ورُوي ذلك عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وجماعة من التابعين.

وما عطب في الحرم قبل أن يصل مكة، فهل بلغ محله أم لا؟ فيه الخلاف مبني على الخلاف المتقدم، هل المحل هو مكة، أو الحرم؟.

وأما الهدي الواجب، إذا عطب قبل محله، فإن لصاحبه أن يأكل منه؛ لأن عليه بدله، ومنهم من أجاز له بيع لحمه، وأن يستعين به في البدل، وكَرِه ذلك مالك. واختلفوا في الأكل من الهدي الواجب إذا بلغ محله، فقال الشافعي: لا يُؤكل من الهدي الواجب كُلَّ، ولحمُهُ كُلُّهُ للمساكين، وكذلك جُلُّه إن كان مُجَلَّلا، والنعل الذي قلد به، وقال مالك: يؤكل من كل الهدي الواجب إلا جزاء الصيد، ونذر المساكين، وفدية الأذى، وقال أبو حنيفة: لا يؤكل من الهدي الواجب إلا هدي المتعة، وهدي القران.

وعمدة الشافعي تشبيه جميع أصناف الهدي الواجب بالكفارة، وأما من فرق، فلأنه يظهر في الهدي معنيان: أحدهما: أنه عبادة مبتدأة، والثاني: أنه كفارة، وأحد المعنيين في بعضها أظهر، فمن غَلَّب شبهه بالعبادة على شبهه بالكفارة في نوع من أنواع الهدي، كهدي القران، وهدي التمتع، وبخاصة عند من يقول: إن التمتع والقران أفضل، لم يشترط أن لا يأكل؛ لأن هذا الهدي عنده هو فضيدة، لا كفارة تدفع العقوبة، ومن غَلَّب شبهه بالكفارة قال: لا يأكله؛ لاتفاقهم على أنه لا يأكل صاحب الكفارة من الكفارة.

(1)

- حديث صحيح، أخرجه أبو داود وغيره.

ص: 289

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن الرأي الأول هو الأقرب؛ لظهور مُتمسّكه، واللَّه تعالى أعلم.

قال: ولَمّا كان هدي جزاء الصيد، وفدية الأذى ظاهر من أمرهما أنهما كفارة، لم يختلف هؤلاء الفقهاء في أنه لا يأكل منهما. انتهى المقصود من كلام العلامة ابن رُشد -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بحث نفيس يجمع أقوال أهل العلم في موضع واحد بحيث يمكنني الإحالة عليه فيما بعدُ، إن شاء اللَّه تعالى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2772 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَشْعَرَ بُدْنَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"أفلح بن حُميد" بن نافع الأنصاريّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، يقال له: ابن صُفيراء، ثقة [6] 19/ 2653.

وقولها: "أشعر بدنه" بضمتين، أو بضم، فسكون جمع بدنة بفتحتين، سيأتي تفسيرها في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى.

والحديث متّفقٌ عليه، وسيأتي تمام البحث فيه، وتخريجه بعد بابين، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌63 - (أَيُّ الشِّقَّيْنِ يُشْعَرُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أيّ" استفهامية مبتدأ، خبره جملة "يُشعَر"، وهو بالبناء للمفعول، والمعنى: أي جانب من جانبي الهدي يستحبّ إشعاره؟، وإنما أورد الترجمة بالاستفهام، للاختلاف في ذلك، وإن كان الظاهر أنه يرجّح قول من قال باستحباب اليمين، حيث أورد دليله، وهو حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وبه يقول جمهور العلماء، وهو الراجح، كما سيأتي في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه

(1)

- راجع "بداية المجتهد، ونهاية المقتصد" 1/ 376 - 3780.

ص: 290

تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2773 -

(أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشْعَرَ بُدْنَهُ، مِنَ الْجَانِبِ الأَيْمَنِ، وَسَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا، وَأَشْعَرَهَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مجاهد بن موسى) الْخُوَارَزميّ الْخُتَّليّ، أبو عليّ، نزيل بغداد ثقة [10] 85/ 102.

2 -

(هُشيم) بن بَشِير بن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية ابن أبي خازم الواسطيّ، ثقة ثبت، لكنه كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7] 88/ 109.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27. .

4 -

(قتادة) بن دِعامة السدودسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقة ثبت يُدلّس [4] 30/ 34.

5 -

(أبو حسّان الأعرج) مسلم بن عبد اللَّه البصريّ، مشهور بكنيته، صدوق رُمي برأي الخوارج [4] 14/ 473.

6 -

(ابن عبّاس) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين من شعبة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ: قتادة، عن أبي حسّان، وهو من رواية الأقران أيضًا، وفيه ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشْعَرَ بُدْنَهُ) بضمتين، أو بضم، فسكون جمع بَدَنَة.

قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: البدَنَة قالوا: هي ناقة، أو بقرة. وزاد الأزهريّ: أو بعير ذَكَرٌ، قال: ولا تقع البدنة على الشاة. وقال بعض الأئمة: البدنة هي الإبل خاصّة، ويدلّ عليه قوله تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} الآية [الحجّ: 36]. سميت بذلك لِعِظَم بدنها، وإنما أُلحقت البقرة بالإبل بالسنّة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"تجُزىء البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة"، ففرّق الحديث بينهما بالعطف، إذ لو كانت البدنة في الوضع تُطلق

ص: 291

على البقرة لما ساغ عطفها؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه. وفي الحديث ما يدلّ عليه، قال:"اشتركنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الحجّ، والعمرة، سبعة منا في بدنة، فقال رجل لجابر: أنشترك في البقرة ما نشترك في الجزور؟، فقال: ما هي إلا من البدن". والمعنى في الحكم، إذ لو كانت البقرة من جنس البدن لما جهلها أهل اللسان، ولَفُهِمَت عند الإطلاق أيضًا.

والجمع بَدَنَات، مثل قَصَبَة وقصَبَات، وبُدُن، أيضًا بضمتين، وإسكانُ الدال تخفيفٌ، وكأن البُدُن جمع بَدِين تقديرًا، مثل نذير ونُذُر، قالوا: وإذا أُطلقت البدنة في الفروع، فالمراد البعير ذكراً كان، أو أنثى انتهى كلام الفيّومي

(1)

.

(مِنَ الْجَانِبِ الأَيْمَنِ) وفي الرواية الآتية في الباب التالي: فأشعر في سنامها من الشقّ الأيمن"، وفي -67/ 2782 - : "أشعر الهدي في جانب السنام الأيمن". وفي رواية مسلم: "فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن".

و"الصفحة": الجانب، و"السنام": أعلى ظهر البعير، و"الأيمن" صفة "صفحة"، وذكّره لمجاورته لـ"سنام"، وهو مذكّر، أو على تأويل "صفحة" بجانب. وبه جزم النوويّ، حيث قال: وصف لمعنى صفحة، لا للفظها. ثم قال: وأما محلّ الإشعار، فمذهبنا، ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف أنه يستحبّ الإشعار في صفحة السنام اليمنى. وقال مالك: في اليسرى. وهذا الحديث يردّ عليه انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

(وَسَلَتَ) بمهملة، ولام، ثم مثناة (الدَّمَ عَنْهَا) أي مسحه، وأماطه، وأزاله عن صفحة سنامها. زاد في رواية أبي داود:"بيده". وفي أخرى عنده: "بأصبعه". قال الخطابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: سلت الدم بيده: أي أماطه بإصبعه، وأصل السلت: القطع، يقال: سلت اللَّه أنف فلان -أي من باب قتل-: أي جدعه انتهى (وَأَشْعَرَهَا) هكذا نسخ المجتبى" "وأشعرها"، والذي في "الكبرى": "وقلّدها". والظاهر أن الذي في "المجتبى" خطأٌ، والصواب ما في "الكبرى"؛ لأمرين:

[أحدهما]: أنه مكرّر مع قوله: "أشعر بدنه"، فلا فائدة فيه.

[والثاني]: أن الذي في "الكبرى" موافق لما في الباب التالي، ولما يأتي في 67/ 2782 - ، وهو الموافق لما في "صحيح مسلم"، ففي كلها:"وقلّدها نعلين". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- راجع "المصباح المنير" في مادة بدن.

(2)

- "شرح مسلم" 8/ 452.

ص: 292

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-63/ 2773 و 64/ 2774 و 67/ 2772 و 70/ 2791 - وفي "الكبرى" 62/ 3754 و 64/ 3755 و 66/ 3763. وأخرجه (م) في "الحجّ" 1243 (د) في "المناسك" 1752 (ت) 906 (ق) في "المناسك" 2097 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 1858 و 2296 و 2524 و 3139 و 3196 و 3234 و 3515 (الدارميّ) 1912. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في محل الإشعار:

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف أنه يستحبّ الإشعار في صفحة السنام اليمنى. وقال مالك في اليسرى، وهذا الحديث يردّ عليه انتهى.

وقال ابن قدامة: السنة الإشعار في صفحاتها اليمنى، وبهذا قال الشافعيّ، وأبو ثور، وقال مالك، وأبو يوسف: بل تُشعر في صفحاتها اليسرى. وعن أحمد مثله؛ لأن ابن عمر فعله. ولنا ما روى ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة، ثم دعا ببدنة، وأشعرها من صفحة سنامها الأيمن

الحديث. رواه مسلم.

وأما ابن عمر فقد روى عنه كمذهبنا رواه البخاريّ، معلّقًا، ثم فعل النبي صلى الله عليه وسلم أولى من قول ابن عمر، وفعله بلا خلاف؛ ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كان يعجبه التيمن في شأنه كله". انتهى.

وقال البخاريّ في صدر "باب من أشعر، وقلّد بذي الحليفة، ثم أحرم": وقال نافع كان ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - إذا أهدى من المدينة قلّده، وأشعره بذي الحليفة، يطعن في شقّ سنامه الأيمن بالشفرة، ووَجْهُهَا قِبَل القبلة، باركةً.

قال الحافظ: وصله مالك في "الموطإ"، قال: عن نافع، عن عبد اللَّه بن عمر أنه كان إذا أهدى هديًا من المدينة -على ساكنها الصلاة، والسلام - قلّده، وأشعره بذي الحليفة، يقلّده قبل أن يشعره، وذلك في مكان واحد، وهو موجّه للقبلة، يقلّده بنعلين، ويشعره من الشقّ الأيسر، ثم يُساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة، ثم يدفع به معهم إذا دفعوا، فإذا قدم منى غداة النحر نحره. وعن نافع، عن ابن عمر، كان إذا طعن في سنام هديه، وهو يشعره، قال:"بسم اللَّه، واللَّه أكبر". وأخرج البيهقيّ -

ص: 293

5/ 232 - من طريق ابن وهب، عن مالك، وعبد اللَّه بن عمر، عن نافع، أن عبد اللَّه ابن عمر كان يشعر بدنه من الشقّ الأيسر، إلا أن تكون صعابًا، فإذا لم يستطع أن يُدخل بينها أشعر من الشقّ الأيمن، وإذا أراد أن يشعرها وجهها إلى القبلة.

وتبيّن بهذا أن ابن عمر كان يطعن في الأيمن تارة، وفي الأيسر أخرى بحسب ما يتهيّأ له ذلك. انتهى كلام الحافظ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما تقدّم من التحقيقات أن الأرجح أن السنة الإشعار في الصفحة اليمنى؛ لحديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، ولا حجة في فعل ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - مع صحة المرفوع. فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوَّر بتقليد ذوي الاعتساف، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌64 - (بَابُ سَلْتِ الدَّم عَنِ الْبُدْنِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "السَّلت" -بفتح السين المهملة، وسكون اللام، آخره تاء مثنّاة-: هو التنحية والإزالة، يقال: سَلَتت المرأةُ خِضَابها من يدها سَلْتًا من باب نصر: إذا نَحَّتهُ وأزالته. أفاده الفيّوميّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2774 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، أَمَرَ بِبَدَنَتِهِ، فَأُشْعِرَ فِي سَنَامِهَا، مِنَ الشِّقِّ الأَيْمَنِ، ثُمَّ سَلَتَ عَنْهَا، وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ").

قال الَجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"عمرو بن عليّ": هو الفلاّس. و"يحيى": هو القطّان.

وقوله: "ثم سَلَت" من باب نصر: أي أزاله بإصبعه.

وقوله: "فلما استوت به" أي راحلته، وهي غير التي أشعرها. والحديث أخرجه

(1)

- "فتح" 4/ 366 - 367.

ص: 294

مسلم، ودلالته على الترجمة واضحة، تقدّم تمام البحث فيه في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌65 - (فَتْلُ الْقَلَائدِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الفتل" -بفتح، فسكون-: مصدر فَتَلَ الحبل وغيره، من باب ضرب: إذا لواه، فهو مفتول، وفَتِيل. أفاده في "القاموس".

و"القلائد": جمع قلادة، وهي ما يُجعل في العنق، يكون للإنسان، والفرس، والكلب، والبدنة التي تُهدَى، ونحوها. أفاده في "اللسان". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2775 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، وَعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُهْدِى مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِهِ، ثُمَّ لَا يَجْتَنِبُ شَيْئًا، مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد الإمام الحجة الثبت المصريّ [7] 31/ 35.

3 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ تقدّم قريبًا.

4 -

(عروة) بن الزبير المتقدّم قريبًا.

5 -

(عمرة) بنت عبد الرحمن الأنصاريّ المدنيّة، ثقة [3] 134/ 203.

6 -

(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من ابن شهاب. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وتابعية. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 295

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يهُدِي) بضم أوله، من الإهداء رباعيّا، يقال: أهديت للرجل كذا بالألف: بعثتُ به إليه إكرامًا، فهو هديّة بالتثقيل، لا غير، وأهديت الهدي إلى الحرم: سقتُهُ. قاله الفيّوميّ (مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَفْتِلُ) من باب ضرب، يقال: فَتَله: لواه، كفتّله بالتشديد (قَلَاِئدَ هَدْيِهِ) جمع قلادة: وهو ما يجعل في العنق (ثُمَّ لَا يَجْتَنِبُ شَيْئًا، مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ) من محظورات الإحرام، تعني أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث هديًا إلى مكة، مقلّدة، ثم يقيم بالمدينة حلالاً، لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم، وأرادت بذلك الردّ على ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وغيره حيث إنهم يرون ذلك، كما سيأتي بيانه، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسأله الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -65/ 2775 و 2776 و 2777 و 2778 و 2779 و 66/ 2780 و 68/ 27842783 و 69/ 2785 و 2786 و 2787 و 2788 و 2789 و 2790 و 72/ 2793 و 2794 و 2795 و 2796 و 2797 - وفي "الكبرى" 64/ 3756 و 3757 و 3758 و 3759 و 3760 و 65/ 3761 و 67/ 3764 و 3765 و 68/ 3766 و 3767 و 3768 و 3769 و 3770 و 3771 و 71/ 3774 و 3775 و 3776 و 3777 و 3778 و 3779. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1696 و 1698 و 1699 و 1700 و 1701 و 1702 و 1703 و 1704 و 1705 و"الوكالة" 2317 و"الأضاحي" 5566 (م) في "الحج" 1321 (د) في "المناسك" 1755 و 1757 و 1758 و 1759 (ت) في "الحجّ" 909 (ق) في "المناسك" 3094 و 3095 و 3096 و 3098 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 2354 و 23564 و 23871 و 24003 و 24036 و 24082 و 24189 و 24435 و 24883 و 24937 و 25049 و 2513 و 25208 و 25247 و 25289 و 25304 و 25344 و 25346 و 25359 و 25460 (الدارميّ) في "المناسك" 1911 و 1935 و 1936. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

ص: 296

(منها): مشروعيّة فتل القلائد (ومنها): استحباب تقليد الهدي، وهو أن يُجعل في عنقه ما يُستدلّ به على أنه هديٌ، وهو متفق عليه في الإبل، والبقر، واختلفوا في تقليد الغنم، وسيأتي تحقيق الخلاف في 69/ 2785 - إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): استحباب بعث الهدي إلى الحرم، وإن لم يسافر معه مرسله، ولا أحرم في تلك السنة.

قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: [فإن قلت]: قولها - رضي اللَّه تعالى عنها -، من رواية مسروق، عنها:"فَتَلت لهدي النبيّ صلى الله عليه وسلم -يعني القلائد- قبل أن يحرم.، يقتضي أنه أحرم بعد ذلك، وهذا اللفظ في "صحيح البخاريّ".

[قلت]: يحتمل أن مرادها قبل السنة التي أحرم فيها. ويحتمل أنها أخبرت في هذه الرواية عن حاله في سنة إحرامه. وفي الرواية الأخرى عن حاله في سنة أخرى، ويصرّح بأنه فعل ذلك في السنة التي لم يحرم فيها قولها - رضي اللَّه تعالى عنها - من رواية عمرة، عنها "ثم بعث بها مع أبي

(1)

"، وهو في "الصحيحين"، والمراد أنه بعث بها مع أبيها، أبي بكر الصدّيق - رضي اللَّه تعالى عنه - في حجته سنة تسع. وفي "الصحيح" أيضًا: "ثم بعث بها إلى البيت، وأقام بالمدينة"، وهي صريحة فيما ذكرناه. واللَّه أعلم. انتهى.

(ومنها): جواز استخدام الإنسان زوجته في فتل القلائد، ونحوه من الخدمة التي تقوم بها المرأة. (ومنها): أنه يستحب إذا أرسل الهدي أن يشعره، ويقلّده من بيته، وأما إذا أخذه معه، فيستحبّ أن يؤخر ذلك إلى الميقات حين يُحرم، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، في عمرة الحدبية، وحجة الوداع. (ومنها): ما قاله وليّ الدين: هذا الذي ذكرناه من استحباب تقليد الهدي إنما رأيت أصحابنا -يعني الشافعيّة- ذكروه في الهدي المتطوع به، والمنذور. وقسم المالكية دماء الحجّ إلى هَدْي، ونسك، وقالوا: إن الهدي جزاء الصيد، وما وجب لنقص في حج، أو عمرة، كدم القران، والتمتع، والفساد، والفوات، وغيرها، وقالوا: إن النسك ما وجب لإلقاء التفث، وطلب الرفاهية من المحظور، المنجبر، وجعلوا التقليد من سنة الهدي. وقال الحنفية: إن التقليد إنما يكون في هدي المتعة، والتطوع، والقران، دون دم الإحصار، والجماع، والجنايات. وفرقوا بينها، بأن الأول دم نسك، وفي التقليد إظهاره، وتشهيره، فيليق به. والثاني فإن سببه الجناية، والستر أليق بها. قالوا: ودم الإحصار جائز، فألحق بها. وذكر ابن حزم هذا التفصيل عن أبي حنيفة، ثم قال: وقال مالك، والشافعيّ: يقلّد كلّ هدي، ويشعر.

(1)

- سيأتي في رواية المصنف -رحمه اللَّه تعالى- في 72/ 2793.

ص: 297

قال: وهذا هو الصواب؛ لعموم فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونُقِلَ عن أبي حنيفة

وتعقبه وليّ الدين، فقال: وفيما ذكره نظر؛ فإنه لا عموم في فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، والهدي الذي ساقه إنما كان متطوعا به، ولم يكن عن شيء من الدماء الواجبة المذكورة، والدماءُ الواجبة لا تُساق مع الحاجُ من الأول؛ لأنه لا يدري هل يحصل له ما يوجبها، أم لا؟، ولم أر أصحابنا -يعني الشافعيّة- تعرّضوا لذلك كما تقدّم، فينبغي تحقيقه. واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن التقليد والإشعار إنما نقلا في هدي التطوع، والقران، والتمتع، وأما الجنايات، فلم يُنقَلْ فيها ذلك، فما قاله الحنفيّة أظهر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2776 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

يَزِيدُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(3)

يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ عَائِشَةَ،، قَالَتْ:"كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَبْعَثُ بِهَا، ثُمَّ يَأْتِي مَا يَأْتِي الْحَلَالُ، قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة. و"يزيد": هو ابن هارون. و"يحيى بن سعيد": هو الأنصاريّ.

وقولها: "قبل أن يبلغ الهدي محله" التقييد بذلك لكونه محلّ الخلاف، وأما بعد بلوغ الهدي محله، فلا يخالف ابن عباس، ولا غيره ببقاء الحرمة.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدَّم تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجعِ والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2777 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَامِرٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "إِنْ كُنْتُ لأَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْىِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يُقِيمُ، وَلَا يُحْرِمُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدموا غير مرّة. "عمرو بن علي": هو الفلاس. و"يحيى": هو ابن سعيد القطان. و"إسماعيل": هو ابن أبي خالد البجليّ الكوفيّ. و"عامر": هو ابن شراحيل، أبو عمرو الشعبيّ.

وقولها: "إن كنت الخ""إن" مخففة من الثقيلة، أي إني كنت الخ. وقولها: "ولا

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 152.

(2)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(3)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 298

يُحرم" بضم أوله، من الإحرام، أي لا يتّصف بصفة المحرم، من اجتناب محظورات الإحرام، بل يبقى حلالاً، كما هو، وهو بمعنى قولها التالي: "لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تخريجه، وتمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2778 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الضَّعِيفُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ،، قَالَتْ: "كُنْتُ أَفْتِلُ الْقَلَائِدَ، لِهَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيُقَلِّدُ هَدْيَهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ بِهَا، ثُمَّ يُقِيمُ، لَا يَجْتَنِبُ شَيْئًا مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه: عبد اللَّه ابن محمد بن يحيى الطرسوسيّ، أبي محمد المعروف بالضعيف؛ لكثرة عبادته، وقيل: لكونه نحيفًا. وقيل: لشدّة إتقانه، تسمية بالضدّ، وهو ثقة [10] 43/ 222، فإنه من أفراد المصنّف، وأبي داود.

و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير.

وقولها: "ثم يبعث بها" هكذا نسخ "المجتبى"، والذي في "الكبرى":"ثم يبعث به" بتذكير الضمير، وهو الظاهر؛ لأنه للهدي، والأول أيضًا له وجه صحيح، وهو أن التأنيث باعتبار أنه هديّة. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2779 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْتِلُ قَلَائِدَ الْغَنَمِ، لِهَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَمْكُثُ حَلَالاً").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"عَبيدة": -بفتح العين المهملة، وكسر الموحّدة- هو ابن حُميد- مُصَغّرًا- ابن صُهيب، أبو عبد الرحمن المعروف بالحذّاء التيميّ، أو الليثيّ، أو الضبيّ الكوفيّ النحويّ، صدوق، ربما أخطأ [8] 13/ 13.

و"منصور": هو ابن المعتمر.

وقولها: "قلائد الغنم" فيه أن الغنم تقلد كالإبل، والبقر، وهو قول جمهور العلماء، وخالف في ذلك مالك، وأبو حنيفة، فقالوا: لا تقلد الغنم، والحديث يردّ عليهم، وسيأتي تحقيق الخلاف فيه في -69/ 2785 - إن شاء اللَّه تعالى.

والحديث متّفق عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 299

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌66 - (مَا يُفْتَلُ مِنْهُ الْقَلائِدُ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على الشيء الذي يُفتل منه قلائد البدن، فالفعل مبنيّ للمفعول، من فتل الشيءَ يَفتله، من باب ضرب، كفتّله بالتشديد: إذا لواه، فهو فَتيلٌ، ومفتول. كما مرّ بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2780 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ -يَعْنِي ابْنَ حَسَنٍ- عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: أَنَا فَتَلْتُ تِلْكَ الْقَلَائِدَ، مِنْ عِهْنٍ، كَانَ عِنْدَنَا، ثُمَّ أَصْبَحَ فِينَا، فَيَأْتِي مَا يَأْتِي الْحَلَالُ مِنْ أَهْلِهِ، وَمَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا، غير:

1 -

(الحسين بن الحسن) بن يسار -بتحتانية، ومهملة- ويقال: ابن مالك بن يسار.

ويقال: ابن بشر بن مالك بن يسار، أبو عبد اللَّه البصريّ، من آل مالك بن يسار، ثقة [8].

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: الحسين بن الحسن من أصحاب ابن عون، من المعدودين من الثقات، دلّهم عليه ابن مهديّ، كان يحفظ عن ابن عون، وكان حسن الهيئة، ما علمته ثقة

(1)

، كتبنا عنه. وقال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الساجيّ: ثقة صدوق، مأمون، تكلّم فيه أزهر بن سعد، فلم يُلتَفت إليه، ومثله يُجلّ عن هذا الموضع -يعني كتاب الضعفاء. وقال أبو موسى: مات سنة (188). روى له البخاريّ، ومسلم، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

و"ابن عون": هو عبد اللَّه بن عون بن أرطبان الحافظ الحجة البصريّ.

و"القاسم": هو ابن محمد بن أبي بكر الصدّيق.

وقولها: "من عِهْن". قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: قد اختُلف في العهن

(1)

- هكذا نسخة "تهذيب الكمال" 6/ 363 - 365، و"تهذيب التهذيب" 1/ 421:"ما علمته ثقة". وظاهر السياق يقتضي أن الصواب: "ما علمته إلا ثقة". واللَّه تعالى أعلم.

ص: 300

-بكسر العين المهملة، وإسكان الهاء- فقيل: هو الصوف. وقيل: الصوف المصبوغ ألوانًا. وزاد في "الفتح": وقيل: هو الأحمر خاصّة.

قال وليّ الدين: وقد ذكر أصحابنا الشافعيّة أن التقليد بالخيوط المفتولة يكون في الغنم، فيقلّدها إما بذلك، وإما بخُرَب القِرَب -بضم الخاء المعجمة- وهي عُراها، وآذانها. وأما الإبل، والبقر، فقالوا: يستحبّ تقليدها بنعلين، من هذه النعال التي تُلبس في الرجلين في الإحرام، ويستحبّ أن يكون لها قيمة، ويتصدّق بهما عند ذبح الهدي.

وقال المالكية: ولو اقتصر على التقليد بنعل واحدة جاز، والأول أفضل. وقال الشافعية: لا تقلد الغنم النعل؛ لثقله عليها، بخلاف الإبل، والبقر، ولم أرهم قالوا: إنه لا تقلد الإبل، والبقر بالخرب، والخيوط، بل استحبّوا أن يكون بالنعال، وسكتوا عما عداها، وهذا الحديث صريح في تقليد الإبل بالخيوط، ولا سيما الرواية:"فتلت قلائد بُدن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم أشعرها، وقلّدها"

(1)

، ومن المعلوم أن الإشعار لا يكون في الغنم، وتناوُل لفظِ البدن للإبل متّفق عليه، وإنما الخلاف في إطلاقه على غيرها، كما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

وقال في "الفتح": وفيه -يعني قولها: "من عهن"- ردّ على من كره القلائد من الأوبار، واختار أن تكون من نبات الأرض، وهو منقول عن ربيعة، ومالك. وقال ابن التين: لعله أراد أنه الأولى، مع القول بجواز كونها من الصوف. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(3)

.

وقولها: "وما يأتي الرجل من أهله" عطف تفسير لقولها: "ما يأتي الحلال من أهله". ويحتمل أن تكون "من" في الأول بمعنى "في"، أي ما يفعله الحلال، وهو في أهله، من الطيب، واللباس، وغيرهما، وعليه يكون قولها:"وما يأتي الرجل من أهله" من عطف الخاصّ على العامّ.

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- سيأتي للمصنف بعد باب.

(2)

- "طرح التثريب" 5/ 151 - 152.

(3)

- "فتح" 4/ 369.

ص: 301

‌67 - (تَقْلِيدُ الْهَدْيِ)

2781 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ،، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ، قَدْ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ، قَالَ: «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدموا غير مرّة.

وقولها: "قد حلّوا بعمرة" أي بجعل حجهم عمرة، وتحلّلهم بأعمالها.

وقولها: "ولم تحلل أنت من عمرتك" أي لم تحلل أنت مثلهم بجعل حجك عمرة، وليس المراد أنه كان أهلّ بعمرة في أول أمره، كما تقدّم شرحه مفصّلاً في الباب 40/ 2682.

وقوله: "لبدت رأسي" من التلبيد، وهو أن يجعل المحرم صمغًا، أو غيره في رأسه ليتلبّد شعره، أي يلتصق بعضعه ببعض، فلا يتخللَّه غبار، ولا يصيبه الشعث، ولا القمل، وإنما يفعله من يطول منه الإحرامُ.

والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم في -40/ 2682 - وتقدّم شرحه، والكلام على مسائله هناك، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2782 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ، أَشْعَرَ الْهَدْيَ، فِي جَانِبِ السَّنَامِ الأَيْمَنِ، ثُمَّ أَمَاطَ عَنْهُ الدَّمَ، وَقَلَّدَهُ نَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ نَاقَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ الْبَيْدَاءَ لَبَّى، وَأَحْرَمَ عِنْدَ الظُّهْرِ، وَأَهَلَّ بِالْحَجِّ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة.

و"عبيد اللَّه بن سعيد": هو أبو قدامة السرخسيّ الحافظ. و"معاذ": هو ابن هشام الدستوائيّ. و"أبوه": هو هشام بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ البصريّ الحافظ. "وأبو حسان الأعرج": هو مسلم بن عبد اللَّه الأجرد البصريّ.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى" التي بين يديّ بعد قوله: "أخبرنا عبيد اللَّه بن

ص: 302

سعيد": ما نصّه: "حدثنا محمد"، وهو غلط، فالصواب إسقاطه، كما في "الكبرى" 2/ 361 وكما في "تحفة الأشراف" 5/ 239. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "ثم أماط عنه الدم" أي أزاله عنه.

وقوله: "فلما استوت به البيداء" قال السنديّ: هذا يفيد أنه أهلّ حين استواء الراحلة على البيداء، وهذا خلاف ما تقدّم عن ابن عباس أنه أهلّ بعد الصلاة، فلعله تحقّق عنده الأمر بعد هذا، فرجع عنه إلى ما تحقّق عنده. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم أن الراجح في وقت إهلال النبيّ صلى الله عليه وسلم هو حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - أنه أهلّ حين استوت به راحلته من عند مسجد ذي الحليفة، وما عدا ذلك من الروايات محمولة على علم الصحابيّ الذي قال ذلك، فإنه أخبر بما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم من التلبية؛ لأنه كان يكرر التلبية، وبهذا تجتمع الأحاديث المختلفة في الباب.

والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم في -63/ 2773 - وتقدّم شرحه، والكلام على مسائله هناك، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌68 - (تَقْلِيدُ الإِبِلِ)

2783 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمٌ -وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ- قَالَ: حَدَّثَنَا أَفْلَحُ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "فَتَلْتُ قَلَائِدَ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا، وَأَشْعَرَهَا، وَوَجَّهَهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَبَعَثَ بِهَا، وَأَقَامَ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، كَانَ لَهُ حَلَالاً").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه "أحمد بن حرب" الموصليّ، وهو صدوق، فإنه من أفراده، وكذا "القاسم بن يزيد" الجرميّ الموصليّ الثقة العابد، فإنه أيضًا من أفراده.

و"أفلح": هو حُميد الأنصاريّ المدنيّ الثقة.

(1)

- "شرح السنديّ" 5/ 172 - 173.

ص: 303

وقولها: "ووجهه إلى البيت": أي أهداها إليه، فقولها:"وبعث بها" عطف تفسير لوجّهها.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه قبل بابين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2784 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ عَائِشَةَ،، قَالَتْ: "فَتَلْتُ قَلَائِدَ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لَمْ يُحْرِمْ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدموا غير مرّة.

وقولها: "ثم لم يُحرم" بضم أوله، من الإحرام رباعيًّا: أي لم يدخل في حكم الإحرام، فقولها:"ولم يترك الخ" بيان له.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌69 - (تَقْلِيدُ الْغَنَمِ)

2785 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَنَمًا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه "إسماعيل بن مسعود" الجحدريّ البصريّ الثقة، فإنه من أفراده.

و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ الحافظ. و"منصور": هو ابن المعتمر الإمام.

وقولها: "غنما" بالنصب حال من "هدي"، أي حال كون الهدي غَنَمًا، أو منصوب على التمييز. والحديث مُتَّفقٌ عليه، وقد سبق شرحه، والكلام على مسائله قريبًا، فما بقي إلا ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا، فلنوضّحه، فنقول:

ص: 304

[مسالة]: في اختلاف أهل العلم في حكم تقليد الغنم:

قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: واختلفوا في استحباب تقليد الغنم، فقال به الشافعيّ، وأحمد، والجمهور، ورواه ابن أبي شيبة عن عائشة، وعن ابن عباس:"لقد رأيت الغنم يؤتى بها مقلّدة"، وعن أبي جعفر:"رأيت الكباش مقلّدة"، وعن عبد اللَّه بن عبيد بن عمير:"إن الشاة كانت تقلّد"، وعن عطاء:"رأيت أناسًا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يسوقون الغنم مقلّدة". وحكاه ابن المنذر عن إسحاق، وأبي ثور، قال: وبه أقول، وإليه ذهب ابن حبيب من المالكية.

وذهب آخرون إلى أنها لا تُقلّد كما أنها لا تُشعر، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وحكاه ابن المنذر عن أصحاب الرأي. ورواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر، وسعيد بن جبير، ويوافقه كلام البخاريّ، فإنه بوّب على هذا الحديث:"فتل القلائد للبدن والبقر"، فحمل الحديث عليهما، ولم يذكر للغنم. انتهى كلام وليّ الدين باختصار

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله عن البخاريّ غير صحيح، "فقد بوّب البخاريّ بعد بابين لتقليد الغنم، فقال: "باب تقليد الغنم".

وقد ذكر الحافظ كلام وليّ الدين هذا، من غير تصريح باسمه، فقال: أخذ بعض المتأخرين من اقتصار البخاريّ في هذه الترجمة على الإبل، والبقر أنه موافق لمالك، وأبي حنيفة في أن الغنم لا تقلّد، وغفل هذا المتأخر عن أن البخاريّ أفرد ترجمة لتقليد الغنم بعد أبواب يسيرة، كعادته في تفريق الأحكام في التراجم انتهى كلام الحافظ

(2)

.

وقال في "الفتح": قال ابن المنذر: أنكر مالك، وأصحاب الرأي تقليدها، زاد: وكأنهم لم يبلغهم الحديث، ولم نجد لهم حجة إلا قول بعضهم: إنها تضعف عن التقليد، وهي حجة ضعيفة؛ لأن المقصود من التقليد العلامة، وقد اتفقوا على أنها لا تُشعَر؛ لأنها ضعيفة عنه، فتقلّد بما لا يُضعفها. والحنفيّة في الأصل يقولون: ليست الغنم من الهدي، فالحديث حجة عليهم من جهة أخرى.

وقال ابن عبد البرّ: احتجّ من لم ير بإهداء الغنم بأنّه صلى الله عليه وسلم حجّ مرّة واحدة، ولم يهد فيها غنمًا انتهى.

قال الحافظ: وما أدري ما وجه الحجة منه؛ لأن حديث الباب دالّ على أنه أرسل بها، وأقام، وكان ذلك قبل حجته قطعًا، فلا تعارض بين الفعل والترك؛ لأن مجرّد الترك لا يدلّ على نسخ الجواز.

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 150 - 151.

(2)

- "فتح" 4/ 364.

ص: 305

ثم مَنِ الذي صرّح من الصحابة بأنه لم يكن في هداياه في حجته غنم، حتى يسوغ الاحتجاج بذلك؟، ثم ساق ابن المنذر من طريق عطاء، وعبيد اللَّه بن أبي يزيد، وأبي جعفر محمد بن عليّ، وغيرهم قالوا: رأينا الغنم تقدّم مقلّدة. ولابن أبي شيبة عن ابن عبّاس نحوه.

والمراد بذلك الردّ على من ادعى الإجماع على ترك إهداء الغنم، وتقليدها.

