المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سنن النسائي المسمَّى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعه الفقير إلى مولاه - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ٢٧

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح سنن النسائي

المسمَّى

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعه الفقير إلى مولاه الغتي القدير

محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الأيتوبي الوَلَّوي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا اللَّه عنه وعن والديه آمين

الجزء السَّادس والعشرون

دار آل بروم للنشر والتوزيع

ص: 1

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1424هـ - 2003م

دار آل بروم للنشر والتوزيع

المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم

ص ب: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوّال 055541026)

ص: 2

شرح سنن النسائي

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

‌2 - (مَا افْتَرَضَ اللَّه عز وجل عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَحَرَّمَهُ عَلَى خَلْقَهِ؛ لِيَزِيدَهُ -إِنْ شَاءَ اللَّه- قُرْبَةَ إِلَيْهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المراد بخلقه هنا أمته، فلا يرد عليه ما في "الصحيح" من أن سليمان عليه السلام كان له مائة امرأة.

وغرض المصنّف بهذا أن التخيير الوارد في هذا الحديث كان فرضًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، بخلاف أمته، وأما قوله:"وحرّمه على خلقه" أراد به إباحة أن يتزوّج ما شاء من النساء، بخلاف غيره، فلا يجوز لهم إلا أربعة.

ولفظ "الكبرى": "وخفضه" بدل "وحرّمه"، أي خفّفه عنهم، وهو يعود إلى قوله:"ما افترض اللَّه الخ". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3202 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَهَا، حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُخَيِّرَ أَزْوَاجَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَدَأَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تُعَجِّلِي، حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» ، قَالَتْ: وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ، لَا يَأْمُرَانِّي بِفِرَاقِهِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] ، فَقُلْتُ: فِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ النَّيْسَابُورِيُّ) الذهليّ، ثقة حافظ جليل [11] 197/ 314.

2 -

(محمد بن موسى) بن أعين الجزريّ الحرّانيّ صدوق، من كبار [10] 4/ 403.

3 -

(أبوه) موسى بن أعين مولى قريش، أبو سعيد الجزريّ، ثقة عابد [8] 11/ 415.

ص: 5

4 -

(معمر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، من كبار [7] 10/ 10.

5 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت المدنيّ [4] 1/ 1.

6 -

(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف المدنيّ الفقيه الثقة الثبت [3] 1/ 1.

7 -

(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَهَا، حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُخَيِّرَ أَزْوَاجَهُ) سيأتي بيان سبب نزول آية التخيير قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

(قَالَتْ: عَائِشَةُ: فَبَدَأَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي بدأ بالدخول عليها حين كمل الشهر، وأراد الرجوع إلى أزواجه، وفيه فضل عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -؛ لبداءته بها. كذا قرّره النووي.

قال الحافظ: لكن روى ابن مردويه من طريق الحسن، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - أنها طلبت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثوبًا، فأمر اللَّه نبيه أن يُخيّر نساءه: أما عند اللَّه تُردن، أم الدنيا؟، فإن ثبت هذا، وكانت هي السبب في التخيير، فلعلّ البداءة بها لذلك، لكن الحسن لم يسمع من عائشة، فهو ضعيف، وحديث جابر في أن النسوة كنّ يسألنه النفقة أصحّ طريقًا منه. وإذا تقرّر أن السبب لم يتّحد فيها، وقُدّمت في التخيير دلّ على المراد، لا سيّما مع تقديمه لها أيضًا في البداءة بها في الدخول عليها. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فلَا عَلَيكِ أَنْ لَا تُعَجِّلِي) أي فلا بأس عليك في التأنّي، وعدم العجلة حتى تُشاوري أبويك. وقال النوويّ: معناه: ما يضرّك أن لا

(1)

- "فتح" 9/ 477 "كتاب التفسير".

ص: 6

تعجلي (حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ) أي تطلبي منهما أن يبيّنا لك رأيهما في ذلك. ووقع في حديث جابر: "حتى تستشيري أبويك"، زاد محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها:"إني عارض عليك أمرًا، فلا تفتاتي فيه بشيء حتى تعرضيه على أبويك: أبي بكر، وأمّ رُومان". أخرجه أحمد، والطبريّ.

ويُستفاد منه أن أمّ رُومان كانت يومئذ موجودة، فيُردّ به على من زعم أنها ماتت سنة ستّ من الهجرة، فإن التخيير كان في سنة تسع. قاله في "الفتح".

قال النوويّ: وإنما قال لها: هذا شفقة عليها، وعلى أبويها، ونصيحة لهم في بقائها عنده صلى الله عليه وسلم، فإنه خاف أن يحملها صغر سنّها، وقلّة تجاربها على اختيار الفراق، فيجب فراقها، فتضرر هي، وأبواها، وباقي النسوة بالاقتداء بها انتهى

(1)

وقال في "الفتح": قال العلماء: إنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة أن تستأمرَ أبويها خشية أن يحملها صغر السنّ على اختيار الشق الآخر؛ لاحتمال أن لا يكون عندها من الملكة ما يدفع ذلك العارض، فإذا استشارت أبويها، أوضحا لها ما في ذلك من المفسدة، وما في مقابله من المصلحة، ولهذا لما فطنت عائشة لذلك قالت:"قد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه".

ووقع في رواية عمرة، عن عائشة في هذه القصّة:"وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثتي"، وهذا شامل للتأويل المذكور. انتهى

(2)

.

(قَالَتْ) عائشة (وَقَدْ عَلِمَ) صلى الله عليه وسلم (أَنَّ أَبوَيَّ، لَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ) أي لكونهما يختاران الله ورسوله، والدار الآخرة لابنتهما، على تقدير أن تختار هي غير ذلك، وقد أعاذها الله تعالى من ذلك (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} ) [الأحزاب: 28]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا أمر من الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يُخيّر نساءه بين أن يفارقهنّ، فيذهبن إلى غيره ممن يَحصُل لهنّ عنده الحياة الدنيا، وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهنّ عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن رضي الله عنهن، وأرضاهنّ- الله، ورسولَهُ، والدارَ الآخرةَ، فجمع الله تعالى لهنّ بعد ذلك بين خير الدنيا، وسعادة الآخرة انتهى

(3)

.

(1)

- "شرح صحيح مسلم" 10/ 320.

(2)

- "فتح" 9/ 477.

(3)

- راجع "تفسير سورة الأحزاب" من "تفسير ابن كثير" 3/ 489.

ص: 7

{إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} الآية [الأحزاب: 28]. أي أعطكنّ حقوقكنّ، وأُطَلِّقُ سراحكنّ.

قال الحافظ ابن كثير: وقد اختلف العلماء في جواز تزوّج غيره لهنّ لو طلّقهنّ على قولين: أصحّهما نعم لو وقع؛ ليحصل المقصود من السراح. واللَّه أعلم.

قال عكرمة: وكان تحته صلى الله عليه وسلم يومئذ تسع نسوة: خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنهنّ -، وكانت تحته صلى الله عليه وسلم صفية بنت حُيي النضِيريّة، وميمونة بنت الحارث الهلاليّة، وزينب بنت جحش الأسديّة، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة - رضي اللَّه تعالى عنهنّ -، وأرضاهنّ

(1)

.

(فَقُلتُ: فِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟، فَإنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ) زاد في رواية محمد بن عمرو: "ولا أؤامر أبويّ: أبا بكر، وأم رومان، فضحك"، وفي رواية عمر بن أبي سلمة، عن أبيه عند الطبريّ:"ففرح".

وفي الرواية الآتية في -26/ 3440 - من طريق يونس، وموسى بن عُليّ، كلاهما عن ابن شهاب:"قالت عائشة: ثم فعل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت، ولم يكن ذلك حين قال لهنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واخترنه طلاقًا، من أجل أنهن اخترنه".

وفي رواية محمد بن عمرو المذكورة: "ثم استقرَأَ الحُجَر -يعني حَجَر أزواجه- أي تتبَّعَ، والْحُجَر -بضمّ المهملة، وفتح الجيم- جمع حُجْرة -بضم، ثم سكون- والمراد مساكن أزواجه صلى الله عليه وسلم. وفي حديث جابر المذكور أن عائشة لما قالت: "بل أختار اللَّه ورسوله، والدار الآخرة"، قالت: "يا رسول اللَّه، وأسألك أن لا تُخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، فقال: لا تسألني امرأة منهنّ إلا أخبرتها، إن اللَّه لم يبعثني متعنّتًا، وإنما بعثني معلّمًا ميسّرًا". وفي رواية معمر عند مسلم:"قال معمرٌ: فأخبرني أيوب أن عائشة قالت: لا تُخبر نساءك أني اخترتك، فقال: إن اللَّه أرسلني مبلّغا، ولم يُرسلني متعنّتًا". وهذا منقطع بين أيوب وعائشة، ويشهد لصحّته حديث جابر.

[تنبيه]: وقع في "النهاية"، "والوسيط" التصريح بأن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - أرادت أن يختار نساؤه الفراق. قال الحافظ: فإن كانا ذكراه فيما فهماه من السياق، فذاك، وإلا فلم أر في شيء من طرق الحديث التصريح بذلك انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

راجع "تفسير ابن كثير" 3/ 490 "تفسير سورة الأحزاب".

(2)

- راجع "الفتح" 9/ 477.

ص: 8

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-2/ 3202 و 3203 و 3204 و 3205 و 26/ 3440 و 3441 و 27/ 3442 و 3443 و 3444 و 3445 و 3446 - وفي "الكبرى" 2/ 5309 و 5310 و 5312 و 5313 و 5314 و 27/ 5632 و 5633 و 28/ 5634 و 5635 و 5636 و 5637 و 5638. وأخرجه (خ) في "التفسير" 4786 و"الطلاق" 5262 و 5264 (م) في "الطلاق" 1475 و 1477 (د) في "الطلاق" 2203 (ت) في "الطلاق واللعان" 1179 و"التفسير" 3204 (ق) في "الطلاق" 2052 و 2053 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23688 و 23966 و 24200 و 24667 و 24771 و 24848 و 24873 و 24990 و 25138 و 25175 و 25492 و 25505 و 25577 و 25739 (الدارميّ) في "الطلاق" 2269. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما افترض اللَّه على نبيّه صلى الله عليه وسلم، ومحل الدلالة من الحديث قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} الآية [الأحزاب: 28]، فإنه أمرٌ بأن يقول لهم ذلك، والأمر للوجوب، فدلت الآية على أن التخيير واجب عليه، وهذا الذي ذهب إليه المصنّف من افتراض التخيير عليه دون أمته هو الظاهر من الآية، وبه قال بعض أهل العلم، وهو الصحيح.

قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: عدّ أصحابنا من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجب عليه تخيير نسائه بين مفارقته، واختياره. وحكى الحناطيّ وجهًا أن هذا التخيير كان مستحبًا، والصحيح الأول انتهى

(1)

. (ومنها): أن فيه ملاطفة النبيّ صلى الله عليه وسلم لأزواجه، وحلمه، وصبره على ما كان يصدر منهنّ، من إدلال وغيره، مما يبعثه عليهنّ الغيرة. (ومنها): أن صغر السنّ مظنّة لنقص الرأي. (ومنها): أن فيه منقبة عظيمة لعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وبيان كمال عقلها، وصحّة رأيها مع صغر سنّها. (ومنها): أن الغيرة تحمل المرأة الكاملة الرأي والعقل على ارتكاب ما لا يليق بحالها؛ لسؤال عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - النبيّ صلى الله عليه وسلم -أن لا يُخبر أحدًا من أزواجه بفعلها، ولكنه صلى الله عليه وسلم لَمّا علم أن

(1)

- "طرح التثريب" 7/ 103.

ص: 9

الحامل على ذلك ما طُبع عليه النساء من الغيرة، ومحبّة الاستبداد، دون ضرائرها لم يُسعِفها بما طلبت من ذلك. (ومنها): أن فيه منقبةً ظاهرةً لعائشة، ثم لسائر أمهات المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنهنّ - حيث اخترن اللَّهَ، ورسوله، والدارَ الآخرةَ، وبادرن إلى ذلك. (ومنها): أن فيه المبادرة إلى الخير، وإيثار أمور الآخرة على الدنيا؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى رتّب على ذلك ثوابًا عظيمًا، كما بينته الآية المذكورة، وكما في قوله عز وجل:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]. (ومنها): أنه ذكر بعض العلماء أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم تخيير أزواجه، واستند إلى هذه القصّة، ولا دلالة فيها على الاختصاص. نعم ادّعى بعض من قال: إن التخيير طلاق أنه في حقّ الأُمّة، واختصّ هو صلى الله عليه وسلم بأن ذلك في حقّه ليس بطلاق. لكن الصحيح أن التخيير ليس طلاقًا في حقّ أحد، كما سيأتي تحقيقه في بابه -27/ 3441 - من "كتاب الطلاق"، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أن بعضهم استدلّ به على ضعف ما جاء أن من الأزواج حينئذ من اختارت الدنيا، فتزوّجها

(1)

، وهي فاطمة بنت الضحّاك، لعموم قول عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"ثم فعل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت"

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة):

قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: سبب نزول آية التخيير فيما روى أبو بكر بن مردويه في "تفسيره" من حديث الحسن مرسلاً في عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، طلبت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثوبًا، فأمر اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يُخيّر نساءه، أما عند اللَّه يُردن، أم الدنيا؟. وهذا مرسل

(3)

. لكن يشهد له حديث جابر عند مسلم، وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وهنّ حولي كما ترى، يسألنني النفقة"، فقام أبو بكر إلى عائشة يَجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يَجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟، قلن: واللَّه ما نسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا أبدًا، ليس عنده، ثم اعتزلهنّ شهرًا، أو تسعًا وعشرين، ثم نزلت عليه هذه الآية:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} ، فذكر الحديث انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": ورد في سبب هذا التخيير ما أخرجه مسلم من حديث جابر

(1)

- هكذا نسخة "الفتح" ولعل الصواب: "ففارقها". واللَّه تعالى أعلم.

(2)

- "فتح" 9/ 477.

(3)

- أي فهو حديث ضعيف، كما تقدم نقلاً عن "الفتح".

(4)

- "طرح التثريب" 7/ 102 - 103.

ص: 10

- رضي الله عنه

(1)

قال: "دخل أبو بكر يستأذن على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" الحديث، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"هنّ حولي كما ترى، يسألنني النفقة" -يعني نساءه، وفيه أنه اعتزلهنّ شهرًا، ثم نزلت عليه هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ - حتى بلغ- أَجرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 28 - 29] قال: فبدأ بعائشة، فذكر نحو حديث الباب.

وفي "صحيح البخاريّ" في "المظالم" من طريق عُقيل، وفي "النكاح" من طريق شعيب، كلاهما عن ابن شهاب، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبي ثور، عن ابن عباس، عن عمر في قصّة المرأتين اللتين تظاهرتا

بطوله. وفي آخره: "حين أفشته حفصة إلى عائشة"، وكان قد قال: ما أنا بداخل عليهنّ شهرًا من شدّة موجدته عليهنّ، حتى عاتبه اللَّه، فلما مضت تسع وعشرون، دخل على عائشة، فبدأ بها، فقالت له: إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا، وقد أصبحنا لتسع وعشرين ليلةً أعدّها عدًّا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الشهر تسع وعشرون"، وكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين، قالت عائشة: فأئزلت آية التخيير، فبدأ بي أول امرأة، فقال: "إني ذاكرٌ لك أمرًا، فلا عليك أن لا تعجلي

" الحديث.

قال الحافظ: وهذا السياق ظاهر أن الحديث كله من رواية ابن عباس عن عمر، وأما المرويّ عن عائشة، فمن رواية ابن عباس عنها، وقد وقع التصريح بذلك فيما أخرجه ابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق أبي صالح، عن الليث بهذا الإسناد إلى ابن عباس، قال: قالت عائشة: أُنزلت آية التخيير، فبدأ بي

الحديث. لكن أخرج

(1)

- وحديث جابر بطوله عند مسلم هكذا نصّه:

1478 -

وحدثنا زهير بن حرب، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا زكرياء بن إسحاق، حدثنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس جلوسا ببابه، لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأُذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن، فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا، حوله نساؤه، واجما ساكتا، قال: فقال: لأقولن شيئا، أضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، لو رأيت بنت خارجة، سألتني النفقة، فقمت إليها، فوجأت عنقها، فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال:، هن حولي كما ترى، يسألنني النفقة"، فقام أبو بكر إلى عائشة، يجأ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ما ليس عنده، فقلن: واللَّه لا نسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا أبدا، ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرًا، أو تسعا وعشرين، ثم نزلت عليه هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} حتى بلغ {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}، قال: فبدأ بعائشة، فقال: "يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرًا، أحب أن لا تعجلي فيه، حتى تستشيري أبويك"، قالت: وما هو يا رسول اللَّه؟، فتلا عليها الآية، قالت: أفيك يا رسول اللَّه، أستشير أبويّ، بل أختار اللَّه ورسوله والدار الآخرة، وأسألك أن لا تُخبر، امرأة من نسائك بالذي قلت، قال: "لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن اللَّه لم يبعثني مُعْنِتًا، ولا مُتَعَنّتًا، ولكن بعثني معلما ميسرا". انتهى.

ص: 11

مسلم الحديث من رواية معمر، عن الزهريّ، ففصّله تفصيلاً حسنًا، وذلك أنه أخرجه بطوله إلى آخر قصّة عمر في المتظاهرتين إلى قوله:"حتى عاتبه اللَّه"، ثم عقّبه بقوله:"قال الزهريّ: فأخبرني عروة، عن عائشة، قالت: لما مضى تسع وعشرون"، فذكر مراجعتها في ذلك، ثم عقّبه بقوله: "قال: يا عائشة إني ذاكرٌ لك أمرًا، فلا عليك أن لا تعجلي، حتى تستأمري أبويك

" الحديث.

فعُرف من هذا أن قوله: "فلما مضت تسع وعشرون الخ" في رواية عُقيل هو من رواية الزهريّ، عن عائشة بحذف الواسطة، ولعلّ ذلك وقع عن عمد من أجل الاختلاف على الزهريّ في الواسطة بينه وبين عائشة في هذه القصّة بعينها، كما بينه البخاريّ هنا

(1)

وكأن من أدرجه في رواية ابن عباس مشى على ظاهر السياق، ولم يفطن للتفصيل الذي وقع في رواية معمر. وقد أخرج مسلم أيضًا من طريق سماك بن الوليد، عن ابن عباس "حدّثني عمر بن الخطاب، قال: لما اعتزل النبيّ صلى الله عليه وسلم نساءه دخلت المسجد

" الحديث بطوله، وفي آخره: "قال: وأنزل اللَّه آية التخيير"، فاتفق الحديثان على أن آية التخيير نزلت عقب فراغ الشهر الذي اعتزلهنّ فيه، ووقع ذلك صريحًا في رواية عمرة، عن عائشة، قالت: "لما نزل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى نسائه أمر أن يُخيرهنّ

" الحديث. أخرجه الطبريّ، والطحاويّ.

واختلف الحديثان في سبب الاعتزال، ويمكن الجمع بأن يكون القضيّتان جميعًا سبب الاعتزال، فإن قصّة المتظاهرتين خاصّة بهما، وقصّة سؤال النفقة عامّة في جميع النسوة، ومناسبة آية التخيير بقصّة سؤال النفقة أليق منها بقصّة المتظاهرتين

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر أن الأولى كون القضيّتين سببًا لنزول الآية المذكوره، قضيّة المتظاهرتين، وقضيّة سؤال النفقة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: اختَلَف الصحابة رضي الله عنهم في أن التخيير في الآية، هل كان بين إقامتهنّ في عصمته، وفراقهنّ، أو بين أن يبسط لهنّ في الدنيا، أو لا يبسط لهنّ فيها، فذهب إلى الأول عائشة، وجابر رضي الله عنه. وذهب إلى الثاني علي بن أبي طالب، وابن عباس رضي الله عنهما. حكى ذلك والدي رحمه الله تعالى في "شرح الترمذيّ"، وقال: الأول أصحّ، وعائشة صاحبة القصّة، وهي أعرف بذلك، مع موافقة ظاهر القرآن؛ لقوله:{فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}

(1)

- يعني في "كتاب التفسير" في تفسير سورة الأحزاب برقم 4786.

(2)

- راجع "الفتح" 9/ 475 - 476. "كتاب التفسير" - "تفسير سورة الأحزاب".

ص: 12

[الأحزاب: 28]، وهو الطلاق انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قال الماورديّ -رحمه اللَّه تعالى-: اختُلِف هل كان التخيير بين الدنيا والآخرة، أو بين الطلاق والإقامة عنْده؟ على قولين للعلماء: أشبههما بقول الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- الثاني، ثم قال: إنه الصحيح، وكذا قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: اختُلف في التخيير، هل كان في البقاء والطلاق، أو كان بين الدنيا والآخرة انتهى.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: والذي يظهر الجمع بين القولين؛ لأن أحد الأمرين ملزوم للآخر، وكأنهنّ خُيّرن بين الدنيا، فيطلقهنّ، وبين الآخرة، فيُمسكهنّ، وهو مقتضى سياق الآية. ثم ظهر لي أن محلّ القولين، هل فُوّض إليهنّ الطلاق، أم لا؟، ولهذا أخرج أحمد عن عليّ رضي الله عنه، قال: لم يُخيّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة". انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3203 -

(أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ الْعَسْكَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها قَالَتْ: "قَدْ خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، أَوَكَانَ طَلَاقًا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة. و"سليمان": هو الأعمش. و"أبو الضحى": هو مسلم بن صُبَيح.

وقوله: "أو كان طلاقًا" الهمزة للاستفهام الإنكاري، أي فالتخيير ليس طلاقا، إذا اختارت زوجها. والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه في الحديث الماضي، وأما حكم التخيير، هل هو طلاقٌ، أم لا؟، سيأتي في بابه، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3204 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَرْنَاهُ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة. و"عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ.

(1)

- "طرح التثريب" 7/ 103.

(2)

- "فتح" 9/ 476.

ص: 13

و"سفيان": هو الثوريّ. و"إسماعيل": هو ابن أبي خالد. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تخريجه قبل حديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3205 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: "مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن منصور) الجوّاز المكيّ، ثقة [10] 20/ 21.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت المكيّ [8] 1/ 1.

3 -

(عمرو) بن دينار الأثرم الجمحيّ، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

4 -

(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ الفقيه، ثقة فاضل، يرسل كثيرًا [3] 112/ 154.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَطَاءٍ) وفي الرواية التالية من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن عُبيد بن عمير، عن عائشة، فأدخل عبيد بن عمير بين عطاء، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فيحتمل أن يكون عطاء سمعه من عبيد، ثم سمعه من عائشة، أو سمعه عنها، وثبّته عبيد. واللَّه تعالى أعلم. (قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: "مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ) أي بقوله تعالى:{إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الآية [الأحزاب: 50]، وعلى هذا فتكون هذه الآية ناسخة لقوله تعالى:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الآية [52]، وهذا القول هو الصحيح.

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تفسيره": لما خيّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نساءه، فاخترنه، حرُم عليه التزويج بغيرهنّ، والاستبدال بهنّ، مكافأةٌ لهنّ على فعلهنّ، والدليل على ذلك قوله تعالى:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الآية. وهل كان يحلّ له أن

ص: 14

يطلّق واحدةً منهنّ بعد ذلك؟، فقيل: لا يحلّ له ذلك جزاء لهنّ على اختيارهنّ. وقيل: كان يحلّ له ذلك كغيره من الناس، ولكن لا يتزوّج بدلها. ثم نُسخ هذا التحريم، فأباح له أن يتزوّج بمن شاء عليهنّ من النساء، والدليل عليه قوله تعالى:{إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} ، والإحلال يقتضي تقدّم حظر، وزوجاته اللاتي في حياته لم يكنّ محرمات عليه، وإنما كان حرم عليه التزويج بالأجنبيات، فانصرف الإحلال إليهنّ؛ ولأنه في سياق الآية:{وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} الآية، ومعلوم أنه لم يكن تحته أحد من بنات عمه، ولا من بنات عماته، ولا من بنات خاله، ولا من بنات خالاته، فثبت أنه أحلّ له التزويج بهذا ابتداء، وهذه الآية، وإن كانت مقدّمةً في التلاوة، فهي متأخّرة النزول على الآية المنسوخة بها، كآيتي الوفاة في "البقرة". انتهى

(1)

.

وقال ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى-: ذكر غير واحد من العلماء، كابن عباس، ومجاهد، والضحّاك، وقتادة، وابن زيد، وابن جرير، وغيرهم أن قوله تعالى:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} نزل مجازاة لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورضًا عنهنّ على حسن صنيعهنّ في اختيارهنّ اللَّه ورسوله، والدار الآخرة لما خيّرهنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما اخترنه كان جزاؤهنّ أن اللَّه قصره عليهنّ، وحرّم عليه سواهنّ، أو يستبدل بهنّ غيرهنّ، ولو أعجبه حسنهنّ، إلا الإماء، والسراري، فلا حرج عليه فيهنّ، ثم إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك، ونسخ حكم هذه الآية، وأباح له التزوج، ولكن لم يقع منه بعد ذلك نزوّج؛ لتكون المنّة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليهنّ، ثم أورد حديث عائشة المذكور في الباب:"ما مات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ اللَّه له النساء". ثم أورد عن ابن أبي حاتم بسنده عن أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها قالت:"لم يمت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ اللَّه له أن يتزوج من النساء ما شاء، إلا ذات محرم، وذلك قول اللَّه تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية". فجعلت هذه الآية ناسخة للتي بعدها في التلاوة كآيتي الوفاة في "البقرة"، الأولى ناسخة للتي بعدها. واللَّه أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر أن الأرجح أنه صلى الله عليه وسلم أباح اللَّه تعالى له النساء بعد ما حرم عليه غير نسائه اللاتي خيّرهنّ، فاخترنه، مجازاة لهنّ على حسن صنيعهنّ، ثم لرفعة مكانته صلى الله عليه وسلم عند ربّه وَسَّعَ عليه، فَنَسَخَ ذلك التحريم، ثم من كريم شمائله، وحسن أدبه مع ربه، ومع نسائه لم يتزوّج بعد ذلك حتى مات صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- راجع "تفسير القرطبيّ" 14/ 206 - 107.

(2)

- راجع "تفسير ابن كثير" 3/ 509 "تفسير سورة الأحزاب".

ص: 15

مسألتان، تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-2/ 3205 و 3206 - وفي "الكبرى" 2/ 5311 و 5314. وأخرجه (ت) في "التفسير" 3216 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23617 (الدارميّ) في "النكاح" 2242. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3206 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ -وَهُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ- قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "مَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ مَا شَاءَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"وُهيب": هو ابن خالد الباهليّ، أبو بكر البصريّ الثقة الثبت. والحديث صحيح، تقدّم تخريجه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌3 - (الْحَثُّ عَلَى النِّكَاحِ)

3207 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ عِنْدَ عُثْمَانَ رضي الله عنه، فَقَالَ عُثْمَانُ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فِتْيَةٍ - قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَلَمْ أَفْهَمْ "فِتْيَةً" كَمَا أَرَدْتُ- فَقَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ ذَا طَوْلٍ، فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَا، فَالصَّوْمُ لَهُ وِجَاءٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث تقدّم للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- سندًا ومتنًا برقم -43/ 2243 - وتقدّم الكلام عليه هناك، وهو صحيح الإسناد، من أفراد

ص: 16

المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-.

و"عمرو بن زرارة": هو الكلابيّ النيسابوري الثقة الثبت. و"إسماعيل": هو ابن عليّة. و"يونس": هو ابن عُبيد البصريّ الثقة الثبت الفاضل الورع. و"أبو معشر": هو زياد بن كُليب الكوفيّ الثقة.

وقوله: "فلم أفهم فتية" يعني أنه لم يفهم من شيخه عمرو بن زُرارة لفظة "فتية" على الوجه الذي يريد أن يفهمه، ولعله اشتبه عليه، إما لبعده، أو لحصول تشويش من بعض الحاضرين، فلم يسمعه سماعًا تامًّا، مثل ألفاظ بقية الحديث. وليس هذا الكلام في "الكبرى"، ولا فيما تقدّم له في "الصيام"، ولفظ "الكبرى":"خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على -يعني "فتية" انتهى.

وقوله: "ذا طَول" بفتح الطاء: أي ذا قدرة على المهر والنفقة، وهو معنى قوله في الحديث الآتي:"من استطاع الباءة".

ثم إن أبا معشر خالف الأعمش، فجعل الحديث لعثمان بن عفّان رضي الله عنه عنه، والأعمش جعله لابن مسعود رضي الله عنه، وأبو معشر وإن كان ثقة، إلا أن الأعمش يقدّم عليه، ولذا أتى المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- برواية الأعمش عقبه، فكأنه يرجّح رواية الأعمش عليه؛ لأن عادته، كما قال الحافظ ابن رجب في "شرح علل الترمذيّ" أنه يأتي بالأخبار المعللة أولاً، ثم يردفها بالأخبار "الصحيحة" ومثله الترمذيّ في ذلك. واللُّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعِم الوكيل.

3208 -

(أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، أَنَّ عُثْمَانَ، قَالَ لاِبْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ لَكَ فِي فَتَاةٍ، أُزَوِّجُكَهَا؟ ، فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ عَلْقَمَةَ، فَحَدَّثَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ، فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَلْيَصُمْ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(بشر بن خالد) العسكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقة يُغرب [10] 26/ 812.

2 -

(محمد بن جعفر) المعروف بـ"غندر، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة صحيح الكتاب [9] 21/ 22.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت البصريّ [7] 24/ 27.

4 -

(سليمان) بن مهران الأعمش الكوفيّ ثقة ثبت ورع، لكنه يدلس [5] 17/ 18.

ص: 17

5 -

(إبراهيم) بن يزيد النخعي، أبو عمران الكوفيّ، ثقة فقيه يرسل كثيرًا [5] 29/ 33.

6 -

(علقمة) بن قيس بن عبد اللَّه النخعيّ الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه عابد [2] 61/ 77.

7 -

(ابن مسعود) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنه - 35/ 39. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وبالكوفيين بعده. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين الكوفيين يروي بعضهم عن بعض: سليمان، وإبراهيم، وعلقمة. (ومنها): أن هذا الإسناد مما ذكر أنه أصحّ الأسانيد، وهي ترجمة الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه،. وللأعمش في هذا الحديث إسناد آخر سيأتي بعد حديث، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَلْقَمَةَ) بن قيس النخعيّ الكوفيّ (أَنَّ عُثْمَانَ) بن عفّان رضي الله عنه (قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه.

وفي رواية أبي معاوية الآتية: "كنت أمشي مع عبد اللَّه بمنى، فلقيه عثمان، فقام معه، يحدثه، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ألا أزوّجك

". وفي رواية للبخاريّ: "يا أبا عبد الرحمن إن لي إليك حاجة، فخليا

" (هَلْ لَكَ فِي فَتَاةٍ) أي هل لك رغبة في شابّة (أُزَّوَجُكَهَا؟) وفي رواية أبي معاوية: "ألا أزوّجك جاريةً شابّةً، فلعلها أن تُذكرك بعض ما مضى منك". وفي رواية للبخاري:"هل لك يا أبا عبد الرحمن في أن نزوّجك بكرًا تذكّرك ما كنت تعهد". وفي رواية لمسلم: "لعلك يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد".

قال القرطبيّ: وكأنّ عبد اللَّه قد قلّت رغبته في النساء؛ إما للاشتغال بالعبادة، وإما للسنّ، وإما لمجموعهما، فحركه عثمان بذلك انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": ولعلّ عثمان رضي الله عنه رأى به قشفًا، ورثائة هيئة، فحمل ذلك على فقده الزوجة التي ترفّهه. ويؤخذ منه أن معاشرة الزوجة الشابّة تزيد في القوّة والنشاط، بخلاف عكسها فبالعكس.

(فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ عَلْقَمَةَ) أي ناداه إليه، وذلك لأن عثمان رضي الله عنه كان طلب منه أن يخلو

(1)

- "المفهم" 4/ 81.

ص: 18

به؛ ليُسِرّ إليه أمر التزويج، كما تقدّم آنفًا، فخلا به، فلما رأى ابن مسعود أن لا حاجة له في ذلك نادى علقمة لعدم الحاجة إلى بقاء الخلوة، وليستفيد علقمة أيضًا بما يسمعه من الحديث.

ففي رواية البخاريّ: "فلما رأى عبد اللَّه أن ليس له حاجة إلى هذا أشار إليّ، فقال: يا علقمة، فانتهيت إليه، وهو يقول: أَمَا لئن قلت ذلك لقد قال لنا النبيّ صلى الله عليه وسلم

". قال في "الفتح": هكذا عند الأكثر أن مراجعة عثمان لابن مسعود في أمر التزويج كانت قبل استدعائه لعلقمة. ووقع في رواية جرير عند مسلم، وزيد بن أبي أُنيسة عند ابن حبّان بالعكس، ولفظ جرير بعد قوله: "فاستخلاه"، "فلما رأى عبد اللَّه أن ليس له حاجة، قال لي: تعالَ يا علقمة، قال: فجئتُ، فقال له عثمان: ألا نزوّجك". وفي رواية زيد: "فلقي عثمان، فأخذ بيده، فقاما، وتنحّيت عنهما، فلما رأى عبد اللَّه أن ليست له حاجة يُسِرُّها، قال: ادنُ يا علقمة، فانتهيت إليه، وهو يقول: ألا نزوّجك".

ويحتمل في الجمع بين الروايتين أن يكون عثمان أعاد على ابن مسعود ما كان قال له بعد أن استدعى علقمة؛ لكونه فهم منه إرادة إعلام علقمة بما كانا فيه انتهى

(1)

.

(فحَدَّثَ) أي عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه. ثم إن تحديثه هذا يحتمل أن يكون تحسينًا لكلام عثمان رضي الله عنه، أي إن ما ذكرته من النكاح حسنٌ؛ فقد حثّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن لا حاجة لي إليه. ويحتمل أنه قصد به الردّ عليه، بناء على أن الخطاب في الحديث للشباب، كما هو الصريح فيه، فالمعنيّ به من كان في سنّ الشباب، لا في مثل سنّي. واللَّه تعالى أعلم

(2)

(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) وفي رواية أبي معاوية الآية: "لقد قال لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب، من استطاع

". وفي رواية زيد بن أبي أنيسة المذكورة: "لقد كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شبابًا، فقال لنا

". وفي رواية عبد الرحمن بن يزيد المتقدّمة في "كتاب الصيام" -43/ 2242 - قال: دخلنا على عبد اللَّه، ومعنا علقمة والأسود، وجماعة، فحدثنا بحديث، ما رأيته حدّث به القوم إلا من أجلي؛ لأني كنت أحدثهم سنًّا، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب

".

و"المعشر" جماعة يشملهم وصفٌ ما، فالشباب معشرٌ، والشيوخ معشرٌ، والأنبياء معشرٌ، والنساء معشرٌ، وكذا ما أشبهه. و"الشباب" جمع شابٌ، ويُجمع أيضًا على شَبَبَة، وشُبّان -بضمّ أوله والتثقيل- وذكر الأزهري أنه لم يُجمع فاعلٌ على فُعّال غيره. وأصله الحركة والنشاط، وهو اسم لمن بلغ إلى أن يكمل ثلاثين، هكذا أطلق الشافعيّة.

(1)

- "فتح" 10/ 134 - 135."النكاح".

(2)

- راجع "شرح السنديّ" 6/ 57.

ص: 19

وقال القرطبيّ في "المفهم": يقال له: حَدَثٌ إلى ستة عشر سنة، ثم شابّ إلى اثنتين وثلاثين، ثم كهلٌ. وكذا ذكر الزمخشريّ في "الشباب" أنه من لدن البلوغ إلى اثنتين وثلاثين. وقال ابن شاس المالكيّ في "الجواهر": إلى أربعين. وقال النوويّ: الأصحّ المختار أن الشباب من بلغ، ولم يُجاوز الثلاثين، ثم هو كهلٌ إلى أن يُجاوز الأربعين، ثم هو شيخ. وقال الرويانيّ وطائفة: من جاوز الثلاثين سمّي شيخًا. زاد ابن قتيبة: إلى أن يبلغ الخمسين. وقال أبو إسحاق الإسفراينيّ عن الأصحاب

(1)

: المرجع في ذلك إلى اللغة، وأما بياض الشعر، فيختلف باختلاف الأمزجة انتهى

(2)

.

("مَنِ اسْتَطَاعَ) قال القرطبيّ: أي من وجد ما به يتزوّج، ولا يراد به هنا القدرة على الوطء؛ لقوله:"فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" انتهى

(3)

.

وفي الرواية التالية: "من استطاع منكم". وخصّ الشباب بالخطاب لأنّ الغالب وجود قوّة الدواعي فيهم إلى النكاح، بخلاف الشيوخ، وإن كان المعنى معتبرًا إذا وُجد السبب في الكهول والشيوخ أيضًا (الْبَاءَةَ) قال وليّ الدين: فيه أربع لغات، حكاها القاضي عياض وغيره، الفصيحة المشهورة:"الباءة" بالمدّ والهاء. والثانية: "البأة" بلا مدّ. والثالثة: "الباء" بلا هاء. والرابعة: "الباهة" بهاءين بلا مدّ. وأصلها في اللغة: الجماع، مشتقّةٌ من المباءة، وهو المنزل، ومنه مباءة الإبل، وهي مواطنها، ثم قيل لعقد النكاح باءة؛ لأن من تزوّج امرأةً بوّأها منزلاً انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": "الباءة": بالهمز، وتاء تأنيث ممدود، وفيها لغةٌ أخرى بغير همز ولا مدّ، وقد يُهمز، ويُمدّ بلا هاء، ويقال لها أيضًا: الباهة كالأول، لكن بهاء بدل الهمزة. وقيل: بالمدّ القدرة على مُؤَن النكاح، وبالقصر الوطء. وقال الخطابيّ. المراد بالباءة النكاح، وأصله الموضع الذي يتبوّؤه، ويأوي إليه. وقال المازريّ: اشتُقّ العقد على المرأة من أصل الباءة؛ لأن من شأن من يتزوّج المرأة أن يُبوّءها منزلاً.

وقال النوويّ: اختلف العلماء في المراد بالباءة هاهنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد:

أصحّهما: أن المراد معناها اللغويّ، وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع؛ لقدرته على مُؤنه -وهي مُؤَن النكاح- فليتزوّج، ومن لم يستطع الجماع؛

(1)

- أي الشافعيّة.

(2)

- "فتح" 10/ 135. بزيادة من "طرح التثريب" 7/ 3.

(3)

- "المفهم" 4/ 81 - 82.

(4)

- "طرح التثريب" 7/ 3.

ص: 20

لعجزه عن مؤنه، فعليه بالصوم؛ ليدفع شهوته، ويقطع شر منيّه، كما يقطعه الوجاء.

وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشباب الذين هم مظنّة شهوة النساء، ولا ينفكّون عنها غالبًا.

والقول الثاني: أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح، سمّيت باسم ما يلازمها، وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوّج، ومن لم يستطع فليصم لدفع شهوته.

والذي حمل القائلين بهذا على ما قالوه قوله: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم"، قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة، فوجب تأويل الباءة على المؤن. وانفصل القائلون بالأول عن ذلك بالتقدير المذكور انتهى. والتعليل المذكور للمازريّ. وأجاب عنه عياضٌ بأنه لا يبعد أن تختلف الاستطاعتان، فيكون المراد بقوله:"من استطاع الباءة"، أي بلغ الجماع، وقَدَرَ عليه فليتزوّج، ويكون قوله:"ومن لم يستطع" أي من لم يقدر على التزويج.

قال الحافظ: قلت: وتهيّأ له هذا لحذف المفعول في المنفيّ، فيحتمل أن يكون المراد: ومن لم يستطع الباءة، أو من لم يستطع التزويج، وقد وقع كلّ منهما صريحًا، فعند الترمذيّ في رواية عبد الرحمن بن يزيد من طريق الثوريّ، عن الأعمش:"ومن لم يستطع منكم الباءة". وعند الإسماعيليّ من هذا الوجه من طريق أبي عوانة، عن الأعمش:"من استطاع منكم أن يتزوّج فليتزوّج". ويؤيّده ما وقع في رواية النسائيّ

(1)

من طريق أبي معشر، عن إبراهيم النخعيّ:"من كان ذا طول فلينكح"، ومثله لابن ماجه من حديث عائشة، وللبزّار من حديث أنس.

وأما تعليل المازريّ فيعكُرُ عليه قوله في الرواية الأخرى بلفظ: "كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم شبابًا لا نجد شيئًا"، فإنه يدلّ على أن المراد بالباءة الجماع، ولا مانع من الحمل على المعنى الأعمّ بأن يُراد بالباءة القدرة على الوطء، ومؤن التزويج.

والجواب عما استشكله المازريّ أنه يجوز أن يرشد من لا يستطيع الجماع من الشباب لفرط حياء، أو عدم شهوة، أو عُنّة مثلاً إلى ما يهيّء له استمرار تلك الحالة؛ لأن الشباب مظنّة توارن الشهوة الداعية إلى الجماع، فلا يلزم من كسرها في حالة أن يستمرّ كسرها، فلهذا أرشد إلى ما يستمرّ به الكسر المذكور، فيكون قسم الشباب إلى قسمين: قسم يتوقون إليه، ولهم اقتدارٌ عليه، فندبهم إلى التزويج دفعًا للمحذور، بخلاف الآخرين، فندبهم إلى أمر تستمرّ به حالتهم؛ لأن ذلك أرفق بهم للعلّة التي ذُكرت في رواية عبد الرحمن بن يزيد، وهي أنهم كانوا لا يجدون شيئًا. ويستفاد منه أن

(1)

هو الحديث الذي قبل هذا، لكنه بلفظ "من كان منكم ذا طول فليتزوّج

" الحديث.

ص: 21

الذي لا يجد أهبة النكاح، وهو تائق إليه يندب له التزويج دفعًا للمحذور انتهى

(1)

.

(فَلْيَتَزَوَّجْ) أمرٌ، وظاهره الوجوب، وبه قال بعض أهل العلم، وحمله الجمهور على الندب، والأول هو الحقّ على تفصيل سيأتي تحقيقه، إن شاء اللَّه تعالى قريبًا (فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ) الفاء فيه للتعليل؛ أي لأنه أغضّ للبصر. أي أشدّ غضًّا له (وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ) أي أشدّ إحصانًا له، ومنعًا من الوقوع في الفاحشة. وما ألطف ما وقع لمسلم في "صحيحه"، حيث ذكر عقب حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا بيسير حديث جابر رضي الله عنه، رفعه:"إذا أحدكم أعجبته المرأة، فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها، فإن ذلك يردّ ما في نفسه"، فإن فيه إشارة إلى المراد من حديث الباب.

وقال ابن دقيق العيد: يحتمل أن تكون "أفعل" على بابها، فإن التقوى سبب لغضّ البصر، وتحصين الفرج، وفي معارضتها الشهوة الداعية إلى النكاح، وبعد حصول التزويج يضعف هذا المعارض، فيكون أغضّ، وأحصن مما لم يكن؛ لأن وقوع الفعل مع ضعف الداعي أندر من وقوعه مع وجود الداعي.

ويحتمل أن يكون "أفعل" فيه لغير المبالغة، بل إخبار عن الواقع فقط.

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) الباءة (فَلْيَصُمْ) لتنكسر شهوته، فلا يقع في الحرام (فَإِنَّهُ) أي الصوم (لَهُ وِجَاءٌ) -بكسر الواو، والمدّ- أصله الغمز، ومنه وجأه في عنقه: إذا غمزه دافعًا له، ووجأه بالسيف: إذا طعنه به، ووجأ أُنثييه: غمزهما حتى رضّهما. ووقع في رواية ابن حبّان المذكورة: "فإنه له وجاء، وهو الإخصاء"، وهي زيادة مدرجة في الخبر، لم تقع إلا في طريق زيد بن أبي أُنيسة هذه. وتفسير الوجاء بالإخصاء فيه نظر، فإن الوجاء رضّ الأنثيين، والإخصاء استئصالهما. وإطلاق الوجاء على الصيام من مجاز المشابهة. وقال أبو عبيدة: قال بعضهم: وجا بفتح الواو، مقصورًا. والأول أكثر. وقال أبو زيد: لا يقال: وِجاءٌ إلا فيما لم يبرأ، وكان قريب العهد بذلك. قاله في "الفتح".

وقال أبو العبّاس القرطبيّ: وقال بعضهم الوجأة أن توجأ العروق، والخصيتان باقيتان بحالهما، والخصاء شقّ الخصيتين، واستئصالهما، والْجَبّ أن تُحمَى الشّفرة، ثم يستأصل بها الخصيتان. وقد قاله بعضهم:"وَجَا" -بفتح الواو والقصر، قال: وليس بشيء؛ لأن ذلك هو الْحَفَاء في ذوات الخفّ انتهى

(2)

.

وقال الحافظ وليّ الدين: ليس المراد هنا حقيقة الوجاء، بل سمي الصوم وجاء لأنه يفعل فعله، ويقوم مقامه، فالمراد أنه يقطع الشهوة، ويدفع شرّ الجماع، كما يفعله

(1)

- "فتح"10/ 135 - 136. "النكاح".

(2)

- "المفهم" 4/ 85.

ص: 22

الوجاء، فهو من مجاز المشابهة المعنويّة انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصوابِ، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-3/ 3208 و 3209 و 3210 و 3211 و 3212 - و"الصيام"43/ 2239 و 2240 و 2241 و 2242 و 2243 - وفي "الكبرى" 3/ 5316 و 5317 و 5318 و 5319 و 5320 و"الصيام" 43/ 2547 و 2548 و 2549 و 2550 و2550.

وأخرجه (خ) في "الصوم" 1905 و"النكاح" 5065 و 5066 (م) في "النكاح" 1400 (د) في "النكاح" 2046 (ت) في "النكاح" 1081 (ق)"النكاح" 1845 (أحمد) في "مسند المكثرين" 3581 و 4101 (الدارميّ)"النكاح" 2165 و 2166. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو الحثّ على النكاح، ففيه الأمر بالنكاح لمن استطاعه، وتاقت إليه نفسه. (ومنها): استحباب عرض الصاحب على صاحبه الذي ليست له زوجة بهذه الصفة، وهو صالِحٌ للتزويج أن يتزوّج. (ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من مواساة بعضهم لبعض، وتفقدهم أحوالهم. (ومنها): استحباب نكاح الشابّة؛ لأنها المحصّلة لمقاصد النكاح؛ وإنها ألذّ استمتاعًا، وأطيب نكهةً، وأرغب في الاستمتاع الذي هو مقصود النكاح، وأحسن عشرة، وأفكه محادثة، وأجمل منظرًا، وألين مَلْمَسًا، وأقرب إلى أن يُعَوِّدَها زوجها الأخلاق التي يرتضيها. (ومنها): استحباب نكاح البكر، وتفضيلها على الثيّب. (ومنها): أن فيه إرشاد التائق إلى النكاح العاجز عن مُؤَنه إلى الصوم، وذلك لما فيه من كسرة الشهوة، فإن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل، تَقوَى بقوّتها، وتضعف بضعفها. (ومنها): أن من لم يستطع الجماع فالمطلوب منه ترك التزويج؛ لأنه أرشده إلى ما ينافيه، ويضعف دواعيه. وأطلق بعضهم أنه يُكره في حقّه. قاله في "الفتح". (ومنها): أن فيه الحثّ على غضّ البصر، وتحصين الفرج بكلّ ممكن، وعدم التكليف بغير المستطاع. (ومنها): أنه يؤخذ منه أن

(1)

- "طرح التثريب" 7/ 8.

ص: 23

حظوظ النفس والشهوات لا تتقدّم على أحكام الشرع، بل هي دائرة معها. (ومنها): أن الخطّابي استدلّ به على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية، وحكاه البغويّ في "شرح السنّة"، وينبغي أن يُحمل على دواء يسكّن الشهوة، دون ما يقطعها أصالةً؛ لأنه قد يقدر بعدُ، فيندم لفوات ذلك في حقّه، وقد صرّح الشافعيّة بأنه لا يُكسرها بالكافور ونحوه، والحجّة فيه أنهم اتفقوا على منع الجبّ والخصاء، فيُلحق بذلك ما في معناه من التداوي بالقطع أصلاً. (ومنها): أن الخطّابيّ استدلّ به أيضًا على أن المقصود من النكاح الوطء، ولهذا شُرع الخيار في الْعُنَّة. (ومنها): أن القرافيّ استنبط من قوله: "فإنه له وجاء" أن التشريك في العبادة لا يَقدَح فيها بخلاف الرياء؛ لأنه أمر بالصوم الذي هو قربة، وهو بهذا القصد صحيح، مثاب عليه، ومع ذلك فأرشد إليه؛ لتحصيل غضّ البصر، وكفّ الفرج عن الوقوع في المحرّم انتهى.

قال الحافظ: فإن أراد تشريك عبادة بعبادة أخرى، فهو كذلك، وليس محلّ التراع، وإن أراد تشريك العبادة بأمر مباح، فليس في الحديث ما يُساعده انتهى.

(ومنها): أن بعض المالكيّة استدلّ به على تحريم الاستمناء؛ لأنه أرشد عند العجز عن التزويج إلى الصوم الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحًا لكان الإرشاد إليه أسهل.

وتُعُقّب دعوى كونه أسهل؛ لأن الترك أسهل من الفعل. وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء، وهو عند الحنابلة، وبعض الحنفيّه لأجل تسكين الشهوة. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم النكاح:

ذهب الجمهور إلى استحباب النكاح لمن تاقت إليه نفسه، واستطاعه بقدرته على مؤنه، دون الإيجاب عليه، فلا يلزمه عندهم التزوّج، ولا التسرّي، سواء خاف العَنَتَ، أم لا. كذا حكاه النوويّ عن العلماء كافّة، ثم قال: ولا نعلم أحدًا أوجبه إلا داود، ومن وافقه من أهل الظاهر، وروية عن أحمد، فإنهم قالوا: يلزمه إذا خاف العنت أن يتزوّج، أو يتسرّى، قالوا: وإنما يلزمه في العمر مرّةً واحدة. ولم يشترط بعضهم خوف العنت، قال أهل الظاهر: إنما يلزمه التزوج فقط، ولا يلزمه الوطء انتهى

(2)

.

قال الحافظ وليّ الدين -بعد ذكر كلام النوويّ-: ما نصّه: وفيه نظر، فهذا الذي ذكر أنه رواية عن أحمد هو المشهور من مذهبه، وظاهر كلام أصحابه تعيّن النكاح. وعنه

(1)

- "فتح" 10/ 139 - 140 و"طرح التثريب" 7/ 3 - 9. "كتاب النكاح".

(2)

- "شرح مسلم" 9/ 177.

ص: 24

رواية أخرى بوجوبه مطلقًا، وإن لم يخف العنت، كما حكاه النوويّ عن بعضهم، وعبارة ابن تيميّة في "المحرّر": النكاح السابق سنة مقدّمة على نفل العبادة، إلا أن يخشى الزنا بتركه، فيجب، وعنه يجب عليه مطلقًا انتهى.

والوجوب عند خوف العنت وجه في مذهب الشافعيّ، حكاه الرافعيّ عن "شرح مختصر الجوينيّ". وقال النوويّ في "الروضة": هذا الوجه لا يحتم النكاح، بل يُخيّر بينه وبين التسرّي، ومعناه ظاهر انتهى.

وجزم به أبو العباس القرطبيّ، وهو من المالكيّه، بل زاد فحكى الاتفاق عليه، فإنه قال: إنا نقول بموجب هذا الحديث في حقّ الشابّ المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزبة، بحيث لا يرتفع عنه إلا بالتزويج، وهذا لا يختلف في وجوب التزويج عليه انتهى.

ونقله الاتفاق على ذلك مردود، لكن يُقلَّد في نقل مذهبه في ذلك، وبه يحصل الردّ على النوويّ في كلامه المتقدّم، ولم يقيّد ابن حزم ذلك بخوف الْعَنَتِ، وعبارته في "المحلّى": وفرضٌ على كلّ قادر على الوطء إن وجد أن يتزوّج، أو يتسرّى، أن يفعل أحدهما، فإن عجز عن ذلك، فليُكثر من الصوم، ثم قال: وهو قول جماعة من السلف.

وقال الشيخ تقي الدين في "شرح العمدة": قسم الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة، أعني الوجوب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحةَ، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت، وقدر على النكاح، إلا أنه لا يتعيّن واجبًا، بل إما هو، وإما التسرّي، وإن تعذّر التسرّي، تعيّن النكاح حينئذ للوجوب، لا لأصل الشريعة انتهى. وكان هذا التقسيم لبعض المالكيّة، وقد حكاه أبو العبّاس القرطبيّ عن بعض علمائهم، وقال: إنه واضحٌ. وقال القاضي أبو سعد الهرويّ من الشافعيّة: ذهب بعض أصحابنا بالعراق إلى أن النكاح فرض كفاية حتى لو امتنع منه أهل قطر، أُجبروا عليه. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وقد قسم العلماء الرجل في التزويج إلى أقسام:

[الأول]: التائق إليه القادر على مؤنه، الخائف على نفسه، فهذا يُندب له النكاح عند الجميع، وزاد الحنابلة في رواية أنه يجب، وبذلك قال أبو عوانة الإسفراينيّ من الشافعيّة، وصرّح به في "صحيحه"، ونقله المصيصيّ في "شرح مختصر الجوينيّ" وجهًا، وهو قول داود، وأتباعه. وردّ عليهم عياضٌ، ومن تبعه بوجهين:[أحدهما]: أن الآية التي احتجّوا بها خيرت بين النكاح والتسري -يعني قوله تعالى: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]، قالوا: والتسرّي ليس واجبًا اتفاقًا، فيكون التزويج غير

(1)

"طرح التثريب" 7/ 4 - 5.

ص: 25

واجب، إذ لا يقع التخيير بين واجب ومندوب. وهذا الردّ متعقّبٌ، فإن الذين قالوا بوجوبه قيّدوه بما إذا لم يندفع التوقان بالتسرّي، فإذا لم يندفع تعيّن التزويج، وقد صرّح بذلك ابن حزم، فقال: وفرض على كلّ قادر على الوطء إن وجد ما يتزوّج به، أو يتسرى أن يفعل أحدهما، فإن عجز عن ذلك فليُكثر من الصوم، وهو قول جماعة من السلف.

الوجه الثاني: أن الواجب عندهم العقد لا الوطء، والعقد بمجرّده لا يدفع مشقّة التوقان، قال: فما ذهبوا إليه لم يتناوله الحديث، وما تناوله الحديث لم يذهبوا إليه، كذا قال، وقد صرّح أكثر المخالفين بوجوب الوطء، فاندفع الإيراد.

وقال ابن بطال: احتجّ من لم يوجبه بقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم"، قال: فلما كان الصوم الذي هو بدله ليس بواجب فمبدله مثله.

وتعقّب بأن الأمر بالصوم مرتّبٌ على عدم الاستطاعة، ولا استحالة أن يقول القائل أوجبت عليك كذا، فإن لم تستطع فأَندُبُك إلى كذا، والمشهور عن أحمد أنه لا يجب للقادر التائق إلا إذا خشي العَنَتَ، وعلى هذه الرواية اقتصر ابن هُبيرة.

وقال المازريّ: الذي نطق به مذهب مالك أنه مندوب، وقد يجب عندنا في حقّ من لا ينكفّ عن الزنا إلا به. وقال القرطبيّ. المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه، ودينه من العزوبة بحيث لا يرتفع عنه ذلك إلا بالتزويج لا يختلف في وجوب التزويج عليه. ونبّه ابن الرفعة على صورة يجب فيها، وهي ما إذا نذره حيث كان مستحبًّا.

وقال ابن دقيق العيد: قسم بعض الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت، وقَدَر على النكاح، وتعذّر التسرّي. وكذا حكاه القرطبيّ عن بعض علمائهم، وهو المازريّ قال: فالوجوب في حقّ من لا ينكفّ عن الزنا إلا به، كما تقدّم. قال: والتحريم في حقّ من يُخلّ بالزوجة في الوطء والإنفاق مع عدم قدرته عليه، وتوقانه إليه. والكراهة في حقّ مثل هذا حيث لا إضرار بالزوجة، فإن انقطع بذلك عن شيء من أفعال الطاعة، من عبادة، أو اشتغال بالعلم اشتدّت الكراهة. وقيل: الكراهة فيما إذا كان ذلك في حال العزوبة أجمع منه في حال التزويج. والاستحباب فيما إذا حصل به معنى مقصود من كسر شهوة، وإعفاف نفس، وتحصين فرج، ونحو ذلك. والإباحة فيما انتفت الدواعي والموانع.

ومنهم من استمرّ بدعوى الاستحباب فيمن هذه صفته؛ للظواهر الواردة في الترغيب فيه. قال عياضٌ: هو مندوبٌ في حقّ كلّ من في يرجى منه النسل، ولو لم يكن له في الوطء شهوة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"فإني مكاثرٌ بكم"، ولظواهر الحضّ على النكاح، والأمر به،

ص: 26

وكذا في حقّ من له رغبة في نوع من الاستمتاع بالنساء غير الوطء، فأما من لا يُنسل، ولا أرب له في النساء، ولا في الاستمتاع فهذا مباحٌ في حقّه إذا علمت المرأة بذلك، ورضيت. وقد يقال: إنه مندوب أيضًا؛ لعموم قوله: "لا رهبانية في الإسلام".

وقال الغزاليّ في "الإحياء": من اجتمعت له فوائد النكاح، وانتفت عنه آفاته، فالمستحب في حقّه التزويج، ومن لا فالترك له أفضل، ومن تعارض الأمر في حقّه فليجتهد، ويعمل بالراجح انتهى.

قال الحافظ: الأحاديث الواردة في ذلك كثيرةٌ، فأما حديث:"فإني مكاثر بكم" فصحّ من حديث أنس بلفظ: "تزوّجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم يوم القيامة".

أخرجه ابن حبّان، وذكره الشافعيّ بلاغًا عن ابن عمر بلفظ:"تناكحوا، تكاثروا، فإني أباهي بكم الأمم". وللبيهقي من حديث أبي أمامة: "تزوّجوا، فإني مكاثرٌ بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى".

وورد: "فإني مكاثرٌ بكم" أيضًا من حديث الصنابحيّ، وابن الأعسر

(1)

، ومعقل بن يسار، وسهل بن حُنيف، وحرملة بن النعمان، وعائشة، وعياض بن غنم، ومعاوية بن حيدة، وغيرهم.

وأما حديث: "لا رهبانية في الإسلام" فلم أره بهذا اللفظ، لكن في حديث سعد بن أبي وقّاص عند الطبرانيّ:"إن اللَّه أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة". وعن ابن عباس رفعه: "لا صرورة في الإسلام". أخرجه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم. وفي الباب حديث النهي عن التبتّل، وسيأتي في الباب التالي، وحديث عائشة، رفعته:"النكاح سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس منّي، وتزوّجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصيام، فإن الصوم له وجاء". رواه ابن ماجه، وهو صحيح بشواهده

(2)

. وحديث "من كان موسرًا، فلم يَنكِح فليس منّا". أخرجه الدارميّ، والبيهقيّ من حديث ابن أبي نَجِيح، وجزم بأنه مرسل. وقد أورده البغويّ في "معجم الصحابة"، وحديث طاوس:"قال عمر بن الخطاب لأبي الزوائد: إنما يمنعك من التزويج عجزٌ، أو فُجور". أخرجه ابن أبي شيبة وغيره. وأخرج الحاكم من حديث أنس رضي الله عنه رفعه: "من رزقه اللَّه امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتّق اللَّه في الشطر الثاني".

قال الحافظ: وهذه الأحاديث وإن كان في الكثير منها ضعف، فمجموعها يدلّ على

(1)

- هكذا نسخة "الفتح" ولعل الصواب "والصنابح بن الأعسر". فليُحرّر.

(2)

راجع "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألباني رقم 2383.

ص: 27

أنّ لِمَا يحصل به المقصود من الترغيب في التزويج أصلاً، لكن في حقّ من يتأتّى منه النسل، كما تقدّم انتهى كلام الحافظ ببعض تصرّف

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما سبق من الأدلّة أن أرجح الأقوال قول من قال بوجوب النكاح لمن استطاع عليه، وتاقت إليه نفسه، وخاف العنت؛ عملاً بظاهر الأمر الذي في حديث الباب، ومن عداه فيستحبّ له؛ عملاً بالأحاديث المذكورة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: لم يقل أحد بوجوبه على النساء، وقد صرّح بذلك ابن حزم، فقال: وليس ذلك فرضا على النساء؛ لقوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} الآية [النور: 60]. قال أبو إسحاق الشيرازيّ، صاحب "التنبيه": إن النكاح للنساء مستحبٌ عند الحاجة، ومكروه عند عدمها. وقال الشيخ عماد الدين الزنجانيّ في "شرح الوجيز" المسمّى بـ"الموجز": لم يتعرّض الأصحاب للنساء، والذي يغلب على الظنّ أن النكاح في حقّهنّ أولى مطلقًا؛ لأنهنّ يحتجن إلى القيام بأمورهنّ، والتستّر عن الرجال، ولم يتحقّق في حقهنّ الضرر الناشئ من النفقة انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الزنجانيّ -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ جدًّا، وأما قول الشيرازي بالكراهة عند عدم الحاجة فلا يؤيّده دليل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

3209 -

(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ، فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» .

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الأَسْوَدُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح غير شيخه "هارون ابن إسحاق": وهو أبو القاسم الكوفيّ، صدوق، من صغار [10] 13/ 346. فإنه من رجال الأربعة. و"عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ": هو أبو محمد الكوفيّ، لا بأس به، وكان يدلّس [9] 43/ 2224. و"إبراهيم" هو ابن يزيد النخعي. و"علقمة". هو ابن قيس النخعي. و"الأسود": هو ابن يزيد النخعي. و"عبد اللَّه" هو ابن مسعود رضي الله عنه.

(1)

- "فتح" 10/ 138 - 139.

(2)

- "طرح التثريب" 7/ 6.

ص: 28

وقوله: "فعليه بالصوم". وفي رواية مغيرة، عن إبراهيم عند الطبرانيّ:"من لم يقدر على ذلك، فعليه بالصوم".

قال المازريّ: فيه إغراء بالغائب، ومن أصول النحويين أن لا يُغرَى الغائب، وقد جاء شاذًّا قول بعضهم: عليه رجلاً ليسني، على جهة الإغراء.

وتعقّبه عياضٌ بأن هذا الكلام موجود لابن قتيبة، والزجّاجيّ، ولكن فيه غلطٌ من أوجه:

أما أوّلاً: فمن التعبير بقوله: "لا إغراء بالغائب"، والصواب فيه إغراء الغائب، فأما الإغراء بالغائب فجائز، ونصّ سيبويه أنه لا يجوز "دونه زيدًا"، ولا يجوز "عليه زيدًا" عند إرادة غير المخاطب، وإنما جاز للحاضر لما فيه من دلالة الحال، بخلاف الغائب، فلا يجوز لعدم حضوره، ومعرفته بالحالة الدّالّة على المراد.

وأما ثانيًا: فإن المثال ما فيه حقيقة الإغراء، وإن كانت صورته، فلم يُرد القائل تبليغ الغائب، وإنما أراد الإخبار عن نفسه بأنه قليل المبالاة بالغائب، ومثله قولهم: إليك عني، أي اجعل شغلك بنفسك، ولم يُرد أن يغريه به، وإنما مراده دعني، وكن كمن شُغل عني.

وأما ثالثًا: فليس في الحديث إغراء الغائب، بل الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم أولاً بقوله:"من استطاع منكم"، فالهاء في قوله:"فعليه" ليست لغائب، وإنما هي للحاضر المبهم، إذ يصحّ خطابه بالكاف، ونظير هذا قوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} - إلى أن قال-: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178]، ومثله لو قلت لاثنين: من قام منكما فله درهم، فالهاء للمبهم من المخاطبين، لا لغائب انتهى ملخّصًا.

وقد استحسنه القرطبيّ، وهو حسنٌ بالغ، وقد تفطّن له الطيبيّ، فقال: قال أبو عُبيدة قوله: "فعليه بالصوم" إغراء غائب، ولا تكاد العرب تُغري إلا الشاهد، تقول: عليك زيدًا، ولا تقول: عليه زيدًا، إلا في هذا الحديث. قال: وجوابه أنه لما كان ضمير الغائب راجعًا إلى لفظة "من" وهي عبارة عن المخاطبين في قوله: "يا معشر الشباب"، وبيان لقوله:"منكم" جاز قوله: "عليه"؛ لأنه بمنزلة الخطاب.

وقد أجاب بعضهم

(1)

بأن إيراد هذا اللفظ في مثال إغراء الغائب هو باعتبار اللفظ، وجواب عياض باعتبار المعنى، وأكثر كلام العرب اعتبار اللفظ. كذا قال، والحقّ مع عياض، فإن الألفاظ توابع للمعاني، ولا معنى لاعتبار اللفظ مجرّدًا هنا. قاله في "الفتح"

(2)

.

(1)

- هذا الجواب لوليّ الدين العراقيّ ذكره في "طرح التثريب" 7/ 8.

(2)

- "فتح" 10/ 137.

ص: 29

وقوله: "فعليه بالصوم" عدل عن قوله: فعليه بالجوع، وقلّة ما يُثير الشهوة، ويستدعي طغيان الماء من الطعام والشراب إلى ذكر الصوم، إذ ما جاء لتحصيل عبادة هي برأسها مطلوبة. وفيه إشارة إلى أن المطلوب من الصوم في الأصل كسر الشهوة. وقوله:"الأسود في هذا الحديث ليس بمحفوظ". يعني أن ذكر الأسود بن يزيد مع علقمة في رواية الأعمش غير محفوظ؛ لأن عبد الرحمن المحاربيّ تفرّد به، وقد خالف سبعة من الحفاظ: شعبة، وأبا معاوية، وعلي بن هاشم، ثلاثتهم عند المصنّف، وأبا حمزة السّكّريّ، وحفص بن غياث، عند البخاريّ، وجرير بن عبد الحميد، عند مسلم، وعلي ابن مسهر، عند ابن ماجه، فكلهم رووه عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولم يزد أحدٌ منهم الأسود، فدلّ على أن زيادته شاذة غير محفوظة.

والحديث متّفق عليه، وقد سبق الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3210 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ: لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ، فَلْيَنْكِحْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَا فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح غير شيخه "محمد ابن منصور" وهو الْجَوَّاز المكيّ فإنه من أفراده. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"عمارة بن عُمير": هو التيميّ الكوفيّ الثقة الثبت" [4] 49/ 608. و"عبد الرحمن بن يزيد": هو النخعيّ الكوفيّ، الثقه، من كبار [3] 37/ 41، وهو أخو الأسود بن يزيد المذكور في السند السابق.

والحديث متّفق عليه، كما مرّ قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3211 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ

». وَسَاقَ الْحَدِيثَ).

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"محمد بن العلاء": هو أبو كُريب، أحد مشايخ الستة بلا واسطة. و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم.

وقوله: "وساق الحديث" الضمير لأبي معاوية، أي ساق الحديث السابق بتمامه،

ص: 30

وتمامه عند مسلم من رواية أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي معاوية، وأبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية "

فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء". والحديث متّفق عليه، كما مرّ قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعمِ الوكيل.

3212 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بِمِنًى، فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ، فَقَامَ مَعَهُ يُحَدِّثُهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَلَا أُزَوِّجُكَ جَارِيَةً شَابَّةً، فَلَعَلَّهَا أَنْ تُذَكِّرَكَ، بَعْضَ مَا مَضَى مِنْكَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَمَا لَئِنْ قُلْتَ ذَاكَ، لَقَدْ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ»).

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح غير شيخه، "أحمد بن حرب": وهو الطائيّ الموصليّ، صدوق [10] 102/ 135 فإنه من أفراده. وقوله:"كنت مع عبد اللَّه" أي ابن مسعود رضي الله عنه.

وقوله: "بمنى" قال في "الفتح": كذا وقع في أكثر الروايات، وفي رواية زيد بن أبي أنيسة، عن الأعمش، عند ابن حبّان:"بالمدينة"، وهي شاذّة.

وقوله: "يا أبا عبد الرحمن" هي كنية ابن مسعود. وظنّ ابن المنيّر أن المخاطب بذلك ابنُ عمر؛ لأنها كنيته المشهورة، وأكد ذلك عنده أنه وقع في نسخته من "شرح ابن بطال" عقب الترجمة "فيه ابن عمر لقيه عثمان بمنى"، وقصّ الحديث، فكتب ابن المنيّر في حاشيته: هذا يدلّ على أن ابن عمر شدّد على نفسه في زمن الشباب؛ لأنه كان في زمن عثمان شابًّا. كذا قال. ولا مدخل لابن عمر في هذه القصة أصلاً، بل القصة، والحديث لابن مسعود، مع أن دعوى أن ابن عمر كان شابًّا إذ ذاك فيه نظرٌ، فإنه كان إذ ذاك جاوز الثلاثين. انتهى

(1)

.

وقوله: "بعض ما مضى منك" أي من القوّة، والشهوة، فإن القوّة ترجع بمخالطة الشابّة.

والحديث متّفقٌ عليه، كما مرّ قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب

(1)

- "فتح"10/ 134.

ص: 31

‌4 - (بَابُ النَّهْي عَنِ التَّبَتُّلِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "التبتّل": مصدر "تَبَتَّلَ"، من البَتْل، وهو القطع، يقال: بتله بَتْلاً، من باب قتل: قطعه، وأبانه، وطلّقها طلقةً بَتَّةً بَتلَةً، وتَبَتّل إلى العبادة: تفرّغ لها، وانقطع.

والمراد هنا الانقطاع عن النكاح، وما يتبعه من الملاذّ إلى العبادة.

وأما المأمور به في قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمّل: 8]، فقد فسّره مجاهدٌ، فقال: أخلِصْ له إخلاصًا. وهو تفسيرٌ معنًى، وإلا فأصل التبتّل الانقطاع، والمعنى: انقطع إليه انقطاعًا، لكن لما كانت حقيقة الانقطاع إلى اللَّه تعالى إنما تقع بإخلاص العبادة له فسّرها بذلك. ومنه:"صدقةٌ بَتْلَةٌ" أي منقطعةٌ عن الملك. ومريم البتول؛ لانقطاعها عن التزويج إلى العبادة. وقيل لفاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها - البتول، إما لانقطاعها عن الأزواج غير عليّ، أو لانقطاعها عن نظرائها في الحسن والشرف.

وقد ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- بقوله: "باب ما يكره من التبتّل، والخصاء". فقال في "الفتح": وإنما قال: "ما يكره من التبتل والخصاء" للإشارة إلى أن الذي يكره من التبتّل هو الذي يُفضي إلى التنطّع، وتحريم ما أحلّ اللَّه، وليس التبتّل من أصله مكروهًا. وعطف "الخصاء" عليه؛ لأن بعضه يجوز في الحيوان المأكول انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3213 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: "لَقَدْ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى عُثْمَانَ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عُبيد) بن محمد بن واقد المحاربيّ، أبو جعفر، أو أبو يعلى النحاس الكوفيّ، صدوق [10] 144/ 226.

2 -

(عَبْدُ اللَّه بْنُ الْمُبَارَكِ) المروزيّ الإمام الحجة الثبت المشهور [8] 32/ 36.