وأعلّ بعض المخالفين حديث الباب بأن الأسود تفرّد عن عائشة بتقليد الغنم، دون بقية الرواة عنها، من أهل بيتها، وغيرهم. قال ابن المنذر وغيره: وليست هذه بعلة؛ لأنه حافظ ثقة، لا يضرّه التفرّد انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

وحُكي عن بعضهم أنه تأول هذا الحديثَ على أن معناه أنها فتلت قلائد الهدي من الغنم، أي من صوف الغنم، ورُدّ هذا برواية الأسود، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"أهدى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرّة إلى البيت غنمًا، فقلّدها"، لفظ مسلم، وفي لفظ له:"كنا نقلّد الشاء، فنرسل بها، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حلال، لم يحرم منه شيء"

(2)

. وفي لفظ للبخاريّ: "كنت أفتل قلائد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقلّد الغنم". ولفظ أبي داود: "إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أهدى غنمًا مقلّدة".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا التأويل الذي قاله هذا البعض باطل؛ لأن هذه الألفاظ لا تحتمله، واللَّه تعالى المستعان.

وخلاصة الأمر أن الحقّ هو ما عليه الجمهور من استحباب تقليد الغنم، كغيرها من الهدايا؛ لصحة أحاديث الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2786 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُهْدِي الْغَنَمَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد هو الإسناد الماضي، لكن بإبدال منصور بسليمان الأعمش. والحديث متّفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2787 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَهْدَى مَرَّةً غَنَمًا، وَقَلَّدَهَا").

(1)

- "فتح" 4/ 368.

(2)

- سيأتي للمصنف آخر الباب برقم 2790.

ص: 306

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدموا غير مرّة، و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير. والحديث متّفق عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2788 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْىِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَنَمًا، ثُمَّ لَا يُحْرِمُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ. والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2789 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَنَمًا، ثُمَّ لَا يُحْرِمُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد هو الإسناد السابق بإبدال الأعمش بمنصور، والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2790 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى ثِقَةٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ ح وَأَنْبَأَنَا

(1)

عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"كُنَّا نُقَلِّدُ الشَّاةَ، فَيُرْسِلُ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَلَالاً، لَمْ يُحْرِمْ مِنْ شَيْءٍ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"الحسين بن عيسى": هو الطائيّ، أبو عليّ البسطاميّ القومسيّ، نزيل نيسابوريّ، صدوق صاحب حديث، وقال المصنف: ثقة [10] 69/ 86.

و"عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث" أبو عبيدة البصريّ، صدوق [11].

قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائيّ: لا بأس به. وذكره ابن حبّان في "الثقات".

وقال السرّاج: مات سنة (252) روى عنه مسلم، والترمذيّ، والمصنف، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم 2790 و 3315.

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 307

و"أبو معمر": هو عبد اللَّه بن عمرو بن أبي الحجاج ميسرة التيميميّ المنقريّ -بكسر الميم، وسكون النون، وفتح القاف- البصريّ الْمُقْعَد، ثقة ثبت، رمي بالقدر [10].

قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة ثبت. وقال ابن الجنيد، عن يحيى: ثقة نبيل عاقل. وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة ثبتًا، صحيح الكتاب، وكان يقول بالقدر، وكان غالبًا على عبد الوارث. قال عليّ بن المدينيّ: قد كتبتُ كتب عبد الوارث عن عبد الصمد -يعني ابنه- وأنا أشتهي أن أكتبها عن أبي معمر. وقال الآجريّ، عن أبي داود: بلغني عن عليّ أنه قال: أبو معمر في عبد الوارث أحبّ إليّ من عبد الوارث في رجاله. قال أبو داود: سمعت أبا معمر يقول ليحيى بن معين: شيخ كتب عني كتاب الحروف. قال أبو داود: وكان الأزديّ لا يُحدّث عن أبي معمر لأجل القدر، وكان لا يتكلم فيه. قال أبو داود: وأبو معمر أثبت من عبد الصمد مرارًا. وقال العجليّ: ثقة، وكان يرى القدر. وقال أبو حاتم: صدوق متقن، قويّ الحديث، غير أنه لم يكن يحفظ، وكان له قَدْرٌ عند أهل العلم. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم، عن أبي زرعة: كان ثقة حافظًا. قال عبد الرحمن: يعني أنه كان متقنًا. وقال ابن خراش: كان صدوقًا، وكان قدريًّا. وذكره ابن حبّان في "الثقات". قال أبو حسّان الزيادي، والبخاريّ: مات سنة (224) روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، و 4706 حديث: "أول قسامة كانت في الجاهليّة

".

و"عبد الصمد بن عبد الوارث" العنبريّ مولاهم أبو سهل التَنُّوريّ البصريّ، صدوق، ثبت في شعبة [9] 122/ 174.

و"عبد الوارث" بن سعيد بن ذكوان العنبريّ مولاهم، أبو عبيدة التنّوريّ البصريّ، ثقة ثبت، رمي بالقدر، ولم يثبت عنه [8] 6/ 6.

و"محمد بن جُحادة" الأوديّ الكوفيّ، ثقة [5] 48/ 1736.

و"الحكم": هو ابن عتيبة الكنديّ، أبو محمد الكوفيّ ثقة ثبت فقيه إلا أنه ربما دلّس [5] 86/ 104.

وقولها: "نُقَلَّدُ الشاة" ولمسلم: "نقلّد الشاء" بالهمز، وهو جمع شاة.

وقولها: "لم يُحرم من شيء" بضم حرف المضارعة: أي لم يصر محرما من شيء كان حلالاً له. وفي نسخة: "ما يحرم".

وفي "الكبرى": "لم يُحرُم منه شيء"، وعليه فحرف المضارعة مفتوح، والراء مضمومة، من حرم الشيء يحرم، من باب كرم: ضدّ حلّ، أي لم يصر على النبيّ صلى الله عليه وسلم شيء من الحلال حرامًا، بل بقي كما كان قبل إرسال الهدي.

ص: 308

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌70 - (تَقْلِيدُ الْهَدْيِ نَعْلَيْنِ)

2791 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ،، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ، أَشْعَرَ الْهَدْيَ مِنْ جَانِبِ السَّنَامِ الأَيْمَنِ، ثُمَّ أَمَاطَ عَنْهُ الدَّمَ، ثُمَّ قَلَّدَهُ نَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ نَاقَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ الْبَيْدَاءَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَأَحْرَمَ عِنْدَ الظُّهْرِ، وَأَهَلَّ بِالْحَجِّ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة، و"يعقوب بن إبراهيم": هو الدورقيّ. و"أبو حسان الأعرج": هو مسلم بن عبد اللَّه البصريّ. والحديث أخرجه مسلم وقد تقدّم تمام البحث فيه في - 63/ 2773 - .

وقوله: "فلما استوت به البيداء الخ" البيداء منصوب على الظرفية. وتقدم أن الأرجح أن إهلاله صلى الله عليه وسلم كان حيثما انبعثت به ناقته عند مسجد ذي الحليفة.

وقوله: "وأحرم عند الظهر" أي إن إحرامه صلى الله عليه وسلم كان وقت الظهر، أي بعد صلاتها. وقوله: (وأهلّ بالحجّ" يعني أن إهلاله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر كان بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، وهذا هو الأرجح، كما تقدّم البحث عنه مستوفًى في -48/ 2715 - . واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌71 - (هَلْ يُحْرِمُ إِذَا قَلَّدَ)

2792 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا كَانُوا حَاضِرِينَ، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، بَعَثَ بِالْهَدْيِ، فَمَنْ شَاءَ أَحْرَمَ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ").

ص: 309

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد المصريّ الإمام الحجة المشهور [7] 31/ 35.

3 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوقٌ، يدلّس [4] 31/ 35.

4 -

(جابر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حَرَام الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى - عنهما 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيّات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (144) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه مصريين، ومكيّين. (ومنها): أن فيه جابرًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّهُمْ كانُوا) أي الصحابة رضي الله عنهم (إِذَا كَانُوا حَاضِرِينَ، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، بَعَثَ بِالْهَدْيِ) أي بعث أحدهم بالهدي، فالفاعل مقدّر دلّ عليه السياق (فَمَنْ شَاءَ أَحْرَمَ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ) هذا يدلّ على أن الذي يبعث بالهدي مخيّرٌ بين أن يصير محرمًا، وبين أن يبقى حلالاً، وهذا مخالف لأحاديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - المتقدّمة.

ولكن هذا وإن كان فيه معنى الرفع، حيث يحتمل علمه صلى الله عليه وسلم له، وتقريره لهم، ليس كالمرفوع الصريح، وهو حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، حيث إنه لم يصرّح فيه أنه بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا بتقريره، فلا يعارض الأحاديث المرفوعة صريحًا، فتقدّم عليه.

وشرح الحديث ولي الدين -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح التقريب" بمعنى آخر، فقال: ولعله إنما ورد فيمن عَزْمُهُ الحجّ تلك السنة، وأن الذين يصحبون الهدي معهم، منهم من يُحرم بمجرّد بعثه، ومنهم من يترك الإحرام في ذلك الوقت، ويؤخّره إلى المقات.

قال: ويدلّ لذلك أن ابن حبّان لَمّا أخرجه في "صحيحه" بوّب عليه "ذكر الإباحة للحاجّ بعث الهدي، وسوقها من المدينة"، فلما عبّر في تبويبه بالحاجّ علمنا أنه فهمِ أن بعث الهدي المذكور كان ممن عَزْمُهُ الحجّ واللَّه أعلم انتهى كلام وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا قال، ولكن لا يخفى بُعْدُهُ عن سياق الحديث،

(1)

-"طرح التثريب".

ص: 310

فالوجه ما قدّمناه، فتأمله بإنصاف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

وحديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح الإسناد، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، لم يخرجه غيره من أصحاب الأصول، أخرجه هنا -71/ 2792 - وفي "الكبرى" 70/ 3773. وأخرجه (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 14362. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌72 - (هَلْ يُوجِبُ تَقْلِيدُ الْهَدْي إِحْرَامًا)

2793 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْىِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ، ثُمَّ يُقَلِّدُهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، ثُمَّ يَبْعَثُ بِهَا مَعَ أَبِي، فَلَا يَدَعُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، أَحَلَّهُ اللَّهُ عز وجل لَهُ، حَتَّى يَنْحَرَ الْهَدْيَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح. و"إسحاق بن منصور": هو الكوسج المروزيّ الحافظ. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. "ومالك": هو ابن أنس الإمام المدنيّ. و "عبد اللَّه بن أبي بكر" هو: ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ المدني القاضي الثقة. و"عمرة": هي بنت عبد الرحمن الأنصارية المدنية الثقة.

وقولها: "بيديّ" بصيغة التثنية، ويحتمل أن بصيغة الإفراد؛ لأنه مفرد مضاف، فيعمّ. وفيه رفع مجاز أن تكون أرادت أنها فتلت بأمرها.

وقولها: "بيده" بالإفراد، وهو مفرد مضاف، فيعم اليدين، وفي رواية البخاريّ:"بيديه" بالتثنية. قال ابن التين: يحتمل أن يكون قول عائشة: "ثم قلدها بيده" بيانًا لحفظها للأمر، ومعرفتها به. ويحتمل أن تكون أرادت أنه صلى الله عليه وسلم تناول ذلك بنفسه، وعلم وقت التقليد، ومع ذلك فلم يمتنع من شيء يمتنع منه المحرم؛ لئلا يظنّ أحد أنه استباح ذلك قبل أن يعلم بتقليد الهدي انتهى

(1)

.

(1)

- "فتح" 4/ 365.

ص: 311

وقولها: "مع أبي" بالإضافة إلى ياء المتكلم، تريد أباها أبا بكر الصدّيق - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

واستفيد من ذلك وقت البعث، وأنه كان في سنة تسع، عام حجّ أبو بكر بالناس. قال ابن التين: أرادت عائشة بذلك علمها بجميع القصّة. ويحتمل أن تريد أنه آخر فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه حج في العام الذي يليه حجة الوداع؛ لئلا يظنّ ظانّ أن ذلك كان في أول الإسلام، ثم نسخ، فأرادت إزالة هذا اللبس، وأكملت ذلك بقولها:"فلم يحرم عليه شيء، كان له حلالاً حتى نحو الهدي"، أي وانقضى أمره ولم يُحرِم، وتَركُ إحرامه بعد ذلك أحرى، وأولى؛ لأنه إذا انتفى في وقت الشبهة، فلأن ينتفي عند انتفاء الشبهة أولى.

وقولها: "حتى ينحر الهدي" ببناء الفعل للمفعول، ويحتمل أن يكون بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير أبيها.

[تنبيه]: سبب حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا هو ما أخرجه الشيخان، واللفظ للبخاريّ، من طريق مالك، عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن، أنها أخبرته أن زياد بن أبي سفيان، كتب إلى عائشة رضي الله عنها، إن عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما قال: من أهدى هديا، حرم عليه ما يحرم على الحاج، حتى يُنحَر هديُهُ، قالت عمرة: فقالت عائشة رضي الله عنها: ليس كما قال ابن عباس، "أنا فتلت قلائد هدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيديّ، ثم قلدها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيديه، ثم بعث بها مع أبي، فلم يَحرُم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيء، أحله اللَّه له، حتى نُحِرَ الهدي".

وأخرج من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن مسروق، أنه أتى عائشة، فقال لها: يا أم المؤمنين، إن رجلا

(1)

يبعث بالهدي إلى الكعبة، ويجلس في العصر، فيوصي أن تُقَلَّد بدنته، فلا يزال من ذلك اليوم محرما، حتى يحل الناس، قال: فسمعت تصفيقها

(2)

من وراء الحجاب، فقالت:"لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيبعث هديه إلى الكعبة، فما يحرم عليه، مما حل للرجال من أهله، حتى يرجع الناس".

قال في "الفتح": وحاصل اعتراض عائشة على ابن عباس أنه ذهب إلى ما أفتى به قياسًا للتولية في أمر الهدي على المباشرة له، فبينت عائشة أن هذا القياس لا اعتبار له

(1)

- هو زياد بن أبي سفيان.

(2)

- أي ضرب إحدى يديها على الأخرى تعجبًا، أو تأسفًا على وقوع ذلك.

ص: 312

في مقابلة هذه السنة الظاهرة.

وفي الحديث من الفوائد تناول الكبير الشيء بنفسه، وإن كان له من يكفيه، إذا كان مما يُهتمّ به، ولا سيما ما كان من إقامة الشرائع، وأمور الدين. وفيه تعقّب بعض العلماء على بعض، وردّ الاجتهاد بالنصّ، وأن الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم التأسّي به حتى تثبت الخصوصيّة انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدم شرحه، والكلام على مسائله، فما بقي إلا الكلام على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، فنقول:

[مسألة]: في اختلاف أهل العلم في أن تقليد الهدي، وإرساله هل يوجب إحرامًا، أم لا؟:

ذهب جمهور العلماء من السلف، والخلف، ومنهم الأئمة الأربعة إلى أن من أرسل هديًا إلى الكعبة لا يصير محرمًا بمجرّد ذلك، ولا يجري عليه حكم الإحرام، ولا يلزمه أن يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم، وسواء قلّد هديه، أم لم يقلّده.

وذهبت طائفة إلى أنه يصير محرمًا بذلك. قال ابن المنذر: كان ابن عمر يقول: إن قلّد هديه، فقد أحرم، وبه قال النخعيّ، والشعبيّ، وقال عطاء: سمعنا ذلك. وقال الثوريّ، وأحمد، وإسحاق: إذا قلّد هديه، فقد أحرم، وبه قال النخعيّ، والشعبيّ، وقال عطاء: وجب عليه، وبه قال أصحاب الرأي انتهى.

قال وليّّ الدين: وحاصل كلامه قولان: أحدهما: أن يصير محرما. والثاني: أنه يجب عليه الإحرام، وعدّهما ابن المنذر قولاً واحدًا، فإنه قال بعد ذلك: وفيه قول ثالث، فحكى المذهب المشهور، وكأن مراد الأخيرين وجب عليه حكم الإحرام؛ لأنه قد صار محرمًا، فتتحد المقالتان حينئذ.

وقال الخطاّبيّ عن أصحاب الرأي تفريعًا على ما تقدّم نقله عنهم: فإن لم تكن له نية فهو بالخيار بين حجّ وعمرة.

وروى ابن أبي شيبة أنه إذ قلّد هديّة، فقد أحرم عن ابن عمر، وابن عباس، والشعبيّ، وسعيد بن جبير، وسعد بن قيس، وميمون بن أبي شبيب، وأنه إذا قلّد فقد وجب عليه الإحرام عن ابن عباس، وهذا يدلّ على التأويل الذي قدّمته، وأن المراد بالعبارتين شيء واحد لكونهما معًا عن ابن عباس.

وروى ابن أبي شيبة أنه إذا قلّد، وهو يريد الإحرام، فقد أحرم عن ابن عباس، وأبي

(1)

- "فتح" 4/ 367 - 368.

ص: 313

الشعثاء، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وأنه إذا قلّد، وهو يريد الإحرام، فقد وجب عليه الإحرام عن إبراهيم النخعيّ، وكذا حكى الخطابيّ عن سفيان الثوريّ، وأحمد، وإسحاق أنه إذا أراد الحجّ، وقلّد، فقد وجب عليه، وهذا المذكور آخرًا فيه التقييد بأن يكون يريد الإحرام، فإن لم يحمل الإطلاق الأول على التقييد الثاني، وغايرنا بين الإحرام، وإيجاب الإحرام حصل قولان آخران مع القولين الأولين، ويدلّ على أن ذلك لا يتقيد بإرادة الإحرام في قولٍ ما رواه ابن أبي شيبة عن ربيعة بن عبد اللَّه بن الهُدَير أنه رأى ابن عباس، وهو أمير البصرة، متجرّدًا على منبر البصرة، فسأل الناس عنه، فقالوا: إلْه أمر بهديه أن يقلّد، فلذلك تجرّد، فلقيت ابن الزبير، فذكرت ذلك له، فقال: بدعة، وربّ الكعبة. وروي ابن أبي شيبة أيضًا عن عطاء، وابن أبي الأسود، قالا: ليس له أن يقلّد، ولا يحرم إلا إن شاء يومًا، أو يومين. (وهذا مذهب خامس).

وحاصله أنه بالتقليد يجب عليه الإحرام، وله تأخيره يومًا، أو يومين. وروى ابن أبي شيبة أيضًا عن الحسن البصريّ أنه إن فعل في أشهر الحجّ وجب عليه الحجّ، وإن كان في غير أشهره لم يجب. (وهذا مذهب سادس).

وروى ابن أبي شيبة أيضًا عن سعيد بن المسيّب، والحسن البصريّ أن من بعث بهديه لا يمسك عن شيء مما يمسك عنه المحرم، إلا ليلة جمع، فإنه يمسك عن النساء.

(وهذا مذهب سابع).

وروى ابن أبي شيبة أيضًا عن عمر، وعليّ، وابن عباس، وابن عمر أنه إذا أرسل بدنته، أمسك عما يمسك عنه المحرم، غير أنه لا يلبّي. وهذا (مذهب ثامن)؛ لأنه لم يقيّد ذلك بالتقليد، ولم يقل: إنه محرم، ولا وجب عليه الإحرام، وإنما قال: يمسك عفا يمسك عنه المحرم، وهو الذي في "صحيح مسلم" عن ابن عباس أنه قال: من أهدى هديًا حرم عليه ما يحرم على الحاجّ حتى ينحر الهدي، وهذا أصح ما روي عن ابن عباس في هذا. واللَّه أعلم.

وروى ابن أبي شيبة أيضًا عن جعفر بن محمد أنه إذا أرسل بدنته واعدهم يومًا، فإذا كان ذلك اليوم الذي واعدهم أن يُشعَر أمسك عما يمسك عنه المحرم، غير أنه لا يلبّي، وهذا مثل الذي قبله في الإمساك خاصّة، ويخالف بأنه لا يرتبه على مجرد الإرسال، بل لا بدّ معه من الإشعار، فهو (مذهب تاسع).

وروى ابن أبي شيبة أيضًا عن محمد بن سيرين، قال: إذا بعث الرجل بالهدي أمر الذي يبعث به معه أن يقلّد يوم كذا وكذا من ذلك اليوم، ثم يمسك عن أشياء مما يمسك عنها المحرم، وهذا (مذهب عاشر)؛ لأنه لا يطرد المنع في كلّ ما يجتنبه المحرم، بل

ص: 314

يثبت ذلك في بعضها، دون جميعها.

واعلم أن كلّ من رتّب هذا الحكم على التقليد رتبه على الإشعار أيضًا، فهو في معناه.

فهذه عشرة مذاهب شاذّة إن لم تؤول، وتردّ إلى مذهب واحد. وكلام النوويّ يقتضي التأويل، فقال في "شرح مسلم" في الكلام على هذا الحديث: فيه أن من بعث هديه لا يصير محرمًا، ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم، وهذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافة إلا رواية حكيت عن ابن عباس، وابن عمر، وعطاء، وسعيد بن جبير، وحكاه الخطابيّ عن أصحاب الرأي أيضًا أنه إذا فعله لزمه اجتناب ما يجتنبه المحرم، ولا يصير محرمًا من غير نية الإحرام.

وقال في "شرح المهذب": إذا قلّد هديه، أو أشعره لا يصير محرمًا بذلك، وإنما يصير محرمًا بنية الإحرام، هذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافة، ونقل الشيخ أبو حامد عن ابن عباس، وابن عمر أنه يصير محرمًا بمجرد تقليد الهدي، وهذا فيه تساهل، وإنما مذهب ابن عباس أنه إذا قلّد هديه حرم عليه ما يحرم على المحرم حتى يُنحَر هديُهُ، وكذا مذهب ابن عمر إن صحّ عنه في هذه المسألة شيء انتهى. فذكر في "شرح مسلم" بعث الهدي، وفي "شرح المهذب" تقليده. انتهى كلام وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال في "الفتح" عند شرح ردّ عائشة على ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: ما نصّه: قال ابن التين: خالف ابن عباس في هذا جميع الفقهاء، واحتجّت عائشة بفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما روته في ذلك يجب أن يصار إليه، ولعل ابن عباس رجع عنه انتهى.

قال الحافظ: وفيه قصور، فإن ابن عباس لم ينفرد بذلك، بل ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة، منهم ابن عمر، رواه ابن أبي شيبة، عن ابن عليّة، عن أبوب، وابنُ المنذر من طريق ابن جريج، كلاهما عن نافع:"أن ابن عمر كان إذا بعث بالهدي يمسك عما يمسك عنه المحرم، إلا أنه لا يلبّي". ومنهم قيس بن سعد بن عبادة، أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد بن المسيّب عنه نحو ذلك. وروى ابن أبي شيبة من طريق محمد بن عليّ بن الحسين، عن عمر، وعليّ، أنهما قالا في الرجل يُرسل ببدنته:"إنه يمسك عما يمسك عنه المحرم". وهذا منقطع. وقال ابن المنذر: قال عمر، وعليّ، وقيس بن سعد، وابن عمر، وابن عباس، والنخعيّ، وعطاء، وابن سيرين، وآخرون: من أرسل الهدي، وأقام حَرُم عليه ما يحرم على المحرم.

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 153 - 155.

ص: 315

وقال ابن مسعود، وعائشة، وأنس، وابن الزبير، وآخرون: لا يصير بذلك محرمًا، وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار.

ومن حجة الأولين ما رواه الطحاويّ، وغيره من طريق عبد الملك بن جابر، عن أبيه، قال: كنت جالسًا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقدّ قميصه من جيبه، حتى أخرجه من رجليه، وقال: "إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلّد اليوم، وتُشعَرَ على مكان كذا وكذا، فلبست قميصي، ونسيت، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي

" الحديث. وهذا لا حجة فيه؛ لضعف إسناده. إلا أن نسبة ابن عباس إلى التفرّد بذلك خطأ.

وقد ذهب سعيد بن المسيّب إلى أنه لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم إلا الجماع ليلة جمع. رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح.

نعم جاء عن الزهريّ ما يدلّ على أن الأمر استقرّ على خلاف ما قال ابن عباس، ففي نسخة أبي اليمان، عن شعيب، عنه، وأخرجه البيهقيّ من طريقه، قال: أول من كشف العَمَى عن الناس، وبيّن لهم السنة في ذلك عائشةُ. فذكر الحديث عن عروة، وعمرة، عنها، قال: فلما بلغ الناس قول عائشة أخذوا به، وتركوا فتوى ابن عباس.

وذهب جماعة من فقهاء الفتوى إلى أن من أراد النسك صار بمجرّد تقليده الهدي محرما. حكاه ابن المنذر عن الثوريّ، وأحمد، وإسحاق، قال: وقال أصحاب الرأي: من ساق الهدي، وأمّ البيت، ثم قلّد وجب عليه الإحرام. قال: وقال الجمهور: لا يصير بتقليد الهدي محرمًا، ولا يجب عليه شيء. ونقل الخطابيّ عن أصحاب الرأي مثل قول ابن عباس، وهو خطأ عليهم، فالطحاويّ أعلم بهم منه، ولعل الخطابيّ ظنّ التسوية بين المسألتين انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن مما ذُكر من الأقوال، وأدلتها أن أرجح الأقوال قول الجمهور: إن تقليد الهدي لا يوجب الإحرام، ولا يُحَرَّم شيئًا، فمن بعث بالهدي، لا يلزمه إحرام، ولا اجتاب شيء مما يجتبه المحرم؛ لحديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - الصحيح الصريح في ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2794 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَقُتَيْبَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْىِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لَا يَجْتَنِبُ شَيْئًا، مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ").

(1)

-"فتح" 4/ 366 - 367.

ص: 316

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"سفيان": هو ابن عيينة.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2795 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ،،، قَالَ: قَالَتْ: عَائِشَةُ: "كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْىِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا يَجْتَنِبُ شَيْئًا، وَلَا نَعْلَمُ الْحَجَّ يُحِلُّهُ، إِلاَّ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ").

قَال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح.

و"عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن" الزهريّ البصريّ، صدوق، من صغار [10] 42/ 48.

و"سفيان": هو ابن عيينة.

وقولها: "ولا نعلم الحاجّ يحله" وفي نسخة: "ولا نعلم الحجّ". و"يُحِلُّهُ" بضم أوله، من أحلّ، أي يجعله حلالاً خارجًا عن الإحرام بالكليّة حتى في حقّ النساء.

وقولها: "إلا الطواف بالبيت" أي طواف الإفاضة، وأما نحو الهدي فقط فلا يجعله حلالاً. وأرادت بذلك نفي كون بعث الهدي يوجب إحرامًا؛ لأن الإحرام بالحج لا يحله إلا الطواف بالبيت.

والحديث متّفقٌ عليه، دون قولها:"ولا نعلم الخ". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2796 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ،، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ،، قَالَتْ: "إِنْ كُنْتُ لأَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيُخْرَجُ بِالْهَدْيِ مُقَلَّدًا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقِيمٌ، مَا يَمْتَنِعُ مِنْ نِسَائِهِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد رجال الصحيح. و"أبو الأحوص": هو سلاّم بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ. و"أبو إسحاق": هو عمرو بن عبد اللَّه بن عبيد السبيعيّ الكوفيّ.

وقولها: "يُخرَج بالهدي" بالبناء للمفعول، أي يَخرُج من يُبعَث معه الهدي بالهدي.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2797 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْىِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنَ الْغَنَمِ فَيَبْعَثُ بِهَا، ثُمَّ يُقِيمُ فِينَا حَلَالاً").

ص: 317

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه "محمد بن قدامة" أبي عبد اللَّه المِصَّيصيّ، فإنه من أفراده هو، وأبي داود.

و" جرير": هو ابن عبد الحميد. "ومنصور": هو ابن المعتمر.

وقولها: "من الغنم" بيان للهدي، لا صلة لأفتل، كما تأوله بعضهم، فقال: إن المعنى أنها فتلت من صوف الغنم، وهذا غلط فاحش، كما سبق بيانه، فتنبّه.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌73 - (سَوْقُ الْهَدْيِ)

2798 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ،، سَمِعَهُ يُحَدِّثُ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَاقَ هَدْيًا فِي حَجِّهِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، سوى شيخه عمران بن خالد بن يزيد الطائيّ الدمشقيّ، فإنه من أفراده، وهو ثقة.

والحديث صحيح، تقدّم الكلام عليه في 51/ 2740. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌74 - (رُكُوبُ الْبَدَنَةِ)

2799 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَأَى رَجُلاً، يَسُوقُ بَدَنَةً، قَالَ:«ارْكَبْهَا» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا

ص: 318

بَدَنَةٌ، قَالَ:"ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ"، فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ فِي الثَّالِثَةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام الأصبحيّ الحجة الثبت [7] 7/ 7.

3 -

(أبو الزناد) عبد اللَّه بن ذكران القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة فقيه [5] 7/ 7.

4 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 7/ 7.

5 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مما قيل فيه: إنه أصح أسانيد أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى - عنه. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فإنه بغلانيّ، والظاهر أنه دخل المدينة للأخذ عن مالك وغيره. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ الأَعْرَجِ) قال في "الفتح": لم تختلف الرواة عن مالك، عن أبي الزناد فيه. ورواه ابن عيينة، عن أبي الزناد، فقال:"عن الأعرج، عن أبي هريرة، أو عن أبي الزناد، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة". أخرجه سعيد منصور، عنه. وقد رواه الثوريّ، عن أبي الزناد بالإسنادين، مفرّقًا. انتهى

(1)

.

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَأَى رَجُلاً) قال الحافظ: لم أقف على اسمه بعد طول البحث (يَسُوقُ بَدَنَةً) كذا في معظم الأحاديث. ووقع لمسلم من طريق بكير بن الأخنس، عن أنس:"مرّ ببدنة، أو هديّة". ولأبي عوانة من هذا الوجه: "أو هدي". وهو مما يوضّح أنه ليس المراد بالبدنة مجرّد مدلولها اللغويّ.

ولمسلم من طريق المغيرة بن شعبة، عن أبي الزناد:"بينا رجل يسوق بدنة مقلّدة". وكذا في طريق همّام، عن أبي هريرة. وللبخاريّ من طريق عكرمة، عن أبي هريرة أنها كانت مُقَلَّدَة نعلاً. وزاد في الباب التالي من رواية ثابت عن أنس:"وقد جهده المشي".

(1)

- "فتح" 4/ 354 - 355.

ص: 319

ولأبي يعلى من طريق الحسن، عن أنس:"حافيًا"، لكنها رواية ضعيفة. قاله في "الفتح"

(1)

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ارْكَبْهَا") أي اركب بدنتك التي تسوقها؛ لستريح من تعبك الذي لحقك من مشقّة المشي (قَالَ) الرجل (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا بَدَنَةٌ) هذا ظنَّ من الرجل أن البدنة لا تُركب.

قال وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: المراد بالبدنة هنا، الواحدة من الإبل المهداة إلى البيت الحرام، ويقع هذا اللفظ على الذكر والأنثى بالاتفاق، كما نقله النووي وغيره.

ونقل ابن عبد البرّ قولاً: إنها تختصّ بالأنثى، وردّه. وهل تختصّ في أصل وضعها بالإبل، أم تستعمل فيها، وفي البقر، أم فيها، وفي الغنم، فيه خلاف.

ولو استعملت البدنة هنا في أصل مدلولها لم يحصل الجواب بقوله: "إنها بدنة"، لأن كونها من الإبل مشاهد معلوم، والذي ظنّ أنه خفي من أمرها كونها هديًا، فدلّ بقوله:"إنها بدنة"، على أنها مهداة انتهى كلام وليّ الدين

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ) هذه الكلمة أصلها أنها تقال لمن وقع في هَلَكة، فقيل: لأنه كان محتاجًا، قد وقع في تعب وجهد. وقيل: هي كلمة تجري على اللسان، وتستعمل من غير قصد إلى ما وُضعت له أوّلاً، بل تدعّم بها العرب كلامها، كقولهم: لا أُمّ له، ولا أب له، وتربت يداه، وقاتله اللَّه ما أشجعه، وعقرى، وحلقى، وما أشبه ذلك. قاله النووي.

وقال في "الفتح": قال القرطبيّ: قالها له تأديبًا لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه. وبهذا جزم ابن عبد البرّ، وابن العربيّ، وبالغ حتى قال: الويل لمن راجع في ذلك بعد هذا، قال: ولولا أنه صلى الله عليه وسلم اشترط على ربه ما اشترط لهلك ذلك الرجل، لا محالة. قال القرطبيّ: ويحتمل أن يكون فهم عنه أنه يترك ركوبها على عادة الجاهلية في السائبة، وغيرها، فزجره عن ذلك، فعلى الحالتين هي إنشاء. ورجحه عياض، وغيره، قالوا: والأمر هنا، وإن قلنا: إنه للإرشاد، لكنه استحقّ الذمّ بتوقفه على امتثال الأمر. والذي يظهر أنه ما ترك الامتثال عنادًا. ويحتمل أن يكون ظنّ أنه يلزمه غرم بركوبها، أو إثم، وأن الإذن الصادر له بركوبها إنما هو للشفقة عليه، فتوقّف، فلما أغلظ له بادر إلى الامتثال. وقيل: لأنه كان أشرف على هَلَكَة من الجهد، و"ويل" كلمة تقال لمن وقع في هلكة، فالمعنى: أشرفت على الهلكة، فاركب، فعلى هذا هي إخبار. وقيل: هي كلمة تدعم بها العرب كلامها، ولا تقصد معناها، كقوله: لا أم لك، ويقويّه ما في

(1)

- "فتح" 4/ 355.

(2)

- "طرح التثريب" 5/ 144.

ص: 320

بعض الروايات بلفظ "ويحك" بدل "ويلك". قال الهرويّ: "ويل" يقال لمن وقع في هلكة يستحقّها، و"ويح" لمن وقع في هلكة لا يستحقّها انتهى

(1)

(فِي الثَّانِيَةِ، أوْ فِي الثَّالِثَةِ) ووقع في رواية همام عند مسلم: "ويلك اركبها، ويلك اركبها". ولأحمد من رواية عبد الرحمن بن إسحاق، والثوريّ، كلاهما عن أبي الزناد، ومن طريق عجلان، عن أبي هريرة، قال:"اركبها ويحك"، قال: إنها بدنة، قال:"اركبها ويحك". زاد أبو يعلى من رواية الحسن: "فركبها"، إلا أنها ضعيفة. وللبخاريّ من طريق عكرمة، عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم:"فلقد رأيته راكبها، يساير النبيّ صلى الله عليه وسلم، والنعل في عنقها".

قال الحافظ: وتبيّن بهذه الطرق أنه أطلق البدنة على الواحدة من الإبل المهداة إلى البيت الحرام، ولو كان المراد مدلولها اللغويّ لم يحصل الجواب بقوله: إنها بدنة؛ لأن كونها من الإبل معلوم، فالظاهر أن الرجل ظنّ أنه خفي كونها هديًا، فلذلك قال: إنها بدنة. والحقّ أنه لم يخف ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم لكونها كانت مقلّدة، ولهذا قال له لما زاد في مراجعته:"ويلك" انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -74/ 2799 - وفي "الكبرى" 73/ 3781. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1689 و 1706 و"الوصايا" 2755 و"الأدب" 6160 (م) في "الحج" في "الحج" 1322 (د) في "المناسك" 1760 (ق) 3103 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7404 و 7679 و 27339 و 9663 و 9777 و 9836 و 9873 و 9942 و 10188 (الموطأ) في "الحج" 848. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعية ركوب البدنة، مطلقًا، سواء كان واجبًا، أو متطوعًا به؛ لكونه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل صاحب الهدي عن ذلك، فدلّ على أن ذلك لا يختلف بذلك. وأصرح من هذا ما أخرجه أحمد من حديث عليّ: "أنه سئل، هل يركب الرجل هديه؟ فقال: لا بأس، قد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يمرّ

(1)

-"فتح" 4/ 356 - 357.

ص: 321

بالرجال يمشون، فيأمرهم يركبون هديه"، أي هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم إسناده صالح. قاله الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

(ومنها): تكرير الفتوى، والندب إلى المبادرة إلى الامتثال الأمر، وزجر من لم يبادر إلى ذلك، وتوبيخه. (ومنها): جواز مسايرة الكبار في السفر. (ومنها): أن الكبير إذا رأى مصلحة للصغير، لا يأنف عن إرشاده إليها. (ومنها): أن البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- استنبط من هذا الحديث جواز انتفاع الواقف بوقفه، حيث بوّب بقوله:"باب هل ينتفع الواقف بوقفه"، قال: وقد اشترط عمر لا جُناح على من وليه أن يأكل، وقد يلي الواقف وغيره، قال: وكذلك من جعل بدنة، أو شيئًا للَّه، فله أن ينتفع بها كما ينتفع غيره، وإن لم يشترط انتهى.

قال وليّ الدين: وقد قال أصحابنا يجوز أن ينتفع الواقف بأوقافه العامة كآحاد الناس كالصلاة في بقعة جعلها مسجدًا، أو الشرب من بئر وقفها، والمطالعة في كتاب وقفه على المسلمين، والشرب من كيزان سبّلها على العموم، والطبخ في قِدر وقفها على العموم أيضًا، والمشهور عندهم منع وقف الإنسان على نفسه، وهو المنصوص للشافعيّ، ومع ذلك، فاختلفوا فيما لو شرط الواقف النظر لنفسه، وشرط أجرة، هل يصحّ هذا الشرط. وقال النوويّ: الأرجح هنا جوازه. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، ويتقيد ذلك بأجرة المثل انتهى

(2)

.

(ومنها): أن جواز ركوب الهدي ما لم يضرّ به الركوب؛ لحديث جابر رضي الله عنه الآتي بعد باب: "اركبها بالمعروف". وهذا متّفق عليه بين العلماء. قال وليّ الدين: قال الشافعيّة، والحنفية: ومتى نقصت بالركوب ضمن النقصان. ومقتضى نقل ابن عبد البرّ عن مالك أنه لا يضمن انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما نقل عن مالك هو ظاهر الحديث. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أنه قال الشافعية، والحنفيّة: كما يجوز ركوبها، يجوز الحمل عليها. ورواه ابن أبي شيبة، عن عطاء، وطاوس. ومنع مالك الحمل عليها، وقال: لا يركبها بالمحمل، حكاه ابن المنذر. وظاهر إطلاق الحديث أن له أن يركبها كيف شاء، ما لم يضرّ بها. والحمل مقيس على الركوب. أفاده وليّ الدين.

(ومنها): ما قيل: أنه كما يجوز له الركوب بنفسه يجوز له إقامة غيره في ذلك مقامه

(1)

- "فتح" 4/ 355.

(2)

- "طرح التثريب" 5/ 147 - 148.

ص: 322

بالعارية. وحكى ابن المنذر عن الشافعيّ أنه قال: له أن يحمل المعيي، والمضطرّ على هديه. ونقل القاضي عياض الإجماع على منع إجارتها؛ لأنها بيع للمنافع.

(ومنها): أن بعضهم ألحق بالهدايا في ذلك الضحايا، فله أن يركبها إذا احتاج إلى ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم ركوب الهدايا:

اختلفوا في هذا على مذاهب:

(أحدها): الجواز مطلقًا. حكاه ابن المنذر عن عروة بن الزبير، وأحمد، وإسحاق. وكذا حكاه النوويّ في "شرحي مسلم، والمهذب" عنهم، وعن مالك في رواية، وعن أهل الظاهر. وحكاه الخطابيّ عن أحمد، وإسحاق، وصرّح عنهما بأنهما لم يشترطا منه حاجة إليه. وهذا هو الذي جزم به الرافعيّ، والنوويّ في "الروضة" في "كتاب الضحايا". وحكاه النوويّ في "شرح المهذّب" عن الماورديّ، والقفال.

(الثاني): الجواز بشرط الاحتياج لذلك، ولا يركبها من غير حاجة. قال النوويّ في "شرح مسلم": إنه مذهب الشافعيّ، ونقله في "شرح المهذّب" عن تصريح الشيخ أبي حامد، والبندنيجيّ، والمتولّي، وصاحب "البيان"، وآخرين، قال: وهو ظاهر نصّ الشافعيّ، فإنه قال: يركب الهدي إذا اضطرّ إليه.

وتقييد الجواز بشرط الحاجة هو المشهور من مذهب مالك، وأحمد. وجزم المجد ابن تيمية في "المحرّر" بجواز ركوبها مع الحاجة ما لم يضر بها، وبهذا قال ابن المنذر، وجماعة، ورواه ابن أبي شيبة عن الحسن البصريّ، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وحكاه الترمذيّ عن الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.

(الثالث): الجواز بشرط الاضطرار لذلك، نقله ابن المنذر عن الشافعيّ، فقال: وقال الشافعيّ: يركبها إذا اضطرّ ركوبًا، غير قادح، ولا يركبها إلا من ضرورة. وكذا حكى الخطابيّ عن الشافعيّ، ورواه مالك في "الموطإ" عن عروة بن الزبير. وقال ابن المنذر في "الإشراف": وقال أصحاب الرأي: لا يركبها، وإن احتاج، ولم يجد منه بدًّا حمل عليه، وركبه. وروى ابن أبي شيبة عن الشعبيّ، قال: لا يركب البدنة، ولا يحمل عليها إلا مِنْ أَمْرٍ لا يجد منه بدًّا. وحكاه الخطابيّ عن الثوريّ. وقال ابن عبد البرّ: الذي ذهب إليه مالك، وأبو حنيفة، والشافعيّ، وأصحابهم، وأكثر الفقهاء كراهية ركوب الهدي من غير ضرورة انتهى.

(الرابع): منع ركوبها مطلقًا. قال ابن المنذر: وقال الثوريّ في قوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} قال: الولد، واللبن، والركوب، فإذا سُمِّيت بدنًا ذهبت المنافع. وروى ابن أبي

ص: 323

شيبة عن مجاهد: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قال: في ألبانها، وظهورها، وأوبارها حتى تسمّى بدنًا، فإذا سميت بدنًا فمحلها إلى البيت العتيق.

(الخامس): وجوب ركوبها، حكاه القاضي عياض، وابن عبد البرّ عن بعض أهل الظاهر؛ تمسكًا بظاهر الأمر، ولخالفة ما كانوا عليه في الجاهلية من البحيرة، والسائبة.

قال الحافظ وليّ الدين: فمن قال بالجواز مطلقًا تمسّك بظاهر هذا الحديث، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، والأمر هنا للإباحة، ولم يقيّد ذلك بشيء، ومن قيّد الجواز بالحاجة، أو الضرورة قال: هذه واقعة محتملة، وقد دلّت رواية أخرى على أن هذا الرجل كان محتاجا للركوب، أو مضطرًّا له.

روى النسائيّ عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة، وقد جهده المشي قال: "اركبها

" الحديث

(1)

، وفي "صحيح مسلم" عن أبي الزبير، قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه سئل عن ركوب الهدي، فقال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "اركبها بالمعروف، إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرًا"

(2)

. ورواه مسلم أيضًا من هذا الوجه بدون قوله: "إذا ألجئت إليها".

ومن منع مطلقًا، فهذا الحديث حجة عليه، ولعله لم يبلغه، ولعل أحدًا لم يقل بهذا المذهب، ويكون معنى قول الثوريّ: ذهبت المنافع، أي بالملك، وإن بقيت بالارتفاق.

ومن أوجب فإنه حمل الأمر على الوجوب، ووجهه أيضًا مخالفة ما كانت الجاهليّة عليه من إكرام البَحِير، والسائبة، والوصيلة، والحامي، وإهمالها بلا ركوب.

ودليل الجمهور أنه صلى الله عليه وسلم أهدى، ولم يركب هدية، ولم يأمر الناس بركوب الهدايا. انتهى كلام وليّ الدين ببعض تصرّف

(3)

.

قال الحافظ: وفيه نظر؛ لما تقدّم من حديث عليّ رضي الله عنه، وله شاهد مرسل عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح، ورواه أبو داود في "المراسيل" عن عطاء:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها، ويركبها غير منهكها، قلت: ماذا؟ قال: الرجل الراجل، والمتبع السير، فإن نُتجت حمل عليها ولدها".

ولا يمتنع القول بوجوبه إذا تعيّن طريقًا إلى إنقاذ مهجة إنسان من الهلاك. انتهى كلام الحافظ.

(1)

- هو الحديث الآتي في الباب التالي.

(2)

- هو الحديث الآتي بعد باب.

(3)

- "طرح التثريب" 5/ 144 - 146.

ص: 324

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- من وجوب الركوب عند شدة الحاجة حسنٌ جدًّا.

والحاصل أن ركوب الهدي بالمعروف جائز عند الاضطرار حتى تزول الضرورة، والدليل على اعتبار هذه القيود حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم، والآتي للمصنّف بعد باب:"اركبها بالمعروف إذ أُلجئت إليها حتى تجد ظهرًا"، فإن مفهومه أنه يركبها بلا إلحاق ضرر بها، إذا كان هو مضطرًّا لركوبها، وأنه إذا وجد غيرها تركها. ثم إنه إذا كان يخاف على نفسه إن لم يركب كان ركوبها واجبًا عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: قال في "الفتح": واختلف المجيزون، هل يحمل عليها متاعه؟ فمنعه مالك، وأجازه الجمهور. وهل يحمل عليها غيره؟ أجازه الجمهور أيضًا على التفصيل المتقدّم. ونقل القاضي عياض الإجماع على أنه لا يؤجرها. وقال الطحاويّ في "اختلاف العلماء": قال أصحابنا، والشافعيّ: إن احتلب منها شيئًا تصدّق به، فإن أكله تصدّق بثمنه، ويركب إذا احتاج، فإن نقصه ذلك ضمن. وقال مالك: لا يشرب من لبنه، فإن شرب لم يَغرَم، ولا يركب إلا عند الحاجة، فإن ركب لم يغرم. وقال الثوريّ: لا يركب إلا إذا اضطرّ. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

2800 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ:«ارْكَبْهَا» ، قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ:«ارْكَبْهَا» ، قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ فِي الرَّابِعَةِ:«ارْكَبْهَا وَيْلَكَ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"عبدة": هو ابن سليمان. و"سعيد": هو ابن أبي عروبة.

والحديث متفق عليه، أخرجه المصنف هنا -74/ 2800 و 75/ 2801 - وفي "الكبرى" 73/ 3782 و 74/ 3783. وأخرجه (خ) في 1695 "الحجّ" و 2754 "الوصايا" و"الأدب" 6159 (م) في "الحج" 1322، وشرحه يعلم من شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

- "فتح" 4/ 356.

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 325

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌75 - (رُكُوبُ الْبَدَنَةِ لِمَنْ جَهَدَهُ الْمَشْيُ)

2801 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ،، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً، وَقَدْ جَهَدَهُ الْمَشْيُ، قَالَ: «ارْكَبْهَا» ، قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: «ارْكَبْهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَدَنَةً»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد عندهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.

و"خالد": هو ابن الحارث الهجيميّ البصريّ. و"حميد": هو الطويل البصريّ. و"ثابت": هو البنانيّ البصريّ. والسند مسلسل بالبصريين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه، أحد المكثرين السبعة، روى (2286) من الأحاديث، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة (1) أو (2) أو (93)، وقد جاوز مائة سنة. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفق عليه، وشرحه يعلم من شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي. وقوله:"وقد جهده المشي": أي شقّ عليه، وأضرّ به. يقال: جهده الأمر، والمرض، من باب نَفَع جَهْدًا: إذا بلغ منه المشقّة، ومنه جهد البلاء. قاله الفيّوميّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌76 - (رُكُوبُ الْبَدَنَةِ بِالْمَعرُوفِ)

2802 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يُسْأَلُ عَنْ رُكُوبِ الْبَدَنَةِ، فَقَالَ:

ص: 326

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:"ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ، إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيهَا، حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفيّ، أبو حفص البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت إمام [9] 4/ 4.

3 -

(ابن جريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، نسب لجدّ، الأمويّ مولاهم، أبو الوليد، وأبو خالد المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلس، ويرسل [6] 28/ 32.

4 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4] 31/ 35.

5 -

(جابر بن عبد اللَّه) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، ويحيى، فبصريان. (ومنها): أن فيه جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن أبي الزبير -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (قال: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) - رضي اللَّه تعالى - عنهما (يُسْأَلُ عَنْ رُكُوبِ الْبَدَنَةِ) ببناء الفعل للمفعول، وفي رواية لمسلم: "عن أبي الزبير، قال: سألت جابرًا عنَ ركوب الهدي

" الحديث. فتبيّن أن السائل المبهم في رواية المصنّف هو أبو الزبير نفسه (فَقَالَ) جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: (ارْكَبْهَا بِالْمَعرُوفِ) أي بالخير، والرفق، والإحسان. قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: يعني بالرفق في الركوب، والسير على الوجه المعروف، من غير عنف، ولا إفحاش. انتهى

(1)

(إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا) بالبناء للمفعول، يقال: ألجأته إلى كذا، ولَجَّأته بالهمزة، والتضعيف: اضطررته، وأكرهته. أفاده الفيّوميّ. والمعنى هنا: أي إذا اضطُرِرت إلى ركوبها (حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا) قال ابن الأثير: الظهر: الإبل التي يُحمل عليها، وتركب، يقال: عند فلان ظهر: أي إبلٌ، وتُجمع على ظُهران بالضمّ انتهى

(2)

. وفي "اللسان": الظهر: الرِّكاب التي تحمل الأثقال في السفر؛ لحملها إياها على ظُهُورها انتهى.

(1)

- "المفهم" 3/ 423.

(2)

- "النهاية" 3/ 166.

ص: 327

والمعنى اركب البدنة إلى أن تجد راحلة ليست هديًا، فتركبَها بدلاً عن ركوب هديك. واللَّه تعالى أعلم.

قال السنديّ: وهل بعد أن ركب اضطرارًا له المداومة على الركوب، أو لا بدّ من النزول إذا رأى قوّة على المشي، قولان. وقد يؤخذ من قوله:"حتى تجد ظهرًا" ترجيح القول الأول، وقد يُمنَعُ ذلك بأنها ليست غاية لمداومة البركوب عليها، بل هي غاية لجواز الركوب كلما أُلجىء إليه، أي له أن يركب كلما ألجىء إلى أن يجد ظهرًا، فليتأمّل انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -76/ 2802 - وفي "الكبرى" 75/ 3784. وأخرجه (م) في "الحجّ" 1324 (د) في "المناسك" 1761. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌77 - (إِبَاحَةُ فَسْخِ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: معنى فسخ الحجّ هو أن من أحرم بالحجّ مفردًا، أو قارنا، ولم يسق الهدي، وطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة قبل الوقوف بعرفة يفسخ نيته بالحج، وينوي عمرة مفردة، فيقصّر، ويحلّ من إحرامه، ثم يحجّ؛ ليصير متمتعًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2803 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ

(1)

- "شرح السنديّ" 5/ 177.

ص: 328

الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا نُرَى إِلاَّ الْحَجَّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ، طُفْنَا بِالْبَيْتِ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ، أَنْ يَحِلَّ، فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ، فَأَحْلَلْنَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحِضْتُ، فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَرْجِعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ، قَالَ:«أَوَمَا كُنْتِ طُفْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا مَكَّةَ؟» ، قُلْتُ: لَا، قَالَ:«فَاذْهَبِي مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ مَوْعِدُكِ مَكَانُ كَذَا وَكَذَا» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن قُدامة) بن أعين الهاشميّ مولاهم المصّيصيّ، ثقة [10] 137/ 214.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبّيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، قيل: كان يَهِم من حفظه [8] 2/ 2.

3 -

(منصور) بن المعتمر السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقة ثبت [6] 2/ 2.

4 -

(إبراهيم) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقة فقيه، يرسل كثيرًا [5] 29/ 33.

5 -

(الأسود) بن يزيد النخعيّ، أبو عمرو الكوفيّ، مخضرم ثقة مكثر فقيه [2] 29/ 33.

6 -

(عائشة) بنت الصدّيق - رضي اللَّه تعالى عنهما - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فمصّيصيّ، وعائشة رضي الله عنها فمدنية. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه رواية الراوي عن خاله، فالأسود خال لإبراهيم، فإن أمه مليكة بنت يزيد، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) من الأحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: خَرَجْنَا) أي من المدينة (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وتقدم في -16/ 2650 - أنها قالت: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة

" (وَلَا نُرَى إِلاَّ الْحَجَّ) بضم النون، ألا نظنّ، وبفتحها، وهو أقرب، أي لا نعزم، ولا ننوي (فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ، طُفْنَا بالْبَيْتِ) المراد طواف الصحابة غيرها، وإلا فهي حائض، لم تطف، كما يأتي قريبًا. وجمَلة "طفنا" جواب "لمّّا" (أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ

ص: 329

- صلى الله عليه وسلم) هكذا نسخ "المجتبى" بدون عاطف، والجملة مستأنفة جوابًا لسؤال مقدر، كأن سائلاً قال: فبماذا أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأجابت بقولها:"أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ". وفي "الكبرى": "فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " بالفاء العاطفة، وهو واضح.

(مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ، أَنْ يَحِلَّ) بضم أوله، من الإحلال، أو من الحلّ، ويؤيّد الثاني قوله (فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ) أي تحلّل الذين لم يسوقوا الهدي بعمل العمرة، وهذا محلّ الترجمة، ففيه إباحة فسخ الحجّ بعمل العمرة لمن لم يسق الهدي، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة الآتية، إن شاء اللَّه تعالى (وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ) أي الهدي (فَأحْلَلْنَ) أي بعمل العمرة، وعائشة منهن، لكنها لم تحلل من أجل حيضها، كما أوضحه قولها:"فلم أطف بالبيت"(قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحِضْتُ) أي بسرف، كما تقدم (فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ) أي لنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم لها عن ذلك حتى تطهر (فَلَمَّا كَانَتْ لَيلَةُ الْحَصْبَةِ) بفتح الحاء، وسكون الصاد المهملتين: هي الليلة التي بعد أيام التشريق، وسميت بذلك لأنهم نفروا من منى، فنزلوا في المحصّب، وباتوا به. قاله النوويّ

(1)

(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَرْجِعُ النَّاسُ بعُمْرَة وَحَجَّةٍ) أي بعمرة مفردة، وحجة مفردة (وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ) هي الحجة التي أدخلتهَا على عمرتها قبل أن تحلل لأجل حيضها، فصارت قارنة، ودخلت أفعال العمرة في الحجة، فأرادت أن تعتمر عمرة مفردة كسائر أمهات المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنهنّ - (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَوَ مَا كُنْتِ طُفْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنا مَكَّةَ؟) لعله صلى الله عليه وسلم نسي كونها حائضًا، وإلا فقد أخبرته في أول حيضتها، فأمر أن تبقى على إحرامها غير أن لا تطوف بالبيت (قُلْتُ: لَا) أي لم أطف لأجل الحيض (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَاذْهَبِي مَعَ أَخِيكِ) عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق، شقيقها - رضي اللَّه تعالى عنهم - (إِلَى التَّنْعِيمِ) بفتح المثناة، وسكون النون، وكسر المهملة: موضع معروف خارج مكة، وهو على أربعة أميال من مكة إلى جهة المدينة، كما نقله الفاكهيّ. وقال المحبّ الطبريّ: التنعيم أبعد من أدنى الحلّ إلى مكة بقليل، وليس بطرف الحلّ، بل بينهما نحو من ميل، ومن أطلق عليه أدنى الحلّ، فقد تجوّز. قال الحافظ: أو أراد بالنسبة إلى بقية الجهات. وروى الفاكهيّ من طريق عبيد بن عمير، قال: إنما سمي التنعيم لأن الجبل الذي عن يمين الداخل يقال له: ناعم، والذي عن اليسار يقال له: منعم، والوادي نعمان. وروى الأزرقي من طريق ابن جريج، قال: رأيت عطاء يصف الموضع الذي اعتمرت منه عائشة، قال: فأشار إلى الموضع الذي ابتنى فيه محمد بن عليّ بن شافع المسجد الذي

(1)

- "شرح مسلم" 8/ 380 - 381.

ص: 330

وراء الأكمة، وهو المسجد الخرب. ونقل الفاكهيّ عن ابن جريج وغيره أن ثَمَّ مسجدين يزعم أهل مكة أن الخرب الأدنى من الحرم هو الذي اعتمرت منه عائشة.

وقيل: هو المسجد الأبعد على الأكمة الحمراء. ورجحه المحبّ الطبريّ. وقال الفاكهيّ: لا أعلم إلا أني سمعت ابن أبي عمر يذكر عن أشياخه أن الأول هو الصحيح عندهم. قاله في "الفتح"

(1)

(فَأهِلَّي بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ مَوْعِدُكِ) أي محلّ الوعد للقاء (مَكَانُ كَذَا وَكَذَا) هو المحصّب الذي تقدّم ذكره، ففي رواية البخاريّ من طريق القاسم، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"فنزلنا المحصّب، فدعا عبد الرحمن، فقال: "اخرج بأختك الحرم، فلتهلّ بعمرة، ثم افرغا من طوافكما، أنتظركما ههنا

" الحديث. فدلّ على أن الموعد هو المحصّب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدّم في -16/ 2650 - وتقدم بيان مسائله هناك، وقد بقي هنا الكلام فيما ترجم له المصنّف رحمه الله تَعَالَي-، فأقول:

[مسألة]: في بيان اختلاف أهل العلم في حكم فسخ الحج بعمل العمرة لمن لم يسق الهدي:

اختلفوا في هذا الفسخ، هل هو خاصّ بالصحابة تلك السنة، أم عامّ لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة؟.

فذهب أحمد، والظاهريّة، وعامّة أهل الحديث إلى أنه ليس خاصًّا، بل هو باق إلى يوم القيامة، فيجوز لكلّ من أحرم بحجّ مفردًا، أو قارنًا، وليس معه هديٌ أن يقلب إحرامه عمرة، ويتحلّل بأعمالها.

وذهب مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وجماهير العلماء، من السلف والخلف إلى أنه مختصّ بهم في تلك السنة، لا يجوز بعدها، وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهليّة، من تحريم العمرة في أشهر الحجّ.

واستدلّ للجمهور بحديث أبي ذرّ رضي الله عنه عند مسلم: "قال: كانت المتعة في الحجّ لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصّة"، وفي رواية:"قال: كانت لنا رخصة" يعني المتعة في الحجّ، ومراد أبي ذرّ رضي الله عنه بالمتعة المذكورة المتعة التي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بها أصحابه، وهي فسخ الحج إلى العمرة، واستدلوا على أن الفسخ المذكور هو مراد أبي ذرّ رضي الله عنه

(1)

- "فتح" 4/ 444 - 445.

ص: 331

بما رواه أبو داود بسنده أن أبا ذرّ رضي الله عنه كان يقول فيمن حجّ، ثم فسخها بعمرة: لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قالوا: فهذه الرواية فيها التصريح من أبي ذرّ بفسخ الحجّ بالعمرة، وهي تفسير مراده بالمتعة في رواية مسلم.

وردّ عليهم بأن هذه الرواية ضعيفة؛ لأن في سندها محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وقد رواه بالعنعنة.

واستدلوا أيضًا بما رواه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ

(1)

، وابن ماجه، والدارميّ من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول اللَّه، فسخ الحجّ لنا خاصّة، أم للناس عامة؟، قال:"بل لكم خاصّة".

وردّ عليهم بأنه ضعيف أيضًا لجهالة الحارث بن بلال. وقال أحمد -رحمه اللَّه تعالى-: حديث بلال بن الحارث عندي ليس يثبت، ولا أقول به، ولا يُعرف هذا الرجل -يعني الحارث بن بلال- قال: وقد روى فسخ الحجّ إلى العمرة أحد عشر صحابيًّا، أين يقع الحارث بن بلال منهم؟.

وأيضا حديث أبي ذرّ رضي الله عنه موقوف عليه، وليس بمرفوع، وللاجتهاد فيه مجال، فلا يصلح لمعارضة الأحاديث المرفوعة الصحيحة الصريحة في ذلك.

والحاصل أن أدلّة القائلين بمشروعية الفسخ قويّة صريحة لا تحتمل التأويل، فوجب القول بها، فالحقّ أنه مشروع إلى يوم القيامة. واللَّه تعالى أعلم.

ثم اختلف القائلون بالفسخ في حكمه، هل هو واجب، أم مستحبّ؟:

فذهب الإمام أحمد إلى أنه مستحبّ، ومال فريق إلى أنه واجب، وبه قال ابن حزم، وابن القيّم، قال ابن حزم: وهو قول ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وإسحاق.

واستدلّوا بما رواه أحمد، وابن ماجه، وأبو يعلى، واللفظ لأحمد -18052 - من حديث البراء بن عازب - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: فأحرمنا بالحج، فلما قدمنا مكة، قال:"اجعلوا حجكم عمرة"، قال: فقال الناس: يا رسول اللَّه، قد أحرمنا بالحج، فكيف نجعلها عمرة؟، قال:"انظروا ما آمركم به، فافعلوا"، فردوا عليه القول، فغضب، ثم انطلق، حتى دخل على عائشة غضبان، فرأت الغضب في وجهه، فقالت: من أغضبك؟، أغضبه اللَّه، قال:"وما لي لا أغضب، وأنا آمر بالأمر، فلا أتبع".

قال ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: ونحن نشهد اللَّه علينا، أنا لو أحرمنا بحجّ لرأينا

(1)

- سيأتي برقم 2808.

ص: 332

فرضًا علينا فسخه إلى عمرة، تفاديا من غضب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واتباعًا لأمره، فواللَّه ما نسخ هذا في حياته، ولا بعده، ولا صحّ حرف واحد يعارضه، ولا خصّ به أصحابه، دون من بعدهم، بل أجرى اللَّه على لسان سراقة أن سأله هل ذلك مختصّ بهم؟، فأجابه بأن ذلك كائن لأبد الأبد، فما ندري ما يقدم على هذه الأحاديث، وهذا الأمر المؤكّد الذي غضب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على من خالفه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد أطال ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- في "الهدي" نفسه في تحقيق هذا المقام، وإيضاحه أتم إيضاح بما لا تراه في كتاب غيره، فعليك بمراجعته 2/ 180 - 223.

والحاصل أن الأرجح وجوب فسخ الحجّ بعمل العمرة لمن لم يسق الهدي ممن أحرم بالحجّ مفردًا، أو قارنًا؛ وإنما ملتُ إلى ترجيح الوجوب لتأكيد النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره، حيث غضب على الصحابة في توقفهم، كما تقدّم في حديث البراء - رضي اللَّه تعالى - عنه، فلو كان الأمر للندب لكان الصحابة مخيّرين بين فعله وتركه، ولما كان صلى الله عليه وسلم يغضب عليهم عند مخالفتهم له؛ لأنه لا يغضب إلا حيث تُنتهك حرمات اللَّه تعالى، لا لمجرد مخالفة ما أرشد إليه على جهة الندب، ولا سيّما وقد قالوا له: قد أحرمنا بالحجّ، فكيف نجعلها عمرة؟، فقال لهم:"انظروا ما آمركم به، فافعلوا"، فإن ظاهر هذا أن ذلك الأمر حتم لازم؛ إذ لو كان لبيان الأفضل، أو لقصد الترخيص لهم لبيّن لهم بعد هذه المراجعة، بأن يقول لهم: إن ما أمرتكم به هو الأفضل، أو قال لهم: إني أردت الترخيص لكم، والتخفيف عنكم.

وخلاصة الأمر أن من لم يسق الهدي عليه أن يتحلل بعمل العمرة، ثم ينشىء الحجّ يوم التروية من مكة، كما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك أمرًا مبرمًا جازمًا مطلقًا عامًّا إلى يوم القيامة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2804 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا نُرَى إِلاَّ أَنَّهُ الْحَجُّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَحِلَّ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.

و"يحيى" الأول هو القطّان، والثاني هو الأنصاريّ.

ص: 333

وقولها: "إلا أنه الحجّ" الضمير للنسك الذي أهلّوا به. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في الحديث الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2805 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ، خَالِصًا، لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، خَالِصًا وَحْدَهُ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ، مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «أَحِلُّوا، وَاجْعَلُوهَا عُمْرَةً» ، فَبَلَغَهُ عَنَّا أَنَّا نَقُولُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ، إِلاَّ خَمْسٌ، أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ فَنَرُوحَ إِلَى مِنًى، وَمَذَاكِيرُنَا تَقْطُرُ مِنَ الْمَنِيِّ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَخَطَبَنَا، فَقَالَ: «قَدْ بَلَغَنِي الَّذِي قُلْتُمْ، وَإِنِّي لأَبَرُّكُمْ، وَأَتْقَاكُمْ، وَلَوْلَا الْهَدْيُ لَحَلَلْتُ، وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي، مَا اسْتَدْبَرْتُ، مَا أَهْدَيْتُ» ، قَالَ: وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، فَقَالَ: «بِمَا أَهْلَلْتَ؟» ، قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «فَأَهْدِ، وَامْكُثْ حَرَامًا، كَمَا أَنْتَ» ، قَالَ: وَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ عُمْرَتَنَا هَذِهِ، لِعَامِنَا هَذَا، أَوْ لِلأَبَدِ؟ ، قَالَ: «هِيَ لِلأَبَدِ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) بن كثير الدَّوْرقيّ، أبو يوسف البغداديّ، ثقة حافظ [10] 21/ 22.

2 -

(ابن عليّة) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسم، أبو بشر البصريّ، ثقة ثبت [8] 18/ 19.

3 -

(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة فقيه فاضل، كثر الإرسال [3] 112/ 154، والباقيان تقدّما قبل باب. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين من ابن جريج. (ومنها): أن فيه جابرًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِر) بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: أَهْلَلْنَا) أي رفعنا أصواتنا بالتلبية (أَصْحَابَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على الاختصاص، وتقدّم أنه بالنظر للغالب، أو بالنظر لأول الأمر، فلا تنافي بينه، وبين حديث: "فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة

ص: 334

وعمرة، ومنا من أهل بالحج

الحديث (بالْحَجِّ خَالِصًا، لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ) هذا بيان لمعنى "خالصًا". وقوله (خَالِصًا وَحْدَهُ) مؤكّد لما قَبله (فقَدِمْنَا مَكَّةَ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ، مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) يعني أنهم وصلوا إلى مكة صباح الليلة الرابعة التي مضت من شهر ذي الحجة، وتلك الصبيحة صبيحة يوم الأحد (فَأمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَحِلُّوا، وَاجْعَلُوهَا عُمرَةً) أي اجعلوا الحجة التي قدمتم بها عمرة، بأن تطوفوا، وتسعوا، وتقصروا، وتتحللوا (فَبَلَغَهُ عَنَّا أَنّا نَقُولُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ، إِلَّا خَمْسٌ) أي خمس ليال، وهي ليالي: الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، الجمعة (أَمَرَنَا أَنْ نَحِلِّ) بضم أوله، وفتحه (فَنَرُوحَ إِلَى مِنًى، وَمَذَاكِيرُنَا تَقْطُرُ مِنَ الْمَنِيِّ) هذا كناية عن قرب جماع النساء (فَقَامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَخَطَبَنَا، فَقَالَ: قَدْ بَلَغَنِي الَّذِي قُلْتُمْ) أي من قولهم: لما لم يكن الخ (وَإِنِّي لأبَرُّكُمْ) أي أطوعكم للَّه تعالى (وَأَتْقَاكم) له سبحانه (وَلَوْلا الْهَدْيُ لَحَلَلْتُ) أي لولا سوقي الهدي معي من المدينة (وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي، مَا استَدْبَرْتُ) أي لو علمت في ابتداء شروعي ما علمته الآن من لحوق المشقّة بكم بانفرادكم بالفسخ، حتى توقفتم، وترددتم، وراجعتموني في ذلك (مَا أَهدَيْتُ") جواب "لولا"، أي ما سقت الهدي معي، بل أهللت بحج، ثم فسخت معكم، وهذا قاله صلى الله عليه وسلم تشجيعًا لهم على امتثال أمره.

(قَالَ) جابر رضي الله عنه (وَقَدِمَ عَليِّ) ابن أبي طالب رضي الله عنه (مِنَ الْيَمَنِ، فَقَالَ) له النبيّ صلى الله عليه وسلم ("بِمَا أَهْلَلْتَ؟ ")"ما" استفهامية، وثبتت ألفها مع الجارّ على قلّة.

[فائدة]: القاعدة في "ما" الاستفهاميّة عند الجمهور وجوب حذف ألفها إذا كانت مجرورة، كما في قوله تعالى:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ، قال ابن مالك -رحمه اللَّه تعالى- في "الخلاصة":

و"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ

أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ

وقد تثبت بقلة، كما في قول الشاعر:

عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ

كخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي الرَّمَادِ

وحكاه الأخفش لغة -رحمه اللَّه تعالى-،

(1)

، وإليه ذهب الفرّاء -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "معاني القرآن"، حيث أعرب "ما" في قوله تعالى:{بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} استفهاميّة، قال: وقد أتمّها الشاعر، وهي استفهاميّة، فقال [من البسيط]:

إِنَّا قَتَلْنَا بِقَتْلَانَا سَرَاتَكُمْ

أَهْلَ اللَّوَاءِ فَفِيمَا يَكْثُرُ الْقِيلُ

(2)

(1)

- انظر "التصريح على التوضيح" للشيخ خالد الأزهري 2/ 345.

(2)

- انظر "معاني القرآن" للفرّاء 2/ 374. وراجع أيضًا "الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" للسمين الحلبيّ 9/ 256 - 257.

ص: 335

واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) عليّ رضي الله عنه (بمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم)"ما" هنا موصولة، أي بمثل الإهلال الذي أهلّ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وفيه جواز تعليق الإحرام بإحرام غيره، كأن يقول: أهللت بما أهلّ به فلان، وقد تقدم البحث عنه مستوفًى (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَأَهْدِ) أي انحر هديًا؛ لأنه واجب عليك، لكونك قارنا، وفيه وجوب الهدي على القارن، وفيه ردّ على ابن حزم، حيث قال: لا يجب الهدي على القارن، وإنما هو على المتمتّع؛ لقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآية. والظاهر أنه ما انتبه لهذه الرواية، وإلا لما قال ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

(وَامْكُثْ حَرَامًا) منصوب على الحال، أي حالي كونك محرمًا (كَمَا أَنْتَ) أي على ما أنت عليه، فالكاف بمعنى "على"، أو هي للتشبيه، كن في مستقبلك مثل حالك فيما مضى وقد تقدم تمام البحث في هذا (قَالَ) جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - (وَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ) بن مالك بن عمرو بن تيم بن مُدلج ابن مرّة بن عبد مناة بن كنانة الكنانيّ المدلجيّ، وقد ينسب إلى جده، يكنى أبا سفيان، كان ينزل قُدَيدًا. روى البخاريّ قصّته في إدراكه النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا هاجر إلى المدينة، ودعا النبيّ عليه حتى ساخت رجلا فرسه، ثم إنه طلب منه الخلاص، وأنه لا يدلّ عليه، ففعل، وكتب له أمانًا، وأسلم يوم الفتح، ورواها أيضًا من طريق البراء بن عازب، عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه. وفي قصّة سراقة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول سراقة مخاطبًا لأبي جهل [من الطويل]:

أَبَا حَكَمٍ وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ شَاهِدًا

لأَمْرِ جَوَادِي إِذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهْ

عَلِمْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ بِأنَّ مُحَمَّدًا

رَسُولٌ بِبُرْهَانٍ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهْ

وقال ابن عيينة، عن إسرائيل أبي موسى، عن الحسن: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لسراقة ابن مالك: "كيف بك إذا لبست سِوَارَيْ كسرى؟ "، قال: فلما أُتي عمر بسواري كسرى، ومنطقته، وتاجه، دعا سراقة، فألبسه، وكان رجلاً أزبّ

(1)

، كثير شعر الساعدين، فقال له: ارفع يديك، قل: اللَّه أكبر، الحمد للَّه الذي سلبهما كسرى بن هُرْمُز، وألبسهما سراقة الأعرابيّ. وروى ذلك عنه ابن أخيه عبد الرحمن بن مالك بن جعشم. وروى عنه أيضًا ابن عباس، وجابر، وسعيد ابن المسيّب، وطاوس. قال أبو عمر: مات في خلاف عثمان سنة (24) وقتل من بعده عثمان

(2)

.

(1)

أي كثير شعر الصدر. قاله في "المصباح".

(2)

- راجع الإصابة ج 4/ 127 - 128.