3 -

(معمر) بن راشد البصريّ، ثم اليمنيّ، ثقة ثبت [7] 10/ 10.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت الشهير [4] 1/ 1.

5 -

(سعيد بن المسيب) بن حَزْن المخزومي المدني الفقيه الحجة الثبت [3] 9/ 9.

(1)

- "فتح" 10/ 147.

ص: 32

6 -

(سَعدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) اسم أبيه مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة - رضي اللَّه تعالى عنهم -، مات سنة (55) على المشهور. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير شيخه، فتفرد به هو وأبو داود، والترمذيّ. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن المسيب من الفقهاء السبعة. (ومنها): أن صحابيه أول من روى بسهم لي سبيل اللَّه، واحد العشرة المبشّرين بالجنة، وآخر من مات منهم - رضي اللَّه تعالى عنهم - مات سنة (55) على الأصح. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: "لَقَد رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثمَانَ) بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حُذافة بن جُمَح الجُمَحيّ، قال ابن إسحاق: أسلم بعد ثلاثة عشر رجلاً، وهاجر إلى الحبشة، هو وابنه السائب الهجرة الأولى في جماعة، فلما بلغهم أن قريشًا أسلمت رجعوا، فدخل عثمان في جوار الوليد بن المغيرة، ثم ذكر ردّه جواره، ورضاه بما عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر قصّة مع لبيد بن ربيعة حين أنشد:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ .... فقال عثمان بن مظعون: صدقت، فقال لبيد: وَكُلُّ نَعِيم لَا مَحَالَةَ زَائِلُ فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، فقام سَفِيهٌ منهم إلى عثمان، فَلطم عينيه، فاخضرّت. توفّي

(1)

رضي الله عنه بعد شهوده بدرًا في السنة الثانية من الهجرة، وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين، وأول من دُفن بالبقيع منهم. وروى الترمذيّ من طريق القاسم، عن عائشة، قالت: قبّل النبيّ صلى الله عليه وسلم -عثمان بن مظعون، وهو ميت، وهو يبكي، وعيناه تذرفان، ولما توفّي إبراهيم ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون"

(2)

.

وفي رواية مسلم من طريق عُقيل، عن ابن شهاب بلفظ:"أراد عثمان بن مظعون أن يتبتّل، فنهاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، فعلم من هذا أن معنى قوله:"ردّ على عثمان" أي لم يأذن له، بل نهاه. وأخرج الطبرانيّ من حديث عثمان بن مظعون نفسه: "أنه قال: يا رسول

(1)

- وفي "الفتح": وكانت وفاته في ذي الحجة سنة اثنتين من الهجرة. انتهى 10/ 148 "كتاب النكاح".

(2)

- "الإصابة" 6/ 395.

ص: 33

اللَّه إني رجلٌ يشُقّ عليّ العزوبة، فأذن لي في الخصاء، قال: لا، ولكن عليك بالصيام

" الحديث. ومن طريق سعيد بن العاص: "أن عثمان قال: يا رسول اللَّه ائذن لي في الاختصاء، فقال: إن اللَّه قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفيّةَ السمحة".

فيحتمل أن يكون الذي طلبه عثمان هو الاختصاء حقيقةً، فعبّر عنه الراوي بالتبتّل؛

لأنه ينشأ عنه، فلذلك قال:"ولو أذن له لاختصينا".

ويحتمل عكسه، وهو أن المراد بقول سعد:"ولو أذن لاختصينا" لفعلنا فعل من يختصي، وهو الانقطاع عن النساء.

قال الطبريّ: التبتّل الذي أراده عثمان بن مظعون تحريم النساء، والطيب، وكلّ ما يُلتذّ به، فلهذا أُنزل في حقه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [المائدة: 87].

(التَبَتُّلَ) أي الانقطاع عن النساء، وترك النكاح انقطاعًا إلى عبادة اللَّه تعالى (وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَينَا) الاختصاء من خصيت الفحل: إذا سللت خصيته، أي أخرجتها، واختصيت: إذا فعلت ذلك بنفسك.

قال الطيبيّ: كان الظاهر أن يقول: ولو أذن له لتبتلنا، لكنه عدل عن هذا الظاهر إلى قوله:"لاختصينا" لإرادة المبالغة، أي لبالغنا في التبتّل حتى يفضي بنا الأمر إلى الاختصاء، ولم يُرد به حقيقة الاختصاء؛ لأنه حرام.

وقيل: بل على ظاهره، وكان ذلك قبل النهي عن الاختصاء، ويؤيّده توارد استئذان جماعة من الصحابة النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، كأبي هريرة، وابن مسعود، وغيرهما، وإنما كان التعبير بالخصاء أبلغ من التعبير بالتبتّل؛ لأن وجود الآلة يقتضي استمرار وجود الشهوة، ووجود الشهوة ينافي المراد من التبتّل، فيتعيّن الخصاء طريقا إلى تحصيل المطلوب، وغايته أن فيه ألمًا عظيمًا في العاجل، يُغتفر في جنب ما يندفع به في الآجل، فهو كقطع الإِصبع إذا وقعت في اليد الآكلة؛ صيانة لبقيّة اليد، وليس الهلاك بالخصاء محققًا، بل هو نادر، ويشهد له كثرة وجوده في البهائم مع بقائها، وعلى هذا فلعلّ الراوي عبّر بالخصاء عن الْجَبّ؛ لأنه هو الذي يُحصّل المقصود.

والحكمة في منعهم من الاختصاء؛ إرادة تكثير النسل؛ ليستمرّ جهاد الكفّار، وإلا فلو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه، فينقطع النسل، فيقلّ المسلمون باقطاعه، ويكثر الكفّار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- "فتح" 10/ 147 - 148 "كتاب النكاح".

ص: 34

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سعد بن أبي وقّاص - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المساله الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-4/ 3213 - وفي "الكبرى" 5/ 5223. وأخرجه (خ) في "النكاح" 5074 (م) "النكاح" 1402 (ت) "النكاح" 1083 (ق) "النكاح" 1848 (أحمد) "مسند العشرة" 1517 و 1528 و 1591 (الدارميّ) " النكاح" 2167 و 2169. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان النهي عن التبتّل. (ومنها): بيان سماحة الشريعة، وسهولة تكاليفها، حيث منعت عن الاختصاء الذي هو ضرره أكثر من نفعه، حيث يمنع من الطيبات، وينقطع به النسل، وتنقص به كرامة الرجل. (ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الحرص على الطاعة، وإزالة العقبات التي تعوقهم عنها، وإن كان فيها ألم وضرر في أبدانهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3214 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ التَّبَتُّلِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح غير شيخه "إسماعيل بن مسعود": هو الْجَحدريّ البصريّ فإنه من أفراده. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ. و"أشعث": هو ابن عبد الملك الْحُمْرَانيّ البصريّ.

و"الحسن": هو ابن أبي الحسن البصريّ. و"سعد بن هشام" بن عامر الأنصاريّ المدنيّ الثقة، استُشهد بأرض الهند، وكلهم تقدّموا غير مرّة.

وقد تقدّم معنى التبتّل.

والحديث صحيح بما قبله؛ فلا يضرّه عنعنة الحسن، وإن كان مدلسًا، وهو من أفراد المصنّف، أخرجه هنا-4/ 3215 - وفي "الكبرى" 4/ 5322. وأخرجه (أحمد) في "مسند الأنصار" 24422 و 24711 و 25619 (الدارميّ) 2128. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3215 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّبَتُّلِ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: قَتَادَةُ أَثْبَتُ وَأَحْفَظُ مِنْ أَشْعَثَ، وَحَدِيثُ أَشْعَثَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ").

ص: 35

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح و"إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"أبو معاذ": هو هشام الدستوائيّ.

وقوله: "قتادة أثبت الخ" أراد به أن قتادة، وإن كان مقدّمًا في الحفظ على أشعث الحمرانيّ، إلا أنه هنا يقدّم الأشعث، فيُرجّح كون الحديث من مسند عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، كما في الرواية السابقة، لا من مسند سمرة رضي الله عنه، ولعلّ ترجيحه لمتابعة حصين بن نافع له، كما يأتي بعد حديث، إلا أنه موقوف.

وقد ذكر الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- تصحيح كلا الحديثين، ونصّه في "جامعه" بعد ما أخرج حديث سمرة رضي الله عنه: حديث سمرة حديث حسنٌ. وروى الأشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن، عن سعد بن هشام، عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه. ويقال: كلا الحديثين صحيح. انتهى

(1)

.

والحديث أخرجه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا -4/ 3214 - وفي "الكبرى" 4/ 5321. وأخرجه (ت) في "النكاح" 1082 (ق) "النكاح" 1849.

وفي إسناده الحسن البصريّ، وفي سماعه من سمرة خلاف مشهور، لكن يشهد له ما سبق من حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه وغيرُهُ، فهو صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3216 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي الْعَنَتَ وَلَا أَجِدُ طَوْلاً أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ أَفَأَخْتَصِي؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى قَالَ: ثَلَاثًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، "جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ، فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ دَعْ».

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الأَوْزَاعِيُّ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، قَدْ رَوَاهُ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يحيى بن موسى) البلخيّ كوفي الأصل الملقّب بـ"ختّ"، ثقة [10] 146/ 236.

2 -

(أنس بن عياض) بن ضمرة، أبو عبد الرحمن، أو أبو ضمرة المدنيّ ثقة [8] 22/ 1229

3 -

(الأوزاعيّ) عبد الرحمن بن عمرو، أبو عمرو، ثقة جليل فقيه [7] 45/ 56.

(1)

- "الجامع" 4/ 203 بنسخة "تحفة الأحوذي".

ص: 36

4 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

5 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 1/ 1.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أكثر من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرحِ الحديث

(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَجُلٌ شَابٌ، قَدْ خَشِيتُ) بكسر الشين المعجمة: أي خِفْت (عَلَى نَفْسِيَ الْعَنَتَ) -بفتح المهملة، والنون، ثم مثنّاة-: هو الزنا، ويُطلق على الإثم، والفُجور، والأمر الشاقّ والمكروه. وقال ابن الأنباريّ: أصل الْعَنَتِ الشدّة (وَلَا أَجِدُ طَوْلاً) - بفتح، فسكون- أي قدرةً على المهر. وقيل: الطول الغنى. وقيل: الفضل. أفاده في "اللسان". وقال الفيّوميّ: وطال على القوم يطول طَوْلاً، من باب قال: إذا أفضل، فهو طائلٌ، وأطال بالألف، وتطوّل كذلك، وطَوْلُ الحرّة مصدرٌ في الأصل من هذا؛ لأنه إذا قدر على صداقها، وكُلْفتها، فقد طال عليها. وقال بعض الفقهاء. طَوْل الحرّة ما فَضَلَ عن كفايته، وكفَى صرفُهُ إلى مُؤَن نكاحه، وهذا موافقٌ لما قاله الأزهريّ: نزل قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] فيمن لا يستطيع طَوْلاً. وقيل: الطَوْلُ الغِنَى. والأصل أن يُعَدَّى بـ"إلى"، فيقال: وجدتُ طولاً إلى الحرّة: أي سَعَةٌ من المال؛ لأنه بمعنى الْوُصلة، ثم كثُرَ الاستعمال، فقالوا: طولاً إلى الحرّة، ثم زاد الفقهاء تخفيفه، فقالوا: طول الحرّة. وقيل: الأصلُ طولاً عليها انتهى

(1)

.

وقوله (أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ) بتقدير حرف مصدريّ مجرور بحرف جرّ مقدّر، أي إلى تزوّج النساء. وحذف الحرف المصدريّ مع رفع الفعل قياسيّ، على الراجح، كما قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية [الروم: 24]، وأما حذفه، مع نصب الفعل، فشاذّ، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَشَذَّ حَذْفُ "أَنْ" وَنَصبٌ فِي سِوَى

مَا مَرَّ فَاقْبَلْ مِنْهُ مَا عَدْلٌ رَوَى

(1)

- راجع "المصباح المنير" في مادّة طال.

ص: 37

(أَفَاَخْتَصِي؟) أي أستخرج الْخُصْيَتين (فَأَعْرَضَ عَنْهُ) أي عن أبي هريرة عبّر عنه باسم الغيبة؛ لأن الكلام في محلّ إعراض النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه، ومثل هذا المقام يناسب الغيبة، فافهم. قاله السنديّ (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى قَالَ: ثَلَاثًا) أي حتى ردّد الكلام أبو هريرة ثلاث مرّات (فَقَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، "جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ) أي جَفَّ القلم بالفراغ من كتابة ما هو كائنٌ في حقك، أي قد كُتِبَ عَليك، وقُضي ما تلقاه في حياتك، والمقدور لا يتبدّل بالأسباب، فلا ينبغي ارتكاب الأسباب المحرّمة لأجله، نعم إذا شرع اللَّه تعالى سببًا، أو أوجبه فالمباشرة به شيء آخر. قاله السنديّ.

وقال في "الفتح": قوله: " جفّ القلم الخ": أي نفذ المقدور بما كُتب في اللوح المحفوظ، فبقي القلم الذي كُتب به جافًّا، لا مِداد فيه؛ لفراغ ما كتب به. قال عياض: كتابة اللَّه، ولوحه، وقلمه من غيب علمه الذي نؤمن به، ونكل علمه إليه انتهى. (فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ دَعْ) ولفظ البخاريّ: "أو ذَر"، ومعناهما واحدٌ، أي اترك الاختصاء.

وفي رواية الطبرانيّ، وحكاها الحميديّ في "الجمع"، ووقعت في "المصابيح":"فاقتَصِرْ على ذلك، أو ذَرْ" قال الطيبيّ: معناه اقتصر على الذي أمرتك به، أو اتركه، وافعل ما ذكرتَ من الخصاء انتهى.

وأما اللفظ الذي وقع في الأصل، فمعناه: فافعل ما ذكرتَ، أو اتركه، واتبع ما أمرتك به. وعلى الروايتين، فليس الأمر فيه لطلب الفعل، بل هو للتهديد، وهو كقوله تعالى:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} الآية [الكهف: 29].

والمعنى إن فعلتَ، أو لم تفعل فلا بدّ من نفوذ القدر، وليس فيه تعرّضٌ لحكم الخصاء.

ومُحَصَّلُ الجواب أن جميع الأمور بتقدير اللَّه تعالى في الأزل، فالخصاء، وتركه سواء، فإن الذي قدّر لا بدّ أن يقع.

وقوله: "على ذلك" متعلّق بمقدّر، أي اختصِ حال استعلائك على العلم بأن كلّ شيء بقضاء اللَّه وقدره، وليس إذنًا في الخصاء، بل فيه إشارة إلى النهي عن ذلك، كأنه قال: إذا علمت أن كلّ شيء بقضاء اللَّه، فلا فائدة في الاختصاء. وقد تقدّم أنه صلى الله عليه وسلم نهى عثمان بن مظعون لَمّا استأذنه في ذلك، وكانت وفاته قبل هجرة أبي هريرة بمدّة.

وأخرج الطبرانيّ من حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: شكا رجلٌ إلى

ص: 38

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العزوبة، فقال: ألا أختصى؟، قال:"ليس منّا من خُصي، أو اختصى"

(1)

.

[فإن قيل]: لم لم يُؤمر أبو هريرة بالصيام لكسر شهوته، كما أُمر غيره؟.

[أجيب]: بأن أبا هريرة كان الغالب من حاله ملازمة الصيام؛ لأنه كان من أهل الصفّة.

قال الحافظ: ويحتمل أن يكون أبو هريرة سمع: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة، فليتزوّج

" الحديث، لكنه إنما سأل عن ذلك في حال الغزو كما وقع لابن مسعود، وكانوا في حال الغزو يؤثرون الفطر على الصيام للتقوّي على القتال، فأدّاه اجتهاده إلى حسم مادة الشهوة بالاختصاء كما ظهر لعثمان، فمنعه صلى الله عليه وسلم من ذلك، وإنما لم يرشده إلى المتعة التي رخص فيها لغيره لأنه ذكر أنه لا يجد شيئًا، ومن لم يجد شيئًا أصلاً لا ثوبًا، ولا غيره، فكيف يستمتع، والتي يستمتع بها لا بدّ لها من شيء. انتهى.

(قَالَ أَبو عَبْد الرَّحْمَنِ) النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- (الْأوْزَاعِيُّ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الزُّهْرِيّ، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، قَدْ رَوَاهُ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيّ) يعني أن هذا الحديث منقطع من طريق الأوزاعيّ؛ لأنه لم يسمعه من الزهريّ، ولكنه صحيح؛ لأنه قد رواه يونس بن يزيد الأيليّ، عن الزهريّ، وروايته هي التي علّقها البخاريّ في "صحيحه"، كما سيأتي قريبًا.

فقوله: "قد رواه يونس الخ" جمدة تعليليّة لقوله: "صحيح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، كما أشار إليه المصنف في كلامه المذكور آنفًا.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

(1)

- أخرجه الطبرانيّ في "المعجم الكبير" 3/ 117/1 عن معلى الجعفيّ، عن ليث، عن مجاهد، وعطاء، عن ابن عباس. وفيه المعلى المذكور، وهو ابن هلال الحضرميّ، ويقال: الجعفيّ الطحان الكوفيّ، وهو كذاب اتفق النقاد على تكذيبه، قاله في "التقريب"، فالحديث موضوع، لتفرّد هذا الكذاب به. راجع "الضعيفة" للشيخ الألباني 3/ 479480 رقم 1314، فقد أجاد الكلام فيه، جزاه اللَّه خيرًا. والعجب من الحافظ حيث سكت عنه هنا كأنه حديث ثابت. واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 39

أخرجه هنا-4/ 3216 - وأخرجه (خ) تعليقًا في "النكاح"5076. بقوله: "وقال أصبغ: أخبرني ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول اللَّه إني رجل شابّ

" الحديث.

قال في "الفتح": قوله: وقال أصبغ" كذا في جميع الروايات التي وقفت عليها، وكلام أبي نعيم في "المستخرج" يُشعر بأنه قال فيه حديثًا. وقد وصله جعفرٌ الفريابيّ في "كتاب القدر"، والجوزقيّ في "الجمع بين الصحيحين"، والإسماعيليّ من طرق عن أصبغ. وأخرجه أبو نُعيم من طريق حرملة، عن ابن وهب. وذكر مغلطاي أنه وقع عند الطبريّ: رواه البخاريّ عن أصبغ بن محمد، وهو غلطٌ، هو أصبغ بن الفرج، ليس في آبائه محمد انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان النهي عن التبتّل، ووجه دلالته عليه، أن الاختصاء يقطع الشهوة إلى النكاح، وهذا هو معنى التبتّل، إذ هو الانقطاع عن النكاح، وما يتبعه من الملاذّ إلى العبادة. (ومنها): أن القدر إذا نفذ لا تنفع فيه الحيل. (ومنها): مشروعيّة شكوى الشخص ما يقع له للكبير، ولو كان مما يُستهجن، ويُستقبح. (ومنها): أن من لم يجد الصداق لا يتعرّض للتزويج. (ومنها): جواز تكرار الشكوى إلى ثلاث. (ومنها): أن الجواب لمن لا يقتنع يكون بالسكوت. (ومنها): جواز السكوت عن الجواب لمن يُظن به أنه يفهم المراد من مجرّد السكوت. (ومنها): استحباب تقديم طالب الحاجة بين يدي حاجته عذره في السؤال. (ومنها): أن الأسباب إذا لم تصادف القدر لا تُجدي. (ومنها): ما قاله الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة -رحمه اللَّه تعالى-: يؤخذ منه أنه مهما أمكن المكلّفَ فعلُ شيء من الأسباب المشروعة لا يتوكّل إلا بعد عملها؛ لئلا يُخالف الحكمة، فإذا لم يَقدِر عليه وطّن نفسه على الرضا بما قَدّر عليه مولاه، ولا يتكلّف من الأسباب ما لا طاقة به له. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3217 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَنْجِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ نَافِعٍ الْمَازِنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنِ التَّبَتُّلِ؟ فَمَا تَرَيْنَ فِيهِ؟ ، قَالَتْ: فَلَا تَفْعَلْ، أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ

(1)

- "فتح" 10/ 150.

ص: 40

{وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] ، فَلَا تَتَبَتَّلْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه) بن بكر بن سليمان الْخُزاعيّ، أبو الحسن المقدسيّ، صدوق [10] 43/ 1724 من أفراد المصنّف.

[تنبيه]: قوله: "الْخَلَنجي" -بفتح المعجمة، واللام، وسكون النون، بعدها جيمٌ- قال في "القاموس"، وشرحه "التاج": الْخَلَنْجُ كَسَمَنْد شجرٌ، فارسي معرّبٌ، يُتَّخَذ من خشبه الأواني. وفي "اللسان": قيل: هو كلّ جَفْنَة، وصَحْفَة، وآنية صُنعت من خشب ذي طرائق، وأساريع موشّاة انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لم أجد من ذكر سبب نسبته إلى الخلنج، ولعله كان يعمل الأواني، المتخذة من الْخَلَنج، أو يبيعها. واللَّه تعالى أعلم.

2 -

(أبو سعيد مولى بني هاشم) هو: عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عُبيد البصريّ، نزيل مكة، لقبه جَرْدَقَة -بفتح الجيم، والدال، بينهما راء ساكنة، ثم قافٌ- صدوق ربما أخطأ [9] 43/ 1724.

3 -

(حصين بن نافع) المازنيّ، ويقال: التميميّ، أبو نصر البصريّ الورّاق، لا بأس به [6] 47/ 1731.

4 -

(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصريّ الإمام الثقة الحجة، لكنه يدلس [3] 32/ 36.

5 -

(سعد بن هشام) بن عامر الأنصاريّ المدنيّ، ثقة [3] 67/ 1315.

6 -

(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ) الأنصاريّ المدنيّ (أنَّهُ دَخَلَ عَلَى أُم الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه

(1)

راجع "تاج العروس" ج 2 ص 35.

(2)

أي لأنه موقوف، فلا دخل لعائشة في السند. فتبصّر.

ص: 41

تعالى عنها - (قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنِ التَّبَتُلِ؟) أي الانقطاع عن النكاح، وملاذّ الدنيا إلى الاشتغال بالعبادة (فَمَا تَرَيْنَ فيهِ؟) أي أيَّ حكم تعتقدين، وتذهبين إليه في التبتّل؟، (قَالَتْ: فَلَا تَفْعَلْ) أي لا تتبتّل، بل انكِحْ، اقتداء بالمرسلين، الذين أُمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم.

وفي رواية أحمد من طريق المبارك بن فَضَالة، عن الحسن عن سعد بن هشام، قال: أتيت عائشة، فقلت: يا أم المؤمنين، إني أريد أن أتبتل، فقالت: لا تفعل، ألم تقرأ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، قد تزوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وولد له". (أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، بمنزلة "ألا" (سَمِعْتَ اللَّه عز وجل يَقُولُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]) قال الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى-: يقول تعالى: وكما أرسلناك يا محمد رسولاً بشرًا كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشرًا، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويأتون الزوجات، ويولد لهم، وجلعنا لهم أزواجا وذرية، وقد قال تعالى لأشرف الرسل وخاتمهم صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110]، وفي "الصحيحين" أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أما أنا فأصوم، وأفطر، وأقوم، وأنام، وآكل اللحم، وأتزوّج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس منّي

(1)

" انتهى

(2)

. وقولها (فَلَا تَتَبَتَّلْ) تأكيد لقولها: "فلا تفعل".

والمعنى: لا تتبتّل؛ لأنه مخالف لهدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي أمره اللَّه تعالى بالاقتداء بالأنبياء والرسل الذين قبله، حيث قال له:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الآية [الأنعام: 90]، وكان من هديهم أن ينكحوا، ويولد لهم أولاد، كما بينته الآية المذكورة، فإذا تبتلت خالفت هذا الهدي.

وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" مطوّلاً، فقال:

حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، قال: حدثنا حصين بن نافع المازني -قال أبي

(3)

: حصين هذا صالح الحديث- قال: حدثنا الحسن، عن سعد بن هشام، أنه دخل على أم المؤمنين عائشة، فسألها عن صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قالت: كان يصلي من الليل ثماني ركعات، وأوتر بالتاسعة، ويصلي ركعتين، وهو جالس، وذكرت الوضوء، أنه كان يقوم إلى صلاته، فيأمر بطَهُوره، وسواكه، فلما بَدَّن رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، صلى ست ركعات، وأوتر بالسابعة، وصلى ركعتين، وهو جالس، قالت: فلم يزل على ذلك،

(1)

هو الحديث الآتي للمصنّف بعد هذا.

(2)

- "تفسير ابن كثير" 2/ 537.

(3)

- القائل هو عبد اللَّه بن الإمام أحمد راوي الحديث عنه.

ص: 42

حتى قُبِض، قلت: إني أريد أن أسألك عن التبتل؟ فما ترين فيه؟ قالت: فلا تفعل، أما سمعت اللَّه عز وجل يقول:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} ، فلا تبتل، فخرج، وقد فَقِهَ، فقدم البصرة، فلم يَلْبَث إلا يسيرا، حتى خرج إلى أرض مَكْرَان

(1)

، فقُتل هناك على أفضل عمله. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا موقوفٌ صحيح، إن سلم من عنعنة الحسن، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-4/ 3217 - وفي "الكبرى" 4/ 5325. وأخرجه أحمد بالرقم المذكور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3218 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصُومُ، فَلَا أُفْطِرُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ، يَقُولُونَ: كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقة ثبت فقيه [10] 2/ 2.

2 -

(عفّان) بن مسلم الصفّار الحافظ البصريّ، ثقة ثبت، من كبار [10] 21/ 427.

3 -

(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد، تغير حفظه بآخره، من كبار [8] 181/ 288.

4 -

(ثابت) بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة عابد [4] 45/ 53.

5 -

(أنس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم

(1)

- قال المرتضى الزبيديّ في "التاج": مَكْران كسَحْبَان، وضبطه ياقوت كعُثمان: بلد معروف. قال: وقال أهل السير: سميت بمكران ابن فارك بن سام بن نوح أخي كرمان؛ لأنه نزلها، واستوطنها، وهي ولاية واسعة مشتملةٌ على قُرى ومدائن، وهي معدن الفانيذ، ومنها يُنقل إلى جميع البلدان. قال الإصطخريّ: والغالب عليها المفاوز، والضرّ، والقحط. انتهى "تاج العروس" 3/ 549.

ص: 43

رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه، فمروزيّ، ثم نيسابوريّ. (ومنها): أن فيه حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت، وثابت ألزم الناس لأنس رضي الله عنه، لزمه أربعين سنة. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة (92) أو (93) وقد جاوز مائة سنة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَنسٍ) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ من طريق حميد الطويل، عن أنس: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها

(1)

، فقالوا: وأين نحن من النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر

(2)

" الحديث.

قال في "الفتح": ولا منافاة بين الروايتين، فالرهط من ثلاثة إلى عشرة، والنفر من ثلاثة إلى تسعة، وكلّ منهما اسم جمع، لا واحد له من لفظه. ووقع في مرسل سعيد بن المسيّب عند عبد الرزّاق أن الثلاثة المذكورين هو: عليّ بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون. وعند ابن مردويه من طريق الحسن العدنيّ

(3)

: "كان عليّ في أناس ممن أرادوا أن يحرموا الشهوات، فنزلت آية المائدة". ووقع في "أسباب الواحديّ" بغير إسناد: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكَّرَ الناسَ، وخوّفهم، فاجتمع عشرة من الصحابة -وهم: أبو بكر، وعمر، وعليّ، وابن مسعود، وأبو ذرّ، وسالم مولى أبي حُذيفة، والمقداد، وسلمان، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، ومعقل بن مُقَرِّن- في بيت عثمان بن مظعون، فاتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم، ولا يقربوا النساء، ويَجُبُّوا مذاكيرهم". فإن كان هذا محفوظًا احتمل أن يكون الرهط الثلاثة هو الذين باشروا السؤال، فنُسب ذلك إليهم بخصوصهم تارة، ونسب للجميع لاشتراكهم في طلبه.

ويؤيّد أنهم كانوا أكثر من ثلاثة في الجملة ما روى مسلم من طريق زُرارة بن أوفى،

(1)

أي استقلّوها، أي عدّوها قليلة.

(2)

- غرضهم بهذا: أن من لم يعلم حصول المغفرة له يحتاج إلى المبالغة في العبادة عسى أن يحصل له، بخلاف من حصل له ذلك، لكن بين صلى الله عليه وسلم لهم أن ذلك ليس بلازم.

(3)

هكذا نسخة "الفتح""العدنيّ" بالدال المهملة، والظاهر أنه تصحيف من "العُرني "، بالراء بدال الدال، فهو الحسن بن عبد اللَّه العرني -بضم، ففتح- الكوفيّ ثقة أرسل عن ابن عباس، وهو من الطبقة الرابعة، كما في "التقريب".

ص: 44

عن سعد بن هشام، أنه قدم المدينة، فأراد أن يبيع عقاره، فيجعله في سبيل اللَّه، ويجاهد الروم حتى يموت، فلقي ناسًا بالمدينة، فنهوه عن ذلك، وأخبروه أن رهطًا ستةً أرادوا ذلك في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنهاهم، فلما حدّثوه ذلك راجع امرأته، وكان قد طلّقها"، يعني بسبب ذلك.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: لكن في عَدّ عبد اللَّه بن عمرو معهم نظرٌ؛ لأن عثمان ابن مظعون رضي الله عنه مات قبل أن يهاجر عبد اللَّه فيما أحسب انتهى

(1)

.

(قَالَ: بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أنامُ عَلَى فِرَاشٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصُومُ، فَلَا أُفْطِرُ) ولفظ البخاريّ: "قال أحدهم: أما أنا فأنا أصليّ الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر، ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوّج أبدًا

" الحديث.

قال أبو العباس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: فهؤلاء القوم حصل عندهم أن الانقطاع عن ملاذّ الدنيا، من النساء، والطيّب من الطعام، والنوم، والتفرّغ لاستغراق الأزمان بالعبادات أولى، فلما سألوا عن عمل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعبادته لم يُدركوا من عبادته ما وقع لهم أَبْدَوْا فارقًا بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه مغفورٌ له، ثم أخبَرَ كلُّ واحد منهم بما عزم على فعله، فلما بلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم أجابهم بأن ألغى الفارق بقوله:"إني أخشاكم للَّه". وتقرير ذلك: إني وإن كنت مغفورًا لي، فخشية اللَّه، وخوفه يَحملني على الاجتهاد، وملازمة العبادة، لكنّ طريقَ العبادة ما أنا عليه، فمن رغب عنه، وتركه، فليس على طريقتي في العبادة.

ويوضّح هذا المعنى، ويُبيّنه أن عبادة اللَّه إنما هي امتثال أوامره الواجبة والمندوبة، واجتناب نواهيه المحظورة والمكروهة، وما من زمان من الأزمان إلا وتتوجّه على المكلّف فيه أوامر، أو نواهٍ، فمن قام بوظيفة كلِّ وقتٍ فقد أدّى العبادة، وقام بها، فإذا قام بالليل مصلّيًا، فقد قام بوظيفة ذلك الوقت، فإذا احتاج إلى النوم لدفع ألم السهر، ولتقوية النفس على العبادة، ولإزالة تشويش مدافعة النوم المشوِّشة للقراءة، أو لإعطاء الزوجة حقّها من المضاجعة كان نومه ذلك عبادةً كصلاته، وقد بين هذا المعنى سلمانُ الفارسي لأبي الدرداء بقوله:"لكني أقوم، وأنام، وأحتسب في نومتى ما أحتسبة في قومتي"، وكذلك القول في الصيام، وأما التزويج فيجري فيه مثل ذلك، وزيادة نيّة تحصين الفرج، والعين، وسلامة الدين، وتكثير نسل المسلمين، وبهذه القصود

(1)

- "فتح" 10/ 131.

ص: 45

الصحيحة تتحقّق فيه العبادات العظيمة، ولذلك اختلف العلماء في أيّ الأمرين أفضل، التزويج، أم التفرّغ منه للعبادة؟، كما هو معروف في مسائل الخلاف.

وعلى الجملة فما من شيء من المباحات المستلذّات وغيرها إلا ويمكن لمن شرح اللَّه صدره أن يصرفه إلى باب العبادات والطاعات بإخطار معانيها بباله، وقصد نيّة التقرب بها، كما قد نصّ عليه المشايخ في كتبهم، كالحارث المحاسبيّ وغيره.

ومن فَهِمَ هذا المعنى، وحَصّله تحقّق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حلّ من العبادات أعلاها؛ لانشراح صدره، وحضور قصده، ولعله بحدود اللَّه، وبما يُقَرّب منه.

ولما لم ينكشف هذا المعنى للنفر السائلين عن عبادته، استقلّوها بناء منهم على أن العبادة إنما هي استفراغ الوسع في الصلاة، والصوم، والانقطاع عن الملاذّ، وهيهات بينهما ما بين الثريّا والثَّرَى، وسُهيل والسُّها

(1)

.

وعند الوقوف على ما أوضحناه من هذا الحديث يتحقّق أن فيه ردًّا على غلاة المتزهّدين، وعلى أهل البطالة من المتصوّفين؛ إذ كلّ فريق منهم قد عَدَل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

(فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ)"ما" استفهاميّة، والاستفهام للإنكار، أي ما شأنهم، وحالهم؟ (يَقُولُونَ: كَذَا وَكذَا) الجملة في محلّ نصب على الحال.

وفي رواية البخاريّ: "فجاء إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ ". ويُجمع بين الروايتين بأنه منع من ذلك عمومًا جهرًا، مع عدم تعيينهم، وخُصوصًا فيما بينه وبينهم رفقًا بهم، وسترًا لهم.

(لَكِنِّي) استدراكٌ من شيء محذوف، دلّ عليه السياق، أي أنا وأنتم بالنسبة إلى العبوديّة سواء، لكن أنا أعمل كذا (أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي) المراد بالسنة الطريقة، لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره. والمراد مَن ترك طريقتي، وأخذ بطريقة غيري، فليس منّي، ولمح بذلك إلى طريقة الرهبانيّة، فإنهم الذين ابتدعوا التشديد، كما وصفهم اللَّه تعالى به، وقد عابهم بأنهم ما وفوا بما التزموه، وطريقة النبيّ صلى الله عليه وسلم الحنيفيّة السمحة، فيُفطر ليتقوّى على الصوم، وينام ليتقوّى على القيام، ويتزوّج لكسر الشهوة، وإعفاف النفس،

(1)

- كُوَيكِب صغير خفيّ في "بنات نعش الكبرى"، والناس يمتحنون به أبصارهم. انتهى "لسان العرب".

(2)

- "المفهم" 4/ 86 - 87."كتاب النكاح".

ص: 46

وتكثير النسل.

وقوله (فَلَيْسَ مِنِّي) إن كانت الرغبة بضرب من التأويل، يُعذر صاحبه فيه، فمعنى "فليس مني" أي على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملّة، وإن كان إعراضًا، وتنطّعًا، يُفضي أرجحية عمله، فمعنى "فليس مني": على ملّتي؛ لأن اعتقاد ذلك نوعٌ من الكفر. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 4/ 3218 - وفي "الكبرى" 4/ 5324. وأخرجه (خ) في "النكاح" 5063 (م) في "النكاح" 1401 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 13122 و 13316 و 13631. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان النهي عن التبتّل. (ومنها): أن فيه دلالةً على فضل النكاح، والترغيب فيه. (ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الحرص على التأسّي بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، بحيث إنهم يبحثون عما يعمل به إذا خلا في بيته، حتى لا يفوتهم الاتباع به في سنته التي يعمل بها في حال خلوته عنهم. (ومنها): أن فيه تتبّع أحوال الأكابر للتأسّي بأفعالهم، وأنه إذا تعذّرت معرفته من الرجال جاز استكشافه من النساء. (ومنها): أن من عزم على عمل برّ، واحتاج إلى إظهاره حيث يأمن الرياء لم يكن ذلك ممنوعًا. (ومنها): تقديم الحمد، والثناء على اللَّه تعالى عند إلقاء مسائل العلم، وبيان الأحكام للمكلّفين، وإزالة الشبهة عن المجتهدين. (ومنها): أن المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة، والاستحباب. (ومنها): ما قاله الطبريّ: إن فيه الردّ على من منع استعمال الحلال من الأطعمة والملابس، وآثر غليظ الثياب، وخشن المأكل. قال عياض: هذا مما اختلف فيه السلف، فمنهم من نحا إلى ما قاله الطبريّ، ومنهم من عكس، واحتجّ بقوله تعالى:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} الآية: [الأحقاف: 20]، قال: والحقّ أن هذه الآية في الكفّار، وقد أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأمرين.

(1)

- "فتح" 10/ 131 - 132.

ص: 47

قال الحافظ: لا يدلّ ذلك لأحد الفريقين، إن كان المراد المداومة على إحدى الصفتين، والحقّ أن ملازمة استعمال الطيّبات تُفضي إلى الترفّه، والبطر، ولا يأمن من الوقوع في الشبهات؛ لأن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحيانًا، فلا يستطيع الانتقال عنه، فيقع في المحظور، كما أن منع تناول ذلك أحيانًا يفضي إلى التنطّع المنهيّ عنه، ويردّ عليه صريح قوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} الآية [الأعراف: 32]. كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها، وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلاً، وترك التنفّل يفضي إلى إيثار البطالة، وعدم النشاط إلى العبادة، وخير الأمور الوسط، وفي قوله:"إني لأخشاكم للَّه" مع ما انضمّ إليه إشارة إلى ذلك انتهى.

(ومنها): أن فيه إشارةٌ إلى أن العلم باللَّه، ومعرفة ما يجب من حقّه أعظم قدرًا من مجرّد العبادة البدنيّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌5 - (بَابُ مَعُونَةِ اللَّه النَّاكِحَ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الْمَعُونة" -بفتح الميم، وضمّ العين- بوزن مَفْعُلَة-بضم العين أيضًا، وبعضهم يجعل الميم أصليّةً، ويقول: هي مأخوذةٌ من الماعون، ويقول: في فَعُولَة، ويقال فيها:"الْمَعَانة بالفتح أيضًا: اسم من العَوْن، وهو -بفتح، فسكون-: الظَّهير على الأمر، وجمعه أعوان، واستعان به، فأعانه، وقد يتعدّى بنفسه، فيقال: استعانه. أفاده في "المصباح المنير". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3219 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عز وجل عَوْنُهُمُ: الْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَالْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث حسنٌ، وقد تقدّم للمصنّف في "كتاب الجهاد" برقم -12/ 3121 - ، رواه هناك عن محمد بن عبد اللَّه بن يزيد، عن أبيه، عن

ص: 48

ابن المبارك، عن محمد بن عجلان، به، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد.

و"الليث": هو ابن سعد الإمام المصريّ. و"سعيد" هو: المقبريّ.

وقوله: "ثلاثة حقّ الخ" قال الحافظ السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وَرَد لهم رابعٌ في حديث، وهو الحاجّ، وقد نظمتهم في بيتين:

حَقٌّ عَلَى اللَّه عَوْنُ جَمْعٍ

وَهْوَ لَهُمْ فِي غَدٍ يُجَازِي

مُكَاتَبٌ نَاكِحٌ عَفَافًا

وَمَنْ أَتَى بَيْتَهُ وَغَازِي

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا قال السيوطيّ أنه ورد لهم رابع، وأورد الحديث في "الجامع الصغير" بلفظ:"أربع حقّ على اللَّه تعالى عونهم: الغازي، والمتزوّج، والمكاتب، والحاجّ". ورمز له بـ (حم) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

لكن هذا الحديث لم يوجد في "مسند أحمد"، وإنما الذي فيه بلفظ "ثلاث" كما هو عند النسائيّ، أورده في "باقي مسند المكثرين" في موضعين، برقم 7368 و 9348.

وضعّف الشيخ الألبانيّ الحديث في "السلسلة الضعيفة"، وكتب في الهامش أنه لم يجده بهذا اللفظ في "المسند" بعد المراجعة الكثيرة. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "حقّ على اللَّه" أي واجب بمقتضى وعده سبحانه وتعالى. وقوله: "العَفَاف" -بفتح العين المهملة-: أي الكفّ عن المحارم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌6 - (نِكَاحُ الأَبْكَارِ)

3220 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: تَزَوَّجْتُ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «أَتَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ؟» ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟» ، فَقُلْتُ: ثَيِّبًا، قَالَ: «فَهَلاَّ بِكْرًا، تُلَاعِبُهَا، وَتُلَاعِبُكَ»).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

ص: 49

2 -

(حماد) بن زيد بن درهم الأزديّ الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت [8] 3/ 3.

3 -

(عمرو) بن دينار الأثرم الجمحيّ، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت [4] 112/ 154.

4 -

(جابر) بن عبد اللَّه بن عمرو الأنصاريّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (160) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنهم ما بين بغلانيّ، وهو شيخه، وبصريّ، وهو حماد، ومكيين، وهما عمرو، وجابر، فإن جابرًا رضي الله عنه، وإن كان مدنيًا إلا أنه سكن مكة أيضًا. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِر) بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: تَزَوَّجْتُ) امرأة اسمها - كما قال ابن سعد- سهلة بنت مسعود بن أوس بن مالك الأنصاريّة الأوسيّة.

(1)

(فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَتَزَوّجْتَ يَا جَابِرُ؟ ") وفي رواية عطاء، عن جابر الآتية بعدُ: "يا جابر هل أصبت امرأة بعدي

".

وفي رواية البخاريّ من طريق الشعبيّ، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: قَفَلْنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من غزوة، فتعجلت على بعير لي، قَطُوف، فلحقني راكب من خلفي، فنَخَسَ بعيري بعَنَزَة، كانت معه، فانطلق بعيري، كأجود ما أنت راء من الإبل، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما يعجلك؟ "، قلت: كنت حديث عَهْدٍ بعُرْس، قال:"أبكرا أم ثيبا؟ "، قلت: ثيبا، قال:"فهلا جارية تلاعبها، وتلاعبك؟ "، قال: فلما ذهبنا لندخل، قال:"أَمْهِلوا حتى تدخلوا ليلاً" -أي عشاء- "لكي تمتشط الشَّعِثَة، وتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبة".

[تنبيه]: رواية البخاريّ هذه توضّح أن سؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم لجابر عن تزوّجه لم يقع عقب الزواج، كما توهمه رواية المصنّف بلفظ:"تزوجت، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "أتزوّجت يا جابر؟ " بل كان بعد مدّة؛ لأن زواجه كان بالمدينة بعد أن استشهد أبوه بأحد، والسؤال وقع في الرجوع من الغزوة، وقد رجّح في "الفتح" أن تلك الغزوة هي ذات الرقاع، وكانت بعد أُحُد بسنة على الصحيح، وقيل: هي تبوك

(2)

.

(1)

- "فتح" 10/ 153.

(2)

- راجع "الفتح" 5/ 665، "كتاب الشروط".

ص: 50

(قُلْتُ: نَعَمْ) أي تزوّجتُ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟) منصوب بفعل محذوف، تقديره: أتزوّجت بكرًا؟، وكذا قوله (فَقُلْتُ: ثَيِّبًا) أي تزوّجتُ ثيّبًا.

و"البكر": خلاف الثيّب، رجلاً كان امرأةً، وهو الذي لم يتزوّج، وجمعه أبكار، مثلُ حِمْلٍ وأحمال.

و"الثيب": المتزوّج، فَيعِلٌ، اسم فاعل من ثاب: إذا رجع، ومنه قيل للمكان الذي يَرجع إليه الناس مَثَابةٌ. وقيل للإنسان إذا تزوّج ثَيّبٌ، وإطلاقه على المرأة أكثر؛ لأنها ترجع إلى أهلها بوجه غير الأول، ويستوي في الثّيّب الذكر والأنثى، كما يقال: أَيّمٌ، وبِكْرٌ، وجمع المذكّر ثَيّبون بالواو والنون، وجمع المؤنّث ثَيبات، والمولّدون يقولون: ثُيَّب، وهو غير مسموع، وأيضًا فَفَيعِلٌ لا يُجمع على فُعَّلٍ. أفاده الفيّوميّ.

وقال وليّ الدين: البكر هي الجارية الباقية على حالتها الأولى، والثيّب المرأة التي دخل بها الزوج، وكأنها ثابت إلى حال كبار النساء غالبًا انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَهَلَّا) -بفتح الهاء، وتشديد للام- أداة تحضيض، ولا يليها إلا الفعل غالبًا، نحو هَلاّ أكرمتَ زيدًا، وقد يليها اسم معمول لفعل محذوف، كقول الشاعر:

هَلَّا التَّقَدُمُ وَالْقَلُوبُ صِحَاحُ

أي هلاً وُجِد التقدّم، وكقوله هنا (بِكْرًا) أي هلّا تزوّجتَ بكرًا. وفي رواية للبخاريّ:"أفلا جارية". وفي رواية له من طريق محارب بن دثار، عن جابر:"ما لك وللعَذَاري ولِعابها". و"العذاري" -بفتح الراء، وكسرها- جمع عذراء، وهي البكر. وقوله (تُلَاعِبُهَا، وَتُلَاعِبُكَ) من الملاعبة، تعليلٌ للترغيب في البكر، سواء كانت الجملة مستأنفةٌ، كما هو الظاهر، أو صفة لـ"بكر"، أي ليكون بينكما كمال التألف والتأنس؛ فإن الثيب قد تكون متعلّقة القلب بالسابق.

وزاد في رواية عند البخاريّ في "النفقات": "وتضاحكها، وتضاحكك". قال في "الفتح": وهو مما يؤيّد أنه من اللعب. ووقع عند الطبراني من حديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لرجل

" فذكر نحو حديث جابر رضي الله عنه، وقال فيه: "وتَعَضّها، وتعضّك".

وفي رواية: "تداعبها وتداعبك" بالدال المهملة بدل اللام، من المداعبة، وهو المزح.

ووقع في رواية لأبي عُبيدة: "تُذاعبها، وتُذاعبك" -بالذال المعجمة بدل اللام.

(1)

- "طرح التثريب" 7/ 10.

ص: 51

وأما ما وقع في رواية محارب المتقدّمة بلفظ: "ما لك وللعَذَارَى ولِعَابها"، فقد ضبطه الأكثر بكسر اللام، وهو مصدر من الملاعبة أيضًا، يقال: لاعب لِعابًا وملاعبةً، مثل قاتل قتالاً ومقاتلةً. ووقع في رواية المستملي بضمّ اللام، والمراد به الريق، وفيه إشارةٌ إلى مصّ لسانها، ورَشف شفتيها، وذلك يقع عند الملاعبة والتقبيل، وليس هو ببعيد، كما قال القرطبيّ

(1)

. ويؤيّد أنه بمعنى آخر غير المعنى الأول قول شعبة: إنه عرَضَ ذلك على عمرو بن دينار، فقال: اللفظ الموافق للجماعة

(2)

. وفي رواية لمسلم التلويح بإنكار عمرو رواية مُحارب بهذا اللفظ، ولفظه:"إنما قال جابرٌ: تلاعبها وتلاعبك"، فلو كانت الروايتان متحدتين في المعنى لما أنكر عمرو ذلك؛ لأنه كان ممن يُجيز الرواية بالمعنى.

وفي رواية عطاء الآتية- 10/ 3227 - من الزيادة: "قال: قلت: يا رسول اللَّه، كنّ لي أخوات، فخشيتُ أن تدخل بيني وبينهنّ، قال: فذاك إذًا، إن المرأة تُنكح على دينها، ومالها، وجمالها، فعليك بذات الدين تربت يداك".

وفي رواية للبخاريّ: "قلت: كُنّ لي أخوات، فأحببتُ أن أتزوّج امراةً تجمعهنّ، وتَمشُطُهنّ، وتقوم عليهنّ"، أي وتقوم في غير ذلك من مصالحهنّ، وهو من العامّ بعد الخاصّ. وفي رواية له في "النفقات":"هلك أبي، وترك سبع بنات -أو تسع بنات- فتزوّجت ثيّبًا، كرهتُ أن أُجيئهنّ بمثلهنّ، فقال: بارك اللَّه لك"، أو قال: خيرًا. وفي رواية له في "المغازي": "وترك تسع بنات، كنّ لي تسع أخوات، فكرهتُ أن أجمع إليهنّ جاريةٌ خرقاء مثلهنّ، ولكن امرأة تقوم عليهنّ، وتمشُطهنّ، قال: أصبت". وفي رواية: "فأردتُ أن أنكح امرأة قد جرّبت خلا منها، قال: فذاك".

قال الحافظ وليّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذه الرواية التي فيها الجزم بأن أخواته كنّ تسعًا مقدّمة على رواية حماد بن زيد التي فيها التردّد بين التسع والسبع، فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ انتهى

(3)

.

(1)

- أي كما ادعى القرطبيّ كونه بعيدًا، وعبارته في "المفهم" 4/ 215 - : وقد رواه أبو ذرّ من طريق المستملي: "لُعابها" بالضم -يعني به ريقها عند التقبيل، وفيه بعد، والصواب الأول انتهى.

(2)

- ورواية شعبة هذه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، ولفظه:

- حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا محارب، قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما يقول: تزوجتُ، فقال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما تزوجتَ؟ فقلت: تزوجت ثيبا، فقال: "ما لك وللعذارى ولعابها"، فذكرت ذلك لعمرو بن دينار، فقال عمرو: سمعت جابر بن عبد اللَّه يقول: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هَلّا جاريةٌ تلاعبها وتلاعبك؟ ".

(3)

- "طرح التثريب" 7/ 12."كتاب النكاح".

ص: 52

[فائدة]: لم يُعرف أسماء أخوات جابر - رضي اللَّه تعالى عنه -. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-6/ 3220 و 3221 و 10/ 3226 - وفي "الكبرى" 6/ 5327 و 5328 و 10/ 5336. وأخرجه (خ) في "البيوع" 2097 و"الوكالة" 2309 و"المغازي" 4052 و"النكاح" 5079 و 5080 و 4245 و 5247 و"النفقات" 5367 و"الدعوات" 6387 (م) في "الحجّ" 1391 و"الرضاع" 715 (د) في "النكاح" 2048 (ت) النكاح" 1100 (ق) "النكاح" 1860 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 13718 و 13822 و 13894 و 13967 و 14608 و 14771 (الدارميّ) "النكاح" 2216. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان استحباب نكاح الأبكار؛ لكونه صلى الله عليه وسلم حضّ على ذلك، وقد ورد بأصرح من ذلك عند ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عُوَيم بن ساعدة، عن أبيه، عن جدّه بلفظ:"عليكم بالأبكار، فإنهنّ أعذب أفواهًا، وأنتق أرحامًا". أي أكثر حركةً، والنتق - بنون، ومثناة-: الحركة، ويقال أيضًا للرمي، فلعلّه يريد أنها كثيرة الأولاد. وأخرج الطبراني في "المعجم الكبير" من حديث ابن مسعود نحوه، وزاد:"وأرضى باليسير".

ولا يعارضه حديث: "عليكم بالولود" من جهة أن كونها بكرًا لا يُعرف به كونها كثيرة الولادة، فإن الجواب عن ذلك أن البكر مظنّة، فيكون المراد بالولود من هي كثيرة الولادة بالتجربة، أو بالمظنّة، وأمّا مَا جُرّبت، فظهرت عقيمًا، وكذا الآيسة، فالخبران متّفقان على مرجوحيّتهما. (ومنها): أن فيه فضيلة لجابر رضي الله عنه؛ لشفقته على أخواته، وإيثاره مصلحتهنّ على حظّ نفسه. (ومنها): أنه إذا تزاحمت مصلحتان قُدّم أهمّهما؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم صوّب فعل جابر رضي الله عنه، ودعا له لأجل ذلك. (ومنها): أنه يؤخذ منه الدعاء لمن فعل خيرًا، وإن لم يتعلّق بالداعي. (ومنها): أن فيه سؤالَ الإمام أصحابَهُ عن أمورهم، وتفقّده أحوالهم، وإرشاده إلى مصالحهم، وتنبيههم على وجه المصلحة،

(1)

- "فتح" 10/ 153. "كتاب النكاح".

ص: 53

ولو كان في باب النكاح، وفيما يُستحيا من ذكره. (ومنها): أن فيه مشروعيّة خدمة المرأة زوجها، ومن كان منه بسبيل، من ولد، وأخ، وعائلة، وأنه لا حرج على الرجل في قصده ذلك من امرأته، وإن كان ذلك لا يجب عليها، لكن يؤخذ منه أن العادة جارية بذلك، فلذلك لم ينكره النبيّ صلى الله عليه وسلم. هكذا قال في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في قوله: "وإن كان ذلك لا يجب عليها" نظرٌ لا يخفى، ومن أي دليل استنبط هذا؟، واللَّه سبحانه وتعالى يقول:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] الآية، فأوجب اللَّه عز وجل على النساء مثل ما أوجب لهن على الرجال مما جرى العرف به، وقد جرى العرف بأن الزوجة تخدم زوجها، وتقوم على بيته، وأولاده، فالحقّ أن خدمة الزوجة لزوجها، وقيامها بمهمات بيته مما أوجبه الشرع الشريف. وقد عقد الإمام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه النافع "زاد المعاد في هدي خير العباد" فصلاً مفيدًا جدًّا، أحببت إيراده لأهميّته، ونفاسته، قال -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-:

[فصل]: في حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم في خدمة المرأة لزوجها:

قال ابن حبيب في "الواضحة": حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم بين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين زوجته فاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها - حين اشتكيا إليه الخدمة، فحكم على فاطمة بالخدمة الباطنة، خدمةِ البيت، وحكم على عليّ بالخدمة الظاهرة، ثم قال ابن حبيب: والخدمة الباطنة: العجين، والطبخ، والفرش، وكنس البيت، واستقاء الماء، وعمل البيت كلّه. وفي "الصحيحين": أن فاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها - أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرحى، وتسأله خادمًا، فلم تجده، فذكرت ذلك لعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فلما جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخبرته، قال عليّ: فجاءنا، وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقومُ، فقال:"مكانكما"، فجاء، فقعد بيننا، حتى وجدت برد قدميه على بطني، فقال:"ألا أدلّكما على ما هو خيرٌ لكما مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما، فسبّحا اللَّه ثلاثاً وثلاثين، واحمَدَا ثلاثاً وثلاثين، وكبّرا أربعًا وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادم"، قال عليّ: فما تركتها بعدُ، قيل: ولا ليلة صفّين؟ قال: ولا ليلة صفّين.

وصحّ عن أسماء أنها قالت: كنت أخدُم الزبير خدمة البيت كلّه، وكان له فرَسٌ، وكنت أسوسه، وكنت أحتشّ له، وأقوم عليه

(2)

. وصحّ عنها أنها كانت تعلف فرسه، وتسقي الماء، وتخرز الدلو، وتعجِن، وتنقُل النوى على رأسها من

(1)

- "فتح" 10/ 153 - 154.

(2)

- أخرجه أحمد في "مسنده" 6/ 352 بإسناد صحيح.

ص: 54

أرض له على ثُلثي فرسخ

(1)

.

فاختلف الفقهاء في ذلك، فأوجب طائفة من السلف والخلف خدمتها له في مصالح البيت. وقال أبو ثور: عليها أن تخدُم زوجها في كلّ شيء. ومنعت طائفة وجوب خدمته عليها في شيء، وممن ذهب إلى ذلك مالكٌ، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وأهل الظاهر، قالوا: لأن عقد النكاح إنما اقتضى الاستمتاع، لا الاستخدام، وبذل المنافع، قالوا: والأحاديث المذكورة إنما تدلّ على التطوّع، ومكارم الأخلاق، فأين الوجوب منها؟. واحتجّ من أوجب الخدمة بأن هذا هو المعروف عند من خاطبهم اللَّه سبحانه وتعالى بكلامه، وأما ترفيهُ المرأة، وخدمة الزوج، وكنسه، وطحنه، وعَجنه، وغسيله، وفرشه، وقيامه بخدمة البيت، فمن المنكر، واللَّه تعالى يقول:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وقال:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الآية [النساء: 34]، وإذا لم تخدمه المرأة، بل يكون هو الخادم لها، فهي القوّامة عليه.

وأيضًا فإن المهر في مقابلة البضع، وكلٌّ من الزوجين يقضي وطره من صاحبه، فإنما أوجب اللَّه سبحانه وتعالى نفقتها، وكسوتها، ومسكنها في مقابلة استمتاعه بها وخدمتها، وما جرت به عادة الأزواج.

وأيضًا فإن العقود المطلقة إنما تُنزّل على العرف، والعرف خدمة المرأة، وقيامها بمصالح البيت الداخلة.

وقولهم: إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرّعًا وإحسانًا يردّه أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى من الخدمة، فلم يقل لعليّ: لا خدمة عليها، وإنما هي عليك، وهو صلى الله عليه وسلم لا يُحابي في الحكم أحدًا؛ ولَمّا رأى أسماء، والعلَف على رأسها، والزبير معه، لم يقل له: لا خدمة عليها، وأن هذا ظلم لها، بل أقرّه على استخدامها، وأقرّ سائر أصحابه على استخدام أزواجهم، مع علمه بأنّ منهنّ الكارهةَ والراضيةَ، هذا أمر لا ريب فيه. ولا يصحّ التفريق بين شريفة، ودينئة، وفقيرة، وغنيّة، فهذه أشرف نساء العالمين كانت تخدم زوجها، وجاءته صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الخدمة، فلم يُشْكِها، وقد سمّى النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المرأة عانيةً، فقال:"اتقوا اللَّه في النساء، فإنهنّ عَوَانِ عندكم". والعاني الأسير، مرتبة الأسير خدمة من هو تحت يده، ولا ريب أن النكاح نوع من الرق، كما قال بعض السلف: النكاح رقّ، فلينظر أحدكم عند من يُرقّ كريمته. ولا يخفى على المنصف الراجحُ من المذهبين، والأقوى من الدليلين انتهى كلام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

(1)

- أخرجه أحمد في "مسنده" 6/ 347. بإسناد صحيح.

(2)

- "زاد المعاد في هدي خير العباد" 5/ 186 - 189.

ص: 55

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا التحقيق الذي ذكره ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- تحقيق نفيسٌ جدًّا، فقد ظهر لنا به، وتبين، واتضح أن المذهب الأول، وهو وجوب خدمة المرأة زوجها هو الراجح؛ لقوة دليله؛ لأنه المعروف في ذلك الوقت الذي نزل فيه قوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، فأوجب اللَّه عز وجل عليها أن تلتزم بما هو معروف عند الناس، وقد طبّق نساء العصر الأول من الصحابيات، وغيرهنّ على أنفسهنّ ما طُلب منهنّ في الآية الكريمة، كما تقدّم آنفًا في قصة فاطمة، وأسماء - رضي اللَّه تعالى عنهما -. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3221 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ -وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ- عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «يَا جَابِرُ، هَلْ أَصَبْتَ امْرَأَةً بَعْدِي؟» ، قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «أَبِكْرًا أَمْ أَيِّمًا؟» ، قُلْتُ: أَيِّمًا، قَالَ: «فَهَلاَّ بِكْرًا تُلَاعِبُكَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه "الحسن بن قَزَعَة" وهو الهاشميّ مولاهم البصريّ، صدوق [10] 47/ 1731. فتفرد به هو والترمذي، وابن ماجه.

وغير "سفيان بن حبيب" وهو أبو محمد البزاز البصريّ، ثقة [9] 67/ 82 فإنه من رجال الأربعة. و"عطاء": هو ابن أبي رباح.

وقوله: "بعدي" أي بعد غيبتك عنّي. وقوله: "أبكرًا أم ثيّبًا؟ " منصوب بفعل مقدّر، أي أتزوّجت بكرًا، وكذا ما بعده.

و"الأيّم" -بفتح الهمزة، وتشديد المثنّاة التحتيّة-: الْعَزَبُ

(1)

رجلاً كان، أو امرأةً، قال الصغانيّ، وسواء تزوّج من قبلُ، أو لم يتزوّج، فيقال: رجلٌ أَيِّمٌ، وامرأةٌ أيّمٌ، قال الشاعر [من الطويل]:

فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ

وَنِسوَانُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ

وقال ابن السّكّيت أيضًا: فلانة أيمٌ: إذا لم يكن لها زوجٌ، بكرًا كانت، أو ثيّبًا،

ويقال أيضًا: أَيِّمة للأنثى. قاله الفيّوميّ.

والحديث متّفق عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- العَزَب بفتحتين من ليس له أهلٌ، رجلاً كان، أو امرأةً. "مصباح".

ص: 56

‌7 - (تَزَوُّجُ الْمَرْأَةِ مِثْلَهَا فِي السِّنِّ)

3222 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ رضي الله عنهما فَاطِمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهَا صَغِيرَةٌ» ، فَخَطَبَهَا عَلِيٌّ، فَزَوَّجَهَا مِنْهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الحسين بن حريث) أبو عمّار الخزاعيّ مولاهم، المروزيّ، ثقة [10] 44/ 52.

2 -

(الفضل بن موسى) أبو عبد اللَّه السِّينَانيّ المروزيّ، ثقة ثبتٌ، ربما أغرب، من كبار [9] 83/ 100.

3 -

(الحسين بن واقد) أبو عمد اللَّه المروزيّ القاضي، ثقة له أوهام [7] 5/ 463.

4 -

(عبد اللَّه بن بريدة) بن الحصيب الأسلميّ المروزيّ القاضي، مات سنة (105) وقيل: بل سنة (115) وله مائة سنة، ثقة [3] 25/ 393.

5 -

(أبوه) بريدة بن الحصيب -بمهمليتين، مصغّرًا- الأسلميّ الصحابيّ، أسلم - رضي اللَّه تعالى عنه - قبل بدر، ومات سنة (63)، وتقدم في 101/ 133. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمراوزة. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ) الأسلمي القاضي (عَنْ أَبِيهِ) بريدة بن الْحُصيب - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: خَطَبَ) من باب قتل (أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق (وَعُمَرُ) بن الخطّاب (رضي الله عنهما فَاطِمَةَ) بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أي طلبا أن يتزوّجاها، يقال: خطب المرأةَ إلى القوم، من باب قتل: إذا طلب أن يتزوّج منهم، واختطبها، والاسم الْخِطْبة -بالكسر-، فهو خاطبٌ، وخَطَابٌ مبالغةٌ. قاله في "المصباح" (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا صَغِيرَةٌ) أي وكلّ منكما لا يوافقها في السنّ، والمقصود من النكاح دوام الألفة، وبقاء العشرة، فإذا كان أحد الزوجين في غير سنّ الآخر لم يحصل الغرض كاملاً، فربّما أدّى إلى

ص: 57

الفُرقة المنافية لمقصود النكاح (فَخَطَبَهَا عَليٌّ، فَزَوّجَهَا مِنْهُ) قال السنديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ما معناه: أي خطبها عقب ذلك بلا مهلة، كما تدلّ عليه الفاء، فعُلم أنه صلى الله عليه وسلم لاحَظَ الصغر بالنظر إليهما، وما بقي ذاك بالنظر إلى عليّ رضي الله عنه، فزوّجها منه، ففيه أن الموافقة في السنّ، أو المقاربة مَرْعيّةٌ؛ لكونها أقرب إلى المؤالفة. نعم قد يُترَكُ ذاك لما هو أعلى منه، كما في تزويج عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد أشار السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- في كلامه المذكور إلى جواب استشكال وارد على حديث الباب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم تزوّج عائشة، وهي صغيرة، فكيف قال لأبي بكر وعمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -:"إنها صغيرة"؟.

وحاصل الجواب أن الموافقة في السنن، أو المقاربة فيه إنما يُعتبر فيما إذا لم يكن للزوج فضل يجبُرُ ذلك، وإلا فلا بأس بالتفاوت فيه؛ ولذلك تزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وهي بنت ست سنين، وهو فوق خمسين سنة؛ لما ذكرنا.

[فإن قيل]: قد كان لأبي بكر وعمر فضل يؤدّي الغرض؛ فلماذا لم يُعتبر؟.

[قلنا]: نعم لا يُنكر فضلهما، وشرفهما - رضي اللَّه تعالى عنهما -، إلا أنّ لعليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - زيادةً فضل عليهما بالنسبة لفاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وهو كونه مقاربًا لها في السنّ، وهو الذي يحصل به الغرض من النكاح، وهو دوام الألفة والمحبّة بين الزوجين، كما ذكرنا، فلذا قدمه النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهما؛ لذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث بُريدة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-7/ 3222 - وفي "الكبرى" 7/ 5329. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌8 - (تَزَوُّجُ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا الباب الإشارة إلى أن المعتبر في النكاح الكفاءة في الدين.

(1)

- "شرح السنديّ" 6/ 62.

ص: 58

وأصرح منه قول الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-، حيث قال:[باب الأَكْفَاء في الدين، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 54] انتهى.

قال في "الفتح": قال الفرّاء: النسب من لا يحلّ نكاحه، والصهر من يحلّ نكاحه. فكأن المصنّف لَمّا رأى الحصر وقع بالقسمين صلح التمسّك بالعموم؛ لوجود الصلاحية، إلا ما دلّ الدليل على اعتباره، وهو استثناء الكافر. انتهى

(1)

.

وهذا الذي ذهب إليه المصنّف تبعًا للبخاري مذهب مالك، وجماعة من السلف، وهو المذهب الراجح، خلافاً لمن اعتبره في النسب، وهم الجمهور، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3223 -

(أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، طَلَّقَ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ، فِي إِمَارَةِ مَرْوَانَ ابْنَةَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ- وَأُمُّهَا بِنْتُ قَيْسٍ- الْبَتَّةَ، فَأَرْسَلَتْ إِلِيْهَا خَالَتُهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، تَأْمُرُهَا بِالاِنْتِقَالِ مِنْ بَيْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَسَمِعَ بِذَلِكَ مَرْوَانُ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنَةِ سَعِيدٍ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى مَسْكَنِهَا، وَسَأَلَهَا مَا حَمَلَهَا عَلَى الاِنْتِقَالِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ تَعْتَدَّ فِي مَسْكَنِهَا، حَتَّى تَنْقَضِىَ عِدَّتُهَا؟ ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُخْبِرُهُ أَنَّ خَالَتَهَا أَمَرَتْهَا بِذَلِكَ، فَزَعَمَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصٍ، فَلَمَّا أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلِىَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَى الْيَمَنِ، خَرَجَ مَعَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ، هِيَ بَقِيَّةُ طَلَاقِهَا، وَأَمَرَ لَهَا الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ بِنَفَقَتِهَا، فَأَرْسَلَتْ - زَعَمَتْ - إِلَى الْحَارِثِ وَعَيَّاشٍ، تَسْأَلُهُمَا الَّذِي أَمَرَ لَهَا بِهِ زَوْجُهَا، فَقَالَا: وَاللَّهِ مَا لَهَا عِنْدَنَا نَفَقَةٌ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ حَامِلاً، وَمَا لَهَا أَنْ تَكُونَ فِي مَسْكَنِنَا، إِلاَّ بِإِذْنِنَا، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَصَدَّقَهُمَا، قَالَتْ فَاطِمَةُ: فَأَيْنَ أَنْتَقِلُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«انْتَقِلِى عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى، الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ عز وجل فِي كِتَابِهِ» ، قَالَتْ فَاطِمَةُ: فَاعْتَدَدْتُ عِنْدَهُ، وَكَانَ رَجُلاً قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَكُنْتُ أَضَعُ ثِيَابِي عِنْدَهُ، حَتَّى أَنْكَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا مَرْوَانُ، وَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَكِ، وَسَآخُذُ بِالْقَضِيَّةِ الَّتِي وَجَدْنَا النَّاسَ عَلَيْهَا، مُخْتَصَرٌ

).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(كثير بن عُبيد) بن نُمير الْمَذْحِجيّ، أبي الحسن الحمصيّ الحذّاء المقرئ، ثقة

(1)

- "فتح" 10/ 164 - 165.

ص: 59

2 -

(محمد بن حرب) الخولانيّ الحمصيّ الأبرش، ثقة [9] 122/ 172.

3 -

(الزبيدي) -بضم الزاي، مصغّرًا-: هو محمد بن الوليد، أبو الْهُذيل الحمصيّ القاضي الثقة الثبت، من كبار أصحاب الزهريّ [7] 45/ 56.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم المدنيّ الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

5 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة فقيه ثبتٌ [3] 45/ 56.

6 -

(فاطمة بنت قيس) بن خالد الفهريّة، أخت الضحاك الأمير، وكانت أسن منه، روت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنها القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأبو بكر بن أبي الجهم، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبد اللَّه بن عبد اللَّه ابن عبيد بن مسعود، والأسود بن يزيد، وسليمان بن يسار، وعبد اللَّه البهي، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وعامر الشعبي، وعبد الرحمن بن عاصم بن ثابت، وتميم مولى فاطمة بنت قيس، قال ابن عبد البر: كانت من المهاجرات الأُوَل، وكانت ذات جمال

وعقل، وفي بيتها اجتمع أصحاب الشورى عند قتل عمر، وكانت عند أبي عَمْرو بن حفص بن المغيرة، فطلقها فتزوجها بعده أسامة بن زيد. أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب حديث الباب، وكرّره خمس عشرة مرّة. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه فقد تفرّد به هو، وأبو داود، وابن ماجه. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالحمصيين، والثاني بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُبَيْدِ اللَّه بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ) الهذليّ الفقيه (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو) بفتح المهملة، وسكون الميم (ابْنِ عُثْمَانَ) بن عفّان الأمويّ، كان شريفًا جوادًا ممدَّحًا. ووثقه النسائيّ، وذكره ابن حبّان في "الثقات". وله يقول الفرزدق [من الوافر]:

نَمَى الْفَارُوقُ أمَّكَ وَابْنُ أَرْوَى

أَبَاكَ فأَنْتَ مُنْصَدِعُ النَّهَارِ

هُمَا قَمَرَا السمَاءِ وَأَنْتَ نَجْمٌ

بِهِ بِاللَّيْلِ يُدْلِجُ كُلُّ سَارِ

مات بمصر سنة (96). وذكر الزبير في "النسب"، فقال: كان يقال له: الْمُطْرَف؛

ص: 60

لحسنه وجماله. وهي مضبوطة -بضمّ الميم، وسكون المهملة، وفتح الراء. ومنهم من فتح الطاء، وشدّد الراء

(1)

. (طَلَّقَ وَهُوَ غُلَامٌ) هو: الطَّارُّ الشَّارِبِ. وقيل: هو من حين يولد إلى أن يَشِيبَ، جمعه أغلمةٌ، وغِلْمَةٌ، وغِلْمانٌ. قاله في "اللسان".

وقال الفيّوميّ: الغلام: الابن الصغير، وجمع القلّة غِلْمةٌ، وجمع الكثرة غِلْمانٌ، ويُطلق الغلام على الرجل مجازًا باسم ما كان عليه، كما يقال للصغير: شيخٌ باسم ما يؤول إليه، وجاء في الشعر غلامة بالهاء للجارية، قال أوس بن غَلْفَاء الْهُجيمىّ يصف فرسًا [من الوافر]:

وَمُرْكِضَةٌ صَرِيحِيٌّ أَبُوهَا

يُهَانُ لَهَا الْغُلَامَةُ وَالْغُلَامُ

قال الأزهريّ: وسمعت العرب تقول للمولود حين يولد ذَكَرًا: غلامٌ، وسمعتهم يقولون للكَهْلِ غلامٌ، وهو فاش في كلامهم انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: والمناسب هنا هو المعنى الأخير، ولذا قيّده بقوله (شَابٌّ) اسم فاعل من الشَّبَاب، وهو الفَتَاءُ والحَدَاثَةُ، أفاده في "اللسان". وفي "المصباح": شَبّ الصبيّ يَشِب، من باب ضرب شَبَابًا، وشَبِيبَةً، وهو شابٌّ، وذلك سِنٌّ قبل الكهولة. والجمع: شُبّان، مثلُ فارس وفُرْسَان، والأنثى شابّةٌ، والجمع شَوَابُّ، مثلُ دابّة ودوابّ انتهى.

(فِي إِمَارَةِ مَرْوَانَ) أي في زمن ولايته على المدينة. ومروان هو ابن الحكم بن أبي العاص بن أميّة، أبو عبد الملك الأمويّ المدنيّ، ولي الخلافة في آخر سنة (64)، ومات سنة (65) في رمضان، وله (63) أو (61) سنة ولا يثبت له صحبة، بل هو تابعيّ (ابْنَةَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ) بن نُفيل الصحابيّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهم (وَأُمُّهَا بِنْتُ قَيْسٍ) بن الضحاك، أخت الضحاك بن قيس، الفهريّة، واسمها حمنة، كما سيأتي في - 73/ 3579.

(الْبَتَّةَ) مفعول مطلق على النيابة لـ"طلّق"، يقال: بتّ الرجلُ طلاقَ امرأته، فهي مبتوتةٌ، والأصلُ مبتوتٌ طلاقُها، وطلّقها طَلْقَةٌ بَتَّةٌ: إذا قطعها عن الرَّجْعَة، وأبتّ طلاقَها بالألف لغةٌ، قال الأزهريّ: وُيستعمل الثلاثيّ، والرباعيّ لازمين، ومتعديين، فيقال: بَتّ طلاقَها، وأبتّ، وطلاقٌ باتٌّ، ومُبِتٌّ، وقال ابن فارس: ويقال لما لا رجعة فيه: لا أفعله بَتّةً انتهى

(2)

.

والمراد أنه طلّقها ثلاثًا، فإن الثلاث هي التي تقطع وُصلة النكاح.

(1)

- "تهذيب النهذيب" 2/ 394. طبعة مؤسّسة الرسالة.

(2)

- راجع "المصباح المنير".

ص: 61

(فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا خَالَتُهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ) بن خالد، من بني محارب بن فهر بن مالك، وهي أخت الضحّاك بن قيس الذي ولي العراق ليزيد بن معاوية، وقُتِلَ بِمَرْجِ راهط، وهو من صغار الصحابة، وهي أسنّ منه، يقال: بعشر سنين، قَدِمت على أخيها الكوفةَ، وهو أميرها، فروى عنها الشعبيّ قصّةَ الجسّاسة بطولها، فانفردت بها مطوّلة، وتابعها جابرٌ وغيره

(1)

.

(تَأْمُرُهَا بِالِانْتِقَالِ مِنْ بَيْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) إذ لا حقّ لها في السكنى عنده (وَسَمِعَ بِذَلِكَ مَرْوَانُ) بن الحكم. وفي رواية الوطإ: "فأنكر ذلك عليها عبد اللَّه بن عمر"، فلعلّه حصل الإنكار من كلّ منهما (فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنَةِ سَعِيدٍ) بن زيد (فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى مَسْكَنِهَا) أي لاعتقاده وجوب بقائها فيه حتى تنقضي عدتها؛ لظاهر قوله تعالى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} الآية [الطلاق: 1]، (وَسَأَلَهَا مَا حَمَلَهَا عَلَى الِانْتِقَالِ)"ما" اسم موصولٌ، مفعول "سأل"، أي الشيءَ الذي حملها على الخروج من البيت الذي هي فيه. ويحتمل أن تكون استفهاميّةً، فتكون الجملة معلّقًا عنها العامل، أي أَيُّ شيء حملها الخ (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَعتَدَّ فِي مَسْكَنِهَا، حَتَّى تَنقَضِيَ عِدَّتُهَا) كما هو ظاهر الآية (فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُخْبِرُهُ أَنَّ خَالَتَهَا) فاطمة بنت قيس - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَمَرَتَهْا بِذَلِكَ) الانتقال (فَزَعَمَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ) معطوف على محذوف، أي فأرسل مروان إليها من يسألها، فسألها، فزعمت، أي قالت؛ إذ الزعم يُطلق على القول الحقّ، وإن كان أكثر استعماله فيما يُشكّ فيه، ولا يُتحقّق.

وقد بيّن هذا المقدّر في الرواية الآتية -73/ 3553 - من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ: ولفظها: "فأرسل مروان قبيصةَ بنَ ذُئيب إلى فاطمة، فسألها عن ذلك، فزعمت أنها كانت تحت أبي عمرو

"، وفي لفظ لمسلم: "فحدّثته به".

(أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصٍ) هكذا قال الجمهور: إنه أبو عمرو بن حفص. وقيل: أبو حفص بن عمرو. وقيل: أبو حفص بن المغيرة. واختلفوا في اسمه، والأكثرون على أن اسمه عبد الحميد. وقال النسائيّ: اسمه أحمد. وقال آخرون: اسمه كنيته. قاله النوويّ

(2)

.

وقال القرطبيّ: هكذا رواية أكثر الأئمة الحفّاظ: مالك وغيره. وقد قلبه شيبان، وأبان العطّار، عن يحيى بن أبي كثير، فقال: إن أبا حفص بن عمرو، والمحفوظ

(1)

- "شرح الزرقاني على الموطّأ" 3/ 207.

(2)

- "شرح مسلم" 10/ 334.

ص: 62

الأول. واسمه أحمد على ما ذكره الداوديّ عن النسائيّ. قال القاضي: والأشهر عبد الحميد. وقيل: اسمه كنيته، ولا يُعرف في الصحابة من اسمه أحمد سواه انتهى

(1)

.

وفي "الإصابة": أبو عمرو بن حفص بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، زوج فاطمة بنت قيس. وهو ابن عمّ خالد بن الوليد بن المغيرة

(2)

. وقيل: هو أبو حفص بن عمرو بن المغيرة. وأمه دُرّة بنت خُزَاعيّ الثقفيّة، وكان خرج مع عليّ إلى اليمن في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمات هناك. ويقال: بل رجع إلى أن شهد فتوح الشام. ذكر ذلك عليّ بن رباح، عن ناشرة بن سُميّ، سمعت عمر يقول: إني معتذرٌ لكم من عزل خالد بن الوليد، فقال أبو عمرو بن حفص: عزلت عنّا عاملاً استعمله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر القصّة. أخرجه النسائيّ. وقال البغويّ: سكن المدينة. انتهى باختصار

(3)

.

(فَلَمَّا أَمَّرَ) بتشديد الميم، من التأمير: أي جعل أميرًا (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَليَّ بْنَ أَبِي طَالِب عَلَى الْيَمَنِ، خَرَجَ مَعَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ) قال عياض: كذا الصحيح عند الجمَيع أنه طلّقها، وإن اختلفوا في صفته، هل البتّة، أو آخر الثلاث. وما يوهمه بعض الروايات أنه مات عنها مؤوّل انتهى.

وقال في "الفتح": واتفقت الروايات عن فاطمة بنت قيس على كثرتها عنها أنها بانت بالطلاق. ووقع في آخر "صحيح مسلم" في حديث الجسّاسة عن فاطمة بنت قيس: "نَكَحْتُ ابنَ المغيرة، وهو من خيار شباب قريش يومئذ، فأصيب في الجهاد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما تأيّمتُ خطبني أبو جهم

" الحديث. وهذه الرواية وَهَمٌ، ولكن أوّلها بعضهم على أن المراد بقولها: "أصيب" أي مات على ظاهره، وكان في بعث عليّ إلى اليمن، فيصدق أنه أُصيب في الجهاد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أي في طاعة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من ذلك أن تكون بينونتها منه بالموت، بل بالطلاق السابق على الموت. فقد ذهب جمع جمّ إلى أنه مات مع عليّ باليمن، وذلك بعد أن أرسل إليها بطلاقها، فإذا جمُع بين الروايتين استقام هذا التأويل، وارتفع الوهم، ولكن يَبْعُد بذلك قول من قال: إنه بقي إلى خلافة عمر صلى الله عليه وسلم انتهى

(4)

.

(1)

- "المفهم" 4/ 266.

(2)

- راجع "الفتح" 10/ 599 "كتاب الطلاق".

(3)

- "الاصابة" 11/ 266.

(4)

- "فتح" 10/ 599. "كتاب الطلاق".

ص: 63

(هِيَ بَقِيَّةُ طَلَاقِهَا) يعني أنه طلّقها قبل ذلك تطليقتين، وقد بقي لها تطليقة واحدة، فأرسل بها إليها، فصار الطلاق بهذه الطلقة طلاقًا بائنًا.

وهذه الرواية مفسّرة للروايات الأخرى، فقد وردت الروايات بألفاظ، ففي رواية:"طلّقها طلقةً كانت بقيت من طلاقها"، وفي رواية:"أنه طلّقها ثلاثًا"، وفي رواية:"طلّقها آخر ثلاث تطليقات"، وفي رواية:"طلّقها"، ولم يذكر عددًا، ولا غيره.

قال النووي: فالجمع بين هذه الروايات أنه كان طلّقها قبل هذا طلقتين، ثم طلّقها هذه المرّة الطلقة الثالثة، فمن روى أنه طلّقها مطلقًا، أو طلّقها واحدةً، أو طلّقها آخر ثلاث تطليقات، فهو ظاهر، ومن روى "البتّةَ" فمراده طلّقها طلاقًا صارت به مبتوتة بالثلاث، ومن روى ثلاثًا أراد تمام الثلاث انتهى

(1)

.

(وَأَمَرَ لَهَا الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ) بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، أبا عبد الرحمن المكيّ، أخا أبي جهل، وابن عم خالد بن الوليد، وأمه فاطمة بنت الوليد ابن المغيرة. قال الزبير بن بكّار: كان شريفًا مذكورًا، مدحه كعب بن الأشرف اليهوديّ، وشهد الحارث بن هشام بدرًا مع المشركين، وكان فيمن انهزم، فعيّره حسّان ابن ثابت، فقال [من الكامل]:

إِنْ كنْتِ كَاذِبَةَ الَّذِي حَدَّثْتِنِي

فَنَجَوْتِ مَنْجَى الحَارِثِ بن هَشَامِ

تَرَكَ الأَحِبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهمْ

وَنَجَا بِرَأْسِ طِمْرَةِ

(2)

وِلِجَامِ

فأجاب الحارث [من الكامل]:

اللَّه يَعْلَمُ مَا تَرَكْتُ قِتَالَهُمْ

حَتَّى رَمَوْا فَرَسِي بِأَشْقَرَ مُزْبِدِ

فَعَلِمْتُ أَنِّي إِنْ أُقَاتِلْ وَاحِدًا

أُقْتَلْ وَلَا يُنْكِي عَدُوِّي مَشْهَدِي

فَفَرَرْتُ عَنْهُمْ وَالأَحِبَّةُ فِيهِمُ

طَمَعًا لَهُمْ بِعِقَابٍ يَوْمٍ مُرْصَدِ

ويقال: إن هذه الأبيات أحسن ما قيل في الاعتذار من الفرار. قال الزبير: ثم شهد أحدًا مشركًا حتى أسلم يوم فتح مكة، ثم حسن إسلامه. قال: وحدثني عمي، قال: خرج الحارث في زمن عمر بأهله وماله من مكة إلى الشام، فتبعه أهل مكة، فقال: لو استبدلت بكم دارًا بدار ما أردت بكم بدلاً، ولكنها النقلة إلى اللَّه، فلم يزل بالشام حتى ختم اللَّه له بخير. قال الزبير: لم يترك الحارث إلا ابنه عبد الرحمن، فأُتي به، وبناجية

(1)

- "شرح مسلم" 9/ 335.

(2)

- "الطمرة" -بكسر الطاء المهملة، وسكون الميم-: الفرس الجواد. ذكره في "القاموس" من جملة معاني "الطمر".

ص: 64

بنت عتبة بن سُهيل بن عمرو إلى عمر، فقال: زوّجوا الشريدة بالشريد، عسى اللَّه أن ينشر منهما، فنشر اللَّه منهما ولدًا كثيرًا. وكان الحارث يُضرب به المثل في السؤدد، حتى قال الشاعر [من الكامل]:

أَظَنَنْتَ أنَّ أَبَاكَ حِينَ نَسَبْتَنِي

فِي الْمَجْدِ كَانَ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامِ

أَوْلَى قُرَيشٍ بِالْمَكَارِمِ وَالنَّدَى

فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ وَالإِسلَامِ

وقال الزبير بن بكّار في "الموفّقيّات" من طريق محمد بن إسحاق في قصّة سَقيفة بني ساعدة، قال: فقام الحارث بن هشام، وهو يومئذ سيد بني مخزوم، ليس أحد يعدل به إلا أهل السوابق مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: واللَّه لولا قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" ما أُبعد منها الأنصار، ولكانوا لها أهلاً، ولكنه قولٌ لا شكّ فيه، فواللَّه لو لم يبق من قريش كلها إلا رجلٌ واحد لصيّر اللَّه هذا الأمر فيه. وكان الحارث يَحمل في قتال الكفّار، ويرتجز:

إِنِّي بِرَبِّي وَالنَّبِيِّ مُؤْمِنُ

وَالْبَعْثِ مِنْ بَعْدِ الْمَمَاتِ مُوقِنُ

أَقْبِح بِشَخْصٍ لِلْحَيَاةِ مُوطِنُ

(1)

وذكر ابن سعد وغيره: أنه توفّي في طاعون عمواس سنة (18).

(وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ) -واسم أبيه عمرو، ويُلقّب ذا الرمحين- ابن المغيرة بن عبد اللَّه بن عُمَر بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، ابن عم خالد بن الوليد بن المغيرة، وكان من السابقين الأولين، وهاجر الهجرتين، ثم خَدَعه أبو جهل إلى أن رجعوه من المدينة إلى مكة، فحبسوه، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت، كما ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه. وذكر العسكريّ أنه شهد بدرا، وغلّطوه. قال ابن قانع، والقراب، وغيرهما: مات سنة (15) بالشام في خلافة عمر رضي الله عنه. وقيل: استُشهد باليمامة. وقيل: باليرموك

(2)

(بنَفَقَتِهَا) وفي رواية لمسلم: "فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطته". وفي رواية المصنف -72/ 3552 - "فوضع لي عشرة أقفزة عند ابن عمّ له، خمسة شعير، وخمسة تمر

".

وفي رواية لمسلم من طريق أبي بكر بن الجهم، عن فاطمة، قالت: أرسل إليّ زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة عيّاشَ بن أبي ربيعة بطلاقي، وأرسل معه بخمسة آصع تمر، وخمسة آصع شعير، فقلت: أما لي نفقةٌ إلا هذا؟، ولا أعتدّ في منزلكم؟

(1)

- راجع "الإصابة" 2/ 181 - 182.

(2)

- "الإصابة" 7/ 184 - 185.

ص: 65

قال: لا

لحديث.

(فَأَرْسَلَتْ -زَعَمَتْ-) أي قالت، وهي جملة معترضة بين العامل ومعموله أتى بها إشارة إلى أن قولها:"فأرسلتْ الخ" منقول عنها (إِلَى الْحَارِثِ وَعَيَّاش) متعلّق بـ"أرسلت"(تَسْأَلُهُمَا الَّذِي أَمَرَ لَهَا بِهِ زَوْجُهَا) أي من النفقة (فَقَالَا: واللَّه مَا لَهَا عِنْدَنَا نَفَقَةٌ) أي لا يجب لها علينا نفقتها (إِلاَّ أَنْ تكُونَ حَامِلاً، وَمَا لَهَا أَنْ تَكُونَ فِي مَسْكَنِنَا، إِلَّا بِإِذْنِنَا) أي إلا أن نأذن لها بالسكنى إحسانا منا إليها، لا بطريق الوجوب علينا. والظاهر أن الحارث وعياشًا كان عندهما علم بحكم المسألة قبل هذا. ويحتمل أنهما قالا ذلك باجتهادهما، ولكن وافق اجتهادهما النصّ (فَزَعَمَتْ أَنَّهَا أَتَت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَصَدَّقَهُمَا) وفي الرواية الآتية-70/ 3546 - من طريق عطاء، عن عبد الرحمن بن عاصم، أن فاطمة بنت قيس أخبرته، وكانت عند رجل من بني مخزوم، أنه طلقها ثلاثًا، وخرج إلى بعض المغازي، وأمر وكيله أن يعطيها بعض النفقة، فتقالَّتْها، فانطلقت إلى بعض نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهي عندها، فقالت: يا رسول اللَّه، هذه فاطمة بنت قيس، طلقها فلان، فأرسل إليها ببعض النفقة، فردّتها، وزعم أنه شيء تَطَوَّل به، قال: "صدق

"

قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فانتقلي إلى أم كلثوم

(1)

فاعتدي عندها ثم قال إن أم كلثوم امرأة يكثر عوادها فانتقلي إلى عبد اللَّه ابن أم مكتوم فإنه أعمى فانتقلت إلى عبد اللَّه فاعتدت عنده حتى انقضت عدتها ثم خطبها أبو الجهم ومعاوية بن أبي سفيان فجاءت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تستأمره فيهما فقال أما أبو الجهم فرجل أخاف عليك قسقاسته

(2)

للعصا وأما معاوية فرجل أملق من المال فتزوجت أسامة بن زيد بعد ذلك*

وفي رواية لمسلم من طريق أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس:"وكان أنفق عليها نفقة دُونٍ، فلما رأت ذلك قالت: واللَّه لأُعْلِمَنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإن كان لي نفقة أخذت الذي يُصلحني، وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ منه شيئًا، قالت: فذكرت ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: لا نفقة لك، ولا سكنى".

وفي رواية أبي بكر بن أبي الجهم المذكورة: "قالت: فشددت عليّ ثيابي، وأتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: "كم طلّقك؟ قلت: ثلاثًا، قال: صدق، ليس لك نفقة، واعتديّ في بيت ابن أم مكتوم

الحديث.

وفي الرواية الآتية -7/ 3406 - من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة:

(1)

المحفوظ أن اسمها أم شريك، كما سيأتي تمام البحث فيه في. 7/ 3546.

(2)

- أي تحريكه للعصا.

ص: 66

"فانطلق خالد بن الوليد رضي الله عنه في نفر من بني مخزوم، إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة، فقالوا: إن أبا حفص بن عمرو طلّق امرأته ثلاثًا، فهل لها نفقة؟ فقال: "ليس لها نفقة، ولا سكنى".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ويجمع بين الروايتين بأن فاطمة ذهبت مع خالد والنفر الذين معه، فسأل لها خالد. واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَتْ: فَاطِمَةُ: فَأَيْنَ أَنْتَقِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أي إذا لم يكن لي سكنى، ففي أيّ بيت أعتدّ؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (انْتَقِلي عِنْدَ ابْنِ أُمّ مَكْتُوم الْأَعْمَى) هو عمرو بن زائدة، أو ابن قيس بن زائدة. ويقال: زياد القرشيّ العامريّ الصحابيّ المشهور، قديم الإسلام. ويقال: اسمه عبد اللَّه. ويقال: الحصين، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة، مات رضي الله عنه في آخر خلافة عمر رضي الله عنه.تقدّمت ترجمته في -9/ 637 (الّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ عز وجل فِي كِتَابِهِ) حيث أنزل فيه قوله عز وجل:{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} الآيات. وفي رواية شعيب، عن الزهريّ -72/ 3553 - وهو الأعمى الذي عاتبه اللَّه عز وجل في كتابه". وضمير "عاتبه" للنبيّ صلى الله عليه وسلم (قَالَتْ: فَاطِمَةُ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (فَاعْتَدَدتُ عِنْدَهُ) أي عند ابن أم مكتوم رضي الله عنه (وَكَانَ رَجُلاً قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ) هذا هو السبب الذي ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمرها بالاعتداد عنده، بعد أن أمرها أن تعتدّ في بيت أم شريك - رضي اللَّه تعالى عنها -، ففي رواية أبي سلمة الآتية -22/ 3246 - : "فأمرها أن تعتدّ في بيت أم شريك، ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي، فاعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجلٌ أعمى تضعين ثيابك

".

وفي الرواية الآتية-19/ 3238 - من طريق الشعبيّ، عنها:"فانطلقي إلى أم شريك" - وأم شريك امرأة غنيّةٌ، من الأنصار، عظيمة النفقة في سبيل اللَّه عز وجل، ينزل عليها الضِّيفَان- فقلت: سأفعل، قال: "لا تفعلي، فإن أمّ شريك كثيرة الضيفان، فإني أكره أن يسقط عنك خمارك، أو ينكشف الثوب عن ساقيك، فيرى القوم منك بعض ما تكرهين، ولكن انتقلي إلى ابن عمّك

(1)

، عبد اللَّه بن عمر وابن أم مكتوم"، وهو رجلٌ من بني فهر، فانتقلت إليه.

وفي رواية لمسلم: "أرسل إليها أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون، فانطلقي إلى ابن أم مكتوم الأعمى، فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك

".

(1)

- زاد في رواية لمسلم: "رجل من بني فهر، من البطن الذي هي منه. واعترض على هذا القرطبيّ، فقال: والمعروف خلاف هذا، وليسا من بطن واحد، هي من بني محارب بن فهر، وهو من بني عامر بن لؤي انتهى. "المفهم" 4/ 270.

ص: 67

قال النوويّ. قال العلماء: أم شريك هذه قرشيّةٌ عامريّةٌ. وقيل: إنها أنصاريّةٌ. وقد ذكر مسلم في آخر الكتاب في حديث الجسّاسة: أنها أنصاريّة، واسمها غُزَيّة. وقيل: غُزيلة- بغين معجمة مضمومة، ثم زاي فيهما- وهي بنت داود بن عوف بن عمرو بن عامر بن رواحة بن حُجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لُؤيّ بن غالب. وقيل في نسبها: غير هذا. قيل: إنها التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل: غيرها.

ومعنى هذا الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يزورون أم شريك، ويُكثرون التردد إليها لصلاحها، فرأى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن على فاطمة من الاعتداد عندها حرجًا، من حيث إنه يلزمها التحفّظ من نظرهم إليها، ونظرها إليهم، وانكشاف شيء منها، وفي التحفّظ من هذا مع كثرة دخولهم، وترددهم مشقّةٌ ظاهرةٌ، فأمرها بالاعتداد عند ابن أم مكتوم؛ لأنه لا يُبصرها، ولا يتردد إلى بيته من يتردّد إلى بيت أمّ شريك انتهى

(1)

.

(فَكُنْتُ أَضَعُ ثِيَابِي عِنْدَهُ) أي للأمن من نظره إليها. والمراد: أنها اعتدّت عنده، فكانت تضع ثيابها عنده إذا أردت أن تتكشّف لبعض حاجتها؛ لأنه أعمى لا يراها، كما بين لها ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أمرها بالانتقال من بين أم شريك إلى بيته (حَتَّى أَنْكَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)"حتى" غاية للزومها بيت ابن أم مكتوم، أي لبثت عنده إلى أن انقضت عدّتها، فزوّجها صلى الله عليه وسلم (أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ) بن حارثة بن شَراحيل الكلبيّ، حِبَّهُ صلى الله عليه وسلم، وابن حِبّه الأمير الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه بالمدينة سنة (54)، وهو ابن (75) سنة، تقدّمت ترجمته في -96/ 120.

وكان تزويجها به بعد أن تقدّم إليها الْخُطّاب، ففي رواية الشعبي، عن فاطمة 19/ 3238 - قالت: خطبني عبد الرحمن بن عوف في نفر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخطبني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على مولاه أسامة بن زيد، وقد كنت حُدِّثتُ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: من أحبنِي، فليُحبّ أسامة، فلما كلّمني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قلت: أمري بيدك، فأنكحني من شئتَ

"

وفي رواية أبي سلمة، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عنها -21/ 3245 - قالت: فلما حللت آذنته، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ومن خطبك؟ "، فقلت: معاوية، ورجل آخر من قريش، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أما معاوية فإنه غلام من غلمان قريش، لا شيء له، وأما الآخر، فإنه صاحب شرّ، لا خير فيه، ولكن انكحي أسامة بن زيد"، قالت. فكرهته، فقال لها ذلك ثلاث مرّات، فنكحتْه.

وفي رواية أبي سلمة، عنها -22/ 3245 - قالت: فلما حللتُ ذكرت له أن معاوية

(1)

- "شرح مسلم" 9/ 336.

ص: 68

ابن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أما أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية، فصُعلوك، لا مال له، ولكن انكحي أسامة بن زيد، فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة بن زيد"، فنكحته، فجعل اللَّه عز وجل فيه خيرًا عظيمًا".

(فَأَنْكَرَ ذَلِكَ) أي خروج المطلّقة من بيتها (عَلَيْهَا مَرْوَانُ) بن الحكم (وَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَكِ) أي لم أسمع بخروج المعتدّة مطلقًا من بيتها قبل أن تحدّثيني به الآن (وَسَآخُذُ بِالْقَضِيَّةِ) بالقاف، والضاد المعجمة، هكذا نسخُ "المجتبى"، وهو واضح. ووقع في "الكبرى":"بالعصمة" بكسر العين، وسكون الصاد المهملتين-وهو الذي في معظم نسخ "صحيح مسلم"، قال النوويّ: معناه بالثقة، والأمر القويّ الصحيح انتهى

(1)

(الَّتِي وَجَدنَا النَّاسَ عَلَيْهَا) وهو وجوب السكنى للمبتوتة. وهذا يفيد أن مذهب أهل المدينة كان على أن للمطلّقة ثلاثًا السكنى. وذكر مالك في "الموطإ" أنه سمع ابن شهاب يقول: المبتوتة لا تخرج من بيتها حتى تَحِلّ، وليست لها نفقةٌ، إلا أن تكون حاملاً، فيُنفق عليها حتى تضع حملها. قال مالك: وهذا الأمر عندنا انتهى

(2)

.

وقد أنكر على فاطمة قبل مروان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، ففي "صحيح مسلم": قال عمر: لا نترك كتاب اللَّه، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت، أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال اللَّه عز وجل:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} الآية [الطلاق: 1].

وكذلك أنكرت ذلك عليها عائشةُ، ففي "مسلم" أيضًا: وقال عروة: إن عائشة أنكرت ذلك على فاطمة بنت قيس انتهى.

وقوله (مُخْتَصَرٌ) أي هذا الحديث مختصرٌ في هذه الرواية، وقد ساقه مسلم في "صحيحه"، من طريق معمر، عن الزهريّ، ولفظه:"فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان: فبيني وبينكم القرآن، قال اللَّه عز وجل: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} الآية [الطلاق: 1]. قالت: هذا لمن كانت له مراجعةٌ، فأيّ أمر يحدث بعد الثلاث؟، فكيف تقولون: لا نفقة لها إذا لم تكن حاملاً، فعلام تحبسونها؟ " انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث فاطمة بنت قيس - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.

(1)

- "شرح مسلم"10/ 341.

(2)

- "الموطأ" بشرح الزرقانيّ 3/ 210.

ص: 69

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-8/ 3223 و 19/ 3238 و 21/ 3245 و 3246 و"الطلاق" 7/ 3404 و 3405 و 3406 و 15/ 3419 و 70/ 3546 و 3547 و 3548 و 3549و 3550 و 72/ 3552 و 73/ 3553 - وفي "الكبرى" 8/ 5330 و 5332 و 19/ 5351 و 5352 و"الطلاق" 8/ 5595 و 5596 و 5598 و 70/ 5739 و 5740 و 5741 و 5742 و 73/ 5746. وأخرجه (م) في "الطلاق" 140 و 1482 (د) "الطلاق" 2284 و 2288 و 2289 و 2290 (ت) "النكاح" 1135 و"الطلاق" 1180 (ق) "الطلاق"2024 و 2032 و 2035 و 2036 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 26560 و"مسند القبائل" 26787 و 26791 و 26793 و 26797 (الموطإ) "الطلاق" 1234 و 2177 (الدارميّ) "الطلاق" 2274 و 2275. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان أن الكفاءة، في الدين، لا في النسب، فقد أنكح النبيّ صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس، وهي قرشيّة أسامة بن زيد، وهو مولى، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في ذلك في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): جواز طلاق البتّة، حيث لم ينكره صلى الله عليه وسلم على زوج فاطمة - رضي اللَّه تعالى - عنهما. (ومنها): أن المبتوتة لا نفقة لها، ولا سكنى، وفيه اختلاف بين أهل العلم، سيأت تحقيقه في محله من "كتاب الطلاق" -73/ 3553 - إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم في أم شريك: "يغشاها أصحابي" دليلٌ على أن المرأة المتجالّة العجوز الصالحة جائز أن يغشاها الرجال في بيتها، ويتحدّثون عندها، وكذلك لها أن تغشاهم في بيوتهم، ويرونها، وتراهم فيما يحلّ، ويَجْمُلُ، وينفع، ولا يضرّ، قال اللَّه عز وجل:{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60]. والغشيان في كلام العرب. الإلمام، والورود، قال حسّان بن ثابت رضي الله عنه[من الكامل]:

يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلَابهُمْ

لَا يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوَادِ الْمُقْبِلِ

فمعنى قوله: "تلك امرأة يَغشاها أصحابي": أي يُلِمّون بها، ويَرِدون عليها، ويجلسون عندها. قاله في "الاستذكار"

(1)

.

(ومنها): أن في قوله: "تضعين ثيابك، ولا يراك" دليلاً على عدم جواز نظر الرجل

(1)

- "الاستذكار" 18/ 76 - 77.

ص: 70

إلى المرأة؛ لما فيه من داعية الفتنة. (ومنها): ما قاله أبو العبّاس القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: فيه دليلٌ على أن المرأة يجوز لها أن تطلّع من الرجل على ما لا يجوز للرجل أن يطلع عليه من المرأة، كالرأس، ومعلّق القرط، ونحو ذلك، فأما العورة فلا. ولكن هذا يعارضه ما ذكره الترمذيّ من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لميمونة وأم سلمة، وقد دخل عليهما ابن أم مكتوم، فقال:"احتجبا منه"، فقالتا: إنه أعمى، فقال:"أفَعَمياوان أنتما؟، ألستما تبصرانه؟ ". والجواب من وجهين:

[أحدهما]: أن هذا الحديث لا يصحّ عند أهل النقل؛ لأن راويه عن أم سلمة نبهان مولاها، وهو ممن لا يُحتجّ بحديثه.

[وثانيهما]: على تقدير صحّته، فذلك تغليظ منه صلى الله عليه وسلم على أزواجه لحرمتهنّ، كما غلّظ عليهنّ أمر الحجاب، ولهذا أشار أبو داود وغيره من الأئمة انتهى

(1)

،

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- عند قول البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-: "باب نظر المرأة إلى الحَبَش، ونحوهم من غير ريبة": ما نصّه: وظاهر الترجمة أن المصنّف كان يذهب إلى جواز نظر المرأة إلى الأجنبيّ، بخلاف عكسه، وهي مسألة مشهورة، واختَلَف الترجيح فيها عند الشافعيّة، وحديث الباب يساعد من أجاز، وقد تقدّم في أبواب العيد جواب النوويّ عن ذلك بأن عائشة كانت صغيرةً، دون البلوغ، أو كان قبل الحجاب، وقوّاه بقوله في هذه الرواية:"فاقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ". لكن تقدّم ما يعكُر عليه، وأن في بعض طرقه أن ذلك كان بعد قدوم الحبشة، وأن قدومهم كان سنة سبع، ولعائشة يومئذ ست عشرة سنة، فكانت بالغةٌ، وكان بعد الحجاب.

وحجة من منع حديث أمّ سلمة الحديث المشهور: "أفعمياوان أنتما"، وهو حديث أخرجه أصحاب "السنن"

(2)

من رواية الزهريّ، عن نبهان، مولى أم سلمة، عنها، وإسناده قوي، وأكثر ما عُلّل به انفراد الزهريّ بالرواية عن نبهان، وليست بعلّة قادحة، فإن من يعرفه الزهريّ، ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة، ولم يجرحه أحدٌ، لا تُردّ روايته. والجمع بين الحديثين احتمال تقدّم الواقعة، أو أن في قصّة الحديث الذي ذكره نبهان شيء يمنع النساء من رؤيته؛ لكون ابن أم مكتوم كان أعمى، فلعلّه كان منه شيء ينكشف، ولا يشعر به.

ويقوّي الجواز استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد، والأسواق،

(1)

- "المفهم" 4/ 270 - 271.

(2)

- أخرجه أبو داود في "سننه" في "كتاب اللباس" رقم 4112. والترمذيّ في "الجامع" في "كتاب الأدب" رقم 2778. وأحمد في "مسنده" في "باقي مسند الأنصار" رقم 25997.

ص: 71

والأسفار، منتقبات؛ لئلا يراهنّ الرجال، ولم يؤمر الرجال قطّ بالانتقاب لئلا يراهم النساء، فدلّ على تغاير الحكم بين الطائفتين، وبهذا احتجّ الغزاليّ على الجواز، فقال: لسنا نقول: إن وجه الرجل في حقّها عورةٌ كوجه المرأة في حقّه، بل هو كوجه الأمرد في حقّ الرجل، فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط، وإن لم تكن فتنة فلا، إذ لم يزل الرجال على ممرّ الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، فلو استووا لأُمر الرجال بالتنقّب، أو منعن من الخروج انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ذهب إليه البخاريّ، وحقّقه الغزاليّ، وأقرّه الحافظ -رحمهم اللَّه تعالى- هو الحقّ الحقيق بالقبول، حيث دلّ عليه صحيح المنقول، وما عداه، كحديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - المذكور يحمل على الاحتياط، ولا سيّما في حقّ أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد قال اللَّه تعالى:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [الأحزاب: 32]، وقد أمر اللَّه تعالى أن لا يكلّمن إلا من وراء حجاب، متجالّات كنّ، أو غير متجالّات، والحجاب عليهنّ أشدّ منه على غيرهنّ؛ لظاهر القرآن، وحديث نبهان المذكور، كما أشار إلى ذلك ابن عبد البرّ

(2)

.

وكذا قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الآية [النور: 31] محمول على الاستحباب، أو على خوف الفتنة، وإلى ذلك أشار البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- حيث قال:"من غير ريبة".

والحاصل أن نظر المرأة إلى الرجال الأجانب جائز عند أمن الخوف من الفتنة، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوَّر بالاعتساف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(ومنها): أن الخِطبة المنهيّ عنها في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يخطب على خطبة أخيه" محمول على ما إذا كان هنا ركون وميل، ومقاربة، فأما إذا لم يوجد ذلك، فلا يُمنع، فقد قالت فاطمة: إن معاوية، وأبا جهم خطباني، فلم ينكر عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، بل خطبها مع ذلك لأسامة بن زيد، حيث لم يحصل منها ميل إليهما، ولا إلى أحد منهما. (ومنها): أن من أخبر بعيب أخيه لمن استنصحه عند الخِطبة، أو نحوها ليس بمغتاب له، بل جائز، من باب النصيحة التي هي الدين، لما في "صحيح مسلم" من حديث تميم الداريّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"الدين النصحية"، قلنا: لمن؟، قال:"للَّه، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم". ولحديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -، مرفوعا:"حقّ المسلم على المسلم ستٌّ، وفيه: "وإذا استنصحك، فانصح له

" الحديث.

(1)

- "فتح" 10/ 422.

(2)

- راجع "الاستذكار" 18/ 82.

ص: 72

(ومنها): أن في قوله: "صُعلوك، لا مال له" دليلاً على أن المال من مستحقّات النكاح، وخصال الناكح، وأن الفقر من عيوبه، وأنه لو بُيِّن في العقد، أو عَرفت المرأة منه ذلك، ورضيت به جاز كسائر العيوب.

(ومنها): أن كثرة ضرب النساء عيب يمنع من النكاح، إلا إذا رضيت المرأة به، كما سبق في الذي قبله.

(ومنها): أن من أفرط في الوصف لا يلحقه الكذب، والمبالغ في النعت بالصدق لا يدركه الذمّ، ألا ترى إلى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في أبي جهم:"لا يضع عصاه عن عاتقه"، وهو قد ينام، ويُصلّي، ويأكل، ويشرب، ويشتغل بما يحتاج إليه من شغله في دنياه، وإنما أراد المبالغة في وصفه بتأديب النساء.

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: وإنما أراد المبالغة في أدب النساء باللسان واليد، وربما يحسن الأدب بمثله، كما يَصنع الوالي في رعيته. وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل أوصاه:"لا ترفع عصاك عن أهلك، وأخفهم في اللَّه عز وجل"

(1)

. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "علّق سوطك حيث يراه أهلك"

(2)

.

قال: ومعنى العصا في هذين الحديثين الإخافة والشدّة بكلّ ما يتهيّأ، ويمكن مما يَجمُلُ، ويَحسُنُ من الأدب فيما يجب الأدب فيه.

وقد قال بعض أصحابنا: إن فيه إباحة ضرب الرجل امرأته ضربًا كثيرًا؛ لأنه قصد به قصد العيب له، والضرب القليل ليس بعيب؛ لأن اللَّه تعالى قد أباحه، قال: ولَمّا لم يغيّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أبي جهم ما كان عليه من ذلك، كان في طريق الإباحة، وفيما قال من ذلك -واللَّه أعلم- نظر. قال ابن وهب: ذمُّهُ لذلك دليل على أنه لا يجوز فعله، ومن هذا قالت العرب: فلان ليّن العصا، وفلان شديد العصا، يقولون ذلك في الوالي، وما أشبهه، وقال الشاعر [من الطويل]:

لِذِي الْحِلْمِ قَبلَ الْيَوْمِ مَا تَقْرَعُ الْعَصَا

وَمَا عُلِّمَ الإِنْسَانُ إِلَّا لِيَعْلَمَا

وقال معن بن أوس، يصف راعي إبله [من الطويل]:

(1)

- ذكره الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 8/ 106 - عن ابن عمر، وقال: رواه الطبرانيّ في "الصغير" و"الأوسط" وفيه الحسن بن صالح بن حيّ، وثّقه أحمد، وغيره، وضعّفه الثوريّ وغيره.

(2)

- حديث حسنٌ أخرجه أبو نعيم من حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - بلفظ: "علّقوا السوط حيث يراه أهل البيت". وأخرجه الطبرانيّ من حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - بلفظ: "علقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنه أدبٌ لهم". انظر "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ 3/ 431 - 432 رقم - 1446 - و 1447.

ص: 73

عَلَيْهَا شَرِيبٌ وَادِعٌ لَيِّنُ الْعَصَا

يُسَائِلُهَا عَمَّا بِهِ وَتُسَائِلُهْ

وَالعرب تُسمّي الطاعة، والأُلفة، والجماعة العصا، ويقولون: عصا الإسلام، وعصا السلطان، ومن هذا قول الشاعر [من الطويل]:

إِذَا كَانَتِ الْهَيجَاءُ وَانشَقَّتِ العَصَا

فَحِسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ

ومنه قول صلة بن أشيم: إياك وقتيل العصا، يقول: إياك أن تقتل، أو تُقتل قتيلاً إذا انشقّت العصا.

والعرب أيضًا تسمّي قرار الظاعن عصًا، وقرار الأمر، واستواءه عصا، فإذا استغنى المسافر عن الظعن، قالوا: قد ألقى عصاه. وقال الشاعر [من الطويل]:

فَأَلقَتْ عَصَاهَا وَاستَقَرَّ بِهَا النَّوَى

كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالإِيَابِ الْمُسَافِرُ

ورُوي أن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - تمثّلت بهذا البيت حين اجتمع الأمر لمعاوية رضي الله عنه. انتهى كلام الحافظ ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. وهو بحث نفيس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في اعتبار الكفاءة في النكاح:

(اعلم): أنهم اختلفوا في أوصاف الكفاءة، فقال مالك في ظاهر مذهبه: إنها الدين، وفي رواية عنه: إنها ثلاثة: الدين، والحرّية، والسلامة من العيوب. وقال أبو حنيفة: هي النسب والدين. وقال أحمد في رواية عنه: هي الدين، والنسب خاصّة. وفي رواية أخرج: هي خمسة: الدين، والنسب، والحرّيّة، والصناعة، والمال، وإذا اعتبر فيها النسب، فعنه فيه روايتان: إحداهما: أن العرب بعضهم لبعض أكفاء. الثانية: أن قريشًا لا يكافئهم إلا قرشيّ، وبنو هاشم لا يكافئهم إلا هاشميّ.

وقال أصحاب الشافعيّ: يعتبر فيها الدين، والنسب، والحرّيّة، والصناعة، والسلامة من العيوب المنفّرة. ولهم في اليسار ثلاثة أوجه: اعتباره فيها، وإلغاؤه، واعتباره في أهل المدن، دون أهل البوادي. ذكر هذا كله الإمام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- في "زاد المعاد"

(2)

.

وقال في "الفتح": وقد جزم بأن اعتبار الكفاءة مختصّ بالدين مالك، ونُقل عن ابن عمر، وابن مسعود، ومن التابعين عن محمد بن سيرين، وعمر بن عبد العزيز. واعتبر الكفاءة في النسب الجمهور، وقال أبو حنيفة: قريشٌ أكفاء بعضهم بعضًا، والعرب

(1)

- "التمهيد" 19/ 161 - 162.

(2)

- "زاد المعاد" 5/ 160.

ص: 74

كذلك، وليس أحد من العرب كفأ لقريش، كما أنه ليس أحد من غير العرب كفأً للعرب. وهو وجه للشافعيّة، والصحيح تقديم بني هاشم والمطّلب على غيرهم، ومن عدا هؤلاء أكفاء بعضهم لبعض. وقال الثوريّ: إذا نكح المولى غير العربيّة يُفسخ النكاح. وبه قال أحمد في رواية. وتوسّط الشافعيّ، فقال: ليس نكاح غير الأكفاء حرامًا، فأردّ به النكاح، وإنما هو تقصير بالمرأة، والأولياء، فإذا رضوا صحّ، ويكون حقًا لهم تركوه، فلو رضوا إلا واحدًا فله فسخه، وذكر أن المعنى في اشتراط الولاية في النكاح كيلا تُضِيعَ المرأة نفسها في غير كفء. انتهى.

ونقل ابن المنذر عن البويطيّ أن الشافعيّ قال: الكفاءة في الدين. وهو كذلك في "مختصر البويطي"، قال الرافعيّ: وهو خلاف مشهور. ونقل الأبزي عن الربيع أن رجلاً سأل الشافعيّ عنه، فقال: أنا عربيّ، لا تسألني عن هذا.

قال الحافظ: ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث. وأما ما أخرجه البزّار من حديث معاذ رضي الله عنه رفعه: "العرب بعضهم أكفاء بعض، والموالي بعضهم أكفاء بعض". فإسناده ضعيف.

واحتجّ البيهقيّ بحديث واثلة مرفوعًا: "إن اللَّه اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل

" الحديث. وهو صحيح، أخرجه مسلم، لكن في الاحتجاج به لذلك نظر، لكن ضمّ بعضهم إليه حديثَ: "قدّموا قريشًا، ولا تقدّموها".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتجاج بضم هذا الحديث إلى ما قبله على اشتراط الكفاءة في النسب ساقطٌ لا اعتداد به؛ لمخالفته للأدلة الصحيحة الصريحة التي تنفي اشتراطه، كحديث الباب، فقد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فاطمة أن تنكح أسامة، فنكحته بعد تردّدت لكراهتها له، فحمدت عقباها.

وقال اللَّه عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الآية [الحجرات: 13]. وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الآية [الحجرات: 10]. وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} الآية [التوبة: 71]. وقال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} الآية [آل عمران: 195].

وقال صلى الله عليه وسلم: لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا لعجميّ على عربيّ، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم، وآدم من تراب"

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي، إن أوليائي المتّقون حيث كانوا، وأين

(1)

- رواه أحمد في "مسنده" 5/ 411 بإسناد صحيح، عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 75

كانوا" متّفق عليه.

وأخرج الترمذيّ بسنده، وحسّنه، من حديث أبي حاتم المزنيّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه، فأنكحوه، إلا تفعلوه، تكن فتنة في الأرض، وفساد كبير"، قالوا: يا رسول اللَّه، وإن كان فيه؟ فقال:"إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه" ثلاث مرّات.

وأخرج أبو داود في "سننه"، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يا بني بياضة: أَنكِحوا أبا هند، وانكحوا إليه"، وكان حجامًا.

وزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش القرشيّة من زيد بن حارثة مولاه - رضي اللَّه تعالى - عنهما، وزوّج فاطمة بنت قيس الفهريّةَ القرشيّة من أسامة ابنه، وتزوّج بلال - رضي اللَّه تعالى عنه - بأخت عبد الرحمن بن عوف، وقد قال اللَّه تعالى:{وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} الآية [النور: 26]، وقال:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [النساء: 3].

قال الإمام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن ذكر ما تقدّم: فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم اعتبار الدين في الكفاءة أصلاً، وكمالاً، فلا تُزوّج مسلمة بكافر، ولا عفيفة بفاجر، ولم يعتبر القرآن ولا السنة في الكفاءة أمرًا وراء ذلك، فإنه حرّم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث، ولم يعتبر نسبًا، ولا صناعةً، ولا غنىً، ولا حرّيّةٌ، فجوز للعبد القنّ نكاح الحرّة النسيبة الغنيّة، إذا كان عفيفًا مسلمًا، وجوّز لغير القرشيين نكاح القرشيّات، ولغير الهاشميين نكاح الهاشميّات، وللفقراء نكاح الموسرات انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الإمام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- هو عين التحقيق الذي لا ينبغي التعويل إلا عليه، ولا الرجوع إلا إليه.

والحاصل أن الكفاءة المعتبرة بين الزوجين هي الدين فقط، وما عدا ذلك من النسب، والحسب، والمال، ونحو ذلك فلا اعتداد به، فإذا رضيت المرأة الهاشميّة بأن تتزوج مولى من الموالي، فلا اعتراض لأحد عليها، وكذا الغنية إذا رضيت بالفقير، ونحو ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3224 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ رَاشِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تَبَنَّى سَالِمًا، وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ، هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَهُوَ مَوْلًى لاِمْرَأَةٍ

ص: 76

مِنَ الأَنْصَارِ، كَمَا تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا، وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلاً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، دَعَاهُ النَّاسُ ابْنَهُ، فَوَرِثَ مِنْ مِيرَاثِهِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي ذَلِكَ:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] ، فَمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ أَبٌ، كَانَ مَوْلًى، وَأَخًا فِي الدِّينِ. مُخْتَصَرٌ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمران بن بكّار بن راشد) الكلاعيّ الْبَرَّاد الحمصيّ المؤذّن، ثقة [11] 17/ 1541 من أفراد المصنّف.

2 -

(أبو اليمان) الحكم بن نافع البهرانيّ الحمصيىّ ثقة ثبت [10] 14/ 2132.

3 -

(شعيب) بن أبي حمزة دينار، أبو بشر الحمصيّ، ثقة عابد [7] 69/ 85.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم المدنيّ الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

5 -

(عروة بن الزبير) بن العوّام، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 40/ 34.

6 -

(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالحمصيين إلى شعيب، وبعده بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الزهريّ، عن عروة، وفيه أحد الفقهاء السبعة، عروة بن الزبير، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بن عَبْدِ شَمْسٍ) بن عبد مناف القرشيّ العبشميّ، اسمه: مِهْشم على المشهور. وقيل: هاشم. وقيل: غير ذلك. وهو خال معاوية بن أبي سفيان، وكان من السابقين إلى الإسلام، أسلم بعد ثلاثة وأربعين إنسانًا، وهاجر الهجرتين، وصلّى إلى القبلتين. وكان طُوَالاً حسن الوجه، استُشهد - رضي اللَّه تعالى عنه - يوم اليمامة، وهو ابن (56) سنة

(1)

.

(وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا) أي وقعتها المشهورة في السنة الثانية من الهجرة (مَعَ رَسُولِ

(1)

- راجع "الإصابة" 11/ 81.

ص: 77

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تَبَنَّى سَالِمًا) -بفتح المثنَّاة، والموحّدة، وتشديد النون، بعدها ألف-: أي اتخذه ولدًا. وسالم هو ابن معقل مولى امرأة من الأنصار، يقال لها: ليلى، ويقال: ثُبَيْتَة -بمثلّثة، ثم موحّدة، ثم مثنّاة، مصغّرًا- بنت يَعَار -بفتح التحتانيّة، ثم مهملة خفيفة-

(1)

وكانت امرأة أبي حُذيفة، كما جزم به ابن سعد. وقال ابن شاهين: سمعت ابن أبي داود يقول: هو سالم بن معقل، وكان مولى امرأة من الأنصار، يقال لها: فاطمة بنت يَعَار، أعتقته سائبةً، فوالى أبا حُذيفة.

وروى الشيخان، وغيرهما من طريق مسروق، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، رفعه:"خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل". ومن طريق ابن المبارك في "كتاب الجهاد" له، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن ابن سابط، أن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - احتبست على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما حبسك؟ "، قالت: سمعت قارئًا يقرأ، فذَكَرَتْ من حسن قراءته، فأخذ رداءه، وخرج، فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة، فقال:"الحمد للَّه الذي جعل في أمتي مثلك". وأخرجه أحمد عن ابن نمير، عن حنظلة، وابنُ ماجه، والحاكم في "المستدرك" من طريق الوليد بن مسلم: حدثني حنظلة، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عائشة موصولاً، وابن المبارك أحفظ من الوليد، ولكن له شاهد، أخرجه البزّار، عن الفضيل بن سهل، عن الوليد بن صالح، عن أبي أسامة، عن ابن جريج، عن ابن أبي مُليكة، عن عائشة بالمتن، دون القصّة، ولفظه: قالت: سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم سالمًا مولى أبي حذيفة يقرأ من الليل، فقال:"الحمد للَّه الذي جعل في أمتي مثله". ورجاله ثقات. وروى ابن المبارك أيضًا فيه: أن لواء المهاجرين

(2)

كان مع سالم، فقيل له في ذلك، فقال: بئس حامل القرآن أنا -يعني إن فررت-، فقُطعت يمينه، فأخذه بيساره، فقُطعت، فاعتنقه إلى أن صُرع، فقال لأصحابه: ما فعل أبو حذيفة؟ -يعني مولاه- قيل: قُتل، قال: فانتجعوني

(3)

بجنبه، فأرسل عمر ميراثه إلى مُعتِقَتِه بثينة، فقالت: إنما أعتقته سائبة، فجعله في بيت المال. وذكر ابن سعد أن عمر أعطى ميراثه لأمه، فقال: كُلِيه.

وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم رُوي عنه شيء. وتُعُقّب بأنه رُوي عنه حديثان، ذكرهما

(1)

- هكذا ضبطه في "الفتح" في "كتاب المغازي" 8/ 49. فما وقع في بعض نسخ "الإصابة" "بُثينة" بموحدة، فمثلثة، فنون فإنه تصحيف. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

- أي في وقعة اليمامة في عهد أبي بكر رضي الله عنه.

(3)

- أي اجعلوني بجواره في قبره.

ص: 78

في "الإصابة"

(1)

، وقال: في السندين جميعًا ضعف، وانقطاع، فيحمل كلام ابن أبي حاتم على أنه لم يصحّ عنه شيء.

(2)

.

(وَأَنْكَحَهُ) أي زوّجه (ابْنَةَ أَخِيهِ) -بفتح الهمزة، وكسر الخاء المعجمة، ثم تحتانيّة، على الصحيح، وحكى ابن التين أن في بعض الروايات بضم الهمزة، وسكون الخاء، ثم مثنّاة، وهو غلط (هِنْدَ) كذا في هذه الرواية، ووقع عند مالك:"فاطمة"، فلعلّ لها اسمين. قاله في "الفتح". زاد في الرواية التالية:"وكانت هند بنت الوليد بن عتبة من المهاجرات الأُوَل، وهي من أفضل أيامَى قريش".

وقال في "الفتح": وسمّيت هند هذه باسم عمّتها هند بنت عتبة. قال الدمياطيّ: رواه يونس، ويحيى بن سعيد، وشُعيب، وغيرهم، عن الزهريّ، فقالوا:"هند". وروى مالك عنه، فقال:"فاطمة". واقتصر أبو عمر في الصحابة على فاطمة بنت الوليد، فلم يُترجم لهند بنت الوليد، ولا ذكرها محمد بن سعد في الصحابة. ووقع عنده فاطمة بنت عتبة، فإما نسبها لجدّها، وإما كانت لهند أختٌ اسمها فاطمة. وحكى أبو عمر عن غيره أن اسم جدّ فاطمة بنت الوليد المغيرة، فإن ثبت فليست هي بنت أخي أبي حذيفة. ويمكن الجمع بأن بنت أبي حذيفة كان لها اسمان. واللَّه أعلم انتهى

(3)

(بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ) والوليد هذا أحد من قُتل ببدر كافرًا (وَهُوَ) أي سالم (مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنً الأَنْصَارِ) سبق آنفًا أن اسمها ليلى، وقيل: ثُبَيْتَة، وقيل: فاطمة بنت يَعار (كَمَا تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا) أي ابن حارثة بن شَراحيل الكلبيّ، أبا أسامة، مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، شهد المشاهد كلها، وكان من الرُّمَاة المذكورين.

كان زيد فيما رُوي عن أنس بن مالك، وغيره مَسبيًّا من الشام، سبته خيلٌ من تهامة، فابتاعه حكيم بن حزام بن خُويلد، فوهبه لعمته خديجة، فوهبته خديجة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعتقه، وتبنّاه، فأقام عنده مدّةً، ثم جاء عمه، وأبوه يرغبان في فدائه، فقال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم وذلك قبل البعث-:"خيّراه، فإن اختاركما، فهو لكما دون فداء"، فاختار الرّقّ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على حرّيّته وقومه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند ذلك:"يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه"، وكان يطوف على حِلَق قريش يُشهدهم على ذلك، فرضي ذلك عمه وأبوه، وانصرفا

(4)

.

(1)

- راجع "الإصابة" 4/ 104.

(2)

- راجع "الإصابة" 4/ 103 - 106.

(3)

- "فتح" 8/ 49 "كتاب المغازي".

(4)

- "تفسير القرطبيّ" 14/ 118 تفسير سورة الأحزاب.

ص: 79

روى عن النبيّ- صلى الله عليه وسلم. وعنه ابنه أسامة، والبراء بن عازب، وابن عباس. آخى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة بن عبد المطّلب. وقال ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: ما كنّا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى أنزل القرآن:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5].

وعن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: ما بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سريّة إلا أمره عليهم، ولو بقي لاستخلفه. أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد قويّ. وعن سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه قال: غزوت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم -سبع غزوات، ومع زيد بن حارثة سبع غزوات يؤمره علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاريّ. ولم يقع في القرآن تسمية أحد باسمه إلا هو باتفاق.

استُشهد يوم مؤتة سنة ثمان من الهجرة، وهو ابن (55) سنة، ونعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه في اليوم الذي قُتل فيه، وعيناه تذرفان

(1)

.

(وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلاً فِي الجَاهِلِيَّةِ) أي في الفترة التي قبل الإسلام (دَعَاهُ النَّاسُ ابْنَهُ) أي يسمون ابن فلان للذي تبنّاه. ولفظ البخاريّ، وهو الذي في "الكبرى":"دعاه الناس إليه"، أي نسبوه إلى ذلك الرجل الذي تبناه، دون أبيه النسبيّ (فَوَرِثَ مِنْ مِيرَاثِهِ، حَتَّى أَنزَلَ اللَّه عز وجل فِي ذَلِكَ) وفي الرواية التالية: "فلما أنزل اللَّه عز وجل في زيد بن حارثة"({ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ}) أي أعدل ({عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}) أي فنسخ اللَّه تعالى ذلك بهذه الآية، ورفع حكم التبنّي، ومنع إطلاق لفظه، وأرشد إلى أن الأولى والأعدل أن ينسب الرجل إلى أبيه نسبًا، يقال: كان الرجل إذا أعجبه من الرجل جَلَده، وظَرفه ضمّه إلى نفسه، وجعل له نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان ينسب إليه، فيقال: فلان بن فلان. وقال النحّاس: هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التبنّي، وهو من نسخ السنة بالقرآن، فأمر أن يَدعُوا من دعوا إلى أبيه المعروف، فإن لم يكن له أبٌ معروف نسبوه إلى وَلائه، فإن لم يكن له ولاء معروفٌ قال له: يا أخي -يعني في الدين-. قال اللَّه تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الآية [الحجرات: 10]

(2)

.

(فَمَنْ لَمْ يُعْلَم لَهُ أَبٌ، كَانَ مَوْلى، وَأَخًا فِي الدِّينِ) أي يُدعَى باسم المولى، واسم الأخ في الدين، فيقال: يا مولاي، أو يا مولى فلان، أو يا أخي.

(مُخْتَصَرٌ) خبر لمحذوف، أي هذا الحديث مختصر من حديث طويل، وقد ساقه

(1)

- راجع "الإصابة" 4/ 47 - 48. و"تهذيب التهذيب" 1/ 661.

(2)

- "تفسير القرطبيّ" 14/ 119.

ص: 80

بتمامه أبو داود -رحمه اللَّه تعالى- في "سننه" من طريق يونس، عن الزهريّ، ولفظه: فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي، ثم العامري، وهي امرأة أبي حذيفة، فقالت: يا رسول اللَّه، إنا كنا نرى سالما ولدًا، وكان يأوي معي، ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فُضْلاً

(1)

، وقد أنزل اللَّه عز وجل فيهم، ما قد عَلمتَ، فكيف ترى فيه؟، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"أرضعيه"، فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة، فبذلك كانت عائشة رضي الله عنها، تأمر بنات أخواتها، وبنات إخوتها، أن يُرضِعن من أحبتِ عائشة أن يراها، ويدخل عليها، وإن كان كبيرا، خمس رضعات، ثم يدخل عليها، وأبَتْ أم سلمة، وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدخِلْنَ عليهن بتلك الرضاعة أحدا من الناس، حتى يَرضَع في المهد، وقلن لعائشة: واللَّه ما نَدرِي لعدها كانت رخصة من النبيّ صلى الله عليه وسلم، دون الناس.

وسيذكر المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- جزء تمام الحديث بأسانيد مفردة في "كتاب الرضاع" - "باب رضاع الكبير" -53/ 3320 و 3321 و 3322 و 3323 و 3324 و 3325 و 3326 وسنذكُرُ شرحَهُ، وما يتعلّق به من المسائل هناك، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-8/ 3224 و 3225 - وفي "الكبرى" 8/ 8/ 5333 و 5334. وأخرجه (خ) في "المغازي" 4000 و"النكاح" 5088 (د) في "النكاح" 2061 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 25121 و 25385 و 25798 "الموطّأ" في "الرضاع" 1288 (الدارميّ) في "النكاح" 2257. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان أن المعتبر في الكفاءة الدين، لا النسب، ولا غيره؛ لأن أبا حذيفة رضي الله عنه زوّج مولاه سالمًا أخته هند بنت الوليد بن عقبة، وهو قرشيّة شريفة النسب، فدلّ أن المعتبر هو الدين، لا غير، وهذا هو الحقّ، كما تقدّم تحقيقه في المسألة الرابعة من الحديث الماضي.

(1)

- "الفُضْل" بضم، فسكون-: أي مبتذلة في ثياب المهنة.

ص: 81

(ومنها): بيان سبب نزول الآية المذكورة، وأنها ناسخة لما كان في الجاهليّة وأوّل الإسلام من التبنّي، ومُحرِّمة أن يُدعى الشخص باسم من تبنّاه، بل يُردّ إلى أبيه الحقيقيّ. قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: لو نسبه إنسان إلى أبيه من التبنّي، فإن كان على جهة الخطإ، وهو أن يسبق لسانه إلى ذلك من غير قصد، فلا إثم، ولا مؤاخذة؛ لقوله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} الآية [الأحزاب: 5]. وكذلك لو دعوتَ رجلاً إلى غير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه، فليس عليك بأس. قاله قتادة.

ولا يجري هذا المجرى ما غلب عليه اسم التبنّي، كالحال في المقداد بن عمرو، فإنه كان غلب عليه نسب التبنّي، فلا يكاد يُعرف إلا بالمقداد بن الأسود، فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبنّاه في الجاهليّة، وعُرف به، فلما نزلت الآية قال المقداد: أنا ابن عمرو، ومع ذلك فبقي الإطلاق عليه، ولم يُسمع فيمن مضى من عَصَّى مُطْلِقَ ذلك عليه، وإن كان متعمّدًا. وكذلك سالم مولى أبي حذيفة، كان يُدعى لأبي حذيفة، وغير هؤلاء، ممن تُبُنّي، وانتُسب لغير أبيه، وشُهر بذلك، وغلب عليه.

وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة، فإنه لا يجوز أن يقال فيه: زيد بن محمد، فإن قاله أحد متعمدًا عصى؛ لقوله تعالى:{وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ، أي فعليكم الجناح. واللَّه أعلم. ولذلك قال بعده:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي "غفورًا" للعمد، "رحيمًا" برفع إثم الخطإ. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

(ومنها): أن من لم يُعرف أبوه يقال له في النداء: يا مولى فلان، إن كان من الموالي، ويا أخي، إن كان من غيرهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3225 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، قَالَ: قَالَ: يَحْيَى -يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ- وَأَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأُمِّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تَبَنَّى سَالِمًا، وَهُوَ مَوْلًى لاِمْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، كَمَا تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَأَنْكَحَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ سَالِمًا، ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدَ ابْنَةَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَتْ هِنْدُ بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَفْضَلِ أَيَامَى قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ:

(1)

- "تفسير القرطبيّ" 14/ 120. تفسير سورة الأحزاب.

ص: 82

{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] رُدَّ كُلُّ أَحَدٍ، يَنْتَمِى مِنْ أُولَئِكَ إِلَى أَبِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ أَبُوهُ رُدَّ إِلَى مَوَالِيهِ).

رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، "محمد بن نصر" الفرّاء النيسابوريّ [11] فإنه من أفراده، ووثّقه هو، وروى عنه في موضعين: هذا- 8/ 3225 و-79/ 3382 - فقط.

و"أيوب بن سليمان": هو القرشيّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقة [9] 30/ 558. و"أبو بكر بن أبي أويس": هو عبد الحميد بن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أويس الأصبحيّ، مشهور بكنيته كأبيه، ثقة [9] 30/ 558. و"سليمان بن بلال": هو والد أيوب المذكور التيميّ المدنيّ، ثقة [8] 30/ 558. و"يحيى بن سعيد": هو الأنصاريّ المدنيّ القاضي الثقة الثبت [5] 22/ 23.

وقوله: "وأخبرني ابن شهاب الخ" مقول "قال يحيى الخ"، فيحيى بن سعيد الأنصاريّ يروي هذا الحديث عن ابن شهاب.

وقوله: "وابن عبد اللَّه بن ربيعة" هكذا في رواية المصنّف هنا، وفي "الكبرى""ابن ربيعة"، والذي يظهر أنه غَلَطٌ، والصواب "ابن أبي ربيعة".

قال الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ -رحمه اللَّه تعالى-بعد أن ذكر هذا-: ما نصّه: كذا عنده، وابن عبد اللَّه بن ربيعة"، وأظنه "ابن أبي ربيعة"، وهو الحارث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة المخزوميّ. واللَّه أعلم.

وعلّق الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- على كلام المزّيّ هذا: ما نصّه: قلت: خالف ذلك في "التهذيب "، فذكر عن الذهليّ أنه "إبراهيم بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة". قلت: وهذا هو المعتمد انتهى كلام الحافظ

(1)

.

وقال في "الفتح": ووقع عند الإسماعيليّ من طريق فيّاض بن زُهير، عن أبي اليمان فيه مع عروة "أبو عائذ اللَّه بن ربيعة"، وعائشة "أم سلمة"، وقال في آخره: لم يذكرهما البخاريّ في إسناده.

قال الحافظ: وقد أخرجه النسائيّ

(2)

عن عمران بن بكّار، عن أبي اليمان مختصرًا، كرواية البخاريّ. وأخرجه البخاريّ في غزوة بدر من طريق عُقيل، عن الزهريّ كذلك، واختصر المتن أيضًا.

(1)

- راجع "النكت الظراف" 12/ 100.

(2)

هي الرواية التي قبل هذه الرواية رقم 3224.

ص: 83

وأخرجه النسائيّ

(1)

من طريق يحيى بن سعيد، عن الزهريّ، فقال: عن عروة، وابنِ عبد اللَّه بن أبي ربيعة

(2)

، كلاهما عن عائشة، وأمّ سلمة.

وأخرجه أبو داود من طريق يونس كما ترى. وأخرجه عبد الرزّاق، عن معمر. وأخرجه النسائيّ من طريق جعفر بن ربيعة، والذهليّ من طريق ابن أخي الزهريّ، كلهم عن الزهريّ، كما قال عُقيل. وكذا أخرجه مالك، وابن إسحاق عن الزهريّ، لكنه عند أكثر الرواة عن مالك مرسلٌ. وخالف الجميع عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن الزهريّ، فقال: عن عروة، وعمرة، كلاهما عن عائشة. أخرجه الطبرانيّ.

قال الذهليّ في "الزهريّات": هذه الروايات كلها عندنا محفوظة، إلا رواية ابن مسافر، فإنها غير محفوظة، أي ذكر عمرة في إسناده. قال: والرجل المذكور مع عروة، لا أعرفه إلا أنّني أتوهّم أنه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة، فإن أمه أم كلثوم بنت أبي بكر، فهو ابن أخت عائشة، كما أن عروة ابن أختها، وقد روى عنه الزهريّ حديثين غير هذا. قال: وهو برواية يحيى بن سعيد أشبه، حيث قال: ابنُ عبد اللَّه بن أبي ربيعة، فنسبه لجدّه. وأما قول شعيب: أبو عائذ اللَّه، فهو مجهول. قال الحافظ: لعلها كنية إبراهيم المذكور. وقد نقل المزّيّ في "التهذيب" قول الذهليّ هذا، وأقرّه، وخالف في "الأطراف"، فقال: أظنّه الحارث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة. يعني عمّ إبراهيم المذكور.

قال الحافظ: والذي أظنّ أن قول الذهليّ أشبه بالصواب. ثم ظهر لي أنه أبو عبيدة ابن عبد اللَّه بن زمعة، فإن هذا الحديث بعينه عند مسلم، من طريقه، من وجه آخر، فهذا هو المعتمد، وكأن ما عداه تصحيف. واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام الحافظ

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فتحصّل من مجموع ما ذُكر أن "ابن عبد اللَّه بن أبي ربيعة" -على ما قالوا- هو أحد الثلاثة، إما:

1 -

(إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة)، كما قاله الذهليّ، وتبعه المزّيّ في "تهذيب الكمال"، ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال ابن خلفون: ثقة مشهور. وقال ابن القطّان. لا يُعرف له حال. وقال في "التقريب": مقبول من الثالثة. وإما:

2 -

(الحارث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة) بن المغيرة، أمير الكوفة، المعروف بـ"الْقُبَاع"

(1)

- يعني هذه الرواية رقم 3225.

(2)

- هكذا في "الفتح""ابن أبي ربيعة"، والذي في نسخ المصنّف "ابن ربيعة" بإسقاط لفظة "أبي"، والظاهر أنه تصحيف، كما مرّ قريبًا.

(3)

- "فتح" 10/ 167.

ص: 84

-بضم القاف، وتخفيف الموحّدة- كما ظنّه المزّيّ في "الأطراف"، وهو صدوق [2] 77/ 2395. وإما:

3 -

(أبو عبيدة بن عبد اللَّه بن زمعة) بن الأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العُزّى القرشيّ الأسديّ -كما رجحه الحافظ- قال عنه في "التقريب": مقبول [3].

قال الجامع: في هذا الأخير نظر لا يخفى، بل الذي يظهر أنه خطأ، فإن الذي في سند مسلم، وهو أيضًا في سند المصنّف الآتي في "كتاب الرضاع" رقم -53/ 3326 - هو أبو عبيدة بن عبد اللَّه بن زمعة، يروي عن أمه زينب بنت أم سلمة، عن أمها، والمبهم الذي وقع فيه النزاع في سند الباب هو ابن عبد اللَّه بن أبي ربيعة، فبينهما اختلاف في الجدّ، وهو أيضًا هنا يروي عن عائشة، وأم سلمة بدون واسطة، وهناك روى عن جدّته بواسطة أمه، فكيف صحّ للحافظ ترجيح أنه أبو عبيدة، هذا شيء غريب؟. بل الذي رجحه الإمام الذهليّ -رحمه اللَّه تعالى- هو الذي يظهر لي.

والحاصل أن ابن عبد اللَّه بن أبي ربيعة المبهم هنا أقرب ما يفسّر به هو إبراهيم بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة، كما جنح إليه الإمام الذهليّ -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

وقوله: "من أفضل أيامى قريش الخ" هذا هو محلّ استدلال المصنّف لما ترجم له، فإنه صريح في كون المعتبر في الكفاءة هو الدين، فإن هذه المرأة قرشيّة، من أفضل أيامى قريش، وزوّجها عمها لمولى من الموالي، وأقرّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، كما أقرّ غيره، فدلّ على ما ذكرنا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌9 - (الْحَسَبُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا الباب هو الردّ على من اعتبر الكفاءة بالمال أيضًا، فإن حديث الباب فيه ذمّ الميل إلى المال؛ لأن ذلك هو مذهب أهل الدنيا، لا مذهب أهل الدين، فلا اعتبار به، كما أنه بين في الباب الماضي أن النسب غير معتبر في الكفاءة؛ لأن الصحابيات العربيات القرشيات تزوّجن موالي، فكذلك لا اعتبار بالمال أيضًا، فيجوز أن يتزوّج الفقير الغنيّة. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 85

و"الحسّب -بفتحتين-: أصله الشرف بالآباء، وما يعدّه الإنسان من مفاخرهم، وجمعه أحساب. قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: "الحسَب -بفتحتين-: ما يُعدّ من المآثر، وهو مصدرُ حَسُبَ، وزانُ شَرُفَ شَرَفًا، وكَرُمَ كَرَمًا. قال ابن السّكِّيت: الحسَبُ، والكَرَمُ يكونان في الإنسان، وإن لم يكون لآبائه شرَفٌ، ورجلٌ حَسِيبٌ: كَرِيم بنفسه. قال: وأما المجد، والشَّرَفُ فلا يوصف بهما الشخص، إلا إذا كانا فيه، وفي آبائه. وقال الأزهريّ: الحسَبُ: الشَّرَفُ الثابتُ له، ولآبائه. قال: وقوله صلى الله عليه وسلم: "تُنكح المرأة لحسَبِها" أحوجَ أهلَ العلم إلى معرفة الحسَب؛ لأنه مما يُعتبر في مهر المثل، فالحسَبُ انفَعَالُ له، ولآبائه، مأخوذٌ من الحِسَاب، وهو عَدُّ المناقب؛ لأنهم كانوا إذا تفاخروا حَسَبَ كلُّ واحد مناقبه، ومناقب آبائه، ومما يشهد لقول ابن السّكّيت قول الشاعر [من الطويل]:

وَمَن كَانَ ذَا نَسْبٍ

(1)

كَرِيمٍ وَلَمْ يَكُنْ

لَهُ حَسَبٌ كَانَ اللَّئِيمَ الْمُذمَّمَا

جعل الحسب فَعَالَ الشخص، مثل الشجاعة، وحسن الخلُق، والجود. ومنه قوله:"حسَبُ المرء دِينُهُ" انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3226 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحْسَابَ أَهْلِ الدُّنْيَا، الَّذِي يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ الْمَالُ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدَّوْرَقيّ، أبو يوسف البغداديّ الثقة الحافظ [10] 21/ 22.