ص: 336

(يَا رَسُولَ اللَّه، أَرَأَيْتَ) أي أخبرني (عُمْرَتَنَا هَذِهِ، لِعَامِنَا هَذَا، أَوْ لِلأَبَدِ؟) معناه: هل جواز فسخ الحجّ إلى العمرة لعامنا هذا خاصة، أم للأمة عامة إلى يوم القيامة (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (هِيَ لِلأَبَدِ) وفي رواية:"بل لأبد أبد" بإضافة الأول إلى الثاني، و"الأبد": الدهر، أي هذا لآخر الدهر، أو بغير الإضافة، وكرره للتأكيد. وزاد في رواية ابن الجارود، وأحمد:"ثلاث مرات". يعني أن ذلك جائز في كلّ عام، لا يختصّ بعام، دون آخر إلى يوم القيامة، وكرر ذلك ثلاثاً للتأكيد.

وفي رواية لمسلم: فقام سراقة، فقال: يا رسول اللَّه، ألعامنا هذا، أم للأبد؟، فشبك أصابعه واحدة في الأخرى، وقال:"دخلت العمرة في الحجّ مرتين، لا، بل للأبد أبدًا". فتشبيكه صلى الله عليه وسلم أصابعه إشارة إلى اشتراك كلّ الأعوام في ذلك بدون اختصاص أحدها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: قد اختَلَفَ العلماء في معنى سؤال سراقة، فقال الجمهور: معناه أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحجّ، إبطالاً لما كان عليه الجاهلية.

وقيل: معناه جواز القران، أي دخلت أفعال العمرة في أفعال الحجّ.

وقيل: معناه سقوط وجوب العمرة. قال الحافظ: وهذا ضعيف؛ لأنه يقتضي النسخ بغير دليل، وقال النوويّ: وسياق الحديث يقتضي بطلان هذا التأويل.

وقال آخرون: معناه فسخ الحجّ إلى العمرة. وهذا هو الذي يؤيّده سياق الحديث، وهو الراجح.

وأما قول النوويّ: إنه ضعيف، فقد رُدَّ عليه، قال الحافظ: وتُعقّب -أي كلام النوويّ- بأن سياق السؤال يقوّي هذا التأويل، بل الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ، والجواب وقع عما هو أعمّ من ذلك حتى يتناول التأويلات المذكورة، إلا الثالث انتهى

(1)

.

والحاصل أن الصواب أن سؤال سراقة عن فسخ الحجّ إلى العمرة، وجواب النبيّ صلى الله عليه وسلم له واضح في ذلك كما ترى؛ لأن الجواب مطابق للسؤال.

وحديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه، وقد تقدّم بيان مسائله في 51/ 2740 - واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2806 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ عُمْرَتَنَا هَذِهِ، لِعَامِنَا، أَمْ لأَبَدٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هِيَ لأَبَدٍ»).

(1)

- "فتح" 4/ 446.

ص: 337

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"محمد": شيخ ابن بشار هو ابن جعفر، غندر. و"عبد الملك": هو ابن ميسرة الهلاليّ، أبو زيد العامريّ الكوفيّ الزّرّاد، ثقة [4] 100/ 130.

وشرح الحديث تقدّم في الذي قبله. وهو حديث صحيح، أخرجه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا 77/ 2806 - وفي "الكبرى" 76/ 3788 و 3789. وأخرجه (ق) في "المناسك" 2977 (أحمد) في "مسند الشاميين" 17132. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2807 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: قَالَ: سُرَاقَةُ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ، فَقُلْنَا: أَلَنَا خَاصَّةً، أَمْ لأَبَدٍ؟ قَالَ: «بَلْ لأَبَدٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبدة": هو ابن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقة ثبت، من صغار [8] 7/ 339. و"ابن أبي عروبة": هو سعيد.

و"مالك بن دينار" الساميّ الناجيّ مولاهم الزاهد، أبو يحيى البصريّ، كان أبوه من سبي سِجِسْتان. وقيل: من كابل. صدوق عابد [5].

قال النسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال الأزدي: تَعرِف، وتُنكِر. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان يكتب المصاحف بالأجرة، ويتقوّت بأجرته، وكان لا يأكل شيئًا من الطيبات، وكان من المتعبّدة الصُّبْر، والمتقشّفة الْخُشْن.

قال السريّ بن يحيى: مات سنة (127). وقال غيره: سنة (123). وقال خليفة بن خياط: سنة (130). وقال ابن حبّان: والصحيح أنه مات قبل الطاعون، وكان الطاعون سنة إحدى وثلاثين. علق له البخاريّ، وأخرج له الأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث برقم 2807 و 3727 و5555.

وقوله: "تمتع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " قد سبق أن التمتع بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم معناه القرآن؛ لأن التمتع يطلق عليه أيضًا، وأما بالنسبة للصحابة رضي الله عنهم فهو التمتع بمعناه المشهور عند الفقهاء. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح، وقد سبق البحث فيه مستوفًى قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2808 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

عَبْدُ الْعَزِيزِ -وَهُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ- عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 338

أَفَسْخُ الْحَجَّ لَنَا خَاصَّة، أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّة؟، قَالَ:"بَلْ لَنَا خَاصَّةً").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه.

و"عبد العزيز": هو ابن محمد الدراورديّ المدنيّ، صدوق، يحدث من كتب غيره، فيخطىء [8] 84/ 101. و"ربيعة بن أبي عبد الرحمن" فَرُّوخ التيميّ، أبو عثمان المدنيّ المعروف بربيعة الرأي، ثقة فقيه مشهور [5] 36/ 729.

و"الحارث بن بلال" بن الحارث المزنيّ المدنيّ، مقبول [3].

روى عن أبيه. وعنه ربيعة بن أبي عبد الرحمن حديثًا واحدًا في فسخ الحجّ، قال الإمام أحمد: ليس إسناده بالمعروف. روى له أبو داود، والمصنّف، وابن ماجه هذا الحديث فقط.

و"بلال بن الحارث" المزنيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطاب، وابن مسعود. وعنه ابنه الحارث، وعلقمة بن وقّاص، وعمرو بن عوف -إن كان محفوظًا- والمغيرة بن عبد اللَّه اليشكريّ. ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من المهاجرين. وقال أحمد بن عبد اللَّه بن الْبَرْقيّ: يقال: إن بلال بن الحارث كان أول من قَدِم المدينة من مزينة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في رجال من مزينة سنة خمس من الهجرة. قال المدائنيّ، وغيره: مات سنة (60) وله (80) سنة.

روى له الأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

والحديث ضعيف؛ لجهالة الحارث بن بلال، وأخرجه المصنّف هنا -77/ 2808 - وفي "الكبرى" 76/ 3790. وأخرجه (د) في "المناسك" 1808 (ق) في "المناسك" 2984 (أحمد) في "مسند المكيين" 25426 (الدارميّ) في "المناسك" 1855. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث لا يعارض الأحاديث الصحيحة الصريحة في كون الفسخ عامًّا للأمة إلى يوم القيامة؛ لما ذكرت آنفًا أنه ضعيف، ولقد أجاد الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى-، وشفى وكفى، فيما ذكره ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى- في "المغني"، فقال: سئل أحمد بن حنبل: يا أبا عبد اللَّه كلّ شيء منك حسنٌ جميل إلا خصلة واحدة، فقال: ما هي؟ قال: تقول بفسخ الحجّ، فقال أحمد: -يعني للسائل-: قد كنت أرى أن لك عقلاً، عندي ثمانية عشر حديثًا صحيحًا جيادًا، كلها في فسخ الحجّ، أتركها لقولك؟ انتهى

(1)

. وقد تقدّم البحث في هذه المسألة مستوفًى قريبًا،

(1)

- انظر "المغني" 3/ 416، و"المنح الشافيات" 1/ 304. والذي سأل أحمد هو إبراهيم الحربيّ. من هامش تيسير الفقه الجامع للاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 517.

ص: 339

فارجع إليه تزدد علمًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعمِ الوكيل.

2809 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، وَعَيَّاشٍ الْعَامِرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، فِي مُتْعَةِ الْحَجِّ، قَالَ: كَانَتْ لَنَا رُخْصَةً).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه عمرو بن يزيد أبو بُرَيد الجرميّ البصريّ، فإنه من أفراده، وقد وثّقه هو. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ.

و"عيّاش" بن عمرو العامريّ التميميّ الكوفيّ، ثقة [5].

قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقة. وكذا قال النسائيّ. وقال أبو حاتم: صالح. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له مسلم، والمصنّف، وله عندهما هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: قوله: "وعياش العامريّ" بالجرّ عطفًا على "الأعمش"، فسفيان يروي عن الأعمش، وعيّاش كليهما، وهما يرويان عن إبراهيم التيميّ، ولذا يقدّر لفظة "كلاهما" قبل قوله:"عن إبراهيم التيميّ"، فما يوجد في نسخ "المجتبى" المطبوعة مضبوطًا بالقلم برفع "وعياش العامريّ" غلط، فتنبّه.

و"إبراهيم التيمي": هو إبراهيم بن يزيد بن شريك التيميّ، أبو أسماء الكوفي العابد الثقة [5] 121/ 170.

و"يزيد بن شريك" بن طارق التميميّ الكوفيّ، ثقة، أدرك الجاهلية [2] 3/ 690.

و"أبو ذرّ" الغفاريّ الصحابيّ المشهور اختلف في اسمه، واسم أبيه على أقوال، والمشهور جندب بن جُنادة - رضي اللَّه تعالى عنه - 203/ 322.

وقوله: "متعة الحجّ" قال النوويّ عند شرح روايات حديث أبي ذرّ رضي الله عنه التي ساقها مسلم -رحمه اللَّه تعالى-: قال العلماء: معنى هذه الروايات كلها أن فسخ الحجّ إلى العمرة كان للصحابة في تلك السنة، وهي حجة الوداع، ولا يجوز بعد ذلك، وليس مراد أبي ذرّ إبطال التمتع مطلقًا، بل مراده فسخ الحجّ كما ذكرنا انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا قالوا، ولكن الظاهر أن أبا ذرّ لا يقول بمشروعية المتعة مطلقًا، سواء كان التمتع المعروف الذي هو القدوم بالعمرة من الميقات، ثم التحلل، ثم الحج في عامه، أم التمتع الذي هو فسخ الحج إلى العمرة، وقد سبق أن عمر، وعثمان، ومعاوية رضي الله عنهم، كانوا ينهون عن التمتع مطلقًا، فالظاهر أن مذهب أبي ذرّ رضي الله عنه -

ص: 340

من نوع مذهب هؤلاء، وليس هناك دليل على أنه يريد الفسخ فقط، والحديث، وإن كان صحيحًا، لكنه موقوف، فلا يعارض المرفوع الثابت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من عدّة طرق، فقد تقدّم أن فسخ الحجّ مرويّ عن بضعة عشر صحابيًّا، وقد ثبت أن عمر، وعثمان - رضي اللَّه تعالى عنهما - كانا ينهيان عن التمتّع، ولكن ذلك لم يعارض به ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكذلك ما قاله أبو ذرّ رضي الله عنه هنا من دعوى الخصوصية بالصحابة لا يعارض المرفوع، بل هذا رأي رآه هو، كما رآى غيره، فيقدّم ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من أن فسخ الحجّ عامّ لجميع الأمة إلى يوم القيامة، كما تقدّم تحقيق ذلك قريبًا.

والحديث موقوفٌ صحيح الإسناد، أخرجه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا -77/ 2809 و 2810 و 2811 و 2812 - وفي "الكبرى" 76/ 3791 و 3792 و 3793 و 3794. وأخرجه (م) في "الحجّ" 1224 (ق) في "المناسك" 2985. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2810 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا:: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْوَارِثِ بْنَ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: فِي مُتْعَةِ الْحَجِّ: لَيْسَتْ لَكُمْ، وَلَسْتُمْ مِنْهَا فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا كَانَتْ رُخْصَةً لَنَا، أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيحين، غير:

1 -

(عبد الوارث بن أبي حنيفة) ويقال: عبد الأكبر. ويقال: عبد الأكرم الكوفيّ، مقبول [7].

روى عن أبيه، وإبراهيم التيميّ، والشعبيّ. وعنه شعبة. قال ابن أبي حاتم: عبد الوارث بن أبي حنيفة، ويقال: عبد الأكرم، كوفيّ، سمعت أبي يقول: هو شيخ. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وحكى مسلم أن محمد بن جعفر تفرّد عن شعبة بقوله: عبد الوارث، وأن معاذ بن معاذ قال عن شعبة: عبد الأكبر، وقال باقي أصحاب شعبة: عبد الأكرم، وقال: كلّ ذلك واحد، إلا أنهم اختلفوا انتهى. تفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

والحديث موقوف صحيح

(1)

، سبق البحث فيه في الحديث الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2811 -

(أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ

(1)

لا يقال: فيه عبد الوارث، وهو مقبول يحتاج إلى متابع؛ لأن الأعمش تابعه، كما في السند التالي. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 341

إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: كَانَتِ الْمُتْعَةُ رُخْصَةً لَنَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا. و"سليمان": هو الأعمش.

والحديث موقوف صحيح الإسناد، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2812 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُفَضَّلُ بْنُ مُهَلْهَلٍ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، فَقُلْتُ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَجْمَعَ الْعَامَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَوْ كَانَ أَبُوكَ لَمْ يَهُمَّ بِذَلِكَ، قَالَ: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: إِنَّمَا كَانَتِ الْمُتْعَةُ لَنَا خَاصَّةً).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح. و"بيان": هو ابن بشر الأحمسيّ الكوفيّ الثقة الثبت [5] 66/ 954.

و"عبد الرحمن بن أبي الشعثاء" سليم بن الأسود، أخو الأشعث المحاربيّ الكوفيّ، مقبول [6].

روى عن إبراهيم التيميّ، وإبراهيم النخعيّ. وعنه بيان بن بشر. روى له مسلم، والمصنّف هذا الحديث متابعة فقط.

وقوله: "أن أجمع العام الحجّ والعمرة" الظاهر أنه أراد التمتع الذي هو فسخ الحج بعمل العمرة، ثم الحج بعده، لا أنه أراد القران، ويحتمل أنه أراد التمتع المعروف، فيكون رد إبراهيم عليه بناء على مذهب بعض الصحابة الذين تقدم أنهم ينهون عن التمتّع، كما سبق قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "فقال إبراهيم" يعني النخعيّ، كما بينه في رواية مسلم.

وقوله: "لو كان لم يهم بذلك" بفتح حرف المضارعة، من همّ بالشيء، من باب قتل: إذا أرده، ولم يفعله. قاله الفيّوميّ.

يعني أن أبا الشعثاء سُليم الأسود لا يريد ما أراده ولده عبد الرحمن من التمتع، ولعلّ إبراهيم عرف مذهب أبي الشعثاء في ذلك، وأنه كان لا يرى التمتع، كما هو مذهب أبي ذز رضي الله عنه. وهذا الذي قاله إبراهيم رأيه، كما هو رأي أبي ذرّ رضي الله عنه، وإلا فما هَمَّ به عبد الرحمن هو السنة الثابتة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلا يردّ عليه بمثل هذا الردّ.

والحديث موقوفٌ صحيح الإسناد، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 342

2813 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ وَاصِلِ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ وُهَيْبِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانُوا يُرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الأَرْضِ، وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرَ، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَأَ الدَّبَرْ، وَعَفَا الْوَبَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ، أَوْ قَالَ: دَخَلَ صَفَرْ، فَقَدْ حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ، فَقَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَصْحَابُهُ، صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ، مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْحِلِّ؟ ، قَالَ: «الْحِلُّ كُلُّهُ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى) الأسديّ الكوفيّ، ثقة، من كبار [10] 54/ 618.

2 -

(أبو أسامة) حماد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت، ربما دلّس، وكان بآخره يحدّث من كتب غيره، من كبار [9] 44/ 52.

3 -

(وُهيب بن خالد) بن عجلان، أبو بكر الباهليّ مولاهم البصريّ، ثقة ثبت، لكنه تغيّر قليلاً بآخره [7] 21/ 427.

4 -

(عبد اللَّه بن طاوس) بن كيسان، أبو محمد اليمانيّ، ثقة فاضل عابد [6] 11/ 514.

5 -

(أبوه) طاوس بن كيسان الْحِمْيريّ مولاهم الفارسيّ، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، يقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبه، ثقة فقيه فاضل [3] 27/ 31.

6 -

(ابن عبّاس) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، وأبو داود. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. (ومنها): أن فيه ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابن عَبَّاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: كَانُوا يرَوْنَ) بفتح أوله: أي يعتقدون، والمراد أهل الجاهلية. ولابن حبّان من طريق أخرى عن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: "واللَّه ما أعمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة، إلا ليقطع

ص: 343

بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحيّ من قُريش، ومن دان دينهم كانوا يقولون

"، فذكر نحوه، قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: فعرف بهذا تعيين القائلين انتهى (أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجَّ، مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ) أي من أفحش الفواحش. والفجور الانبعاث في المعاصي، يقال: فجر فجورًا، من باب نصر

(1)

. وهذا من تحكماتهم الباطلة المأخوذة عن غير أصل (وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرَ) هكذا في نسخ "المجتبى""صفر" من غير ألف، ووقع في "الكبرى""صفرًا" بألف، وهو الأكثر. والذي في "المجتبى"، وهو الذي وقع في جميع الأصول من "الصحيحين". قال النوويّ: كان ينبغي أن يكتب بالألف، ولكن على تقدير حذفها لا بدّ من قراءته منصوبًا؛ لأنه مصروف بلا خلاف. يعني والمشهور عن اللغة الربيعية كتابة المنصوب بغير ألف، فلا يلزم من كتابته بغير ألف أن لا يُصرف، فيقرأ بالألف، وسبقه عياض إلى نفي الخلاف فيه، لكن في "المحكم" كان أبو عبيدة لا يصرفه، فقيل له: إنه لا يمتنع الصرف حتى يجتمع علتان، فما هما؟، قال: المعرفة والساعة. وفسّره المطرّزيّ بأن مراده بالساعة أن الأزمنة ساعات، والساعة مؤنثة انتهى.

قال في "الفتح": وحديث ابن عباس هذا حجة لأبي عبيدة. ونقل بعضهم أن في "صحيح مسلم""صفرًا" بالألف.

وأما جعلهم ذلك، فقال النوويّ: قال العلماء: المراد الإخبار عن النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، فكانوا يسمون المحرّم صفرًا، ويُحلّونه، ويؤخّرون تحريم المحرّم إلى نفس صفر؛ لئلا تتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرّمة، فيضيق عليهم فيها ما اعتادوه من المقاتلة، والغارة بعضهم على بعض، فضلّلهم اللَّه في ذلك، فقال:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [التوبة: 37].

وقال القرطبيّ: قوله: "ويجعلون المحرم صفَر" أي يسمونه به، وينسبون تحريمه إليه؛ لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهُر حُرُم، فتضيق عليهم بذلك أحوالهم.

وحاصله أنهم كانوا يُحلّون من الأشهر الحرم ما احتاجوا إليه، ويُحرّمون مكان ذلك غيره، وكان الذين يفعلون ذلك يُسمَّون النَّسَأَة، وكانوا أشرافَهُم، وفي ذلك يقول شاعرهم [من الوافر]:

أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدَّ

شُهُورَ الحِلَّ نَجْعَلُهَا حَرَامًا

فردّ اللَّه كلّ ذلك بقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} الآية [التوبة: 37]

(2)

.

(1)

- "عمدة القاري" 8/ 35.

(2)

- "المفهم" 3/ 363.

ص: 344

وقال في "الفتح" في "سورة التوبة"، عند شرح حديث:"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللَّه السماوات، والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان": ما حاصله:

وفيه إشارة إلى إبطال ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، من تأخير الأشهر الحرم، فقيل: كانوا يجعلون المحرم صفرًا، ويجعلون صفرًا المحرّم؛ لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر، لا يتعاطون فيها القتال، فلذلك قال:"متواليات"، وكانوا في الجاهلية على أنحاء: منهم من يسمي المحرم صفرًا، فيُحلّ فيه القتال، ويحرم القتال في صفر، ويسميه المحرم. ومنهم من يجعل ذلك سنة، هكذا، وسنة هكذا. ومنهم من يجعله سنتين هكذا، وسنتين هكذا. ومنهم من يؤخّر صفرًا إلى ربيع الأول، وربيعًا إلى ما يليه، وهكذا، إلى أن يصير شوال ذا القعدة، وذو القعدة ذا الحجة، ثم يعود، فيعيد العدد على الأصل.

وقال أيضًا: قوله: "ورجب مضر" أضافه إليهم لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه، بخلاف غيرهم، فيقال: إن ربيعة كانوا يجعلون بدله رمضان. وكان من العرب من يجعل في رجب وشعبان ما ذكره في المحرم وصفر، فيحلّلون رجبًا، ويحرّمون شعبان. ووصفه بكونه بين جمادى وشعبان تأكيدًا. وكان أهل الجاهليّة قد نسئوا بعض الأشهر الحرم، أي أخّروها، فيحلون شهرًا حرامًا، ويحرّمون مكانه آخر بدله حتى رُفض تخصيص الأربعة بالتحريم أحيانًا، ووقع تحريم أربعة مطلقة من السنة.

فمعنى الحديث: أن الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه، وبطل النسيء.

وقال الخطابيّ: كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل، والتحريم، والتقديم، والتاخير لأسباب تعرِض لهم، منها استعجال الحرب، فيستحلون الشهر الحرام، ثم يحرمون بدله شهرا غيره، فتتحوّل في ذلك شهور السنة، وتتبدّل، فإذا أتى على ذلك عدّة من السنين استدار الزمان، وعاد الأمر إلى أصله، فاتفق وقوع حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم عند ذلك انتهى

(1)

.

[فائدة]: قال الكلبيّ: أول من نسأ القلمس، واسمه حذيفة بن عبيد الكنانيّ، ثم ابنه عباد، ثم ابنه قلع بن عباد، ثم أمية بن قلع، ثم عوف بن أمية، ثم جنادة بن أمية، وعليه قام الإسلام. وقيل: أول من نسأ نعيم بن ثعلبة، ثم جنادة، وهو الذي أدركه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وقيل: مالك بن كنانة. وقيل: عمرو بن طيّء.

(1)

- راجع "الفتح" 9/ 220 - 222. في "كتاب التفسير" "سورة التوبة".

ص: 345

وقال ابن دريد: الصفران شهران من السنة، سمي أحدهما في الإسلام المحرم.

وفي "المحكم": قال بعضهم: سمي صفرًا؛ لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع. وقال بعضهم: سمي بذلك لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا. ورَوَى رؤبة أنه قال: سموا الشهر صفرًا لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل، فيتركون مَن لَقُوا صفرًا من المتاع، وذلك إذا كان صفر بعد المحرم، فقالوا: صفر الناس منا صفرا، فإذا جمعوه مع المحرّم قالوا: صفران، والجمع أصفار. وقال القزّاز: إنما سموا الشهر صفرًا؛ لأنهم كانوا يُخلون البيوت فيه لخروجهم إلى البلاد، يقال لها: الصفرية، يمتارون منها. وقيل: لأنهم كانوا يخروجون إلى الغارة، فتبقى بيوتهم صفرًا. وفي "العلم المشهور" لأبي الخطاب: العرب تقول: صفر، وصفر ان، وصفارين، وأصفار. قال: وقيل: إن العرب كانوا يزيدون في كل أربع سنين شهرًا يسمونه صفرًا، فتكون السنة ثلاثة عشر شهرًا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"السنة اثنا عشر شهرًا". وكانوا يتطيّرون به، ويقولون: إن الأمور فيه منغلقة، والآفات فيه واقعة انتهى

(1)

.

(وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَأَ) بفتحتين، وآخره همزة، وتخفف بقلبها ألفًا (الدَّبَرْ) بفتح المهملة، والموحّدة: أي زال الجرح الذي كان يحصل بظهور الإبل من الحمل عليها، ومشقّة السفر، فإنه كان يبرأ بعد انصرافهم من الحجّ (وَعَفَا الْوَبَرْ) أي كثر وَبَرُ الإبل الذي قلعته رحال الحجّ. و"الوَبَر" -بفتخين-: للبعير كالصوف للغنم، وهو في الأصل: مصدرٌ، من باب تعب، وبَعِيرٌ وَبِرٌ بالكسر كثير الوَبَر، وناقةٌ وَبِرَةٌ، والجمع أوبار، مثل سبب وأسباب. قاله الفيّوميّ.

وفي رواية الشيخين: "وعفا الأثر" بهمزة، ومثلثة مفتوحتين: أي اندرس، وانمحى أثر الإبل، وغيرها في سيرها، فإنه ينمحي لطول مرور الزمان والأيام. هذا هو المشهور. وقال الخطابيّ: المراد أثر الدبر المذكور.

وقال القرطبيّ: و"عفا" من الأضداد، يقال: عفا الشيء: كثُر، وقلّ، وظهر، وخفي مثله انتهى

(2)

(وَانْسَلَخَ صَفَرْ) أي خرج شهر صفر الذي جعلوه بدل المحرّم (أَوْ قَالَ: دَخَلَ صَفَر) هذا شكّ من الراوي (فَقَدْ حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ) أي صار الإحرام بالعمرة لمن أراد أن يحرم بها جائزًا.

[فائدة]: قال النوويّ: هذه الألفاظ تقرأ كلها ساكنة الآخر، ويوقف عليها؛ لأن مرادهم السجع.

(1)

- "عمدة القاري" 8/ 35 - 36.

(2)

- "المفهم" 3/ 363.

ص: 346

وقال الكرمانيّ: ما وجه تعلق انسلاخ صفر بالاعتمار في أشهر الحجّ الذي هو المقصود من الحديث، والمحرم، وصفر ليسا من أشهر الحجّ؟.

فأجاب بقوله: لما سمّوا المحرم صفرا، وكان من جملة تصرفاتهم جعل السنة ثلاثة عشر شهرًا، صار صفر على هذا التقدير آخر السنة، وآخر أشهر الحجّ، إذ لا برء في أقلّ من هذه المدة غالبًا. وأما ذكر انسلاخ صفر الذي من الأشهر الحرم بزعمهم فلأجل أنه لو وقع قتال في الطريق، وفي مكة لقدروا على المقاتلة، فكأنه قال: إذا انقضى شهر الحجّ، وأثره، والشهر الحرام جاز الاعتمار. أو يراد بالصفر المحرم، ويكون "إذا انسلخ صفر" كالبيان، والبدل لقوله:"إذا برأ الدبر"، فإن الغالب أن البرء من أثر صفر الحجّ لا يحصل إلا في هذه المدة، وهي ما بين أربعين يومًا إلى خمسين ونحوه انتهى

(1)

.

(فَقَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَصْحَابُهُ) أي دخلوا مكة (صَبيحَةَ رَابِعَةٍ) أي صباح الليلة الرابعة من شهر ذي الحجة، وذلك يوم الأحد (مُهِلَّينَ بالْحَجَّ) منصوب على الحال، أي حال كونهم مهلّين بالحجّ وفي رواية:"وهم يلبّون بالَحجّ"، وهي مفسّرة لقوله:"مهلّين". واحتجّ به من قال: كان حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مُفْرِدًا. وأجاب من قال: كان قارنًا -وهو الصواب- بأنه لا يلزم من إهلاله بالحج أن لا يكون أدخل عليه العمرة (فَأمَرَهُمْ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم (أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً) أي يقلبوا الحجة التي قدموا مهلين بها عمرة، فيتحللوا بأفعال العمرة (فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ) وفي رواية: فكبر ذلك عندهم": أي شقّ عليهم ما أمرهم به؛ لما كانوا يعتقدونه أولاً (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْحِلَّ) كأنهم كانوا يعرفون أن للحجّ تحلّلين، فأرادوا بيان ذلك، فبين لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فـ (قَالَ: الْحِلُّ كُلُّهُ) يعني أن المطلوب منهم أن يتحلّلوا كلّ الحلّ، حتى غشيان النساء، وذلك تمام الحلّ؛ لأن العمرة ليس لها إلا تحلّل واحد. ووقع في رواية الطحاويّ: "أيِّ الحلّ نحلّ؟، قال: الحلّ كله". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

(1)

-"عمدة القاري" 8/ 36.

ص: 347

أخرجه المصنّف هنا -77/ 2813 و 2814 و 2815 و 108/ 2870 و 2871 - وفي "الكبرى" 76/ 3795 و 3796 و 3797 و 108/ 3853 و 3854. وأخرجه (خ) في "الجمعة" 1085 و"الحجّ" 1564 و"المناقب" 3832 (م) في "الحجّ" 1239 و 1240 و 1241 (د) في "المناسك" 1790 و 1791 و 1792 (أحمد) في "مسند بني

هاشم" 2116 و 2153 و 2274 و 3162 (الدارمي) في "المناسك" 1856. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعيّة فسخ الحجّ بأعمال العمرة. (ومنها): استحباب دخول مكة نهارًا. وهو المرويّ عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وبه قال عطاء، والنخعيّ، وإسحاق، وابن المنذر، وهو أصحّ الوجهين لأصحاب الشافعيّ. والوجه الثاني أن دخولها ليلًا أو نهارًا سواء، لا فضيلة لأحدهما على الآخر، وهو قول طاوس، والثوريّ. وعن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز دخولها ليلاً أفضل من النهار. وقال مالك: يستحب دخولها نهارًا، فمن جاء ليلاً فلا بأس به. قال: وكان عمر بن عبد العزيز يدخلها لطواف الزيارة ليلاً.

(ومنها): أن فيه حجة لمن قال: إنه صلى الله عليه وسلم حجّ مفردًا، والصحيح -كما تقدّم- أنه حجّ قارنًا، وتأويل حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أنه أخبر بأول أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه أفرد أوّلاً، ثم جاءه الملك، فأمره بإدخال العمرة على الحجّ، وقال له:"قل: عمرة في حجة".

(ومنها): بيان ما كان عليه الجاهلية من اتباع الهوى، وتشريع ما لم يأذن به اللَّه، فيحلون ما حرم اللَّه، ويحرمين ما أحلّ اللَّه، فلذلك عنفهم، وضللَّهم، فقال تعالى:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعمِ الوكيل.

2814 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُسْلِمٍ -وَهُوَ الْقُرِّيُّ- قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَةِ، وَأَهَلَّ أَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ، وَأَمَرَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْهَدْيُ أَنْ يَحِلَّ، وَكَانَ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْهَدْيُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَأَحَلاَّ).

ص: 348

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح. و"محمد" شيخ ابن بشار: هو ابن جعفر، غندر.

و"مسلم القُرّيّ": هو مسلم بن مخراق العبديّ الْقُرّيّ -بضمّ القاف، وتشديد الراء- مولى بني قُرّة، ويقال: المازنيّ الْعُرْيانيّ، أبو الأسود البصريّ العطّار، ويقال: إنهما اثنان، صدوق [4].

قال عبد اللَّه بن أحمد: سمعت أبي ذُكِرَ مسلمٌ القرّيّ، فقال: ما أرى به بأسًا. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال النسائيّ: ثقة. وقال العجليّ: تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، ولكنه فرّق بين مولى بني قُرَّة المكنيّ أبا الأسود، وبذلك جزم أبو عليّ الجيّانيّ في "تقييد المهمل".

روى له مسلم، وأبوداود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. وقوله:"أهلّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالعمرة" معناه أنه أدخلها على الحجّ، وليس المراد أنه أنشأ الإحرام بها؛ لأن الأحاديث الصحيحة الكثيرة دلّت على ذلك، كما تقدم بيان ذلك مفصلاً.

وقال البيهقيّ -بعد أن ذكر اختلاف الرواة في كونه صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة، أو بحج في حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما --: وقول من قال: إنه أهلّ بالحجّ لعله أشبه لموافقته رواية أبي العالية البرَّاء، وأبي حسّان الأعرج، عن ابن عباس في إهلال النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجّ واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

وقوله: "أهلّ أصحابه بالحجّ" المراد غالبهم، أو بالنظر لأول أحوالهم، فإنهم ما كانوا يرون في أشهر الحجّ إلا الحجّ، حتى أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالتحلل بعمل العمرة. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "وكان فيمن لم يكن معه الهدي طلحة بن عبيد اللَّه" هكذا هو في رواية المصنّف، ومسلم في "صحيحه" من طريق غندر، عن شعبة، أن طلحة كان فيمن لم يسق الهدي، وتابعه عليه روح بن عبادة، عن شعبة، عند البيهقيّ، فقال:"وكان ممن لم يكن معه الهدي طلحة بن عبيد اللَّه، ورجل آخر، فأحلاّ".

وخالفهما معاذُ بنُ معاذ، عن شعبة، فجعل طلحة بن عبيد اللَّه فيمن ساق الهدي، فلم يحلّ، أخرجه مسلم أيضًا من رواية عبيد اللَّه بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، وتابعه عليه أبو داود الطيالسيّ، عن شعبة، عند البيهقيّ أيضًا

(2)

، فقال: " وكان رسول اللَّه

(1)

- "السنن الكبرى" للبيهقي 5/ 18.

(2)

- "السنن الكبرى" 5/ 18.

ص: 349

- صلى الله عليه وسلم، وطلحة ممن كان معهما الهدي".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الصحيح في هذا رواية معاذ بن معاذ، وأبي داود الطيالسي، أن طلحة ممن ساق الهدي، والدليل على ذلك حديث جابر رضي الله عنه عند البخاريّ من طريق عطاء، عن جابر رضي الله عنه، قال: "أهلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، هو وأصحابه بالحجّ، وليس مع أحد منهم هديٌ غير النبيّ صلى الله عليه وسلم وصلحة

". فهذا موافق لرواية معاذ، وأبي داود، فتترجح على رواية غندر، وروح.

والحاصل أن طلحة بن عبيد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنه - ممن أهدى، فلم يحلّ حتى بلغ الهدي محله. واللَّه تعالى أعلم.

[فإن قلت]: حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا مخالف لما رواه أحمد، ومسلم، وغيرهما من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"أن الهدي كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وذوي يسار". وفي رواية للبخاريّ من طريق أفلح، عن القاسم، بلفظ:"ورجال من أصحابه ذوي قوّة". ولمسلم من حديث أسماء بنت أبي بكر أن الزبير كان ممن كان معه الهدي.

[قلت]: يجمع بينها بأن كلاّ منهم ذكر من اطلع عليه، ممن كان معه الهدي، ذكر نحو هذا الحافظ في "الفتح"

(1)

.

والحاصل أن الذين كان معهم الهدي جماعة، كهؤلاء المذكورين، لكنهم بالنسبة لمن لم يكن معه قلّة. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "ورجل آخر" لم يسمّ ذلك الرجل، فاللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم الكلام في تخريجه في الذي قبده. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2815 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «هَذِهِ عُمْرَةٌ، اسْتَمْتَعْنَاهَا، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ هَدْيٌ، فَلْيَحِلَّ الْحِلَّ كُلَّهُ، فَقَدْ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وهم المذكورون في السند الماضي، غير الحكم بن عتيبة، ومجاهد بن جبر.

وقوله: "دخلت العمرة في الحجّ". أي في جواز فسخ الحجّ بالعمرة

(2)

، يعني أن نية العمرة دخلت في نية الحجّ، بحيث أن من نوى الحجّ شُرع له الفراغ منه بعمل العمرة. وهذا هو المعنى الراجح للحديث، ولذا أورده المصنّف محتجًّا به على مشروعية الفسخ.

(1)

- "فتح" 4/ 445.

(2)

بل قدّمت ترجيح القول بوجوب الفسخ؛ لظهور أدلته، فلا تنس، وباللَّه تعالى التوفيق.

ص: 350

ومن لا يرى الفسخ يقول: معناه حلّت العمرة في أشهر الحجّ، وصحّت بمعنى دخلت في وقت الحجّ، وشهوره، وبطل ما كان عليه أهل الجاهلية من عدم حل العمرة في أشهر الحجّ.