2 -

(أبو تُميلة) -بمثنّاة، مصغّرًا-: هو: يحيى بن واضح الأنصاريّ مولاهم المروزيّ، مشهور بكنيته، ثقة، من كبار [9] 27/ 1585.

3 -

(حسين بن واقد) أبو عبد اللَّه المروزيّ القاضي، ثقة له أوهام [7] 5/ 463.

4 -

(ابن بُريدة) هو: عبد اللَّه بن بُريدة المروزيّ القاضي ثقة [3] 25/ 393.

5 -

(أبوه) هو: بُريدة بن الحُصيب الأسلميّ الصحابيّ المشهور، مات - رضي اللَّه تعالى عنه - سنة (63)، وتقدم في 101/ 133. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم

(1)

- بسكون السين المهملة للوزن.

ص: 86

رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمراوزة، غير شيخه، فإنه بغداديّ. (ومنها): أن شيخه هو أحد التسعة الذين روى عنهم الأئمة الستة، أصحاب الأصول بدون واسطة، وتقدّموا غير مرّة، وفيه رواية الابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ) عبد اللَّه (ابْنِ بُرَيدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) بُريدة بن الْحُصيب - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَحْسَابَ أَهْلِ الدُّنْيا) أي فضائلهم (الَّذِي) هكذا وقع عند المصنّف، وابن حبّان، والحاكم بلفظ "الذي" وهو الوجه، ووقع في "مسند الإمام أحمد" بلفظ:"الذين". قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: كذا وقع في أصلنا من مسند الإمام أحمد، وصوابه "الذي يذهبون إليه"، وكذا رواه النسائيّ، وابن حبّان، والحاكم، والوجه أن أحساب أهل الدنيا التي يذهبون إليها، فيؤتى بوصف الأحساب مؤنثا؛ لأن المجموع مؤنّثة، وكأنه روعي في التذكير المعنى، دون اللفظ. وأما "الذين" فلا يظهر له وجهٌ؛ لأنه ليس وصفًا لأهل الدنيا، وإنما هو وصفٌ لأحسابهم، إلا أن يكون اكتسب ذلك منه للمجاورة، كاكتساب الإعراب من المجاور في قوله تعالى:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، وفي قوله:"جُحْرُ ضبّ خَرِبٍ"، في أمثلة لذلك معروفة.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا قال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ، وفيه نظر، بل الذي مثّلوا به -على ما قيل- قوله تعالى:{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، في قراءة الجرّ، عطفًا على "رؤوسكم" من قوله:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، وإن كانت الأرجل من المغسولات، لكن جرّت للمجاورة. فليُتنبّه.

(يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ) أي يميلون إليه، ويعتمدون عليه (الْمَالُ) بالرفع خبر "إنّ". ولفظ أحمد:"هذا المال". يعني أن فضائلهم التي يرغبون فيها، ويميلون إليها، ويعتمدون عليها في النكاح وغيره هو المال، ولا يعرفون شرفًا آخر، مساويًا له، بل ولا مدانيًا له أيضًا، لا علمًا، ولا دينًا، ولا ورَعًا، وهذا هو الذي صدّقه الوجود، فصاحب المال عندهم عزيز كيفما كان؟، والفقير عندهم ذليلٌ كيفما كان؟. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث بريدة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيحٌ، وهو من أفراد المصنّف رحمه الله تَعَالَي-، أخرجه هنا-9/ 3226 - وفي "الكبرى" 9/ 5335. وأخرجه (أحمد) في "باقي

ص: 87

مسند الأنصار" 22481 و 22550 (ابن حبان) في "صحيحه" 1233 و 1234 (الحاكم) في "المستدرك" 2/ 163 (البيهقيّ) في "سننه" 7/ 135. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): قال الحافظ وليّ الدين: هذا الحديث يحتمل أن يكون خرج مخرج الذّمّ لذلك؛ لأن الأحساب إنما هي بالأنساب، لا بالمال، فصاحب النسب العالي هو الحسيب، ولو كان فقيرًا، والوضيع في نسبه ليس حسيبًا، ولو كان ذا مال. ويحتمل أن يكون خرج مخرج التقرير له، والإعلام بصحّته، وإن تفاخر الإنسان بآبائه الذين انقرضوا مع فقره لا يُحَصِّلُ له حَسَبًا، وإنما يكون حسبه وشرفه بماله، فهو الذي يرفع شأنه في الدنيا، وإن لم يكن طيّب النسب. ويدلّ للاحتمال الثاني ما رواه الترمذيّ، وابن ماجه، والحاكم في "مستدركه" من حديث قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الحسَبُ المال، والكرم التقوى"

(1)

. قال الترمذيّ: حسن صحيح، غريبٌ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.

وقد ذكر بعضهم أن الحسب والكرم يكونان في الرجل، وإن لم يكن له آباء لهم شرف، والشرف والمجد لا يكونان إلا بالآباء.

وروى الحاكم في "مستدركه" من حديث مسلم بن خالد، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كرم المؤمن دينه، ومروءته عقله، وحسَبه خلقه". وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم

(2)

.

وقال في "الفتح": وأما ما أخرجه أحمد، والنسائيّ، وصححه ابن حبّان من حديث بُريدة رضي الله عنه، رفعه:"إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المال". فيحتمل أن يكون المراد أنه حَسَبُ مَن لا حَسَبَ له، فيقوم النسب الشريف لصاحبه مقام المال لمن لا نسب له. ومنه حديث سمرة رضي الله عنه، رفعه:"الحسَبُ المال، والكرم التقوى". أخرجه أحمد، والترمذيّ، وصححه هو، والحاكم. وبهذا الحديث تمسّك من اعتبر الكفاءة بالمال.

أو أن من شأن أهل الدنيا رفعة من كان كثير المال، ولو كان وضيعًا، وضَعَةُ من كان

(1)

- أخرجه الترمذيّ في "الجامع" في "التفسير" برقم 3271 - وفيه عنعنة قتادة، والحسن، وفي سماع الحسن من سمرة الخلاف المشهور، إلا أن حديث بريدة المذكور في الباب يشهد له، فيتقوى به، ولذا لا يبعد تصحيح من صححه. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

- بل هو ضعيف؛ لضعف مسلم بن خالد الزنجيّ، وقد تعقّب الذهبيّ الحاكم، فقال: الزنجيّ ضعيف. راجع "المستدرك" 1/ 123 و 2/ 162.

ص: 88

مُقلًّا، ولو كان رفيع النسب، كما هو موجودٌ مشاهدٌ. فعلى الاحتمال الأول يمكن أن يؤخذ من الحديث اعتبار الكفاءة بالمال، لا على الثاني؛ لكونه سيق في الإنكار على من يفعل ذلك انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الصواب عندي أن الحديث سيق لبيان ما هو الحاصل في واقع الناس، ومجتمعهم، وذلك أنهم يعتمدون على المال، ويفتخرون به، وأن ذلك غير معتبر شرعًا، فهو كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} إلى أن قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، فقد أخبر اللَّه تعالى بحكمة خلقه الناس ذكرًا وأنثى، وجعلهم شعوبًا وقبائل، وذلك للتعارف، لا للتفاخر والتناحر، ثم أخبر بأن الرفعة عنده لا تكون من هذه الجهة، وإنما هي من جهة التقوى فقط، فمن اتقى فهو أكرم عند اللَّه، وإن كان وضيع النسب، ومن لم يتّق، فهو أهون على اللَّه، وإن كان شريف النسب، فلا اعتبار بالأنساب دون التقوى.

وكذلك هنا أن الفخر السائد بين الناس هو الفخر بالمال، ولكنه ليس معتبرًا في الشرع إلا إذا كان مع التقوى، والقيام بأداء واجبات المال، وهذا -واللَّه أعلم-أيضًا معنى حديث سمرة رضي الله عنه:"الحسب المال، والكرم التقوى". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): قال الحافظ وليّ أيضًا: ويترتب على هذين الاحتمالين أن المال هل هو معتبر في كفاءة النكاح حتى لا يكون الفقير كفؤًا للغنيّة، أو ليس معتبرًا، فإن الحسب ليس هو المال، وإنما هو النسب، إن جعلناه ذمًّا دلّ على أن المال غير معتبر، وإن جعلناه تقريرًا اعتبرناه، وفي ذلك خلاف لأصحابنا الشافعيّة، والأصحّ عندهم عدم اعتباره، وقد فهم النسائيّ من هذا الحديث هذا المعنى في الجملة، فأورده في "سننه" في "كتاب النكاح"، وبوب عليه "الحسَب". انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "وإنما هو النسب الخ" فيه نظر، وإنما الحقّ أن يفسر الحسب الشرعيّ بالدين، لا بالنسب، كما مرّ تقريره آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- "فتح" 10/ 168 - 169. "كتاب النكاح".

(2)

- "طرح التثريب" 7/ 20 - 21.

ص: 89

‌10 - (عَلَى مَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ؟)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أشار المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا الباب بعد أن أشار في البابين السابقين أنه لا اعتبار في الكفاءة في النكاح بالنسب، والحسب أن المعتبر فيه شرعًا هو الدين، لا غير، فإذا كان بين الزوجين كفاءة في الدين فقد حصل المقصود، فتزوّج العربية من الموالي، والغنية من الفقير، وذات الجمال من الدميم، وذات الحسب ممن ليس ذا حسب، وهكذا.

و"ما" استفهاميّة، والغالب أنها إذا جُرّت تحذف ألفها تخفيفًا، كقوله تعالى:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1]، وقوله:{مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5]، وبوقف عليها بهاء السكت، كما قال في "الخلاصة":

وَمَا فِي الاسْتِفهَامِ إِنَّ جُرَّت حُذِفْ

أَلِفُهَا وَأَوّلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ

وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا كَعِ أَوْ

كَيَعِ مَجْزُومًا فَرَاعِ مَا رَعَوْا

لكن ورد إثباتها بقلّة، كقراء بعضهم:{عَما يتساءلون} ، وقول حسّان [من الوافر]:

عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ

كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادٍ

وعليه تُحمل ترجمة المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3227 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «أَتَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ؟» ، قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: «بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟» ، قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا، قَالَ: «فَهَلاَّ بِكْرًا، تُلَاعِبُكَ» ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كُنَّ لِي أَخَوَاتٌ، فَخَشِيتُ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُنَّ، قَالَ: «فَذَاكَ إِذًا، إِنَّ الْمَرْأَةَ تُنْكَحُ عَلَى دِينِهَا، وَمَالِهَا، وَجَمَالِهَا، فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو ثقة حافظ. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ. و"عبد الملك": هو ابن أبي سليمان ميسرة العرزميّ الكوفيّ، صدوق له أوهام [5] 7/ 406. و"عطاء": هو ابن أبي رباح.

والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم في 6/ 3220 و 3221 - وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعها تستفد.

ص: 90

وقوله: "كنّ لي أخوات" هذا على لغة أكلوني البراغيث، من إسناد الفعل المشتمل على ضمير الجماعات إلى الاسم الظاهر، فإن اللغة الفصحى أن يقول:"كان لي أخوات"، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:

وَجَرِّدِ الفِعلَ إِذَا مَا أُسْنِدَا

لاثْنَينِ أَو جَمْعٍ كَفَازَ الشُّهَدَا

وَقَد يَقَالُ سَعِدَا وَسَعِدُوا

وَالفِعلُ لِلظَّاهِير بَعْدُ مُسْنَدُ

وقوله: "أن تدخل بيني وبينهنّ" ببناء الفعل للفاعل، أي تتدخّل تلك البكر لصغرها، وخفّة عقلها بيني وبين أخواتي، فتورث الفتن، وتؤدّي إلى الفراق.

وقوله: "فذاك" مبتدأ خبره محذوف، أي أولى، أو خير، يعني أن الذي فعلته من أخذ الثيّب بدل البكر أحسن وأولى، أو خيرٌ.

وقوله: "إذن" هي "إذا" الشرطيّة، حذف فعل شرطها، وعُوّض عنه التنوين، أي إذا كان للغرض الذي أخبرت به، من ترتب مصالح أخواتك على الثّيب دون البكر فالذي فعلته خير، وأولى، وأحسن.

وقوله: "تُنكح المرأةُ" ببناء الفعل للمفعول. وقوله" على دينها الخ" أي لأجل دينها، فـ"على" بمعنى اللام. والمراد أن الناس يُراعون هذه الخصال في المرأة عند إرادة نكاحها، ويرغبون فيها لأجلها، وآخرها عندهم ذات الدين، ولم يُرد بذلك الأمرَ بمراعاتها، كما أرشد إليه قول:"فعليك الخ".

وقوله: "فعليك بذات الدين""عليك" اسم فعل أمر بمعنى "خذ"، أي خذ أيها المسترشد ذات الدين، واطلبها، واظفر بها، لا غيرَها، حتى تفوز بخير الدنيا والآخرة. وقوله:"تربت يداك" -بكسر الراء من باب تَعِب: إذا افتقر، فلصِقَ بالتراب، وهذه كلمة تجري على لسان العرب في مقام المدح والذّمّ، ولا يُراد بها الدعاء على المخاطب دائمًا، وقد يراد بها الدعاء أيضًا، والمراد بها هنا إما المدح، أي اطلب ذات الدين أيها العاقل الذي يُحسَدُ عليك لكمال عقلك، فيقول الحاسد حسدًا: تربت يداك، أو الذّمّ، أو الدعاء عليه، بتقدير إن خالفت هذا الأمر.

وفي هذا الحديث: الحثّ على مصاحبة أهل الدين في كلّ شيء؛ لأن من صاحبهم يستفيد من أخلاقهم، وبركتهم، وحسن طريقتهم، ويأمن المفسدة من جهتهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 91

‌11 - (كَرَاهِيَةُ تَزْوِيجِ الْعَقِيم)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "العَقيم": هو الذي لا يولد له، يُطلق على الذكر والأنثى، وعَقِمَتِ الرَّحِمُ عَقَمًا، من باب تَعِبَ، ويتعدَّى بالحركة، فيقال: عَقَمَها اللَّه عَقْمًا، من باب ضرب، والاسم الْعُقْم، مثلُ قُفْل، ويُجمع الرجل على عُقَمَاء، وعِقَام، مثلُ كَريم، وكُرَماء، وكِرَام، وتُجمَع المرأة على عَقَائِم، وعُقُم -بضمّتين-. قاله الفيّوميّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3228 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُسْتَلِمُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً، ذَاتَ حَسَبٍ، وَمَنْصِبٍ، إِلاَّ أَنَّهَا لَا تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ ، فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَنَهَاهُ، فَقَالَ: «تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبد الرحمن بن خالد) القطّان الواسطيّ، ثم الرَّقّيّ، صدوق [11] 7/ 753.

2 -

(يزيد بن هارون) السلمي مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقة متقن عابد [9] 153/ 244.

3 -

(المستلم بن سعيد) الثقفيّ الواسطيّ، صدوق عابد ربما وهم [9].

قال حربٌ عن أحمد: شيخٌ ثقةٌ من أهل واسط، قليل الحديث. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: صُويلحٌ. وقال عباس الدَّوريّ، عن ابن معين: حدثنا حجاج الأعور، قال: قيل لشعبة: إن مستلم بن سعيد خالفك في حرف، قال: ما كنت أظنّ أن ذاك يحفظ حديثين. قال يحيي: والقول قول المستلم، وصحّف شعبة. قال عبّاس: وسمعت يزيد بن هارون يقول: كان مستلم عندنا ها هنا بواسط، وكان لا يشرب إلا في كلّ جمعة

(1)

. وقال الحسن بن عليّ، عن يزيد بن هارون: مكث المستلم أربعين سنة لا يضع جنبه على الأرض

(2)

. وقال النسائيّ: ليس فيه بأس. وذكره ابن حبّان في

(1)

في المدح بمثل هذا نظر لا يخفى، فإنّ خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فتأمل بدقَّة. واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(2)

هذا نظير ما قبله، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام، ويصلي، ويأكل ويشرب ويصوم، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، واللَّه الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 92

"الثقات"، وقال: ربما خالف. وقال أسلم في "تاريخ واسط": قال أصبغ بن زيد لما مات مستلم: لو كان هذا في بني إسرائيل لاتخذوه حبرًا. روى له الأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

4 -

(منصور بن زاذان) أبو المغيرة الثقفيّ الواسطيّ، ثقة ثبت عابد [6] 5/ 475.

5 -

(معاوية بن قُرّة) أبو إياس المزنيّ البصريّ، ثقة عالم [3] 22/ 1870.

6 -

(معقل بن يسار) بن عبد اللَّه بن مُعَبِّر، ويقال: ابن مِعْيَر، ويقال: ابن مُغِيرة بن حُرَّاق بن لأي بن كعب بن عبد بن ثور بن هذمة بن لاطم بن عثمان بن عَمرو بن أدّ بن طابخة، واسمه عمرو بن إلياس بن مضر بن نزار. ومزينة هو ولد عثمان بن عمرو، ونسبوا إلى أمهم، وهي مزينة بنت كلب بن وَبْرَة بن تغلب بن حُلْوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.

أسلم قبل الحديبية، وشهد بيعة الرضوان. قال البغويّ: هو الذي حفر نهر معقل بالبصرة بأمر عمر، فنسب إليه. ونزل البصرة، وبنى بها دارًا، ومات بها في خلافة معاوية، وأسند من طريق يونس بن عبيد، قال: ما كان ههنا -يعني البصرة- أحدٌ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أهنأ من معقل بن يسار. وأخرج أحمد من طريق معاوية بن قرّة، عن معقل بن يسار: حُرّمت الخمر ونحن نشرب الفَضِيخَ

(1)

، فجعلتُ أشرب، وأقول: هذا آخر العهد بالخمر.

قال العجليّ: يُكنى أبا عليّ، ولا نعلم في الصحابة من يُكنى أبا عليّ غيره. كذا قال، وتُعُقّب بأن قيس بن عاصم يُكنى أبا عليّ، وكذا طلق بن عليّ.

ومات في آخر خلافة معاوية. وقيل: عاش إلى إمرة يزيد. وذكره البخاريّ في "الأوسط" في "فصل من مات ما بين الستين إلى السبعين". روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط

(2)

. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود، والمستلم، فمن رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسلٌ بالواسطيين إلى معاوية، وهو ومعقلٌ بصريّان. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

-"الفَضِيخ" بفتح، فكسر-: عصير العنب. انتهى "ق".

(2)

- "الإصابة" 9/ 259 - 260 و"تهذيب الكمال" 28/ 279 - 281.

ص: 93

شرح الحديث

(عَنْ مَعقِل بن يَسَارِ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"إِنِّي أَصَبْتُ" أي صادفت (امْرَأَةً، ذَاتَ حَسَبٍ) بفتحتين: أي صاحبة شرف، وفضيلة من جهة الآباء، أو حسنة الأفعَال، والخصال (وَمَنْصِبٍ) بفتح الميم، وكسر الصاد المهملة: أي قدر بين الناس. قال الفيّوميّ: يقال: لفلان مَنصِبٌ، وزان مسجد: أي علو ورِفعةٌ، وفلانٌ له منصب صدقٍ: يراد به المنبت، والْمَحتِدُ، وامرأةٌ ذات منصب، قيل: ذات حَسَب وجمال. وقيل: ذات جمال، فإن الجمال وحده عُلُوّ لها ورفعةٌ. انتهى.

(إِلاَّ أَنَّهَا لَا تَلِدُ) لعله علم ذلك بكونها لا تحيض، أو بأنها كانت عند زوج آخر، فلم تلد (أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟، فَنَهَاهُ) صلى الله عليه وسلم عن زواجها (ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ) أي فطلب منه زواجها (فَنَهَاهُ) أيضًا (ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَنَهَاهُ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ) أي التي تكثر ولادتها (الْوَدُودَ) أي التي تحبّ زوجها كثيرًا. قال القاري: وقيّد بهذين القيدين؛ لأن الولود إذا لم تكن وَدُودًا لم يرغب الزوج فيها، والودود إذا لم تكن ولودًا لم يحصل المطلوب، وهو تكثير الأمّة بكثرة التوالد. وُيعرف هذان الوصفان في الأبكار من أقاربهنّ؛ إذ الغالب سراية طباع الأقارب، بعضهنّ إلى بعض. ويحتمل -واللَّه أعلم- أن يكون معنى تزوّجوا اثبُتُوا على زواجها، وبقاء نكاحها، إذا كانت موصوفة بهذين الوصفين انتهى.

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني بعيد جدًّا عن مقصود الحديث، يبعده أن الرجل الذي في هذا الحديث إنما جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليستشيره في امرأة أراد أن يتزوّجها، فنهاه عن ذلك، وراجعه في ذلك مراراً، فنهاه، ثم قال:"تزوّجوا الخ"، فدلّ على أن المراد بقوله:"تزوّجوا" إنشاء النكاح، لا إدامة نكاح سابقٍ، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.

(فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ) الفاء للتعليل؛ أي لأني مكاثر، أي مفاخر بسبب كثرتكم الأنبياء يوم القيامة، كما جاء في رواية ابن حبّان في "صحيحه" رقم 4028 - من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا، ويقول:"تزوّجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة". وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه، مرفوعًا: " تزوّجوا، فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة، ولا تكونوا

(1)

- "المرقاة": 6/ 271 - 272.

ص: 94

كرهبانية النصارى". حديث حسن بشواهده، رواه البيهقيّ في "السنن الكبرى"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث معقل بن يسار - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-11/ 3228 - وفي "الكبرى" 14/ 5342. وأخرجه (د) في "النكاح" 2050. و (الطبرانيّ) 20/ 508 و (الحاكم) 2/ 162 و (البيهقيّ) 7/ 81. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو كراهية نكاح العقيم. (ومنها): شدة حرص النبيّ- صلى الله عليه وسلم في كثرة عدد أمته، حتى يفاخر بهم الأنبياء السابقين. (ومنها): أن المسارعة إلى فعل الخيرات، والتسابق إليه، والتنافس فيه لا يعدّ مخلَّا بالعبوديّة، ولا يكون مذمومًا في الشرع، إذا كان ذلك طلبًا لمرضاة اللَّه تعالى، والدار الآخرة. (ومنها): استحباب إيثار العبد نفسه بفعل الخيرات، ومحاولة سبق أقرانه في ذلك، عملاً بقول اللَّه عز وجل:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21]، وقال تعالى:{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]. (ومنها): أن فيه حثّ العلماء والدعاة إلى أنه ينبغي لهم أن يستكثروا من المستفيدين من علمهم، ودعوتهم، فإن ذلك له فضل كبيرٌ، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الطويل، وفيه:"فواللَّه لأن يهدي اللَّه بك رجلاً واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم".

(2)

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- 7/ 78.

(2)

- راجع "كتاب توضيح الأحكام" للشيخ البسام 4/ 337 - 340.

ص: 95

‌12 - (تَزْوِيجُ الزَّانِيَةِ)

وفي "الكبرى": "تحريم تزويج الزانية".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا ترجيح القول بتحريم نكاح الزانية، لحديث مرثد بن أبي مرثد الغَنَوِيّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، فإنه صريح في ذلك.

ولا يعارضه حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - في الرجل الذي سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن امرأته اللتي لا تردّ يد لامس، فأمره بطلاقها، فلما قال له: لا أصبر عنها، قال:"استمتع بها"؛ لأنه عنده ضعيف، حيث عللَّه بأن الصحيح أنه مرسل، فلا يدلّ على جواز نكاح الزانية.

لكن الظاهر أن الحديث متصلٌ صحيحٌ، كما سيأتي بيان ذلك لكنه، وإن قيل بصحّته لا يعارض أيضًا؛ إذ لا يصلح للاحتجاج به؛ لاحتمال أن يكون البقاء أسهل من الابتداء، فإن الرجل إنما سأله عن إمساكه زوجته التي معه، وهذا أخفّ من إنشاء نكاح امرأة ليس معه.

ولأنهم اختلفوا في معنى قوله: "لا تردّ يد لامس، هل هو كناية عن الفجور، أو كناية عن التبذير، أو غير ذلك، فليس الحديث مع هذه الاحتمالات محلّ حجة، كما سيأتي بيان ذلك، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3229 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ- عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الأَخْنَسِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ، وَكَانَ رَجُلاً شَدِيدًا، وَكَانَ يَحْمِلُ الأُسَارَى، مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَدَعَوْتُ رَجُلاً لأَحْمِلَهُ، وَكَانَ بِمَكَّةَ بَغِيٌّ، يُقَالُ لَهَا: عَنَاقُ، وَكَانَتْ صَدِيقَتَهُ، خَرَجَتْ، فَرَأَتْ سَوَادِي فِي ظِلِّ الْحَائِطِ، فَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟ مَرْثَدٌ، مَرْحَبًا، وَأَهْلاً، يَا مَرْثَدُ انْطَلِقِ اللَّيْلَةَ، فَبِتْ عِنْدَنَا فِي الرَّحْلِ، قُلْتُ: يَا عَنَاقُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ الزِّنَا، قَالَتْ: يَا أَهْلَ الْخِيَامِ، هَذَا الدُّلْدُلُ، هَذَا الَّذِي يَحْمِلُ أُسَرَاءَكُمْ، مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَسَلَكْتُ الْخَنْدَمَةَ، فَطَلَبَنِي ثَمَانِيَةٌ، فَجَاءُوا حَتَّى قَامُوا عَلَى رَأْسِي، فَبَالُوا، فَطَارَ بَوْلُهُمْ عَلَيَّ، وَأَعْمَاهُمُ اللَّهُ عَنِّي، فَجِئْتُ إِلَى صَاحِبِي، فَحَمَلْتُهُ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ بِهِ إِلَى الأَرَاكِ، فَكَكْتُ عَنْهُ كَبْلَهُ، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْكِحُ عَنَاقَ؟ ، فَسَكَتَ

ص: 96

عَنِّي، فَنَزَلَتْ {الزَّانِيَةُ

(1)

لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]، فَدَعَانِي، فَقَرَأَهَا عَلَيَّ، وَقَالَ:"لَا تَنْكِحْهَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إبراهيم بن محمد التيميّ) المعمريّ، أبو إسحاق البصريّ، قاضيها، ثقة [11] 28/ 550 تفرّد به المصنّف، وأبو داود.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطّان الإمام الحجة الثبت البصريّ [9] 4/ 4.

3 -

(عُبيد اللَّه بن الأخنس) النخعيّ، أبو مالك الْخزّاز الكوفيّ، صدوق [7] 32/ 1686.

4 -

(عمرو بن شعيب) بن محمد المدني، أو الطائفي، صدوق [5] 105/ 140.

5 -

(أبوه) شعيب بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو الطائفي، صدوق [3] 105/ 14.

6 -

(جده) عبد اللَّه بن عمرو بن العاص الصحابي ابن الصحابي - رضي اللَّه تعالى - عنهما 89/ 111.

7 -

(مرثد بن أبي مرثد) -بفتح الميم، وسكون الراء، وفتح المثلّثة - الغَنَوِيَّ

(2)

واسم أبي مرثد" كَنّاز بن الحصين

(3)

، له ولأبيه صحبةٌ، وكانا حليفي حمزة بن عبد المطّلب، وشهد مرثدٌ بدرًا، وقُتل يوم الرَّجِيع في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في صفر سنة أربع، وقيل: سنة ثلاث. روى له المصنّف، وَأبو داود، والترمذيّ، وتقدمت ترجمته في 11/ 760. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله. ومنها: أن فيه رواية الراوي عن أبيه عن جدّه. ومنها: أن فيه رواية صحابي عن صحابي، وتابعي عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمْرِو بن شُعَيْبٍ) القرشيّ السهميّ، أبي إبراهيم، أو أبي عبد اللَّه المدنيّ،

(1)

- هكذا النسخ، والتلاوة:{والزانية} بالواو، فتنبّه.

(2)

- بفتح الغين المعجمة، والنون-: نسبة إلى غنيّ بن أعصر، وقيل: يعصر. قاله في "اللباب" 2/ 392.

(3)

- "كنّاز" -بفتح الكاف، وتشديد النون آخره نون، و"الحصين" بضم الحاء، وفتح الصاد المهملتين- مصغّرًا.

ص: 97

ويقال: الطائفيّ (عَنْ أَبِيهِ) شعيب بن محمد بن عبد اللَّه الحجازيّ السهميّ (عَنْ جَدِّهِ) عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ مَرْثَدَ بنَ أَبِي مَرْثَدٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (وَكَانَ رَجُلاً شَدِيدًا) أي قويًّا (وَكَانَ يَحْمِلُ) بفتح أوله، وكسر الميم، من باب ضرب (الأُسَارَى) بضم الهمزة جمع أَسير، بمعنى مأسور، أي الذي أسره المشركون (من مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ) متعلق بـ"يحمل"(قَالَ) مرثد (فَدَعَوْتُ رَجُلاً لِأَحْمِلَهُ، وَكَانَ بِمَكَّةَ بَغِيٌّ) فعيلٌ بمعنى فاعلة، يقال: بغت المرأة تَبغِي بِغَاءً -بالكسر والمدّ-: إذا فجرت، فهي بَغِيٌّ، والجمع بغايا، وهو وصفٌ مختصّ بالمرأة، ولا يقال للرجل بَغيّ. قاله الأزهريّ

(1)

. أي امرأة زانية وإنما لم يُلحق التاء بـ"كان" مع كون اسمها حقيقيّ التأنيث؛ للفصل بالجارّ والمجرور، كما قال في "الخلاصة":

وَقَد يُبِيحُ الفَصْلُ تَرْكَ التَّاءِ فِي

نَحْوِ "أتى القَاضِيَ بِنْتُ الْوَاقِفِ

(يُقَالُ لَهَا: عَنَاقُ) -بفتح العين المهملة، وتخفيف النون-: علم امرأة (وَكَانَتْ صَدِيقَتَهُ) أي حبيبته التي يزني بها قبل الإسلام، أو قبل تحريم الزنا. أفاده السنديّ (خَرَجَتْ، فَرَأَتْ سَوَادِي) أي شَخْصِي. قال الفيّوميّ: الشَّخْصُ: سواد الإنسان، تراه من بُعدٍ، ثم استُعمل في ذاته. قال الخطّابيّ: ولا يُسَمَّى شَخْصًا إلا جسمٌ مؤلّفٌ، له شُخُوصٌ وارتفاعٌ انتهى (في ظِلِّ الْحَائِطِ، فَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟)"من" استفهاميّة، سألت عن السواد الذي رأته في ظلّ الحائط (مَرْثَدٌ) خير لمحذوف، وهو على تقدير استفهام، أي أأنت مرثدٌ؟، يعني أنها عرفت ذلك السواد الذي رأته أنه صديقها مرثد، فأرادت أن تتأكد، فسألته، فلما تبيّن لها أنه هو، قالت (مَرْحَبًا) منصوب بفعل محذوف، أي أتيت مكانًا رَحْبًا، أي واسعًا (وَأَهْلاً) أي صادفت أهلاً. قال في "اللسان": وقولهم في التحيّة: مَرْحَبًا، وأَهْلًا: أي أتيتَ سَعَةً، وأتيتَ أهلاً، فاستأنِسْ، ولا تَستَوْحِشْ. وقال الليث: معنى قول العرب: مَرْحبًا: انزِل في الرَّحْبِ والسَّعَةِ، وأَقِمْ، فلك عندنا ذلك. وسُئل الخليلُ عن نصب "مَرْحَبًا"، فقال: فيه كَمِينُ الفعل؛ أراد به انزِلْ، أو أَقِمْ، فنَصِبَ بفعل مضمر، فلما عُرِفَ معناه المراد به أُميتَ الفعلُ. وقال غيره: قولهم: "مرحبًا": أتيت، أو لقِيتَ رُحْبًا وسَعَةٌ، لا ضِيقًا، وكذلك إذا قال: سهلاً: أراد نزلت بلدًا سهلاً، لا حَزْنًا غليظًا. وقال ابن الأعرابيّ: هي من المصادر التي تقع في الدعاء للرجل، وعليه، نحو سَقْيًا، ورَعْيًا، وجدعًا، وعَقْرًا، يريدون سقاك اللَّه، ورعاك اللَّه انتهى ببعض اختصار

(2)

.

(1)

- راجع "المصباح المنير".

(2)

- راجع "لسان العرب" في مادّة رحب.

ص: 98

(يَا مَرْثَدُ اتطَلِقِ اللَّيْلَةَ، فَبِثْ عِنْدَنَا فِي الرَّحْلِ) أي في منزلنا. قال الفيّوميّ: رحلُ الشخصِ: مأواه في الحضرَ انتهى (قُلْتُ: يَا عَنَاقُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ الزِّنَا، قَالَتْ: يَا أَهْلَ الْخِيَامِ) -بكسر الخاء المعجمة: جمع خيمة بفتح، فسكون- وهي بيت من من بيوت الأعراب، مُستديرٌ، يبنيه الأعراب من عيدان الشجر. وقيل: هي ثلاثة أعواد، أو أربعة، يُلقَى عليها الثُّمَام، ويُستظل بها في الحرّ. وقيل: الخيمُ أعواد تُنصب في القيظ، وتُجعل لها عوارض، وتُظلّل بالشجر، فتكون أبرد من الأخبية. وقيل: هي عِيدانٌ يُبنى عليها الخيام، قال النابغة [من الطويل]:

فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ آلُ خَيمٍ مُنَضَّدِ

وَسُفْعٌ عَلَى آسٍ وَنُؤيٌ مُعَثلِبُ

الآس: الرماد. ومُعَثلب: مهدوم. قاله في "اللسان".

(هَذَا الدُّلْدُلُ) -بضمّ الدالين المهملتين، بينهما لام ساكنة-: ضرب من القنافذ، له شوك طويل. وقيل: شِبْهُ القُنفُذ، وهي دابّةٌ تَنْتَفِضُ، فترمي بشوك كالسهام، وفرق ما بينهما، كفرق ما بين الْفِئَرَةِ والجِرْذان، والبقر والجَوَاميس، والعِرَاب والْبَخَاتيّ

(1)

.

وقال ابن الأثير: الدُّلْدُل القُنفذ، وقيل: ذكر القنافذ. يحتمل أنها شبّهته بالقُنفُذ لأنه أكثر ما يظهر في الليل، ولأنه يُخفي رأسه في جسده ما استطاع. ودَلْدَلَ في الأرض: ذهب، ومرّيُدلْدِلُ، ويتَدَلْدَل في مشيه: إذا اضطرب انتهى

(2)

.

(هَذَا الَّذِي يَحْمِلُ أُسَرَاءَكُمْ) بضم الهمزة جميع أَسير، ويُجمع أيضًا على أسْرَى، كسَكرَى، وسُكَارَى (مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَسَلَكْتُ الخَنْدَمَةَ) عطفٌ على محذوف: أي ولّيتُ هاربًا، فسلكت طريق الخندمة -بفتح الخاء المعجمة، وسكون النون، وفتح الدال المهملة: جبل بمكة (فَطَلَبَنِي ثَمَانِيَةٌ) من المشركين (فَجَاءُوا حَتَّى قَامُوا عَلَى رَأْسِي) أي في المحلّ الذي اختفيتُ فيه (فَبَالُوا، فَطَارَ بَوْلُهُم عَلَيَّ، وَأَعْمَاهُمُ اللَّهُ عَنِّي) أي أخفاني اللَّه تعالى، وسترني عن رؤيتهم، كرامةٌ له منه سبحانه وتعالى (فَجِئْتُ إِلَى صَاحِبِي) أي الذي دعاه ليحمله إلى المدينة، حتى يُخلّصه من تعذيب المشركين له (فَحَمَلْتُهُ، فَلَمَّا انتَهَيتُ بِهِ إِلَى الْأَرَاكِ) بفتح الهمزة يحتمل أن يكون أراد الشجر المعروف، ويحتمل أن يكَون أراد اسم موضع بعرفة، من جهة الشام. قال الفيّوميّ: الأَراك شجَرٌ من الْحَمْضِ، يُستاكُ بقُضبانه، الواحدة أَراكةٌ، ويقال: هي شجرةٌ طويلةٌ، ناعمةٌ، كثيرة الورق والَأغصان، خَوَّارةُ العُود

(3)

، ولها ثمرٌ في عَناقيد، يُسمّى الْبَرِيرَ،

(1)

- "لسان العرب".

(2)

- "النهاية" 2/ 129.

(3)

- أي ليّنة، سَهْلة.

ص: 99

يملأ العنقودُ الكفَّ. والأَراك موضعٌ بعرفة، من ناحية الشام انتهى.

وقال المجد في "القاموس": الأَرَاك كسحاب: القطعة من الأرض، وموضع بعرفة قُربَ نَمِرَةَ، وجبلٌ لهُذَيل، والحَمْضُ، كالإرْك بالكسر، وشجرٌ من الحَمْضِ يُستاك به انتهى.

(فَكَكْتُ) بفتح الكاف، من باب قتل: أي أزلت (عَنْهُ كَبْلَهُ) -بفتح، فسكون: أي قيده، جمعه كُبُول، كفلس وفُلُوس. يقال: كَبَلْتُ الأسيرَ كَبْلاً، من باب ضرب: إذا قيدته، ويقال: كبّلته -بالتشديد- مبالغةٌ. أفاده الفيّوميّ.

(فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْكِحُ) بكسر الكاف، مضارع نكح بفتحها، من باب ضرب، وهو بتقدير همزة الاستفهام، أي أأنكح (عَنَاقَ؟) بترك التنوين؛ لكونه غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث (فَسَكَتَ عَنِّي) يحتمل أن يكون سكوته كراهيةٌ، وأن يكون لانتظاره الوحي، وهو الظاهر (فَنَزَلَتْ {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]) قال الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى-: هذا خبرٌ من اللَّه تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية، أو مشركة، أي لا يُطاوعه على مراده من الزنا إلا زانيةٌ عاصية، أو مشركة، لا ترى حرمة ذلك، وكذلك {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ} أي عاص بزناه {أَوْ مُشْرِكٌ} لا يعتقد تحريمه. قال سفيان الثوريّ، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد ابن جُبير، عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} قال: ليس هذا بالنكاح، إنما هو الجماع، لا يزني بها إلا زان، أو مشرك. وهذا إسناد صحيح عنه. وقد رُوي عنه من غير وجه أيضًا. وقد رُوي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبير، وعروة، بن الزبير، والضحَّاك، ومحول، ومقاتل ابن حيّان، وغير واحد نحوُ ذلك.

وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، أي تعاطيه، والتزويج بالبغايا، أو تزويج العفائف بالرجال الفجّار. وأخرج أبو داود الطيالسيّ بسنده، عن ابن عباس، قال:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} قال: حرّم اللَّه الزنا على المؤمنين. وقال قتادة، ومقاتل بن حيان: حرّم اللَّه على المؤمنين نكاح البغايا، وتقدّم ذلك، فقال:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، وهذه الآية كقوله تعالى:{مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} ، وقولِهِ:{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} الآية.

ومن ههنا ذهب الإمام أحمد بن حنبل -رحمه اللَّه تعالى- إلى أنه لا يصحّ العقد من الرجل العفيف على المرأة البغيّ ما دامت كذلك حتى تُستتاب، فإن ثابت صحّ العقد

ص: 100

عليها، وإلا فلا، وكذلك لا يصحّ تزويج المرأة الحرّة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبةً صحيحةً؛ لقوله تعالى:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . انتهى

(1)

.

(فَدَعَانِي، فَقَرَأَهَا عَلَيَّ) أي قرأ هذه الآية (وَقَالَ: "لَا تَنْكِحْهَا") قيل: هو نهي تنزيه، أو هو منسوخ بقوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الآية. وعليه الجمهور. وقيل: نهي تحريم، وهو الأرجح، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث مرثد بن أبي مرثد - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

[تنبيه]: كون هذا الحديث من مسند مرثد بن أبي مرثد هو الظاهر من سياق الحديث، وومن الغريب أن الحافظ المزّيّ -رحمه اللَّه تعالى- ذكره في "تحفة الأشراف" 8/ 369 في مسنده، وذكره قبله 6/ 326 في مسند عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، في ترجمة عبيد اللَّه بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عبد اللَّه بن عمرو، ثم قال: ذَكَرَ أبو القاسم -يعني ابن عساكر- حديث (د)

(2)

في مسند مرثد، ولم يذكر فيه سواه، ولم يذكره في هذه الترجمة. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أنه من مسند مرثد، رواه عنه عبد اللَّه ابن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنهم -، لا من مسند عبد اللَّه بن عمرو؛ لأن السياق ظاهر في الأول. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-12/ 3229 - وفي "الكبرى" 12/ 5338. وأخرجه (د) في "النكاح" 2051 (ت) في "التفسير" 3177. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تحريم نكاح الزانية. (ومنها): منقبة هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه حيث كان يُخاطر بنفسه في إنقاذ إخوانه المسلمين الذين يُعذّبهم المشركون على إسلامهم، لا على أمر آخر، كما قال اللَّه تعالى:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]. وقال تعالى:

(1)

- "تفسير ابن كثير" 3/ 273.

(2)

- يعني الرواية التي أخرجها أبو داود من حديث مرثد بن أبي مرثد.

ص: 101

{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} الآية [الحج: 40]. (ومنها): بيان ما كان يَلحَق المسلمين من أذى الكفّار بسبب إسلامهم، وصبرهم على ذلك، وهكذا ينبغي للدعاة أن يتأسوا بهم في ذلك؛ لأن هذه سنة اللَّه تعالى في أنبيائه ورسله مع أممهم، كما قال اللَّه تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} الآية [البقرة: 214]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم نكاح الزواني:

قال العلاّمة ابن رشد -رحمه اللَّه تعالى-: واختلفوا في زواج الزانية، فأجازه الجمهور، ومنعه قوم، وسبب اختلافِهِم اختلافُهُم في مفهوم قوله تعالى:{وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]، هل خرج مخرج الذمّ، أو مخرج التحريم؟، وهل الإشارة في قوله:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} إلى الزنا، أو إلى النكاح؟، وإنما صار الجمهور لحمل الآية على الذمّ، لا على التحريم؛ لما جاء في الحديث: أن رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم في زوجته: إنها لا تردّ يد لامس، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"طلّقها"، فقال له: إني أحبّها، فقال له:"فأمسكها"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حمل الآية على الذمّ دون التحريم غير صحيح، كما سيأتي قريبًا.

وقال قوم أيضًا إن الزنا يُفسخ به النكاح، بناءً على هذا الأصل، وبه قال الحسن. انتهى

(2)

.

وقال المنذريّ -رحمه اللَّه تعالى-: للعلماء في هذه الآية خمسة أقوال:

[أحدها]: أنها منسوخة. قاله سعيد بن المسيّب. قال الشافعيّ في الآية القول فيها كما قال سعيد بن المسيّب -إن شاء اللَّه- إنها منسوخة. وقال غيره: الناسخ لها قوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} ، فدخلت الزانية في أيامى المسلمين، وعلى هذا أكثر العلماء، يقولون: من زنى بامرأة فله أن يتزوّجها، ولغيره أن يتزوّجها.

[الثاني]: أن النكاح ها هنا الوطء، والمراد أن الزاني لا يُطاوعه على فعله، ويُشاركه في مراده إلا زانيةٌ مثله، أو مشركة.

[الثالث]: أن الزاني المجلود لا ينكح إلا زانيةٌ مجلودةٌ، أو مشركةً، وكذا الزانية.

(1)

هو الحديث الآتي للمصنّف بعد هذا، وسيأتي الكلام عليه.

(2)

- "بداية المجتهد" 2/ 40.

ص: 102

[الرابع]: أن هذا كان في نسوة، كان الرجل يتزوّج إحداهنّ على أن تنفق عليه مما كسبته من الزنا، واحتجّ بأن الآية نزلت في ذلك.

[الخامس]: أنه عامّ في تحريم نكاح الزانية على العفيف، والعفيفة على الزانية انتهى

(1)

.

وقال الإمام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: وأما نكاح الزانية، فقد صرّح اللَّه سبحانه وتعالى بتحريمه في "سورة النور"، وأخبر أن من نكحها، فهو إما زان، أو مشرك، فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه وتعالى، ويعتقد وجوبه عليه، أو لا، فإن لم يلتزمه، ولم يعتقده، فهو مشرك، وإن التزمه، واعتقد وجوبه، وخالفه، فهو زان، ثم صرّح بتحريمه، فقال:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]. ولا يخفى أن دعوى نسخ الآية بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]، من أضعف ما يُقال، وأضعف منه حملُ النكاح على الزنى؛ إذ يصير معنى الآية: الزاني لا يزني، إلا بزانية، أو مشركة، والزانية لا يزني بها إلا زان، أو مشرك، وكلام اللَّه تعالى ينبغي أن يُصان عن مثل هذا.

وكذلك حمل الآية على امرأة بغيّ مشركة في غاية البعد عن لفظها وسياقها، كيف وهو سبحانه وتعالى إنما أباح نكاح الحرائر والإماء بشرط الإحصان، وهو العفّة، فقال:{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25]، فإنما أباح نكاحها في هذه الحالة، دون غيرها، وليس هذا من باب دلالة المفهوم، فإن الأبضاع في الأصل على التحريم، فيُقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع، وما عداه فعلى أصل التحريم.

وأيضًا فإنه سبحانه وتعالى قال: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26]، والخبيثات: الزواني، وهذا يقتضي أن من تزوّج بهنّ فهو خبيث.

وأيضًا فمن أقبح القبائح أن يكون الرجل زوج بغيّ، وقُبْحُ هذا مستقرّ في فطر الخلق، وهو عندهم غاية المسبّة. وأيضًا فإن البغيّ لا يُؤمَنُ أن تُفسد على الرجل فراشه، وتعلّق عليه أولادًا من غيره، والتحريم يثبت بدون هذا. وأيضًا فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم فرّق بين الرجل وبين المرأة التي وجدها حبلى من الزنى

(2)

. ثم ذكر قصة مرثد

(1)

- راجع "نيل الأوطار" 6/ 154 - 155.

(2)

- هو ما أخرجه أبو داود في "سننه" من طريق ابن جريج، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن المسيب، عن رجل من الأنصار، قال ابن أبي السري: من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل من الأنصار، ثم اتفقوا، يقال له: بصرة، قال: تزوجت امرأة بكرا في سترها، فدخلت عليها، فهذا هي حبلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لها الصداق بما استحللت من فرجها، والولد عبد لك، فهذا ولدت- قال الحسن- فاجلدها"، وقال ابن أبي السري-:"فاجلدوها"، أو قال:"فحدوها". وهو حديث ضعيف.

ص: 103

المذكورة في الباب انتهى كلام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تحرّر مما ذُكر أن الحقّ تحريم نكاح الزواني، إلا أن تتوب، وهذا هو مذهب الإمام أحمد، -رحمه اللَّه تعالى-، كما تقدّم في كلام الحافظ ابن كثير، فهو أرجح الأقوال؛ لظاهر قوله:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، وحمل الآية على أنها خرجت مخرج الذمّ، لا مخرج التحريم، غير صحيح، وإن قال به الكثيرون، لأن حديث مرثد الغنويّ رضي الله عنه المذكور في الباب الذي هو سبب نزول الآية المذكورة يبطله، حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نزلت قرأها على مرثد رضي الله عنه، ثم قال له:"لا تنكحها"، فدلّ على أن الآية إنما نزلت للتحريم، فهي صريحة فيه، لا تحتمل غيره.

والحاصل أن الآية والحديث صريحان في التحريم، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوّر بالاعتساف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3230 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَغَيْرُهُ، عَنْ هَارُونَ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَعَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَبْدُ الْكَرِيمِ، يَرْفَعُهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَارُونُ لَمْ يَرْفَعْهُ، قَالَا: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي امْرَأَةً، هِيَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَهِيَ لَا تَمْنَعُ يَدَ لَامِسٍ، قَالَ:«طَلِّقْهَا» ، قَالَ: لَا أَصْبِرُ عَنْهَا، قَالَ:«اسْتَمْتِعْ بِهَا» .

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَهَارُونُ بْنُ رِئَابٍ، أَثْبَتُ مِنْهُ، وَقَدْ أَرْسَلَ الْحَدِيثَ، وَهَارُونُ ثِقَةٌ، وَحَدِيثُهُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْكَرِيمِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن إسماعيل بن إبراهيم) المعروف أبو بـ"ابن عليّة" البصريّ، نزيل دمشق، وقاضيها، ثقة [11] 22/ 489 من أفراد المصنّف.

2 -

(يزيد) بن هارون السلمي مولاهم الحافظ، أبو خالد الواسطي، ثقة متقن عابدًا [9] 153/ 244.

3 -

(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد، تغير في الآخر، من كبار [8] 181/ 288.

4 -

(هارون بن رئاب) -بكسر الراء، وتحتانيّة مهموزة، ثم موحّدة- التميميّ البصريّ، ثقة عابدًا [6] 80/ 2575.

(1)

- "زاد المعاد" 5/ 114 - 115.

ص: 104

5 -

(عبد الكريم) بن أبي الْمُخَارق -بضمّ الميم، وبالخاء المعجمة- أبو أُميّة المعلّم البصريّ، نزيل مكّة، واسم أبيه قيس. وقيل: طارق، ضعيف [6].

ضعفه أيوب السختيانيّ، وأحمد، وابن معين. وقال النسائيّ، والدارقطنيّ: متروك. وقال ابن حبّان: كان كثير الوهم، فاحش الخطإ، فلما أكثر ذلك منه بطل الاحتجاج به. وقال ابن عبد البرّ: مجمع على ضعفه. مات سنة (127) وقيل: (126) علّق له البخاريّ في موضع، وأخرج له مسلم متابعةً، وأبو داود في المراسيل، والترمذيّ، والمصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

6 -

(عبد اللَّه بن عبيد بن عُمير) الليثيّ المكيّ، ثقة [3] 89/ 2837.

7 -

(ابن عباس) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ هَارُونَ بْنِ رِئَابٍ) بهمزة بعد الراء (عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرِ) الليثيّ المكيّ (وَعَبْدِ الْكَرِيمِ) بالجرّ عطفًا على هارون، فحمّاد بن سلمة يروي عن هارون، وعبد الكريم كليهما (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عُبَيْدِ بن عُمَيْرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -. وقوله: (عَبْدُ الْكَرِيمِ) بالرفع مبتدأ خبره قوله (يَرْفَعُهُ) أي يسند الحديث (إِلَى ابْنِ عَبَّاسِ) رضي اللَّه تعالى عنهمَا (وَهَارُونُ لَمْ يَرْفَعْهُ) أي لم يذكره في السند، بل جعله مرسلاً.

وحاصل ما أشار إليه أن كلًّا من هارون بن رئاب، وعبد الكريم رويا الحديث عن عبد اللَّه بن عُبيد بن عُمير، لكن هارون قال جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعله مرسلاً، إذ لم يذكر الصحابيّ، فإن عبد اللَّه بن عبيد تابعيّ، كما سبق في ترجمته، وأما عبد الكريم، فرواه عن عبد اللَّه بن عُبيد بن عُمير، عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، فوصده بذكر الصحابيّ، ورواية هارون المرسلة أرجح؛ لا تفاقهم على ضعف عبد الكريم؛ كما سينصّ عليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-.

(قَالَا) الضمير لهارون، وعبد الكريم (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي امْرَأَةَ) أي زوجة. وفي الرواية الآتية - 34/ 3466 - من طريق عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، عن ابن عباس: "إن امرأتي

". وفي -34/ 3467 - من طريق النضر بن شُميل، عن حماد بن سلمة: "إن تحتي امرأة

" (هِيَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَهِيَ لَا تَمنَعُ يَدَ لَامِسٍ) أي إنها مطاوعة لمن أرادها، وهذا كناية عن الفجور. وقيل: بل هو كناية عن بذلها الطعام. قيل: هو الأشبه، وقال أحمد: لم يكن صلى الله عليه وسلم ليأمره بإمساكها، وهي تفجر. ورُدّ بأنه لو كان المراد السخاء لقيل: لا تردّ يد ملتمس؛ إذ السائل يقال له: الملتمس، لا لامس، وأما اللمس فهو الجماع، أو بعض مقدّماته. وأيضًا السخاء مندوب إليه، فلا تكون المرأة معاقبة لأجله، مستحقّةً للفراق، فإنها إما أن تُعطي مالها، أو مال

ص: 105

الزوج، وعلى الثاني على الزوج صونه، وحفظه، وعدم تمكينها منه، فلم يتعيّن الأمر بتطليقها. وقيل: المراد أنها تتلذّذ بمن يلمسها، فلا تردّ يده، ولم يرد الفاحشة العظمى، وإلا لكان بذلك قاذفًا لها. وقيل: الأقرب أن الزوج علم منها أن أحدًا لو أراد منها السوء لما كانت هي تردّه، لا أنه تحقّق وقوع ذلك منها، بل ظهر له ذلك بقرائن، فأرشده الشارع إلى مفارقتها، احتياطًا، فلما علم أنه لا يقدر على فراقها؛ لمحبّته لها، وأنه لا يصبر على ذلك رخّص له في إثباتها؛ لأن محبّته لها محقّقة، ووقوع الفاحشة منها متوهّم.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (طَلَّقْهَا) وفي رواية عمارة المذكورة: "غرّبها، إن شئت"، وهو بمعنى طلّق (قَالَ) الرجل (لَا أَصْبِرُ عَنْهَا) وفي رواية عمارة:"إني أخاف أن تتبعها نفسى"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (اسْتَمتِعْ بِهَا) أي كن معها قدر ما تقضي حاجتك. وقال ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى- قوله: "استمتع بها": أي لا تمسكها إلا بقدر ما تقضي متعة النفس منها، ومن وطرها، وخاف النبيّ صلى الله عليه وسلم، إن هو أوجب عليه طلاقها أن تَتُوق نفسه إليها، فيقع في الحرام. وقيل: معنى: "لا تردّ يد لامس" أنها تُعطي من ماله من يطلب منها، وهذا أشبه. قال أحمد: لم يكن ليأمره بإمساكها، وهي تفجر. قال عليّ، وابن مسعود: "إذا جاءكم الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فظنّوا به الذي هو أهدى، وأتقى. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى-: وقد اختلف الناس في هذا الحديث ما بين مضعّف له، كما قال النسائيّ، ومنكر، كما قال الإمام أحمد: هو حديث منكر. وقال ابن قُتيبة: إنما أراد أنها سخيّة، لا تمنع سائلاً، وحكاه النسائيّ في "سننه"

(2)

عن بعضهم، فقال: وقيل: سخيّة، تُعطي.

وردّ هذا بأنه لو كان المرادَ لقال: لا تردّ يد ملتمس.

وقيل: المراد أن سجيّتها لا تردّ يد لامس، لا أن المراد أن هذا واقعٌ منها، وأنها

تفعل الفاحشة، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لا يأذن في مصاحبة مَنْ هذه صفتها، فإن زوجها والحالة هذه يكون ديّوثًا، وقد ثبت الوعيد على ذلك، ولكن لما كانت سجيّتها هكذا ليس فيها ممانعةٌ، ولا مخالفةٌ لمن أرادها، لو خلا بها أحدٌ، أمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بفراقها، فلما ذكر أنه يُحبّها أباح له البقاء معها؛ لأن محبّته لها محققة، ووقوع الفاحشة منها متوهّمٌ، فلا يُصار إلى الضرر العاجل لتوهّم الآجل. واللَّه سبحانه أعلم. انتهى كلام الحافظ ابن كثير

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا المعنى الأخير هذا الصواب عندي.

(1)

- "النهاية" 4/ 270.

(2)

- لم أر هذا الكلام للمصنّف.

(3)

- "تفسير ابن كثير" 3/ 274 - 375.

ص: 106

وحاصله أن الرجل رأى منها ما يُريبه، فخشي وقوع الفاحشة، فأمره صلى الله عليه وسلم بإبعادها، ومفارقتها، من باب "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، وأما حمله على الفجور المحقق فلا شكّ أنه يتنافى مع مقاصد الشريعة المطهّرة، التي جاءت لإبعاد الناس عن الفجور، فلا يأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم الرجل بإقرار أهله على الفاحشة، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]، وما نزل الوحي إلا بالنهي عن الفحشاء، كما قال اللَّه عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} الآية [الأعراف: 28]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(قَالَ: أَبو عَبْد الرَّحْمَنِ) النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- (هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بثَابِتٍ) لأن الصحيح إرساله، والمرسل ضعيف، وأما وصله بذكر ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، فغير صحيح؛ لأنه من رواية عبد الكريم أبي أميّة، وهو ضعف جدًّا، كما بينه بقوله (وَعَبْدُ الْكَرِيمِ لَيْسَ بِالقَويّ) بل هو ممن أجمعوا على ضعفه، كما سبق في ترجمته (وَهَارُونُ بْنُ رِئَابٍ، أَثْبَتُ مِنْهُ، وَقَدْ أَرْسَلَ الْحَدِيثَ، وَهَارُونُ ثِقَةٌ، وَحَدِيثُهُ) أي حديث هارون (أَوْلَى بِالصَّوَابِ) لكونه ثقة (مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْكَرِيمِ) الضعيف الذي رواه موصولًا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعَالى عنه -: حاصل كلام المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- تضعيف وصل هذا الحديث؛ وإنما هو مرسلٌ؛ وذلك لأنه من رواية عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو شديد الضعف، لكن سيأتي له الحديث -34/ 3466 - موصولاً بذكر ابن عباس من رواية النضر بن شُميل، عن حماد بن سلمة، وغاية ما علّل به تلك الرواية مخالفة النضر ليزيد بن هارون، لكن هذا لا يضرّه؛ لأن النضر ثقة ثبت حافظ، فوصله زيادة ثقة، ولا سيّما وقد أخرجه من رواية الحسين بن واقد، عن عُمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

والحاصل أن الحديث متّصلٌ صحيحٌ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح، كما سبق البحث عنه آنفًا.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-12/ 3230 و 34/ 3465 و 3466 - وفي "الكبرى" 12/ 5339 و 540 و 35/ 5658 و 5659. وأخرجه (د) في "النكاح" 2049. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 107

‌13 - (بَابُ كَرَاهِيَةِ تَزْوِيجِ الزُّنَاةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه استدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بحديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - المذكور على الترجمة أنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بنكاح ذات الدين، حيث قال:"فاظفر بذات الدين" فهم منه النهي عن نكاح ضدّها، والزانية من أشدّ أضدادها.

ثم إنه كان الأولى له أن يدخل هذا الحديث تحت الترجمة السابقة؛ لأن معنى الترجمتين متقارب، إذ الكراهية في عرف السلف بمعنى التحريم، كما في قوله تعالى بعد أن ذكر عدّة محرمات:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3231 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «تُنْكَحُ النِّسَاءُ لأَرْبَعَةٍ لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عبيد اللَّه بن سعيد) أبو قُدامة السرخسيّ، ثقة ثبت سنّيّ [10] 15/ 15.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان، البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(عبيد اللَّه) بن عمر بن حفص العمريّ المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [5] 15/ 15.

4 -

(سعيد بن أبي سعيد) المقبريّ، أبو سعد المدنيّ، ثقة تغير قبل موته بأربع سنين [3] 95/ 117.

5 -

(أبوه) كيسان المقبريّ، مولى أم شريك، أبو سعيد المدني، ثقة ثبت [2] 63/ 872.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فسرخسيّ، ويحيى، فبصريّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: عبيد اللَّه، وسعيد، وأبوه، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة أكثر من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 108

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنِ النَّبِيِّ، قَالَ: "تُنْكَحُ النِّسَاءُ) وفي "الكبرى": "المرأة". وهو فعلٌ ونائب فاعله. قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: الصحيح في معنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بما يفعله الناس في العادة، فإنهم يقصدون هذه الخصال الأربع، وآخرها عندهم ذات الدين، لا أنه أمر بذلك انتهى

(1)

.

وقال أبو العباس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: معنى الحديث أن هذه الخصال الأربع، هي المرغّبة في نكاح المرأة، وهي التي يقصدها الرجال من النساء، فهو خبرٌ عما في الوجود من ذلك، لا أنه أمرٌ بذلك، وظاهره إباحة النكاح لقصد مجموع هذه الخصال، أو لواحدة منها، لكن قصد الدين أولى وأهمّ، ولذلك قال:"فاظفر بذات الدين، تربت يمينك".

قال: ولا يُظنّ من هذا الحديث أن مجموع هذه الأربع، والمساواة فيها هي الكفاءة، فان ذلك لم يقل به أحدٌ من العلماء فيما علمتُ، وإن كانوا قد اختلفوا في الكفاءة ما هي؟ انتهى

(2)

.

(لِـ) أجل (أَرْبَعَةٍ) وفي نسخة: "لأربع"، ولكلّ وجهٌ، وذلك أن تقدير الأول لأربعة أمور، وتقدير الثاني: لأربع خصال (لِمَالِهَا، وَلِحَسَبهَا) بفتح المهملتين، ثم موحّدة: أي شرفها، والحسب في الأصل الشرف بالآباء، وبالأقارب، مأخوذ من الحساب؛ لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدّوا مناقبهم، ومآثر آبائهم وقومهم، وحسبوها، فيُحكم لمن زاد عدده على غيره. وقيل: المراد بالحسب هنا الفَعَال الحسنة. وقيل: المال. وهو مردود لذكر المال قبله، وذكره معطوفًا عليه. وقد وقع في مرسل يحيى بن جَعْدةَ عند سعيد بن منصور:، على دينها، ومالها، وعلى حسبها، ونسبها". وذكر النسب على هذا تأكيدٌ. ويؤخذ منه أن الشريف النسيب يُستحبّ له أن يتزوّج نسيبةً، إلا إذا تعارض نسيبةٌ غيرُ ديّنة، وغيرُ نسيبة ديّنة، فتُقدّم ذات الدين، وهكذا في كلّ الصفات.

وأما قول بعض الشافعيّة: يُستحبّ أن لا تكون المرأة ذات قرابة قريبة، فإن كان مستندًا إلى الخبر فلا أصل له، أو إلى التجربة، وهو أن الغالب أن الولد بين القريبين يكون أحمق، فهو متّجه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه التجربة محلّ نظر. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- "شرح مسلم"10/ 293.

(2)

- "المفهم" 4/ 215 - 216.

ص: 109

وقد تقدم الحديث للمصنّف قبل بابين في -10/ 3227 - من طريق عطاء، عن جابر رضي الله عنه، وليس فيه ذكر الحسب، بل اقتصر فيه على الدين، والمال، والجمال.

(وَلِجَمَالِهَا) قال في "الفتح": يؤخذ منه استحباب تزويج الجميلة، إلا إن تعارض الجميلة غير الديّنة، وغير الجميلة الديّنة، نعم لو تساوتا في الدين، فالجميلة أولى، ويلتحق بالحسنة الذات الحسنة الصفات، ومن ذلك أن تكون خفيفة الصداق. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أخذ استحباب تزويج الجميلة من هذا الحديث محلّ نظر؛ إذ الصحيح أن الحديث خبر عن واقع الناس البخاري بينهم فيما يتعلّق بشأن النكاح، لا أنه أمر بذلك، حتى يُستفاد منه ما ذُكر. فتأمّل. واللَّه تعالى أعلم.

(وَلدِينِهَا، فَاظفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ) أي اطلبها حتى تفوز بها، وتكون محصّلاً بها غاية المطلوب. وفي حديث جابر رضي الله عنه المتقدِّم:"فعليك بذات الدين". قال في "الفتح": والمعنى: أن اللائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كلّ شيء، لا سيّما فيما تطول صحبته، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بتحصيل صاحبة الدين الذي هو غاية البغية. وقد وقع في حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه عند ابن ماجه، رفعه:"لا تَزَوُّجوا النساء لحسنهنَّ، فعسى حسنهنَّ أن يُرديهنّ -أي يهلكهنّ- ولا تَزَوّجوهنّ لأموالهنّ، فعسى أموالهنّ أن تُطغيهنّ، ولكن تزوّجوهنّ على الدين، ولأمة خَرماء سوداء ذات دين أفضل". انتهى

(1)

.

(تَرِبَتْ يَدَاكَ) من باب تعب: أي افتقرتا، كأنهما لصقتا بالتراب. وقال في "الفتح": أي لصقتا بالتراب، وهي كناية عن الفقر، وهو خبر بمعنى الدعاء، لكن لا يراد به حقيقته. وبهذا جزم صاحب "العمدة"، زاد غيره أنّ صدور ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم في حقّ مسلم لا يُستجاب؛ لشرطه ذلك على ربّه. وحكى ابن العربيّ أن معناه: استغنت. ورُدّ بأن المعروف أترب إذا استغنى، وتَرِب إذا افتقر، ووجّه بأن الغنى الناشئ عن المال تراب؛ لأن جميع ما في الدنيا تُراب، ولا يخفى بُعده. وقيل: معناه ضَعُف عقلك. وقيل: افتقرت من العلم. وقيل: فيه تقدير شرط: أي وقع لك ذلك إن لم تفعل. ورجّحه ابن العربيّ. وقيل: معنى افتقرت خابت.

وصحّفه بعضهم، فقال: بالثاء المثلّثة، ووجّهه بأن معنى ثَرَبَتْ: تفرّقت، وهو مثل حديث:"نُهي عن الصلاة إذا صارت الشمس كالأثارب". وهو جمع ثُرُوب، وأَثْرُب،

(1)

- لكن الحديث في سنده الإفريقي عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وقد ضعفه الأكثرون، وقد وثقه أحمد بن صالح المصريّ، وغيره، ويشهد لحديثه هذا حديث الباب، فالظاهر أن حديثه لا ينزل عن درجة الحسن.

ص: 110

مثل فُلُوس، وأفلُس، وهي جمع ثَرْب -بفتح أوّله، وسكون الراء- وهو الشحم الرقيق المتفرّق الذي يَغشَى الكرش. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-13/ 3231 - وفي "الكبرى" 11/ 5337. وأخرجه (خ) 5090 (م) في "الرضاع" 1466 (د) في "النكاح" 2047 (ق) في "النكاح" 1858 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 9237 (الدارميّ) في "النكاح" 2170. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو كراهية تزويج الزناة، ووجه الاستدلال به أن فيه الأمر بنكاح ذات الدين، والأمر بالشيء نهي عن ضدّه، والزانية من أشرّ الأضداد لذات الدين، فيكون نكاحها منهيًّا عنه، كما مرّ في أول الباب. (ومنها): الترغيب في نكاح ذوات الدين. (ومنها): الحثّ على مصاحبة أهل الدين في كلّ شيء؛ لأن مصاحبهم يستفيد من أخلاقهم، وبركات أنفاسهم، وحسن طرائقهم، ويأمن المفسدة من جهتهم. قال اللَّه تعالى حكايته عن موسى- عليه السلام:{قَالَ: لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]. وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} الآية [الكهف: 28].

وفي "الصحيحين" من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل الجليس الصالح، وجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك، إما أن يَحْذِيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه رائحة طيّبة، ونافخ الكير إما أن يَحرِق ثوبك، وإما أن تجد منه ريحًا منتنة".

(ومنها): أنه لا ينبغي للإنسان أن يستدلّ بالكثرة على كون الشيء صوابًا، فيتأسّى بأكثر الناس، ففي هذا الحديث أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أن ثلاثة أصناف من الناس مخطئون في اختيارهم لصفات الزوجيّة، وأن صنفًا واحدًا هو المصيب. (ومنها): أنه ينبغي للإنسان أن ينظر في عواقب الأمور، ومستقبلها، لا في في عاجلها، فإن الزوجة

(1)

- "فتح" 10/ 169. "كتاب النكاح".

ص: 111

الصالحة في دينها هي التي تكون بها السعادة في المستقبل، فإنها تحفظه في نفسها، وتحفظه في بيته، وتحفظه في ماله، وهي القرين الصالح النافع في الدنيا والآخرة، بخلاف ذات الجمال، والمال، والحسب، فإن السعادة بها قاصرة، غير مستمرّة، بل كثيرًا ما يكون ذلك لها غرورًا، يرديها، وُيردي من تعلّق بها. (ومنها): أنه لا يحرم على الشخص أن يرغب في نكاح ذات الحسب، والجمال، والمال، وإنما يعاب عليه إهمال أهمّ الصفات، وهو الدين. (ومنها): أن الإتيان بالكلمات التي ظاهرها الدعاء، أو مدلولها الذمّ، والتقبيح مما جاء على ألسنة العرب، أو على ألسنة الناس، لا يوقع في الإثم، إذا لم يقصد حقيقتها، وإنما استعملها على ما جرت به العادة، مثل "تربت يداك"، و"ثكلتك أمك"، و"ويل أمه"، ونحو ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(ومنها): أنّ المهلّب قال: في هذا الحديث دليل على أن للزوج الاستمتاع بمال الزوجة، فإن طابت نفسها بذلك حلّ له، وإلا فله من ذلك ما بذل لها من الصداق.

وتُعُقّب بأن هذا التفصيل ليس في الحديث، ولم ينحصر مقصود نكاح المرأة لأجل ما لها في استمتاع الزوج، بل قد يُقصد تزويج ذات الغنى لما عساه يحصل له منها ولدٌ، فيعود إليه ذلك المال بطريق الإرث، إن وقع، أو لكونها تستغني بمالها عن كثرة مطالبته بما يحتاج إليه النساء، ونحو ذلك.

قال الحافظ: وأعجب منه استدلال بعض المالكيّة به على أن للرجل أن يحجُر على امرأته في مالها. قال: لأنه إنما تزوّج لأجل المال، فليس لها تفويته عليه. ولا يخفى وجه الرّدّ. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌14 - (أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ)

3232 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ ، قَالَ: «الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ،

(1)

- "فتح" 10/ 196 - 170.

ص: 112

وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا، وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد الإمام الحجة الثبت المصريّ [7] 31/ 35.

3 -

(ابن عجلان) محمد المدنيّ، صدوق، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه[5] 36/ 40. والباقيان تقدما في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، وابن عجلان علّق له البخاريّ، وأخرج له مسلم متابعةٌ. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، والليث، فمصريان، وشيخه، وإن كان بغلانيا، إلا أنه دَخَلَ مصر. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟، قَالَ:"الَّتِي تَسُرُّهُ) من باب ردّ، يقال: سرّه يَسُرُّهُ سُرُورًا، والاسم السَّرُور - بالفتح-: إذا أفرحه. قاله الفيّوميّ، أي تُفرِح زوجها (إِذَا نَظَرَ) أي لحسنها ظاهرًا، أو لحسن أخلاقها باطنًا، ودوام اشتغالها بِطاعة اللَّه تعالى، والتقوى (وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ) أي بما لا يكون فيه معصيةٌ للَّه تعالى (وَلَا تخُالِفُهُ فِي نَفْسِهَا) أي بتمكين أحد من أن يفعل بها فاحشة (وَمَالِهَا) أي بأن تنفقه فيما لا يحلّ الإنفاق فيه (بِمَا يَكرَهُ) متعلّق بـ"تخالف"، فيكون قيدًا لكلّ من "نفسها"، و"مالها". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح. وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-14/ 3232 - وفي "الكبرى" 15/ 5343.

[فإن قلت]: كيف يكون صحيحًا، وفيه محمد بن عجلان، وقد تقدّم آنفًا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه -؟.

[قلت]: إنما صحّ بشواهده، فقد أخرج الطيالسيّ ص 306 - رقم 2325 - : ثنا أبو معشر، عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خير النساء التي إذا نظرت إليها سرّتك

" الحديث نحوه، وزاد في آخره: قال: وتلا هذه الآية:

ص: 113

{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} إلى آخر الآية [النساء: 134]. وأبو معشر اسمه نَجيح، ضعيف.