وهذا المعنى بعيد عن مقصود الحديث؛ لأن جواز العمرة بينه النبيّ صلى الله عليه وسلم قولا وفعلاً، وأبطل ما تعتقده الجاهلية قبل هذا حيث اعتمر عمره الثلاث في أشهر الحج، فقد اعتمر، عمرة الحديبية في ذي القعدة، وكذا عمرة القضية، وعمرة الجعرانة، فكلها في ذي القعدة، وهو من أشهر الحرم، ثم قرن الرابعة مع حجته، فكيف يقال: إن الصحابة لم يعلموا جواز العمرة في أشهر الحج حتى أمرهم بالفسخ، وقد شاهدوا هذه العمر كلها، ثم إنه قال لهم عند الميقات:"من شاء أن يهلّ بعمرة، وحجة فليفعل"، فجوز لهم الاعتمار في أشهر الحجّ عند الميقات

(1)

، فأي معنى لكون الفسخ حتى يعلموا جواز العمرة في أشهر الحج؟، إن هذا لشيء بعيد.

وأيضًا لا معنى لسؤال سراقة بقوله: "عمرتنا هذه ألعامنا هذا، أو للأبد؟ "، مشيرًا إلى العمرة التي فسحْوا بها الحجّ، ثم يجيبه صلى الله عليه وسلم بقوله:"لا، بل للأبد". واللَّه تعالى أعلم.

وتأوله بعضهم على أن أفعال العمرة دخلت في أفعال الحجّ، فلا يجب على القارن إلا إحرام واحد، وطواف واحد، وهكذا. وهذا أيضًا بعيد، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله مجيبًا لسؤالهم ألعامنا هذا، أم للأبد، فلا تقارب بينه وبين هذا التأويل.

وتأوله القائلون بعدم وجوب العمرة بأن المراد أنه سقط افتراضها بالحجّ، فكأنها دخلت فيه. وهذا أبعد من الذي قبله، بل هو باطل.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- راجع "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية 26/ 57.

ص: 351

‌78 - (مَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ مِنَ الصَّيْدِ)

قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: عبارة "الكبرى""أبواب أحكام المحرم -ما يجوز للمحرم أكله من الصيد".

2816 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ نَافِعٍ، مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ، تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، وَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ، ثُمَّ سَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ، فَأَبَوْا، فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ، فَأَبَوْا، فَأَخَذَهُ، ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ، فَقَتَلَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَى بَعْضُهُمْ، فَأَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ، أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ عز وجل»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة الثبت [7] 7/ 7.

3 -

(أبو النضر) سالم بن أبي أمية، مولى عمر بن عبيد اللَّه المدنيّ، ثقة ثبت [5] 98/ 121.

4 -

(نافع مولى أبي قتادة) هو نافع بن عبّاس -بموحدة، ومهملة، أو تحتانيّة، ومعجمة- الأقرع، أبو محمد المدنيّ، قيل له: مولى أبي قتادة للزومه إياه، وكان مولى عَقِيلة الغفارية، ويقال: إنهما اثنان، ثقة [3].

قال النسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد في الطبقة الثانية: كان قليل الحديث. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن حنبل: معروف. وقال ابن حبان في "الثقات": نافع مولى عَقِيلة بنت طلق الغفاريّة، وهو الذي يقال له: نافع مولى أبي قتادة، نسب إليه، ولم يكن مولاه. ويؤيّد قول ابن حنان ما وقع عند أحمد من طريق مغفّل بن إبراهيم: سمعت رجلاً، يقال له: مولى أبي قتادة، ولم يكن مولاه، يحدّث عن أبي قتادة، فذكر حديث الحمار الوحشي. وفي رواية ابن إسحاق، عن عبد اللَّه بن أبي سلمة، أن نافعا الأقرع، مولى بني غفار حدثه أن أبا قتادة حدّثه، فذكر هذا الحديث. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

5 -

(أبو قتادة) الحارث بن رِبْعيّ بن بُلْدُمة، وقيل: غير ذلك، السَّلَميّ المدنيّ

ص: 352

الصحابيّ الشهير، شهد أحدًا، وما بعدها، ولم يصحّ شهوده بدرًا، مات - رضي اللَّه

تعالى عنه - سنة (54) على الأصح، تقدّم في 32/ 24. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نافعًا ليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فإنه بغلانيّ، إلا أن الظاهر أنه ممن دخل المدينة للأخذ عن مشايخها. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ نَافِع، مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ) وفي رواية البخاريّ من طريق سفيان بن عيينة، عن صالح ابن كيسان، عن أبي محمد، ولمسلم من طريق سفيان أيضًا عن صالح، "سمعت أبا محمد، مولى أبي قتادة"، ولأحمد من طريق سعد بن إبراهيم، "سمعت رجلاً، كان يقال له: مولى أبي قتادة، ولم يكن مولى"، أي لأبي قتادة، وفي رواية ابن أبي إسحاق، عن عبد اللَّه بن أبي سلمة، أن نافعًا مولى بني غفار.

قال الحافظ: فتحصّل من ذلك أنه لم يكن مولى لأبي قتادة حقيقةً، وقد صرّح بذلك ابن حبّان، فقال: هو مولى عقيلة بنت طلق الغفارية، وكان يقال له: مولى أبي قتادة، نُسب إليه، ولم يكن مولاه.

فيحتمل أنه نسب إليه لكونه كان زوج مولاته، أو للزومه إياه، أو نحو ذلك، كما وقع لمقسم مولى ابن عباس. واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

(عَنْ أبِي قَتَادَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، (أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية عبد اللَّه ابن أبي قتادة الآتية بعد باب أن ذلك كان عام الحديبية. وروى الواقديّ أن ذلك كان في عمرة القضية. والأول أصحّ. وفي رواية للبخاريّ من طريق عثمان بن موهَب، عن عبد اللَّه بن أبي قتادة، أن أباه أخبره، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج حاجًّا، فخرجوا معه

". فقال الإسماعيليّ: هذا غلط، فإن القصّة كانت في عمرة، وأما الخروج إلى الحجّ فكان في خلق كثير، وكان كلهم على الجادّة، لا على ساحل البحر، ولعل الراوي أراد خرج محرمًا، فعبّر عن الإحرام بالحج غلطًا.

قال الحافظ: لا غلط في ذلك، بل هو من المجاز السائغ، وأيضًا فالحجّ في الأصل قصد البيت، فكأنه قال: خرج، قاصدًا للبيت، ولهذا يقال للعمرة: الحجّ الأصغر. ثم وجدت الحديث من رواية محمد بن أبي بكر المقدّميّ عن أبي عوانة، بلفظ: "خرج

(1)

- "فتح" 4/ 497.

ص: 353

حاجا أو معتمرًا"، أخرجه البيهقيّ، فتبيّن بهذا أن الشكّ فيه من أبي عوانة، وقد جزم يحيى بن أبي كثير بأن ذلك كان في عِمرة الحديبية، وهذا هو المعتمد انتهى

(1)

.

(حَتَّى إِذَا كانَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَةَ، تخَلَّفَ) أي تأخّر أبو قتادة بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم له بذلك (مَعَ أَصْحَاب لَهُ مُحْرِمِينَ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ) أي والحال أن أبا قتادة غير محرم. وفي رواية للبخارَيّ من طريق عبد اللَّه بن أبيَ قتادة، عن أبيه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج حاجا، فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم، فيهم أبو قتادة، فقال:"خذوا ساحل البحر، حتى نلتقي"، فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم، إلا أبو قتادة

الحديث.

وحاصل القصّة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج في عمرة الحديبية، فبلغ الرَّوْحاء -وهي من ذي الحليفة على أربعة وثلاثين ميلاً- أخبروه بأن عدوًّا من المشركين بوادي غَيقة

(2)

، يُخشى منهم أن يقصدوا غرّته، فجهّز طائفة من أصحابه، فيهم أبو قتادة إلى جهتهم ليأمن شرّهم، فلما أمنوا ذلك لحق أبو قتادة، وأصحابه بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فأحرموا، إلا هو، فاستمرّ هو حلالاً؛ لأنه إما لم يجاوز الميقات، وإما لم يقصد العمرة. وبهذا يرتفع الإشكال الذي ذكره الأثرم، قال: كنت أسمع أصحابنا يتعجّبون من هذا الحديث، ويقولون: كيف جاز لأبي قتادة أن يجاوز الميقات، وهو غير محرم؟، ولا يدرون ما وجهه. قال: حتى وجدته في رواية من حديث أبي سعيد، فيها: "خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأحرمنا، فلما كنا بمكان كذا إذا نحن بأبي قتادة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه في وجه

" الحديث، قال: فإذًا أبو قتادة إنما جاز له ذلك لأنه لم يخرج يريد مكة.

قال الحافظ: وهذه الرواية التي أشار إليها تقتضي أن أبا قتادة لم يخرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة، وليس كذلك، لما بيّنّاه.

ثم وجدت في "صحيح ابن حبّان"، والبزّار من طريق عياض بن عبد اللَّه، عن أبي سعيد، قال:"بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبا قتادة على الصدقة، وخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وهم محرمون، حتى نزلوا بعسفان". فهذا سبب آخر، ويحتمل جمعهما.

والذي يظهر أن أبا قتادة إنما أخّر الإحرام لأنه لم يتحقّق أنه يدخل مكة، فساغ له التأخير.

(1)

- "فتح" 4/ 499 - 500.

(2)

-بفتح الغين المعجمة، بعدها ياء ساكنة، ثم قاف مفتوحة، ثم هاء، قال السكونيّ: هو ماء لبني غفار، بين مكة والمدينة. وقال يعقوب: هو قليب لبني ثعلبة، يصبّ فيه ماء رضوى، ويصبّ هو في البحر انتهى "فتح" 4/ 492.

ص: 354

وقد استدلّ بقصّة أبي قتادة على جواز دخول الحرم بغير إحرام لمن لم يرد حجًّا، ولا عمرة. وقيل: كانت هذه القصّة قبل أن يوقّت النبيّ صلى الله عليه وسلم المواقيت.

وأما قول عياض، ومن تبعه: إن أبا قتادة لم يكن خرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة، وإنما بعثه أهل المدينة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلمونه أن بعض العرب قصدوا الإغارة على المدينة، فهو ضعيف مخالف لما ثبت في هذه الطريق الصحيحة. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

(وَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا) وفي رواية عبد اللَّه بن أبي قتادة: "فينما أنا مع أصحابي، يضحك بعضهم إلى بعض، فنظرت، فإذا حمار وحشِ

" (فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ) أي ركبه، واستقرّ على ظهره (ثُمَّ سَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ) أي وقد نسيه، كما في رواية. أو سقط منه، كما في أخرى، ويجمع بينهما بأن أريد بالسقوط النسيان، أو العكس تجوّزًا. قاله السنديّ (فَأَبَوْا) أي امتنعوا من مناولته له؛ لكونهم محرمين. ففي رواية أبي عوانة: "فإذا حمار وحشٍ، فركبت فرسي، وأخذت الرمح، والسوط، فقسط منّي السوط، فقلت: ناولوني، فقالوا: ليس نعينك عليه بشيء، إنا محرمون".

وفي رواية للبخاريّ: "فحملمت عليه"، وفي رواية:"فقمت إلى الفرس، فأسرجته، ثم ركبت، ونسيت السوط والرمح، فقلت: ناولوني السوط والرمح، فقالوا: لا واللَّه، لا نعينك عليه بشيء، فغضبت، فنزلت، فأخذتهما، ثم ركبت". وفي رواية: "فركب فرسًا يقال له: الجرادة، فسألهم أن يناولوه سوطه، فأبوا، فتناوله". وفي رواية: "وكنت نسيت سوطي، فقلت لهم: ناولوني سوطي، فقالوا: لا نعينك عليه، فنزلت، فأخذته". وعند ابن أبي شيبة: "فاختلس من بعضهم سوطًا". قال الحافظ: والرواية الأولى أقوى، ويمكن الجمع بينهما بأنه رأى في سوط نفسه تقصيرًا، فأخذ سوط غيره، واحتاج إلى اختلاسه؛ لأنه لو طلبه منه اختيارًا لا متنع انتهى

(2)

.

وفيه دلالة على أنهم كانوا قد علموا أنه يحرم على المحرم الإعانة على قتل الصيد. (فَسَألَهُمْ رُمْحَهُ) أي مناولة رمحه من الأرض (فَأَبَوْا، فَأَخَذَهُ) وفي رواية أبي عوانة: "فتناولته بشيء، فأخذته (ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ) أي حمل عليه (فَقَتَلَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعضُ أَصْحَابِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَى بَعْضُهُمْ) أي امتنعوا عن أكله. وفي رواية: "فأكلنا من لحمه"، وفي روَاية: "فأكلوا، فندموا". وفي رواية:"فوقعوا يأكلون منه، ثم إنهم شكّوا في أكلهم إياه، وهم حُرُم، فرُحْنا، وخبأت العضد معي". وفي رواية: "فجعلوا يشوون

(1)

- "فتح" 4/ 492.

(2)

- "فتح" 4/ 494.

ص: 355

منه". وفي رواية عند سعيد بن منصور: "فظللنا نأكل منه ما شئنا، طبيخًا، وشواء، ثم تزوّدنا منه".

(فَأَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي حيث تقدّمهم، وتأخّروا عنه، فطلبوه، فأدركوه. والذي طلبه، فأدركه، وسأله عن حكم أكله، هو أبو قتادة، كما سيأتي بعد باب (فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ) أي حكم اختلافهم في لحم ذلك الصيد، حيث أكل بعضهم، وترك بعضهم.

وفي رواية عبد اللَّه بن أبي قتادة الآتية برقم -2824: "فأكلنا من لحمه، وخشينا أن نُقطع، فطلبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أُرَفَّعُ فرسي شأوًا، وأسير شأوًا، فلقيت رجلا من غفار، في جوف الليل، فقلت: أين تركت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟، قال: تركته، وهو قائل بالسُّقْيَا، فلحقته، فقلت: يا رسول اللَّه، إن أصحابك يقرءون عليك السلام ورحمة اللَّه، وإنهم قد خَشُوا أن يُقتَطَعوا دونك، فانتظرهم، فانتظرهم، فقلت: يا رسول اللَّه، إني أصبت حمار وحش، وعندي منه، فقال للقوم: "كلوا، وهم محرمون". وفي رواية للبخاريّ:"فرُحنا، وخبأت العضد معي". وفيه: "معكم منه شيء؟، فناولته العضد، فأكلها حتى تعرّقها"، وفي رواية:"قال: معنا رجله، فأخذها، فأكلها"، وفي رواية:"قد رفعنا لك الذراع، فأكل منها".

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّمَا هِيَ) أي الأَكْلة التي أكلتموها (طُعْمَةٌ) بضم الطاء، وسكون العين المهملتين: أي طعام (أطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ عز وجل) أي رزقكم اللَّه إياها.

والمقصود بنسبة الطعام إلى اللَّه تعالى قطع التسبب عنهم، أي فلا إثم عليكم، وإلا فكلّ الطعام مما يُطعم اللَّه تعالى عباده، فافهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي قتادة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنذف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -78/ 2816 و 80/ 2824 و 2825 و 81/ 2826 و"الصيد والذبائح" 32/ 4345 - وفي "الكبرى" 77/ 3798 و 79/ 3807 و 80/ 3809 و"الصيد والذبائج" 35/ 4857. وأخرجه (خ) في "الحج" 1821 و 1822 و 1823 و 1824 و"الهبة" 2570 و"الجهاد والسير" 2854 و 2914 و"المغازي" 4149 و"الأطعمة" 5406 و 5407 و"الذبائح والصيد" 5491 و 5492 (م) في "الحج" 1196 و 847 (د) في "المناسك" 1852 و (ق) في "المناسك" 3093 (أحمد) في باقي مسند الأنصار" 22020

ص: 356

و 22061 و 22068 و 22084 و 22097 و 22106 و 22118 (الموطأ) في "الحجّ" 786 و 788 (الدارمي) في "المناسك"1826. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما يجوز أكله للمحرم من الصيد، وهو الذي صاده الحلال، دون أن يساعده المحرم عليه بشيء. وهذا يقوّي من حمل الصيد في قوله تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} الآية [المائدة: 96] على الاصطياد. (ومنها): أن فيه تفريق الإمام أصحابه للمصلحة، واستعمال الطليعة في الغزو. (ومنها): أن تمني المحرم أن يقع من الحلال الصيدُ؛ ليأكل منه لا يقدح في إحرامه. (ومنها): جواز الاجتهاد في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال ابن العربيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هو اجتهاد بالقرب من النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا في حضرته. (ومنها): العمل بما أدّى إليه الاجتهاد، ولو تضادّ المجتهدان، ولا يُعاب واحد منهما على ذلك؛ لقوله:"فلم يَعِب ذلك علينا". وكأن الآكل متمسك بأصل الإباحة، والممتنع نظر إلى الأمر الطارئ. (ومنها): الرجوع إلى النصّ عند تعارض الأدلّة. (ومنها): جواز ركض الفرس في الاصطياد. (ومنها): جواز التصيّد في الأماكن الوعرة، والاستعانة بالفارس. (ومنها): تسمية الفرس، حيث إن فيه "فركب فرسًا، يقال له: الجرادة". وألحق البخاريّ به الحمار، فترجم له في "الجهاد"، وقال ابن العربيّ: قالوا: تجوز التسمية لما لا يعقل، وإن كان لا يتفطن له، ولا يُجيب إذا نودي، مع أن بعض الحيوانات ربما أدمن على ذلك بحيث يصير يميّز اسمه إذا دعي به. (ومنها): حمل الزاد في السفر. (ومنها): إمساك نصيب الرفيق الغائب. (ومنها): تبليغ السلام عن قرب، وعن بعد، وليس فيه دلالة على جواز ترك ردّ السلام ممن بلغه؛ لأنه يحتمل أن يكون وقع، وليس في الخبر ما ينفيه. (ومنها): أن ذكاة الصيد عقره. (ومنها): مشروعية الاستيهاب من الأصدقاء، وقبول الهديّة من الصَّدِيق. وقال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: عندي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم طلب من أبي قتادة ذلك تطييبًا لقلب من أكل منه؛ بيانًا للجواز بالقول والفعل؛ لإزالة الشبهة التي حصلت لهم. (ومنها): الرفق بالأصحاب، والرفقاء في السير. (ومنها): استعمال الكناية في الفعل كما تستعمل في القول؛ لأنهم استعملوا الضحك في موضع الإشارة؛ لما اعتقدوه من أن الإشارة لا تحلّ. (ومنها): جواز سوق الفرس للحاجة، والرفق به مع ذلك؛ لقوله:"وأسير شأوّا". (ومنها): مشروعيّة نزول المسافر وقت

(1)

- المراد الفوائد التي اشتمل عليها حديث أبي قتادة برواياته المختلفة المذكورة في الشرح، لا خصوص السياق المذكور عند المصنّف. فتنبّه.

ص: 357

القاثلة. (ومنها): ذكر الْحُكْم مع الحكمة، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إنما هي طعمة أطعمكوها اللَّه". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في حكم الصيد للمحرم:

قال العلامة ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: يحل للمحرم صيد البحر، اصطياده، وأكله، وبيعه، وشراؤه، وصيد البحر: الحيوان الذي يعيش في الماء، ويبيض فيه، ويفرخ فيه، كالسمك، والسلحفاة، والسرطان، ونحو ذلك، فإن كان جنس من الحيوان نوع منه في البحر، ونوع في البرّ، كالسلحفاة، فلكلّ نوع حكم نفسه، كالبقر منها الوحشيّ محرم، والأهليّ مباح انتهى.

وأما صيد البرّ فقد أجمع العلماء على منعه للمحرم بحجّ، أو عمرة، وهذا الإجماع في مأكول اللحم الوحشيّ، كالظبي، والغزال، ونحو ذلك، وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد، والدلالة عليه؛ لحديث أبي قتادة المذكور في الباب.

قال ابن قدامة: لا خلاف بين أهل العلم في تحريم قتل الصيد، واصطياده على المحرم، وقد نصّ اللَّه تعالى عليه في كتابه، فقال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، وقال تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد، والدلالة عليه. قال: ولا تحلّ له الإعانة عليه بشيء. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم أكل لحم الصيد للمحرم:

(اعلم): أنهم اختلفوا في هذه المسألة على ثلاثة مذهب:

(الأول): أنه لا يجوز له الأكل مطلقًا، وهو قول عليّ، وابن عباس، وابن عمر، والليث بن سعد، والثوريّ، وإسحاق بن راهويه، وطاوس، وجابر بن زيد.

واحتجّ لهم بعموم قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} بناء على أن المراد بالصيد الحيوان المصيد، وبحديث الصعب بن جثّامة - رضي اللَّه تعالى عنه - الآتي في الباب التالي، وبحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه الآتي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُهدي له عضو من لحم صيد، فرده، وقال:"إنا لا نأكله، إنا حرم". وبما أخرجه أبو داود، وغيره من حديث عليّ رضي الله عنه: أنه قال لناس من أشجع: أتعلمون أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أُهدي له رجل حمار وحشٍ، وهو محرم، فأبى أن يأكله؟، قالوا: نعم.

(الثاني): أنه يجوز له الأكل مطلقًا، أي وإن صيد لأجله، إذالم يكن بإذنه وإعانته، أو دلالته، وإشارته. وإليه ذهب أبو حنيفة، وحكي ذلك عن عمر بن الخطاب،

(1)

- "المغني" 5/ 132.

ص: 358

وأبي هريرة، والزبير بن العوّام، وعائشة، وطلحة بن عبيداللَه، وكعب الأحبار، ومجاهد، وسعيد بن جبير.

واحجّ لهم بحديث أبي قتاد المذكور هنا، وحديث طلحة بن عبيد اللَّه، وحديث البهزيّ الآتيين بعد هذا.

(الثالث): التفصيل بين ما صاده الحلال لأجل المحرم، وما صاده لا لأجله، فيمنع الأول، دون الثاني، وهو مذهب الجمهور، منهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعيّ، وأحمد، وحكي ذلك عن عثمان بن عفان، وعطاء، وأبي ثور، وإسحاق في رواية. وهذا المذهب هو الراحج، كما يأتي قريبًا.

(الرابع): ما نُقِل عن مالك، وهو التفصيل بين ما صيد للمحرم قبل إحرامه يجوز له الأكل منه، أو بعد إحرامه فلا.

(الخامس): ما نُقل عن عثمان، وهو التفصيل بين ما يصاد لأجله من المحرمين، فيمتنع عليه، ولا يمتنع على محرم آخر.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح المذاهب عندي هو التفصيل الذي تقدم عن الجمهور، وهو أنه إن صاده الحلال لأجل المحرم، مُنِعَ، وما صاده لا لأجله، لم يُمنَع؛ لأن فيه الجمع بين الأحاديث المختلفة في الباب.

قال في "الفتح": جمع الجمهور بين ما اختلف من هذه الأحاديث، بأن أحاديث القبول محمولة على ما يصيده الحلال لنفسه، ثم يهدي منه للمحرم، وأحاديث الردّ محمولة على ما صاده الحلال لأجل المحرم.

قالوا: والسبب في الاقتصار على الإحرام عند الاعتذار للصعب أن الصيد لا يحرم على المرء إذا صيد له إلا إذا كان محرمًا، فبين الشرط الأصليّ، وسكت عما عداه، فلم يدلّ على نفيه، وقد بيّنه في الأحاديث الأُخر.

قال الحافظ: ويؤيّد هذا الجمع حديث جابر رضي الله عنه، الآتي بعد بابين، مرفوعًا:"صَيدُ البرّ لكم حلال ما لم تصيدوه، أو يصاد لكم". أخرجه الترمذيّ، وابن خزيمة، وسيأتي الكلام عليه هناك، إن شاء اللَّه تعالى.

وفي رواية للمصنّف في حديث الصعب رضي الله عنه الآتي: "إنا حرم، لا نأكل الصيد"، فبيّن العلتين جميعًا. قاله في "الفتح"

(1)

.

والحاصل أن الأرجح تحريم لحم الصيد للمحرم إذا صاده الحلال له، وجوازه إذا لم يصده له. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

- "فتح" 4/ 505.

ص: 359

[تكملة]: لا يجوز للمحرم قتل الصيد إلا إن صال عليه، فقتله دفعًا، فيجوز، ولا ضمان عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2817 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ، فَأُهْدِيَ لَهُ طَيْرٌ، وَهُوَ رَاقِدٌ، فَأَكَلَ بَعْضُنَا، وَتَوَرَّعَ بَعْضُنَا، فَاسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ، فَوَفَّقَ مَنْ أَكَلَهُ، وَقَالَ: أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفيّ، أبو حفص البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 4.

3 -

(ابن جريج) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلس ويرسل [6] 28/ 32.

4 -

(محمد بن المنكدر) بن عبد اللَّه بن الْهُدَير التيميّ المدنيّ، ثقة فاضل [3] 103/ 138.

5 -

(معاذ بن عبد الرحمن) التيميّ المدنيّ، صدوق [3] 52/ 856.

6 -

(عبد الرحمن بن عثمان) بن عبيد اللَّه بن عثمان بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة التيميّ، أسلم يوم الحديبية. وقيل: يوم الفتح. وكان يقاله: شارب الذهب. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمه طلحة بن عبيد اللَّه، وعثمان بن عفان. وعنه ابناه: عثمان، ومعاذ، والسائب بن يزيد، وابن المسيب، ومحمد بن إبراهيم التيميّ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم. قُتل مع عبد اللَّه بن الزبير، ودُفن بالْحَزَوَّرَة، فلما زيد في المسجد دخل قبره في المسجد الحرام. روى له مسلم، وأبو داود، والمصنّف، وله عنه في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم 2817 و 4355. واللَّه تعالى أعلم.

7 -

(طلحة بن عُبيد اللَّه) بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة التيميّ، أبو محمد المدنيّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهم، استُشْهِد يوم الْجَمَل سنة (36) وهو ابن (63) تقدم في 4/ 458. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيّات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة. أنه مسلسل بالمدنيين، من ابن المنكدر. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 360

شرح الحديث

(عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرحْمَنِ التَيمِيَّ، عَنْ أَبِيهِ،) عبد الرحمن بن عثمان - رضي اللَّه تعالى - عنه، أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ طَلْحَةَ بْن عُبَيدِ اللَّهِ) رَضي اللَّه تعالى عنه (وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ) جملة في محلّ نصب على الحال (فَأُهْدِيَ لَهُ طَيْرٌ) ببناء الفعل للمفعول (وَهُوَ رَاقِدٌ) جملة حالية، أي والحال أنه نائم (فَأَكَلَ بَعْضُنَا، وَتَوَرَّعَ بَعْضُنَا) أي كفّ بعضهم عن الأكل (فَاسْتَيقَظَ طَلْحَةُ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (فَوَفَّقَ مَنْ أكلَهُ) أي صوّب أكل من أكله، يقال: وفّقه اللَّه توفيقًا: سدّده. قاله الفيّوميّ (وَقَالَ) طلحة - رضي اللَّه تعالى عنه -، مستدلاًّ على تصويبه فعل من أكل (أَكَلْنَاهُ) أي جنس الطير، فليس المراد أنهم أكلوا الذي أهدي له (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي فهو حلال لكم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان، تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث طلحة بن عبيد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -87/ 2817 - وفي "الكبرى" 77/ 3799. وأخرجه (م) في "الحجّ" 1197 (أحمد) في "مسند العشرة" 1386 و 1395 (الدارمي) في "المناسك" 1829. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2818 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ - وَاللَّفْظُ لَهُ- عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنِ الْبَهْزِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَرَجَ يُرِيدُ مَكَّةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالرَّوْحَاءِ، إِذَا حِمَارُ وَحْشٍ عَقِيرٌ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «دَعُوهُ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبُهُ» ، فَجَاءَ الْبَهْزِيُّ، وَهُوَ صَاحِبُهُ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، شَأْنَكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ، فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كَانَ بِالأُثَايَةِ، بَيْنَ الرُّوَيْثَةِ وَالْعَرْجِ، إِذَا ظَبْيٌ حَاقِفٌ فِي ظِلٍّ، وَفِيهِ سَهْمٌ، فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلاً، يَقِفُ عِنْدَهُ، لَا يُرِيبُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى يُجَاوِزَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن سلمة) بن أبي فاطمة المراديّ الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة

ص: 361

ثبت [11] 19/ 20.

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمد الأمويّ مولاهم، أبو عمرو المصريّ القاضي، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

3 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن الْعُتَقيّ، أبو عبد اللَّه المصريّ الفقيه، صاحب مالك، ثقة، من كبار [10] 19/ 20.

4 -

(مالك) بن أنس المذكور قبل حديث.

5 -

(يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5] 22/ 23.

6 -

(محمد بن إبراهيم بن الحارث) التيميّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة، له أفراد [4] 60/ 75.

7 -

(عيسى بن طلحة) بن عُبيد اللَّه التيميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقة فاضل، من كبار [3] 73/ 90.

8 -

(عمير بن سلمة) الضَّمْريّ -بفتح المعجمة، وسكون الميم- صحابيّ يُعدّ في أهل المدينة. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل: عن البهزيّ، عنه قصّة الظبي الحاقف. روى عنه عيسى بن طلحة بن عبيد اللَّه. وقال ابن إسحاق: هو عمير بن سلمة بن منتاب بن طلحة بن جُديّ بن ضمرة. قال ابن عبد البرّ: لم يختلفوا في صحبته. وجعل مالك في حديثه: عن عمير بن سليم، عن البهزيّ. والصحيح أنه لعمير بن سلمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والبهزيّ كان صائدًا. ويحتمل أن يكون بين الروايتين اختلاف عن البهزيّ، وإنما أخبر عن قصّة البهزيّ، فحذف المضاف، وبقي المضاف إليه، ولذلك نظائر. وقد جزم بذلك موسى بن هارون فيما نقله عنه الدارقطنيّ في "العلل"، ونبّه ابن عبد البرّ على نظير لذلك في "التمهيد".

قال الحافظ: وفي هذا الاعتذار نظر، فقد رواه الداقطنيّ في "العلل" من طريق عبّاد ابن العوّام، ويونس بن راشد، كلاهما عن يحيى بن سعيد، فقال في روايته: إن البهزيّ حدّثه. ويحتمل أن يكون ذلك وهمًا منهما ظنًّا أن قوله: "عن البهزيّ" على سبيل الرواية، فروياه بالمعنى، فقالا: حدّثه. والاعتماد في صحة صحبته على رواية ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى، عن عمير بن سلمة، قال: بينما نحن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم. وفي رواية عبد ربّه بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم: خرجت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم. وإنما قال فيه: "عن البهزيّ" يحيى بن سعيد، عن محمد. واللَّه أعلم. وإنما اختلف فيه على يحيى.

ص: 362

وفي قوله: لم يختلفوا في صحبته نظر، فقد قال ابن منده: مختلف في صحبته. وذكره ابن حبّان في ثقات التابعين، بعد أن ذكره في الصحابة. تفرّد به المصنّف برواية حديث الباب فقط. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير الصحابيّ، فإنه من أفراده كما مرّ آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخيه، وابن القاسم، فمصريون. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، إن قلنا: إنه من مسند البهزيّ، والصحيح أنه من مسند عُمير بن سلمة، وأن قوله:"عن الهزيّ" على حذف مضاف: عن قصّة البهزيّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم، عن بعض: يحيى، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة. (ومنها): أن صحابيه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا هذا الحديث عند المصنّف فقط. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيَّ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنِ الْبَهْريِّ) أي عن قصّته، كما أسلفته آنفًا، وهو بفتح الموحدة، وسكون الهاء، بعدها زايٌ: نسبة إلى بهز، وهو اسم حيّ، كما في "القاموس". واسم البهزيّ زيد بن كعب، صحابيّ له هذا الحديث رضي الله عنه، على ما قيل، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-.

[تنبيه]: ظاهر رواية مالك -رحمه اللَّه تعالى- هذه أنه من مسند البهزيّ، لا من مسند عمير بن سلمة.

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: لم يُختَلف على مالك في إسناد هذا الحديث، واختَلَف أصحاب يحيى بن سعيد فيه على يحيى، فرواه جماعة كما رواه مالك. ورواه حماد بن زيد، وهُشيم، ويزيد بن هارون، وعليّ بن مُسهِر، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

والقول عندي قول من جعل الحديث لعمير بن سلمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم -كما قال حماد ابن زيد، ومن تابعه. ومما يدلّ على صحة ذلك أن يزيد بن الهاد، وعبد ربّه بن سعيد رويا هذا الحديث عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة الضمريّ، قال: "خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

". وفي حديث ابن الهاد: "بينما نحن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

". رواه الليث بن سعد هكذا، عن يزيد بن الهاد. وقال موسى

ص: 363

ابن هارون: والصحيح عندنا أن هذا الحديث رواه عمير بن سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه أحدٌ. قال: وذلك بين في رواية يزيد بن هارون، وعبد ربه بن سعيد. قال موسى بن هارون: ولم يأت ذلك من مالك؛ لأن جماعة رووه عن يحيى بن سعيد كما رواه مالك، ولكن إنما جاء ذلك من يحيى بن سعيد، كان يرويه أحيانًا، فيقول فيه: عن البهزيّ، وأحيانًا لا يقول فيه: عن البهزيّ، وأظنّ المشيخة الأولى كان ذلك جائزًا عندهم، وليس هو رواية عن فلان، وإنما هو عن قصّة فلان انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن الصواب رواية من جعله من مسند عمير ابن سلمة، لا من مسند البهزيّ؛ لاتفاق حماد بن زيد، وهشيم، وعليّ بن مسهر، ويزيد بن هارون، كلهم عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة الضمريّ: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أقبل، أو خرج

الحديث.

ودليل ترجيح رواية هؤلاء على رواية مالك، أن يزيد بن الهاد، وعبد ربه بن سعيد رويا الحديث عن محمد بن إبراهيم، كروايتهم، وفيه تصريح عمير بقوله:"خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفي حديث ابن الهاد: "بينما نحن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

" فهذا تصريِح من عمير بن سلمة بحضوره القصة. واللَّه تعالى أعلم.

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَرَجَ يُرِيدُ مَكَّةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالرَّوْحَاءِ) بفتح الراء، وسكون الواو، بعدها حاء مهملة، بوزن حمراء: موضع بين مكة والمدينة على ثلاثين، أو أربعين ميلاً من المدينة. قاله في "القاموس"(إِذَا حِمَارُ وحْشٍ)"إذا" هنا فجائية، أي ففاجأنا وجود حمار وحش (عَقِيرٌ) أي معقور، يعني أنه مقتول بالجرح (فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وجود حمار وحش معقور، والظاهر أنهم استأذنوه في أكله بدليل قوله (فَقَالَ:"دَعُوهُ") أي اتركوه، ولا تتصرّفوا فيه بأكل، أو غيره (فَإِنَّهُ يُوشِكُ) أي يقرب (أَنْ يَأتِيَ صَاحِبُهُ) فيتصرّف بالإذن في أكله، أو المنع منه (فَجَاءَ الْبَهْزِيُّ) أي الرجل المنسوب إلى بهز، وهو كما في "القاموس" اسم حيّ (وَهُوَ صَاحِبُهُ) أي صاحب ذلك الحمار المعقور (إِلَى رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَى اللَّه عَلَيْكَ وَسَلَمَ، شَأنكُمْ بَهِذَا الْحِمَارِ) أي تصرّفوا فيه كيف شئتم، وِانتصاب "شأنكم" على مفعول لفعل محذوف، أي افعلوا شأنكم (فَأمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أبا بَكْرٍ) الصدّيق - رضي اللَّه تعالى عنه - بقسمته بين الصحابة رضي الله عنهم (فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الرَّفَاقِ) بالكسر جمع رُفْقة بضم، فسكون، قال الفيّوميّ: الرفقة: الجماعة الذين تُرافقهم في سفرك، فإذا تفرّقتم زال اسم الرفقة، وهي بضم الراء في لغة بني تميم، والجمع رِفَاق، مثلُ بُرْمَة وبِرَام، وبكسرها في لغة قيس،

(1)

- "التمهيد" 23/ 341 - 343.

ص: 364

والجمع رِفَقٌ، مثلُ سِدْرة وسِدَر. والرفيق: الذي يُرافقك. قال الخليل: ولا يذهب اسم الرفيق بالتفرّق. انتهى.