وله شاهد من حديث عبد اللَّه بن سلام رضي الله عنه، قال الهيثميّ -4/ 273 - رواه الطبراني، وفيه زُريك بن أبي زُريك، ولم أعرفه، وبقيّة رجاله ثقات. انتهى.

وقوله: لم أعرفه، فيه أن غيره قد عرفه، فقد وثّقه ابن معين، وابن الجنيد، كما ذكر ذلك ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 3/ 624 - .

ومن طريق الطبرانيّ، أخرجه الضياء في "المختارة" -58/ 180/ 1. فالإسناد صحيح.

وله شاهد آخر بلفظ: "ألا أخبر بخير ما يكنز المرء؟، المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته"

(1)

.

وله شاهد آخر بلفظ: "ما استفاد المؤمن بعد تقوى اللَّه خيرا

له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرّته، وإن أقسم عليها أبرّته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله"

(2)

.

والحاصل أن الحديث صحيح بهذه الشواهد، ولا سيّما حديث عبد اللَّه بن سلام رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌15 - (المَرْأَةُ الصَّالِحةُ)

3233 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا حَيْوَةُ -وَذَكَرَ آخَرَ- أَنْبَأَنَا شُرَحْبِيلُ بْنُ شَرِيكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ

(1)

- رواه أبو داود 1/ 264 والحاكم في "المستدرك" 1/ 408 - 409 والضياء المقدسيّ في "المختارة"، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ، وأقرّه ابن كثير في "التفسير" 2/ 351 وقال الحافظ العراقيّ في "تخريج الإحياء" 2/ 36: سنده صحيح. لكن قد ضعفه الشيخ الألباني، وبين علّته في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" 3/ 484 - 488 رقم 1319. وأطال النفس في بيان العلّة، فراجعه تستفد.

(2)

- رواه ابن ماجه في "سننه" رقم - 1857 - "كتاب النكاح"، وهو ضعيف جدًّا، في سنده علي بن يزيد الألهانيّ منكر الحديث، وعثمان بن أبي العاتكة مختلف فيه.

ص: 114

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ) المقرئ، أبو يحيى المكيّ، ثقة [10] 11/ 11.

2 -

(أبوه) عبد اللَّه بن يزيد المقرئ، أبو عبد الرحمن المكيّ الثقة الثبت، أقرأ القرآن نيفًا وسبعين سنة [9] 4/ 746.

3 -

(حيوة) شُريح التجيبيّ، أبو زرعة المصريّ الثقة الثبت الفقيه الزاهد [7] 17/ 478.

4 -

(شُرَحبيل بن شريك) المعافريّ، أبو محمد المصريّ، صدوق [6] 12/ 320.

5 -

(أبو عبد الرحمن الحبليّ) عبد اللَّه بن يزيد المعافريّ المصريّ، ثقة [3] 60/ 1303.

6 -

(عبد اللَّه بن عمرو بن العاص) - رضي اللَّه تعالى عنهما - 89/ 111. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسلٌ بالمصريين، غير شيخه، وأبي شيخه، فهما مكيّان. (ومنها): أن شرحبيل بن شريك ليس له عند المصنّف غير حديثين، حديث الباب، وحديث أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه مرفوعًا:"غدوة في سبيل اللَّه، أو روحةٌ خيرٌ مما طلعت عليه الشمس، وغربت"، تقدم في "الجهاد" برقم 12/ 3120. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قوله: "وذكر آخر" الذاكر هو أبو محمد، يعني أنه ذكر مع حيوة رجلاً آخر حدّثه بهذا الحديث عن شُرحبيل بن شريك، والظاهر أن الآخر هو عبد اللَّه بن لهيعة، فكثيرًا ما يذكره المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- مبهمًا متابعةٌ، وقد تقدم تحقيق ذلك في مقدمة هذا الشرح. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (إِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا مَتَاعٌ) أي تمتّع قليل، ونفعٌ زائل عن قريب، قال تعالى:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77]. وقال صلى الله عليه وسلم: "لو كانت الدنيا تعدل عند اللَّه جناح بَعُوضةٍ ما سقى

ص: 115

الكافر منها شَرْبة ماء"

(1)

. قاله القاريّ. وقال السنديّ: أي محلّ للاستمتاع، لا مطلوبة بالذات، فتؤخذ على قدر الحاجة (وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا) أي خير ما يُتمتّع به في الدنيا (الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ) أي لأنها مُعينة على أمور الآخرة. قال القرطبيّ: هي الصالحة في دينها، ونفسها، والمصلحة لحال زوجها. وهذا كما قال في الحديث الآخر:"ألا أُخبركم بخير ما يَكنُزُ المرء؟ "، قالوا: بلى، قال:"المرأة الصالحة، التي إذا نظر إليها سرّته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته"

(2)

. قال الطيبيّ -رحمه اللَّه تعالى-. وقيّد بالصالحة إيذانًا بأنها شرٌّ لو لم تكن على هذه الصفة. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-15/ 3233 - وفي "الكبرى" 16/ 5344. وأخرجه (م) في "الرضاع" 1467 (ق) في "النكاح" 1855 (أحمد) في "مسند المكثرين" 6531، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو فضل المرأة الصالحة.

(ومنها): أن فيه الحثَّ على الزهد في الدنيا، حيث إنها متاعٌ قليلٌ زائلٌ عن قريب، فهي كما قال اللَّه تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]، والترغيب في الآخرة، حيث إنها النعيم المقيم الذي لا يزول، ولا يحول، فهي كما وصفها اللَّه تعالى بقوله:{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

(ومنها). أن فيه الحثّ على البحث عن المرأة الصالحة؛ إذ هي أفضل متاع الدنيا، فينبغي للعاقل البحث، والتنقيب عنها؛ لتتكامل له الحياة المرضيّة التي تتّصل بالحياة الأبديّة، والسعادة السرمديّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ، والضياء المقدسيّ من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

(2)

- "رواه أبو داود" برقم 1664. وتقدّم أنه حديث ضعيف.

ص: 116

‌16 - (الْمَرْأَةُ الْغَيْرَاءُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الغيراء" بالمدّ كما هو في معظم نسخ "المجتبى"، وكذا في "الكبرى"، وفي بعض النسخ "الغيرَى" بالقصر، وهو الموافق لما في كتب اللغة.

قال الفّيوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: غار الرجل على امرأته، والمرأة على زوجها، يَغار، من باب تَعِبَ غَيْرًا، وغَيْرَةً -بالفتح- وغارًا. قال ابن السّكّيت: ولا يُقال: غِيَرًا، وغِيَرَةً -بالكسر- فالرجل غَيُورٌ، وغَيْرَان، والمرأة غَيُورٌ أيضًا، وغَيْرَى، وجمع غَيُور غُيُرٌ، مثلُ رَسُول ورُسُل، وجمع غَيران، وغَيْرَى غُيَارَى بالضمّ، والفتح، وأغار الرجل زوجته: تزوّج عليها، فغارت عليه. انتهى. وفي "النهاية" "الغيرة": هي الحَمِيَّةُ والأنَفَةُ. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3234 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأَنَا النَّضْرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَتَزَوَّجُ مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ؟ ، قَالَ: «إِنَّ فِيهِمْ لَغَيْرَةً شَدِيدَةً»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المروزيّ، نزيل نيسابور، ثقة ثبت فقيه [10] 2/ 2

2 -

(النضر) بن شُميل المازنيّ، أبو الحسن النحوي البصري، نزيل مرو، ثقة ثبت، من كبار [9] 40/ 2208.

3 -

(حماد بن سلمة) المذكور قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(إسحاق بن عبد اللَّه) بن أبي طلحة الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقة حجة [4] 19/ 20.

5 -

(أنس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه أنسًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم - بالبصرة. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"النهاية" ج3 ص401.

ص: 117

شرح الحديث

(عَنْ أَنَسٍ) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه قال (قَالُوا) أي الصحابة، أو الأنصار رضي الله عنه (يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا) -بفتح الهمزة، وتخفيف اللام-: معناها هنا العرض، وهو الطلب بلين، كما في قوله تعالى:{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [النور: 22] بخلاف التحضيض، فإنه طلب بِحَث وإزعاج (تَتَزَوَّجُ مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ؟، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّ فِيهِمْ لَغَيْرَةً) بفتح الغين المعجمة، وسكون التحتانيّة-: هي الْحَمِيّةُ والأنَفَةُ، وإنما وصفها بقوله (شَدِيدَةً) لأن أصل المغيرة ليس مذمومًا؛ لأنه من طبيعة النساء، وإنما المذموم ما كان شديدًا. وجملة "إن" تعليلٌ لمحذوف، تقديره: لا أتزوّج منهنّ؛ لأن فيهنّ غيرةً شديدةً، يترتب عليها سوء العشرة، التي توقع الإنسان في مخالفة قوله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية [النساء: 19]

وفيه أنه لا ينبغي نكاح المرأة الشديدة الغيرة، وهو الذي أراده المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بعقد هذا الباب هنا، وذلك لأن شدة غيرتها يحملها على أن لا تراعي حقوق الزوج، ومن ثمّ يكافئوها هو بسوء العشرة، فيخلّ كلٌّ منهما بما أوجب اللَّه تعالى عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-13/ 3234 - وفي "الكبرى"13/ 5341. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌17 - (إِبَاحَةُ النَّظَرِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ)

3235 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ

(1)

، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ

(2)

، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ- عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَطَبَ رَجُلٌ امْرَأَةً، مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا؟» ، قَالَ: لَا، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا).

(1)

- زاد في "الكبرى": "دُحيم الدمشقيّ، قاضي الرملة".

(2)

- زاد في "الكبرى": "وهو ابن معاوية الفزاريّ".

ص: 118

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عبد الرحمن بن إبراهيم) الدمشقيّ الحافظ الثبت المعروف بـ"دُحيم بن اليتيم"

2 -

(مروان) بن معاوية الفزاريّ الكوفيّ، ثم المكيّ، ثم الدمشقيّ، الثقة الحافظ، وكان يدلّس أسماء الشيوخ [8] 50/ 850.

3 -

(يزيد بن كيسان) اليشكريّ، أبو إسماعيل، أو أبو مُنَين الكوفيّ، صدوق يخطئ [6] 173/ 270.

4 -

(أبو حازم) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ الثقة [3] 110/ 149.

[تنبيه]: زاد في "الكبرى": ما نصّه: قال لنا أبو عبد الرحمن: واسم أبي حازم هذا سلمان، مولى عَزَّة، كوفيّ. واسم أبي حازم المدينيّ وهو ابن دينار

(1)

، وهو والد عبد العزيز بن أبي حازم انتهى

(2)

.

5 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخه، فدمشقيّ، وغير الصحابيّ، فمدنيّ. (ومنها): أنّ فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: خَطَبَ رَجُلٌ) يحتمل أن يكون هو المغيرة بن شعبة الآتي في الحديث التالي، كما قال الحافظ في "الفتح"

(3)

(امْرَأَةً، مِنَ الأَنْصَارِ) وفي الرواية الآتية من طريق سفيان بن عيينة، عن يزيد بن كيسان:"أن رجلاً أراد أن يتزوّج امرأةً، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها

". وفي رواية لمسلم من طريق سفيان بن عيينة، عن يزيد بن كيسان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجلٌ، فأخبره أنه تزوّج امرأةً من الأنصار

". ومعنى "تزوّج" أراد أن يتزوّج، كما فسّرته رواية المصنّف (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا؟) وفي الرواية

(1)

- هكذا نسخة "الكبرى"، والظاهر أنه سقط ذكر اسمه، وهو سلمة. فليُحرّر.

(2)

- راجع "الكبرى" 3/ 272 رقم 17/ 5345.

(3)

- "فتح" 10/ 227.

ص: 119

الآتية-23/ 3247 - من طريق عليّ بن هاشم بن الْبَرِيد، عن يزيد بن كيسان:"ألا نظرت إليها؟ "("قَالَ: لَا، فَأَمَرَهُ) قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا الأمر على جهة الإرشاد إلى المصلحة، فإنه إذا نظر إليها -أعني المخطوبة- فلعلّه يرى منها ما يُرغّبه في نكاحها. وقد نبّه النبيّ صلى الله عليه وسلم -على هذا بقوله فيما ذكره أبو داود من حديث جابر رضي الله عنه، إذ قال:"إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل"

(1)

. ولا يقال مثلُ هذا في الواجب، وقاعدة النكاح- وإن كان معاوضةً- مفارقةٌ لقاعدة البيوع، من حيث إنها مبنيّةٌ على المكارمة، والمواصلة، وإظهار الرغبات، والعمل على مكارم الأخلاق، بحيث يجوز فيها النكاح من غير ذكر صداق، وتجوز فيها ضروبٌ من الجهالات والأحكامِ، لا يجوز شيء منها في البيوع، والمعاملات المبنيّة على المشاحّة، والمغابنة. ومن هنا جاز عقد النكاح على امرأة لا يُعرف حالها من جمال، وشباب، وحسن خُلُقٍ، وتمام خَلْقٍ، وهذه وإن كانت مجهولةً حالة العقد، لم يضرّ الجهل بها؛ إذ لم يلتفت الشرع إليه في هذا الباب، فالأمر بالنظر إلى المخطوبة أحرى بأن لا يكون واجبًا، فلم يبقَ إلا أن يحمل ذلك الأمر على ما تقدّم، وبهذا قال جمهور الفقهاء: مالكٌ، والشافعيّ، والكوفيّون، وغيرهم، وأهل الظاهر، وقد كره ذلك قومٌ، لا مبالاة بقولهم للأحايث الصحيحة في هذا الباب انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

(أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا) زاد في رواية سفيان المذكورة: "فإن في أعين الأنصار شيئًا".

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: هكذا الرواية المشهورة: "شيئًا" بالهمز، وهو واحد الأشياء. قيل: المراد صغرٌ. وقيل: زُرْقةٌ. انتهى.

(1)

رواه الشافعيّ، وأحمد، وعبد الرزاق، والبزار، والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبيّ. قال الحافظ: ورجاله ثقات، وفي إسناده محمد بن إسحاق. يعني أنه مدلّس، لكنه صرّح بالتحديث في إحدى روايتي أحمد. وأعلّه ابن القطّان بواقد بن عبد الرحمن، وقال: المعروف واقد بن عمرو، قال الحافظ: ورواية الحاكم فيها واقد بن عمرو، وكذا رواية الشافعيّ، وعبد الرزاق. انتهى "التلخيص الحبير" 3/ 306.

قال الإمام أحمد:- حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، مولى عمرو بن عثمان، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاريّ، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا خطب أحدكم المرأة، فقدر أن يرى منها بعض ما يدعوه إليها، فليفعل". انتهى "المسند" رقم 14340.

قال الجامع - عفا للَّه عنه: هذا إسناد ثقات، والأكثرون على أن واقدًا هو ابن عمرو، وهو ثقة من رجال مسلم، وأما واقد بن عبد الرحمن فمجهول، فالحديث عندي صحيح.

(2)

"المفهم" 4/ 125 - 126.

ص: 120

وقال الغزاليّ في "الإحياء": اختلف في المراد بقوله: "شيئًا"، فقيل: عَمَشٌ. وقيل: صغرٌ. قال الحافظ: الثاني وقع في رواية أبي عوانة في "مستخرجه"، فهو المعتمد انتهى

(1)

.

وزاد مسلم من رواية يحيى بن معين، عن مروان بن معاوية: قال: قد نظرتُ إليها، قال:"على كم تزوّجتها؟ "، قال: على أربع أواقٍ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"على أربع أواق؟، كأنما تَنْحتون الفضّة من عُرْض هذا الجبل، ما عندنا ما نُعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعثٍ، تُصيب منه"، قال: فبعث بعثًا إلى بني عبس، بعث ذلك الرجل فيهم.

وقوله: "من عُرض الخ" العرض -بضم المهملة، فسكون الراء-: هو الجانب والناحية. و"تنحتون" -بكسر الحاء المهملة-: أي تقطعون.

ومعنى هذا الكلام: كراهة إكثار المهر بالنسبة إلى حال الزوج

(2)

.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا الإنكار منه صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل المتزوّج على أربعة أواق ليس إنكارًا لأجل المغالاة، والإكثار في المهر، فإنه صلى الله عليه وسلم قد أصدق نساءه خمسمائة درهم، وأربعةُ أواق مائة وستّون درهمًا، وإنما أنكر بالنسبة إلى حال الرجل، فإنه كان فقيرًا في تلك الحال، فأدخل نفسه في مشقّة تَعَرَّضَ للسؤال بسببها، ولذلك قال له:"ما عندنا ما نعطيك"، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم بكرم أخلاقه، ورأفته، ورحمته جبر منكسر قلبه بقوله:"ولكن عسى أن نبعثك في بعث، فتُصيب منه". يعني سريّةً في الغزو، فبعثه، فأصاب حاجته ببركة النبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى

(3)

.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-17/ 3235، و 23/ 3247 و 3248 - وفي "الكبرى" 17/ 5345 و 18/ 5347 و 5348. وأخرجه (م) في "النكاح" 1424 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7783 و 7919. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- "فتح" 10/ 227.

(2)

- "شرح النوويّ على مسلم 9/ 213 - 214.

(3)

- "المفهم" 4/ 126 - 127.

ص: 121

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو إباحة نظر الخاطب مخطوبته قبل أن يتزوّجها؛ وذلك ليكون داعيًا لنكاحها، أو دافعًا لتركها، كما بينه صلى الله عليه وسلم في الحديث التالي بقوله:"فإنه أجدر أن يُؤْدَم بينكما". (ومنها): أن هذا مما يُستثى من تحريم نظر وجه الأجنبيّة للضرورة. (ومنها): أن فيه فضلَ الشريعة السمحة، وإحكام توجيهاتها، حيث تراعي مصالح العباد التي تنتظم بها معاشهم، ومعادهم، من غير حصول ندم، وتحسّر على الفائت، فإن الذي يتسارع إلى نكاح امرأة من غير نظر إليها، وتروٍّ في شأنها كثيرًا ما يقع في عكس مراده، إذا لم تعجبه المرأة، ولم تنبسط نفسه إليها، فيؤدّي ذلك إلى فراقها، وإلحاق الضرر بها بقطع أطماعها، فتلافيًا لمثل هذه الأخطار شرع الشارع الحكيم النظر إلى المخطوبة قبل النكاح، وإن كانت أجنبيّة دفعًا لأشدّ المفسدتين بأخفّهما. فما أجمل هذا التشريع، وما أحكمه؟. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في حكم النظر إلى المرأة قبل النكاح:

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: ذهب مالك، وأبو حنيفة، وسائر الكوفيين، والشافعيّ، وأحمد، وجماهير العلماء، إلى استحباب النظر إلى من يريد تزويجها. وحكى القاضي عياض عن قوم كراهته، وهذا خطأ، مخالفٌ لصريح هذا الحديث، ومخالفٌ لإجماع الأمة على جواز النظر للحاجة عند البيع، والشراء، والشهادة، ونحوها.

قال: ثمّ إنه إنما يباح له النظر إلى وجهها، وكفّيها فقط؛ لأنهما ليسا بعورة، ولأنه يُستدلّ بالوجه على الجمال، أو ضدّه، وبالكفّين على خُصُوبة البدن، أو عدمها. قال: هذا مذهبنا، ومذهب الأكثرين. وقال الأوزاعيّ: ينظر إلى مواضع اللحم. وقال داود: ينظر إلى جميع بدنها. وهذا خطأٌ ظاهرٌ، منابذ لأصول السنّة، والإجماع.

قال: ثم مذهبنا، ومذهب مالك، وأحمد، والجمهور أنه لا يُشترط في جواز النظر رضاها، بل له ذلك في غفلتها، ومن غير تقدّم إعلام. لكن قال مالك: أكره نظره في غفلتها، مخافة وقوع نظره على عورة. وعن مالك رواية ضعيفة أنه لا ينظر إليها إلا بإذنها. وهذا ضعيفٌ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أذن في ذلك مطلقًا، ولم يشترط استئذانها؛ ولأنها تستحيي غالبًا من الإذن، ولأن في ذلك تغريرًا، فربما رآها، فلم تُعجبه، فيتركها، فتنكسر، وتتأذّى. ولهذا قال أصحابنا: يستحبّ أن يكون نظره إليها قبل الخِطْبة، حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء، بخلاف ما إذا تركها بعد الخِطبة. انتهى

ص: 122

كلام النوويّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحقّ أن النظر جائز، مطلقًا، فتقييد النظر بالوجه والكقين مخالفٌ لظاهر الحديث، وبهذا يقول داود، وابن حزم، وهو رواية عن أحمد أيضًا، قال ابن القيّم في (تهذيب السنن) وقال: داود: ينظر إلى سائر جسدها، وعن أحمد ثلاث روايات: إحدهنّ ينظر إلى وجهها ويديها. والثانية: ينظر ما يظهر غالبًا، كالرقبة، والساقين، ونحوهما. والثالثة: ينظر إليها كلها عورة، وغيرها، فإنه نصّ عن أحمد على أنه يجوز أن ينظر إليها متجرّدة. انتهى

(1)

.

وقال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى- في "المغني": قال أحمد في رواية حنبل: لا بأس أن ينظر إليها، وإلى ما يدعوه إلى نكاحها، من يد، وجسمٍ، ونحو ذلك. قال أبو بكر- يعني المروزيّ-: لا بأس أن ينظر إليها عند الخِطْبة حاسرةً.

قال: ووجه جواز النظر إلى ما يظهر غالبًا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا أذن في النظر إليها من غير علمها، عُلم أنه أذن في النظر إلى جميع ما يظهر عادةً؛ إذ لا يمكن إفراد الوجه بالنظر مع مشاركة غيره له في الظهور؛ ولأنه يظهر غالبًا، فأُبيح النظر إليه كالوجه؛ ولأنها امرأة أُبيح النظر إليها بأمر الشارع، فأبيح النظر منها إلى ذلك كذوات المحارم انتهى

(2)

.

وقال أبو محمد بن حزم -رحمه اللَّه تعالى- في "المحلَّى": ومن أراد أن يتزوّج امرأةً حرّةٌ، أو أمة فله أن ينظر منها متغفّلاً لها، وغير متغفّلٍ إلى ما بطن منها، وظهر. قال: وقد اختلف الناس في ذلك، فصحّ عن ابن عمر إباحة النظر إلى ساقها، وبطنها، وظهرها، ويضع يده على عجزها، وصدرها، ونحو ذلك عن عليّ، ولم يصحّ عنه، وصحّ عن أبي موسى الأشعريّ إباحة النظر إلى ما فوق السرّة، ودون الركبة انتهى

(3)

.

والحاصل أن الصواب إطلاق الجواز، فقد أخرج أحمد في "مسنده" ما هو صريح في إطلاق الجواز، وإن كانت غافلة، فقال -رحمه اللَّه تعالى-:

حدثنا أبو كامل، حدثنا زهير، حدثنا عبد اللَّه بن عيسى، حدثني موسى بن عبد اللَّه ابن يزيد، عن أبي حميد، أو أبي حميدة -قال: وقد رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم امرأة، فلا جناح عليه أن ينظر إليها، إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته، وإن كانت لا تَعلَم".

وهذا إسناد صحيح، والشكّ في الصحابيّ لا يضرّ، فقد صرّح بجواز رؤيتها، وإن

(1)

- "تهذيب السنن" 3/ 25/ 26.

(2)

- "المغني" 9/ 490 - 491.

(3)

- "المحلّى" 10/ 30 - 31.

ص: 123

كانت غافلة.

وأيضًا فالنبيّ صلى الله عليه وسلم حينما قال للصحابي: "انظر إليها" ما حدّد له موضعًا للنظر، بل أطلق، وقد تأيد هذا بعمل راويه الصحابيّ رضي الله عنه، فقد صحّ أن جابرًا رضي الله عنه تخبّأ لمخطوبته حتى ينظر إليها غافلة، فنظر إليها، فأعجبته، فنكحها.

وُيروى أيضًا عن محمد بن مسلمة الأنصاريّ رضي الله عنه، وفي سنده حجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، ورواه ابن حبّان في "صحيحه"، وفيه ضعف أيضًا، غير أن للحديث طرقًا يتقوّى بمجموعها

(1)

.

وقد صحّ فعله عن عمر رضي الله عنه، فقد أخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي عمر، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن عليّ ابن الحنفيّة، أن عمر رضي الله عنه خطب إلى عليّ ابنته أمّ كلثوم، فذكر له صغرها، فقيل له: إنه ردّك، فعاوده، فقال له عليّ: أبعثُ بها إليك، فإن رضيتَ، فهي امرأتك، فأرسل بها إليه، فكشف عن ساقها، فقالت: مَهْ، لولا أنك أمير المؤمنين لصككتُ عينيك"

(2)

.

فقد كشف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ساق مخطوبته، ولذا قال الحافظ في "التلخيص": وهذا يُشكل على من قال: إنه لا ينظر غير الوجه والكفّين.

وقال بعض المحقّقين: وتأيّد ذلك بعمل الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم محمد بن مسلمة، وجابر بن عبد اللَّه، فإن كلًّا منهما قد تخبّأ لخطيبته ديرى منها ما يدعوه إلى نكاحها، أفيظنّ بهما عاقلٌ أنهما تخبّآ للنظر إلى الوجه والكفّين فقط، ومثل عمر بن الخطّاب الذي كشف عن ساقي أم كلثوم بنت عليّ رضي الله عنه.

فهؤلاء ثلاثة من كبار الصحابة، أحدهم الخليفة الراشد أجازوا النظر إلى أكثر من الوجه والكفّين، ولا مخالف لهم من الصحابة فيما أعلم انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تلخّص مما ذُكر من الأقوال في هذه المسألة، وأدلّتها أن إطلاق جواز النظر إلى المخطوبة، سواء كان كفيها، ووجهها، أو غيرهما من بدنها، وسواء كان بإذنها، أو لا، هو الحقّ الموافق لظواهر أحاديث الباب، وعمل هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، فقد فعله عمر، وجابر، ومحمد بن مسلمة، وصحّ القول به عن ابن عمر، وأبي موسى الأشعريّ، كما تقدّم لي كلام ابن حزم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: قال: أصحابنا: وإذا لم يمكنه النظر إليها

(1)

- راجع "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ 1/ 152 - 159. رقم 87 و 98 و 99.

(2)

- راجع "الإصابة" 13/ 280.

ص: 124

استُحبّ له أن يبعث امرأةَ يَثِق بها تنظر إليها، وتخبره، ويكون ذلك قبل الخطبة؛ لما ذكرناه انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: يؤيّد ما قالوه: ما أخرجه أحمد، والطبرانيّ، والحاكم، والبيهقيّ من حديث أنس رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم بعث أمّ سُليم إلى امرأة، فقال:"انظري إلى عرقوبها، وشُمّي عوارضها"، ولفظ الطبرانيّ:"وشُمِّي معاطفها". واستنكره أحمد، والمشهور فيه طريق عُمارة، عن ثابت، عنه. ورواه أبو داود في "المراسيل" عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن ثابت. ووصله الحاكم من هذا الوجه بذكر أنس فيه، وتعقّبه البيهقيّ بأن ذكر أنس فيه وَهَم. قال: ورواه أبو النعمان، عن حماد مرسلاً، قال: ورواه محمد بن كثير الصنعانيّ، عن حماد موصولاً. قاله الحافظ في "التلخيص"

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: يتبيّن مما ذُكر أن الأرجح في الحديث الإرسال. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(فائدة): روى عبد الرزّاق في "الأمالي" -2/ 46/1 - بسند صحيح، عن ابن طاوس، قال: أردت أن أتزوّج امرأةً، فقال لي أبي: اذهب، فانظر إليها، فذهبت، فغلست رأسي، وترجّلت، ولبست من صالح ثيابي، فلما رآني في تلك الهيئة قال: لا تذهب انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن منع طاوس لابنه أن يذهب متزيّنًا خشية أن تغترّ المرأة بذلك، فتقع في الندم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[فائدة آخرى]: كتب الشيخ الألباني حفظه تعالى كلامًا نفيسًا مهما، قال في "السلسلة الصحيحة" -1/ 158 - بعد تخريجه أحاديث الباب: ما نصّه:

هذا: ومع صحّة الأحاديث في هذه المسألة، وقول جماهير العلماء بها -على الخلاف السابق- فقد أعرض كثير من المسلمين في العصور المتأخّرة عن العمل بها، فإنهم لا يسمحون للخاطب بالنظر إلى فتاتهم -ولو في حدود القول الضيّق- تورّعًا منهم- زعموا-، ومن عجائب الورع البارد أن بعضهم يأذن لابنته بالخروج إلى الشارع سافرةً بغير حجاب شرعيّ، ثم يأبى أن يراها الخاطب في دارها، وبين أهلها بثياب الشرع.

وفي مقابل هؤلاء بعض الآباء المستهترين الذين لا يَغارون على بناتهم، تقليدًا منهم

(1)

- "شرح مسلم" 9/ 214.

(2)

- "التلخيص الحبير" 3/ 307.

(3)

- راجع "السلسلة الصحيحة" للألبانيّ 1/ 154 تحت 98.

ص: 125

لأسيادهم الأوربيين، فيسمحون للمصوّر أن يصوّرهنّ، وهنّ سافرات سُفورًا غير مشروع، والمصوّر رجل أجنبيّ عنهنّ، وقد يكون كافرًا، ثم يقدّمون صورهنّ إلى بعض الشبّان بزعم أنهم يريدون خطبتهنّ، ثم ينتهي الأمر على غير خِطبة، وتظلّ صور بناتهم معهم، ليتغزّلوا بها، وليُطفئوا حرارة الشباب بالنظر إليها، ألا فتعسًا للآباء الذين لا يَغارون. وإنا للَّه، وإنا إليه راجعون انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3236 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ

(1)

، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ

(2)

، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: خَطَبْتُ امْرَأَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟» ، قُلْتُ: لَا، قَالَ:«فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد العزيز بن أبي رِزمة) -بكسر الراء، وسكون الزاي- بن غزوان- بفتح المعجمة، وسكون الزاي- أبو عمرو المروزيّ ثقة [10] 47/ 602.

2 -

(حفص بن غياث) بن طلق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ، القاضي، ثقة فقيه تغيّر حفظه قليلاً في الآخر [8] 86/ 105.

3 -

(عاصم) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقة [4] 148/ 239.

4 -

(بكر بن عبد اللَّه المزنيّ) أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة ثبت جليل [3] 87/ 107.

5 -

(المغيرة بن شعبة) بن مسعود بن معتب الثقفي الصحابي المشهور، أسلم رضي الله عنه قبل الحديبية، وولي إمرة البصرة، ثم الكوفة، مات سنة (50) على الصحيح، تقدمت ترجمته 16/ 17. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فمروزيّ وشيخ شيخه فكوفيٌّ. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- زاد في "الكبرى": ما نصّه: "المروزيّ، وأبو رزمة اسمه غزوان" انتهى. و"رزمة" -بكسر الراء، وسكون الزاي، و"غزوان" - بفتح الغين المعجمة، وسكون الزاي-.

(2)

- زاد في "الكبرى": "يعني ابن سليمان الأحول".

ص: 126

شرح الحديث

(عَنِ الْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: خَطَبْتُ امْرَأَةً عَلَى عَهْدِ) أي في وقت (رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ "، قُلتُ: لَا، قَالَ: "فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإنَّهُ أَجْدَرُ) أفعل تفضيل، من جدُر، من باب كرُم، يقال: هو جديرٌ بكذا، ولكذا: أَي خَليقٌ له، والجمع جَديرون، وجُدَراءُ، والأنثى جَديرة. أفاده في "اللسان"(أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا) بالبناء للمفعول، من أَدَمَ يَأْدِمُ أَدْمًا، بلا مدّ، من باب ضرب، أو من آدم بالمدّ يُؤْدِمُ إيدامًا، أي يوفَّقَ، ويؤلّف بينكما. قال ابن الأثير: أي تكون بينكما المحبّة والاتفاق، يقال: أَدَم اللَّه بينهما يَأْدِم أَدمًا بالسكون- من باب ضرب-: أي ألّف، ووفّق، وكذلك آدم يُؤْدِم بالمدّ، فَعَلَ، وأَفْعَلَ انتهى

(1)

.

وقال في "اللسان": "الأُدْمُ": الأُلفة، والاتفاقُ، وأَدَم اللَّهُ بينهم يَأْدِمُ أَدْمًا، ويقال: آدم بينهما يُؤْدِمُ إِيدامًا أيضًا، فَعَلَ، وأَفعَلَ بمعنًى، وأنشد:

وَالْبِيضُ لَا يُؤْدِمْنَ إِلاَّ مُؤْدَمًا

أي لا يُحْبِبْنَ إلا مُحبّبًا موضعاً لذلك. قال: وقال الكسائيّ في معنى الحديث: "يُؤدَمُ بينكما" يعني أن تكون بينهما المحبّة والاتفاق. قال أبو عبيد: لا أرى الأصل فيه إلا من أَدمِ الطعام لأن صلاحه وطيبه إنما يكون بالإدام، ولذلك يقال: طعامٌ مأدُومٌ انتهى.

وأخرج حديث المغيرة هذا الإمام أحمد في "مسنده"، والبيهقيّ في "سننه"، مطوّلاً، ولفظ أحمد- 4/ 244 و 245:

حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد اللَّه المزني، عن المغيرة بن شعبة، قال:"أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرت له امرأة أخطبها، فقال: "اذهب، فانظر إليها، فإنه أجدر أن يُؤْدَمَ بينكما"، قال: فأتيت امرأة من الأنصار، فخطبتها إلى أبويها، وأخبرتهما بقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكأنهما كرها ذلك، قال: فسَمِعَتِ ذلك المرأة، وهي في خِدْرِها، فقالت: إن كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر، فانظر، وإلا، فإني أنشدك، كأنها أعظمت ذلك عليه، قال: فنظرت إليها، فتزوجتها، فذكر من موافقتها.

وفي رواية البيهقيّ -7/ 84 - 85 - : "فقلت: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر إليها، قال: "فسكتا، قال: فرفعت الجارية جانب الخدر، فقالت: أُحرّج عليك إن كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر إليّ، لَمّا نظرتَ، وإن كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يأمرك أن

(1)

- "النهاية" 1/ 32.

ص: 127

تنظر إليّ فلا تنظر، قال: فنظرت إليها، ثم تزوّجتها، قال: فما وقعت عندي امرأة بمنزلتها، ولقد تزوّجتُ سبعين -أو بضعًا وسبعين امرأة انتهى.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث المغيرة بن شُعبة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-17/ 3236 - وفي "الكبرى" 17/ 5346. وأخرجه (ت) في "النكاح" 1087 (ق) في "النكاح" 1866 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 17671 و 17688 (الدارميّ) في "النكاح" 2172. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌18 - (التَّزْوِيجُ فِي شَوَّالٍ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "شَوَّال" بفتح الشين المعجمة، وتشديد الواو. قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: و"شوّالٌ" شهر عيد الفطر، وجمعه شوّالات، وشواويلُ، وقد تدخله الألف واللام. قال ابن فارس: وزعم ناسٌ أن الشّوّال سُمي بذلك لأنه وافق وقتًا تَشُول فيه الإبلُ. انتهى.

وقال ابن منظور -رحمه اللَّه تعالى-: وشَوّالٌ من أسماء المشهور، معروفٌ، اسم الشهر الذي يلي شهر رمضان، وهو أول أشهر الحجّ، قيل: سُمِّي بتشويل لبن الإبل، وهو تَولّيهِ، وإدباره، وكذلك حال الإبل في اشتداد الحرّ، وانقطاع الرّطْب. وقال الفرّاء: سُمّي بذلك لِشَوَلَان الناقة فيه بذنَبِها، والجمع شَوَاويل على القياس، وشَوَاوِل على طرح الزائد، وشوَالات. وكانت العرب تَطَيَّرُ من عقد النكاح فيه، وتقول: إن المنكوحة تمتنع من ناكحها كما تمتنع طَرُوقة الجَمَل إذا لَقِحَت، وشالت بذَنَبِها، فأبطل النبيّ صلى الله عليه وسلم طِيَرَتَهم انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3237 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي

(1)

- "لسان العرب" في مادة شال.

ص: 128

إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَوَّالٍ، وَأُدْخِلْتُ عَلَيْهِ فِي شَوَّالٍ -وَكَانَتْ عَائِشَةُ، تُحِبُّ أَنْ تُدْخِلَ نِسَاءَهَا فِي شَوَّالٍ- فَأَيُّ نِسَائِهِ كَانَتْ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيدُ اللَّه بن سَعِيدِ) أبو قدامة السرخسيّ، ثقة ثبت سنّيّ [10] 15/ 15.

2 -

(يحيي) بن سعيد القطّان البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 4.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه حجة [7] 33/ 37.

4 -

(و"إسماعيل بن أُميّة) بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية الأمويّ، ثقة ثبت [6] 16/ 2468.

5 -

(عبد اللَّه بن عروة) بن الزبير بن العوّام، أبي بكر الأسديّ، ثقة ثبت فاضلٌ [3].

قال أبو حاتم، والنسائيّ: ثقة. وقال الدارقطنيّ: ثقة أحد الأثبات. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال أحمد بن صالح المصريّ: ليس بينه وبين أبيه في السنّ إلا خمس عشرة سنة. وقال الزبير بن بكّار: كان له عقلٌ، وحزمٌ، ولسان، وفضلٌ، وشرفٌ، وكان يُشبه عبد اللَّه بن الزبير في لسانه، بلغ خمسًا، أو ستًا وتسعين سنة. وقال مصعبٌ الزبيريّ: كان عبد اللَّه بن الزبير يقول لعروة: ولدتَ لي، يريد أن عبد اللَّه بن عروة يشبهه، وزوّجه ابنته أم حكيم بعد أن خطبها معاوية على ابنه يزيد. وقال يوسف بن يعقوب الماجشون: كنت مع أبي في حاجة، فلما انصرفنا قال لي: هل لك في هذا الشيخ، فإنه من بقايا قريش، وأنت واجدٌ عنده ما شئت من حديث، ونُبْل رأيٍ، يريد عبد اللَّه بن عروة. بقي إلى أواخر دولة بني أميّة، وكان مولده سنة (45). روى له الجماعة، سوى أبي داود، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، أورده في موضعين: هنا 18/ 3237 وفي 77/ 3377.

6 -

(عروة) بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.

7 -

(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، وتابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة، عروة. (ومنها): أن فيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 129

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ:"تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَوَّالٍ، وَأُدْخِلْتُ) بالبناء للمفعول (عَلَيْهِ فِي شَوَّالٍ) ولمسلم: "وبنى بي في شوّال".

قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إنما قالت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - ذلك لتردّ به قول من كان يَكره عقدَ النكاح في شهر شوّال، ويتشاءم به من جهة أنّ شوّالاً من الشَّوْل، وهو الرفع، ومنه شالت الناقة بذنبها، وقد جعلوه كنايةً عن الهلاك؛ إذ قالوا: شالت نعامتهم: أي هلكوا، فشوّالٌ معناه كثير الشول، فإنه للمبالغة، فكأنهم كانوا يتوهّمون أن كلّ من تزوّج في شوّال منهنّ شال الشنآن بيها وبين الزوج، أو شالت نفرته، فلم تحصل لها حظوةٌ عنده، ولذلك قالت عائشة رادّةً لذلك الوهم:"فأيّ نسائه كان أحظى عنده منّي". أي لم يضرّني ذلك، ولا نقص من حظوتي انتهى

(1)

(وَكَانَتْ عَائِشَةُ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (تُحِبُّ أَنْ تُدْخِلَ نِسَاءَهَا) أي نساء قومها على أزواجهنّ (في شَوّالٍ) تبرّكًا بما حصل لها فيه من الخير برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومن الحظوة عنه، ولمخالفة ما يقوله الجهّال من ذلك.

قال القرطبيّ: ومن هذا النوع كراهة الجهّال عندنا اليومَ عقد النكاح في شهر المحرّم، بل ينبغي أن يُتيمّن بالعقد والدخول فيه؛ تمسّكًا بما عظّم اللَّه سبحانه وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم من حرمته، ورَدْعًا للجهّال عن جهالاتهم انتهى.

[تنبيه]: جملة: "وكانت عائشة تُحبّ أن تُدخل نساءها في شوّال" ليست في "الكبرى"، وهي في رواية المصنّف معترضة بين قولها:"وأدخلت عليه في شوّال"، وقولها:"فأيّ نسائه الخ".

وقد ساقه على الوجه مسلم في "صحيحه"، من طريق وكيع، عن سفيان، عن إسماعيل بن أمية، ولفظه:"تزوّجني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شوّال، وبنى بي في شوّال، فأيُّ نساء النبيّ- صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده منّي، قال: وكانت عائشة تستحبّ أن تُدخل نساءها في شوّال".

(فَأَيُّ نِسَائِهِ) صلى الله عليه وسلم، وهو اسم استفهام إنكاريّ، مبتدأ، خبره قوله (كَانَتْ أَحْظَى) أفعل تفضيل من الحظوة. يقال: حَظِيَ عند الناس يَحْظَى، من باب تَعِبَ حِظَةٌ، وزان عِدَةٍ، وحظوةً بضمّ الحاء، وكسرها: إذا أحبّوه، ورفعوا منزلته، فهو حَظِيٌّ، على فَعِيلٍ، والمرأة حَظِيةٌ، إذا كانت عند زوجها كذلك. قاله الفيّوميّ (عِنْدَهُ) صلى الله عليه وسلم (مِنِّي) الظرف،

(1)

- "المفهم" 4/ 123 - 124.

ص: 130

والجاز والمجرور متعلّقان بـ"أحظى".

والمعنى: لا أحد أكثر حظوة عند النبيّ صلى الله عليه وسلم منّي، مع أنه صلى الله عليه وسلم تزوّجني في شوّال، وبنى بي فيه، فبطل بذلك ما كان يزعمه الجاهليّة من التشاؤم بهذا الشهر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-18/ 3237 و 77/ 3377 - وفي "الكبرى" 20/ 5353 و 99/ 5572. وأخرجه (م) في "النكاح" 1423 (ت) في "النكاح" 1093 (ق) في "النكاح" 1990 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23751 و 25188 (الدارميّ) في "النكاح" 2211. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو استحباب التزويج في شهر شوّال، قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: فيه استحباب التزويج، والتزوّج، والدخول في شوّال. وقد نصّ أصحابنا على استحبابه، واستدلّوا بهذا الحديث انتهى. (ومنها): حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم على هو آثار الشرك، والاعتقادات الجاهليّة، حيث تزوّج عائشة في شوّال، وبنى بها فيه؛ لذلك، وكذلك كانت هي تحرص على إدخال نسائها فيه. (ومنها): أنه ينبغي لأهل العلم، ودعاة الخير الاجتهاد في إزالة ما كان عليه عادة الناس، من التشاؤم في بعض الشهور، أو الأيام، أو الأشخاص، فإن ذلك من آثار الشرك، وما أكثره اليوم في شتّى بقاع الأرض، بشتّى أنواع الخرافات، فلا حول ولا قوّة إلا باللَّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 131

‌19 - (الْخِطْبَةُ فِي النِّكَاحِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على مشروعيّة خِطْبَةِ النساء لأجل نكاحهنّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الْخِطْبة" هنا -بكسر الخاء المعجمة، وسكون الطاء المهملة- قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: خاطبه مخاطبةً، وخِطابًا، وهو الكلام بين متكلّم وسامع، ومنه اشتقاق الخطبة -بضمّ الخاء، وكسرها باختلاف معنيين، فيقال في الموعظة: خَطَبَ القومَ، وعليهم، من باب قَتَلَ، خُطْبةً -بالضمّ- وهي فُعْلَةٌ بمعنى مَفْعُولةٍ، نحوُ نُسْخةٍ بمعنى منسوخةٍ، وغُرْفَةٍ من ماءٍ بمعنى مغروفة، وجمعها خُطَبٌ، مثلُ غرفة وغُرَفٍ، فهو خَطِيبٌ، والجمع الخُطَباءُ، وهو خَطِيبُ القوم، إذا كان هو المتكلّمَ عنهم.

وخَطَبَ المرأةَ إلى القوم: إذا طلب أن يتزوّج منهم، واختطبها، والاسم الْخِطْبَةُ-بالكسر- فهو خاطبٌ، وخَطّابٌ مبالغةٌ، وبه سُمِّي، واختطبه القومُ: دعوه إلى تزويج صاحبتهم انتهى.

واستدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بالحديث على الترجمة واضحٌ؛ فقد خطب جماعة من الصحابة رضي الله عنهم فاطمة بنت قيس - رضي اللَّه تعالى عنها -، وخطبها النبيّ صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3238 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ شَرَاحِيلَ الشَّعْبِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ، - وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ، قَالَتْ: خَطَبَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَخَطَبَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَوْلَاهُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَقَدْ كُنْتُ حُدِّثْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ أَحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ أُسَامَةَ» ، فَلَمَّا كَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: أَمْرِي بِيَدِكَ، فَأَنْكِحْنِي مَنْ شِئْتَ، فَقَالَ:«انْطَلِقِي إِلَى أُمِّ شَرِيكٍ» ، وَأُمُّ شَرِيكٍ امْرَأَةٌ غَنِيَّةٌ، مِنَ الأَنْصَارِ، عَظِيمَةُ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل، يَنْزِلُ عَلَيْهَا الضِّيفَانُ، فَقُلْتُ: سَأَفْعَلُ، قَالَ:«لَا تَفْعَلِي، فَإِنَّ أُمَّ شَرِيكٍ، كَثِيرَةُ الضِّيفَانِ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْكِ خِمَارُكِ، أَوْ يَنْكَشِفَ الثَّوْبُ عَنْ سَاقَيْكِ، فَيَرَى الْقَوْمُ مِنْكِ بَعْضَ مَا تَكْرَهِينَ، وَلَكِنِ انْتَقِلِي إِلَى ابْنِ عَمِّكِ، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فِهْرٍ، فَانْتَقَلْتُ إِلَيْهِ. مُخْتَصَرٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم للمصنّف

(1)

- وفي بعض النسخ: "أخبرنا".

ص: 132

-رحمه اللَّه تعالى- في -8/ 3223 - باب "تزوّج المولى العربيّة"، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد.

و"عبد الرحمن بن محمد بن سلاّم": هو أبو القاسم البغداديّ، ثم الطَّرَسُوسيّ، لا بأس به [11] 172/ 1141. و"عبد الصمد بن عبد الوارث": هو التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، صدوق [9] 122/ 174. و"أبوه": هو عبد الوارث بن سعيد، أبو عُبيدة التَّنُّوري البصريّ، ثقة ثبت [8] 6/ 6. و"حُسينٌ المعلّم": هو ابن ذكوان المكتب العَوْذيّ البصريّ، ثقة ربما وهم [6] 122/ 174. و"عبد اللَّه بن بُريدة": هو الأسلميّ، أبو سهل المروزيّ القاضي، ثقة [3] 25/ 393. و"عامر الشعبيّ": هو ابن شراحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة مشهور فقيه فاضل [3] 66/ 82.

وقوله: "فأنكني من شئت" هو من الإنكاح رباعيًّا، أي زوَّجني أيَّ شخص، كان، أسامة، أو غيره.

وقوله: "فقال: انطلقي الخ" بالفاء في معظم النسخ، وفي بعضها بدونها، قال السنديّ: وهو الظاهر فإن هذا رجوع إلى أول القصّة، وإلى ما جرى قبل الْخِطْبة، حال العدّة، فالفاء لا تناسبه، والمراد قال قبل ذلك حال بقاء العدّة انتهى

(1)

.

وقوله: "غَنيّةٌ" -بفتح العين المعجمة، وكسر النون- من الغِنَى، وهو كثرة المال، وهو صفة لـ"امرأة". وذكر السنديّ أنه "امرأة عتيّة"، قال: ضُبط بالإضافة، وعتيّة بعين مهملة مضمومة، ومثناة فوقية مفتوحة، وياء مشدّدة، والأقرب إلى الأذهان أن يكون بالتوصيف، وغنيّة بالغين المعجمة، والنون انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ذكره لم أجدة في النسخ التي بين يديّ من "المجتبى"، ولا من "الكبرى"، ولا يظهر له معنى على الوجه الذي ذكره من الضبط، فليُحرّر.

وقوله: "كثيرة الضيفان" بكسر الضاد جمع ضيف.

وقوله: "مختصر" خبر لمحذوف، أي هذا الحديث مختصر من حديث طويل لفاطمة بنت قيس - رضي اللَّه تعالى عنها -، وقد تقدّم بطوله في شرح الحديث رقم -8/ 3223 - فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- "شرح السنديّ" 6/ 71.

ص: 133

‌20 - (النَّهْيُ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ)

3239 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ بَعْضٍ»).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد الإمام المصريّ الثقة الثبت الحجة [7] 31/ 35.

3 -

(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.

4 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (161) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه مصريين، ومدنيين. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ) بالرفع على أن "لا" نافية، وبالجزم على أنها ناهية، والأول أبلغ في المنع (عَلَى خِطْبَةِ بَعْضٍ) وفي رواية ابن جريج الآتية:"لا يخطب الرجل على خطبة الرجل". وظاهره أنه لا يجوز للرجل أن يخطب على خطبة الفاسق، ولا الكافر، نحو أن يخطب ذمّيّةً، فلا يجوز لمن يجوز نكاحها أن يخطبها. لكن هذا الإطلاق مقيّد بقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"لا يخطب الرجل على خطبة أخيه"؛ لأنه لا أخوّة بين المسلم والكافر. وبقوله في حديث عقبة رضي الله عنه: "المؤمن أخو المؤمن

" الحديث، فإنه يخرج بذلك الفاسق. وإلى المنع من الخِطبة على خطبة الكافر والفاسق ذهب الجمهور، قالوا: والتعبير بالأخ خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له. وذهب الأوزاعيّ، وجماعة من الشافعيّة إلى أنها تجوز الخِطبة على خطبة الكافر. وهو الراجح، كما سيأتي في المسألة

ص: 134

السادسة، إن شاء اللَّه تعالى

(1)

.

وزاد في الرواية الآتية من طريق ابن جريج، عن نافع:"حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب". أي حتى يأذن الأول للثاني. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-20/ 3239 و 21/ 3244 وفي "البيوع" 20/ 4504 و 4505 - وفي "الكبرى" 21/ 5354 و 23/ 5360 وفي "البيوع" 19/ 6094 و 6095. وأخرجه (خ) في "النكاح" 5142 و"البيوع" 1412 (د) في "البيوع" 3436 (ت) في "البيوع" 1292 (ق) في "النكاح" 1868 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4708 و 6024 و 6052 و 6100 و 6375 (الموطأ) في "النكاح" 1112 (الدارميّ) في "النكاح" 2176. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان النهي عن أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، والنهي للتحريم. (ومنها): أن النهي إذا لم يترك الأول، أو لم يأذن له، وإلا فلا نهي. (ومنها): أن فيه فضيلة الإسلام، وأنه تشريع ربانيّ جاء لإصلاح الفرد والمجتمع، فهو دئمًا يحثّ على الألفة والمودّة، وُيبعد كلّ ما من شأنه إحداث التباغض، والتعادي بين المسلمين، فلذلك نهى عن خِطبة المسلم على خطبة أخيه؛ لئلا يحصل بينهما شقاق، وتنافر، فواجب المسلم نحو أخيه التودّد إليه بكلّ ما يستطيع، والقيام بنصرته، قال اللَّه تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الآية [الحجرات: 10]. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبيان يشدّ بعضه بعضًا" متّفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى". متّفق عليه. وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد اللَّه إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه،

(1)

- "نيل الأوطار" 6/ 115.

ص: 135

ولا يخذُله، ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كلّ المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في حكم الْخِطْبَة على الخِطبة:

ذهب الجمهور إلى أن النهي في هذا الحديث للتحريم. وقال الخطّابيّ: هو نهي تأديب، وليس بنهي تحريم، يُبطل العقد عند أكثر الفقهاء. كذا قال. قال في "الفتح": ولا ملازمة بين كونه للتحريم، وبين البطلان عند الجمهور، بل هو عندهم للتحريم، ولا يبطل به العقد، بل حكى النوويّ أن النهي فيه للتحريم بالإجماع، ولكن اختلفوا في شروطه، فقال الشافعيّة، والحنابلة محلّ التحريم ما إذا صرّحت المخطوبة، أو وليّها الذي أذنت له، حيث يكون إذنها معتبرًا بالإجابة، فلو وقع التصريح بالردّ فلا تحريم، ولو لم يعلم الثاني بالحال فيجوز الهجوم على الخِطبة؛ لأن الأصل الإباحة. وعند الحنابلة في ذلك روايتان. وإن وقعت الإجابة بالتعريض، كقولها: لا رغبة عنك، فقولان عند الشافعيّة، الأصحّ -وهو قول المالكيّة، والحنفيّة- لا يحرم أيضًا. وإذا لم تردّ، ولم تقبل فيجوز، والحجة فيه قول فاطمة بنت قيس - رضي اللَّه تعالى عنها -: خطبني معاوية، وأبو الجهم، فلم ينكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك عليهما، بل خطبها هو لأسامة بن زيد - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

وأشار النوويّ وغيره إلى أنه لا حجة فيه؛ لاحتمال أن يكونا خطبا معًا، أو لم يعلم الثاني بخِطبة الأول، والنبيّ صلى الله عليه وسلم أشار بأسامة، ولم يخطب، وعلى تقدير أن يكون خطب، فكأنه لما ذكر لها ما في معاوية، وأبي جهم ظهر منها الرغبة عنهما، فخطبها لأسامة.

وحكى الترمذيّ عن الشافعيّ أن معنى حديث الباب: إذا خطب الرجل المرأة، فرضيت به، وركنت إليه، فليس لأحد أن يخطب على خطبته، فإذا لم يعلم برضاها، ولا ركونها، فلا بأس أن يخطبها. والحجة فيه قصّة فاطمة بنت قيس، فإنها لم تخُبره برضاها بواحد منهما، ولو أخبرته بذلك لم يُشر عليها بغير من اختارت. فلو لم توجد منها إجابة، ولا ردّ، فقطع بعض الشافعيّة بالجواز، ومنهم من أجرى القولين. ونصّ الشافعيّ في البكر على أن سكوتها رضًا بالخاطب. وعن بعض المالكيّة: لا تمنع الخطبة إلا على خطبة من وقع بينهما التراضي على الصداق.

وإذا وُجد شروط التحريم، ووقع العقد للثاني، فقال الجمهور: يصحّ مع ارتكاب التحريم. وقال داود: يُفسخ النكاح قبل الدخول وبعده. وعند المالكيّة خلافٌ

ص: 136

كالقولين. وقال بعضهم؛ يُفسخ قبله، لا بعده.

وحجة الجمهور أن المنهيّ عنه الخِطبة، والخطبة ليست شرطًا في صحّة النكاح، فلا يُفسخ النكاح بوقوعها غير صحيحة.

وحكى الطبريّ عن أن بعض العلماء قال: إن هذا النهي منسوخٌ بقصّة فاطمة بنت قيس. ثم ردّه، وغلّطه بأنها جاءت مستشيرةً، فأُشير عليها بما هو الأولى، ولم يكن هناك خِطبة على خطبة، كما تقدّم. ثم إن دعوى النسخ في مثل هذا غلطٌ؛ لأن الشارع أشار إلى علّة النهي في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه بالأخوة، وهي صفة لازمة، وعلّة مطلوبةٌ للدوام، فلا يصحّ أن يلحقها نسخٌ. واللَّه تعالى أعلم

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح الأقوال عندي قول من قال ببطلان النكاح الذي عقد بالخطبة على الخطبة؛ لصريح النهى الوارد في الحديث، والنهي للتحريم، وهو أيضًا يقتضي الفساد، وليس هناك دليلٌ يدلّ على صرف النهي عن التحريم، والفساد إلى خلافهما، فوجب القول بالبطلان.

وهذا القول هو الذي مال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تعالى-، حيث قال: إذا خطب الرجل امرأةً، وركن إليه من إليه نكاحها، كالأب، فإنه لا يحلّ لغيره أن يخطبها. قال: ولكن العقد الثاني هل يقع صحيحًا، أو باطلاً؟ فيه قولان للعلماء:

[أحدهما]: وهو أحد القولين في مذهب مالك، وأحمد أن عقد الثاني باطلٌ، فتنزع منه، وتردّ إلى الأوّل.

[الثاني]: أن النكاح صحيح، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعيّ، فيعاقب من فعل المحرّم، ويردّ إلى الأول جميع ما أُخذ منه، والقول الأول أشبه بما في الكتاب والسنّة انتهى كلام شيخ الإسلام بالاختصار

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): أنه استُدلّ بحديث الباب على أن الخاطب الأول إذا أذن للخاطب الثاني في التزويج ارتفع التحريم، ولكن هل يختصّ ذلك بالمأذون له، أو يتعدّى لغيره؟ لأن مجرّد الإذن الصادر من الخاطب الأول دالّ على إعراضه عن تزويج تلك المرأة، وبإعراضه يجوز لغيره أن يخطبها، الظاهر الثاني، فيكون الجواز للمأذون له بالتنصيص، ولغير المأذون له بالإلحاق. ويؤيّده قوله:"أو يترك". وصرّح الرويانيّ من الشافعيّة بأن محلّ التحريم إذا كانت الخِطبة من الأول جائزة، فإن كانت ممنوعة

(1)

- "فتح" 10/ 250 - 251.

(2)

- "مجموع الفتاوى"10.

ص: 137

كخطبة المعتدّة لم يضرّ الثاني بعد انقضاء العدّة أن يخطُبها، وهو واضح؛ لأن الأول لم يثبت له بذلك حقّ. قاله في "الفتح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): أنه استُدلّ بقوله: "على خطبة أخيه" أن محلّ التحريم إذا كان الخاطب مسلمًا، فلو خطب الذميّ ذميّة، فأراد المسلم أن يخطبها جاز له ذلك مطلقًا، وهو قول الأوزاعيّ، ووافقه من الشافعيّة ابن المنذر، وابن جويرية، والخطّابيّ، ويؤيّده قوله في أول حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عند مسلم:"المؤمن أخو المؤمن، فلا يحلّ للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خِطبته حتى يَذَر". وقال الخطّابيّ: قطع اللَّه الأُخَوَّة بين الكافر والمسلم، فيختص النهي بالمسلم. وقال ابن المنذر: الأصل في هذا الإباحة حتى يرِدَ المنع، وقد ورد المنع مقيّدًا بالمسلم، فبقي ما عدا ذلك على أصل الإباحة. وذهب الجمهور إلى إلحاق الذميّ بالمسلم في ذلك، وأن التعبير بأخيه خرج على الغالب، فلا مفهوم له، وهو كقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} الآية، وكقوله:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} الآية، ونحو ذلك.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما قاله الأوزاعيّ، ومن معه من أنّ هذا النهي خاصّ بالمسلم، دون الذميّ؛ عملاً بتقييده بالأخوّة، وبالإسلام هو الراجح. واللَّه تعالى أعلم.

وبناه بعضهم على أن هذا المنهيّ عنه، هل هو من حقوق العقد، واحترامه، أو من حقوق المتعاقدين؟ فعلى الأول فالراجح ما قال الخطّابّي، وعلى الثاني فالراجح ما قال غيره.

وقريبٌ من هذا البناء اختلافهم في ثبوت الشفعة للكافر، فمن جعلها من حقوق الملك أثبتها له، ومن جعلها من حقوق المالك منع.

وقريبٌ من هذا البحث ما نُقل عن ابن القاسم، صاحب مالك أن الخاطب الأول إذا كان فاسقًا جاز للعفيف أن يخطُب على خِطبته. ورجحه ابن العربيّ منهم، وهو متّجه فيما إذا كانت المخطوبة عفيفةً، فيكون الفاسق غير كفء لها، فتكون خطبته كلا خِطْبة. ولم يعتبر الجمهور ذلك إذا صدرت منها علامة القبول. وقد أطلق بعضهم الإجماع على خلاف هذا القول.

ويلتحق بهذا ما حكاه بعضهم من الجواز إذا لم يكن الخاطب الأول أهلاً في العادة لخِطبة تلك المرأة، كما لو خطب سُوقيّ بنت ملك، وهذا يرجع إلى التكافؤ. قاله في "الفتح".

ص: 138

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن الفاسق، والذي ليس كفؤًا عادة يعمهما النهي المذكور؛ فلا يجوز أن يخطب على خطبتهما؛ لأنهما مسلمان؛ إذ مجرّد الفسق لا يخرج الشخص من الإسلام عند أهل السنّة، فلا يخرج بذلك عن كونه خطب على خطبة أخيه المسلم، وبنحو هذا صرّح الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): أنه استُدلّ به على تحريم خِطبة المرأة على خِطبة امرأة أخرى؛ إلحاقًا لحكم النساء بحكم الرجال، وصورته أن ترغب امرأة في رجل، وتدعوه إلى تزويجها، فيجيبها، فتجيء امرأة أخرى، فتدعوه، وترَغّبه في نفسها، وتزهّده في التي قبلها، وقد صرّحوا باستحباب خِطبة أهل الفضل من الرجال، ولا يخفى أن محلّ هذا إذا كان المخطوب عزم أن لا يتزوّج إلا بواحدة، فأما إذا جمع بينهما فلا تحريم

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

3240 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا، لِتَكْتَفِئَ مَا فِي إِنَائِهَا»

(3)

).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن منصور) الجوّاز المكيّ، ثقة [10] 20/ 21.

2 -

(سعيد بن عبد الرحمن) بن حسان، أبو عبد اللَّه المخزوميّ المكيّ، ثقة [10] 41/ 1277.

3 -

(سفيان) بن عيينة المكي، ثقة ثبت حجة [8] 1/ 1.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت المدنيّ [4] 1/ 1.

5 -

(سعيد) بن المسيّب بن حَزْن المخزومي المدني الفقيه الثقة الثبت، من كبار [3] 9/ 9.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

- راجع "طرح التثريب" 7/ 93.

(2)

-"فتح" 10/ 251 - 252.

(3)

- زاد في "الكبرى": "اللفظ لسعيد".

ص: 139

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فالأول من أفراده، والثاني من أفراده والترمذيّ. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخيه، وسفيان، فمكيون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه سعيد من الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:، وَقَالَ مُحَمَّدٌ) هو ابن منصور شيخه الأول (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) يعني أن شيخيه اختلفا في صيغة الأداء، فقال سعيد بن عبد الرحمن:"قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وقال محمد بن منصور:"عن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وهذا من احتياطات النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى-، حيث يراعي ألفاظ شيوخه، وإن لم يختلف به المعنى، فإنه لا فرق بين قول الصحابيّ:"قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"،وقوله:"عن النبيّ صلى الله عليه وسلم" في كون كلّ منهما محمولاً على الاتصال، إلا أن الورع مقامٌ آخر، كما يقال:"التقوى غير الفتوى"(لَا تَنَاجَشُوا) بحذف إحدى التاءين، إذ أصله:"لا تتناجشوا". و"النّجش" -بفتحتين، أو بفتح، فسكون-: هو أن يمدح السلعة ليُروّجها، أو يزيد في الثمن، ولا يريد شراءها؛ ليغترّ بذلك غيره. والأصل فيه تنفير الوحش من مكان إلى مكان. وإنما عبّر بالتفاعل؛ لأن التجّار يتعاوضون، فيفعل هذا بصاحبه على

أن يُكافئه بمثل ما فعل، فنُهوا عن أن يفعلوا ذلك، معاوضةٌ، فضلاً عن أن يفعلوه بدءًا. وسيأتي تمام البحث فيه في موضعه من "كتاب البيوع" إن شاء اللَّه تعالى.

(وَلَا يَبعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ) جاء على صيغة النهي بسقوط الياء، وعلى صيغة النفي بإثبات الياء، وهو بمعنى النهي، فلذا عُطف على النهي السابق، وكذا ما بعده.

وقال النوويّ: بالرفع على الخبر، والمراد به النهي، وهو أبلغ في النهي؛ لأن خبر الشارع لا يُتصوّر وقوع خلافه، والنهي قد يقع مخالفته، فكأنّ المعنى عاملوا هذا النهي معاملة الخبر المتحتّم. انتهى.

ومعنى الحديث: أنه لا يجوز للمقيم ببلدة أن يبيع السلع التي أتى بها بدوي؛ نفعًا له، بأن يكون دلّالًا؛ لأن ذلك يُلحق الضرر بالحاضرين، فإنه لو ترك البدويّ لباعه لهم بثمن رخيص، وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه، إن شاء اللَّه تعالى.

(وَلَا يَبعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ) قيل: المراد السوم، والنهي للمشتري دون البائع؛ لأن البائع لا يكاد يدخل عَلى البائع، وإنما المشهور زيادة المشتري على المشتري.

ص: 140

وقيل: يحتمل الحمل على ظاهره، فيمنع البائع أن يبيع على بيع أخيه، وهو أن يَعْرِض سلعته على المشتري الراكن إلى شراء سلعة غيره، وهي أرخص، أو أجود؛ ليزهّده في شراء سلعة الغير. قال عياض: وهو الأولى. وسيأتي تمام البحث في محلّه، إن شاء اللَّه تعالى.

(وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ) من الخِطْبة -بكسر الخاء- بمعنى التماس النكاح، من باب نصر، وهو بالجزم على النهي، والرفع على النفي، كما تقدّم توجيهه آنفًا. وقد تقدّم تمام البحث فيه في شرح حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - الماضي.

(وَلَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا) بالجزم، والرفع، على التوجيه السابق. قيل: هو نهي للمخطوبة عن أن تسأل الخاطب طلاق المرأة التي في نكاحه، وللمرأة من أن تسأل طلاق الضرّة أيضًا. والمراد بالأخت الأخت في الدين، وفي التعبير باسم الأخت تشنيعٌ لفعلها، وتأكيدٌ للنهي عنه، وتحريضٌ لها على تركه، ومثله التعبير باسم الأخ فيما سبق.

وفي رواية للبخاريّ: "لا يحلّ لامرأة تسأل طلاق أختها؛ لتستفرغ صحفتها، فإنما لها ما قدّر لها".

قال في "الفتح": ظاهرٌ في تحريم ذلك، وهو محمولٌ على ما إذا لم يكن هناك سببٌ يجوّز ذلك، كريبةٍ في المرأة، لا ينبغي معها أن تستمرّ في عصمة الزوج، ويكون ذلك على سبيل النصيحة المحضة، أو لضرر يحصُل لها من الزوج، أو للزوج منها، أو يكون سؤالها ذلك بعوض، وللزوج رغبةٌ في ذلك، فيكون كالخلع مع الأجنبيّ، إلى غير ذلك من المقاصد المختلفة.

وقال ابن حبيب: حمل العلماء هذا النهي على الندب، فلو فعل ذلك لم يُفسخ النكاح. وتعقّبه ابن بطّال بأن نفي الحلّ صريح في التحريم، ولكن لا يلزم منه فسخ النكاح، وإنما فيه التغليظ على المرأة أن تسأل طلاق الأخرى، ولْتَرْضَ بما قسم اللَّه لها انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "ولكن لا يلزم الخ" فيه نظرٌ لا يخفى، فقد تقدّم ترجيح أن النهي للفساد، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.

(لِتَكتَفِئَ مَا في إِنَائِهَا

(2)

قال في "النهاية": هو تَفتَعِلُ، من كَفَأت القدرَ: إذا كَبَبْتَها؛ لتُفْرغ ما فيها، يقال: كَفَأْتُ الإناء، وأكفأته: إذا كبَبتَه، وإذا أَمَلْتَهُ، وهذا تمثيلٌ لإمالة الضرّة حقّ صاحبتها من زوجها إلى نفسها، إذا سألت طلاقها

(3)

.

(1)

- "فتح" 10/ 274 - 275.

(2)

- زاد في "الكبرى": "اللفظ لسعيد".

(3)

- "النهاية" 4/ 182.

ص: 141

وقال في "الفتح": "تكتفىء" بالهمز افتعال، من كفأت الإناء إذا قلبته، وأفرغت ما فيه، وكذا يَكفأ، وهو بفتح أوله، وسكون الكاف، وبالهمز، وجاء أكفأت الإناء: إذا أملته، وهو في رواية ابن المسيّب "لتُكفىء" بضمّ أوله، من أكفأت، وهو بمعنى أملته، ويقال: بمعنى كببته أيضًا. انتهى.

وقال النوويّ: معنى هذا الحديث: نهي المرأة الأجنبية أن تسأل الزوج طلاق زوجته، وأن ينكحها، ويُصَيِّر لها من نفقته، ومعروفه، ومعاشرته، ونحوها ما كان للمطلّقة، فعبّر عن ذلك باكتفاء ما الصحفة مجازًا. والمراد بأختها غيرها، سواء كانت أختها من النسب، أو الرضاع، أو الدين. ويُلحق بذلك الكافرة في الحكم، وإن لم تكن أختًا في الدين، إما لأن المراد الغالب، أو أنها أختها في الجنس الآدميّ.

وحمل ابن عبد البرّ الأخت هنا على الضرّة، فقال: فيه من الفقه أنه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يُطلّق ضرّتها لتنفرد به. وهذا ممكن في الرواية التي وقعت بلفظ: "لا تسأل المرأة طلاق أختها"، وأما الرواية التي فيها لفظ الشرط، فظاهرها أنها في الأجنبية، ويؤيّده قوله فيها:"ولتنكح"، أي ولتتزوّج الزوج المذكور من غير أن تشترط أن يُطلّق التي قبلها. وعلى هذا فالمراد هنا بالأخت الأخت في الدين، ويؤيّده زيادة ابن حبّان في آخره من طريق أبي كثير السُّحَيميّ

(1)

، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، فإن المسلمة أخت المسلمة"

(2)

. وقد تقدّم نقل الخلاف عن الأوزاعيّ، وبعض الشافعيّة أن ذلك مخصوص بالمسلمة، وبه جزم أبو الشيخ في "كتاب النكاح"، ويأتي مثله هنا، ويجيء على رأي ابن القاسم أن يُستثنى ما إذا كان المسؤول طلاقها فاسقةٌ، وعند الجمهور لا فرق. قاله في "الفتح".

وقوله: "لتستفرغ صحفتها" يفسّر المراد بقوله: "تكتفىء". والمراد بالصحفة ما يحصُل من الزوج كما تقدّم من كلام النوويّ. وقال صاحب "النهاية": الصحفة إناءٌ كالقصعة المبسوطة، قال: وهذا مثَلٌ، يريد الاستئثار عليها بحظّها، فيكون كمن قلب إناء غيره في إنائه. وقال الطيبيّ: هذه استعارة مستملحةٌ تمثيليّةٌ، شبّه النصيب والبَخْتُ

(3)

بالصحفة، وحظوظها، وتمتّعاتها بما يوضع في الصحفة، من الأطعمة

(1)

- أبو كثير السُّحَيميّ مصغّرًا اليمامي الأعمى، قيل: هو يزيد بن عبد الرحمن. وقيل: يزيد بن عبد اللَّه بن أُذينة، أو ابن غُفَيلة، ثقة، من الثالثة. اهـ "ت".

(2)

- حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" 2/ 311، وابن حبّان في "صحيحه" 9/ 378 رقم 4070.

(3)

- بفتح الموحّدة، وسكون الخاء المعجمة: هو الجَدّ، والحظّ.

ص: 142

اللذيذة، وشبّه الافتراق المسبب عن الطلاق باستفراغ الصحفة عن تلك الأطعمة، ثم أدخل المشبه في جنس المشبّه به، واستعمل في المشبّه ما كان مستعملاً في المشبّه به انتهى.

وقوله: "ولتنكح" -بكسر اللام، وبإسكانها، وبسكون الحاء- على الأمر. ويحتمل النصب عطفًا على قوله:"لتكتفىء"، فيكون تعليلاً لسؤال طلاقها، ويتعيّن على هذا كسر اللام، ثم يحتمل أن المراد "ولتنكح" ذلك الرجل من غير أن تتعرّض لإخراج الضرّة من عصمته، بل تَكِلُ الأمر في ذلك إلى ما يُقدّره اللَّه، ولهذا ختم بقوله:"فإنما لها ما قُدّر لها"، إشارةً إلى أنها، وإن سألت ذلك، وألحّت فيه، واشترطته، فإنه لا يقع من ذلك إلا ما قدّره اللَّه، فينبغي أن لا تتعرّض هي لهذا المحذور الذي لا يقع منه شيء بمجرّد إرادتها، وهذا مما يؤيّد أن الأخت من النسب، أو الرضاع لا تدخل في هذا.

ويحتمل أن يكون المراد "ولتنكح" غيره، وتُعرِضُ عن هذا الرجل. أو المراد ما يشمل الأمرين. والمعنى:"ولتنكح" من تيسّر لها، فإن كانت التي قبلها أجنبيّةً، فلتنكح الرجل المذكور، وإن كانت أختها، فلتنكح غيره. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-20/ 3240 و 3241 و 3242 و 3243 و"البيوع" 19/ 4503 و 21/ 4507 و 4508 - وفي "الكبرى" 21/ 5356 و 22/ 5357 و 35358 و 5359 و"البيوع" 15/ 6082 و 18/ 6093 و 20/ 6096 و 6098. وأخرجه (خ) في "البيوع" 2140 و 2150 و"النكاح"5144 و 5152 و"القدر" 6601 (م) في "النكاح" 1413 و"البيوع" 1515 (د) في "الطلاق" 2176 و 3437 و"البيوع" 3438 و 3443 (ت) في "النكاح" 1134 و"الطلاق" 1190 و"البيوع" 1222 و 1304 (ق) في

"النكاح" 1867 و"التجارات" 2172 و 2174 و 2175 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7207 و 7270 و 7406 و 7641 و 7670 و 8039 و 8505 و 8876 و 8969 و 9055 و 9585 و 9875 و 9906 و 9943 و 9973 و 9993 و 10138

(1)

- "فتح" 10/ 275 - 276.

ص: 143

و 10271 و 10417 و 10463 (الموطأ) في "النكاح" 1111 و"البيوع" 1391 "الجامع" 1666 (الدارميّ) في "النكاح"2175. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تحريم خِطبة الرجل على خطبة أخيه. (ومنها): تحريم النجش، وهو -بفتحتين، أو بفتح، فسكون-: أن يزيد في ثمن السلعة، لا لرغبة فيها، بل ليخدع غيره، ويغرّه ليزيد، ويشتريها. (ومنها): تحريم بيع الحاضر للبادي؛ لئلا يتضرّر أهل الحضر بذلك. (ومنها): تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، ويشمل البيع والشراء، إذا البيع يستعمل لهما من الأضداد. (ومنها): تحريم سؤال المرأة طلاق الأخرى حتى يتزوّجها، أو تنفرد به دون الأخرى. (ومنها): حرص الشريعة على قطع أسباب الشحناء والبغضاء، والحقد، والحسد، ولذا حرّمت هذه الأشياء المذكورة في هذا الحديث، وما أشبهها، مما يؤدّي إلى وقوع التنافر، والتشاكس، والتخاذل بين المجتمع الإسلاميّ، بل تطالب المسلمين أن يكونوا يدًا واحدة، وعونًا فيما بينهم، وحربًا لأعدائهم، كما قال اللَّه عز وجل:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]، وقال عز وجل:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، وقال تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3241 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ ح وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ»).

رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، سوى شيخه الحارث، وهو ثقة حافظ،

و"معن": هو ابن عيسى القزّاز المدنيّ. و"ابن القاسم": هو عبد الرحمن الْعُتَقيّ الفقيه المصريّ. و"مالك": هو إمام دار الهجرة.

والحديث متّفقٌ عليه، وهو مختصر من الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 144

3242 -

(أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَنْكِحَ، أَوْ يَتْرُكَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"ابن وهب": هو عبد اللَّه. و"يونس": هو ابن يزيد الأيليّ.

وقوله: "حتى ينكح، أو يترك": أي لينتظر حتى ينكح، فيتركها، أو يترك، فيخطبها، فهذه ليست علّة لقوله:"لا يخطب"، حتى يقال: يلزم منه جواز الخِطبة إذا نكح، مع أنها لا تجوز، بل غايةٌ للانتظار المفهوم. قاله السنديّ.

وقال في "الفتح": قوله: "حتى ينكح" أي حتى يتزوّج الخاطب الأول، فيحصل اليأس المحض، وقوله:"أو يترك" أي الخاطب الأول التزويج، فيجوز حينئذ للثاني الخِطبة، فالغايتان مختلفتان، الأولى ترجع إلى اليأس، والثانية ترجع إلى الرجاء، ونظيره قوله تعالى:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] انتهى

(1)

.

والحديث متّفق عليه، وقد سبق الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3243 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"غندر": هو محمد بن جعفر. و"هشام"، هو ابن حَسّان القردوسيّ البصريّ. و"محمد": هو ابن سيرين.

والحديث صحيح، وقد سبق البحث عنه مستوفي قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: ذكر في "الكبرى" أن محمد بن سيرين وقف الحديث على أبي هريرة رضي الله عنه، فقال: أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا حماد -يعني ابن زيد- عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، قال:"لا يَسُمِ الرجلُ على سَوْم أخيه، ولا يخطب على خِطْبة أخيه". انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مثل هذا الوقف لا يضرّ؛ لأن هشامًا رفعه، وهو ثقة، وهو وإن كان دون أيوب في ابن سيرين، لكن تأيّد رفعه برواية ابن سيرين، وأيضًا

(1)

- "فتح" 10/ 252.

(2)

- راجع "الكبرى" 3/ 276 رقم 22/ 5538.

ص: 145

يمكن الجمع بأن أبا هريرة رضي الله عنه رواه مرفوعًا، وأفتى به أيضًا، فلا تعارض. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌21 - (خِطْبَةُ الرَّجُلِ إِذَا تَرَكَ الْخَاطِبُ، أَوْ أَذَنَ لَهُ)

3244 -

(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ، سَمِعْتُ نَافِعًا، يُحَدِّثُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، كَانَ يَقُولُ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ الرَّجُلِ، حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه إبراهيم بن الحسن المِقسميّ المصّيصيّ، وهو ثقة.

والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى في الباب الماضي، ودلالته على الترجمة واضحة، فإنه صريح في جواز خِطبة الرجل إذا ترك الخاطب الأول، أو أذن له بالخطبة.

وقوله: "أو يأذن له الخاطب" أظهر في مقام الإضمار للإيضاح، وإلا فحقّه أن يقول:"أو يأذن له". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3245 -

(أَخْبَرَنِي حَاجِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، أَنَّهُمَا سَأَلَا فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ عَنْ أَمْرِهَا، فَقَالَتْ: طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا، فَكَانَ يَرْزُقُنِي طَعَامًا، فِيهِ شَيْءٌ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَتْ لِي النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى، لأَطْلُبَنَّهَا، وَلَا أَقْبَلُ هَذَا، فَقَالَ الْوَكِيلُ: لَيْسَ لَكِ سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةٌ، قَالَتْ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:«لَيْسَ لَكِ سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةٌ، فَاعْتَدِّي عِنْدَ فُلَانَةَ» ، قَالَتْ: وَكَانَ يَأْتِيهَا أَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: «اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ

ص: 146

مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ أَعْمَى، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي» ، قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ آذَنْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«وَمَنْ خَطَبَكِ؟» ، فَقُلْتُ: مُعَاوِيَةُ، وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، «أَمَّا مُعَاوِيَةُ، فَإِنَّهُ غُلَامٌ مِنْ غِلْمَانِ قُرَيْشٍ، لَا شَيْءَ لَهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَإِنَّهُ صَاحِبُ شَرٍّ، لَا خَيْرَ فِيهِ، وَلَكِنِ انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ» ، قَالَتْ: فَكَرِهْتُهُ، فَقَالَ لَهَا: ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَنَكَحَتْهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه إدخال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- حديث فاطمة بنت قيس - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا في هذا الباب أنه صلى الله عليه وسلم لما خطبها مع خِطبة معاوية والرجل الآخر قبله دلّ على أنه مأذون له دلالةً؛ لأنه يُعلَم أنهما يأذنان له في ذلك، إذ معلوم رضا كلّ مؤمن بما قضى به صلى الله عليه وسلم، كما قال اللَّه تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية [الأحزاب: 36]. وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية [الأحزاب: 6]، وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم

" الحديث متّفقٌ عليه.

فإذا رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن المصلحة لفاطمة أن تنكح أسامة، لا أن تنكح واحدًا منهما، عُلِم أنهما يرضيان بذلك، فكان صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك كالمأذون له في ذلك، فيستفاد منه أنه إذا أذن الخاطب صريحًا جاز من باب أولى. واللَّه تعالى أعلم.

ورجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه حاجب بن سليمان الْمِنْبَجِيّ، وهو صدوق يهم. و"حجّاج": هو ابن محمد الأعور المذكور في السند الماضي. و"ابن أبي ذئب": هو محمد بن عبد الرحمن المدنيّ و"يزيد بن عبد اللَّه بن قُسيط" بجرّ "يزيد" عطفًا على "الزهريّ"، وهو الليثيّ المدنيّ الأعرج الثقة. و"أبو سلمة بن عبد الرحمن" ابن عوف: هو الزهريّ المدنيّ الفقيه المشهور. و"الحارث بن عبد الرحمن": هو القرشيّ العامريّ، خال ابن أبي ذئب، صدوق [5] 36/ 826.

وقوله: "وعن الحارث" عطفٌ على قوله: "عن الزهريّ، ويزيد بن عبد اللَّه"، فابن أبي ذئب يري هذا الحديث عن الزهريّ، ويزيد بن عبد اللَّه بن قُسيط، كلاهما عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وعن خاله الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن ابن ثوبان، وكلٌّ من أبي سلمة، ومحمد بن عبد الرحمن يرويانه عن فاطمة بنت قيس - رضي اللَّه تعالى عنها -.

ص: 147

فقوله: (أنهما سألا الخ" ضمير التثنية لأبي سلمة، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان.

وقولها "طلقني زوجي ثلاثًا". أي آخر تطليقات ثلاث، كما بيّنته الروايات الأخرى، لا أنه طلّقها مرّة واحدة.

وقولها: "فيه شيء" كناية عن رداءته. وقولها: (وكان يأتيها أصحابه، أي يزورونها، ويجتمعون عندها؛ لكرمها، وإطعامها لهم. وقوله:"فإذا حللتِ فآذنيني" بالمد من الإيذان، وهو الإعلام، والمعنى: فإذا حلّ للأزوج نكاحك بانقضاء العدّة، فأعلميني، حتى أختار لك زوجًا مناسبًا.

وقولها: "ورجلٌ آخر الخ" تقدّم أنه أبو جهم.

وقوله: "فإنه غلام" أي هو من الأصاغر، لا من الأكابر.

وقوله: "لا شيء له" أي فقيرٌ. وقوله: "صاحب شرّ" أي كثير الضرب للنساء. وفيه أنه يجوز ذكر مثل هذه الأوصاف، إذا دعت الحاجة إلى ذكرها، ولا يكون من الغيبة المحرّمة؛ للضرورة.

والحديث صحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه في -8/ 3223 - فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌22 - (بَابٌ إِذَا اسْتَشَارَتِ الْمَرْأَةُ رَجُلًا فِيمَن يَخْطُبُهَا، هَلْ يُخْبِرُهَا بِمَا يَعْلَمُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: جواب "إذا" محذوف يعدم من سياق الحديث: أي نعم يُخبرها بذلك؛ لهذا الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3246 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ، طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ، وَهُوَ غَائِبٌ،

ص: 148

فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ، فَسَخِطَتْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:«لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ» ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ:«تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، فَاعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي» ، قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ، ذَكَرْتُ لَهُ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ، لَا مَالَ لَهُ، وَلَكِنِ انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ» ، فَكَرِهْتُهُ، ثُمَّ قَالَ:«انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ» ، فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللَّهُ عز وجل فِيهِ خَيْرًا، وَاغْتَبَطْتُ بِهِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، وهو ثقة حافظ. و"عبد اللَّه بن يزيد": هو المخزوميّ المدنيّ المقرئ الأعور، مولى الأسود بن سُفيان ثقة [6] 51/ 961.

وقوله: "أن أبا حفص طلّقها" قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: هكذا قال الجمهور. وقيل: أبو حفص بن عمرو. وقيل: أبو حفص بن المغيرة. واختُلف في اسمه، والأكثرون على أن اسمه عبد الحميد. وقال النسائيّ: اسمه أحمد. وقال آخرون: اسمه كنيته

(1)

.

وقوله: "فسخطته" بكسر الخاء: أي لم ترض به.

وقوله: "أم شريك" اسمها غُزيّة. وقيل: غُزيلة بنت دودان.

وقوله: "يغشاها" أي يدخلون عليها. وقوله: "تضعين ثيابك" أي ليس هناك من تخافين نظره. وقوله: "فآذنيني" بالمدّ، من الإيذان بمعنى الإعلام: أي أعلميني بحالك.

وقوله: "فلا يَضَعُ عصاه". أي كثير الضرب للنساء، كما جاء في رواية أخرى، وهذا هو الصواب في تفسيره. وقيل: كثير الأسفار. وقيل: كثير الجماع، والعصا كناية عن العضو. وهذا أبعد الوجوه.

[حكاية مليحة]: قال أبو عبد اللَّه الحاكم في "كتاب مناقب الشافعيّ" رحمه الله

تَعَالَى-: من لطيف استنباطه ما رواه محمد بن جرير الطبريّ، عن الربيع، قال: كان

الشافعيّ يومًا بين يدي مالك بن أنسِ رضي الله عنه، فجاء رجلٌ إلى مالك، فقال: يا أبا عبد اللَّه إني رجلٌ أبيع الْقُمْرِيّ، وإني بعت يومي هذا قُمْريًّا، فبعد زمان أتى صاحب القُمْريّ، فقال: إنّ قُمريك لا يَصيح، فتناكرنا إلى أن حلفتُ بالطلاق أن قمرييّ لا يَهْدأ

(1)

- راجع "زهر الربى" 6/ 75.

ص: 149

من الصياح قال مالك: طُلِّقت امرأتك، فانصرف الرجل حَزِينًا، فقام الشافعيّ إليه، وهو يومئذ ابن أربع عشرة سنة، وقال للسائل: أصياح قُمريّك أكثر، أم سكوته؟ قال السائل: بل صياحه، قال الشافعيّ: امض، فإن زوجتك ما طُلّقت، ثم رجع الشافعيّ إلى الحلقة، فعاد السائل إلى مالك، وقال: يا أبا عبد اللَّه، تفكر في واقعتي، تستحقّ الثواب، فقال مالك -رحمه اللَّه تعالى-: الجواب ما تقدّم، قال: فإن عندك من قال: الطلاق غير واقع، فقال مالك: ومن هو؛ فقال السائل: هو هذا الغلام، وأومأ بيده إلى الشافعيّ، فغضب مالك، وقال: ومن أين هذا الجواب، فقال الشافعيّ: لأني سألته أصياحه أكثر، أم سكوته؟ فقال: إن صياحه أكثر، فقال مالك: وهذا الدليل أقبح، أَيُّ تأثيرٍ لقلّة سكوته، وكثرة صياحه في هذا الباب؟، فقال الشافعيّ: لأنك حدّثتني عن عبد اللَّه بن يزيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس، أنها أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه إن أبا جهم، ومعاوية خطباني، فبأيهما أتزوّج؟، فقال لها:"أما معاوية فصُعلوك، وأما أبو جهم فلا يَضَعُ عصاه عن عاتقه"، وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبا جهم كان يأكل، وينام، ويستريح، فعلمنا أنه صلى الله عليه وسلم عَنَى بقوله:"لا يَضَعُ عصاه عن عاتقه" على تفسير أن الأغلب من أحواله ذلك، فكذلك هنا حملتُ قوله: هذا القمريّ لا يهدأ من الصياح أن الأغلب من أحواله ذلك، فلما سمع مالكٌ ذلك تعجّب من الشافعيّ، ولم يَقدَح في قوله البتّة انتهى

(1)

.

وقوله: "فصُعلوك" بضم الصاد المهملة، والسلام، كعُصْفُور: الفقير.

وقوله: "لا ما له": قال النوويّ: في هذا الحديث استعمال المجاز، وجواز إطلاق مثل هذه العبارة، فإنه قال ذلك مع العلم بأنه كان لمعاوية رضي الله عنه ثوبٌ يلبسه، ونحو ذلك من المال المحقّر، وأن أبا جهم كان يَضَعُ العصا عن عاتقه في حال نومه، وأكله، وغيرهما، ولكن لما كان كثير الحمل للعصا، وكان معاوية قليل المال جدًّا، جاز إطلاق هذا اللفظ عليه مجازًا انتهى.

وقولها: "واغْتَبَطتُ" يحتمل أن يكون بالبناء للفاعل، أو المفعول، من الاغتباط، يقال: غبطت الرجلَ أغبِطه غبطًا، من باب ضرب: إذا تمنّيت أن يكون حالك مثل حاله، من غير أن تريد زوالها منه، ولا أن تتحوّل عنه، فهو محمودٌ، بخلاف الحسد، فإنه تمنّي نعمته على أن تتحوّل عنه، وهو مذموم.

وقال في "اللسان": الغِبطة: حسن الحال، والنعمة والسرور، قال: وفلان مغتبط - أي بكسر الباء-: أي في غِبْطة، وجائزٌ أن تقول: مُغتَبَطٌ -بفتح الباء-، وقد اغتبط-

(1)

- راجع "زهر الربى" 6/ 76.

ص: 150

بالبناء للفاعل- فهو مغتَبِطٌ، واغْتُبِطَ- بالبناء للمفعول- فهو مُغتَبَطٌ. انتهى باختصار، وإيضاح

(1)

.

والمعنى هنا: أن النساء يتمنّين حالها لوفور حظّها من ذلك الزوج، بسبب بركة امتثالها لأمره صلى الله عليه وسلم بنكاحها له. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌23 - (إِذَا اسْتَشَارَ رَجُلٌ رَجُلاً فِي الْمَرْأَةِ، هَلْ يُخْبِرُهُ بِمَا يَعْلَمُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: جواب "إذا" محذوف يُعلم من الحديث، أي نعم يُخبره، ودلالة الحديث عليه واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3247 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْبَرِيدِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَلَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا، فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الأَنْصَارِ شَيْئًا» .

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَجَدْتُ هَذَا الْحَدِيثَ، فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَ، وَالصَّوَابُ أَبُو هُرَيْرَةَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو صدوق.

والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم للمصنّف في -17/ 3235 - وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك.

وقوله: "فان في أعين الأنصار شيئًا" بالهمز واحد الأشياء. قيل: المراد صغر. وقيل: زرقة. وقد تقدم تمام البحث فيه بالرقم المذكور.

وقوله: "أن جابر بن عبد اللَّه حَدَّثَ" حديث جابر رضي الله عنه أخرجه أبو داود، والحاكم، مرفوعًا: "إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها،

(1)

- راجع "لسان العرب" 7/ 358 - 359 في مادة غبط.

ص: 151

فليفعل". قال الحافظ: وسنده حسن، وله شاهد من حديث محمد بن مسلمة، وصححه ابن حبّان، والحاكم، وأخرجه أحمد، وابن ماجه، ومن حديث أبي حُميد، أخرجه أحمد، والبزّار انتهى

(1)

.

وقوله: "والصواب أبو هريرة" الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أراد أن الصواب بهذا الإسناد -أعني رواية يزيد بن كيسان- عن أبي هريرة رضي الله عنه، لا عن جابر رضي الله عنه، لكن هذا لا يستلزم ضعف حديث جابر رضي الله عنه، فقد رواه أحمد، وأبو داود، بسند صحيح، عنه، ولفظ أحمد:

14455 -

حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، مولى عمرو بن عثمان، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاريّ، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"إذا خطب أحدكم المرأة، فقدر أن يرى منها بعض ما يدعوه إليها، فليفعل".

زاد في رواية أخرى: قال: فخطبت جارية من بني سَلِمَة، فكنت أختبئ لها تحت الكَرَب

(2)

، حتى رأيت منها بعض ما دعاني إلى نكاحها، فتزوجتها.

والحاصل أن طريق يزيد بن كيسان، عن جابر غير محفوظة، وإنما المحفوظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأيضًا رواية يزيد عن جابر منقطعة، لأن يزيد لم يلق صحابيًّا، لا جابرًا، ولا غيره.

وأما حديث جابر فهو صحيح من الطريق المذكور، وقد تقدّم تمام البحث فيه في شرح الحديث الماضي بالرقم المتقدّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3248 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الأَنْصَارِ شَيْئًا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة. و"سفيان": هو ابن عيينة.

وقوله: "أراد أن يتزوّج" فيه بيان أن معنى قوله في الرواية الماضية: "إني تزوّجت امرأة". أي أردت أن تزوّجها.

والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق البحث فيه مستوفًى. واللَّه تعالى أعلم

(1)

- "فتح" 10/ 227.

(2)

الكَرَب بفتحتين: أصول السَّعَفِ، وهو جريدة النخل.

ص: 152

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌24 - (بَابُ عَرْضِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ عَلَى مَنْ يَرْضَى

(1)

)

3249 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ، مِنْ خُنَيْسٍ -يَعْنِي ابْنَ حُذَافَةَ- وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ، فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، فَلَقِيتُهُ، فَقَالَ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه، فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، فَكُنْتُ عَلَيْهِ أَوْجَدَ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، فَخَطَبَهَا إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ، حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ، فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِى حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ، أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ شَيْئًا، إِلاَّ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُهَا، وَلَمْ أَكُنْ لأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ تَرَكَهَا نَكَحْتُهَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ المعروف بابن راهويه المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(عبد الرزاق) بن همام بن نافع الحميريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظ مصنف شهير، لكنه عمي في آخر عمره، فتغير، وكان يتشيّع [9] 61/ 77.

3 -

(معمر) بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل [7] 10/ 10.

(1)

وفي نسخة: "على من يرضاه".

ص: 153

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام المدنيّ الحجة الثبت [4] 1/ 1.

5 -

(سالم) بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب العدويّ المدني الفقيه، ثقة ثبت عابد فاضل، من كبار [3] 23/ 490.

6 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12.

7 -

(عمر) بن الخطّاب بن نُفيل القرشي العدويّ، أمير المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنه - 60/ 75. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، وشيخه مروزيّ، والباقيان يمنيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وصحابي عن صحابي، والابن عن أبيه، عن أبيه. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وفيه عمر رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين الأربعة، واحد العشرة المبشرين بالجنّة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ) بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: تَأَيَّمَتْ حَفْصَة بِنْتُ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أي صارت بلا زوج بسبب موته، كما سيأتي قريبًا، يقال: تأيّمت المرأة -بهمزة مفتوحة، وتحتانية ثقيلة -أي صارت أَيِّمًا، وهي التي يموت زوجها، أو تَبِينُ منه، وتنقضي عدّتها، وأكثر ما يُطلق على من مات زوجها. قاله في "الفتح".

وقال في "المصباح": الأَيّمُ العَزَبُ رجلًا كان أو امرأة، قال الصغانيّ: وسواء تزوّج من قبلُ، أو لم يتزوّج، فيقال: رجلٌ أَيِّمٌ، وامرأة أيّمٌ، قال الشاعر [من الطويل]:

فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ

وَنسوَانُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ

وقال ابن السِّكِّيت أيضًا: فلانة أَيّمٌ إذا لم يكن لها زوج، بكرًا كانت أو ثيّبًا، ويقال أيضًا: أَيِّمَةٌ للأنثى.

وآم يَئيم مثلُ سار يَسيرُ، والأَيْمَةُ اسمٌ منه. والحربُ مَأْيَمَةٌ؛ لأن الرجال تُقتل فيها، فتبقى النساء بلا أزواج. ورجلٌ أيْمَان: ماتت امرأته، وامرأة أيْمَى: مات زوجها، والجمع فيهما أَيَامَى بالفتح، مثل سكرانَ وسكرى، وسَكَارَى. قال ابن السِّكِّيت: أصلُ أَيَامَى أَيَائِمُ، فنُقلت الميم إلى موضع الهمزة، ثم قُلِبت الهمزة

ص: 154

ألفًا، وفُتحت الميم تخفيفًا

(1)

.

(من خُنَيْسٍ) - بخاء معجمة، ونون، وسين مهملة، مصغّرًا- (-يَعْنِي ابْنَ حُذَافَةَ-) ابن عديّ بن سعد بن سلم القرشيّ السّهْميّ. كان من السابقين إلى الإسلام، وهاجر إلى الحبشة، ثم رجع، فهاجر إلى المدينة.

وعند أحمد عن عبد الرزّاق، عن معمر، عن ابن شهاب، وهي رواية يونس عن الزهريّ:"ابن حذافة، أو "حُذيفة"، والصواب حُذافة، وهو أخو عبد اللَّه بن حُذافة - رضي اللَّه تعالى عنهما -. ومن الرواة من فتح أول خنس، وكسر ثانيه، والأول هو المشهور بالتصغير. وعند معمر كالأول، لكن بحاء مهملة، وموحّدة، وشين معجمة. وقال الدارقطنيّ: اختلف على عبد الرزّاق، فروي عنه على الصواب، وروي عنه بالشكّ (وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ) قالوا: مات بعد غزوة أحد من جراحة أصَابته بها. وقيل: بل بعد بدر. قال الحافظ: ولعله أولى، فإنهم قالوا: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّجها بعد خمسة وعشرين شهرًا من الهجرة. وفي رواية بعد ثلاثين

شهرًا. وفي رواية بعد عشرين شهرًا، وكانت أحد بعد بدر بأكثر من ثلاثين شهرا، ولكنه يصحّ على قول من قال بعد ثلاثين على إلغاء الكسر. وجزم ابن سعد بأنه مات عقب قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم من بدر، وبه جزم ابن سيّد الناس، وقال ابن عبد البرّ: إنه شهد أحدًا، ومات من جراحة بها. وكانت حفصة أسنّ من أخيها عبد اللَّه، فإنها وُلدت قبل البعثة بخمس سنين، وعبد اللَّه وُلد بعد البعثة بثلاث، أو أربع.

(فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ) رضي الله عنه (فَعَرَضْتُ) بفتح الراء، من باب ضرب، يقال: عرضتُ المتاعَ للبيع: إذا أظهرتَهُ لذوي الرغبة ليشتروه (عَلَيْهِ حَفْصَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (فَقُلْتُ: إنْ شِئْتَ نَكَحْتُكَ حَفْصَةَ، فَقَالَ) عثمان رضي الله عنه (سَأَنظُرُ فِي ذَلِكَ) أي أتفكّر، وُيستعمل النظر أيضًا بمعنى الرأفة، لكن تعديته باللام، وبمعنى الرؤية، وهو الأصل، وُيعدَّى بـ"إلى"، وقد يأتي يغير صلة، وهو بمعنى الانتظار.

والمعنى: سأتفكّر في شأني، هل لي رغبة في النكاح أم لا؟ (فَلَبِثْتُ) بكسر الباء، من باب تَعِبَ، وجاء في المصدر السكون للتخفيف، واللَّبْثة بالفتحَ المرّة، وبالكسر الهيئة والنوع، والاسم اللُّبْثُ بالضمّ، واللَّبَاث بالفتح. قاله الفيّوميّ (لَيَالِيَ) منصوب على الظرفية، متعلّقٌ بما قبله (فَلَقِيتُهُ) بكسر القاف، من باب تَعِب، أي صادفت عثمان (فَقَالَ: مَا أُرِيدُ أن أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هذا) أي في الوقت الحاضر، فاليوم بمعنى الوقت. وفي الرواية الآتية -30/ 3260 - من طريق صالح بن كيسان، عن ابن شهاب: "فقال: قد

(1)

- راجع "المصباح المنير" في مادة آم.

ص: 155

بدا لي أن لا أتزوّج يومي هذا".

قال في "الفتح": هذا هو الصحيح، ووقع في رواية ربْعيّ بن حراش، عن عثمان عند الطبريّ، وصححه هو والحاكم:"أن عثمان خطب إلى عمر بنته، فردّه، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما راح إليه عمر، قال: يا عمر ألا أدلّك على خَتَن خير من عثمان، وأدلّ عثمان على خَتَن خير منك؟ قال: نعم، يا نبيّ اللَّه، قال: تُزَوِّجني بنتك، وأزوّج عثمان بنتي". قال الحافظ الضياء: إسناده لا بأس به، لكن في الصحيح أن عمر عرض على عثمان حفصة، فردّ عليه:"قد بدا لي أن لا أتزوّج".

قال الحافظ: أخرج ابن سعد من مرسل الحسن نحو حديث ربعيّ، ومن مرسل سعيد بن المسيّب أتمّ منه، وزاد في آخره:"فخار اللَّه لهما جميعًا".

ويحتمل في الجمع بينهما أن يكون عثمان خطب أوّلًا إلى عمر، فردّه، كما في رواية رِبْعيّ، وسبب ردّه يحتمل أن يكون من جهتها، وهي أنها لم ترغب في التزويج عن قرب من وفاة زوجها. ويحتمل غير ذلك من الأسباب التي لا غضاضة فيها على عثمان في ردّ عمر له، ثم لما ارتفع السبب بادر عمر، فعرضها على عثمان رعايةً لخاطره كما في حديث الباب، ولعلّ عثمان بلغه ما بلغ أبا بكر من ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم لها، فصنع كما صنع من ترك إفشاء ذلك، وردّ على عمر بجميل.

ووقع في رواية ابن سعد: "فقال عثمان: مالي في النساء من حاجة"، وذكر ابن سعد عن الواقديّ بسند له أن عمر عرض حفصة على عثمان حين توفّيت رقيّة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعثمان يومئذ يُريد أم كلثوم بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: وهذا مما يؤيّد أن موت خنيس كان بعد بدر، فإن رقيّة ماتت ليالي بدر، وتخلَّف عثمان عن بدر لتمريضها. وقد أخرج إسحاق في مسنده، وابن سعد من مرسل سعيد بن الميسب، قال:"تأيّمت حفصة من زوجها، وتأيّم عثمان من رُقيّة، فمرّ عمر بعثمان، وهو حزين، فقال: هل لك في حفصة؟ فقد انقضت عدّتها من فلان".

واستُشكل أيضًا بأنه لو كان مات بعد أحد للزم أن لا تنقضي عدّتها إلا في سنة أربع. واجيب باحتمال أن تكون وضعت عقب وفاته، ولو سِقْطًا، فحلّت

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الجواب باحتمال الوضع محلّ نظر، فليتأمَّل. واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ عُمَرُ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه) هذا يُشعر بأنه عقب ردّ عثمان له عرضها على أبي بكر (فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ، فَلَمْ يرْجِع) بفتح الياء (إِلَيَّ شَيْئًا) وفي رواية صالح بن كيسان المذكورة: "فصمت أبو بكر،

(1)

- "فتح" 10/ 221 - 222.

ص: 156

فلم يَرجِع إليّ شيئًا". فقوله: "صَمَتَ" أي سكت وزنًا ومعنًى، وقوله: "فلم يرجع الخ" تأكيد لرفع المجاز؛ لاحتمال أن يُظنّ أنه صمت زمانًا، ثم تكلّم. قاله في "الفتح". (فَكُنْتُ عَلَيْهِ أَوْجَدَ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه) أي أشدّ مَوْجِدةً، أي غَضَبًا على أبي بكر رضي الله عنه من غضبي على عثمان رضي الله عنه، وذلك لأمرين:

[أحدهما]: ما كان بينهما من أكيد المودّة؛ ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان آخى بينهما. وأما عثمان فلعلّه كان تقدّم من عمر ردّه، فلم يَعتِب عليه، حيث لم يُجبه لما سبق منه في حقّه.

[والثاني]: لكون عثمان أجابه أوّلًا، ثم اعتذر له ثانيًا، ولكون أبي بكر لم يُعِدْ عليه جوابًا.

ووقع في رواية ابن سعد: "فغضِبَ على أبي بكر، وقال فيها: كنت أشدّ غضبًا حين سكت منّي على عثمان".

(فَلَبِثتُ لَيَالِيَ، فَخَطَبَهَا إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ) أي غضبت، يقال: وَجَدَ عليه، من باب ضرب، مَوْجِدَةً: إذا غَضِبَ (حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ، فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا؟) بفتح حرف المضارعة، وكسر الجيم، أي لم أُعِدْ عليك الجواب (قُلتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ) الضمير للشأن، أي إن الأمر والشأن (لَم يَمْنَعْنِي حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ، أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ شَيْئًا، إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُهَا) وفي رواية ابن سعد: "فقال أبو بكر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان ذكر منها شيئًا، وكان سرًّا". قال في "الفتح": ولعلّ اطلاع أبي بكر على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قصد خِطبة حفصة كان بإخباره صلى الله عليه وسلم له إما على سبيل الاستشارة، وإما لأنه كان لا يكتم عنه شيئًا مما يريده حتى ولا ما في العادة عليه غضاضة، وهو كون ابنته عائشة عنده، ولم يمنعه ذلك من إطلاعه على ما يريد؛ لوثوقه بإيثاره إياه على نفسه، ولهذا أطلع أبا بكر على ذلك قبل إطلاع عمر الذي يقع الكلام معه في الخِطْبة. انتهى

(1)

.

(وَلَمْ أَكُنْ لأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية ابن سعد: "وكرهت أن أُفشي سرّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".

ثم إنه يحتمل أن يكون سبب كتمان أبي بكر رضي الله عنه ذلك أنه خشي أن يبدو لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن لا يتزوّجها، فيقع في قلب عمر انكسار. والله تعالى أعلم.

(وَلَوْ تَرَكَهَا نَكَحْتُهَا) وفي رواية صالح المذكورة: "ولو تركها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبلتها".

(1)

- "فتح" 10/ 222. "كتاب النكاح".

ص: 157

وفيه أنه لولا هذا العذر لقبلها، فيُستفاد منه عذره في كونه لم يقل كما قال عثمان رضي الله عنه:"ما أريد أن أتزوّج يومي هذا". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 24/ 3248 و 3260 - وفي "الكبرى" 25/ 536326/ 5364. وأخرجه (خ) في "المغازي" 405 و"النكاح"5129 و 5145 (أحمد) في "مسند العشرة" 75 و"مسند المكثرين" 4792. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعيّة عرض الرجل ابنته، وكذا غيرها من مولياته على من يرضى من الرجال، ممن يعتقد خيريّته وصلاحيته؛ لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه، وأنه لا استحياء في ذلك. (ومنها): عتاب الرجل لأخيه، وعتبه عليه، واعتذاره إليه، وقد جُبِلت الطباع البشريّة على ذلك. (ومنها): الرخصة في تزويج من عرض النبيّ صلى الله عليه وسلم -بخطبتها، أو أراد أن يتزوّجها لقول الصدّيق:"لو تركها لقبلتها". (ومنها): أنه لا بأس بعرض المرأة على الرجل المتزوّج؛ لأن أبا بكر كان حينئذ متزوّجًا، (ومنها): أنّ من حلف لا يُفشي سرّ فلان، فأفشى فلانٌ سرّ نفسه، ثم تحدّث به الحالف لا يحنث؛ لأن صاحب السرّ، هو الذي أفشاه، فلم يكن الإفشاء من قبل الحالف، وهذا بخلاف ما لو حدّث واحدًا آخر بشيء، واستحلفه ليكتمه، فليقيه رجل، فذكر له أنّ صاحب الحديث حدّثه بمثل ما حدّثه به، فأظهر التعجّب، وقال: ما ظننت أنه حدّث بذلك غيري، فإن هذا يحنث؛ لأن تحليفه وقع على أنه يكتم أنه حدّثه، وقد أفشاه. (ومنها): أن الأب تخُطب إليه بنته الثيّب كما تُخطب إليه البكر، ولا تخطب إلى نفسها، كذا قال ابن بطّال. ولكن قوله: لا تخطب إلى نفسها ليس في الخبر ما يدلّ عليه. (ومنها): أنه يزوّج بنته الثيّب من غير أن يستأمرها إذا علم أنها لا تكره ذلك، وكان الخاطب كفؤًا لها. وليس في الحديث تصريح بالنفي المذكور، إلا أنه يؤخذ من غيره. ذكره في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم

(1)

- "فتح" 10/ 222 - 223. "كتاب النكاح".

ص: 158

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌25 - (بَابُ عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى مَنْ تَرْضَى)

3250 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي مَرْحُومُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَطَّارُ، أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ، يَقُولُ: كُنْتُ عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَعِنْدَهُ ابْنَةٌ لَهُ، فَقَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَكَ فِىَّ حَاجَةٌ؟).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(محمد بن المثنّى) بن عُبيد، العنزي، أبو موسى البصريّ، ثقة ثبت [10] 64/ 80.

2 -

(مرحوم بن عبد العزيز بن مِهران العطّار) الأمويّ، مولى آل معاوية بن أبي سفيان البصريّ، ثقة [8].

وثقه أحمد، وابن معين، والنسائيّ، وأبو نعيم، ويعقوب بن سفيان، وابن حبّان. وقال البزّار: مشهورٌ ثقة، كان أحد العبّاد. قال أبو داود: مات سنة (187). وقال البخاريّ: قال بشر بن عُبيس بن مرحوم: مات سنة (188) وكان يوم مات الحسن ابن سبع سنين، ومات الحسن سنة (110). روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب برقم 25/ 3250 و 3251، وحديث معاوية رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة

" الحديث رقم 37/ 5427 [كيف يَستحلف الحاكم].

وقال في "الفتح": ليس له في البخاريّ سوى هذا الحديث، وقد أورده عنه في "كتاب الأدب" أيضًا. وذكر البزّار أنه تفرّد به عن ثابت انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قوله: "أبو عبد الصمد" هكذا في "المجتبى" 6/ 78 - ، والذي في "تهذيب الكمال" -27/ 366 - و"تهذيب التهذيب" - 4/ 46 - : أبو محمد، ويقال: أبو عبد اللَّه،

(1)

- "فتح" 10/ 219.

ص: 159

هذا الأخير هو الذي في "الكبرى" -3/ 277. واللَّه تعالى أعلم.

3 -

(ثابت البنانيّ) ابن أسلم، أبو محمد البصريّ، ثقة عابد [4] 45/ 53.

4 -

(أنس بن مالك) - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أعلى الأسانيد له، كما تقدم غير مرّة، وهو (161) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه ثابتًا يقال: لازم أنسًا رضي الله عنه أربعين سنة. (ومنها): أن فيه أنسَا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم - بالبصرة سنة (2) أو (93)، وقد جاوز المائة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن ثابت البُنَانيّ -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (كُنْتُ عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (وَعِنْدَهُ ابْنَةٌ لَهُ) قال الحافظ: لم أقف على اسمها، وأظنّها أُمينة بالتصغير (فَقَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ) قال الحافظ أيضًا: لم أقف على تعيينها، وأشبه من رأيت بقصّتها ممن تقدّم ذكر اسمهنّ في الواهبات ليلى بنت قيس بن الخطيم، ويظهر لي أن صاحبة هذه القصّة غير التي في حديث سهل رضي الله عنه (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَرَضتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا) أي ليتزوّجها (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَكَ فِيَّ) أي زواجي (حَاجَةٌ؟) أي رغبة، واحتياج. زاد في الرواية التالية:"فضحكت ابنة أنس، فقالت: ما كان أقلّ حياءها؟، فقال أنس: هي خير منكِ، عرضت نفسها على النبيّ صلى الله عليه وسلم". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-25/ 325 و 3251 - وفي "الكبرى" 24/ 5361 و 5362. وأخرجه (خ) في "النكاح" 512 و"الأدب" 6123 (ق) في "النكاح" 2001 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 13423. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

ص: 160

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعيّة عرض المرأة نفسها على من ترضاه من أهل الصلاح. (ومنها): أن مثل هذا ليس بقلّة حياء شرعًا، وإن كان في عادة الناس يستحيى منه؛ لأن ذلك يعود على المرأة بالنفع الدنيويّ والأخرويّ. (ومنها): الحرص، وشدّة الرغبة في نيل شرف الدنيا والآخرة، وأن ذلك مما يستحسنه الشرع الشريف، والعقل، لا ما يزعم بعض الناس، ويتخيله بأن ذلك مما يُخلّ بالمروءة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3251 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْحُومٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَضَحِكَتِ ابْنَةُ أَنَسٍ، فَقَالَتْ: مَا كَانَ أَقَلَّ حَيَاءَهَا؟ ، فَقَالَ أَنَسٌ: هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ، عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم").

رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح،

والسند من الرباعيات، كسابقه، وهو (162) من رباعيات الكتاب، والحديث أخرجه البخاريّ، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله في الحديث الذي قبله.

وقولها: "ما كان أقلَّ حياءها؟ ""أقلّ" فعل ماض متعدّ، قال في "القاموس": أقلّه: جعله قليلاً، كقلّله، و"ما" تعجّبيّةٌ مبتدأ، و"كان" زائدةٌ، والضمير الفاعل يعود لـ"ما"، وفي"حياءها" بالنصب مفعول به لـ"أقلّ"، والجملة خبر المبتدإ. والمعنى: أيُّ شيء جعل حياءها قليلاً، ومقصودها التعجّب من قلّة حيائها، حيث عرضت نفسها على النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن العادة أن المرأة تستحيي من أن تعرِضَ نفسها للرجال.

وفي رواية البخاريّ: "فقالت: بنت أنس: ما أقلّ حياءها، وا سوأتاه، قال: هي خير منك، رغِبت في النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعرضت نفسها عليه". وقولها: "وا سوأتاه" أصل السَّوْأَة - بفتح السين المهملة، وسكون الواو، بعدها همزة- الفَعْلة القبيحة، وتُطلق على الفرج، والمراد هنا الأول، والألف للندبة، والهاء للسكت. قاله في "الفتح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 161

‌26 - (صَلَاةُ الْمَرْأَةِ إِذَا خُطِبَتْ، وَاسْتِخَارَتُهَا رَبَّهَا)

قوله: "خُطبت" بالبناء للمفعول.

3252 -

(أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِزَيْدٍ:«اذْكُرْهَا عَلَيَّ» ، قَالَ زَيْدٌ: فَانْطَلَقْتُ، فَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ، أَبْشِرِي، أَرْسَلَنِي إِلَيْكِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَذْكُرُكِ، فَقَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا، حَتَّى أَسْتَأْمِرَ رَبِّي، فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ بِغَيْرِ أَمْرٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سويد بن نصر) أبو الفضل المروزيّ، لقبه الشاه، راوية ابن المبارك، ثقة [10] 45/ 55.

2 -

(عبد اللَّه) بن المبارك بن واضح الحنظليّ المروزيّ، ثقة ثبت فاضل حجة [8] 32/ 36.

3 -

(سليمان بن المغيرة) القيسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة [7] 53/ 616، والباقيان تقدما في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو والترمذيّ. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، وابن المبارك، فمروزيان. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَنَسِ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: لَمَّا انقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ) أي من طلاق زيد بن حارثة - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وهي زينب بنت جحش بن رئاب بن يَعْمَر بن صَبْرة بن مرّة بن كَبير بن غَنْم بن دُودان بن أسد بن خُزيمة الأسديّة، أم المؤمنين. وأمّها أُميمة بنت عبد المطّلب عمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(2)

. زوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة - رضي

(1)

- وفي نسخة: "أخبرنا"، وفي أخرى:"ثنا".

(2)

- "تهذيب الكمال" 35/ 184.

ص: 162

اللَّه تعالى عنهما، وأصدقها عشرة دنانير وستين درهمًا، وخمارًا، وملحفةً، ودرعًا، وخمسين مُدًّا من طعام، وعشرة أمداد من تمر. قاله مقاتل بن حيّان، فمكثت عنده قريبًا من سنة، أو فوقها، ثم وقع بينهما، فجاء زيد يشكوها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقولِ له:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} الآية [الأحزاب: 37]

(1)

.

[فائدة]: ذكر المفسّرون أقوالاً في المراد بقوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} الآية، والأصحّ أنه إخبار اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أنها ستصير زوجته.

أخرج ابن أبي حاتم، من طريق السدّيّ، قال:"بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمها أُميمة بنت عبد المطّلب، عمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أراد أن أن يزوّجها زيد بن حارثة مولاه، فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فزوّجها إياه، ثم أعلم اللَّه عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم بعدُ أنها من أزواجه، فكان يستحيي أن يأمر بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون بين الناس، فأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُمسك عليه زوجه، وأن يتقي اللَّه، وكان يَخشى الناس أن يَعيبوا عليه، ويقولوا: تزوّج امرأة ابنه، وكان قد تبنّى زيدًا".

وعنده من طريق عليّ بن زيد بن جُدعان، عن عليّ بن الحسين بن عليّ، قال: أعلم اللَّه نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوّجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه، وقال له: اتق اللَّه، وأمسك عليك زوجك، قال اللَّه: قد أخبرتك أني مزوّجكها، وتُخفي في نفسك ما اللَّه مبديه.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وقد أطنب الترمذيّ الحكيم في تحسين هذه الرواية، وقال: إنها من جواهر العلم المكنون، وكأنه لم يقف على نفسير السدّيّ الذي أوردته، وهو أوضح سياقًا، وأصحّ إسنادًا إليه؛ لضعف عليّ بن زيد بن جُدعان.

وروى عبد الرزّاق، عن معمر، عن قتادة، قال: جاء زيد بن حارثة، فقال: يا رسول اللَّه إن زينب اشتدّ عليّ لسانها، وأنا أريد أن أُطلّقها، فقال له: اتق اللَّه، وأمسك عليك زوجك، قال: والنبيّ صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يُطلّقها، ويَخشى قالةَ الناس.

ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم، والطبريّ، ونقلها كثير من المفسّرين، لا ينبغي التشاغل بها

(2)

، والذي أوردته منها هو المعتمد.

(1)

- راجع "تفسير ابن كثير" 3/ 499. "تفسير سورة الأحزاب".

(2)

- وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره": ذكر ابن أبي حاتم، وابن جرير ههنا آثارًا عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحًا لعدم صحّتها، فلا نوردها انتهى.

ص: 163

والحاصل أن الذي كان يُخفيه النبيّ صلى الله عليه وسلم هو إخبار اللَّه إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس تزوّج امرأة ابنه، وأراد اللَّه إبطال ما كان أهل الجاهليّة عليه من أحكام التبنّي بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوّج امرأة الذي يُدعَى ابنًا، ووقوع ذلك من إمام المسلمين ليكون أدعى لقبولهم، وإنما وقع الخبط في تأويل متعلّق الخشية. واللَّه تعالى أعلم.

وأخرج الترمذيّ، من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "لو كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كاتما شيئا من الوحي، لكتم هذه الآية:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} يعني بالإسلام {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} يعني بالعتق، فأعتقته {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} إلى قوله {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37] وإن رسوِل اللَّه صلى الله عليه وسلم لما تزوجها، قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل اللَّه تعالى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تبناه، وهو صغير، فلبث حتى صار رجلا، يقال له: زيد بن محمد، فأنزل اللَّه {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} فلان مولى فلان، وفلان أخو فلان، {هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] يعني أعدل.

قال أبو عيسى: هذا حديث غريب

(1)

، قد روي عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم، كاتما شيئا من الوحي، لكتم هذه الآية:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} هذا الحرف، لم يرو بطوله.

وقال ابن العربيّ: إنما قال صلى الله عليه وسلم لزيد: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} اختبارًا لما عنده من الرغبة فيها، أو عنها، فلما أطلعه زيد على ما عنده منها من النفرة التي نشأت من تعاظمها عليه، وبذاءة لسانها أذن له في طلاقها، وليس في مخالفة متعلّق الأمر لمتعلّق العلم ما يمنع من الأمر به. واللَّه أعلم

(2)

.

(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لِزَيْدٍ: "اذْكُرْهَا عَلَيَّ") يقال: ذكر المرأة: إذا خطبها. وقيل: تعرّض لخِطبتها

(3)

. أي اخطبها لأجلي من نفسها، والتمس نكاحها لي. وإنما أرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم زيدا؛ لئلا يظنّ أحدٌ أن ذلك وقع قهرًا بغير رضاه، وفيه أيضًا اختبار ما كان

(1)

- حديث ضعيف لأن في سنده داود بن الزبرقان متروك.

(2)

- راجع "الفتح" 9/ 479 - 480.

(3)

- ذكر هذا المعنى ابن الأثير في "النهاية"، وذكره أيضًا في "لسان العرب"، قال: وفي حديث عليّ رضي الله عنه: "أن عليًّا يذكُرُ فاطمة" أي يخطبها. وقيل: يتعرّض لخِطْبتها. انتهى.

ص: 164

عنده منها، هل بقي منه شيء، أو لا؟. واللَّه تعالى أعلم

(1)

.

(قَالَ: زَيْدُ)(فَانْطَلَقْتُ) وفي رواية مسلم: "فانطلق زيد، حتى أتاها، وهي تخُمّر عَجِينها، قال: فلما رأيتها عظُمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكرها، فولّيت ظهري، ونكصت على عَقِبي، فقلت: يا زينب، أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يذكرك

" الحديث.

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: معنى هذا الكلام أنه لمّا خطبها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعَلِمَ زيد أنها صالحة لأن تكون من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن أمهات المؤمنين، حصل لها في نفسه صورة أخرى، وإجلالٌ زائدٌ على ما كان لها عنده في حال كونها زوجته، وتوليته إياها ظهره مبالغةٌ في التحرّز من رؤيتها، وصيانةٌ لقلبه من التعلّق بها، على أن الحجاب إذ ذاك لم يكن مشروعًا بعدُ، على ما يدلّ عليه بقيّة الخبر انتهى

(2)

.

(فَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ، أَبْشِرِي) بقطع الهمزة، وكسر الشين المعجمة، من أبشر رباعيًّا، يقال: أَبْشَرَ الرجلُ إبشارًا: إذا فَرِحَ، قال الشاعر [من الخفيف]:

ثُمَّ أَبْشَرتُ إِذْ رَأَيْتُ سَوَامَا

وَبُيُوتًا مَبْثُوثَةً وَجِلَالَا

أو بوصل الهمزة، وضمّ الشين المعجمة، وفتحها، من بَشَرْتُ بكذا، من باب نصر، وفَرِح: إذا فرحتَ به، ففيه ثلاث لغات، ويتعدّى أيضًا، فيقال: بَشَرتُهُ، من باب نصر، وبشّرته بالتضعيف، وأبشرته بالهمزة: إذا أفرحته. وإنما سميت البشارة به؛ لأن بَشَرَة الإنسان تنبسط عند السرور. أفاده في "لسان العرب".

(أَرْسَلَنِي إِلَيْكِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَذْكُرُكِ) أي يخطبك، وهذه الجملة علة لأمرها بالبشرى، أي افرَحي لأنه صلى الله عليه وسلم خطبك (فَقَالَتْ) زينب - رضي اللَّه تعالى عنها - (مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا، حَتَّى أَسْتَأْمِرَ رَبِّي) أي أستخيره، وانظر أمره على لسان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلماَ وَكَلَت أمرها إلى اللَّه تعالى، وصحّ تفويضها إليه، تولّى اللَّه تعالىِ إنكاحها منه صلى الله عليه وسلم، ولم يُحوجها إلى من يتولّى عقد نكاحها، ولذلك قال تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية [الأحزاب: 37]، ولما أعلمه اللَّه تعالى بذلك دخل عليها بغير وليّ، وتجديد عقد، ولا تقرير صداق، ولا شيء مما يكون شرطًا في حقنا، ومشروعًا لنا، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم اللاتي لا يشاركه فيها أحد بإجماع المسلمين. قاله القرطبيّ

(3)

(فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا) بفتح الجيم، وكسرها: أي موضع صلاتها من بيتها لتصلّي

(1)

- "راجع الفتح" 9/ 480. "تفسير سورة الأحزاب".

(2)

- "المفهم" 4/ 146.

(3)

- "المفهم" 4/ 147.

ص: 165

صلاة الاستخارة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان علمها ذلك، كما سيأتي في الباب التالي حديث جابر رضي الله عنه، كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلّمنا السورة من القرآن

" الحديث. قال النوويّ: ولعلّ استخارتها؛ لخوفها من التقصير في حقّه صلى الله عليه وسلم

(1)

. (وَنَزَلَ الْقُرْآنُ) يعني قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية [سورة الأحزاب: 37](وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ بِغَيْرِ أَمْرٍ) أي بغير إذن منها؛ لأن اللَّه تعالى زوّجه إياها بهذه الآية الكريمة. زاد في رواية مسلم، من طريق بهز بن أسد، عن سليمان بن المغيرة، ما: لفظه:

قال: فقال: ولقد رأيتنا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أطعمنا الخبز واللحم، حين امتد النهار، فخرج الناس، وبقي رجال يتحدثون في البيت، بعد الطعام، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واتبعته، فجعل يتتبع حُجَرَ نسائه، يسلم عليهن، ويَقُلنَ: يا رسول اللَّه، كيف وجدت أهلك؟، قال: فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا، أو أخبرني؟، قال: فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقى السِّتْرَ بيني وبينه، ونزل الحجاب، قال: وَوُعِظ القومُ بما وُعِظُوا به.

زاد ابن رافع في حديثه: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} إلى قوله: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} . واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-26/ 3252 - وفي "الكبرى" في 37/ 5399 و"التفسير". 1141 و 11411. وأخرجه (م) في "النكاح" 1428 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 12611. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعيّة صلاة المرأة إذا خُطبت، مستخيرةٌ ربها، ودعاؤها عند الخِطبة قبل الإجابة. (ومنها): استحباب صلاة الاستخارة لمن همّ بأمر، سواء كان ذلك الأمر ظاهر الخير، أم لا. (ومنها): أن من

(1)

- "شرح مسلم" 9/ 229 - 230.

ص: 166

وكل أمره إلى اللَّه تعالى يسّر اللَّه له ما هو الأحظّ له، والأنفع دنيا وأخرى. (ومنها): أنه لا بأس أن يبعث الرجل لخطبة المرأة له من كان زوجها سابقًا، إذا علم أنه لا يكره ذلك، كما كان حال زيد رضي الله عنه مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. (ومنها): فضل زينب - رضي اللَّه تعالى عنها -، حيث زوّجها اللَّه سبحانه وتعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كانت تفتخر على بقية أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاريّ عن أنس رضي الله عنه، قال: إن زينب بنت جحش - رضي اللَّه تعالى عنها - كانت تفتخر على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتقول: زوّجكنّ أهاليكنّ، وزوّجني اللَّه تعالى من فوق سبع سموات". وأخرج ابن جرير في "تفسيره" من طريق المغيرة، عن الشعبيّ، قال: كانت زينب - رضي اللَّه تعالى عنها -، تقول: للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إني لأُدلي عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تُدلي بهنّ: إن جدّي وجدّك واحد، وإني أَنكحنيك اللَّه عز وجل من السماء، وإن السفير جبريل عليه السلام. انتهى

(1)

. وهذا مرسل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3253 -

(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الصُّوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ، أَبُو بَكْرٍ، سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: كَانَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، تَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل، أَنْكَحَنِي مِنَ السَّمَاءِ، وَفِيهَا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مناسبة حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا لَهذا الباب من حيث إن فيه إشارةً إلى أن سبب الفخر الذي نالته زينب - رضي اللَّه تعالى عنها - إنما حصل لها بسبب صلاتها، واستخارتها ربّها، فلما التجأت إليه سبحانه وتعالى، تولّى أمرها بنفسه، فزوّجها من رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل في شأنها قرآنا يُتلى، فيستحبّ للنساء أن يقتدين بها حتى يحصل لهنّ ما حصل من البركة. واللَّه تعالى أعلم.

ورجال هذا إسناده: أربعة:

1 -

(أحمد بن يحيي) بن زكريا الأوديّ، أبو جعفر الكوفيّ العابد، وهو ثقة [11] 38/ 1274.

2 -

(أبو نُعيم) الفضل بن دُكين التيميّ مولاهم الكوفيّ، الثقة الثبت [9] 11/ 516.

3 -

(عيسى بن طهمان) بن رامة الْجُشميّ -بضم الجيم، وفتح المعجمة- أبو بكر البصريّ، نزيل الكوفة، صدوق، أفرط ابن حبّان، والذنب فيما استنكره من حديثه لغيره [5].

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: شيخٌ ثقة. وقال حنبل بن إسحاق، عن أحمد بن

(1)

- راجع تفسير ابن جرير 22/ 14.

ص: 167

حنبل: ليس به بأس. وكذا قال ابن معين، والنسائيّ. وقال المفضّل الغلابيّ، عن ابن معين: بصريّ، صار إلى الكوفة ثقة، لقيه أبو النضر البغداديّ. وقال أبو حاتم: لا بأس به، يُشبه حديثه حديث أهل الصدق، ما بحديثه بأس. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة. وقال أبو داود: لا بأس به، أحاديثه مستقيمة. وقال مرّةً: ثقة. وقال الحاكم، عن الدارقطنيّ: ثقة. وقال ابن معين في رواية جعفر الطيالسيّ عنه: لا بأس به. وقال الحاكم: صدوق. وقال ابن حبّان: يتفرّد بالمناكير عن أنس، كأنه كان يدلّس عن أبان ابن عيّاش، ويزيد الرقاشي عنه، لا يجوز الاحتجاج بخبره. وقال العقيليّ: لا يتابع على حديثه، ولعلّه أُتي من خالد بن عبد الرحمن؛ لأن أبا نعيم، وخلّادًا -يعني ابن يحيى- قد حدّثا عنه أحاديث مقاربة. ثم ساق له من رواية خالد عنه، عن أنس حديثين: أحدهما: "من وسّع لنا في مسجدنا هذا بني اللَّه له بيتًا في الجنّة". والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال لعثمان: "أُزوّجك خيرًا من بنت عمر، ويتزوّج بنت عمر خيرٌ منك". وأورد له ابن حبّان عن أنس حديث: "ارحموا ثلاثةً: عزيز قوم ذَلَّ

" الحديث. وقال الذهبيّ: مات قبل الستّين ومائة. روى له البخاريّ، والترمذيّ، في "الشمائل"، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديث الباب فقط. والصحابيّ تقدم في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (163) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه ما بين كوفيين، وبصريين. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن عيسى بن طهمان -رحمه اللَّه تعالى-، أنه قال:(سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (يَقُولُ: كَانَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جحشٍ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (تَفْخَرُ) -بفتح الخاء المعجمة- يقال: فَخَرتُ به فَخْرًا، من باب نفع، وافتخرتُ مثله، والاسم الْفَخَار- بالفتح-، وهو المباهاةُ بالمكارم، والمناقب، من حَسَبٍ، ونَسَبٍ، وغير ذلك، إما في المتكلّم، أو في آبائه. قاله الفيّوميّ (عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، تَقُولُ) هذا بيان لكيفية فخرها، والأمر الذي افتخرت به (إِنَّ اللَّهَ عز وجل، أَنْكَحَنِي) أي زوَّجني من النبيّ صلى الله عليه وسلم

(مِنَ السمَاءِ) أي أنزل ذلك منه. وفي لفظ البخاريّ: "إن اللَّه أنكحني في السماء"، وزاد الإسماعيليّ من طريق الفريابيّ، وأبي قُتيبة، عن عيسى:"أنتنّ أنكحكنّ آباؤكنّ".

ص: 168

قال في "الفتح": وهذا الإطلاق محمول على البعض، وإلا فالمحقَّق أن التي زوّجها أبوها منهنّ عائشة، وحفصة، فقط، وفي سودة، وزينب بنت خُزيمة، وجويرية احتمال، وأما أمّ سلمة، وأم حبيبة، وصفيّة، وميمونة، فلم يُزوِّجْ واحدةً منهنّ أبوها. انتهى.

وفي رواية له من طريق ثابت، عن أنس رضي الله عنه:"فكانت زينب تفخر على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، تقول: زوّجكنّ أهاليكنّ، وزوّجني اللَّه تعالى من فوق سبع سماوات". ووقع عند ابن سعد من وجه آخر، عن أنس بلفظ:"قالت زينب يا رسول اللَّه، إني لستُ كأحد من نسائك، ليست منهنّ امرأة إلا زوّجها أبوها، أو أخوها، أو أهلها غيري". وسنده ضعيف. ومن وجه آخر موصول عن أم سلمة: "قالت زينب ما أنا كأحد من نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، إنّهنّ زُوّجْنّ بالمهور، زوّجهنّ الأولياء، وأنا زوَّجني اللَّه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل اللَّه في الكتاب". وفي مرسل الشعبيّ: "قالت زينب: يا رسول اللَّه، أنا أعظم نسائك عليك حقًّا، أنا خيرهنّ مُنكحًا، وأكرمهنّ سَفِيرًا، وأقربهنّ رحمًا، فزوّجنيك الرحمن من فوق عرشه، وكان جبريل هو السفير بذلك، وأنا ابنة عمتك، وليس لك من نسائك قريبة غيري". أخرجه الطبرانيّ، وأبو القاسم الطحاويّ في "كتاب الحجّة والتبيان" له. قاله في "الفتح"

(1)

.

[تنبيه]: قال الكرمانيّ: قوله: "في السماء" ظاهره غير مراد، إذ اللَّه منزّهٌ عن الحلول في المكان، لكن لما كانت جهة العلوّ أشرف من غيرها أضافها إليه؛ إشارةً إلى علوّ الذات والصفات انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى: الحقّ أن هذا، وأمثاله، كقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وكحديث ينزل ربّنا إلى سماء الدنيا كلّ ليلة

" الحديث، يُحمل على ظاهره، مع اعتقاد التنزيه للَّه تعالى عن مشابهة خلقه في صفاته، وقوله: إذ اللَّه منزّه عن الحلول في المكان صحيح، لكن لا يلزم من إثبات هذه الصفات له الحلول في المكان؛ وإثما يأتي هذا التخيل من قياس الغائب بالشاهد، فاللَّه سبحانه وتعالى له صفاته اللائقة به، كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} : فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف. واللَّه تعالى أعلم.

(وَفِيهَا) أي في شأن زواج زينب - رضي اللَّه تعالى عنها - (نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ) أي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية، ففي رواية البخاريّ من رواية

(1)

- "فتح" 15/ 371 "كتاب التوحيد".

ص: 169

أَبِي قلابة، قال: أنس بن مالك: أنا أعلم الناس بهذه الآية، آيةِ الحجاب، لَمّا أُهديت زينب بنت جحش، رضي الله عنها، إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كانت معه في البيت، صنع طعاما، ودعا القوم، فقعدوا يتحدثون، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج، ثم يرجع، وهم قعود يتحدثون، فأنزل اللَّه تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} إلى قوله: {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ} ، فضرب الحجاب، وقام القوم.

وفي رواية له من عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس رضي الله عنه، قال: بُنِيَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، بزينب بنت جحش، بخبز ولحم، فأرسِلتُ على الطعام داعيا، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم، فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعو، فقلت: يا نبي اللَّه ما أجد أحدا أدعوه، قال:"ارفعوا طعامكم"، وبقي ثلاثة رهط، يتحدثون في البيت، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال:"السلام عليكم أهل البيت ورحمة اللَّه"، فقالت: وعليك السلام ورحمة اللَّه، كيف وجدت أهلك، بارك اللَّه لك، فتَقَرَّى حُجَر نسائه كلهن، يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا ثلاثة من رهط في البيت يتحدثون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة، فما أدري آخبرته، أو أُخبر أن القوم خرجوا، فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخلة، وأخرى خارجة، أرخى الستر بيني وبينه، وأُنزلت آية الحجاب.

[تنبيه]: وقع في رواية مجاهد، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - لنزول آية الحجاب سبب آخر، أخرجه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "الكبرى" رقم -11419 - ولفظه:"قالت: كنت آكل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم حَيسًا في قَعْبٍ، فمرّ عمر رضي الله عنه، فدعاه، فأكل، فاصابت أصبعه أصبعي، فقال: حَسٌ -أو أوّه- لو أطاع فيكنّ ما رأتكنّ عين، فنزل الحجاب".

ويمكن الجمع -كما قال الحافظ- بأن ذلك وقع قبل قصّة زينب، فلقربه منها أُطلقت نزول الحجاب بهذا السبب، ولا مانع من تعدّد الأسباب.

وقد أخرج ابن مردويه من حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: دخل رجلٌ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأطال الجلوس، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث مرّات؛ ليخرج، فلم يفعل، فدخل عمر رضي الله عنه، فرأى الكراهية في وجهه، فقال للرجل: لعلّك آيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لقد قمتُ ثلاثًا؛ لكي يتبعني، فلم يفعل"، فقال له عمر رضي الله عنه: يا رسول اللَّه، لو اتخذت حجابًا، فإن نساءك لسن كسائر النساء، وذلك أطهر لقلوبهنّ،

ص: 170

فنزلت آية الحجاب. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-26/ 3253 - وفي "الكبرى" 37/ 5400 و 5401. وأخرجه (خ) في "التوحيد" 7420 و 7421 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 12948. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): فضل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما خصّه اللَّه تعالى به من المزايا الرفعية، ومنها أنه زوّجه زينب - رضي اللَّه تعالى عنها - في السماء، وليس هناك صداق، ولا ما يُتطلّب في عقد النكاح. (ومنها): بيان منقبة زينب - رضي اللَّه تعالى عنها -، كما بيّنت هي ذلك حيث قالت:"إن اللَّه عز وجل أنكحني من السماء". (ومنها): بيان سبب نزول آية الحجاب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌27 - (كَيْفَ الاسْتِخَارَةُ؟)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الاستخارة": استفعالٌ من الخير، أو من الْخِيرة -بكسر أوّله، وفتح ثانيه، بوزن الْعِنَبَة- اسم من قولك خار اللَّه له، واستخار اللَّه: طلَب منه الخِيَرَة، وخار اللَّه له: أعطاه ما هو خيرٌ له، والمراد طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3254 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الْمَوَالِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ، فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا

(1)

- "فتح" 9/ 488 "كتاب التفسير".

ص: 171

يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَعِينُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ، وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ، وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ، أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي، وَمَعَاشِي، وَعَاقِبَةِ أَمْرِي" -أَوْ قَالَ-: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ، شَرٌّ لِي فِي دِينِي، وَمَعَاشِي، وَعَاقِبَةِ أَمْرِي" -أَوْ قَالَ- "فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ، حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ"، -قَالَ-: "وَيُسَمِّى حَاجَتَهُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(ابن أبي الموال) -بفتح الميم، وتخفيف الواو، بصيغة جمع مولى -وهو

عبد الرحمن بن أبي الموال واسمه زيد، ويقال: زيد جدّ عبد الرحمن، وأبوه لا يعرف اسمه، أبو محمد، مولى آل عليّ، صدوق ربما أخطأ [7].

قال أبو طالب، عن أحمد: لا بأس بة. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: صالح. وقال الترمذيّ، والنسائيّ: ثقة. وكذا قال الدُّوريّ، عن ابن معين، والآجرّيّ، عن أبي داود. وقال أبو زرعة: لا بأس به، صدوق. وقال ابن حبّان في "الثقات": يُخطىء. وقال أبو طالب، عن أحمد: كان يروي حديثًا منكرًا عن ابن المنكدر، عن جابر في الاستخارة، ليس أحدٌ يرويه غيره. قال: وأهل المدينة يقولون، إذا كان حديث غلط: ابن المنكدر، عن جابر. وأهل البصرة يقولون: ثابتٌ، عن أنس، يَحملون عليهما. وقال ابن عديّ: ولعبد الرحمن غير ما ذكرت، وهو مستقيم الحديث، والذي أُنكر عليه حديث الاستخارة، وقد روى حديث الاستخارة غيرُ واحد من الصحابة، كما رواه ابن أبي الموال انتهى. وقد جاء من رواية أيوب، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن مسعود، وغيرهم، وليس في حديث منهم ذكر الصلاة إلا في حديث أبي أيوب، ولم يُقيّده بركعتين، ولا بقوله:"من غير الفريضة".

وذكر في "الفتح": ما حاصله: عبد الرحمن من ثقات المدنيين، وكان يُنسب إلى ولاء آل عليّ بن أبي طالب، وخرج مع محمد بن عبد اللَّه بن الحسن في زمن المنصور، فلما قُتل محمد حُبس عبد الرحمن المذكور بعد أن ضُرب. وقد وثّقه ابن معين، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وغيرهم. وذكره ابن عديّ في "الكامل" في الضعفاء وأسند عن أحمد بن حنبل أنه قال: كان محبوسًا في المطبق حين هُزِمَ هؤلاء -يعني بني

ص: 172

حسن- قال: وروى عن محمد بن المنكدر، عن جابر حديث الاستخارة، وليس أحدٌ يرويه غيره، وهو منكر، وأهل المدينة إذا كان الحديث غلطًا يقولون: ابن المنكدر، عن جابر، كما أن أهل البصرة يقولون: ثابتٌ عن أنس، يحملون عليهما.

وقد استشكل الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ" هذا الكلامَ، وقال: ما عرفتُ المراد به، فإن ابن المنكدر، وثابتًا ثقتان، متّفقٌ عليهما.

قال الحافظ: يظهر لي أن مرادهم التهكّم، والنكتة في اختصاص الترجمة للشهرة والكثر.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي فسّر به الحافظ كلام الإمام أحمد غير واضح، وأحسن تفسير لكلامه، وأوضحه ما ذكره الحافظ ابن رجب في "شرح علل الترمذيّ"، ونصّه:

ومراد أحمد بهذا كثرة من يروي عن ابن المنكدر من ضعفاء أهل المدينة، وكثرة من يروي عن ثابت من ضعفاء أهل البصرة، وسيّىء الحفظ والمجهولين منهم، فإنه كثرت الرواية عن ثابت من هذا الضرب، فوقعت المنكرات في حديثه، وإنما أُتِيَ من جهة من روى عنه من هؤلاء. ذكره هذا المعنى ابن عديّ وغيره.

ولما اشتهر رواية ابن المنكدر عن جابر، ورواية ثابت، عن أنس صار كلّ ضعيف، وسيء الحفظ إذا روى حديثًا عن ابن المنكدر يجعله عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن رواه عن ثابت، جعله عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. هذا معنى كلام الإمام أحمد، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

ونظمت ذلك في "ألفيّة العلل" بقولي:

وَقَالَ أَحْمَدُ ذَوُو الْمَدِينَةِ

غَلَطُهُم يُعْزَى لَدَى الرِّوَايَةِ

لِوَلَدِ الْمُنكَدِرِ الرِّاوِيَةِ

لِجَابِرٍ كَذَاكَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ

يَعْرُونَهُ لِثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ

فَلْتَعلَمَنْ بِالضَّابِطِ الْمُؤَسَّسِ

تَفْسِيرُهُ كونُ الطَّرِيقِ اشْتَهَرَا

فِي البَلْدَتَيْنِ عَنْ كِلَيْهِمَا جَرَى

فَمَا رَوَوْا لِوَلَدِ الْمُنكَدِرِ

يَعْزُونَهُ بِحُمْقِهِمْ لِجَابِرِ

كَذَاكَ مَا عَنْ ثَابِتٍ قَدْ نَقَلُوا

لأَنَسٍ عَزَوْهُ فَافْهَمْ يَا فُلُ

قال: ثم ساق ابن عديّ لعبد الرحمن أحاديث، وقال: هو مستقيم الحديث، والذي

(1)

- "شرح علل الترمذيّ" 2/ 693 - 694 بتحقيق الدكتور همام عبد الرحيم سعيد.