(ثُمَّ مَضَى) أي ذهب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (حَتَّى إِذَا كَانَ بِالأُثَايَةِ) بضم الهمزة، وحكي كسرها، ومثلّثةٍ: موضع بطريق الجحفة إلى مكة

(1)

. وفي "القاموس": وأُثَايةُ بالضمّ، ويُثلَث: موضع بين الحرمين، فيه مسجد نَبَوِيٌّ، أو بئر، دون الْعَرْجِ، عليها مسجد للنبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى (بَيْنَ الرُّوَيْثَةِ) بضم الراء مصغّرًا: موضع بين الحرمين. قاله في "القاموس"(وَالْعَرْجِ) بفتح العين المهملة، وسكون الراء، بعدها جيم: قرية جامعة من أعمال الْفُرع، على أيام من المدينة. قاله ابن الأثير

(2)

(إِذَا ظَبْيٌ حَاقِفٌ) -بمهملة، ثم قاف، ثم فا- قال أبو عمر: الحاقف: الواقف المنثني، والمنحنى، وكلّ منحنٍ، فهو مُحقوقفٌ. هذا قول الأخفش. وقال غيره من أهل اللغة: الحاقف الذي يلجأ إلى حِقْف، وهو ما انعطف من الرمل، وقال العجاج [من مشطور الرجز]:

نَاجٍ طَوَاهُ الأَيْنُ مِمَّا وَجَفَا

طيِّ اللَّيَالِي زُلَفًا فَزُلَفَا

سَمَاوَةَ الْهِلَالِ حَتَّى احْقَوْقَفَا

(3)

وقال في "اللسان": وَظْبيٌ حاقف: فيه قولان: أحدهما أن معناه صار في حِقف، والآخر أنه رَبَض، واحقوقف ظهره. وقال الأزهريّ: الظبي الحاقف يكون رابضًا في حقف من الرمل، أو منطويًا كالحِقْف. وقال أيضًا: الظبي الحاقف: هو الذي نام، وانحنى، وتثنّى في نومه، ولهذا قيل للرمل إذا كان منحنيًا: حِقفٌ انتهى (فِي ظِلًّ، وَفِيهِ سَهْمٌ) يحتمل أن يكون المراد أن في ذلك الظبي سهمًا متعلقًا به، بأن رماه شخصٌ بسهم، فبقي متعلقًا به، ولم يقتله. ويحتمل أن يكون المراد أن في ذلك الظلّ سهمًا أي حجرًا مهيئًا للاصطياد، فقد ذكر في "القاموس"، و"اللسان" من معاني السهم أنه: حجرٌ

يُجعل على باب البيت الذي يُبنى للأسد ليُصاد فيه، فإذا دخله وقع الحجر على الباب، فسدّه. واللَّه تعالى أعلم.

(فَزَعَمَ) الظاهر أن الزاعم هو عمير بن سلمة الضمريّ، والزعم يُطلق على القول الحقّ، وهذا منه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلاً، يَقِفُ عِنْدهُ) أي عند ذلك الظبي (لَا يُرِيبُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ) بفتح أوله، وضمه، من رابه يريبه ثلاثيًّا، من باب باع، أو من أرابه يُريبه، رباعيًّا: أي لا يتعرّض له، ولا يُزعجه.

(1)

- "زهر الربى" 5/ 183.

(2)

- "النهاية" 3/ 204.

(3)

- "الاستذكار" 11/ 285 بزيادة من "لسان العرب". في مادّة حقف.

ص: 365

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: وفي ذلك دليل على أن المحرم لا يجوز له أن ينفّر الصيد، ولا يعين عليه، ألا ترى أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أن يقف عند الظبي الحاقف حتى يُجاوزه الناس لا يريبه أحدٌ؛ يعني لا يمسّه، ولا يُهيجه انتهى

(1)

(حَتَّى يُجَاوِزَهُ) ضمير الفاعل لأحد، والمفعول للظبي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عمير بن سلمة الضمريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -87/ 2818 و 32/ 4344 - وفي "الكبرى" 77/ 3800 و 35/ 4856. وأخرجه مالك في (الموطإ) في "الحج" 789. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز أكل المحرم لحم صيد اصطاده الحلال، لكن بشرط أن لا يعينه، ولا يشير إليه، ولا يدله عليه، كما تقدم تفصيل الخلاف بين العلماء في ذلك. (ومنها): جواز أكل الصيد إذا غاب عنه صاحبه، أو مات، إذا عرف أنها رميته.

وقد اختلف الفقهاء في هذا المسألة، فقال مالك: إذا أدركه الصائد من يومه أكله، في الكلب، والسهم جميعًا، وإن كان ميتًا إذا كان فيه أثر جرحه، وإن كان قد بات عنه لم يأكله. وقال الثوريّ: إذا غاب عنه يوما وليلةً كرهتُ له أكله. وقال أبو حنيفة، وأصحابه: إذا توارى عنه الصيد، وهو في طلبه، فوجده، وقد قتله جاز أكله، فإن ترك الطلب، واشتغل بعمل غيره، ثم ذهب في طلبه، فوجده مقتولاً، والكلب عنده كرهنا أكله. وقال الأوزاعيّ: إذا وجده من الغد ميتاً، ووجد فيه سهمًا، أو أثرًا، فليأكله. وقال الشافعيّ: القياس أن لا يأكله إذا غاب عنه؛ لأنه لا يدرى أمات من رميته، أو من غيرها. وروي عن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: كل ما أصبت، ودع ما أنميت - يريد كل ما عاينت صيده، وموته من سلاحك، أو كلبك، ودع ما غاب عنك. وفي حديث أبي ثعلبة الخشنيّ رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الذي يدرك صيده بعد ثلاث: يأكله ما لم يُنتن. أخرجه مسلم. وفي حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه أنه سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن

(1)

- "الاستذكار" 11/ 285.

ص: 366

الصيد يغيب عن صاحبه الليلة، والليلتين؟، فقال:"إذا وجدت فيه سهمك، ولم تجد أثر سبع، وعلمت أن سهمك قتله، فكله". قال الترمذيّ: حسن صحيح، وسيأتي للمصنّف 19/ 4300.

قال أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: وفي حديث الباب ردّ لقول أبي حنيفة، وأصحابه في اشتراطهم التراخي في الطلب؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يقل للبهزيّ: هل تراخيت في طلبه، وأباح أكله لأصحابه المحرمين، ولم يسأله عن ذلك انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الصحيح قول من أباح أكله، لكن بشرط أن لا يُتن كما شرطه في حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه، وبشرط أن يترجح أن سهمه هو الذي قتله، وليس فيه أثر لسبع، كما بينه حديث عدي رضي الله عنه واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أنه يدلّ على تحريم تنفير الصيد على المحرم، ولا يعين عليه، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أن يقف عند الظبي الحاقف، ولا يُهيجه أحد.

(ومنها): أن الصائد إذا أثبت الصيد برمحه، أو سهمه، وأصاب مقاتله، فقد ملكه بذلك، إذا كان الصيد لا يمتنع من أجل فعله به عن أحد، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم:"يوشك صاحبه أن يأتي"، فجعله صلى الله عليه وسلم صاحبه يصحب ملكه له.

(ومنها): أن فيه دلالة على جواز هبة المشاع؛ لقوله البهزيّ للجماعة: "شأنكم بهذا الحمار"، ثم قسمه أبو بكر رضي الله عنه بينهم بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌79 - (مَا لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ مِنَ الصَّيْدِ)

2819 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، أَنَّهُ أَهْدَي لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارَ وَحْشٍ، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ

(1)

- راجع "التمهيد" 23/ 341 - 346. و"الاستذكار" 11/ 282 - 287.

ص: 367

- صلى الله عليه وسلم مَا فِي وَجْهِي، قَالَ:"أَمَا، إِنَّهُ لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيْكَ، إِلاَّ أنَّا حُرُمٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام الحجة الفقيه المدنيّ [7] 7/ 7.

3 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ المدنيّ الإمام الحجة الحافظ [4] 1/ 1.

4 -

(عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عُتبة) بن مسعود الْهُذَليّ المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 45/ 56.

5 -

(عبد اللَّه بن عباس) بن عبد المطّلب البحر الحبر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31.

6 -

(الصعْب بن جَثْامة) -بفتح الصاد، وسكون العين المهملتين، بعدها باء موحّدة-، وأبوه جثّامة -بفتح الجيم، وتشديد المثلّثة- ابن قيس بن عبد اللَّه بن يعمر ابن الليثيّ الحجازيّ، أخو مُحَلّم. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعنه عبد اللَّه بن عباس. قال أبو حاتم: هاجر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان ينزل بوَدّان، ومات في خلافة أبي بكر الصّدّيق. قال خليفة: اسم جثّامة وهب، وأمه فاختة بنت حرب بن أُميّة. وقال ابن حبان: مات في آخر ولاية عمر بن الخطاب. وقال ابن منده: كان فيمن شهد فتح فارس انتهى. وفارس كان فتحها زمن عثمان. ويدلّ على ذلك ما رواه ابن السكن من طريق بقية بن الوليد، عن صفوان بن عمرو، حدثني راشد بن سعد، قال: لما فُتحت إصطخر نادى منادٍ ألا إن الدجال قد خرج، فرجع الناس، فلقيهم الصعب بن جثّامة، فقال: لقد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره، وحتى يترك الأئمة ذكره على المنابر". قال ابن السكن: هذا حديث صالح الإسناد.

قال الحافظ: إنما أشار بقوله: صالح الإسناد إلى ثقة رجاله، لكن راشدًا لم يُدرك زمن الصعب، والغرض أنه عاش بعد أبي بكر. ومما يؤيّد ذلك أن يعقوب بن سفيان قال في "تاريخه": حدثنا عمار، عن سلمة، عن ابن إسحاق، حدثني عمر بن عبد اللَّه، عن عروة، قال: لما ركب أهل العراق في الوليد -يعني ابن عقبة- كانوا خمسة منهم الصعب بن جثامة. قال: وقد أخطأ من قال: مات الصعب في خلافة أبي بكر خطأً بيّنًا. انتهى.

وقال في "الفتح": وهو من بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وكان ابن أخت أبي سفيان بن حرب، أمه زينب بنت حرب بن أُمية، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين عوف بن مالك انتهى. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث 2819 فقط، وأعاده بعده برقم 2820. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 368

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ، وفيه عبيد اللَّه بن عبد اللَّه أحد الفقهاء السبعة المشهورين في المدينة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) قال في "الفتح": لم يُختلف على مالك في سياقه معنعنًا، وأنه من مسند الصعب رضي الله عنه، إلا ما وقع في "موطإ ابن وهب"، فإنه قال في روايته:"عن ابن عباس، أن الصعب بن جثّامة أهدى"، فجعله من مسند ابن عبّاس. نبّه على ذلك الدارقطنيّ في "الموطّآت". وكذا أخرجه مسلم من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:"أهدى الصعب"، والمحفوظ في حديث مالك الأول. وللبخاريّ في "كتاب الهبة" من طريق شعيب، عن الزهريّ، قال: "أخبرني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، أن ابن عباس أخبره، أنه سمع الصعب -وكان من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يخبر أنه أهدى

" (عَنْ عُبَيْدِ اللَّه بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن عُتْبَةَ) بن مسعود (عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَبَّاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارَ وَحْشٍ) قال في الفتح": لم تختلف الرواة عن مالك في ذلك، وتابعه عامّة الرواة عن الزهريّ، وخالفهم ابن عيينة، عن الزهريّ، فقال:"لحم حمار وحش". أخرجه مسلم، لكن بين الحميديّ، صاحب سفيان أنه كان يقول في هذا الحديث:"حمار وحش"، ثم صار يقول:"لحم حمار وحش". فدلّ على اضطرابه فيه. وقد توبع على قوله: "لحم حمار وحش" من أوجه فيها مقال، منها: ما أخرجه الطبرانيّ من طريق عمرو بن دينار، عن الزهريّ، لكن إسناده ضعيف. وقال إسحاق في "مسنده": أخبرنا الفضل بن موسى، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن الزهريّ، فقال:"لحم حمار". وقد خالفه الواسطيّ، عن محمد بن عمرو، فقال:"حمار وحش"، كالأكثر. وأخرجه الطبرانيّ من طريق ابن إسحاق، عن الزهريّ، فقال:"رجل حمار وحش". وابن إسحاق حسن الحديث، إلا أنه لا يُحتجّ به إذا خولف. ويدلّ على وهم من قال فيه عن الزهريّ ذلك أن ابن جريج قال: قلت للزهريّ: الحمار عقير؟، قال: لا أدري. أخرجه ابن خزيمة، وأبواعنة في "صحيحيهما".

وقد جاء عن ابن عباس من وجه آخر أن الذي أهداه الصعب لحم حمار، فأخرجه مسلم من طريق الحَكَمِ عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: "أهدى الصعب إلى

ص: 369

النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل حمار". وفي رواية عنده: عجز حمار وحش، يقطر دمًا". وأخرجه أيضًا من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد، قال تارة:"حمار وحش"، وتارة "شقٌ حمار". ويقوّي ذلك ما أخرجه مسلم أيضًا من طريق طاوس، عن ابن عباس، قال: قدم زيد بن أرقم، فقال له عبد اللَّه بن عباس يستذكره: كيف أخبرتني عن لحم صيد أُهدي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو حرام؟، قال: أهدي له عضو من لحم صيد، فردّه، وقال:"إنا لا نأكله، إنا حُرُم".

وأخرجه أبو داود، وابن حبان من طريق عطاء، عن ابن عباس، أنه قال:"يا زيد بن أرقم، هل علمت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، فذكره.

واتفقت الروايات كلها على أنه ردّه عليه، إلا ما رواه ابن وهب، والبيهقيّ من طريقه بإسناد حسن، من طريق عمرو بن أُميّة:"أن الصعب أهدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم عجز حمار وحش، وهو بالجحفة، فأكل منه، وأكل القوم". قال البيهقيّ: إن كان هذا محفوظًا، فلعله ردَّ الحيّ، وقبل اللحم.

قال الحافظ: وفي هذا الجمع نظر؛ لما بينته، فإن كانت الطرق كلها محفوظة، فلعله ردّه حيًّا؛ لكونه صيد لأجله، وردّ اللحم تارة؛ لذلك، وقبله تارة أخرى، حيث علم أنه لم يصده لأجله. وقد قال الشافعيّ في "الأمّ": إن كان الصعب أهدى له حمارًا حيًّا، فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حيّ، وإن كان أهدى له لحمًا، فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له.

ونقل الترمذيّ عن الشافعيّ أنه رده لظنه أنه صيد من أجله، فتركه على وجه التنزّه. ويحتمل أن يُحمل القبول المذكور في حديث عمرو بن أمية على وقت آخر، وهو حال رجوعه صلى الله عليه وسلم من مكة، ويؤيده أنه جازم فيه بوقوع ذلك بالجحفة، وفي غيرها من الروايات بالأبواء، أو بودّان.

وقال القرطبيّ: يحتمل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحًا، ثم قطع منه عُضْوًا بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقدّمه له، فمن قال: أهدى حمارًا، أراد بتمامه مذبوحًا، لا حيًّا، ومن قال: لحم حمار، أراد ما قدّمه للنبيّ صلى الله عليه وسلم. قال: ويحتمل من قال: حمارًا أطلق، وأراد بعضه مجازًا. قال: ويحتمل أنه أهداه له حيًّا، فلما ردّه عليه ذكّاه، وأتاه بعضو منه، ظانًّا أنه إنما ردّه عليه لمعنى يختصّ بجملته، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء من الصيد حكم الكلّ. قال: والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الروايات.

وقال النوويّ: ترجم البخاريّ يكون الحمار حيًّا، وليس في سياق الحديث تصريحٌ بذلك، وكذا نقلوا هذا التأويل عن مالك، وهو باطلٌ؛ لأن الروايات التي ذكرها مسلم

ص: 370

صريحة في أنه مذبوح انتهى.

قال الحافظ: وإذا تأملت ما تقدّم لم يحسن إطلاق بطلان التأويل المذكور، ولا سيما في رواية الزهريّ التي هي عمدة هذا الباب. وقد قال الشافعيّ في "الأم": حديث مالك أن الصعب أهدى حمارًا أثبت من حديث من روى أنه أهدى لحم حمار. وقال الترمذيّ: روى بعض أصحاب الزهريّ في حديث الصعب "لحم حمار وحش"، وهو غير محفوظ. انتهى

(1)

.

(وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ) جملة في محل نصب على الحال، من الفاعل، أو المفعول.

و"الأبواء" -بفتح الهمزة، وسكون الموحّدة، وبالمدّ-: جبل من عمل الْفُرُع -بضم الفاء، وسكون الراء، بعدها مهملة

(2)

-. قيل: سمي الأبواء لوبائه على القلب. وقيل: لأن السيول تتبوّؤه: أي تحمله. وقال الفيّوميّ: و"الأبواء" على أفعال -بفتح الهمزة-: منزل بين مكة والمدينة، قريب من الجحفة، من جهة الشمال، دون مرحلة. انتهى.

(أَوْ بِوَدَّانَ) شكّ من الراوي، وهو بفتح الواو، وتشديد الدال، آخره نون: موضع بقرب الجحفة. وقد سبق في حديث عمرو بن أُميّة أنه كان بالجحفة، وودّان أقرب إلى الجحفة من الأبواء، فإن من الأبواء إلى الجحفة للآتي من المدينة ثلاثة وعشرين ميلاً، ومن ودّان إلى الجحفة ثمانية أميال. وبالشك جزم أكثر الرواة. وجزم ابن إسحاق، وصالح بن كيسان، عن الزهريّ بودّان. وجزم معمر، وعبد الرحمن بن إسحاق، ومحمد بن عمرو بالأبواء.

قال الحافظ: والذي يظهر لي أن الشكّ فيه من ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -؛ لأن الطبرانيّ أخرج الحديث من طريق عطاء عنه على الشكّ أيضًا انتهى.

(فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي ردّ ذلك الحمار على الصعب بن جثّامة رضي الله عنه (فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا في وَجْهِي) فيه التفات، إذ الظاهر أن يقول:"ما في وجهه". كما هو في رواية البخاريّ عن عبد اللَّه بن يوسف، عن مالك، ولفظه:"فلما رأى ما في وجهه". وفي رواية الليث، عن الزهريّ، عند الترمذيّ:"فلما رأى ما في وجهه من الكراهية"، وكذا لابن خزيمة من طريق ابن جريج المذكورة.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَمَا) أداة استفتاح، وتنبيه، بمنزلة "ألا"(إِنَّهُ) الضمير للشأن، وفي نسخة:"إنا" وعلى النسختين، فهمزة "إنّ" مكسورة للابتداء (لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيْكَ) قال عياض:

(1)

- "فتح" 4/ 503 - 504.

(2)

- في "المصباح المنير": و"الفُرْعُ" وزان قُفْل عمل من أعمال المدينة، والصفراءُ، وأعمالها من الفرع، وكانت من ديار عاد انتهى.

ص: 371

ضبطناه في الروايات "لم نردّه" بفتح الدال، وردّه محقّقو مشايخنا من أهل العربيّة، وقالوا:"لم نردُّهُ" بضم الدال، وهكذا وجدته بخطّ بعض الأشياخ أيضًا، وهو الصواب عندهم، على مذهب سيبويه في مثل هذا في المضاعف، إذا دخله الهاء أن يُضمّ ما قبلها في الأمر، ونحوه من المجزوم، مراعاة للواو التي توجبها له ضمة الهاء بعدها، لخفاء الهاء، فكأن ما قبلها ولي الواو، ولا يكون ما قبل الواو إلا مضمومًا. قال: وليس الفتح بغلط، بل ذكره ثعلب في "الفصيح" ء نعم تعقّبوه عليه بأنه ضعيف، وأوهم صنيعه أنه فصيح. وأجازوا أيضًا الكسر، وهو أضعف الأوجه.

هذا في المذكر، وأما في المؤنث، مثل "لم تردها" مفتوح الدال، مراعاة للألف.

وقال العينيّ: في مثل هذه الصيغة قبل دخول الهاء عليها أربعة أوجه: الفتح؛ لأنه أخف الحركات. والضمِّ؛ إتباعًا لضمة عين الفعل. والكسر؛ لأنه الأصل في تحريك الساكن. والفكّ. وأما بعد دخول الهاء فيجوز فيه غير الكسر انتهى

(1)

.

قال الحافظ: ووقع في رواية الكشميهنيّ بفكّ الإدغام: "لم نردُدْهُ" بضمّ الأولى، وسكون الثانية، ولا إشكال فيه. انتهى

(2)

.

(إِلاَّ أَنَّا حُرُمٌ) همزة "أنا" مفتوحة، على تقدير لام التعليل، أي لأنا. و"حُرُم" بضمتين: جمع حَرَام، أي محرمون.

وفي رواية صالح بن كيسان الآتي بعد هذا: "إنا حرم، لا نأكل الصيد". وفي رواية شعيب، وابن جريج عند البخاريّ:"ليس بنا ردّ عليك". وفي رواية عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهريّ، عند الطبرانيّ:"إنا لم نردّه عليك كراهية له، ولكنا حُرُم". وفي رواية سعيد، عن ابن عباس:"لولا أنا محرمون لقبلناه منك". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث الصعب بن جَثّامة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في ببان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -79/ 2819 و 2820 و 2821 و 2822 و 2823 - وفي "الكبرى" 78/ 3801 و 3802 و 3853 و 3804 و 3805 و 3856. وأخرجه (خ) في "الحج" 1825

(1)

-"عمدة القاري" 8/ 358. و"الفتح" 4/ 504.

(2)

- "فتح" 4/ 504.

ص: 372

و"الهبة" 2573 و 2596 (م) في "الحجّ" 1193 و 1194 (ت) في "الحجّ" 849 (ق) في "المناسك" 309 (أحمد) في "مسند المدنيين" 15987 و 15988 و 16221 و 16235 و 27812 (الموطأ) في "الحجّ" 793 (الدارمي) في "المناسك"1828. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما لا يجوز للمِحرم أكله من الصيد، وهو الذي صاده الحلال لأجل المحرم. وبهذا تجمع الأحاديث في هذا الباب، فيحمل حديث أبي قتادة الماضي الدالّ على الإباحة على ما إذا لم يصده الحلال للمحرم، وحديث الصعب هذا على أنه قصد المحرم بصيده، وتحمل الآية الكريمة:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} الآية [المائدة: 96] على الاصطياد، وعلى لحم ما صيد للمحرم، للأحاديث المذكورة المبيّنة للمراد من الآية. وهذا مذهب الشافعيّ، وجماعة، كما تقدّم، وهو الراجح، وقد تقدّم تفاصيل المذاهب في مسائل حديث أبي قتادة - رضي اللَّه تعالى عنه - الماضي.

وحمل البخاريّ حديث الصعب على أنه كان حيًّا، حيث ترجم في "الصحيح" بقوله:"باب إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًّا حيا لم يقبل". لكن روايات حديث الصعب لا تؤيّد هذا التأويل.

قال النوويّ: وحكي هذا التأويل أيضًا عن مالك، وغيره، وهو تأويل باطل، وهذه الطرق التي ذكرها مسلم صريحة في أنه مذبوح، وإنما أهدى بعض لحم صيد، لا كله انتهى

(1)

.

(ومنها): أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهديّة، وإنما الممنوع عليه قبول الصدقة. (ومنها): استحباب قبول الهديّة، إذا لم يكن هناك مانع من قبولها. (ومنها): جواز ردّها بعد القبول لسبب اقتضى ذلك. (ومنها): جواز الحكم بعلامة، لقوله:"فلما رأى ما في وجهي الخ". (ومنها): الاعتذار عن ردّ الهديّة؛ تطييبًا لقلب المهدي. (ومنها): أن الهديّة لا تدخل في الملك إلا بالقبول. (ومنها): تحريم الاصطياد على المحرم. (ومنها): تحريم تملكه، بشراء، أو هدية، أو نحوهما، وفي ملكه إياه بالإرث خلاف. (ومنها): أن المحرم إذا ملك صيدًا وجب عليه إرساله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2820 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ

(1)

- "شرح مسلم" 8/ 344.

ص: 373

اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِوَدَّانَ، رَأَى حِمَارَ وَحْشٍ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ «إِنَّا حُرُمٌ، لَا نَأْكُلُ الصَّيْدَ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح.

وقوله: "عن صالح، عن عبيد اللَّه الخ" هكذا في رواية المصنّف من طريق حماد بن زيد، عن صالح. وفي رواية مسلم من طريق يعقوب بن إبراهيم، عن صالح، قال: عن الزهريّ، عن عبيد اللَّه الخ، والظاهر أن صالح بن كيسان يرويه بالطريقين، فلا اختلاف بين الروايتين. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "أقبل" أي من المدينة متوجها إلى مكة. وقوله: "لا نأكل الصيد" أي الصيد الذي صاده محرم، أو حلال لأجله، وبهذا أول المحققون جمعًا بين الأحاديث، كما سبق قريبًا. والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2821 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَ لَهُ عُضْوُ صَيْدٍ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ؟ ، قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن سليمان) بن عبد الملك، أبو الحسين الرُّهاويّ، ثقة حافظ [11] 38/ 42.

2 -

(عفّان) بن مسلم بن عبد اللَّه الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقة ثبت، ربما وهِم، من كبار [10] 21/ 427.

3 -

(حمّاد بن سلمة) بن دينار البصريّ، أبو سلمة، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، من كبار [8] 181/ 288.

4 -

(قيس بن سعد) أبو عبد الملك، أو أبو عبد اللَّه المكيّ، ثقة [6] 115/ 1066.

5 -

(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة فيقه فاضل، كثير الإرسال [3] 112/ 154.

6 -

(زيد بن أقم) بن زيد بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ المشهور، نزل الكوفة - رضي اللَّه تعالى عنه -، تقدّم في -13/ 13. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 374

شرح الحديث

عن عطاء -رحمه اللَّه تعالى- (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (قَالَ: لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر هذا السياق أن عطاء كان حاضرًا حين سأل ابن عباس زيد بن أرقم - رضي اللَّه تعالى عنهم -، وكذا سياق الرواية التالية، لكن قال الحافظ في "النكت الظراف" 3/ 197 - : سياق النسائيّ يقتضي أن يكون من رواية عطاء عن ابن عباس، عن زيد. انتهى.

ولم يظهر لي وجه استدلاله بسياق المصنّف، فإن ظاهره على العكس، حيث يدلّ على أنه عن عطاء، عن زيد. واللَّه تعالى أعلم.

(مَا عَلَمْتَ) بتقدير همزة الاستفهام، أي أما علمت؟ ويدلّ له رواية أبي داود بلفظ:"هل علمت؟ الخ".

وفي رواية طاوس الآتيه بعد هذا: "قال: قدم زيد بن أرقم، فقال له ابن عباس، يستذكره، كيف أخبرتني عن لحم صيد، أُهدي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو حرام؟، قال: نعم أهدى له رجل عضوًا من لحم صيد، فردّه"(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَ لَهُ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله (عُضْوُ صَيْدٍ، وَهُوَ مُحْرِمٌ) جملة حالية، أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم محرم (فَلَمْ يَقبَلْهُ؟) زاد في رواية أبي داود من طريق موسى بن إسماعيل، عن حماد:"وقال: إنا حرم". يعني إنما ردّه لكونه محرما، لا يحلّ له أكل لحم الصيد، لكن تقدّم أن الراجح أنه ذلك الرجل الذي أهداه إنما صاده لأجله صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه، وهم محرمون، جمعًا بين الأحاديث، فتنبّه. (قَالَ) زيد - رضي اللَّه تعالى عنه - (نَعَمْ) أي علمتُ ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان، تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث زيد بن أرقم - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان موضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -79/ 2821 و 2822 - وفي "الكبرى" 78/ 3803 و 3804. وأخرجه (م) في "الحجّ" 1195 (د) في "المناسك" 1850. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2822 -

(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى، وَسَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:

ص: 375

قَدِمَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، فَقَالَ: لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، يَسْتَذْكِرُهُ، كَيْفَ أَخْبَرْتَنِي عَنْ لَحْمِ صَيْدٍ، أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ حَرَامٌ؟ ، قَالَ: نَعَمْ، أَهْدَى لَهُ رَجُلٌ، عُضْوًا مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ، فَرَدَّهُ، وَقَالَ:«إِنَّا لَا نَأْكُلُ، إِنَّا حُرُمٌ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"عمرو بن عليّ": هو أبو حفص الفلاّس البصريّ. و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان.

وقوله: "وسمعت أبا عاصم" معطوف على "سمعت يحيى"، فعمرو بن عليّ سمع من كليهما، وكان الأولى أن يعطفه بدون إعادة الفعل؛ لأنه لا حاجة إلى إعادة العامل في مثل هذا. واللَّه تعالى أعلم.

و"أبو عاصم": هو الضحاك بن مخلد النبيل. و"الحسن بن مسلم": هو ابن يَنّاق المكيّ الثقة.

وقوله: "قدم زيد بن أرقم" بفتح القاف، وكسر الدال المهملة، ولم يظهر لي من أين، وإلى أين قدومه - رضي اللَّه تعالى عنه -، فاللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "وهو حرام" بالفتح، أي محرم، من إطلاق المصدر، وإرادة اسم المفعول. وقوله:"حُرُم" بضمتين: جمع حرام. والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2823 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَهْدَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رِجْلَ حِمَارِ وَحْشٍ، تَقْطُرُ دَمًا، وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَهُوَ بِقُدَيْدٍ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه محمد ابن قُدامة الهاشميّ المصّيصيّ، فإنه انفرد به هو، وأبو داود، وهو ثقة. و" جرير": هو ابن عبد الحميد. و"منصور": هو ابن المعتمر. و"الحكم": هو ابن عتيبة.

[تنبيه]: كان الأولى للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- تقديم هذا الحديث، والذي بعده على حديثي زيد بن أرقم - رضي اللَّه تعالى عنه - الماضيين، لتكون أحاديث الصعب في موضع واحد. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "رِجْل حمار وحش" ولفظ مسلم: "عجز حمار وحش". وقوله: "تقطر دما" بالتاء، وإنما أنثها؛ لأن الرِّجْل مؤنثة، قال الفيّوميّ: رِجْل الإنسان التي يمشي بها من أصل الفخذ إلى القدم، وهي أنثى، وجمعها أرجل، ولا جمع لها غير ذلك انتهى. ووقع في النسخة "الهندية""يقطر" بالياء التحتانية، وُيوَجَّهُ بأنه إنما ذكرَّه لإضافته إلى مذكر، وهو "حمار"، فاكتسب التذكير منه، كما أشار إليه ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:

ص: 376

وَرُبَّمَا أَكْسَبَ ثَانِ أَولَا

تَأْنِيثًا أنْ كَانَ لِحّذْفٍ مُوهَلَا

أي وتذكيرًا. واللَّه تعالى أعلم.

ولا تخالف بين رواية المصنّف بلفظ "رجل" وبين رواية مسلم بلفظ "عجز"؛ لأن العجز هو المؤخّر فمعناهما متقارب.

ويحتمل أن يكون معنى الرَّجْل هنا بمعنى "الطائفة"، فإن من معاني "الرِّجْل" في "القاموس": الطائفة من الشيء، فيكون بمعنى قوله:"عجز حمار"، وقوله:"عضو حمار". واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "بقديد" الروايات السابقة بالأبواء، أو بودّان، بالشك، أو بالجزم بأحدهما، كما تقدّم بيانه، ولعله للتقارب، أو نحو ذلك عبر به. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: ظاهر رواية سعيد بن جبير هذه، والتي بعدها أن الحديث من مسند ابن عباس، وتقدّم أن الصحيح أنه من مسند الصعب، لا من مسند ابن عباس، كما هو ظاهر رواية عبيد اللَّه بن عبد اللَّه السابقة. فتنبّه.

والحديث صحيح، وقد تقدّم تخريجه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2824 -

(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ وَحَبِيبٍ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي ثَابِتٍ- عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ، أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يوسف بن حماد": هو أبو يعقوب البصريّ، ثقة [10] 25/ 1783.

وقوله: "الْمَعنيّ" -بفتح الميم، وسكون المهملة، بعدها نون-: نسبة إلى مَعْنٍ بطن من الأزد، ومن قيس عَيْلان، ومن طيّء. قاله في "لب اللباب"

(1)

.

و"سفيان بن حبيب": هو أبو محمد البزاز البصريّ، ثقة [9] 67/ 82.

وقوله: "وحبيب" بالجرّ عطفًا على الحكم، فشعبة يروي عنهما، وكلاهما يرويان عن سعيد بن جبير، فما وقع في بعد النسخ من ضبطه بالرفع بالقلم فغلط، فلْيُتَنَبهْ. والحديث صحيح تقدّم الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- "لب اللباب" 2/ 267.

ص: 377

‌80 - (إَذَا ضَحِكَ الْمُحْرِمُ، فَفَطِنَ الْحَلَالُ لِلصَّيدِ، فَقَتَلَهُ، أَيَأْكُلُهُ، أَمْ لَا؟)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "أيأكله" الضمير للمحرم، لا للحلال، والمعنى أنه إذا رأى المحرم الصيد، فضحك منه، لا ليدل الحلال عليه، بل تعجّبًا منه حيث ظهر له في وقت لا يستطيع أن يصطاده فيه، فانتبه الحلال، والتفت، فرأى الصيد، فقتله، فهل يأكل ذلك المحرم من ذلك الصيد، أم يحرم عليه أكله؛ لكون الحلال تفطّن له بسبب ضحكه؟، والجواب أنه يجوز أن يأكل منه؛ لحديث قصّة أبي قتادة رضي الله عنه المذكور في الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2825 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: انْطَلَقَ أَبِي، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ يُحْرِمْ، فَبَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَصْحَابِي، ضَحِكَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ، فَطَعَنْتُهُ، فَاسْتَعَنْتُهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ، وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ، فَطَلَبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أُرَفِّعُ فَرَسِي شَأْوًا، وَأَسِيرُ شَأْوًا، فَلَقِيتُ رَجُلاً مِنْ غِفَارٍ، فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقُلْتُ: أَيْنَ تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ ، قَالَ: تَرَكْتُهُ، وَهُوَ قَائِلٌ بِالسُّقْيَا، فَلَحِقْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَصْحَابَكَ يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ، وَإِنَّهُمْ قَدْ خَشُوا

(1)

، أَنْ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ، فَانْتَظِرْهُمْ، فَانْتَظَرَهُمْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حِمَارَ وَحْشٍ، وَعِنْدِي مِنْهُ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ:«كُلُوا» ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيْميّ البصريّ الحافظ الثبت. و"هشام": هو ابن أبي عبد اللَّه الدستوائيّ البصريّ الحافظ الحجة. والسند مسلسل بالبصريين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، ورواية الابن، عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "انطلق أبي" هكذا ساقه مرسلاً هنا، وقد وصله في الرواية التالية، من طريق معاوية بن سلّام، عن يحيى، فقال: "أخبرني عبد اللَّه بن أبي قتادة، أن أباه أخبره، أنه

(1)

-بضم الشين المعجمة، كما سيأتي ضبطه، فما وقع في النسخة المطبوعة من ضبطه بالقلم بفتح الشين، فغلط، فليُتنبّه.

ص: 378

غزا غزوة الحديبية

" الحديث.

وقوله: "عام الحديبية" فيه أن ترك أبي قتادة الإحرام، ومجاوزته الميقات بلا إحرام، كان قبل أن تقرّر المواقيت، فإن تقريرها كان عام حجة الوداع سنة عشر، كما تقدم، فلا حاجة إلى الاستشكال بأنه كيف جاز له تأخير الإحرام عن الميقات؟، وقد تقدم غير هذا من التأويلات، وهذا أحسنها.

وقوله: "فبينما أنا مع أصحابي الخ" هذا يدلّ على أن عبد اللَّه رواه عن أبيه، كما تقدّم. ولفظ البخاريّ:"فبينا أبي مع أصحابه الخ".

وقوله: "ضحك بعضهم إلى بعض" وفي رواية عليّ بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عند البخاريّ:"فبصُر أصحابي بحمار وحش، فجعل بعضهم يضحك إلى بعض"، زاد في رواية أبي حازم:"وأحبّوا لو أني أبصرته".