ص: 173

أُنكر عليه حديث الاستخارة. وقد رواه غير واحد من الصحابة كما رواه ابن أبي الموال.

قال الحافظ: يريد أن للحديث شواهدَ، وهو كما قال، مع مشاححة في إطلاقه. قال الترمذيّ بعد أن أخرجه: حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموال، وهو مدنيّ ثقة، روَى عنه غيرُ واحد، وفي الباب عن ابن مسعود، وأبي أيّوب.

قال الحافظ: وجاء أيضًا عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر.

فحديث ابن مسعود أخرجه الطبرانيّ، وصححه الحاكم، وحديث أبي أيّوب أخرجه الطبرانيّ، وصححه ابن حبّان، والحاكم، وحديث أبي سعيد، وأبي هريرة أخرجهما ابن حبّان في "صحيحه"، وحديث ابن عمر، وابن عبّاس حديث واحدٌ، أخرجه الطبرانيّ من طريق إبراهيم بن أبي عَبْلَةَ، عن عطاء، عنهما، وليس في شيء منها ذكر الصلاة، سوى حديث جابر، إلا أن لفظ أبي أيوب: "اكتم الخطبة، وتوضّأ، فأحسن الوضوء، ثم صلّ ما كتب اللَّه لك

" الحديث، فالتقييد بركعتين خاصّ بحديث جابر.

وجاء ذكر الاستخارة في حديث سعد رفعه: "من سعادة ابن آدم استخارته اللَّه".

أخرجه أحمد، وسنده حسن، وأصله عند الترمذيّ، لكن بذكر الرضا والسخط، لا بذكر الاستخارة.

ومن حديث أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه: " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمرًا قال: اللَّهمّ خِرْ لي، واختر لي". أخرجه الترمذيّ، وسنده ضعيف. وفي حديث أنس رضي الله عنه، رفعه: "ما خاب من استخار

" الحديث، أخرجه الطبراني في "الصغير" بسند واهٍ جدًّا. انتهى

(1)

.

وقال قتيبة: مات سنة (173). روى له الجماعة، سوى مسلم، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

3 -

(محمد بن المنكدر) بن عبد اللَّه بن الهدير- بالتصغير- التيميّ المدنيّ، ثقة فاضل [3] 103/ 138.

4 -

(جابر بن عبد اللَّه) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابّي - رضي اللَّه تعالى عنهما - 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(1)

- "فتح" 12/ 477 - 478 "كتاب الدعوات".

ص: 174

(منها)؛ أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (165) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، ثم مصريّ. (ومنها): أن فيه جابرًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مُحَمَّدْ بن الْمُنْكَدِرِ) وقع في رواية للبخاريّ في "التوحيد" من طريق معن بن عيسى، عن عبد الرحمن:"سمعت محمد بن المنكدر يُحدّث عبد اللَّه بن الحسن -أي الحسن بن عليّ بن أبي طالب- يقول: أخبرني جابر السَّلَميّ"، وهو -بفتح السين المهملة، واللام - نسبة إلى بني سَلِمَة -بكسر اللام- بطنٌ من الأنصار. وعند الإسماعيليّ من طريق بشر بن عُمير:"حدّثني عبد الرحمن سمعت ابن المنكدر حدّثني جابر".

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبدِ اللَّهِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُعَلِّمُنا الِاسْتِخَارَةَ) وفي رواية البخاريّ، من طريق معن المذكورة:"يُعلّم أصحابه"، وكذا في طريق بشر بن عُمير" (فِي الأُمُورِ كُلِّهَا) قال ابن أبي جمرة: هو عامّ أُريد به الخصوص، فإن الواجب، والمستحبّ لا يُستخار في فعلهما، والحرام، والمكروه، لا يُستخار في تركهما، فانحصر الأمر في المباح، وفي المستحبّ إذا تعارض منه أمران، أيّهما يبدأ به، ويقتصر عليه. قال الحافظ: وتدخل الاستخارة فيما عدا ذلك في الواجب، والمستحبّ المخيّر، وفيما كان زمنه موسّعًا، ويَتناول العمومُ العظيمَ من الأمور، والحقير، فربّ حقير يترتّب عليه الأمر العظيم

(1)

.

(كَمًا يُعَلّمُنًا السُورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي يعتني بشأن الاستخارة؛ لعظم نفعها، وعمومه، كما يعتني بالسورة. وقال في "الفتح": قيل: وجه التشبيه عموم الحاجة في الأمور كلّها إلى الاستخارة، كعموم الحاجة إلى القراءة في الصلاة. ويحتمل أن يكون المراد ما وقع في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في التشهّد:"علّمني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التشهّد كفّي بين كفّيه". أخرجه البخاريّ. في "الاستئذان". وفي رواية الأسود بن يزيد، عن ابن مسعود رضي الله عنه:"أخذتُ التشهّد من في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلمةً كلمةً". أخرجها الطحاويّ. وفي رواية سلمان نحوه، وقال:"حرفًا حرفًا". أخرجه الطبرانيّ.

وقال ابن أبي جمرة: التشبيه في تحفّظ حروفه، وترتّب كلماته، ومنع الزيادة والنقص

(1)

- "فتح" 12/ 478.

ص: 175

منه، والدرس له، والمحافظة عليه. ويحتمل أن يكون من جهة الاهتمام به، والتحقيق لبركته، والاحترام له. ويحتمل أن يكون من جهة كون كلّ منهما عُلم بالوحي. قاله في "الفتح".

(يَقولُ) زاد عند أبي داود: "لنا"، والجملة بيان لقوله:"يعلّمنا الاستخارة"(إِذًا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ) قال ابن أبي جمرة ترتيب الوارد على القلب على مراتب: الهمّة، ثمّ اللَّمَّة، ثمّ الْخَطْرَة"، ثمّ النّيّة، ثمّ الإرادة، ثمّ العزيمة.

فالثلاثة الأُوَلُ لا يؤاخذ بها بخلاف الثلاثة الأُخر، فقوله:"إذا همّ" يُشير إلى أوّل ما يَرِدُ على القلب، يستخير، فيظهر له ببركة الصلاة والدعاء ما هو الخير، بخلاف ما إذا تمكن الأمر عنده، وقَوِيت فيه عزيمته وإرادته، فإنه يَصير إليه له ميلٌ، وحُبّ، فيُخشى أن يَخفى عنه وجه الأرشديّة؛ لغلبة ميله إليه.

قال: ويحتمل أن يكون المراد بالهمّ العزيمة؛ لأن الخاطر لا يثبت، فلا يستمرّ إلا على ما يقصد التصميم على فعله، وإلا لو استخار في كلّ خاطر لاستخار فيما لا يُعبأ به، فتضيع عليه أوقاته.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الأول بعيدٌ جدًّا عن معنى الحديث، فلا ينبغي الالتفات إليه، بل الاحتمال الثاني هو المتعيّن، ويؤيّده ما وقع في حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"إذا أراد أحدكم أمرًا فليقل". واللَّه تعالى أعلم.

(فَلْيَرْكَع) الأمر فيه للندب، كما سيأتي تحقيقه في "المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى (رَكعَتَينِ) هذا يقيّد مطلق حديث أبي أيّوب حيث قال: "صلّ ما كتب اللَّه لك".

قال في "الفتح": ويمكن الجمع بأن المراد أنه لا يقتصر على ركعة واحدة؛ للتنصيص على الركعتين، ويكون ذكرهما على سبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى، فلو صلّى أكثر من ركعتين أجزأه.

والظاهر أنه يشترط إذا أراد أن أن يزيد على الركعتين أن يُسلّم من كلّ ركعتين ليحصل مسمّى ركعتين، ولا يُجزىء لو وصل أربعًا بتسليمة، وكلام النوويّ يُشعر بالإجزاء انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "ويمكن الجمع الخ" فيه نظر لا يخفى، بل الظاهر تقييد المطلق في حديث أبي أيوب بهذا الحديث، وأما دلالته على جواز أكثر من ركعتين فبعيدة، فتنبّه.

والحاصل أن السنّة أن يقتصر على الركعتين، كما هو المنصوص عليه في حديث الباب. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 176

(من غَيْرِ الفَرِيضَةِ) فيه احتراز عن صلاة الصبح مثلًا. ويحتمل أن يريد بالفريضة عينها وما يتعلّق بها، فيُحترز عن الراتبة، كركعتي الفجر مثلًا.

وقال النوويّ في "الأذكار": لو دعا بدعاء الاستخارة عقب صلاة الظهر مثلًا، أو غيرها من النوافل الراتبة، والمطلقة، سواء اقتصر على ركعتين، أو أكثر أجزأ. قال الحافظ: كذا أطلق، وفيه نظر. ويظهر أن يقال: إن نوى تلك الصلاة بعينها، وصلاة الاستخارة معًا أجزأ، بخلاف ما إذا لم ينو، ويفارق صلاة تحية المسجد؛ لأن المراد بها شَغلُ البقعة بالدعاء

(1)

، والمراد بصلاة الاستخارة أن يقع الدعاء عقبها، أو فيها، ويبعد الإجزاء لمن عرض له الطلب بعد فراغ الصلاة؛ لأن ظاهر الخبر أن تقع الصلاة والدعاء بعد وجود إرادة الأمر.

وأفاد النوويّ أنه يقرأ في الركعتين الكافرون والإخلاص. قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": لم أقف على دليل ذلك، ولعله ألحقها بركعتي الفجر، والركعتين بعد المغرب، قال: ولهما مناسبة بالحال لما فيهما من الإخلاص والتوحيد، والمستخير محتاج لذلك. قال: والمناسب أن يقرأ فيهما مثل قوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ، وقوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} .

وقال الحافظ: والأكمل أن يقرأ في كلّ منهما السورة، والآية الأوليين في الأولى، والأخريين في الثانية انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قالوه يحتاج إلى دليل، فإذ ثبت قلنا به، وإلا فالأمر واسع، لا تقييد فيه بشيء مما ذُكر. فتبصّر، ولا تتحيّر. واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ يَقُولُ) هذا ظاهر في كون الدعاء بعد تمام الصلاة. قال في "الفتح": ثم هو ظاهر في تأخير الدعاء عن الصلاة، فلو دعا به في أثناء الصلاة احتمل الإجزاء. ويحتمل الترتيب على تقديم الشروع في الصلاة قبل الدعاء، فإن موطن الدعاء في الصلاة السجود، أو التشهّد. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأولى عندي أن يكون الدعاء بعد التسليم من الصلاة؛ لأن "ثم" ظاهرة في الترتيب والمهلة، فيكون معنى المهلة هنا أن يؤخر الدعاء عن الصلاة. واللَّه تعالى أعلم.

[فائدة]: قال ابن أبي جمرة -رحمه اللَّه تعالى-: الحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء

(1)

- هكذا نسخة: "الفتح"، والظاهر أن الصواب:"شغل البقعة بالصلاة". واللَّه تعالى أعلم.

ص: 177

أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك أنجح من الصلاة؛ لما فيها من تعظيم اللَّه، والثناء عليه، والافتقار إليه مآلاً وحالاً انتهى

(1)

.

(اللَّهُمَّ إِني أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ) الباء للتعليل، أي لأنك أعلم، وكذا قوله:"بقدرتك". ويحتمل أن تكون للاستعانة، كقوله:{بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} . ويحتمل أن تكون للاستعطاف، كقوله:{قَالَ: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} الآية (وَأَسْتَعِينُكَ بِقُدْرَتِكَ) أي أطلب منك العون على ذلك، إن كان خيرًا. وفي نسخة، وهو الذي عند البخاريّ:"وأستقدرك بقدرتك". أي أطلب منك أن تجعل لي على ذلك قدرةً. ويحتمل أن يكون المعنى: أطلُبُ منك أن تقدّره لي، والمراد بالتقدير التيسير.

(وَأَسْاَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيم) أي أسألك ذلك لأجل فضلك العظيم، لا لاستحقاقي ذلك، ولا لوجوبه عليك، فَمفعول "أسال" محذوف، و"من" تعليليّةٌ. ويحتمل أن تكون "من" زائدة، و"فضلك" مفعول به، أي أسألك فضلك العظيم في هذه الحاجة، وغيرها.

(فَإِنَّكَ تَقْدِرُ) بضمّ الدال، وكسرها، من بابي قتل، وضرب. ويقال: قَدَرَ اللَّه تعالى ذلك عليه يَقدُرُه -بالضمّ- وَيقدِرُهُ -بالكسر- قَدْرًا -بفتح، فسكون-، وقَدَرًا - بالتحريك-، وقدر عليه- بالتشديد- تقديرًا، كلّ ذلك بمعنى

(2)

واستَقْدَرَ اللَّهَ خيرًا: سأله أن يُقَدِّرَ له به، قال الشاعر [من البسيط]:

فَاسْتَقدِرِ اللَّهَ خَيرًا وَارضَيَنَّ بِهِ

فَبَيْنَمَا العُسْرُ إِذْ دَارَتْ مَيَاسِيرُ

أفاده في "القاموس" و"شرحه".

(وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ، وَلًا أَعْلَمُ) فيه إشارة إلى أن العدم والقدرة للَّه وحده، وليس للعبد من ذلك إلا ما قدر اللَّه له، وكأنه قال: أنت يا ربّ تقدر قبل أن تخلُق فيّ القدرةَ، وعند ما تخلقها فيّ، وبعد ما تخلقها (وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ، أَنَّ هَذَا الأمرَ) وفي رواية للبخاريّ من طريق معن، عن ابن أبي الموال:"اللَّهمّ فإن كنت تعلم هذا الأمرَ"، وزاد أبو داود في رواية عبد الرحمن بن مقاتل، عن عبد الرحمن بن أبي الموال:"الذي يريد"، وزاد في رواية معن:"ثمّ يسمّيه بعينه"، وقد ذكر ذلك في آخر الحديث في الباب.

قال في "الفتح": وظاهر سياقه أن ينطق به. ويحتمل أن يكتفي باستحضاره بقلبه عند

(1)

- "راجع "الفتح" 12/ 480.

(2)

- أي حكم، وقضى، ويسّر.

ص: 178

الدعاء، وعلى الثاني تكون الجملة حاليّةً، والتقدير: فليدع مسمّيًا حاجته.

وقوله: "إن كنت" استشكل الكرمانيّ الإتيان بصيغة الشكّ هنا، ولا يجوز الشكّ في كون اللَّه عالمًا.

وأجاب بأن الشكّ في أن العلم متعلّقٌ بالخير، أو الشرِّ، لا في أصل العلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الأولى مما قاله الكرمانيّ أن تكون "إن" هنا للتأكيد، لا للشكّ، كما يقول الرجل لابنه: إن كنت ابني فلا تفعل كذا، فإنه لا يشكّ في كونه ابنه، وإنما مراده التأكيد في الانتهاء عن ذلك الفعل؛ لأن كونه ابنه يوجب عليه طاعة أمره، كما أن كونه أباه يوجب أن يكون أعلم بمصالح ولده، فاستحقّ بذلك عدم مخالفته له.

وقد قال جمهور النحاة في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} : إنه شرط جيء به للتهييج والإلهاب. قاله ابن هشام في "مغنيه"

(2)

.

فيكون المراد هنا توكيده طلبه من اللَّه تعالى أن يُيَسِّر ما أراده، حيث إنه سبحانه وتعالى أعلم بمصالح عبده، والعبد لا علم له بشيء منها.

ويحتمل أن تكون "إن" بمعنى "قد"، كما قيل في قوله تعالى:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9]، أي قد نفعت، قاله ابن الأعرابي، وقال أبو العباس: العرب تقول: إن قام زيد بمعنى قد قام زيد. وقال الكسائي: وسمعتهم يقولونه، فظننته شرطًا، فسألتهم، فقالوا: زيد قد قام نريد، ولا نريد ما قام زيد. وروى المنذريّ عن ابن اليزيديّ، عن أبي زيد أنه تجيء "إن" في موضع "لقد"، مثل قوله تعالى:{إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} المعنى لقد كان، من غير شكّ من القوم، ومثله:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73]، و {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} [الإسراء: 76]. ذكره في "التاج"

(3)

. فيكون المعنى هنا: اللَّهم قد كنت تعلم الخ، فلكونك عالمًا بأصلح الأمر لي أسألك أن تيسره لي. واللَّه تعالى أعلم.

(خَيْرٌ لي في دِينِى، وَمَعَاشِي) زاد في رواية أبي داود: "ومعادي"، وهو يؤيّد أن المراد بالمعاش الحياة. ويحتمل أن يريد بالمعاش ما يُعاش فيه، ولذلك وقع في حديث ابن مسعود في بعض طرقه عند الطبرانيّ في "الأوسط""في ديني، ودنياي"، وفي حديث أبي أيوب عند الطبرانيّ "في دنياي، وآخرتي"، زاد ابن حبّان في روايته

(1)

- "فتح" 12/ 480. "كتاب الدعوات".

(2)

- راجع "مغني اللبيب" 1/ 26 تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

(3)

- "تاج العروس في شرح القاموس" 9/ 129 ..

ص: 179

"وديني"، وفي حديث أبي سعيد "في ديني، ومعيشتي".

(وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ-: (فِي عَاجل أَمرِي وَآجِلِهِ) هو شكّ من الراوي، ولم تختلف الطرق في ذلك، واقتصر في حديث أَبيَ أيوب على "عاقبة أمري"، وكذا في حديث ابن مسعود، وهو يؤيّد أحد الاحتمالين في أن العاجل والآجل مذكوران بدل الألفاظ الثلاثة، أو بدل الأخيرين فقط، وعلى هذا فقول الكرمانيّ: لا يكون الداعي جازمًا بما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إلا إن دعا ثلاث مرّات يقول مرّة "في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري"، ومرّةً "في عاجل أمري وآجله"، ومرّة "في ديني، وعاجل أمري وآجله". قال الحافظ: ولم يقع ذلك أي الشكّ في حديث أبي أيوب، ولا أبي هريرة أصلًا.

(فَاقْدِرْهُ لِي) قال أبو الحسن القابسيّ: أهل بلدنا يكسرون القال، وأهل المشرق يضمّونها. انتهى. ومعناه: اجعله مقدورًا لي، أو قدّره من التقدير. وقال الشيخ شهاب الدين القرافيّ في "كتاب أنوار البروق": يتعيّن أن يُراد بالتقدير هنا التيسير، فمعناه فيسره

(1)

(وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذًا الأَمْرَ، شَرٌ لِي فِي دِينِى، وَمَعَاشِي) قال السنديّ: ينبغي أن يجعل الواو هنا بمعنى "أو"، بخلاف قوله: خير في كذا وكذا، فإن هناك على بابها؛ لأن المطلوب حين تيسره أن يكون خيرًا من جميع الوجوه، وأما حين الصرف، فيكفي أن يكون شرًّا من بعض الوجوه انتهى

(2)

(وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَو قَالَ- "فِي عَاجِلِ أَمْري وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْني عَنْهُ) أي حتى لا يبقى قلبه بعد صرف الأمر عنه متعلّقًا به.

(وَاقْدُرْ لِي) بسكون الياء، وفتحها؛ لأن ياء المتكلّم يجوز بناؤها على السكون، وهو الأصل، وعلى الفتح تخفيفًا (الْخَيْرَ، حَيْثُ كَانَ) وفي حديث أبي سعيد بعد قوله: "واقدر لي الخير أينما كان"، "ولا حول ولا قوّة إلا باللَّه".

(ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ") وفي رواية: "ثم رضّني به" بتشديد الضاد المعجمة، أي اجعلني راضيًا به. وفي بعض طَرق حديث ابن مسعود عند الطبرانيّ في "الأوسط":"ورضّني بقضائك".

وفي حديث أبي أيوب: "ورضّني بقدرك". والسرّ فيه أن لا يبقى قلبه متعلّقًا به، فلا يطمئنّ خاطره، والرضا سكون النفس إلى القضاء (قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ) أي ينطق بلسانه معيّنًا حاجته التي يستخير فيها عند قوله: "أن هذا الأمر الخ"، كما سبق بيانه، وهذا هو الظاهر. ويحتمل أن يكون المراد استحضاره بقلبه عند الدعاء، والأول أولى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

- راجع "زهر الربى" 6/ 81.

(2)

- "شرح السنديّ" 6/ 81.

ص: 180

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-27/ 3254 - وفي "الكبرى" 95/ 5581. وأخرجه (خ) في "التهجّد" 1162 و"الدعوات" 6382 و"التوحيد" 7390 (د) في "الصلاة" 1538 (ت) في "الصلاة" 480 (ق) في "الصلاة" 1383 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 14297. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان كيفيّة الاستخارة إذا أراد الشخص أن يفعل شيئًا مّا. (ومنها): شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته، وتعليمهم جميع ما ينفعهم في دينهم ودنياهم. ووقع في بعض طرقه عند الطبرانيّ في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء إذا أراد أن يصنع أمرًا. (ومنها): أن العبد لا يكون قادرًا إلا مع الفعل، لا قبله، واللَّه تعالى هو خالق العدم بالشيء للعبد، وهمّه به، واقتداره عليه. (ومنها): أنه يجب على العبد ردّ الأمور كلها إلى اللَّه تعالى، والتبرّي من الحول والقوّة إليه، وأن يسأل ربّه في الأمور كلّها؛ لأنه العالم بكلّ الأشياء، وبما يصلح لعبده منها، وهو القادر على تهيئة ذلك، وتيسيره له. (ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن عطاء الربُّ فضلٌ منه، وليس لأحد عليه حقٌّ في نعمه، كما هو مذهب أهل السنّة. (ومنها): أن فيه دليلًا لأهل السنّة أن الشرّ من تقدير اللَّه على العبد؛ لأنه لو كان يَقدِر على اختراعه لقدر على صرفه، ولم يحتج إلى طلب صرفه عنه. (ومنها): أنه استُدلّ به على أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضدّه؛ لأنه لو كان كذلك لا كتفى بقوله: "إن كنت تعلم أنه خير لي" عن قوله: "وإن كنت تعلم أنه شرّ لي الخ"؛ لأنه إذا لم يكن خيرًا فهو شرّ. وتُعُقّب بأنه لاحتمال وجود الواسطة

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): أنه يؤخذ من قوله: "من غير الفريضة" أن الأمر بصلاة ركعتي الاستخارة لشى على الوجوب. قال الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح الترمذيّ": ولم أر من قال بوجوب الاستخارة؛ لورود الأمر بها، ولتشبيهها بتعليم السورة من القرآن، كما استُدلّ بمثل ذلك في وجوب التشهّد في الصلاة؛ لورود الأمر به

(1)

- "فتح" 12/ 481 "كتاب الدعوات".

ص: 181

في قوله: "فليقل"، ولتشبيهه بتعليم السورة من القرآن.

[فإن قيل]: الأمر تعلق بالشرط، وهو قوله:"إذا همّ أحدكم بالأمر".

[قلنا]: وكذلك في التشهّد إنما يؤمر به من صلى. ويمكن الفرق، وإن اشتركا فيما ذُكر أن التشهّد جزء من الصلاة، فيؤخذ الوجوب من قوله عمرو:"صلّوا كما رأيتوني أصلّي". ودلّ على عدم وجوب الاستخارة ما دلّ على عدم وجوب صلاة زائدة على الخمس في حديث: "هل عليّ غيرها؟، قال: لا إلا أن تطوع" انتهى.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا وإن صلح للاستدلال به على عدم وجوب ركعتي الاستخارة، لكن لا يمنع من الاستدلال به على وجوب دعاء الاستخارة، فكأنهم فهموا أن الأمر فيه للإرشاد، فعدلوا به عن سنن الوجوب، ولما كان مشتملاً على ذكر اللَّه، والتفويض إليه كان مندوبًا. واللَّه أعلم انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الأولى أن يعلّل عدم وجوب الدعاء بكونه تابعًا للصلاة، فلما لم تجب هي لم يجب هو أيضًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): اختُلف فماذا يفعل المستخير بعد الاستخارة:

قال ابن عبد السلام -رحمه اللَّه تعالى- يفعل ما اتفق، ويستدلّ له بقوله في بعض طرق حديث ابن مسعود رضي الله عنه في آخره، ثم يَعزم، وأول الحديث:"إذا أراد أحدكم أمرًا فليقل". وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "الأذكار": يفعل بعد الاستخارة ما يَنشرح به صدره، ويستدلّ له بحديث أنس رضي الله عنه عند ابن السنّيّ:"إذا هممت بأمر، فاستخر ربّك سبعًا، ثم انظر إلى الذي يَسبق في قلبك، فإن الخير فيه".

قال الحافظ: وهذا لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن سنده واهٍ جدًّا. والمعتمد أنه لا يفعل ما ينشرح به صدره مما له فيه هوىً قويّ قبل الاستخارة، وإلى ذلك الإشارة بقوله في آخر الحديث أبي سعيد رضي الله عنه:"ولا حول، ولا قوّة إلا باللَّه". انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن ما قاله ابن عبد السلام -رحمه اللَّه تعالى- هو الأولى؛ لأن فائدة الاستخارة هو أن ييسّر اللَّه تعالى لعبده المستخير ما هو الأصلح له، فإذا اتفق له شيءٌ ما، وتيسّر له بعد أن استخار اللَّه تعالى، وفوّض إليه أمره، وسأله أن ييسّر له، فذاك إشارة إلى استجابته سبحانه وتعالى له، فلا ينبغي له أن يتوقّف في تنفيذ ذلك؛ إذ هو الأصلح له. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

- "فتح" 12/ 481. "كتاب الدعوات".

ص: 182

‌28 - (إِنْكَاحُ الابْنِ أُمَّهُ)

3255 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، بَعَثَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ يَخْطُبُهَا عَلَيْهِ، فَلَمْ تَزَوَّجْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَخْطُبُهَا عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَخْبِرْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنِّي امْرَأَةٌ غَيْرَي، وَأَنِّي امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدٌ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «ارْجِعْ إِلَيْهَا، فَقُلْ لَهَا: أَمَّا قَوْلُكِ: إِنِّي امْرَأَةٌ غَيْرَي، فَسَأَدْعُو اللَّهَ لَكِ، فَيُذْهِبُ غَيْرَتَكِ، وَأَمَّا قَوْلُكِ إِنِّي امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ، فَسَتُكْفَيْنَ صِبْيَانَكِ، وَأَمَّا قَوْلُكِ: أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدٌ، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِكِ شَاهِدٌ، وَلَا غَائِبٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ» ، فَقَالَتْ لاِبْنِهَا: يَا عُمَرُ، قُمْ، فَزَوِّجْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَزَوَّجَهُ. مُخْتَصَرٌ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن إسماعيل بن إبراهيم) المعروف أبوه بابن عليّة البصريّ، نزيل دمشق، وقاضيها، ثقة [11] 22/ 489 من أفراد المصنّف.

244 -

(يزيد) بن هارون السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ ثقة متقن عابد [9] 153/ 244.

3 -

(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، من كبار [8] 181/ 288.

4 -

(ثابت البنانيّ) ابن أسلم، أبو محمد البصريّ، ثقة عابد [4] 45/ 53.

5 -

(ابن عمر بن أبي سلمة) قيل: اسمه محمد، مقبول [6].

وفي "تهذيب "التهذيب": ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، وعنه ثابت البنانيّ، كأن اسمه محمد، فإن يعقوب بن محمد الزهريّ، روى عن عبد الرحمن بن محمد بن عمر ابن أبي سلمة، عن أبيه، عن جدّه أحاديث. انتهى. تفرّد به أبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(أبوه) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 1/ 1.

7 -

(أم سلمة) هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر المخزومية، أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنهما -، تقدّمت في 123/ 183. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 183

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، غير ابن عمر بن أبي سلمة، فمجهول. (ومنها): أنه ما بين بصريين، وواسطيّ ومدنيين. (ومنها): أن فيه أبا سلمة من الفقهاء السبعة على بعض الأقوال. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أميّة، أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - (لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا) أي بعد وفاة زوجها أبي سلمة رضي الله عنه عبد اللَّه بن عبد الأسد بن هلال المخزوميّ، أخي النبيّ صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وابن عمّته برّة بنت عبد المطّلب، كان من السابقين، شهد بدرًا، ومات في جمادى الآخرة سنة أربع، بعد أحد رضي الله عنه (بَعَثَ إِلَيْهًا أَبُو بَكرٍ) الصدّيق - رضي اللَّه تعالى عنه - (يَخْطُبُهًاعَلَيْهِ) من باب نصر، أي يطلب نكاحها (فَلَمْ تَزَوَّجْهُ) بفتح التاء، هو على حذف إحدى التاءين، وأصله "تتزوّجه"(فَبَعَثَ إِلَيْهًارَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ ابْنَ الْخَطَّابِ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (يَخْطُبُهَا عَلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَتْ) أمِ سلمة - رضي اللَّه تعالى - عنها (أَخْبِرْ) فعل أمر من الإخبار (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنِّي امْرَأةٌ غَيْرَى) -بفتح الغين المعجمة، وسكون التحتانية، بوزن فَعلَى، مقصورًا- من الْغَيْرَة، وفي نسخة:"غيراء" بالمدّ، وهو خطأ.

و"المغيرة": كراهة الشخص اشتراك غيره فيما هو حقّه. أفاده الكفَويّ

(1)

تعني أنها ذات غيرة شديدة، لا تتمكّن معها من الاجتماع مع سائر أزواجه صلى الله عليه وسلم (وَأَنِّي امْرأَةٌ مُصْبِيَةٌ) بضم الميم، بصيغة اسم الفاعل، من أصبت المرأةُ إذا صارت ذات صبيان، يَشغلونها عن أداء حقوق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يحتاجون إلى مؤنة تحتاج معها أن تعمل لهم في قوتهم (وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائي شَاهِدٌ) يحتمل أن يكون "شاهد" منصوبًا خبر "ليس"، وكُتب بلا ألف، على لغة ربيعة الذين يقفون على المنصوب المنوّن بالسكون، وهو عادة قدماء المحدّثين، فإنهم يرسمون المنصوب المنوّن بصورتي المرفوع والمجرور.

ويحتمل أن يكون مرفوعًا، خبرًا لـ"أحد"، وعملت "ليس" في ضمير شأن، والجملة خبر "ليس"، وهي المفسّرة لضمير الشأن. وأرادت أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - بهذا أن النكاح يحتاج إلى مشورة الأولياء، ورضاهم، فكيف يتمّ بدون حضورهم.

والحاصل أن أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - ذكرت مما يمنع من أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشياء: "أحدها": كونها غيرى. "الثاني": كونها ذات صبيان. "الثالث": غياب

(1)

راجع "الكلّيّات" لأبي البقاء الكفويّ ص 671.

ص: 184

أوليائها عنها. فردّ عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم، بما يأتي.

وفي رواية لأحمد: فقالت: يا رسول اللَّه، إن فيّ ثلاث خصال: أنا امرأة كبيرة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أنا أكبر منك"، قالت: وأنا امرأة غيور، قال:"أدعو اللَّه عز وجل، فيذهب غيرتك"، قالت: يا رسول اللَّه، وإني امرأة مُصبيهّ، قال: "هم إلى اللَّه، وإلى رسوله

" الحديث.

(فأَتَى) عمر رضي الله عنه (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ) أي ما ذكرته من الموانع لنكاحه لها (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه مبيّنًا أن ما ذكرته ليس مانعًا من النكاح؛ إذ يمكن معالجته، وحلّه على ما يأتي (ارْجِعْ إِلَيْهَا، فَقُلْ لَهَا: أَمَّا قَوْلُكِ: إِنِّي امْرَأَةٌ غَيْرَى، فَسَأَدعُو اللَّهَ لَكِ، فَيُذهِبُ) من الإذهاب رباعيًّا (غَيْرَتَك) بالنصب على المفعولية (وَأَمَّا قَوْلُكِ: إِنِّي امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ، فَسَتُكفَيْنَ صِبْيَانَكِ) بالبناء للمفعول، من الكفاية، و"صبيانك" بالنصب مفعول ثانَ لـ"تكفين"، كما في قوله تعالى:{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} الآية. يعني سيكفيكِ اللَّه تعالى مؤونة صبيانك، وليس إليكِ نفقتهم. وفي رواية لأحمد:"هم إلى اللَّه، ورسوله". وفي رواية: "وأما ما ذكرت من العيال، فإنما عيالك عيالي".

(وَأَمَّا قَوْلُكِ: أَنْ) مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن مقدّر، وخبرها جملة "ليس"، كِما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَإِنْ تُخَفَّفْ "أَنَّ" فَاسْمُهَا اسْتَكَنُّ

وَالْخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلَةً مِنْ بَعْدِ "أَنَّ"

وَإِنْ يَكُنْ فِعْلًا وَلَمْ يَكُنْ دُعًا

وَلَمْ يَكُنْ تَصْرِيفُهُ مُمْتَنِعَا

فَالأَحْسَنُ الفَصْلُ بِـ "قَدْ" أَو نَفِيِ اوْ

تَنفِيسِ اوْ "لَو" وَقَلِيلٌ ذِكْرُ "لَو"

أي أنّه (لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائي شَاهِدٌ) تقدم توجيهه نصبًا ورفعًا (فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَؤلِيَائِكِ شَاهِدٌ، وَلًا غَائِبٌ) ههنا بالرفع على الوصفيّة لـ"أَحَدِ"، لا غير، وخبر "ليس" قوله (يَكْرَهُ) بفتح الياء، من الكراهة ثلاثيًا (ذَلِكَ) أي نكاحي لك؛ لأن كلّ أحد يحبّ،

بل يُحَاوِلُ بكلّ ما يستطيع أن يكون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صهرًا له (فَقَالَت) أم سلمة عند ما ذُكر لها رفع الموانع التي أوردتها؛ اعتذارًا لعدم قبولها الخطبة (لِابْنِهَا: يًا عُمَرُ، قُمْ، فَزَوِّجْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَزَوَّجَهُ) وهذا محلّ الترجمة، حيث زوّج عمر أمه، أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ففيه إنكاح الابن أمه؛ لكن الحديث لا يصحّ، فلا يكون حجة للمسألة، وأيضًا فإنه كان صغيرًا، كما سنبيّنه، فلا يصلح وليًّا للإنكاح. وقوله (مُختَصَرٌ) خبر لمحذوف، أي هذا السياق مختصر من سياق مطوّل، مشتمل على قصّة لأم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وقد ساقه الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- في "مسند" بطوله، ولفظه:

ص: 185

- حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت، قال: حدثني ابن عمر ابن أبي سلمة بمنى، عن أبيه، أن أم سلمة، قالت: قال أبو سلمة: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا أصاب أحدكم مصيبة، فليقل: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، عندك احتسبتُ مصيبتي، وأجرني فيها، وأبدلني ما هو خير منها"، قلما احتُضِر أبو سلمة، قال: اللَّهم اخلفني في أهلي بخير، فلما قُبض، قلت: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي، فأجرني فيها، قالت: وأردت أن أقول: وأبدلني خيرا منه، فقلت: ومن خير من أبي سلمة؟، فما زلت حتى قلتها، فلما انقضت عدتها، خطبها أبو بكر، فردته، ثم خطبها عمر، فردته، فبعث إليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: مرحبا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبرسوله، أخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أني امرأة غيرى، وأني مُصبِية، وأنه ليس أحد من أوليائي شاهدًا، فبعث إليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أما قولك: إني مصبية، فإن اللَّه سيكفيك صبيانك، وأما قولك: إني غيرى، فسادعو اللَّه أن يذهب غيرتك، وأما الأولياء، فليس أحد منهم شاهد، ولا غائب، إلا سيرضاني"، قلت: يا عمر قم، فزوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أما إني لا أنقصك شيئا، مما أعطيت أختك فلانة، رَحَيَينِ، وجَرَّتَين، ووسادة من أدم، حشوها ليف"، قال: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأتيها، فإذا جاء أخذت زينبَ، فوضعتها في حجرها لترضعها، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -حَيِيًّا كريما، يستحيي، فرجع، ففعل ذلك مرارا، فَفَطِنَ عمار بن ياسر لما تصنع، فأقبل ذات يوم، وجاء عمار، وكان أخاها لأمها، فدخل عليها، فانتشطها من حجرها، وقال: دعي هذه المقبوحة المشقوحة، التي آذيتِ بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: وجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فدخل، فجعل يقلب بصره في البيت، ويقول:"أين زناب؟، ما فعلت زناب؟ "، قالت: جاء عمار، فذهب بها، قال فبنى بأهله، ثم قال:"إن شئت أن أسبع لك، سبعت للنساء".

حدثنا عفان، حدثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، قال: حدثني عمر بن أبي سلمة. وقال سليمان بن المغيرة: ابن عمر بن أبي سلمة، مرسل. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا ضعيف؛ لجهالة ابن عمر بن أبي سلمة، فقد تفرّد بالرواية عنه ثابت البنانيّ، فهو مجهول عين، فلا تصحّ روايته.

وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا -28/ 3255 - وفي "الكبرى"

ص: 186

35/ 5396. وأخرجه (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 26157 و 2618 و 26182. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: رجح الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى- أنّ الذي أمرته أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - بتزويجها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو سلمة بن أبي سلمة: ونصّه بعد أن حكى القصّة: وقالت لعمر آخرَ ما قالت له: قم، فزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم تعني قد رضيت، وأذنت. فتوهّم بعض العلماء أنها تقول لابنها عمر بن أبي سلمة، وقد كان إذ ذاك صغيرًا، لا يلي مثله العقد. وقد جمعت في ذلك جزءًا مفردًا بينتُ فيه الصواب في ذلك -وللَّه الحمد والمنّة- وأن الذي ولِى عقدها عليه ابنها سلمة بن أبي سلمة، وهو أكبر ولدها، وساغ هذا؛ لأن أباه ابن عمّها، فللابن ولاية أمّه إذا كان سببًا لها من غير جهة البنوّة بالإجماع، وكذا إذا كان معتقًا، أو حاكمًا، فأما محض البنّوّة فلا يلي بها عقد النكاح عند الشافعيّ وحده، وخالفه الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد -رحمهم اللَّه تعالى- انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لم يتبين لي وجه ترجيح ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى- كون الذي تولى الإنكاح هو سلمة ولدها، وليس هو عمر بن أبي سلمة ولدها الآخر، فليُنظر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في اشتراط الوليّ في النكاح:

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف العلماء في اشتراط الوليّ في صحّة النكاح، فقال مالك، والشافعيّ: يُشترط، ولا يصحّ نكاح إلا بوليّ. وقال أبو حنيفة: لا يشترط في الثيّب، ولا في البكر البالغة، بل لها أن تزوّج نفسها بغير إذن وليّها. وقال أبو ثور: يجوز أن تزوّج نفسها بإذن وليها، ولا يجوز بغير إذنه. وقال داود: يشترط الوليّ في تزويج البكر دون الثيّب.

واحتجّ مالكٌ، والشافعيّ بالحديث المشهور:"لا نكاح إلا بوليّ". وهذا يقتضي نفي الصحّة. واحتجّ داود بأن الحديث المذكور في مسلم

(2)

صريح في الفرق بين البكر والثيب، وأن الثيّب أحقّ بنفسها، والبكر تُستأذن.

قال النوويّ: وأجاب أصحابنا عنه بأنها أحقّ، أي شريكة في الحقّ، بمعنى أنها لا تُجبر، وهي أيضًا أحقّ في تعيين الزوج.

واحتجّ أبو حنيفة بالقياس على البيع وغيره، فإنها تستقلّ فيه بلا وليّ، وحَمَلَ

(1)

راجع "البداية والنهاية" 4/ 92. (في جملة من الحوادث الواقعة سنة أربع من الهجرة".

(2)

يعني حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، مرفوعًا:"الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها".

ص: 187

الأحاديث الواردة في اشتراط الوليّ على الأمة والصغيرة، وخصّ عمومها بهذا القياس، وتخصيص العموم بالقياس جائزٌ عند كثيرين من أهل الأصول.

واحتجّ أبو ثور بالحديث المشهور: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل"، ولأن الوليّ إنما يُراد ليختار كفؤًا لدفع العار، وذلك يحصل بإذنه.

قال العلماء: ناقض داود مذهبه في اشتراط الوليّ في البكر دون الثيّب؛ لأنه إحداث قول في مسألة مختلف فيها، ولم يُسبق إليه، ومذهبه أنه لا يجوز إحداث مثل هذا. واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

وقال أبو عبد اللَّه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- عند قوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية [البقرة: 221]: في هذه الآية دليل بالنصّ على أنه لا نكاح إلا بوليّ: قال محمد ابن عليّ بن الحسين: النكاح بوليّ في كتاب اللَّه، ثم قرأ:{وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} . قال ابن المنذر: ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بوليّ".

وقد اختلف أهل العلم في النكاح بغير ولي، فقال كثير من أهل العلم: لا نكاح إلا بوليّ، روي هذا عن عمر بن الخطّاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيّب، والحسن البصريّ، وعمر بن عبد العزيز، وجابر بن زيد، وسفيان الثوريّ، وابن أبي ليلى، وابن شُبْرُمة، وابن المبارك، والشافعيّ، وعُبيد اللَّه بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد. قال القرطبيّ: وهو قول مالك، وأبي ثور، والطبريّ.

قال أبو عمر: حجة من قال: لا نكاح إلا بوليّ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه قال: "لا نكاح إلا بوليّ"، رَوَى هذا الحديثَ شعبة، والثوريّ، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، فمن يَقبل المرسل يلزمه قبوله، وأما من لا يقبل المراسيل، فيلزمه أيضًا؛ لأن الذين وصلوه من أهل الحفظ، والثقة، وممن وصله إسرائيل، وأبو عوانة، كلاهما عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وإسرائيل، ومن تابعه حُفّاظٌ، والحافظ تُقبل زيادته، وهذه الزيادة يعضِدها أصولٌ؛ قال اللَّه عز وجل:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} . وهذه الآية نزلت في معقل بن يسار إذ عَضَلَ أخته عن مراجعة زوجها. قاله البخاريّ. ولولا أن له حقًّا

في الإنكاح ما نُهي عن العضل.

ومما يدلّ على هذا أيضًا من الكتاب قوله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} ، وقوله:

(1)

"شرح مسلم" 9/ 209.

ص: 188

{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} ، فلم يُخاطب تعالى بالنكاح غير الرجال، ولو كان إلى النساء لذكرهنّ. وقال تعالى: حكايةً عن شُعيب في قصّة موسى عليهما السلام: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} الآية. وقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الآية.

فقد تعاضد الكتاب والسنّةُ على أن لا نكاح إلا بوليّ. قال الطبريّ: في حديث حفصة حين تأيمت، وعقد عمر عليها النكاح، ولم تعقده هي إبطالُ قولِ من قال: إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسها، وعقد النكاح، دون وليّها، ولو كان ذلك لها لم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليدع خِطْبة حفصة لنفسها، إذا كانت أولى بنفسها من أبيها، وخطبها إلى من لا يملك أمرها، ولا العقد عليها، وفيه بيان قوله صلى الله عليه وسلم:"الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها" أن معنى ذلك أنها أحقّ بنفسها في أنه لا يَعقِد عليها إلا برضاها لا أنها أحقّ بنفسها في أن تعقد عقد النكاح على نفسها دون وليّها.

وروى الدارقطنيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تزوّج المرأة المرأةَ، ولا تزوّج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوّج نفسها". قال: حديث صحيح

(1)

. وروى أبو داود من حديث سفيان، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة نَكَحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل -ثلاث مرّات-، فإن دخل بها فالمهر بما أصاب منها، فان تشاجروا فالسلطان وليّ من لا وليّ له". وهذا حديث صحيح

(2)

.

ولا اعتبار بقول ابن عُليّة، عن ابن جُريج، أنه قال: سألت عنه الزهريّ، فلم يَعرفه". ولم يقل هذا أحدٌ عن ابن جريج غير ابن عليّة. وقد رواه جماعةٌ عن الزهريّ لم يذكروا ذلك، ولو ثبت هذا عن الزهريّ لم يكن في ذلك حجّةٌ؛ لأنه قد نقله عنه ثقاتٌ، منهم سليمان بن موسى، وهو ثقة إمامٌ، وجعفر بن ربيعة، فلو نسيه الزهريّ لم يضره ذلك؛ لأن النسيان لا يُعصَم منه ابن آدم، قال صلى الله عليه وسلم: "نَسي آدم، فنسيت ذرّيته"

(3)

، وكان صلى الله عليه وسلم ينسى، فمن سواه أحرى أن ينسى، ومن حفظ حجة على من نسي، فإذا رَوَى الخبر ثقة، فلا يضرّه نسيان من نسيه، هذا لو صحّ ما حَكى ابن عليّة، عن ابن جريج،

(1)

هو صحيح، كما قال، لكن الجملة الأخيرة موقوفة على أبي هريرة رضي الله عنه، كما رواه الدارقطنيّ بسند على شرط الشيخين، فقال: قال أبو هريرة: "كنا نعدّ التي تُنكح نفسها هي الزانية". انظر ما كتبه الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" 6/ 248 - 249.

(2)

هو صحيح كما قال، وقد أجاد البحث فيه الشيخ الألباني حفظه اللَّه في "إرواء الغليل"، فراجعه 6/ 243 - 247.

(3)

حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ في "الجامع" في "كتاب التفسير".

ص: 189

فكيف، وقد أنكر أهل العلم ذلك من حكايته، ولم يعرّجوا عليها.

وإذا ثبت هذا الخبر، فقد صرّح الكتاب والسنة بأن لا نكاح إلا بوليّ، فلا معنى لما خالفهما.

وقد كان الزهريّ، والشعبيّ، يقولان: إذا زَوّجت المرأة نفسها كفؤًا بشاهدين، فذلك نكاحٌ جائز، وكذلك كان أبو حنيفة يقول: إذا زوّجت المرأة نفسها كفؤًا بشاهدين فذلك نكاح جائز، وهو قول زُفر. وإن زوّجت نفسها غير كفءٍ فالنكاح جائز، وللأولياء أن يفرّقوا بينهما.

قال ابن المنذر: وأما قول النعمان، فمخالف للسنّة، خارجٌ عن قول أكثر أهل العلم، وبالخبر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نقول.

وقال أبو يوسف: لا يجوز النكاح إلا بوليّ، فإن سلّم الوليّ جاز، وإن أبى أن يسلم، والزوج كفءٌ: أجازه القاضي، وإنما يتمّ النكاح في قوله حين يجيزه القاضي، وهو قول محمد بن الحسن، وقد كان محمد بن الحسن يقول: يأمر القاضي الوليّ بإجازته، فإن لم يفعل استأنف عقدًا، ولا خلاف بين أبي حنيفة وأصحابه أنه إذا أذن لها وليّها، فعقدت النكاح بنفسها جاز. وقال الأوزاعيّ: إذا ولّت أمرها رجلًا، فزوّجها كفؤًا، فالنكاح جائز، وليس للولّي أن يفرّق بينهما، إلا أن تكون عربية تزوّجت مولى، وهذا نحو مذهب مالك.

وحمل القائلون بمذهب الزهريّ، وأبي حنيفة، والشعبيّ قوله صلى الله عليه وسلم:"لا نكاح إلا بوليّ" على الكمال، لا على الوجوب، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"

(1)

.

واستدلّوا على هذا بقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} ، وقوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} . انتهى المقصود من كلام القرطبيّ

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أرجح الأقوال عندي هو القول باشتراط الوليّ في النكاح، وهو الذي عليه الجمهور؛ لصحة الأحاديث المذكورة بذلك، وأما حملها على معنى الكمال، وتأويلها بذلك، فغير صحيح، يردّه قوله صلى الله عليه وسلم:"فنكاحها باطلٌ"، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

حديث ضعيف، رواه الدارقطنيّ من حديث جابر وغيره.

(2)

راجع "تفسير القرطبيّ" 3/ 72 - 75. "تفسير سورة البقرة".

ص: 190

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في ترتيب الأولياء:

ذهب مالك إلى أن أولهم البنون، وإن سفلوا، ثم الآباء، ثم الإخوة للأب والأمّ، ثم للأب، ثم بنو الإخوة للأب والأمّ، ثم بنو الإخوة للأب، ثم الأجداد للأب، وإن علوا، ثم العمومة على ترتيب الإخوة، ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة، وإن سفلوا، ثم المولى، ثم السلطان، أو قاضيه، والوصيّ مقدّم في إنكاح الأيتام على الأولياء، وهو خليفة الأب ووكيله، فأشبه حاله حاله لو كان حيًّا.

وقال الشافعيّ: لا ولاية لأحد مع الأب، فإن مات فالجدّ، ثم أب أب الجدّ؛ لأنهم كلهم آباء، والولاية بعد الجدّ للإخوة، ثم الأقرب. وقال المزنيّ: قال في الجديد: من انفرد بأمّ كان أولى بالنكاح، كالميراث، وقال في القديم: هما سواء. وروى المدنيّون عن مالك مثل قول الشافعيّ، وأن الأب أولى من الابن، وهو أحد قولي أبي حنيفة.

وقال أحمد: أحقهم بالمرأة أن يزوّجها أبوها، ثم الابن، ثم الأخ، ثم ابنه، ثم العمّ.

وقال إسحاق: الابن أولى من الأب، كما قال مالك. واختاره ابن المنذر؛ لحديث أم سلمة المذكور في الباب؛ لكن قد عرفت أنه ضعيف، فلا يصحّ الاحتجاج به

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أنّ ما ذهب إليه الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- أرجح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وجوب الإشهاد على النكاح:

قال ابن رشد -رحمه اللَّه تعالى-: اتفق أبو حنيفة، والشافعيّ، ومالك على أن الشهادة من شرط النكاح، واختلفوا هل هي شرط تمام يؤمر به عند الدخول، أو شرط صحّة يؤمر به عند العقد، واتفقوا على أنه لا يجوز نكاح السرّ، واختلفوا إذا أشهد شاهدين، ووصيا بالكتمان، هل هو سرّ، أو ليس بسرّ؟ فقال مالكٌ: هو سرّ، ويُفسخ، وقال أبو حنيفة، والشافعيّ: ليس بسرّ. وسبب اختلافهم، هل الشهادة في ذلك حكم شرعيّ، أم إنما المقصود منها سدّ ذريعة الاختلاف، أو الإنكار؟ فمن قال: حكم شرعيّ، قال: هي شرط من شروط الصحّة، ومن قال: توثّقٌ قال: من شروط التمام.

والأصل في هذا ما روي عن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "لا نكاح إلا بشاهدي عدل، ووليّ مرشد"، ولا مخالف له من الصحابة، وكثيرٌ من الناس رأى هذا داخلًا في باب الإجماع، وهو ضعيف. وهذا الحديث قد روي مرفوعًا ذكره الدارقطنيّ،

(1)

راجع "تفسير القرطبيّ" 3/ 77 - 78.

ص: 191

وذكر أن في سنده مجاهيل.

وأبو حنيفة ينعقد النكاح عنده بشهادة فاسقين؛ لأن المقصود عنده بالشهادة هو الإعلان فقط. والشافعيّ يرى أن الشهادة تتضمّن المعنيين: أعني الإعلان، والقبول، ولذلك اشترط فيها العدالة. وأما مالك فليس تتضمّن عنده الإعلان إذا وُصّيَ الشاهدان بالكتمان.

وسبب اختلافهم هل ما تقع فيه الشهادة ينطلق عليه اسم السرّ، أم لا؟.

والأصل في اشتراط الإعلان قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أعلنوا هذا النكاح، واضربوا عليه بالدفوف". أخرجه أبو داود

(1)

. وقال عمر فيه: هذا نكاح السرّ، ولو تقدّمت فيه لرجمت.

وقال أبو ثور، وجماعة: ليس الشهود من شرط النكاح، لا شرط صحّة، ولا شرط تمام. وفعل ذلك الحسن بن عليّ، روي عنه تزوّج بغير شهادة، ثم أعلن بالنكاح. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن الأرجح كون المعتبر في النكاح هو الإعلان، سواء كان بإشهاد شاهدين، أو بإعلانه بغير ذلك؛ لأنه لا تثبت أحاديث وجوب الإشهاد في النكاح، وإنما يثبت أحاديث إعلان النكاح، كحديث:"أعلنوا النكاح"، وهو حديث حسنٌ، أخرجه أحمد، وابن حبّان في "صحيحه" من حديث عبد اللَّه بن الزبير. وحديث:"فصل ما بين الحلال والحرام الدفّ، والصوت في النكاح"، حديث حسن أخرجه المصنّف برقم -72/ 3370، والترمذيّ، وابن ماجه. والحاصل أن الواجب هو إعلان النكاح، سواء كان بالإشهاد، أو بغير ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه إنيب".

(1)

هذا خطأ، والصواب أخرجه الترمذيّ رقم 1089. وقال: حديث غريب، وعيسى بن ميمون الأنصاريّ يضعّف في الحديث.

(2)

"بداية المجتهد" 2/ 17 - 18.

ص: 192

‌29 - (إِنْكَاحُ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ)

زاد في "الكبرى": "وذكرُ اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر عائشة أم المؤمنين في ذلك".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا الباب بيان جواز نكاح الصغيرة البكر، وإن لم تكن صالحة للوطء، والردّ على من منع ذلك، وادعى أن ذلك من خصوصيات النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقد ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- بنحو ترجمته، حيث قال: "باب إنكاح الرجل ولده الصغار؛ لقوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} ، فجعل عدّتها ثلاثة أشهر قبل البلوغ، ثم أورد حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - المذكور في الباب.

قال في "الفتح": قوله: "لقول اللَّه تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} الخ، أي فدلّ على أن نكاحها قبل البلوغ جائزٌ، وهو استنباط حسنٌ، لكن ليس في الآية تخصيص ذلك بالولد، ولا بالبكر. ويمكن أن يقال: الأصل في الأبضاع التحريم إلا ما دلّ عليه الدليل، وقد ورد حديث عائشة في تزويج أبي بكر لها، وهي دون البلوغ، فبقي ما عداه على الأصل، ولهذا السرّ أورد حديث عائشة. قال المهلّب: أجمعوا على أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر، ولو كانت لا يوطأ مثلها. إلا أن الطحاويّ حكى عن ابن شُبْرُمة منعه فيمن لا توطأ. وحكى ابن حزم عن ابن شُبرمة مطلقًا أن الأب لا يُزوّج ابنته البكر الصغيرة حتى تبلغ، وتأذن، وزعم أن تزويج النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة، وهي بنت ستّ سنين كان من خصائصه، ومقابله تجويز الحسن، والنخعيّ للأب إجبار بنته كبيرة كانت، أو صغيرةً، بكرًا كانت، أو ثيّبًا انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب

(1)

.

3256 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا، وَهِيَ بِنْتُ سِتٍّ، وَبَنَى بِهَا، وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، من كبار [9] 26/ 30.

3 -

(هشام بن عروة) بن الزبير، أبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيه، ربما دلس [5] 49/ 61.

(1)

: فتح 10/ 238 - 239.

ص: 193

4 -

(أبوه) عروة بن الزبير بن العوّام المدني الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمروزيّ، وأبي معاوية، فكوفيّ. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا) أي عقد عليها، وكان ذلك بمكة قبل الهجرة (وَهِيَ بِنْتُ سِتٍّ) أي بنت ست سنين (وَبَنَى بِهَا) أي دخل بها، وكان ذلك بالمدينة في شوّال من السنة الأولى من الهجرة. وقيل: من السنة الثانية.

[فائدة]: قال الفيّوميّ: وبنى على أهله: دخل بها، وأصله أن الرجل كان إذا تزوّج بنَى للعِرْسِ خِبَاءً جديدًا، وعَمَّرَه بما يَحتاج إليه، أو بُنِيَ له؛ تكريمًا، ثم كثُر، حتى كُنِي به عن الجماع. وقال ابن دُريد: بَنَى عليها، وبَنَى بها، والأول أفصح، هكذا نقله جماعة. ولفظ "التهذيب": والعامّة تقول: بَنَى بأهله، وليس من كلام العرب. قال ابن السِّكيت: بَنَى على أهله: إذا زُفّت إليه انتهى

(1)

.

وعبارة ابن منظور: والباني: العروس الذي يبني على أهله، قال الشاعر [شطر بيت من الوافر]:

يَلوحُ كَأَنَّهُ مِصْبَاحُ بَانِي

وبَنَى فلان على أهله بِناءً، ولا يُقال بأهله. هذا قول أهل اللغة. وحكى ابن جنّي: بني بأهله، وابتنى بها، عدّاهما جميعًا بالباء. ثم ذكر نحو ما تقدّم عن "تهذيب الأزهريّ". قال: وقد ورد بني بأهله في شعر جرْدَانٍ الْعَوْدِ، قال [من الطويل]:

بَنَيتُ بِهَا قَبلَ الْمِحَاقِ بِلَيْلَةٍ

فَكَانَ مِحَاقًا كُلُّهُ ذَلِكَ الشَّهْرُ

قال ابن الأثير: وقد جاء بَنَى بأهله في غير موضع من الحديث، وغير الحديث انتهى

(2)

.

(1)

راجع "المصباح المنير" في مادة بنى.

(2)

راجع "لسان العرب" في مادة بنى.

ص: 194

وقال في "الفتح" بعد ما ذكر قول من قال: لا يقال: بني بأهله: ما نصّه: ولا معنى لهذا التغليط؛ لكثرة استعمال الفصحاء له، وحسبك بقول عائشة:"بني بي"، وبقول عروة في آخر الحديث:"وبنى بها". انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فثبت بما ذُكر أن "بني بها" لغة عربيّة، فصيحة؛ لورودها في الشعر العربيّ، وفي كلام الفصحاء، كعائشة، وعروة، وغيرهم، وأثبتها من اللغويين ابن دُريد، وابن جنّي، فلا يصحّ دعوى أنها لغة عامية، فتبصّر، ولا تتحيّر. واللَّه تعالى أعلم.

(وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ) وفي رواية البخاريّ من طريق أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، قال:"تُوفّيت خديجة قبل مخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم -إلى المدينة بثلاث سنين، فلبث سنتين، أو قريبًا من ذلك، ونكح عائشة، وهي بنت ستّ سنين، ثم بنى بها، وهي بنت تسع سنين".

فقال في "الفتح": فيه إشكال؛ لأن ظاهره يقتضي أنه لم يبن بها إلا بعد قدومه المدينة بسنتين، ونحو ذلك؛ لأن قوله:"فلبث سنتين، أو نحو ذلك"، أي بعد موت خديجة. وقوله:"ونكح عائشة"، أي عقد عليها لقوله بعد ذلك:"وبنى بها، وهي بنت تسع"، فيخرج من ذلك أنه بني بعد قدومه بسنتين، وليس كذلك؛ لأنه وقع عند المصنّف -البخاريّ- في "النكاح" من رواية الثوريّ، عن هشام بن عروة في هذا الحديث "ومكثت عنده تسعًا"، وسيأتي ما قيل: من إدراج النكاح في هذه الطريق، وهو في الجملة صحيح، فإن عند مسلم من حديث الزهريّ، عن عروة، عن عائشة في هذا الحديث: وزُفّت إليه، وهي بنت تسع، ولُعْبَتها معها، ومات عنها، وهي بنت ثمان عشرة". وله من طريق الأسود، عن عائشة نحوه. ومن طريق عبد اللَّه بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "تزوّجني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شوّال، وبنى بي في شوّال"، فعلى هذا فقوله: "فلبث سنتين، أو قريبًا من ذلك"، أي لم يدخل على أحد من النساء، ثم دخل على سودة بنت زمعة قبل أن يُهاجر، ثم بني بعائشة بعد أن هاجر، فكأنّ ذكر سودة سقط على بعض رواته.

وقد روى أحمد، والطبرانيّ بإسناد حسن، عن عائشة، قالت: "لما تُوفّيت خديجة قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون: يا رسول اللَّه ألا تَزَوّج؟ قال: نعم، فما عندكِ؟ قالت: بكر وثيّب، البكر بنت أحبّ خلق اللَّه إليك عائشة، والثيّب سودة بنت

(1)

راجع "الفتح" 7/ 628. في "مناقب الأنصار".

ص: 195

زمعة. قال: فاذهبي، فاذكريهما عليّ، فدخلت على أبي بكر، فقال: إنما هي بنت أخيه، قال: قولي له: أنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي، فجاءه، فأنكحه، ثم دخلت على سودة، فقالت لها: أخبري أبي، فذكرت له، فزوّجه"

(1)

. وذكر ابن إسحاق

(1)

وهذا الحديث ساقه الامام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- في "مسنده" مطوّلًا، ولفظه:

25241 -

حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو سلمة، ويحيى، قالا: لما هَلَكت خديجة، جاءت خولة بنت حكيم، امرأة عثمان بن مظعون، قالت: يا رسول اللَّه، ألا تزوج؟، قال:"من"، قالت: إن شئت بكرا، وإن شئت ثيبا، قال:"فمن البكر؟ "، قالت: ابنة أحب خلق اللَّه عز وجل إليك، عائشة بنت أبي بكر، قال:"ومن الثيب؟ "، قالت: سودة ابنة زمعة، قد آمنت بك، واتبعتك على ما تقول، قال:"فاذهبي، فاذكريهما علي"، فدخلت بيت أبي بكر، فقالت: يا أم رُومان، ماذا أدخل اللَّه عز وجل عليكم من الخير والبركة؟، قالت: وما ذاك؟، قالت: أرسلني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قالت: انتظري أبا بكر، حتى يأتي، فجاء أبو بكر، فقالت: يا أبا بكر، ماذا أدخل اللَّه عليكم من الخير والبركة؟، قال: وما ذاك؟، قالت: أرسلني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أخطب عليه عائشة، قال: وهل تصلح له، إنما هي ابنة أخيه، فرجعت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك، قال:"ارجعي إليه، فقولي له: أنا أخوك، وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي"، فرجعت، فذكرت ذلك له، قال انتظري، وخرج، قالت أم رومان: إن مطعِم بن عدي، قد كان ذكرها على ابنه، فواللَّه ما وعد موعدا قط، فأخلفه، لأبي بكر، فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي، وعنده امرأته، أم الفتى، فقالت: يا ابن أبي قحافة، لعلك مُصْب صاحبنا مدخله في دينك الذي أنت عليه، إن تزوج إليك، قال أبو بكر للمطعم بن عدي: أقولُ هذه تقول، قال إنها تقول ذلك، فخرج من عنده، وقد أذهب اللَّه عز وجل ما كان في نفسه من عدته التي وعده، فرجع، فقال لخولة: ادعي لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فدعته، فزوجها إياه، وعائشة يومئذ بنت ست سنين، ثم خرجت، فدخلت على سودة بنت زمعة، فقالت: ماذا أدخل اللَّه عز وجل عليك من الخير والبركة؟، قالت: ما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أخطبك عليه، قالت: وددت، ادخلي إلى أبي، فاذكري ذاك له، وكان شيخا كبيرا، قد أدركه السن، قد تخلف عن الحجّ، فدخلت عليه، فحيته بتحية الجاهلية، فقال: من هذه؟ فقالت: خولة بنت حكيم، قال: فما شأنك؟ قالت: أرسلني محمد بن عبد اللَّه، أخطب عليه سودة، قال: كفء كريم، ماذا تقول صاحبتك؟ قالت: تحب ذاك، قال: ادعها لي،

فدعيتها، قال: أي بنية، إن هذه تزعم أن محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطّلب، قد أرسل يخطبك، وهو كفء كريم، أتحبين أن أزوجك به؟ قالت: نعم، قال: ادعيه لي، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إليه، فزوجها إياه، فجاءها أخوها عبد بن زمعة من الحجّ، فجعل يَحثِي في رأسه التراب، فقال بعد أن أسلم: لعمرك إني لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب، أن تزوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة، قالت عائشة: فقدمنا المدينة، فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنح، قالت: فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فدخل بيتنا، واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء، فجاءتني أمي، وإني لفي أرجوحة بين عذقين، ترجح بي، فأنزلتني من الأرجوحة، ولي جميمة، ففرقتها، ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت تقودني، حتى وقفت بي عند الباب، وإني لأنهج، حتى سكن من نفسى، ثم دخلت بي، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا، وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك، فبارك اللَّه لك فيهم، وبارك لهم فيك، فوثب الرجال والنساء، فخرجوا، وبنى بي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيتنا، ما نُحرت علي جزور، ولا ذُبحت =

ص: 196

وغيره أنه دخل على سودة بمكّة.

وأخرج الطبرانيّ من وجه آخر عن عائشة قالت: "لما هاجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر خَلَّفَنا بمكة، فلما استقر بالمدينة، بعث زيد بن حارثة، وأبا رافع، وبعث أبو بكر عبد اللَّه بن أُرَيقط، وكتب إلى عبد اللَّه بن أبي بكر أن يحمل معه أم رومان، وأم أبي بكر، وأنا وأختي أسماء، فخرج بنا، وخرج زيد، وأبو رافع بفاطمة، وأمّ كلثوم، وسودة بنت زمعة، وأخذ زيد امرأته أم أيمن، وولديها أيمن، وأسامة، واصطحبنا، حتى قدمنا المدينة، فنزلت في عيال أبي بكر، ونزل آل النبيّ صلى الله عليه وسلم عنده، وهو يومئذ يبني المسجد وبيوته، فأدخل سودة بنت زمعة أحد تلك البيوت، وكان يكون عندها، فقال له أبو بكر: ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ فبنى بي

" الحديث.

قال الماورديّ: الفقهاء يقولون: تزوّج عائشة قبل سودة، والمحدّثون يقولون: تزوّج سودة قبل عائشة، وقد يُجمع بينهما بأنه عقد على عائشة، ولم يدخل بها، ودخل بسودة.

قال الحافظ: والرواية التي ذكرتها عن الطبرانيّ ترفع الإشكال، وتوجّه الجمع المذكور. واللَّه أعلم.

وقد أخرج الإسماعيليّ من طريق عبد اللَّه بن محمد بن يحيي، عن هشام، عن أبيه "أنه كتب إلى الوليد: إنك سألتني متى توفّيت خديجة؟ وإنها توفّيت قبل مخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة بثلاث سنين، أو قريب من ذلك، نكح النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة بعد مُتَوَفَّى خديجة، وعائشةُ بنت ستّ سنين، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بني بها بعد ما قدم المدينة، وهي بنت تسع سنين". وهذا السياق لا إشكال فيه، ويرتفع به ما تقدّم من الإشكال أيضًا. واللَّه أعلم. وإذا ثبت أنه بني بها في شوّال من السنة الأولى من الهجرة قوِيَ قولُ من قال: إنه دخل بها بعد الهجرة بسبعة أشهر. وقد وهّاه النوويّ في "تهذيبه"، وليس بواهٍ إذا عددناه من ربيع الأول، وجزمه بأن دخوله بها كان في السنة الثانية يُخالف ما ثبت أنه دخل بها بعد خديجة بثلاث سنين. وقال الدمياطيّ في "السيرة" له: ماتت خديجة في رمضان، وعقد على سودة في شوّال، ثم على عائشة، ودخل بسودة قبل عائشة. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تحرر بما سبق أنه صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة قبل سودة، ودخل بسودة قبل عائشة رضي الله عنهما، وهذا هو الجمع السديد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

= علي شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة، كان يرسل بها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذ بنت تسع سنين. انتهى "المسند" 6/ 210 - 211. وهذا إسناد صحيح، إلا أنه مرسل.

(1)

"فتح" 7/ 629 - 630. "كتاب مناقب الأنصار".

ص: 197

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا -29/ 3256 و 3257 و 3258 و 3259 و 77/ 3378 و 78/ 3379 و 3380 - وفي "الكبرى" 27/ 5365 و 5366 و 5367 و 5368 و 5369 و 89/ 5569 و 5570 و 5571 و 90/ 5572. وأخرجه (خ) في "النكاح" 5133 و 5134 و 5158 (م) في "النكاح" 1422 (د) في "النكاح" 2121 و"الأدب" 4933 و 435 (ق) في "النكاح" 1876 (أحمد) في "باقي الأنصار" 25241 و 25865 (الدارمي) في "النكاح"2261. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواز إنكاح الأب بنته الصغيرة، وهو مجمع عليه إلا ما حكي عن ابن شُبرمة كما تقدّم.

(ومنها): جواز نكاح المرأة، وإن لم تكن صالحة للوطء. (ومنها): أن الوليّ الخاص يقدّم على الوليّ العام، حيث زوّج أبو بكر بنته عائشة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف فيه عند المالكيّة، كما أشار إليه في "الفتح"

(1)

.

(ومنها): أن النهي عن إنكاح البكر حتى تُستأذن مخصوص بالبالغة حتى يُتصوّر منها الإذن، وأما الصغيرة فلا حاجة إلى استئذانها، إذ لا معنى لذلك، حيث إنها لا تدري ما هو النكاح.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا صريح في جواز تزويج الأب الصغيرةَ بغير إذنها؛ لأنه لا إذن لها، والجدّ كالأب عندنا. قال: وأجمع المسلمون على جواز تزويجه بنته الصغيرة لهذا الحديث.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: دعوى الإجاع فيه نظر، فقد تقدم خلاف ابن شبرمة فيه، فتنبّه. واللَّه أعلم.

قال: وإذا بلغت فلا خيار لها في فسخه عند مالك، والشافعيّ، وسائر فقهاء الحجاز. وقال أهل العراق: لها الخيار إذا بلغت، أما غير الأب، والجدّ من الأولياء، فلا يجوز أن يزوّجها عند الشافعيّ، والثوريّ، ومالك، وابن أبي ليلى، وأحمد، وأبي

(1)

"فتح" 10/ 239.

ص: 198

ثور، وأبي عُبيد، والجمهور، قالوا: فإن زوّجها لم يصحّ. وقال الأوزاعيّ، وأبو حنيفة، وآخرون من السلف: يجوز لجميع الأولياء، ويصحّ، ولها الخيار إذا بلغت، إلا أبا يوسف، فقال: لا خيار لها.

واتفق الجمهور على أن الوصيّ الأجنبيّ لا يزوّجها. وجوّز شُريحٌ، وعروة، وحمّادٌ له تزويجها قبل البلوغ. وحكاه الخطّابيّ عن مالك أيضًا.

قال: (واعلم): أن الشافعيّ، وأصحابه قالوا: يُستحبّ أن لا يزوّج الأب والجدّ حتى تبلغ، ويستأذنها لئلا يوقعها في أسر الزوج، وهي كارهةٌ. وهذا الذي قالوه: لا يخالف حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -؛ لأن مرادهم أنه لا يزوّجها قبل البلوغ إذا لم تكن مصلحةٌ ظاهرةٌ يخاف فوتها بالتاخير، كحديث عائشة، فيستحبّ تحصيل ذلك الزوج؛ لأن الأب مأمور بمصلحة ولده، فلا يفوّتها.

قال: وأما وقت زفاف الصغيرة المزوّجة، والدخول بها، فإن اتّفق الزوج والوليّ على شيء لا ضرر فيه على الصغيرة عُمل به، وإن اختلفا، فقال أحمد، وأبو عُبيد: تجُبر على ذلك بنت تسع سنين دون غيرها. وقال مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة: حدّ ذلك أن تُطيق الجماع، ويختلف ذلك باختلافهنّ، ولا يُضبط بسنّ، وهذا هو الصحيح، وليس حديث عائشة تحديدًا، ولا المنع من ذلك فيمن أطاقته قبل تسع، ولا الإذن فيه لمن لم تُطقه، وقد بلغت تسعًا. قال الداوديّ: وكانت عائشة قد شبّت شَبابًا حسنًا - رضي اللَّه تعالى عنها - انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. وهو تحقيق نفيس جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3257 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ مُسَاوِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِسَبْعِ سِنِينَ، وَدَخَلَ عَلَيَّ لِتِسْعِ سِنِينَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن النضر بن مساور" المروزيّ، صدوق [10] 70/ 2347.