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: هكذا في جميع الطرق، والروايات. ووقع في رواية العذريّ في مسلم:"فجعل بعضهم يضحك إليّ"، فشدّدت الياء من "إليّ". قال عياض: وهو خطأ، وتصحيف، وإنما سقط عليه لفظة "بعض"، ثم احتجّ لضعفها بأنهم لو ضحكوا إليه، لكانت أكبر إشارة، وقد قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هل منكم أحد أمره، أو أشار إليه؟ "، قالوا: لا. وإذا دلّ المحرم الحلال على الصيد لم يأكل منه اتفاقًا، وإنما اختلفوا في وجوب الجزاء انتهى.

وتعقّبه النوويّ بأنه لا يمكن ردّ هذه الرواية لصحّتها، وصحة الرواية الأخرى، وليس في واحدة منهما دلالة، ولا إشارة، فإن مجرّد الضحك ليس فيه إشارة.

قال بعض العلماء: وإنما ضحكوا تعجبًا من عروض الصيد لهم، ولا قدرة لهم عليه؛ لمنعهم منه

(1)

.

قال الحافظ: قوله: فإن مجرد الضحك ليس فيه إشارة صحيح، ولكن لا يكفي في ردّ دعوى القاضي، فإن قوله:"يضحك بعضهم إلى بعض" هو مجرّد الضحك. وقوله: "يضحك بعضهم إليّ " فيه مزيد أمر على مجرّد الضحك. والفرق بين الموضعين أنهم اشتركوا في رؤيته، فاستووا في ضحك بعضهم إلى بعض، وأبو قتادة لم يكن رآه، فيكون ضحك بعضهم إليه بغير سبب باعثًا له على التفطّن إلى رؤيته.

ويؤيد ما قال القاضي ما وقع في رواية أبي النضر، عن مولى أبي قتادة، بلفظ:"إذ رأيت الناس متشوفين لشيء، فذهبت انظر، فإذا حمار وحش، فقلت: ما هذا؟، فقالوا: لا ندري، فقلت: هو حمار وحش، فقالوا: هو ما رأيت".

(1)

- "شرح مسلم" 8/ 347.

ص: 379

ووقع حديث أبي سعيد عند البزّار، والطحاويّ، وابن حبّان في هذه القصّة:"وجاء أبو قتادة، وهو حِلٌّ، فنكسوا رؤوسهم، كراهية أن يُحِدُّوا أبصارهم له، فيفطن، فيراه" انتهى.

فكيف يُظنّ بهم مع ذلك أنهم ضحكوا إليه؟، فتبيّن أن الصواب ما قاله القاضي. وفي قول الشيخ: قد صحّت الرواية نظر؛ لأن الاختلاف في إئبات هذه اللفظة، وحذفها لم يقع في طريقين مختلفين، وإنما وقع في سياق إسناد واحد مما عند مسلم، فكان مع من أثبت لفظ "بعض" زيادة علم سالمة من الإشكال، فهي مقدّمة.

وبيّن محمد بن جعفر في روايته عن أبي حازم، عن عبد اللَّه بن أبي أوفى، كما عند البخاريّ في "الهبة" أن قصّة صيده للحمار كانت بعد أن اجتمعوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، ونزلوا في بعض المنازل، ولفظه:"كنت يومًا جالسًا مع رجال من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم في منزل في طريق مكة، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نازل أمامنا، والقوم محرمون، وأنا غير محرم". وبيّن في هذه الرواية السبب الموجب لرؤيتهم اباه، دون أبي قتادة بقوله:"فأبصروا حمارًا وحشيًّا، وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبّوا لو أني أبصرته، والتفتّ، فأبصرته". ووقع في رواية أبي سعيد المذكورة أن ذلك وقع، وهم بعسفان، وفيه نظر، والصحيح ما في رواية البخاريّ، من طريق صالح بن كيسان، عن أبي محمد، مولى أبي قتادة، عنه، قال: "كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالقاحة، ومنا المحرم، وغير المحرم، فرأيت أصحابي، يتراءون شيئًا، فنظرت، فإذا حمار وحش

" الحديث.

و"القاحة" -بقاف، ومهملة خفيفة، بعد الألف-: موضع قريبٌ من السقيا انتهى

(1)

.

وقوله: "وخشينا أن نقتطع" بالبناء للمفعول: أي نصير مقطوعين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم منفصلين عنه؛ لكونه سبقهم، وكذا قوله بعد هذا:"وخَشُوا أن يقتطعوا دونك"، وبيّن ذلك رواية عليّ بن المبارك، عن يحيى، عند أبي عوانة بلفظ:"وخشينا أن يقتطعنا العدو". وللبخاريّ: "وأنهم خشوا أن يقتطعهم العدوّ دونك". وهذا يُشعر بأن سبب إسراع أبي قتادة لإدراك النبيّ صلى الله عليه وسلم خشية على أصحابه أن ينالهم بعض أعدائهم. وفي رواية أبي النضر عند البخاريّ في "الصيد": "فأبى بعضهم أن يأكل، فقلت: أنا أستوقف لكم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأدركته، فحدثته الحديث". ففي هذا أن سبب إدراكه أن يستفتيه عن قصّة أكل الحمار. ويمكن الجمع بأن يكون ذلك بسبب الأمرين. قاله في "الفتح"

(2)

.

وقوله: "أرفّع الخ" بالتخفيف، والتشديد: أي أكلّفه السير السريع. و"شأوا" بالشين

(1)

- "فتح" 4/ 492 - 493.

(2)

- "فتح" 4/ 494.

ص: 380

المعجمة، بعدها همزة ساكنة، أي تارة، والمراد أنه يركضه تارة، ويسير بسهولة أخرى. قاله في "الفتح".

وفي "اللسان": الشأو: الطَّلَقُ، والشوط. والشأو: الغاية، والأمد. قال: ويقال: عدا الفرسُ شأوًا، أو شأوين: أي طَلَقًا، أو طلقين. انتهى. و"الطلق -بفتحين، أو بكسر، فسكون-: الشوط.

وقوله: "فلقيت رجلاً من بني غفار". قال الحافظ: لم أقف على اسمه.

وقوله: "قال: تركته، وهو قائل بالسقيا"، أي يريد القيلولة بالموضع المسمى بالسُّقْيا -بضم السين المهملة، وسكون القاف، بعدها تحتانيّة مقصورة-: قرية جامعة بين مكة والمدينة.

وعند البخاريّ: "تركته بِتَعْهِن، وهو قائل السقيا". قال في "الفتح": و"تعهن" -بكسر المثناة، وبفتحها، بعدها عين مهملة ساكنة، ثم هاء مكسورة، ثم نون-. ورواية الأكثر بالكسر، وبه قيّدها البكريّ في "معجم البلاد". ووقع في رواية عند الكشميهنيّ بكسر أوله، ؤثالثه، ولغيرهما بفتحهما. وحكى أبو ذرّ الهرويّ أنه سمعها من العرب بذلك المكان بفتح الهاء، ومنهم من يضمّ التاء، ويفتح العين، ويكسر الهاء. وقيل: هو من تغييراتهم، والصواب الأول. وأغرب أبو موسى المدينيّ، فضبطه بضم أوله، وثانيه، وبتشديد الهاء، قال: ومنهم من يكسر التاء. وأصحاب الحديث يسكنون العين. ووقع في رواية الإسماعيليّ "بِدِعْهِن" بالدال المهملة بدل المثناة.

وقوله: "قائل، قال النووي: روي بوجهين:

أصحّهما، وأشهرهما بهمزة بين الألف واللام، من القيلولة، أي تركته في الليل بتعهن، وعزمُهُ أن يَقِيل بالسقيا، فمعنى قوله:"وهو قائل"، أي سيقيل.

والوجه الثاني أنه قابل بالموحدة، وهو غريب، وكأنه تصحيف، فإن صحّ فمعناه أن تعهن موضع مقابل للسقيا، فعلى الأول الضمير في قوله:"وهو" للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وعلى الثاني الضمير للموضع، وهو تعهن، ولا شكّ أن الأول أصوب، وأكثر فائدة.

وأغرب القرطبيّ، فقال:"وهو قائل" اسم فاعل من القول، أو من القائلة، والأول هو المراد هنا، و"السقيا" مفعول بفعل مضمر. وكأنه كان بتعهن، وهو يقول لأصحابه: اقصدوا السقيا.

ووقع عند الإسماعيليّ من طريق ابن علية، عن هشام:"وهو قائم بالسقيا"، فأبدل اللام في "قائل" ميمًا، وزاد الباء في "السقيا". قال الإسماعيليّ: الصحيح "قائل" باللام. قال الحافظ: وزيادة الباء توهي الاحتمال الأخير المذكور انتهى

(1)

.

(1)

- "فتح" 4/ 494 - 495.

ص: 381

وقوله: "يقرءون عليك السلام" -بفتح الياء، من قرأت ثلاثيًّا. قال الفيّوميّ: وقرأتُ على زيد السلامَ أقرؤه عليه قراءةً، وإذا أمرت منه قلتَ: اقرأ عليه السلام. قال الأصمعيّ: وتعديته بنفسه خطأٌ، فلا يقال: اقرأه السلام؛ لأنه بمعنى "اتلُ عليه".

وحكى ابن القطّاع أنه يتعدّى بنفسه رباعيًّا، فيقال: فلان يُقرِئك السلامَ. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أنه إذا تعدى بحرف الجرّ، كهذا الحديث، فهو ثلاثيّ مفتوح الأول، لا غير، وإذا تعدى بنفسه، فهو رباعيّ، لا غير. واللَّه تعالى أعلم.

وفيه استحباب إرسال السلام إلى الغائب، سواء كان أفضل من المرسل، أم لا؟؛ لأنه إذا أرسله إلى من هو أفضل، فمن دونه أولى. قال النوويّ: قال أصحابنا: ويجب على الرسول تبليغه، ويجب على المرسل إليه ردّ الجواب حين يبلّغه على الفور انتهى

(1)

.

وقوله: "قد خَشُوا" بفتح الخاء، وضم الشين المعجمتين، لا بفتحها، كما ظُنّ، وأصله "خَشِيوا" بكسرها، فنقلت ضمة الياء إليها؛ استثقالاً للصعود من الكسرة إلى الضمّة،، ثم حذفت الياء؛ لالتقاء الساكنين، فصار "خَشُوا" بفتح، فضتم، فليُتنبّه.

وقوله: "فانتظرهم" بصيغة فعل الأمر، من الانتظار. وقوله:"فانتَظَرَهُمْ" بصيغة فعل الماضي، أي انتظر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه.

وقوله: "وعندي منه" فيه حذف مبتدإ، أي عندي منه فاضلةٌ. ويدلّ على هذا المحذوف ما يأتي في الرواية التالية، بلفظ:"فأنبأته أن عندنا من لحمه فاضلةً. أي قطعة فاضلة، أي بقيت بعد أكله. وفي رواية البخاريّ: "وعندي منه فاضلة". أي قطعة فضلت منه: أي بقيت. ويحتمل أن تكون "من" اسمًا بمعنى "بعض" مبتدأً خبره الظرف قبله، أي وبعضه كائن عندي. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "فقال للقوم: كلوا" صيغة الأمر هنا للإباحة، لا للوجوب؛ لأنها وقعت جوابا عن سؤالهم عن الجواز، لا عن الوجوب، فوقعت الصيغة على مقتضى السؤال.

[تنبيه]: قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ولم يذكر في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم أكل من لحمها، وذُكر عند البخاريّ في روايتي أبي حازم، عن عبد اللَّه بن أبي قتادة، ولم يَذكر ذلك أحد من الرواة عن عبد اللَّه بن أبي قتادة غيره. ووافقه صالح بن حسان عند أحمد، وأبي داود الطيالسيّ، وأبي عوانة، ولفظه:"فقال: كلوا، وأطعموني"، وكذا لم يذكرها أحد من الرواة عن أبي قتادة نفسه إلا المطلب، عند سعيد بن منصور. ووقع لنا من رواية أبي محمد، وعطاء بن يسار، وأبي صالح، ومن رواية أبي سلمة بن

(1)

- "شرح مسلم" 8/ 348.

ص: 382

عبد الرحمن، عند إسحاق، ومن رواية عباد بن تميم، وسعد بن إبراهيم عند أحمد. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: تفرد معمر، عن يحيى بن أبي كثير بزيادة مضادّة لروايتي أبي حازم، كما أخرجه إسحاق، وابن خزيمة، والدارقطنيّ من طريقه، وقال في آخره:"فذكرت شأنه لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقلت: إنما اصطدته لك، فأمر أصحابه، فأكلوه، ولم يأكل منه، حين أخبرته أني اصطدته له". قال ابن خزيمة، وأبو بكر النيسابوريّ، والدارقطنيّ، والجوزقيّ: تفرّد بهذه الزيادة معمر، قال ابن خزيمة: إن كانت هذه الزيادة محفوظة احتمل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم أكل من لحم ذلك الحمار قبل أن يُعلمه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله، فلما أعلمه امتنع. انتهى.

قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه لو كان حراما ما أُقرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أكله منه إلى أن أعلمه أبو قتادة بأنه اصطاده لأجله

(1)

.

ويحتمل أن يكون ذلك لبيان الجواز، فإن الذي يحرم على المحرم إنما هو الذي يعلم أنه صيد من أجله، وأما إذا أُتي بلحم، لا يدري ألحم صيد، أو لا، فحمله على أصل الإباحة، فأكل منه، لم يكن ذلك حرامًا على الآكل.

قال: وعندي بعد ذلك فيه وقفة؛ فإن الروايات المتقدّمة ظاهرة في أن الذي تأخر هو العضد، وأنه صلى الله عليه وسلم أكلها حتى تعرّقها، أي لم يُبق منها إلا العظم. ووقع عند البخاريّ في "الهبة":"حتى نفّدها"، أي فرّغها. فأيُّ شيء يبقى منها حتى يأمر أصحابه بأكله. لكن رواية أبي محمد عند البخاريّ في "الصيد":"أبقي معكم شيء منه؟، قلت: نعم، قال: كلو، فهو طعمة أطعمكموها اللَّه"، فأشعر بأنه بقي منها غير العضد. واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام الحافظ

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وبقية مباحثه تقدمت قبل باب، فراجعها تزدد علمًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2826 -

(أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ النَّسَائِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(3)

مُحَمَّدٌ -وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الصُّورِيُّ- قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ -وَهُوَ ابْنُ سَلاَّمٍ- عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، غَزْوَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، قَالَ: - فَأَهَلُّوا بِعُمْرَةٍ، غَيْرِي، فَاصْطَدْتُ حِمَارَ وَحْشٍ، فَأَطْعَمْتُ أَصْحَابِي مِنْهُ،

(1)

- قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في هذا التعقّب نظر لا يخفى.

(2)

- "فتح" 4/ 501.

(3)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 383

وَهُمْ مُحْرِمُونَ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْبَأْتُهُ أَنَّ عِنْدَنَا مِنْ لَحْمِهِ فَاضِلَةً، فَقَالَ:«كُلُوهُ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، عبيد اللَّه بن فضالة بن إبراهيم النسائيّ، فإنه من أفراده، وهو ثقة ثبت [11] 17/ 898.

و"معاوية بن سلّام" بتشديد اللام: هو أبو سلّام الدمشقيّ، وكان يسكن حمص، ثقة [7] 13/ 1479. وقوله:"فاضلة": أي قطعة فاضلة، وبقية.

والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌81 - (إِذَا أَشَارَ الْمُحْرِمُ إِلَى الصَّيدِ، فَقَتَلَهُ الْحَلَالُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: جواب "إذا" محذوف لدلالة الحديث عليه، تقديره: لا يجوز للمحرم أكله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2827 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَسِيرٍ لَهُمْ، بَعْضُهُمْ مُحْرِمٌ، وَبَعْضُهُمْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ، قَالَ: فَرَأَيْتُ حِمَارَ وَحْشٍ. فَرَكِبْتُ فَرَسِي، وَأَخَذْتُ الرُّمْحَ، فَاسْتَعَنْتُهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي، فَاخْتَلَسْتُ سَوْطًا مِنْ بَعْضِهِمْ، فَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ، فَأَصَبْتُهُ، فَأَكَلُوا مِنْهُ، فَأَشْفَقُوا، قَالَ: فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ ، فَقَالَ:«هَلْ أَشَرْتُمْ، أَوْ أَعَنْتُمْ؟» ، قَالُوا: لَا، قَالَ:«فَكُلُوا» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"أبو داود": هو سليمان بن داود الطيالسيّ. و"عثمان بن عبد اللَّه بن موهب" -بفتح الميم، والهاء- المدنيّ الأعرج، ثقة [4] 5/ 468. وفي "الفتح": مدنيّ تابعيّ، روى عن تابعيّ أكبر منه قليلاً. انتهى

(2)

.

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

- "فتح" 4/ 499.

ص: 384

وقوله: "فاختلست سوطا" أي سلبته، وأخذته من صاحبه بسرعة. وقوله: إ فشددت،: أي عدوت، وأسرعت إلى ذلك الحمار، فهو بمعنى قوله في الرواية الأخرى:"فحملت عليه".

وقوله: "فأشفقوا": أي خافوا من أكلهم لحم ذلك الصيد.

وقوله: "هل أشرتم الخ" وفي رواية البخاريّ: "أمنكم أحد أمره أن يَحمل عليها، أو أشار إليها؟ ". وفيه أنه لو أمر المحرم الحلال باصطياده، أو أشار عليه، فإنه لا يحلّ له أكله، وهو محك استدلال المصنّف على ما ترجم له.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبقت بقية مباحثه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

2828 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ، أَوْ يُصَادَ لَكُمْ» .

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِي الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ).

قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرو، لَيْسَ بالْقَوِيَّ في الْحَدِيثِ، وَإنْ كَانَ قَدْ

رَوَى عَنْهُ مَالِكْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(يعقوب بن عبد الرحمن) القاريّ المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، حليف بني زهرة، ثقة [8] 45/ 739.

3 -

(عمرو) بن أبي عمرو، واسمه ميسرة، مولى المطّلب بن عبد اللَّه بن حنطب المخزوميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوق

(1)

، ربما وهم [5].

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ليس به بأس. وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: في حديثه ضعف، ليس بالقويّ. وقال أبو خيثمة، عن ابن معين: ضعيف. وقال أبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال البخاريّ: روى عن عكرمة في قصّة البهيمة، فلا أدري سمع منه، أو لا؟. وقال الآجريّ: سألت أبا داود عنه؟ فقال: ليس هو بذاك، حدث عنه مالك بحديثين، روى عن عكرمة، عن ابن عباس:"من أتى بهيمة حُدَّ". وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وقال ابن عديّ: لا بأس به؛ لأن مالكًا يروي عنه،

(1)

هذا هو الحقّ، كما سيظهر من أقوال الأئمة فيه، وأما قول الحافظ في "التقريب": ثقة، ففيه نظر لا يخفى فتنبَّهْ. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 385

ولا يروي مالك إلا عن صدوق ثقة. وقال ابن سعد: مات في خلافة أبي جعفر، وزيادُ ابنُ عبيد اللَّه على المدينة. وكان كثير الحديث، صاحب مراسيل. وقال عثمان الدارميّ في حديث رواه في الأطعمة: هذا الحديث فيه ضعف، من أجل عمرو بن أبي عمرو.

وقال ابن حبّان في "الثقات": ربما أخطأ، يُعتبر حديثه من رواية الثقات عنه. وقال العجليّ: ثقة ينكر عليه حديث البهيمة. وقال الساجيّ: صدوق، إلا أنه يَهِم. وكذا قال الأزديّ. وقال الطحاويّ: تكلّم في روايته بغير إسقاط

(1)

. وأرّخ ابن قانع وفاته سنة (44)

(2)

. وقال الذهبيّ: حديثه حسن، منحطّ عن الرتبة العلياء من الصحيح. قال الحافظ: كذا قال، وحقّ العبارة أن يُحذف "العليا". انتهى. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان، هذا 2828 وحديث: "اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن

" كرره خمس مرّات برقم

(3)

54490 و 54450 و 5453 و 5476 و 5503.

4 -

(والمطّلب) بن عبد اللَّه بن المطّلب بن حنطب بن الحارث المخزوميّ، صدوق كثير التدليس، والإرسال [4] 65/ 81.

5 -

(جابر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجالط الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه جابر صلى الله عليه وسلم من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "صَيْدُ الْبَرَّ) أي مصيده (لَكُمْ حَلَالٌ) أي وأنتم حُرُم، كما في رواية الترمذيّ، وغيره، وهو بضمتين، جمع حرام، بمعنى المحرم. يعني أن أكل لحم الصيد في حال إحرامكم حلال لكم (مَا لَمْ تَصِيدُوهُ) "ما" مصدرية ظرفية، أي مدّة عدم صيدكم له (أَوْ يُصَادْ لَكُمْ) ووقع

(1)

- هكذا نسخة "تهذيب الكمال" ولعله أراد إذا روى بغير إرسال، يعني أنه روى حديثا موصولا يتكلم فيه، فما بالك إذا أرسل؟. واللَّه أعلم.

(2)

- أي بعد مائة. وفي "التقريب": مات بعد الخمسين. أي ومائة.

(3)

- أي بترقيم الشيخ أبي غدّة -رحمه اللَّه تعالى-.

ص: 386

في "الكبرى": "أو يُصَد لكم" بحذف الألف من الوسط، وهو الجادّة.

قال الحافظ السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "حاشية أبي داود": كذا في النسخ -يعني "أو يصاد" بالألف، والجاري على قوانين العربية:"أوْ يُصَدْ"؛ لأنه معطوف على المجزوم.

ونقل في شرحه لهذا الكتاب عن الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-، قال: هكذا رواية "يُصاد" بالألف، وهي جائزة، على لغة، ومنه قول الشاعر [من الرجز]:

إِذَا الْعَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلَّقِ

وَلَا تَرَضَّاهَا وَلَا تَمَلَّقِ

(1)

وقوله [من الطويل]:

أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالأَنْبَاءُ تَنْمِي

بِمَا لَاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادِ

وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرحه": قلت: والوجه نصب "يصاد" على أن "أو" بمعنى "إلاَّ"، فلا إشكال. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله السنديّ وجه حسن، لو ساعدته الرواية، والذي يفهم من كلام وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-، أن الرواية بالجزم مع إثبات الألف، فإذا كان كذلك، فلا وجه لتوجيهه بالنصب؛ لأن الرواية هي المعتمدة، فما قاله وليّ الدين هو المتعيّن. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ) النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- (عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، لَيْسَ بِالْقَوِيَّ فِي الْحَدِيثِ، وَإنْ كَانَ قَدْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف بهذا تضعيف هذا الحديث، من أجل عمرو بن أبي عمرو، فقط، لكن الذي يظهر لي أن تضعيف الحديث ليس قاصرًا على عمرو هذا، فإن عمرًا وثّقه كثير من أهل العلم، كما تقدم في ترجمته، فليس ضعف الحديث بسببه فقط، وإنما ضعف الحديث من وجوه أخرى أيضًا، سنذكرها قريبًا.

قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: قد تبع النسائيَّ على هذا ابنُ حزم، فقال: خبر جابر ساقط؛ لأنه عن عمرو، وهو ضعيف، وقد سبقهما إلى تضعيفه يحيى بن معين، وغيره، لكن وثّقه أحمد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وابن عديّ، وغيرهم، وأخرج له الشيخان في "صحيحيهما"،، فوجب قبول خبره، وقد سكت أبو داود على

(1)

- وبعده:

وَاعْمِدْ لأُخْرَى ذَاتِ دَلٍّ مُونِقِ

لَيِّنَةِ الْمَسَّ كَمَسِّ الْخِرْنِقِ

(2)

- "شرح السندي" 5/ 187.

ص: 387

حديثه هذا، فهو عنده إما حسن، أو صحيح، وصححه الحاكم في "المستدرك"، وقال: إنه على شرط الشيخين. ولكن المطلب بن عبد اللَّه بن حنطب لم يخرج له واحد من الشيخين في "صحيحه".

وهذا يدلّ على أن الحاكم لا يريد بكونه على شرطهما أن يكون رجال إسناده في كتابيهما، كما ذكره جماعة؛ لأنه لا يجهل كون الشيخين لم يخرجا للمطلب، فدلّ على أن مراده أن يكون راويه في كتابيهما، أو في طبقة من أخرجا له.

نعم أعلّ الترمذيّ هذا الحديث بالانقطاع بين المطلب وبين جابر، فقال: لا يُعرف له سماع منه. وكذا قال أبو حاتم، وقال البخاريّ: لا أعرف للمطلب سماعًا من أحد من الصحابة، إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال الدارميّ مثله. ذكره السيوطيّ في شرحه

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قول وليّ الدين: وهذا يدلّ على أن الحاكم الخ" فيه نظر لا يخفى، بل ما ذكره الجماعة هو الصواب، وقوله: "لأنه لا يجهل الخ" هذا استدلال غريب،، فقد صحح الحاكم أحاديث في أسانيدها راوة متروكون أو وضاعون، فهل يجاب عنه بمثل هذا؟، هذا شيء عجيب!!!. واللَّه تعالى أعلم.

وقال ابن التركمانيّ -رحمه اللَّه تعالى- في معرض ردّه على البيهقيّ في تقويته حديث جابر هذا: ما نصّه: فالحديث في نفسه معلول، عمرو بن أبي عمرو مع اضطرابه في هذا الحديث متكلم فيه، قال ابن معين، وأبو داود: ليس بالقويّ، زاد يحيى: وكان مالك يستضعفه. وقال السعديّ مضطرب الحديث. والمطلب قال فيه ابن سعد: ليس يحتجّ بحديثه؛ لأنه يرسل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وعامة أصحابه يدلسون، ثم الحديث مرسل، قال الترمذيّ: المطلب لا يعرف له سماع من جابر.

فظهر بهذا أن الحديث فيه أربع علل:

(إحداها): الكلام في المطّلب. (ثانيتها): أنه ولو كان ثقة، فلا سماع له من جابر، فالحديث مرسل. (ثالثتها): الكلام في عمرو. (رابعتها): أنه وإن كان ثقة، فقد اختلف فيه، فقيل: عنه، عن المطّلب بن عبد اللَّه، عن جابر. وقيل: عنه عن رجل من بني سلمة، عن جابر. ورواه الطحاويّ من وجه آخر، عن المطّلب، عن أبي موسى. انتهى كلام ابن التركمانيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا

(1)

- "زهر الربى" 5/ 187 - 188.

(2)

- راجه "الجوهر النقيّ في الردّ على البيهقيّ" 5/ 191.

ص: 388

ضعيف للعلل المذكورة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا ضعيف، كما مرّ الكلام عليه آنفًا.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -81/ 2828 - وفي "الكبرى" 80/ 3810. وأخرجه (د) في "المناسك" 1851 (ت) في "الحجّ" 846 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 14478. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌82 - (مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مَنَ الصَّيْدِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "ما" اسم موصول خبر لمحذوف، أي هذه الأبواب الآتية في ذكر الأحاديث الدّالّة على الحيوانات التي يجوز للمحرم قتلها، وهي من الصيد.

والظاهر أن هذه الترجمة بمنزلة الكتاب، والتراجم الآتية بمنزلة الفصول له. واللَّه تعالي أعلم بالصواب.

83 -

(قَتْلُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ)

(*)

2829 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «خَمْسٌ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد المذكور في الباب الماضي.

(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا الباب ليس مرقما في طبعة أبي غدة، وازداد ترقيم الأبواب بهذا (هنا) رقما، ثم تكرر بابان برقم 85، فصار الترقيم هنا [82، 83، 84، 85، 85، 86]، وأصله [82،. . .، 83، 84، 85، 86]، وقد أبقينا على ترقيم أبي غدة في شجرة العناوين

ص: 389

2 -

(مالك) بن أنس المدنيّ الإمام الحجة الثبت الفقيه [7] 7/ 7.

3 -

(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.

4 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيّات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (145) من رباعيّات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه أصحّ الأسانيد على الإطلاق، على ما نُقل عن الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-، وقد سبق غير مرّة. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، و"بَغْلان" قرية من قرى بَلْخَ. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين ألسبعة، روى (2635) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "خَمْسٌ") أي من الدوابّ، وهو مبتدأ؛ لتخصصه بالصفة المقدّرة، وخبره جملة "ليس على المحرم الخ".

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: التقييد بالخمس، وإن كان مفهومه اختصاص المذكورات بذلك، لكنه مفهوم عدد، وليس بحجة عند الأكثرين، وعلى تقدير اعتباره، فيحتمل أن يكون قاله صلى الله عليه وسلم أوّلاً، ثم بين بعد ذلك أن غير الخمس يشترك معها في الحكم. فقد ورد في بعض طرق عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - بلفظ:"أربع"، وفي بعض طرقها بلفظ:"ستّ". فأما طريق "أربع" فأخرجها مسلم من طريق القاسم، عنها، فأسقط الغراب. وأما طريق "ست"، فأخرجها أبو عوانة في "المستخرج" من طريق المحاربيّ، عن هشام، عن أبيه، عنها، فأثبتها، وزاد الحيّة. ويشهد لها ما رواه مسلم عن شيبان بن فرّوخ، عن أبي عوانة، عن زيد بن جبير، قال: سأل رجل ابن عمر: ما يقتل المحرم، من الدوابّ، وهو محرم؟، قال: حدثتني إحدى نسوة النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحُديّا، والغراب، والحيّة".

وأغرب عياض، فقال: وفي غير كتاب مسلم ذكر الأفعى، فصارت سبعًا. وتُعُقّب بأن الأفعى داخلة في مسمى الحية. والحديث الذي ذُكِرَت فيه أخرجه أبو عوانة في "المستخرج" من طريق ابن عون، عن نافع في آخر حديث الباب، قال: قلت لنافع: فالأفعى؟ قال: ومن يشكّ في الأفعى؟ انتهى.

وقد وقع في حديث أبي سعيد، عند أبي داود نحو رواية شيبان، وزاد السبع العادي، فصارت سبعًا.

ص: 390

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن خزيمة، وابن المنذر زيادة ذكر الذئب، والنمر على الخمس المشهورة، فتصير بهذا الاعتبار تسعًا. لكن أفاد ابن خزيمة عن الذهليّ أن ذكر الذئب، والنمر من تفسير الراوي للكلب العقور.

ووقع ذكر الذئب في حديث مرسل، أخرجه ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وأبو داود من طريق سعيد بن المسيّب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"يقتل المحرم الحية، والذئب". ورجاله ثقات. وأخرج أحمد من طريق حجاج بن أرطأة، عن وَبَرَة، عن ابن عمر، قال:"أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقتل الذئب للمحرم". وحجاج ضعيف، وخالفه مسعر، عن وبرة، فرواه موقوفًا، أخرجه ابن أبي شيبة.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: فهذا جميع ما وقفت عليه في الأحاديث المرفوعة، زيادة على الخمس المشهورة، ولا يخلو شيء من ذلك من مقال. واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

(لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ) أي إثم، وفي الرواية الآتية في -88/ 2836 - من طريق الزهريّ، عن سالم، عن أبيه: "خمس من الدوابّ، لا جناح في قتلهنّ على من قتلهن في الحرم، والإحرام

". وفي رواية لمسلم من طريق معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - بلفظ: "يُقتلن في الحلّ والحرم".

فعرف بهذا أنه لا إثم في قتلها على المحرم، ولا على الحلال، في الحرم، ولا في غيره. ويعرف حكم الحلال أيضًا بكونه لم يقم به مانع، وهو الإحرام، فهو بالجواز أولى.

ثم إنه ليس في نفي الجناح، وكذا الحرج في طريق سالم دلالة على أرجحية الفعل على الترك، لكن ورد في طريق زيد بن جبير عند مسلم، بلفظ:"أمر"، وكذا في طريق معمر، ولأبي عوانة من طريق ابن نمير، عن هشام، عن أبيه بلفظ:"ليُقتل المحرم". وظاهر الأمر الوجوب، ويحتمل الندب، والإباحة.

وروى البزّار من طريق أبي رافع، قال:"بينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في صلاته، إذ ضرب شيئًا، فإذا هي عقرب، فقتلها، وأمر بقتل العقرب، والحيّة، والفأرة، والحدأة للمحرم". لكن هذا الأمر ورد بعد الحظر؛ لعموم نهي المحرم عن القتل، فلا يكون للوجوب، ولا للندب، ويؤيّد ذلك رواية الليث، عن نافع، بلفظ:"أذن". أخرجه مسلم، والنسائيّ، عن قتيبة، عنه، لكن لم يسق مسلم لفظه. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود، وغيره:"خمس قتلهنّ حلال للمحرم" انتهى.

(1)

- "فتح" 4/ 508 - 509.

ص: 391

(الغُرَابُ) زاد في رواية سعيد بن المسيّب، عن عائشة، عند مسلم:"الأبقع"، وهو الذي في ظهره، أو بطنه بياض. وأَخذ بهذا القيد بعض أصحاب الحديث، كما حكاه ابن المنذر وغيره. قال الحافظ: ثم وجدت ابن خزيمة قد صرّح باختياره، وهو قضيّة حمل المطلق على المقيّد. وأجاب ابن بطال بان هذه الزيادة لا تصحّ؛ لأنها من رواية قتادة، عن سعيد، وهو مدلس، وقد شذّ بذلك. وقال ابن عبد البرّ: لا تثبت هذه الزيادة. وقال ابن قُدامة: الروايات المطلقة أصحّ.

وفي جميع هذا التعليل نظر:

أما دعوى التدليس، فمردودة بأن شعبة لا يروي عن شيوخه المدلّسين إلا ما هو مسموع لهم، وهذا من رواية شعبة، بل صرّح النسائيّ في روايته من طريق النضر بن شُميل، عن شعبة بسماع قتادة. وأما نفي الثبوت، فمردود بإخراج مسلم. وأما الترجيح فليس من شرط قبول الزيادة، بل الزيادة مقبولة من الثقة الحافظ، وهو كذلك هنا. نعم قال ابن قدامة: يلتحق بالأبقع ما شاركه في الإيذاء، وتحريم الأكل.

وقد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحبّ من ذلك، ويقال له: غراب الزرع، ويقال له: الزاغ، وأفتوا بجواز أكله، فبقي ما عداه من الغربان ملتحقًا بالأبقع.

ومنها الغُدَاف على الصحيح كما في "الروضة"، بخلاف تصحيح الرافعيّ، وسمى ابن قدامة الغداف غراب البين، والمعروف عند أهل اللغة أنه الأبقع، قيل: سمي غراب البين؛ لأنه بان عن نوح عليه السلام لما أرسله من السفينة ليكشف خبر الأرض، فلقي جيفة، فوقع عليها، ولم يرجع إلى نوح، وكان أهل الجاهلية يتشاءمون به، فكان إذا نعب مرتين، قالوا: آذن بشرّ، وإذا نعب ثلاثًا قالوا: آذن بخير، فأبطل الإسلام ذلك.

وكان ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - إذا سمع الغراب قال: اللَّهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك.

وقال صاحب "الهداية": المراد بالغراب في الحديث الغداف، والأبقع؛ لأنهما يأكلان الجيف، وأما غراب الزرع، فلا. وكذا استثناه ابن قُدامة، وما أظنّ فيه خلافًا.

وعليه يحمل ما جاء في حديث أبي سعيد عند أبي داود، إن صحّ، حيث قال فيه:"ويرمي الغراب، ولا يقتله". وروى ابن المنذر وغيره نحوه عن عليّ، ومجاهد.

قال ابن المنذر: أباح كلّ من يُحفظ عنه العلم قتل الغراب في الإحرام إلا ما جاء عن عطاء، قال في محرم كسر قرن

(1)

غراب، فقال: إن أدماه، فعليه الجزاء. وقال

(1)

- هكذا في "الفتح"، ولينظر هل للغراب قرن؟، أو لعله مصحّف من جناح. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 392

الخطابيّ: لم يتابع أحد عطاء على هذا انتهى.

ويحتمل أن يكون مراده غراب الزرع. وعند المالكيّة اختلاف آخر في الغراب، والحدأة، هل يتقيّد جواز قتلهما بأن يبتدىء بالأذى، وهل يختصّ ذلك بكبارها؟ والمشهور عنهم -كما قال ابن شاس- لا فرق، وفاقًا للجمهور.

ومن أنواع الغربان الأعصم، وهو الذي في رجليه، أو في جناحيه، أو بطنه بياض، أو حمرة. وله ذِكْر في قصّة حفر عبد المطّلب لزمزم. وحكمه حكم الأبقع.

ومنها: العقعق، وهو قدر الحمامة على شكل الغراب، قيل: سمي بذلك؛ لأنه يعقّ فراخه، فيتركها بلا طعام. وبهذا يظهر أنه نوع من الغربان، والعرب تتشاءم به أيضًا.

ووقع في "فتاوى قاضي خان" الحنفيّ: مَن خرج لسفر، فسمع صوت العقعق، فرجع كَفَر.

وَحُكْمُهُ حُكْمُ الأبقع على الصحيح. وقيل: حكم غراب الزرع. وقال أحمد: إن أكل الجيف، وإلا فلا بأس به. قاله في "الفتح"

(1)

.

(وَالْحِدَأَةُ) مقصورًا، بوزن عِنَبة، واحدة الْحِدَأ بكسر أوله، وفتح ثانيه، بعدها همزة بغير مدّ، وحكى صاحب "المحكم" المد فيه ندورًا. والهاء فيه ليست للتأنيث، بل هي للوحدة، كالهاء في "التمرة". وحكى الأزهريّ "حدوة" بواو بدل الهمزة. ووقع في رواية البخاريّ في "بدء الخلق" بلفظ "الْحُدَيَّا"، ومئله لمسلم في رواية هشام بن عروة، عن أبيه. قال: قال قاسم بن ثابت: الوجه فيه الهمزة، وكأنه سهّل، ثم أُدغم. وقيل: هي لغة حجازية، وغيرهم يقول:"حُديّة"، ومن خواصّ الحدأة أنها تقف في الطيران، ويقال: إنها لا تختطف إلا من جهة اليمين.

[تنبيه]: يلتبس بالحدأة الْحَدَأة بفتح أوله، وهو فأس له رأسان

(2)

.

(وَالْعَقْرَبُ) هذا اللفظ للذكر والأنثى، وقد يقال لها: عقربة، وعقرباء، وليس منها العقربان، بل هي دُويبة طويلة، كثيرة القوائم. قال صاحب "المحكم": ويقال: إن عينها في ظهرها، وإنها لا تضرّ ميتا، ولا نائمًا، حتى يتحرّك. ويقال: لدغته العقرب، بالغين المعجمة، ولسعته بالمهملتين. وقد تقدّم اختلاف الرواة في ذكر الحية بدلها في حديث الباب، ومن جمعهما. قال الحافظ: والذي يظهر لي أنه صلى الله عليه وسلم نبّه بإحداهما على الأخرى عند الاقتصار، وبيّن حكمهما معًا، حيث جمع. قال ابن المنذر: لا نعلهم اختلفوا في جواز قتل العقرب. وقال نافع لما قيل له: فالحية؟ قال: لا يختلف فيها.

(1)

- "فتح" 4/ 510 - 511.

(2)

- "فتح" 4/ 511.

ص: 393

وفي رواية: ومن يشكّ فيها؟. وتعقبه ابن عبد البرّ بما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق شعبة أنه سأل الحكم، وحمادًا؟ فقالا: لا يقتل المحرم الحية، ولا العقرب. قال: ومن حجتهما أنهما من هوامّ الأرض، فيلزم من أباح قتلهما مثل ذلك في سائر الهوامّ، وهذا اعتلال لا معنى له. نعم عند المالكية خلاف في قتل صغير الحية، والعقرب التي لا تتمكن من الأذى.

(وَالْفَاْرَةُ) بهمزة ساكنة، ويجوز فيها التسهيل، ولم يختلف العلماء في جواز قتلها للمحرم، إلا ما حكي عن إبراهيم النخعيّ، فإنه قال: فيها جزاء، إذا قتلها المحرم.

أخرجه ابن المنذر. وقال: هذا خلاف السنة، وخلاف قول جميع أهل العلم.

وروى البيهقيّ بإسناد صحيح عن حماد بن زيد، قال: لما ذكروا له هذا القول: ما كان بالكوفة أفحش ردًّا للآثار من إبراهيم النخعيّ؛ لقلة ما سمع منها، ولا أحسن اتباعاً لها من الشعبيّ؛ لكثرة ما سمع.

ونقل ابن شاس عن المالكيّة خلافًا في جواز قتل الصغير منها الذي لا يتمكن من الأذى.

والفار أنواع: منها الْجُرَذ -بالجيم، بوزن عُمَر. والْخُلْد -بضم المعجمة، وسكون اللام-. وفأرة الإبل، وفأرة السمك، وفأرة الغيط. وحكمها في تحريم الأكل، وجواز القتل سواء. وسيأتي إطلاق اسم الفويسقة عليها في -88/ 2845 - ووقع في حديث أبي سعيد عند ابن ماجه: قيل له: لم قيل للفأرة فويسقة؟ فقال: لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم استيقظ لها، وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت. وقيل: إنما سميت بذلك لأنها قطعت حبال سفينة نوح عليه السلام. واللَّه تعالى أعلم.

(وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ) الكلب معروف، والأنثى كلبة، والجمع أكلُب، وكلاب، وكَليب -بالفتح، كأعبد، وعِباد، وعَبيد. وفي الكلب بهيمية، وسبعية، وفيه منافع للحراسة، والصيد كما سيأتي في بابه، إن شاء اللَّه تعالى.

وفيه من اقتفاء الأثر، وشمّ الرائحة، وخفّة النوم، والتودّد، وقبول التعليم ما ليس لغيره. وقيل: إن أول من اتخذه للحراسة نوح عليه السلام.

و"العقور" -بفتح العين- مبالغة عاقر، وهو الجارح المفترس. وقد سبق البحث في نجاسته، وعدمه مستَوفًى في "الطهارة"، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

ص: 394

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-82/ 2829 و 83/ 2830 و 84/ 2831 و 86/ 2833 و 87/ 2834 و 88/ 2835 و 2836 - وفي "الكبرى" 81/ 3811 و 82/ 3812 و 83/ 3813 و 85/ 3815 و 86/ 3816 و 87/ 3817 و 3818.

وأخرجه (خ) في "الحج" 1826 وفي "بدء الخلق" 3299 و 3311 و 3313 وفي "المغازي" 4017 (م) في "الحج" 1199 و 1200 (د) في "المناسك" 1846 و"الأدب" 5252 (ق) في "المناسك" 3088 و"الطبّ" 3535 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4447 و 4529 و 4543 و 4723 و 4836 و 4861 و 4918 و 5072 و 27790 و 5111 و 5138 و 5302 و 5452 و 5516 و 5989 و 6193 (الموطأ) في "الحجّ" 798 و 799 و 800 (الدارمي) في "المناسك"1816. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه الشيخان، والنسائيّ، من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر. وفي رواية البخاريّ ضمّ عبد اللَّه بن دشار إلى نافع. وقال ابن عبد البرّ: لا خلاف عن مالك في إسناد هذا الحديث، ولفظه انتهى.

[فإن قلت]: قد ذكر مالك عبد اللَّه بن دينار تارة، ولم يذكره أخرى.

[قلت]: ليس هذا اختلافًا، فله فيه شيخان، حدّث به في الأكثر عن نافع، وتارة عن عبد اللَّه بن دينار، وتارة عنهما. وقد أخرجه مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر، عن عبد اللَّه بن دينار، فهو معروف عنه، من غير طريق مالك. وأخرجه مسلم، والنسائيّ من طريق الليث بن لسد، وأيوب السختيانيّ، ويحيى بن سعيد. وأخرجه مسلم، وابن ماجه من حديث عبيد اللَّه بن عمر. وأخرجه مسلم وحده من حديث ابن جريج، وجرير ابن حازم، كلهم عن نافع. قال مسلم: ولم يقل أحد منهم: عن نافع، عن ابن عمر، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا ابن جريج وحده. وقد تابع ابن جريج على ذلك ابن إسحاق، ثم رواه من طريقه، عن نافع، وفيه: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وأخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائيّ من رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه. وأخرجه الشيخان، والنسائيّ من رواية يونس بن يزيد، عن الز هريّ، عن سالم، عن أبيه، عن حفصة. واتفق عليه الشيخان من رواية زيد بن جُبير، عن ابن عمر، قال: حدثتني إحدى نسوة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وفي رواية لمسلم: "والحيّة"، قال: وفي "الصلاة" أيضًا.

ولا يضرّ هذا الاختلاف، فالحديث مقبول، سواء كان من رواية ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو بواسطة حفصة، أو غيرها، من أمهات المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنهنّ -. وقد

ص: 395

تقدم من حديث ابن جريج في "صحيح مسلم" التصريح بسماع ابن عمر له من النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في المراد بالكلب العقور هنا:

(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك، وهل لوصفه بكونه عقورًا مفهوم، أم لا؟، فروى سعيد بن منصور بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: الكلب العقور الأسد. وعن سفيان، عن زيد بن أسلم أنهم سألوه عن الكلب العقور؟ فقال: وأيّ كلب أعقر من الحيّة؟. وقال زفر: المراد بالكلب العقور هنا الذئب خاصّة. وقال مالك في "الموطأ": كل ما عقر الناس، وعدا عليهم، وأخافهم، مثل الأسد، والنمر، والفهد، والذئب، هو العقور. وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان، وهو قول الجمهور.

وقال أبو حنيفة: المراد بالكلب هنا الكلب خاصّة، ولا يلتحق به في هذا الحكم سوى الذئب.

واحتجّ أبو عبيد للجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم سلّط عليه كلبًا من كلابك"، فقتله الأسد، وهو حديث حسن، أخرجه الحاكم، من طريق أبي نوفل بن أبي عقرب، عن أبيه. واحتجّ أيضًا بقوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} الآية [المائدة: 4]، فاشتقّها من اسم الكلب، فلهذا قيل لكلّ جارح: عقور. واحتجّ الطحاويّ للحنفية بأن العلماء اتفقوا على تحريم قتل البازي، والصقر، وهما من سباع الطير، فدلّ ذلك على اختصاص التحريم بالغراب، والحدأة، وكذلك يختصّ التحريم بالكلب، وما شاركه في صفته، وهو الذئب. وتُعُقّب بردّ الاتفاق، فإن مخالفيهم أجازوا قتل كلّ ما عدا، وافترس، فيدخل فيه الصقر، وغيره، بل معظمهم قال: ويلتحق بالخمس كلّ ما نهي عن أكله، إلا ما نهي عن قتله. واختلف في غير العقور، مما لم يؤمر باقتنائه، فصرّح بتحريم قتله القاضيان: حسين، والماوَرْدِيُّ، وغيرهما. ووقع في "الأم" للشافعيّ الجواز

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما قاله الإمام مالك رحمه الله، وذهب إليه الجمهور من تفسير الكتب بكل ما عقر الناس إلخ هو الأرجح؛ لوضوح حجته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): اتفق العلماء على جواز قتل هذه الخمسة المذكورة في هذا الحديث في الحلّ والحرم للمحرم، وغيره، إلا ما شذّ مما سنحكيه.

واختلفوا في المعنى في ذلك على مذاهب:

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 56 - 57.

(2)

- "فتح" 4/ 512.

ص: 396

(الأول مذهب الشافعيّة، والحنابلة): قالوا: المعنى كونهنّ مما لا يؤكل، ولا يُنتفع به، فكل ما لا يؤكل، ولا هو متولّد من مأكول وغيره، ولا منفعة فيه، فقتله جائز للمحرم، ولا فدية فيه. وعبارة الشافعيّ في ذلك -كما حكاه البيهقيّ- في "المعرفة": فكلّ ما جمع من الوحش أن يكون غير مباح اللحم في الإحلال، وأن يكون يضرّ قَتَلَه المحرم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أمران تقتل الفأرة، والغراب، والحدأة، مع ضعف ضرّهما إذا كانت مما لا يؤكل لحمه كان ما جمع أن لا يؤكل لحمه، وضرّه أكثر من ضرّها أولى أن يكون قتله مباحًا انتهى.

وقال أصحابه: هذا الضرب ثلاثة أقسام:

(أحدها): ما يستحبّ قتله للمحرم وغيره، وهي المؤذية، كالحيّة، والفأرة، والعقرب، والخنزير، والكلب العقور، والغراب، والحدأة، والذئب، والأسد، والنمر، والدبّ، والنسر، والعقاب، والبرغوث، والبقّ، والزنبور، والقراد، والحلمة، والقرقس، وأشباهها.

(القسم الثاني): ما فيه نفع، ومضرّة، كالفهد، والعقاب، والبازي، والصقر، ونحوها، فلا يستحبّ قتله؛ لما فيه من المنفعة، وهو أنه يُعَلَّمُ الاصطياد، ولا يكره؛ لما فيه من المضرّة، وهو أنه يعدو على الناس، والبهائم.

(القسم الثالث): ما لا يظهر فيه نفع، ولا ضرر، كالخنافس، والجعلان، والدود، والسرطان، والبغاثة، والرخمة، والذباب، وأشباهها، فيكره قتلها، ولا يحرم كما قاله جمهورهم. وحكى إمام الحرمين وجهًا أنه يحرم قتل الطيور، دون الحشرات. وحكى ابن عبد البرّ: هذا التقسيم عن الشافعيّ نفسه من رواية الحسن بن محمد الزعفرانيّ عنه.

وكلام الحنابلة في ذلك مثل كلام الشافعية. قال الشيخ مجد الدين ابن تيمية في "المحرّر": ولا يضمن بالإحرام ما لا يؤكل لحمه، لكن يكره له قتله إذا لم يكن مؤذيًا، وجوّز الشيخ موفق الدين ابن قُدامة في "المغني" في قول الخرقيّ في "مختصره":"وكلما عدا عليه، أو آذاه" وجهين:

(أحدهما): أنه أراد ما بدأ المحرم، فعدا عليه في نفسه، أو ماله.

(والثاني): أنه أراد ما طبعه الأذى، والعدوان، وإن لم يوجد منه أذى في الحال. وكلام ابن حزم الظاهريّ يوافق ذلك أيضًا، وإن كان لا ينظر إلى المعنى، ولا يُعدّي بالقياس، لكنه اعتمد أن التحريم إنما ورد في الصيد، فلا يتعدى ذلك لغيره، وأجاب عن الاقتصار على هذه الخمس بما سيأتي ذكره بعد.

ونقل الشيخ تقيّ الدين في "شرح العمدة" كون المعنى عند الشافعيّ منع الأكل

ص: 397

بواسطة بعض الشارحين، وأراد به النوويّ، ثم قال: وهذا عندي فيه نظر، فإن جواز القتل غير جواز الاصطياد، وإنما يرى الشافعيّ جواز الاصطياد، وعدم وجوب الجزاء بالقتل لغير المأكول، وأما جواز الإقدام على قتل ما لا يؤكل، مِمَّا ليس فيه ضرر، فغير هذا انتهى.

قال وليّ الدين: وفيه نظر، فقد حكى الربيع عن الشافعيّ أنه قال: لا شيء على المحرم في قتله من الطير كلّ ما لا يحلّ أكله، قال: وله أن يقتل من داوبّ الأرض، وهوامها كلّ ما لا يحلّ أكله انتهى. فصرّح بأن له قتل ما لا يحلّ أكله من الطير، والهوامّ.

(الثاني مذهب المالكية): قالوا: المعنى في ذلك كونهنّ مؤذيات، فيلتحق بالمذكررات كلّ مؤذن. قال ابن شاس في "الجواهر" -بعد أن قرر تحريم صيد المأكول وغيره-: ولا يُستَثْنَى من ذلك إلا ما تناوله الحديث، وهو هذه الخمس، قال: والمشهور أن الغراب، والحدأة يقتلان، وإن لم يبتدئا بالأذى، وروى أشهب المنع من ذلك، وقاله ابن القاسم، قال: إلا أن يؤذي، فيقتل إلا أنه إن قتلهما من غير أذى، فلا شيء عليه. وقال أشهب: إن قتلهما من غير ضرر وداهما، واختلف أيضًا في قتل صغارهما ابتداء، وفي وجوب الجزاء بقتلهما، وأما غيرهما من الطير، فإن لم يؤذ فلا يقتل، فإن قتل ففيه الجزاء، وإن آذى فهل يقتل أم لا؟ قولان، وإذا قلنا: لا يقتل، فقتل، فقولان أيضًا: المشهور نفي وجوب الجزاء. وقال أشهب: عليه في الطير الفدية، وإن ابتدأت بالضرر. وقال أصبغ: من عدا عليه شيء من سباع الطير، فقتله وداه بشاة. قال ابن حبيب: وهذا من أصبغ غلط، وحمل بعض المتأخرين قول أصبغ هذا على أنه كان قادرًا على الدفع بغير القتل، فأما لو تعيّن القتل في الدفع لا يختلف فيه.

وأما العقرب، والحيّة، والفأرة، فيقتلن حتى الصغير، وما لم يؤذ منها لأنه لا يؤمن منها الأذى، إلا أن تكون من الصغر بحيث لا يمكن منها الأذى، فيختلف في حكمها، وهل يلحق صغير غيرها من الحيوان المباح القتل لأذية بصغارها في جواز القتل ابتداء، فيه خلاف. والمشهور من المذهب أن المراد من الكلب العقور الكلب الوحشيّ، فيدخل فيه الأسد، والنمر، وما في معناهما. وقيل: المراد الكلب الإنسيّ المتخذ.

وعلى المشهور يقتل صغير هذه، وما لم يؤذ من كبيرها انتهى كلامه.

وذكر الشيخ تقيّ الدين أن المشهور عند المالكيّة قتل صغار الغراب، والحدأة، وشنّع عليهم ابن حزم الظاهريّ في تفرقتهم بين صغار الغربان، والحديا، وبين صغار

ص: 398

السباع، والحيّات، وبين سباع الطير، وبين سباع ذوات الأربع، وقال: هلاً قاسوا سباع الطير على الحدأة، كما قاسوا سباع ذوات الأربع على الكلب العقور؟.

وقوّى الشيخ تقيّ الدين في "شرح العمدة" التعليل بالأذى على التعليل بحرمة الأكل، فقال:(واعلم): أن التعدية بمعنى الأذى إلى كلّ مؤذ قويّ بالإضافة إلى تصرّف القياسيين، فإنه ظاهر من جهة الإيماء بالتعليل بالفسق، وهو الخروج عن الحدّ، وأما التعليل بحرمة الأكل، ففيه إبطال ما دلّ عليه إيماء النصّ، من التعليل بالفسق؛ لأن مقتضى العلة أن يتقيّد الحكم بها وجودًا وعدمًا، فإن لم يتقيّد وثبت الحكم عند عدمها بطل تأثيرها بخصوصها، وهو خلاف ما دلّ عليه ظاهر النصّ من التعليل بها انتهى.

(الثالث مذهب الحنفيّة): اقتصروا على الخمس المذكورة في هذا الحديث إلا أنهم ضمّوا إليها الحية أيضًا، وهي منصوصة، كما تقدّم، وضموا إليها الذئب أيضًا، قال صاحب "الهداية" منهم: وقد ذكر الذئب في بعض الروايات. وقيل: المراد بالكلب العقور الذئب، ويقال: إن الذئب في معناه انتهى. وعلى هذا الأخير، فيقال: لم اقتصر في الإلحاق على الذئب، ولم لا ألحق بالكلب العقور كلّ ما هو في معناه من نمر، وخنزير، ودبّ، وقرد، وغيرها، وذكر الذئب ذكره ابن عبد البرّ من طريق إسماعيل القاضي، حدثنا نصر بن عليّ، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا الحجاج، عن وَبَرة، قال: سمعت ابن عمر يقول: "أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقتل الذئب

" الحديث. قال القاضي إسماعيل: فإن كان محفوظًا، فإن ابن عمر جعل الذئب في هذا الموضع كلبًا عقورًا، أي لذكره بدله، قال: وهذا غير ممتنع في اللغة، والمعنى. ورواه البيهقيّ من رواية مالك بن يحيى، عن يزيد بن هارون، وفيه: قال يزيد بن هارون: -يعني المحرم- ثم قال البيهقيّ: الحجاج بن أرطأة لا يحتجّ به. وقد رويناه من حديث ابن المسيّب مرسلاً جيدًا، ثم رواه كذلك. وقال ابن عبد البرّ: وقول الأوزاعيّ، والثوريّ، والحسن بن حيّ نحو قول أبي حنيفة انتهى.

ومحلّ المنع عند الحنفيّة فيما عدا الخمس، والذئب إذا لم تبدأه السباع، فإن بدأته، فقتلها دفعًا، فلا شيء عليه عندهم، إلا زفر، فإنه قال: يلزمه دم. وذكر الشيخ ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" أن المذكور في كتب الحنفيّة الاقتصار على الخمس، ونقل غير واحد من المصنفين المخالفين لأبي حنيفة أن أبا حنيفة ألحق الذئب بها، وعَدُّوا ذلك من مناقضاته، ثم قال: ومقتضى مذهب أبي حنيفة الذي حكيناه أنه لا يجوز اصطياد الأسد، والنمر، وما في معناها من بقية السباع العادية، والشافعية يردون هذا بظهور المعنى في المنصوص عليه من الخمس، وهو الأذى الطبيعيّ، والعدوان المركب في

ص: 399

هذه الحيوانات، والمعنى إذا ظهر في المنصوص عليه عدّى القائسون ذلك الحكم إلى كلّ ما وجد فيه المعنى، كالستة التي في الربا، وقد وافق أبو حنيفة على التعدية فيها، وإن اختلف هو والشافعيّ في المعنى الذي يعدّى به. قال: وأقول: المذكورُ ثَمَّ تعليق الحكم بالألقاب، وهو لا يقتضي مفهومًا عند الجمهور، فالتعدية لا تنافي مقتضى اللفظ، وهنا لو عدينا لبطلت فائدة التخصيص بالعدد، وعلى هذا المعنى عوّل بعض مصنفي الحنفيّة في التخصيص بالخمس المذكورات، أعني مفهوم العدد انتهى.

قال وليّ الدين: وفي نقله الذئب من غير كتب الحنفية نظر، فهو مصرح به في "الهداية"، وغيرها من كتبهم، وما نقله عن مقتضى مذهبهم من منع اصطياد الأسد، ونحوه، قد صرّحوا به في كتبهم، وقالوا: إن على قاتله الجزاء، وممن صرح به صاحب "الهداية"، إلا أن يقتله لصياله عليه، فلا شيء عليه، إلا عند زفر، فإنه أوجب الجزاء بقتله للدفع عند الصيال، لكن صاحب "الهداية" قال بعد كلامه المتقدم أوّلاً: والضب، واليربوع، ليسا من الخمسة المستثناة؛ لأنهما لا يبتدئان بالأذى، وليس في قتل البعوض، والنمل، والبراغيث، والقراد شيء؛ لأنها ليست بصيود، وليست بمتولدة من البدن، بل هي مؤذية بطباعها انتهى.

ومقتضاه موافقة من قال: إنه يلحق بالمذكورات كلّ مؤذ بالطبع، فإن كون الضبّ، واليربوع ليسا من الخمسة أمر معلوم، وإنما أراد ليس لهما حكمها، وعلل ذلك بأنهما لا يبتدئان بالأذى، ومقتضى ذلك ثبوت الحكم لكلّ ما يبتدىء بالأذى، ثم قوّى ذلك بما ذكره في البعوض، ونحوه، ولا سيما تعليله بأنها مؤذية بطباعها.

ثم إن الشيخ ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى- اقتصر في ردّ ذلك على القياس مع ورود النصّ فيه، رواه أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"يقتل المحرم السبع العادي، والكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحدأة، والغراب". لفظ الترمذيّ، وقال: هذا حديث حسن.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بل هو حديث ضعيف؛ لأن في سنده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، كان يتلقن لكبره، وكان شعيا، فلا يصلح الحديث للاحتجاج به، فتنبّه.

قال: والعمل على هذا عند أهل العلم، قالوا: يقتل المحرم السبع العادي.

ولفظ أبي داود: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم؟ قال: "الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغرابَ، ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي". ولم يذكر ابن ماجه "الحدأة"، ولا "الغراب"، وزاد: فقيل له: لم قيل لها الفويسقة؟

ص: 400

قال: لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استيقظ لها، وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت.

فتناول قوله صلى الله عليه وسلم "السبع العادي" الأسد، والنمر، وغيرهما من السباع، بل قوله:"الكلب العقور" يتناول هذه الأشياء، كما سنحكيه بعد ذلك.

وما ذكره من أن مفهوم العدد حجة محكيّ عن الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-، لكن ذهب القاضي أبو بكر الباقلاّني، وإمام الحرمين، وغيرهما إلى أنه ليس بحجة، وجزم به البيضاويّ في "مختصره"، وكذا قال الإمام فخر الدين: إنه ليس بحجة، إلا أنه قال: قد يدلّ عليه لدليل منفصل.

ثم إن المشهور عن الحنفية أنهم لا يقولون بالمفاهيم مطلقًا؛ لا هذا المفهوم، ولا غيره، وبتقدير قولهم بالمفهوم، فهم لم يقفوا عند هذا المفهوم، بل ضمّوا إليها الحية، والذئب أيضًا، كما تقدم، والنصّ على الحية في "صحيح مسلم" وغيره، كما تقدم. وفي حديث أبي سعيد الخدريّ ذكر السبع العادي، وهو ينافي الوقوف عند هذا المفهوم، فإنها مع الحية، والسبع العادي، ليست خمسًا، بل سبع، كيف؟، وقد جاء في بعض الروايات "خمس"، وفي بعضها "أربع"، فلو كان هذا المفهوم حجة لتدافع هذان المفهومان، وسقطا. انتهى منقولا مما كتبه الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "طرح التثريب" بتصرّف

(1)

.

وقال أبو محمد ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-: وجائز للمحرم في الحل والحرم، وللمُحِلِّ في الحرم والحل قتلُ كلّ ما ليس بصيد من الخنازير، والأسد، والسباع، والقمل، والبراغيث، وقِرْدَان بعيره، أو غير بعيره، والحلم كذلك، وَنَسْتَحِبُّ لهم قتل الحيات، والفيران، والحدإ، والغِرْبَانِ، والعقارب، والكلاب العقورة، صغار كل ذلك وكباره سواء، وكذلك الوزغ، وسائر الهوامّ، ولا جزاء في شيء من كل ما ذكرنا، ولا في القمل، فإن قتل ما نُهيَ عن قتله من هدهد، أو صُرَد، أو ضفدع، أو نمل، فقد عصى، ولا جزاء في ذلك.

برهان ذلك أن اللَّه تعالى أباح قتل ما ذكرنا، ثم لم ينه المحرم إلا عن قتل الصيد فقط، ولا نهى إلا عن صيد الحرم فقط، ولا جعل الجزاء إلا في الصيد فقط، فمن حَرَّمَ ما لم يأت النص بتحريمه، أو جعل جزاءً فيما لم يات النص بالجزاء فيه فقد شرع في الدين ما لم يأذن به اللَّه.

ثم ناقش أدلة العلماء الذين تقدمت أقوالهم مناقشة حادَة على عادته، وقد أجاد في ذلك بما لا تجده في غير كتابه

(2)

.

(1)

- "طرح التثريب" 5/ 58 - 63.

(2)

راجع "المُحَلَّى" جـ 7 ص 238 - 246.

ص: 401

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بعد النظر فيما سبق من المذاهب وأدلتها قد ترجح عندي ما ذهب إليه أبو محمد بن حزم -رحمه اللَّه تعالى- لقوة حجته.

وحاصله أن الصيد لا يجوز قتله، وهو الذي شرع صيده للأكل، وأما غيره من أنواع السباع والهوام، والحشرات فيجوز قتله إلا إذا وجد نصّ خاص بمنع قتلها كالنحلة، والهدهد، والصَرد، ونحوها

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): إن قلت: فعلى القول بأن مفهوم العدد حجة ما جوابكم عن تخصيص هذه المذكورات بالذكر؟.

قلت: قال الشيخ ابن دقيق العيد في "شرح العمدة": من علّل بالأذى إنما اختصّت بالذكر لينبه بها على ما في معناها، وأنواع الأذى مختلفة، فيكون كلّ نوع منها منبّها على جواز قتل ما فيه ذلك النوع، فنبه بالحية، والعقرب على ما يشاركهما في الأذى باللسع، كالبرغوث مثلاً عند بعضهم، ونبه بالفأرة على ما أذاه بالنقب، والتقريض، كابن عرس، ونبه بالغراب، والحدأة على ما أذاه بالاختطاف، كالصقر، والبازي، ونبه بالكلب العقور على كل عاد بالعقر، والافتراس بطبعه، كالأسد، والنمر، والفهد.

وأما من قال بالتعدية إلى كل ما لا يؤكل لحمه، فقد أحالوا التخصيص في الذكر بهذه الخمس على الغالب، فإنها الملابسات للناس، المخالطات في الدور، بحيث يعمّ أذاها، فكان ذلك سببًا للتخصيص، والتخصيص لأجل الغلبة إذا وقع لم يكن له مفهوم على ما عُرف في الأصول، إلا أن خصومهم جعلوا هذا المعنى معترضا عليه في تعدية الحكم إلى بقية السباع المؤذية، وتقريره أن إلحاق المسكوت بالمنطوق قياسًا شرطه مساواة الفرع للأصل، أو رجحانه، أما إذا انفرد الأصل بزيادة يمكن أن تعتبر فلا إلحاق، ولما كانت هذه الأشياء عامة الأذى، كما ذكرتم ناسب أن يكون ذلك سببًا

لإباحة قتلها؛ لعموم ضررها، فهذا المعنى معدوم فيما لا يعمّ ضرره، مما لا يخالط في المنازل، ولا تدعو الحاجة إلى إباحة قتله، كما دعت إلى إباحة قتل ما يخالط من المؤذيات، فلا يلحق به.

وأجاب الأولون عن هذا بوجهين: (أحدهما): أن الكلب العقور نادر، وقد أبيح قتله. (والثاني): معارضة الندرة في غير هذه الأشياء بزيادة قوة الضرر، ألا ترى أن تأثير

(1)

فقد أخرج أحمد وأبو داود، وابن ماجه بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدوابّ: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد". وكذلك ورد حديث صحيح عند أبي داود، والنسائي في النهي عن قتل الضفدع. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 402

الفأرة بالنقب مثلاً، أو الحدأة بخطف شيء يسير، لا يساوي ما في الأسد، والفهد، من إتلاف النفس، فكان بإباحة القتل أولى انتهى.

ولم يعرّج على ذكر الحديث الشامل لسائر السباع، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"يقتل المحرم السبع العادي"، وقد تقدّم ذكره.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدم أنه ضعيف، لا يصلح للاحتجاج به، فتنبّه. وقال ابن حزم: فإن قيل: فما وجه اقتصار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على هذه الخمس؟. قلنا: ظاهر الخبر يدلّ على أنها محضوض على قتلهنّ، مندوب إليه، ويكون غيرهنّ مباحا قتله أيضًا، وليس هذا الخبر مما يمتنع أن يكون غير تلك الخمس مأمورًا بقتله أيضًا، كالوزغ، والأفاعي، والحيات، والرتيلاء، والثعابين، وقد يكون صلى الله عليه وسلم تقدّم بيانه في هذه، فأغنى عن إعادتها عند ذكره هذه الخمس. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح مسلم": وفي هذه الأحاديث دلالة للشافعيّ، وموافيقه في أنه يجوز أن يقتل في الحرم كل من يجب عليه قتل بقصاص، أو رجم بالزنا، أو قتل في المحاربة، وغير ذلك، وأنه يجوز إقامة كلّ الحدود فيه، سواء كان موجبُ القتل والحدّ جرى في الحرم، أو خارجه، ثم لجأ صاحبه إلى الحرم. وهذا مذهب مالك، والشافعيّ، وآخرين.

وقال أبو حنيفة، وطائفة: ما ارتكبه من ذلك في الحرم يقام عليه فيه، وما فعله خارجًا، ثم لجأ إليه، إن كان إتلاف نفس لم يُقَم عليه في الحرم، بل يضيق عليه، ولا يُكلّم، ولا يُجالَس، ولا يبايع، حتى يضطرّ إلى الخروج منه، فيقام خارجه، وما كان دون النفس يقام فيه. قال القاضي: روي عن ابن عباس، وعطاء، والشعبيّ، والحكم نحوه، لكنهم لم يفرّقوا بين النفس، ودونها، وحجتهم قول اللَّه تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97].

وحجة الأولين هذه الأحاديث لمشاركة فاعل الجناية لهذه الدوابّ في اسم الفسق، بل فسقه أفحش؛ لكونه مكلفًا؛ ولأن التضييق الذي ذكروه لا يبقى لصاحبه أمان، فقد خالفوا ظاهر ما فسّروا به الآية.

قال القاضي: ومعنى الآية عندنا، وعند أكثر المفسّرين أنه إخبار كما كان قبل الإسلام، وعطف على ما قبله من الآيات. وقيل: آمِنٌ من النار.

وقالت طائفة: يخرج، ويقام عليه الحدّ، وهو قول ابن الزبير، والحسن، ومجاهد،

ص: 403

وحماد انتهى

(1)

.

وقال الشيخ ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" بعد ذكر هذا الاستدلال: وهذا عندي قويّ، ليس بالهين، وفيه غور، فليتنبّه له. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مذهب الأولين أرجح؛ لقوة دليله، كما أشار إليه ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

84 -

(قَتْلُ الْحَيَّةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الحيّة" هو الجنس المعروف، وتطلق الحية على الذكر والأنثى، وإنما دخلته الهاء؛ لأنه واحد من جنس، كبطّة، ودجاجة، على أنه قد روي عن العرب: رأيت حيًّا على حيّة، أي ذكراً على أنثى، واشتقاقها من الحياة في قول بعضهم، ولهذا قالوا في النسبة إليها حيويّ، ولو كان من الواوي لقالوا: حوويّ، والحيّوت بتشديد الياء ذكر الحيّات، وأنشد الأصمعيّ:

وَيَأْكُلُ الْحَيَّةَ وَالْحَيُّوتَا

(3)

واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2830 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ: الْحَيَّةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْغُرَابُ الأَبْقَعُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدموا غير مرّة. و"يحيى": هو القطان.

وقوله: "الأبقع": هو الذي في ظهره، أو في بطنه بياض. وتمام شرح الحديث يعلم مما سبق، وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

-"شرح مسلم" 8/ 354 - 357.

(2)

-"شرح العمدة" 3/ 521. بنسخة الحاشية.

(3)

-"المفهم" 5/ 532. و"طرح التثريب" 8/ 126.

ص: 404

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه المصنّف هنا -83/ 2830 و 113/ 2882 و 114/ 2883 و 116/ 2888 و 117/ 2889 و 118/ 2891 و 119/ 2892 - وفي "الكبرى" 82/ 3812 و 113/ 3864 و 114/ 3865 و 3866 و 116/ 3870 و 117/ 3871. وأخرجه (خ) في "الحجّ" 1829 وفي "بدء الخلق" 3314 (م) في "الحجّ" 2853 و 2854 و 2855 و 2857 و 2858 و 2859 (د) في "المناسك" 1846 (ت) في "الحجّ" 837 (ق) في "المناسك" 3087. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب"

85 -

(قَتْلُ الْفَأْرَةِ)

2831 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَذِنَ فِي قَتْلِ خَمْسٍ، مِنَ الدَّوَابِّ، لِلْمُحْرِمِ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْعَقْرَبُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا، والسند من رباعيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (146) من رباعيّات الكتاب.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، - عفا اللَّه تعالى عنه - وعن والديه ومشايخه آمين: قد انتهيت من كتابة الجزء الرابع والعشرين من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى-، المسمّى "ذخيرةَ العُقْبَى في شرح المجتبى"، أو "غاية المنى في شرح المجتنى".

ص: 405

وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، في مكة المكرمة زادها اللَّه تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني من خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأعْظِمْ به تكريمًا.

وأخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة اللَّه، وبركاته".

ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الخامس والعشرون مفتتحًا بالباب 85 "قتلُ الوزَغ" الحديث رقم 2832.

"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

ص: 406