و" جعفر بن سليمان" الضُّبَعيّ، أبو سليمان البصريّ، صدوق زاهد، يتشيّع [8] 14/ 14. والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: "لسبع سنين" هكذا في هذه الرواية، وكذا هو عند مسلم من طريق معمر، عن الزهريّ، عن هشام، وكذا في رواية حماد بن سلمة عند أحمد -رحمه اللَّه تعالى- في "مسنده"، ولفظه:

(1)

"شرح مسلم" 9/ 210.

ص: 199

حدثنا حسن بن موسى، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: "تزوجني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مُتَوَفَّى خديجة، قبل مخرجه إلى المدينة، بسنتين أو ثلاث، وأنا بنت سبع سنين، فلما قدمنا المدينة، جاءتني نسوة، وأنا ألعب في أُرْجُوحة، وأنا مُجَمَّمَةٌ

(1)

، فذهبن بي، فهَيَّأْنَنِي، وصنعنني، ثم أتين بي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَبَنَى بي، وأنا بنت تسع سنين"

(2)

.

وفي "مسند أبي داود الطيالسيّ" - ص 205 - شكّ حماد في ستّ، أو سبع، ولفظه: "تزوّجني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنا بنت ستّ، أو سبع بمكة

".

والجمع بين الروايتين، كما قال النوويّ أن يقال: أنه كان لها ستّ وكسرٌ، ففي رواية اقتصرت على السنين، وفي رواية عدّت السنة التي دخلت فيها. واللَّه تعالى أعلم. والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3258 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: "تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِتِسْعِ سِنِينَ، وَصَحِبْتُهُ تِسْعًا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عَبْثر" -بفتح أوله، وسكون الموحّدة، وفتح المثلّثة- ابن القاسم الزُّبيديّ -بالضمّ- أبو زبيد- مصغرًا - الكوفيّ، ثقة [8] 190/ 1164.

و"مطرف" -بصيغة اسم الفاعل- ابن طَرِيف الكوفيّ، ثقة فاضل، من صغار [6] 2/ 327.

و"أبو إسحاق": هو عمرو بن عبد اللَّه السبيعيّ الثقة الثبت الكوفيّ. و"أبو عبيدة":

هو عامر بن عبد اللَّه بن مسعود الهذليّ الكوفيّ، ثقة من كبار [3] 55/ 622.

وقوله: "لتسع سنين" هكذا هو في هذه الرواية، وكذا في رواية الأسود التي بعدها، وهي مخالفة لرواية عروة، فإن فيه:"تزوّجني لستّ سنين"، كما تقدّم.

ويمكن الجمع بين الروايتين بحمل "قولها: تزوّجني" على معنى "بَنَى بي"، فلا تخالف بين الروايتين. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث في سنده أبو إسحاق السبيعيّ، وهو مدلّس، وقد عنعنه، لكن يشهد له ما قبله، وما بعده، فيصحّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"المُجَمَّم" كمالمّعَظَّم، بصيغة اسم المفعول: ذو الْجُمّة، و"الجُمّة" بالضمّ: مُجتَمع شعر الرأس. أفاده في "القاموس".

(2)

"مسند أحمد" 6/ 280.

ص: 200

3259 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا:: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ،: "تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ، وَمَاتَ عَنْهَا، وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ").

قال الجامع عفا اللَّه تعَالى عنه: "محمد بن العلاء": هو أبو كُريب أحد مشايخ الستّة. و"أحمد بن حرب": هو الطائيّ الموصليّ، صدوق [10] 102/ 135. تفرّد به المصنّف. و"إبراهيم": هو ابن يزيد النخعيّ. و"الأسود": هو ابن يزيد النخعيّ.

وقوله: "بنت تسع" تقدّم قريبًا أن المراد أنه بني بها، لا أنه عقد عليها النكاح وهي بنت تسعٍ، فإنه إنما عقد عليها وهي بنت ستّ سنين، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح، وقد سبق تخريجه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌30 - (إِنْكَاحُ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ الْكَبِيرَةَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أراد بيان جواز تزويج الرجل ابنته الكبيرة بغير إذنها، إذا علم أنها لا تكره ذلك، وكان الخاطب كفؤًا لها، وسيأتي تمام البحث في هذه المسألة في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى.

3260 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، حَدَّثَنَا، قَالَ: يَعْنِي تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ، مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ عُمَرُ: فَأَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، رضي الله عنه، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، قَالَ: قُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ، قَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي، فَلَبِثْتُ

(1)

لَيَالِيَ، ثُمَّ لَقِيَنِي، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ

(2)

أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ

(1)

وفي نسخة: "فلبث".

(2)

وفي نسخة: "فأتيت".

ص: 201

شَيْئًا، فَكُنْتُ عَلَيْهِ أَوْجَدَ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ، حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ، فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا، قَالَ عُمَرُ:: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ شَيْئًا، فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ، إِلاَّ أَنِّي قَدْ كُنْتُ عَلِمْتُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَدْ ذَكَرَهَا، وَلَمْ أَكُنْ لأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبِلْتُهَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عبد اللَّه بن المبارك": هو أبو جعفر الْمُخَرِّميّ البغداديّ الثقة الحافظ. و"يعقوب بن إبراهيم": هو الزهريّ المدنيّ، نزيل البغداد الثقة الفاضل. و"أبوه": هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن المدنيّ، نزيل بغداد الثقة الحجة. و"صالح": هو ابن كيسان الثقة الثبت.

وقوله: "وقد بدا لي" أي ظهر لي عدم تزوّجي في هذه الأوقات، فاليوم بمعنى الوقت.

والحديث أخرجه البخاريّ، وقد تقدّم شرحه، والكلام على مسائله قبل خمسة أبواب-24/ 3249 - فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌31 - (اسْتِئْذَانُ الْبِكْرِ فِي نَفْسِهَا)

زاد في "الكبرى": "وذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر ابن عباس فيه".

3261 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7] 7/ 7.

3 -

(عبد اللَّه بن الفضل) بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشميّ

ص: 202

المدنيّ، ثقة [4] 54/ 2752.

4 -

(نافع بن جبير بن مطعم) النوفليّ، أبو محمد، أو أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة فاضل [3] 96/ 124.

5 -

(ابن عباس) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فإنه بغلانيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الْأَيِّمُ) -بفتح الهمزة، وتشديد التحتانيّة-: هو في الأصل من لا زوج لها، بكرًا كانت، أو ثيّبًا، والمراد به هنا: الثيب، كما فسّرته الرواية الأخرى، ولمقابلته بالبكر، ولأنه الأكثر استعمالًا.

قال أبو العباس القرطبيّ: اتفق أهل اللغة على أن الأيّم في الأصل هي المرأة التي لا

زوج لها، بكرًا كانت أو ثيّبًا، ومنه قوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] تقول العرب تأيّمت المرأة: إذا أقامت لا تتزوّج، ويقال: أيّمٌ بيّنة الأَيّمَة، وقد آمت هي، وإِمْتُ أنا، قال الشاعر [من الطويل]:

لَقَدْ إِمْتُ حَتَّى لَامَني كُلُّ صاحِبٍ

رَجَاءً بِسَلْمَى أَنَّ تَئِيمَ كَمَا إِمْتُ

قال أبو عبيد: يقال: رجلٌ أَيّمٌ، وامرأةٌ أيّمٌ، وأكثر ما يكون في النساء، وهو كالمستعار في الرجال. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياضٌ: اختلف العلماء في المراد بالأيّم هنا، مع اتفاق أهل اللغة على أنها تُطلق على امرأة لا زوج لها، صغيرةً كانت، أو كبيرةً، بكرًا كانت، أو ثيّبًا. قاله إبراهيم الحربيّ، وإسماعيل القاضي، وغيرهما. والأيّمَةُ العُزُوبة، ورجلٌ أيّمٌ، وامرأة أيّمٌ. وحكى أبو عبيد: أيّمةٌ أيضًا.

قال القاضي: ثم اختلف العلماء في المراد به هنا، فقال علماء الحجاز، والفقهاء

(1)

"المفهم" 4/ 114.

ص: 203

كافةً: المراد الثيّب، واستدلّوا بأنه جاء مفسراً في الرواية الأخرى بالثيّب، وبأنها جعلت في مقابلة البكر، وبأن أكثر استعمالها في اللغة للثيّب. وقال الكوفيون، وزفر: الأيّم هنا كلّ امرأة لا زوج لها، بكرًا كانت أو ثيّبًا، كما هو مقتضاه في اللغة قالوا: فكلّ امرأة بلغت فهي أحقّ بنفسها من وليّها، وعقدها على نفسها النكاح صحيح. وبه قال الشعبيّ، والزهريّ، قالوا: وليس الوليّ من أركان صحّة النكاح، بل من تمامه. وقال الأوزاعيّ، وأبو يوسف، ومحمد: تتوقّف صحّة النكاح على إجازة الوليّ.

قال القاضي: واختلفوا أيضًا في قوله صلى الله عليه وسلم: "أحقّ من وليّها"، هل هي أحقّ بالإذن فقط، أو بالإذن والعقد على نفسها؟ فعند الجمهور بالإذن فقط، وعند هؤلاء بهما جميعًا

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحقّ ما قاله الجمهور من أن الوليّ شرط في صحّة النكاح، وليس للمرأة إلا مجرّد الإذن، إما صريحًا، وهو للثيّب، أو سكوتًا، وهو للبكر للحديث الصحيح:"أيما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل". واللَّه تعالى أعلم.

(أَحَقُّ بنَفْسِها مِنْ وَلِيِّهَا) أي تنطق بنفسها، ولا ينطق الوليّ عنها.

وقال النوويّ: يحتمل من حيث المعنى أن المراد أحقّ من وليّها في كلّ شيء، من عقد، وغيره، كما قاله أبو حنيفة، وداود. ويحتمل أنها أحقّ بالرضا، أي لا تُزوّج حتى تنطق بالإذن، بخلاف البكر، ولكن لَمّا صحّ قوله صلى الله عليه وسلم:"لا نكاح إلا بوليّ" مع غيره من الأحاديث الدالّة على اشتراط الوليّ تعليق الاحتمال الثاني.

[واعلم]: أن لفظة "أحقّ" هنا للمشاركة، معناه أن لها في نفسها في النكاح حقًّا، ولويها حقًا، وحقها أوكد من حقّه، فإنه لو أراد تزويجها كفؤًا، وامتنعت لم تُجبر، ولو أرادت أن تتزوّج كفؤًا، فامتنع الوليّ أُجبر، فإن أصرّ زوّجها القاضي، فدلّ على تأكيد حقّها، ورجحانه انتهى

(2)

.

(وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا) ببناء الفعل للمفعول: أي يطلب إذنها في تزويجها. وفي الروايات الآتية بلفظ: "تُستأمر".

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هكذا وقع في حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "والبكر تُستأمر"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"الأيّم تُستأمر، والبكر تُستأذن"، وهو أتقن مساقًا من حديث ابن عباس لأن "تُستأمر" معناه: يُستدعَى أمرها، وهذا يظهر منه أن يصدر منها بالقول ما يُسمى أمرًا، وهذا ممكن من الثيّب؛ لأنها لا

(1)

راجع "شرح مسلم للنوويّ" 9/ 208.

(2)

"شرح مسلم" 9/ 208.

ص: 204

يَلحقها من الخجل، والانقباض ما يَلحق البكر، فلا يُكتفى منها إلا بنطق يدلّ على مرادها صريحًا. وأما "تُستأذن" فإنه يقتضي أن يظهر منها ما يدلّ على رضاها، وإذنها بأيّ وجه كان، من سكوت، أو غيره، ولا تُكلّف النطقَ، ولذلك لما قال في حديث ابن عباسِ "لا تُنكح البكر حتى تُستأذن" أشكل عليهم إذنها، فسألوا، فأجيبوا بقوله (وَإذْنَهُا صُمَاتهُا) بضم الصاد المهملة، ويقال: فيه الصّمت -بالفتح- والصّموت -بالضمّ-: ومعناها السكوت، ولشيخنا عبد الباسط المناسيّ -رحمه اللَّه تعالى-:

الصَّمْتُ وَالصُّمَاتُ والصُّمُوتُ

مَصَادِرٌ يُعْنَى بِهَا السُّكُوتُ

قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: والأصل وصُماتها كإذنها، فشُبِّهَ الصُّماتُ بالإذن شرعًا، ثم جُعِل إذنًا مجازًا، ثم قُدّم مبالغةً، والمعنى: هو كاف في الإذن، وهذا مثل قوله:"ذكاة الجنين ذكاة أمّة"، والأصل ذكاة أمّ الجنين ذكاته، وإنما قلنا: الأصل: صماتها كإذنها؛ لأنه لا يُخبرُ عن شيءٍ إلا بما يصحّ أن يكون وصفًا له حقيقةً، أو مجازًا، فيصحّ أن يقال: الفرس يطير، ولا يصحّ أن يقال: الحجر يطير؛ لأنه لا يوصف بذلك، فصُماتها كإذنها صحيح، ولا يصحّ أن يكون "إذنها" مبتدءًا؛ لأن الإذن لا يصحّ أن يوصف بالسكوت؛ لأنه يكون نفيًا له، فيبقى المعنى: إذنها مثل سكوتها، وقبل الشرع كان سكوتها غير كاف، فكذلك إذنها، فينعكس المعنى انتهى

(1)

.

قال ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: يستحبّ إعلام البكر أن سكوتها إذنٌ، لكن لو قالت بعد العقد: ما علمت أن صمتي إذنٌ لم يبطل العقد بذلك عند الجمهور، وأبطله بعض المالكيّة، وقال ابن شعبان منهم: يقال لها ذلك ثلاثًا إن رضيت فاسكتي، وإن كرهت فانطلقي. وقال بعضهم: يُطالُ المقام عندها لئلا تخجل، فيمنعها ذلك من المسارعة. واختلفوا فيما إذا لم تتكلّم، بل ظهرت منها قرينة السخط، أو الرضا بالتبسّم مثلًا، أو البكاء، فعند المالكيّة إن نفرت، أو بكت، أو قامت، أو ظهر منها ما يدلّ على الكراهة لم تُزوَّج. وعند الشافعيّة: لا أثر لشيء من ذلك في المنع إلا إن قَرَنت مع البكاء الصياح ونحوه، وفرّق بعضهم بين الدمع، فإن كان حارًّا دلّ على المنع، وإن كان باردًا دلّ على الرضا. قاله في "الفتح"

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

راجع "المصباح المنير" في مادة صمت.

(2)

"فتح" 10/ 242.

ص: 205

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-31/ 3261 و 3262 و 3263 و 3264 و 32/ 3265 - في "الكبرى" 28/ 5371 و 5372 و 5372 و 5373 و 5374. وأخرجه (م) في "النكاح" 1421 (د) في "النكاح" 2098 و 2100 (ت) في "النكاح" 1108 (ق) في "النكاح" 1870 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 1891 و 2164 و 2361 و 3212 و 3333 و 3411 و 1114 و 2188 و 2189 (الدارمي) في "النكاح" 2188 و 2189 و 2190. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو وجوب استئذان البكر في نفسها. (ومنها): أن الأيّم أحقّ بأمر النكاح من الوليّ، بمعنى أنه لا بدّ من إذنها الصريح، أو ردّها، لا بمعنى أنها تزوّج نفسها، كما يقول به داود الظاهريّ. (ومنها): أن البكر لا يجب عليها التصريح بالقول، بل يكفي سكوتها. (ومنها): أنه يدلّ على أنَّ السكوت على الشيء بعد العلم به يكون رضًا به، لكن بشرط أن لا يكون السكوت عن خوف ونحوه. (ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن البكر التي أُمِر باستئذانها هي البالغة، إذ لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن؟، ومن يستوي سكوتها وسخطها. (ومنها): أنه يدلّ على أن البكر إذا أعلنت بالمنع لم يجز النكاح، وإن أعلنت بالرضا جاز بطريق أولى، وشذّ بعض أهل الظاهر، فقال: لا يجوز أيضًا، وقوفًا عند ظاهر قوله:"وإذنها أن تسكت". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): نقل ابن عبد البرّ عن مالك أن سكوت البكر اليتيمة قبل إذنها، وتفويضها لا يكون رضًا منها، بخلاف ما إذا كان بعد تفويضها إلى وليّها. وخصّ بعض الشافعيّة الاكتفاء بسكوت البكر البالغ بالنسبة إلى الأب والجدّ، دون غيرهما؛ لأنها تستحيي منهما أكثر من غيرهما.

والصحيح الذي عليه الجمهور استعمال الحديث في جميع الأبكار بالنسبة لجميع الأولياء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم تزويج الأب البكر البالغة بغير إذنها: ذهب الأوزاعيّ، والثوريّ، والحنفيّة، ووافقهم أبو ثور: إلى شترط استئذانها،

ص: 206

فلو عقد عليها بغير استئذان لم يصحّ.

وذهب آخرون إلى أنه يجوز للأب أن يزوّجها، ولو كانت بالغة بغير استئذان، وهو قول ابن أبي ليلى، ومالك، والليث، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.

ومن حجّتهم مفهوم حديث الباب؛ لأنه جعل الثيّب أحقّ بنفسها من وليّها، فدلّ على أن وليّ البكر أحقّ بها منها.

واحتجّ بعضهم بحديث يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، مرفوعًا:"تُستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها"، قال: فقيّد ذلك باليتيمة، فيحمل المطلق عليه.

وفيه نظر -كما قال الحافظ- لحديث ابن عباس الآتي بلفظ: "والبكر يستأمرها أبوها" فنصّ على ذكر الأب.

وأجاب الشافعيّ بأن المؤامرة قد تكون عن استطابة النفس. ويؤيّده حديث ابن عمر، رفعه:"آمروا النساء في بناتهنّ"، أخرجه أبو داود. قال الشافعيّ: لا خلاف أنه ليس للأمّ أمرٌ، لكنه على معنى استطابة النفس.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن الحديث ضعيفٌ، لا يصلح للاستدلال به. واللَّه تعالى أعلم.

وقال البيهقيّ: زيادة ذكر الأب في حديث ابن عباس غير محفوظة، قال الشافعيّ: زادها ابن عُيينة في حديثه. وكان ابن عمر، والقاسم، وسالم يزوّجون الأبكار لا يستأمرونهنّ. قال البيهقيّ: والمحفوظ في حديث ابن عباس: "البكر تُستأمر"، ورواه صالح بن كيسان بلفظ:"واليتيمة تُستأمر"، وكذلك رواه أبو بردة، عن أبي موسى، ومحمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فدلّ على أن المراد بالبكر اليتيمة.

قال الحافظ: وهذا لا يدفع زيادة الثقة الحافظ بلفظ الأب، ولو قال قائلٌ: بل المراد باليتيمة البكر لم يُدفع، و"تُستأمر" بضمّ أوله يدخل فيه الأب وغيره، فلا تعارض بين الروايات.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كلام الحافظ هذا حسنٌ جدًّا.

وحاصله أن رواية "يستأذنها أبوها" صحيحة؛ لأنها زيادة ثقة حافظ، وهو سفيان بن عيينة، وأيضًا إن رواية "تُستأذن" لا تنافيها، إذ الاستئذان يعمّ الأب، وغيره، وأما رواية "اليتيمة" فتردّ إلى معنى "البكر" جمعًا بين الروايات.

والحاصل أن ما ذهب إليه الأولون -وهو عدم جواز تزويج البكر البالغة بغير إذنها- هو الأرجح، لظهور أدلّته. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 207

وأما قول الحافظ: ويبقى النظر في أن الاستئمار، هل هو شرط في صحّة العقد، أو مستحبّ على معنى استطابة النفس، كما قال الشافعيّ؟ كلٌّ من الأمرين محتمل انتهى.

ففيه نظر لا يخفى؛ إذ الاحتمال الثاني -وهو الاستحباب- ضعيف؛ لمخالفته لظواهر الأحاديث المذكورة؛ وأما حديث أبو داود المذكور، فلا يصلح للاحتجاج به؛ لأنه ضعيف، كما مرّ آنفًا، فالاحتمال الأول -وهو كون الاستئمار شرطًا في صحّة العقد- أقوى، لظواهر الأحاديث.

وقد حقّق المسألة العلامة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-، فقال في "الهدي" - بعد ذكر حديث الاستئذان: ما نصّه: وموجب هذا الحكم أنه لا تُجبر البكر البالغ على النكاح، ولا تُزوّج إلا برضاها، وهذا قول جمهور السلف، ومذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهو القول الذي ندين اللَّه به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمره، ونهيه، وقواعد شريعته، ومصالح أمّته.

أما موافقته لحكمه، فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة، وليس رواية هذا الحديث مرسلةً بعلّة فيه، فإنه قد روي مسندًا، ومرسلًا، فإن قلنا بقول الفقهاء: إن الاتصال زيادة، ومن وصله مقدّمٌ على من أرسله، فظاهر، وهذا تصرّفهم في غالب الأحاديث، فما بال هذا، خرج عن حكم أمثاله، وإن حكمنا بالإرسال، كقول كثير من المحدّثين، فهذا مرسلٌ قويّ، قد عضدته الآثار الصحيحة الصريحة، والقياس، وقواعد الشرع- كما سنذكره- فيتعيّن القول به.

وأما موافقة هذا القول لأمره، فإنه قال:"والبكر تُستأذن"، وهذا أمرٌ مؤكّد؛ لأنه بصيغة الخبر الدّالّ على تحقّق المخبر به، وثبوته، ولزومه، والأصل في أوامره صلى الله عليه وسلم أن تكون للوجوب، ما لم يقم إجماع على خلافه.

وأما موافقته لنهيه، فلقوله:"لا تُنكح البكر حتى تُستأذن"، فأمر، ونهى، وحكم بالتخيير، وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطرق.

وأما موافقته لقواعد شرعه، فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرّف أبوها في أقلّ شيء من مالها إلا برضاها

(1)

، ولا يُجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها، فكيف يجوز أن يُرقّها، ويُخرج بُضعها منها بغير رضاها إلى من يريده هو، وهي من أكره الناس

(1)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في هذا الإطلاق نظر لا يخفى؛ لأن الأب يجوز له أن يأكل من مال ولده إذا احتاج إليه بغير رضاه؛ للحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، من حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، مرفوعًا:"إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه"، والبنت يشملها الولد. فتنبّه.

ص: 208

فيه، وهو من أبغض شيء إليها؟ ومع هذا فيُنكحها إياه قهرًا بغير رضاها إلى من يريده، ويجعلها أسيرةً عنده، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اتقوا اللَّه في النساء، فإنّهنّ عوان عندكم"

(1)

. أي أسرى. ومعلومٌ أن إخراج مالها كلّه بغير رضاها أسهل عليها من تزويجها بمن لا تختاره بغير رضاها، ولقد أبطل من قال: إنها إذا عيّنت كفؤًا تحبّه، وعيّن أبوها كفؤًا، فالعبرة بتعيينه، ولو كان بغيضًا إليها، قَبِيح الخِلْقة.

وأما موافقته لمصالح الأمّة، فلا يخفى مصلحة البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصول مقاصد النكاح لها به، وحصول ضدّ ذلك بمن تبغضه، وتنفر عنه، فلو لم تأت السنّة الصريحة بهذا القول، لكان القياس الصحيح، وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره. وباللَّه التوفيق.

[فإن قيل]: فقد حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالفرق بين البكر والثيّب، وقال:"لا تُنكح الأيّم حتى تستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن"، وقال:"الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها، والبكر يَستأذنها أبوها"، فجعل الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها، فعُلم أن وليّ البكر أحقّ بها من نفسها، وإلا لم يكن لتخصيص الأيّم بذلك معنيً.

وأيضًا فإنه فرّق بينهما في صفة الإذن، فجعل إذن الثيّب النطق، وإذن البكر الصَّمت، وهذا كلّه يدلّ على عدم اعتبار رضاها، وأنها لا حقّ لها مع أبيها.

[فالجواب]: أنه ليس في ذلك ما يدلّ على جواز تزويجها بغير رضاها مع بلوغها، وعقلها، ورُشدها، وأن يزوّجها بأبغض الخلق إليها إذا كان كفؤًا، والأحاديث التي احتججتم بها صريحةٌ في إبطال هذا القول، وليس معكم أقوى من قوله:"الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها". هذا إنما يدلّ بطريق المفهوم، ومنازعوكم يُنازعونكم في كونه حجّةٌ. ولو سُلّم أنه حجّةٌ، فلا يجوز تقديمه على المنطوق الصريح. وهذا أيضًا إنما يدلّ إذا قلت: إن للمفهوم عمومًا، والصواب أنه لا عموم له، إذ دلالته ترجع إلى أن التخصيص بالمذكور لا بدّ له من فائدةٍ، وهي نفي الحكم عما عداه، ومعلومٌ أن انقسام ما عداه إلى ثابت الحكم ومنفيّه فائدة، وأن إثبات حكم آخر للمسكوت فائدة، وإن لم يكن ضدّ حكم المنطوق، وأن تفصيله فائدة، كيف، وهذا مفهومٌ مخالفٌ للقياس الصريح، بل قياس الأولى، كما تقدّم، ويخالف النصوص المذكورة.

وتأمّل قوله صلى الله عليه وسلم: "والبكر يستأذنها أبوها"، عقب قوله:"الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها"، قطعًا لتوهّم هذا القول، وأن البكر تُزوّج بغير رضاها، ولا إذنها، فلا حقّ لها

(1)

أخرجه الترمذيّ برقم 1163، وقال: حسن صحيح.

ص: 209

في نفسها البتّة، فوصل إحدى الجملتين بالأخرى، دفعًا لهذا التوهّم. ومن المعلوم أنه لا يلزم من كون الثيّب أحقّ بنفسها من وليّها أن لا يكون للبكر حقّ في نفسها البتّة.

وقد اختلف الفقهاء في مناط الإجبار على ستّة أقوال:

(أحدها): أنه يُجبر بالبكارة، وهو قول الشافعيّ، ومالك، وأحمد في رواية.

(الثاني): أن يُجبر بالصغر، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد في الرواية الثانية. (الثالث): أنه يُجبر بهما معًا، وهو الرواية الثالثة عن أحمد. (الرابع): أنه يجبر بأيهما وُجد، وهو الرواية الرابعة عنه. (الخامس): أنه يجبر بالإيلاد، فتُجبر الثيّب البالغ، حكاه القاضي إسماعيل عن الحسن البصريّ، قال: وهو خلاف الإجماع، قال: وله وجهٌ حسنٌ من الفقه. قال ابن القيّم: فيا ليت شعري ما هذا الوجه الأسود المظلم؟. (السادس): أنه يجبر من يكون في عياله. ولا يخفى عليك الراجح من هذه المذاهب انتهى كلام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لا يخفى أن الأرجح القول بأن الإجبار بهما معًا؛ فلا تجُبر البكر البالغة، ولا الثيّب الصغير؛ عملًا بمقتضى الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قال في "الفتح": ما حاصله: استُدلّ بحديث الباب على أن الصغيرة الثيّب لا إجبار عليها؛ لعموم كونها أحقّ بنفسها من وليّها، وعلى أن من زالت بكارتها بوطء، ولو كان زنًا لا إجبار عليها، لأب ولا غيره؛ لعموم قوله:"الثيّب أحقّ بنفسها".

وقال أبو حنيفة: هي كالبكر، وخالفه صاحباه، واحتُجّ له بأن علّة الاكتفاء بسكوت البكر هو الحياء، وهو باق في هذه؛ لأن المسألة مفروضة فيمن زالت بكارتها بوطء، لا فيمن اتخذت الزنا ديدنًا وعادة.

وأجيب بأن الحديث نصّ على أن الحياء يتعلّق بالبكر، وقابلها بالثيّب، فدلّ على أن حكمهما مختلف، وهذه ثيّبٌ لغةً وشرعًا، بدليل أنه لو أوصى بعتق كلّ ثيّب في ملكه دخلت إجماعًا، وأما بقاء حيائها كالبكر فممنوعٌ؛ لأنها تستحيي من ذكر وقوع الفجور منها، وأما ثبوت الحياء من أصل النكاح فليست فيه كالبكر التي لم تجُرّبه قط

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه الأولون هو الأرجح؛ لعموم الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"زاد المعاد في هدي خير العباد" 5/ 95 - 99.

(2)

"الفتح" 10/ 243.

ص: 210

(المسألة السابعة): أن بعضهم استدلّ بقوله: "أحقّ بنفسها" على أن للثيّب أن تتزوّج بغير وليّ، ولكنها لا تزوّج نفسها، بل تجعل أمرها إلى رجل، فيزوّجها. حكاه ابن حزم عن داود، وتعقّبه بحديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، مرفوعًا:"أيما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطلًا"، وهو حديث صحيح، كما تقدّم، وهو يبيّن أن معنى قوله:"أحقّ بنفسها من وليّها" أنه لا ينفذ عليها أمره بغير إذنها، ولا يُجبرها، فإذا أرادت أن تتزوّج لم يجز لها إلا بإذن وليّها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3262 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِ نَافِعٍ بِسَنَةٍ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ حَلْقَةٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة.

و"أبو داود": هو سليمان بن داود الطيالسيّ.

وقوله: "قال: سمعته منه الخ" القائل هو شعبة، وضمير النصب في "سمعته" للحديث، والمجرور في "منه" لمالك. يعني أنه سمع هذا الحديث من مالك بعد موت شيخه نافع بسنة.

وأراد به نافعًا مولى ابن عمر، الذي توفّي سنة (117) أو (120) وليس هو نافع بن جبير المذكور في السند؛ لأنه مات سنة (99) ومالك ابن ستّ، أو سبع سنين.

وقوله: "وله يومئذ حلقة" يعني أن مالكًا حينما سمع منه هذا الحديث كانت له حلقة من العلم، والظاهر أنه أراد به أن مالكًا تصدّر للتحديث، وهو حدثٌ، قبل أن يتم عمره عشرين سنة. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "واليتيمة تُستأمر" قال السنديّ: يدلّ على جواز نكاح اليتيمة بالاستئذان قبل البلوغ، ومن لا يُجوّز ذلك يَحمل اليتيمة على البالغة، وتسميتها يتيمةً باعتبار ما كان. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الصواب حمل اليتيمة على البكر بدليل الرواية الماضية، فالمراد باليتيمة هي البكر.

والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم

(1)

"شرح السنديّ" 6/ 84 - 85.

ص: 211

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3263 -

(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الرِّبَاطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الأَيِّمُ أَوْلَى بِأَمْرِهَا، وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة. و"يعقوب": هو ابن إبراهيم بن سعد، تقدّم في الباب الماضي. و"ابن إسحاق": هو محمد صاحب "المغازي".

والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3264 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ، وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ، فَصَمْتُهَا إِقْرَارُهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.

وقوله: "ليس للوليّ مع الثيّب أمر" هو بمعنى قوله السابق: "الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها"، وقد تقدّم أن الصحيح في معناه: أنها أحقّ منه في الإذن صريحًا، وفي اختيار الزوج، ونحو ذلك، لا في عقد النكاح، فلا يجوز لها أن تعقد بنفسها دون إذن وليّها، لصحّة حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليّها، فنكاحها باطل

"، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "لا تزوّج المرأة المرأة، ولا تزوّج المرأة نفسها". رواه ابن ماجه.

والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 212

‌32 - (استِئْمَارُ الأَبِ البِكْرَ فِي نَفْسِهَا)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أراد بهذه الترجمة الردّ على من أعلّ زيادة لفظة "أبوها"، كأبي داود، والبيهقيّ، فكأنه يقول: إنها زيادة ثقة مقبولة، تفيد وجوب استئمار الأب بنته البكر، خلافًا لمن نفى ذلك، وهذا الذي أشار إليه هو الحقّ، فيجب على الأب الاسئذان كغيره من الأولياء؛ لصحّة الحديث في ذلك، وأما ما قيل: إنهم أجمعوا على أن الأب يزوّج ابنته الصغير إجبارًا، فذاك محمول على الصغيرة التي لا تمييز لها.

وقد ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- بقوله: [باب لا يُنكح الأبُ وغيره البكرَ، ولا الثيّب، إلا برضاهما]

فقال في "الفتح": في هذه الترجمة أربع صور: تزويج الأب البكر، وتزويج الأب الثيّب، وتزويج غير الأب البكر، وتزويج غير الأب الثيّب. وإذا اعتُبرت الكبر والصغر زادت الصور، فالثيّب البالغ لا يزوّجها الأب، ولا غيره إلا برضاها، اتفاقًا، إلا من شذّ، كما تقدّم. والبكر الصغيرة يزوّجها أبوها اتفاقًا إلا من شذّ، كما تقدّم. والثيّب غير البالغ اختُلف فيها، فقال مالك، وأبو حنيفة: يزوّجها أبوها كما يزوّج البكر. وقال الشافعيّ، وأبو يوسف، ومحمدٌ: لا يزوّجها، إذا زالت البكارة بالوطء، لا بغيره، والعلّة عندهم أن إزالة البكارة تزيل الحياء الذي في البكر. والبكر البالغ يزوّجها أبوها، وكذا غيره من الأولياء، واختُلف في استئمارها. والحديث دالّ على أنه لا إجبار للأب عليها إذا امتنعت. وحكاه الترمذيّ عن أكثر أهل العلم. قال: وقد ألحق الشافعيّ الجدّ بالأب. وقال أبو حنيفة، والأوزاعيّ في الثيّب الصغيرة: يزوّجها كلّ وليّ، فإذا بلغت ثبت لها الخيار. وقال أحمد: إذا بلغت تسعًا جاز للأولياء غير الأب إنكاحها، وكأنه أقام المَظِنّةَ مقام المَئِنة. وعن مالك يلتحق بالأب في ذلك وصيّ الأب، دون بقيّة الأولياء؛ لأنه أقامه مقامه.

قال: ثم إن الترجمة معقودة لاشتراط رضا المزوَّجة بكرًا كانت، أو ثيّبًا، صغيرةً كانت، أو كبيرةٌ، وهو الذي يقتضيه ظاهر الحديث، ولكن تُستثنى الصغيرة من حيث المعنى؛ لأنها لا عبارة لها انتهى

(1)

.

(1)

"فتح" 10/ 24 - 241.

ص: 213

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي اختاره الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في الترجمة المذكورة، والمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في هذه الترجمة، وكذا في بقيّة التراجم، من إطلاق وجوب الاستئذان على الأب، وغيره، في البكر وغيرها هو الحقّ؛ لصحّة الأحاديث في ذلك، كما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3265 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا، وَالْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن منصور": هو الْجّوّاز الثقة المكيّ، من أفراد المصنّف. والباقون كلهم رجال الصحيح. و"سفيان": هو ابن عيينة.

وقوله: "يستأمرها أبوها": قال القرطبيّ: هذه الزيادة من رواية ابن أبي عمر -يعني شيخ مسلم- قال أبو داود: ليست بمحفوظة. وعلى تقدير صحّة هذه الزيادة فمحملها على الاستحباب، لا على الإيجاب، بدليل الإجماع المنعقد على أن للأب إنكاح ابنته الصغيرة، وإجبارها عليه بغير إذنها، وكذلك السيّد في أمته. وقد أبدى بعض أصحابنا لاستئذان الأب لابنته فائدةً، وهي تطييب قلبها، واستعلام حالها، فقد تكون موصوفةً بما يَخفى على الأب مما يمنع النكاح، فإذا استأذنها أعلمته انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدّم أن هذه الزيادة محفوظة، فإن الذي زادها هو الإمام المشهور بالحفظ والإتقان: سفيان بن عيينة، فزيادته مقبولة، ولا تنافي بينها وبين الروايات السابقة:"البكر تُستأمر"؛ لأن قوله: "تُستأمر" بالبناء للمفعول، أي يُطلب منها الإذن، فيدخل في ذلك الأب.

وأما قوله: "فمحمول على الاستحباب" ففيه نظرٌ، بل الصواب أن الأمر هنا للوجوب، لا للاستحباب.

وأما دعواه الإجماع، فإن صحّ، فيُحمل على الصغيرة التي لا تعقل ما هو النكاح؟، وما هو الغرض منه؟، وهو محمل تزويج أبي بكر عائشة - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وأما التي لها تمييز في شأن النكاح، وغيره من مصالحها، فلا بدّ من استئذانها، مطلقًا، سواء كان الوليّ أبًا، أو غيره، فتبصّر، ولا تتحيّر.

والحديث صحيح، وقد سبق شرحه مستوفىً، وكذا البحث عن مسائله في الباب الماضي، فراجعه، تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب.

(1)

"المفهم" 4/ 118.

ص: 214

‌33 - (اسْتِئْمَارُ الثَّيِّبِ فِي نَفْسِهَا)

3266 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ دُرُسْتَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: «إِذْنُهَا أَنْ تَسْكُتَ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يحيى بن دُرُست) -بضمتين، وسكون المهملة- ابن زياد البصريّ، ثقة [10] 23/ 2423 /24.

2 -

(أبو إسماعيل) إبراهيم بن عبد الملك القَنّاد البصريّ، صدوق في حفظه شيء [7] 23/ 24.

3 -

(يحيى) بن أبي كثير الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقة ثبت، يدلّس ويرسل [5] 23/ 24.

4 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 1/ 1.

5 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو والترمذيّ، وشيخ شيخه، فقد تفرّد به هو، والترمذيّ، وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من يحيى بن أبي كثير، وهو وإن كان يماميّا، إلا أنه نزل المدينة عشر سنين، كما هو مذكور في ترجمته في "التهذيبين" وغيرهما، والباقيان بصريان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة من الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وأبو هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ: "لَا تُنْكَحُ الثَّيِّبُ) يحتمل أن يكون الفعل مجزومًا، مبنيًّا للمفعول، على أن "لا" ناهية، وتكسر الحاء للالتقاء الساكنين، و"الثيّب" نائب الفاعل.

ص: 215

ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعًا مبنيًّا للمفعول، و"لا" نافية، و"الثيّب" نائب الفاعل، وهذا الوجه أبلغ في المنع.

والمراد بـ"الثيّب" المرأة التي فارقت زوجها بموت، أو طلاق.

(حَتَّى تُسْتَأْذَنَ) بالبناء للمفعول، وكذا الفعلان بعده (وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ) ووقع في الرواية الآتية في الباب التالي من طريق هشام الدستوائيّ، عن يحيى:"لا تُنكَح الأيّم حتى تُستأمر"، ولا تُنكَح البكر حتى تُستأذن"، وسيأتي الكلام عليه هناك، إن شاء اللَّه تعالى.

(قَالُوا) وفي رواية عمر بن أبي سلمة، عن أبيه:"قلنا"، وحديث عائشة صريحٌ في أنها هي السائلة عن ذلك (يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ إِذْنُهَا؟) وفي حديث عائشة: "قلت: إن البكر تستحيي"(قَالَ: " إِذْنُهَا أَنْ تَسْكُتَ). واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-33/ 3266 و 34/ 3268 و 36/ 3271 - وفي "الكبرى" و 30/ 5377 و 31/ 5378 و 32/ 5381. وأخرجه (خ) في "النكاح" 5136 و"الحيل" 6968 و 6970 (م) في "النكاح" 1419 (د) في "النكاح" 2092 و 2093 (ت) في "النكاح" 1107 (ق) في "النكاح" 1871 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7356 و 7475 و 7701 و 9322 و 2727 (الدارميّ) في "النكاح" 2186. واللَّه تعالى أعلم.

وأما بقيّة المسائل فقد تقدّمت في الكلام على حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى - عنهما برقم -31/ 3261 - واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌34 - (إِذْنُ الْبِكْرِ)

3267 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،

ص: 216

قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ ذَكْوَانَ، أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«اسْتَأْمِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ» ، قِيلَ: "فَإِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي وَتَسْكُتُ، قَالَ:«هُوَ إِذْنُهَا» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن منصور) بن بهَرَام الكَوْسَج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقة ثبت [11] 72/ 88.

2 -

(يحيى بن سعيد) بن فرّوخ، أبو سعيد القطّان البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 4/ 4.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلّس [6] 28/ 32.

4 -

(ابن أي مُليكة) عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبي مُلَيكة المكيّ، يقال: اسم أبي مليكة زُهير بن عبد اللَّه، ثقة فقيه [3] 101/ 132.

5 -

(ذكوان، أبو عمرو) مولى عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، مدنيّ ثقة [3].

قال أبو زرعة: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة.

وقال البخاريّ في "صحيحه": وكانت عائشة يؤمّها عبدها ذكوان في المصحف. وقال ابن أبي مُليكة: كان عبد الرحمن بن أبي بكر يُؤمّ عائشة، فإذا لم يحضر، ففتاها ذكوان. وقال البخاريّ في "تاريخه" من طريق ابن أبي مُليكة أنه أحسن على ذكوان الثناء. وقال الواقديّ: كانت عائشة قد دبّرته، وله أحاديث قليلةٌ، ومات ليالي الحرّة. وقال الهيثم ابن عديّ: أحسبه قُتل بالحرّة سنة (63). روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أنهم ما بين مدنيين، وهما عائشة وذكوان، ومكيين، وهما ابن أبي مليكة وابن جريج، وبصريّ، وهو يحيى، ومروزيّ، وهو إسحاق. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن عائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "اسْتَأْمِرُوا النِّسَاءَ) أي

ص: 217

اطلبوا أمرهنّ (في) شأن (أَبضَاعِهِنَّ) يحتمل أن يكون -بفتح الهمزة- جمع بُضع-بضمّ، فسكون- بمعنى التزويج. ويحتمل أن يكون بكسر الهمزة، مصدر أبضع: إذا زوّج.

قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: الْبُضْعُ جمعه أَبْضاعٌ، مثلُ قُفْل وأقفال، يُطلق على الفرج، والجماع، وُيطلق على التزويج أيضًا، كالنكاح يُطلق على العقد، والجماع. وقيل: البُضْع مصدر أيضًا، مثل السُّكْر، والْكُفْر، وأبضعتُ المرأةَ إبضاعًا: زوّجتها. وتُزوّجُ النساءُ في أبضاعهنّ، يُروى بفتح الهمزة، وكسرها، وهما بمعنى، أي في تزويجهنّ، فالمفتوح جمعٌ، والمكسور مصدرٌ، من أبضعتُ، ويقال: بَضَعَها يَبْضَعُها -بفتحتين-: إذا جامعها، ومنه يقال: مَلَكَ بُضْعَها: أي جِمَاعها، والبِضَاع: الجماعُ وزنًا ومعنىً، وهو اسم من باضَعَها مُبَاضَعَةً. انتهى كلام الفيّوميّ

(1)

.

(قِيلَ) وفي رواية البخاريّ: أنها قالت: يا رسول اللَّه، إن البكر تستحي" (فَإِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي، وَتَسْكُتُ، قَالَ: هُوَ) أي السكوت المفهوم من "تسكت" (إِذْنُهَا) وفي رواية البخاريّ: "رضاها صَمْتها". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 34/ 3267 - وفي "الكبرى" 30/ 5376. وأخرجه (خ) في "النكاح" 5137 و"الإكراه" 5946 و"الحيل" 6971 (م) في "النكاح" 1420 (د) في "النكاح" 2093 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 2366 و 24796.

وأما بقية المسائل المتعلّقة بالحديث، فقد تقدّمت قبل بابين في شرح حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3268 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: «أَنْ تَسْكُتَ»).

(1)

راجع "المصباح المنير" في مادّة بضع.

ص: 218

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفق عليه، وقد تقدّم شرحه مستوفىً قبل باب. و"هشام": هو الدستوائيّ.

وقوله: "الأيّم" المراد هنا الثيّب التي فارقت زوجها بموت، أو طلاق، لمقابلتها بالبكر، وهذا هو الأصل في "الأيّم"، ومنه قولهم:"الغَزوُ مَأْيَمَةٌ" أي يُقتل الرجالُ، فتصير النساء أيامى. وقد تُطلق على كلّ من لا زوج لها صغيرةً كانت، أو كبيرةً، بكرًا كانت، أو ثيّبًا. وتقدم تمام البحث فيه.

وقوله: "حتّى تستأمر" بالبناء للمفعول، أصل الاستئمار طلب الأمر، فالمعنى لا يُعقد عليها حتى يُطلب الأمر منها. ويؤخذ من قوله:"تُستأمر" أنه لا يَعقد عليها وليّها إلا بعد أن تأمر بذلك، وليس فيه دلالة على عدم اشتراط الوليّ في حقّها، كما زعم بعض أهل العلم، بل فيه إشعارٌ باشتراطه. أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقوله: "ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن": قال في "الفتح": كذا وقع في هذه الرواية التفرقة بين الثيّب والبكر، فعبّر للثيّب بالاستئمار، وللبكر بالاستئذان، فيؤخذ منه فرق بينهما من جهة أن الاستئمار يدلّ على تأكيد المشاورة، وجعل الأمر إلى المستأمرة، ولهذا يحتاج الوليّ إلى صريح إذنها في العقد، فهذا صرّحت بمنعه امتنع اتفاقًا، والبكر بخلاف ذلك، والإذن دائرة بين القول والسكوت بخلاف الأمر، فإنه صريحٌ في القول، وإنما جعل السكوت إذنًا في حقّ البكر لأنها قد تستحي أن تُفصح انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم للمصنّف في الباب الماضي من طريق أبي إسماعيل القنّاد، عن يحيى بلفظ الاستئذان في الثيّب، والاستئمار في البكر، فعندي أن هذا من تصرّفات الرواة، والظاهر أنه لا فرق بين العبارتين، كما يدلّ عليه تصرّف المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في تراجمه، حيث عبّر في -31 - باستئذان البكر، وفي -32 - باستئمار الأب البكر، حسب اختلاف الروايات، فالذي يظهر أن الروايات بعضها باللفظ، وبعضها بالمعنى، فلا تعارض بينها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"فتح" 10/ 241.

(2)

"فتح" 10/ 240 - 241.

ص: 219

‌35 - (الثَّيِّبُ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا، وَهِيَ كَارِهَةٌ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ذكر المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- الثيّب في هذا الباب، والبكر في الباب التالي، والظاهر أن حكمهما عنده سواء، وهو عدم صحّة النكاح عليهما بغير رضاهما، وهو الذي رجّحه الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-، حيث جمع بينهما في ترجمة واحدة، فقال:[باب إذا زوّج الرجل ابنته، وهي كارهةٌ، فنكاحه مردود].

قال في "الفتح": هكذا أطلق، فشمل البكر والثيّب، لكن حديث الباب مصرَّحٌ فيه بالثيوبة، فكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه، كما سأبيّنه. ورَدُّ النكاح إذا كانت ثيّبًا، فزُوِّجت بغير رضاها إجماعٌ، إلا ما نُقل عن الحسن أنه أجاز إجبار الأب للثيّب، ولو كرهت، كما تقدّم. وعن النخعيّ: إن كانت في عياله جاز، وإلا رُدَّ. واختلفوا إذا وقع العقد بغير رضاها، فقالت الحنفيّة: إن أجازته جاز. وعن المالكيّة: إن أجازته عن قرب جاز، وإلا فلا، ورده الباقون مطلقًا. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3269 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ

وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُجَمِّعِ ابْنَىْ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ، أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا، وَهِيَ ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّ نِكَاحَهُ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(هارون بن عبد اللَّه) بن مروان الحمّال، أبو موسى البغداديّ الحافظ، ثقة [10] 50/ 62.

2 -

(محمد بن سلمة) المراديّ الجمليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.

3 -

(معن) بن عيسى القزّاز، أبو يحيى المدنيّ، ثقة ثبت، قال أبو حاتم: هو أثبت

(1)

"فتح" 10/ 244.

ص: 220

أصحاب مالك، من كبار [10] 50/ 62.

4 -

(عبد الرحمن بن القاسم) صاحب مالك الْعُتَقيّ، أبو عبد اللَّه المصريّ الفقيه ثقة، من كبار [10] 19/ 20.

5 -

(مالك) بن أنس الإمام الحجة الثبت الفقيه المدنيّ [7] 7/ 7.

6 -

(عبد الرحمن بن القاسم) بن محمد التيميّ، أبو محمد المدنيّ، الثقة الجليل الفاضل [6] 120/ 166.

7 -

(أبوه) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ الفقيه، ثقة ثبت، من كبار [3] 120/ 166.

8 -

(عبد الرحمن) بن يزيد بن جارية -بالجيم، والتحتانية- الأنصاريّ، أبو محمد المدنيّ، أخو عاصم بن عمر بن الخطّاب لأمه.

قال الأعرج: ما رأيت رجلًا بعد الصحابة أفضل منه. وقال الحاكم، عن الدارقطنيّ: ثقة. وقال ابن خلفون: وثّقه العجليّ، وابن الْبّرقيّ، وهو أجلّ من أن يُقال فيه: ثقة. وذكره ابن حبّان في ثقات التابعين، وقال: يقال: إنه وُلد في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وذكره العسكريّ في [فصل] من وُلد على عهده صلى الله عليه وسلم. وقال ابن سعد: كان قديمًا، وولي القضاء لعمر بن عبد العزيز -يعني لما كان أمير المدينة- وكان ثقةً، قليل الحديث، مات بالمدينة سنة ثلاث وتسعين. وقال خليفة: سنة ثمان وتسعين. وتبعه القَرّاب، وابن قانع، وابن زبر، وغيرهم.

وليس له، ولا لأخيه مجمّع عند المصنّف، ولا عند البخاريّ إلا هذا الحديث، فقط.

9 -

(مُجَمع) -بضمّ الميم، وفتح الجيم، وكسر الميم الثقيلة، ثم عين مهملة- ابن يزيد بن جارية الأنصاريّ. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن خنساء بنت خدام، وعُتبة بن عُويم ابن ساعدة. وعنه ابنه يعقوب، والقاسم بن محمد، وعكرمة بن سلمة بن ربيعة، وقال ابن حبّان: مجمّع بن يزيد بن جارية له صحبة.

وقال في "الفتح": من بني عمرو بن عوف، وهو ابن أخي مُجمّع بن جارية الصحابيّ الذي جمع القرآن في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخرج له أصحاب "السنن"، وقد وَهِمَ من زعم أنهما واحد، ومنه قيل: إن لِمُجَمِّع بن يزيد صحبةٌ، وليس كذلك، وإنما الصحبة لعمّه مُجَمِّع بن جارية انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن مما ذكر أن الصحيح أن مجمّع بن يزيد تابعيّ، وليست له صحبةٌ، وإنما الصحبة لعمّه مجمّع بن جارية - رضي اللَّه تعالى عنه -.

ص: 221

واللَّه تعالى أعلم.

10 -

(خنساء بنت خذام) هكذا رواية المصنّف هنا، وفي "الكبرى" اسم أبيها - بالخاء المعجمة، والذال المعجمة- وهو الذي في "صحيح البخاريّ" 7/ 32 و 9/ 26 - و 23 و"تهذيب الكمال" -35/ 162 - 163 و"خلاصة" الخزرجيّ ص-49.

والذي في "تقريب التهذيب": خنساء بن خدام- بالخاء المعجمة المكسورة، والدال المهملة- الأنصاريّة الأوسيّة، زوج أبي لبابة، صحابيّةٌ معروفة انتهى.

وفي "تهذيب التهذيب": خنساء بنت خدام الأنصاريّة الأوسيّة، زوجة أبي لبابة بن عبد المنذر، وهي التي أنكحها أبوها، وهي كارهةٌ، فرد النبيّ صلى الله عليه وسلم نكاحها. وروى عنها ابنها السائب بن أبي لبابة، وعبد الرحمن، ومُجَمِّع ابنا يزيد بن جارية، وعبد اللَّه بن يزيد بن وَديعة بن خدام. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": ما حاصله: "خنساء بنت خدام" -بمعجمة، ثم نون، ثم مهملة، وزن حمراء، وأبوها -بكسر المعجمة، وتخفيف المهملة انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير هارون، فبغداديّ، ومحمد بن سلمة، وشيخه عبد الرحمن، فمصريان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّين، وفيه القاسم أحد الفقهاء السبعة، وأن الصحابية، والراويين عنها من المقلّين من الرواية، فليس لهم في هذا الكتاب، بل ولا في بقية الكتب إلا هذا الحديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن، وَمُجَمِّعِ، ابْنَي يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ) -بالجيم- أي ابن عامر بن العطّاف (الأنصَارِي) الأوسيّ، من بني عمرو بن عوف. قال الحافظ: وليس لمجمّع بن يزيد في البخاريّ، سوى هذا الحديث، وقد قرنه فيه بأخيه عبد الرحمن بن يزيد. وقال أيضًا في أخيه: وماله في البخاريّ أيضًا سوى هذا الحديث.

وقد وافق مالكًا على إسناد هذا الحديث سفيان بن عيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، وإن اختلف الرواة عنهما في وصل هذا الحديث عن خنساء، وفي إرساله حيث قال بعضهم عن عبد الرحمن، ومجمّع أن خنساء زُوّجت. وكذا اختلفوا عنهما في نسب

(1)

"تهذيب التهذيب" 4/ 671.

(2)

"فتح" 10/ 245.

ص: 222

عبد الرحمن، ومجمّع: فمنهم من أسقط يزيد. وقال ابني جارية، والصواب وصله، وإثبات يزيد في نسبهما.

وقد أخرج طريق ابن عيينة البخاريّ في "ترك الحيل" بصورة الإرسال، وأخرجها أحمد عنه كذلك، وأوردها الطبرانيّ من طريقه موصولةً. وأخرجه الدارقطنيّ في "الموطّآت" من طريق مُعلّي بن منصور، عن مالك بصورة الإرسال أيضًا، والأكثر وصلوه عنه، وخالفهما معًا سفيان الثوريّ في راوٍ من السند، فقال:"عن عبد الرحمن ابن القاسم، عن عبد اللَّه بن يزيد بن وَدِيعة، عن خنساء". أخرجه النسائيّ في "الكبرى"

(1)

، والطبرانيّ من طريق ابن المبارك عنه. وهي رواية شاذّةٌ، لكن يبعُدُ أن يكون لعبد الرحمن بن القاسم فيه شيخان. قال الحافظ: وعبد اللَّه بن يزيد بن وَديعة، هذا لم أر من ترجم له، ولم يذكر البخاريّ، ولا ابن أبي حاتم، ولا ابن حبّان إلا عبد اللَّه بن وديعة بن خدام الذي روى عن سلمان الفارسيّ في غسل الجمعة، وعنه المقبريّ، وهو تابعي، غير مشهور، إلا في هذا الحديث، ووثّقه الدارقطنيّ، وابن حبّان، وقد ذكره ابن منده في "الصحابة"، وخطّأه أبو نُعيم في ذلك، وأظنّ شيخ عبد الرحمن بن القاسم ابن أخيه، وعبد اللَّه بن يزيد بن وديعة هذا ممن أغفله المزيّ، ومن تبعه، فلم يذكروه في رجال الكتب الستة. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

. (عَنْ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ) تقدّم الاختلاف في ضبط اسم أبيها قريبًا. قال في "الفتح": قيل: اسم أبي والدها وديعة، قال الحافظ: والصحيح أن اسم أبيه خالد، ووديعة اسم جدّه فيما أحسب. وقع ذلك في رواية لأحمد من طريق محمد بن إسحاق، عن الحجّاج بن السائب مرسلًا في هذه القصّة، ولكن قال في تسميتها: خُنَاس -بتخفيف النون، وزن فُلان. ووقع في رواية الدارقطنيّ، والطبرانيّ، وابن السكن خنساء، ووصل الحديث عنها، فقال:"عن حجّاج بن السائب بن أبي لبابة، عن أبيه عن جدّته خنساء". وخُنَاس مشتقّ من خنساء، كما يقال في زينب: زُنَاب. وكنية خدام والد خنساء أبو وديعة، كناه أبو نُعيم. وقد وقع عند عبد الرزّاق من حديث ابن عبّاس: "أن خدامًا أبا وديعة أنكح ابنته رجلًا

" الحديث. ووقع عند المستغفريّ من طريق ربيعة بن عبد الرحمن بن يزيد بن جارية أن وديعة بن خدام زوّج ابنته، وهو وهم في اسمه، ولعله كان: أن خدامًا أبا وديعة، فانقلب.

قال الحافظ: وقد ذكرت في "كتاب الصحابة" ما يدلّ على أن لوديعة بن خدام أيضًا

(1)

3/ 282 - 283. رقم 5383.

(2)

"فتح" 10/ 245.

ص: 223

صحبةً، وله قصّة مع عمر في ميراث سالم مولى أبي حُذيفة، ذكرها البخاريّ في "تاريخه". وقد أطلت في هذا الموضع، لكن جرّ الكلام بعضه بعضًا، ولا يخلو من فائدة انتهى.

(أَنَّ أَباهَا زَوّجَهَا، وَهِيَ ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ) ووقع في رواية الثوريّ المذكورة: "قالت: أنكحني أبي، وأنا كارهة، وأنا بكر"، والأول أرجح، فقد ذكر الحديث الإسماعيليّ من طريق شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم، فقال في روايته:"وأنا أريد أن أتزوّج عمّ ولدي"، وكذا أخرج عبد الرزّاق، عن معمر، عن سعيد بن عبد الرحمن الجحشيّ، عن أبي بكر بن محمد "أن رجلًا من الأنصار تزوّج خنساء بنت خدام، فقُتل عنها يوم أحد، فأنكحها أبوها رجلًا، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبي أنكحني، وإن عمّ ولدي أحبّ إليّ".

فهذا يدلّ على أنها كانت ولدت من زوجها الأول. قال الحافظ: واستفدنا من هذه الرواية نسبة زوجها الأول، واسمه أنيس بن قتادة، سماه الواقديّ في روايته من وجه آخر عن خنساء. ووقع في "المبهمات اللقطب القسطلانيّ أن اسمه أسير، وأنه استُشهد ببدر، ولم يذكر له مستندًا.

قال: وأما الثاني الذي كرهته، فلم أقف على اسمه إلا أن الواقديّ ذكر بإسناد له أنه من بني مُزَينة. ووقع في رواية ابن إسحاق، عن الحجّاج بن السائب بن أبي لبابة، عن أبيه، عنها أنه من بني عمرو بن عوف. وروى عبد الرزّاق، عن ابن جريج، عن عطاء الخراسانيّ، عن ابن عبّاس:"أنّ خدامًا أبا وَديعة أنكح ابنته رجلًا، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا تكرهوهنّ، فنكحت بعد ذلك أبا لبابة، وكانت ثيّبًا". وروى الطبرانيّ بإسناد آخر عن ابن عبّاس، فذكر نحو القصة، قال فيه:"فنزعها من زوجها، وكانت ثيّبًا، فنكحت بعده أبا لبابة". وروى عبد الرزّاق أيضًا عن الثوريّ، عن أبي الحويرث، عن نافع بن جبير، قال: "تأيمت خنساء، فزوّجها أبوها

" الحديث، نحوه، وفيه "فردّ نكاحه، ونكحت أبا لبابة".

قال الحافظ: وهذه أسانيد يَقْوَى بعضها ببعض، وكلّها دالّةٌ على أنها كانت ثيّبًا. نعم أخرج النسائيّ

(1)

من طريق الأوزاعيّ، عن عطاء، عن جابر:"أن رجلًا زوّج ابنته، وهي بكر من غير أمرها، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ففرّق بينهما". وهذا سندٌ ظاهره الصحة، ولكن له علّة، أخرجه النسائيّ من وجه آخر عن الأوزاعيّ، فأدخل بينه وبين

(1)

أي في "السنن الكبرى" 3/ 283 برقم 5384.

ص: 224

عطاء إبراهيم بن مرّة، وفيه مقال، وأرسله، فلم يذكر في إسناده جابرًا.

وأخرج النسائيّ أيضًا

(1)

، وابن ماجه من طريق جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس:"أن جارية بكرًا أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوّجها، وهي كارهةٌ، فخيرها". ورجاله ثقات، لكن قال أبو حاتم، وأبو زرعة: إنه خطأ، وإن الصواب إرساله. وقد أخرجه الطبرانيّ، والدارقطنيّ من وجه آخر عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، بلفظ:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -ردّ نكاح بكر، وثيّب، أنكحهما أبوهما، وهما كارهتان". قال الدارقطنيّ: تفرّد به عبد الملك الذماريّ، وفيه ضعف، والصواب: عن يحيى بن أبي كثير، عن المهاجر، عن عكرمة مرسل

(2)

.

وقال الحافظ أبو الحسن ابن القطّان الفاسيّ في "بيان الوهم والإيهام"- بعد أن صحّح رواية أن خنساء كانت ثيّبًا-: ما نصّه: فأما قصّة الجارية البكر التي زوّجها أبوها، وهي كارهة، فأخرى

(3)

، تظاهرت بها الروايات، من حديث ابن عمر، وجابر، وابن عبّاس، وعائشة رضي الله عنهم

ذكر منها أبو داود حديث ابن عباس، وهو صحيح، ولا يضرّه أن يُرسله بعض رواته، إذا أسنده من هو ثقة. وليس لخنساء عنده ذكرٌ إلا بما تقدّم من أنها ثيّبٌ، ولا تَعدم في حديث ابن عباس هذا من تُرجّح روايته مرسلًا على رواية من رواه مُسندًا، كذلك فعل أبو داود، والدارقطنيّ عن طريقة لهما قد عُلمت، والصواب غيرها.

وقد يُظنّ أن جرير بن حازم منفردٌ عن أيوب بوصله بزيادة ابن عباس فيه، وليس كذلك، بل قد رواه عن أيوب كذلك زيد بن حِبَّان، ورواه أيضًا عن الثوريّ، عن أيوب بذلك. ولن تَعدم أيضًا من يظنّ به اضطرابًا في متنه، فإن لفظ الموصول: أن جارية بكرًا، ذكرت أن أباها زوّجها، وهي كارهةٌ، فخيّرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ المرسل عن عكرمة:"فردّ نكاحها"، وروي:"ففرّق بينهما".

وهذا مُجتمِعٌ، غيرُ متناقض، وإنما المعنى: فلم يُلزمها ذلك، فإنه إذا خيّرها، فقد ردّ الإلزام، وتركها لما ترى.

قال: والمتقرّر أن هناك قصّتين: قصّة خنساء، وهي كانت ثيّبًا، وقصّة هذه الجارية، وهي كانت بكرًا انتهى كلام ابن القطّان -رحمه اللَّه تعالى-

(4)

.

(1)

"أي في "الكبرى" 3/ 284 رقم 5387.

(2)

"فتح" 10/ 264.

(3)

يعني أنها قصّة أخرى، غير قصّة الخنساء.

(4)

"بيان الوهم والإيهام" 2/ 249 - 250 رقم الحديث 245.

ص: 225

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قصّة البكر ستأتي عند المصنّف في الباب التالي إن شاء اللَّه تعالى.

وقال البيهقيّ: إن ثبت الحديث في البكر حُمل على أنها زُوّجت بغير كفء. واللَّه أعلم.

قال الحافظ: وهذا الجواب هو المعتمد، فإنها واقعة عين، فلا يثبت الحكم فيها تعميمًا، وأما الطعن في الحديث، فلا معنى له، فإن طرقه يقوي بعضها بعضًا.

ولقصّة خنساء بنت خدام طريقٌ أخرى، أخرجها الدارقطنيّ، والطبرانيّ، من طريق هُشيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة:"أن خنساء بنت خدام زوّجها أبوها، وهي كارهةٌ، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فردّ نكاحها"، ولم يقل فيه: بكرًا، ولا ثيّبًا. قال الدارقطنيّ: رواه أبو عوانة، عن عمر مرسلًا، لم يذكر أبا هريرة. انتهى

(1)

.

(فَأَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّ نِكَاحَهُ) أي أبطله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث خنساء بنت خدام - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-35/ 3269 - وفي "الكبرى" 31/ 5380 و 32/ 5382 و 538. وأخرجه (خ) في "النكاح" 5139 و"الإكراه" 6945 و"الحيل" 6969 (د) في "النكاح" 2101 (ق) في "النكاح" 1873 (الموطا) في "النكاح" 1135 (الدارمي) في "النكاح" 2191 و 2192. واللَّه تعالى أعلم.

ودلالة الحديث على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، واضحة، حيث إنها تدلّ على أن تزويج الأب ابنته الثيّب، وهي كارهة مردود، وبقية فوائد الحديث تقدّمت في الأبواب الماضية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"فتح" 10/ 245 - 246.

ص: 226

‌36 - (الْبِكرُ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا، وَهِيَ كَارِهَةٌ)

3270 -

(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ غُرَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا كَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ فَتَاةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي زَوَّجَنِي ابْنَ أَخِيهِ؛ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ، وَأَنَا كَارِهَةٌ، قَالَتِ اجْلِسِي حَتَّى يَأْتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَتْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِيهَا، فَدَعَاهُ، فَجَعَلَ الأَمْرَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَعْلَمَ أَلِلنِّسَاءِ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ؟)

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زياد بن أيوب) أبو هاشم البغداديّ الطوسيّ الأصل، الملقّب "دَلّويه"، وكان يغضب منها، ولقّبه أحمد شعبة الصغير، ثقة حافظ [10] 101/ 132.

2 -

(عليّ بن غُراب) -باسم الطائر- الفزاريّ مولاهم، أبو الحسن، ويقال: أبو الوليد الكوفيّ القاضي، صدوق، وكان يدلّس، ويتشيع، وأفرط ابن حبّان في تضعيفه [8].

قال أبو حاتم: كان مروان بن معاوية قَلَبَ اسمه، فقال: عليّ بن عبد العزيز. وزعم الفلكيّ أن غُرابًا لقبٌ، وأن اسمه عبد العزيز. قال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عنه؟ فقال: ليس لي به خبرة، سمعت منه مجلسًا واحدًا كان يُدلّس، ما أُراه كان إلا صدوقًا. وقال المرْوذيّ عن أحمد: كان حديثه حديث أهل الصدق. وقال مُهنّا عن أحمد: كوفي ليس له حلاوة. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: هو المسكين صدوق. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: لم يكن به بأس، ولكنّه كان يتشيّع. وقال مرّة عنه: ثقة. وقال ابن نُمير: يعرفونه بالسماع، وله أحاديث منكرة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا بأس به. وقال أبو زرعة: حدثنا إبراهيم بن موسى عنه. وقال ابن معين: صدوق. قال: وقلت لأبي زرعة: عليّ بن غُراب أحبّ إليك، أو علي بن عاصم؟ فقال: عليّ بن غُراب هو صدوقٌ عندي، وأحبّ إليّ من عليّ بن عاصم. وقال الآجريّ عن أبي داود: ضعيف، ترك الناس حديثه. قال: وقال عيسى ابن يونس: كنّا نُسمّيه الْمُسوّديّ. قال أبو داود: وهو ضعيف، وأنا لا أكتب حديثه، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وكان يدلّس. وقال الجوزجانيّ: ساقط. قال الخطيب: أظنّه طعن عليه

ص: 227

لأجل مذهبه، فإنه كان يتشيّع، قال: وأما روايته، فقد وصفوه بالصدق. وقال الدارقطنيّ: يُعتَبر به. وقال ابن حبّان: حدّث بالأشياء الموضوعة، فبطل الاحتجاج به، وكان غاليًا في التشيع. وقال ابن عديّ: له غرائب وأفراد، وهو ممن يُكتب حديثه. وقال ابن سعد: كان صدوقًا، وفيه ضعف، وصحب يعقوب بن داود -يعني وزير المهدي- فتركه الناس. وقال الحسين بن إدريس: سألت محمد بن عبد اللَّه بن عمّار عن عليّ بن غُراب؟ فقال: كان صاحب حديث، بصيرًا به، قلت: أليس هو ضعيفًا؟ قال: إنه كان يتشيّع، ولست أنا بتارك الرواية عن رجل صاحب حديث بعد أن لا يكون كذابًا، للتشيّع، أو القدر، ولست براوٍ عن رجل لا يُبصر الحديث، ولا يعقله، ولو كان أفضل من فَتحٍ -يعني الْمَوْصِليّ-. وقال ابن قانع: كوفيّ شيعيّ ثقة. وقال ابن شاهين: قال عثمان بن أبي شيبة: ثقة. ووقع في "العلل" الدارقطنيّ بعد أن ذكر جماعةً من جملتهم عليّ بن غُراب، فوصفهم بأنهم ثقات حفّاظ. وقال الحضرميّ: مات عليّ بن غُراب، مولى الوليد بن صخر بن الوليد الفزاريّ، أبو الحسن سنة (184) بالكوفة. وقال ابن سعد مثله. روى له المصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف ثلاثة أحاديث برقم 3270 و 5161 و 5531.

3 -

(كهمس بن الحسن) أبو الحسن التميميّ البصريّ، ثقة [5] 39/ 681.

4 -

(عبد اللَّه بن بُريدة) بن الْحُصَيب، أبو سهل الأسلميّ المروزيّ القاضي، ثقة [3] 25/ 393.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنهما - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح غير علي بن غراب، كما سبق آنفًا. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي. (ومنها): أن فيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرحِ الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّ فَتَاةً) لم تُسمّ (دَخَلَتْ عَلَيْهَا) أي على عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - (فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي زَوّجَنِي ابْنَ أَخِيهِ؛ لِيَرْفَعَ بِي) أي ليزيل بإنكاحي إياه (خَسيسَتَهُ) أي دناءته. تعني أنه خسيسٌ، فأراد أن يجعله بي عزيزًا. والخسيس الدنيء، والخِسّة، والخَسَاسةُ الحالةُ يكون عليها الخسيس، يقال: رَفَعَ خسيسته، ومن

ص: 228

خَسيسته: إذا فعل به فعلًا يكون فيه رِفْعَته. قاله ابن الأثير

(1)

. وقال في "اللسان": قال الأزهريّ: يقال: رفع اللَّه خسيسةَ فلانٍ: إذا رفع حاله بعد انحطاطها انتهى

(2)

(وَأَنَا كَارِهَةٌ) جملة حاليّة من ضمير المتكلّم (قَالَتِ) عائشة لها (اجْلِسِي حَتَّى يَأْتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَتهُ) أي ما صنع أبوها بها من تزويجها من ابن أخيه، وهي كارهة (فَأَرْسَلَ) صلى الله عليه وسلم (إِلَى أَبيهَا، فَدَعَاهُ، فَجَعَلَ الأَمْرَ إِلَيْهَا) أي لها الاختيار بين البقاء مع زوجها، وبين تركها إياه (فقَالَت: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي) أي من التزيج لمن كرهته (وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَعلَمَ أَلِلنِّسَاءِ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ؟) الهمزة للاستفهام، و"للنساء" جارٌ ومجرور خبر مقدّم، لـ"شيء"، و"من الأمر" حال منه، وكان في الأصل صفة له، لكن لما قُدّم أُعرب حالًا؛ لأن القاعدة أن نعت النكرة إذا قدّم عليها يعرب حالًا.

وتعني بذلك أن مرادها في مرافعة أبيها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس إبطال النكاح، وإنما فعلت ذلك لتَعلم، وتتبيّن هل النساء لهنّ حقّ في أمر نكاحهنّ، بحيث لا يحلّ تزويجهنّ إلا برضاهنّ، أو ليس لهنّ من الأمر شيء، وإنما هو للأولياء فقط، يزوّجوهنّ كيف شاءوا، فبيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الأمر لهنّ، لا للأولياء، فلا يحلّ لهم أن يزوّجوهنّ إلا برضاهنّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح، وقد أشار المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "الكبرى" إلى تقويته، حيث قال:"قال أبو عبد الرحمن: هذا الحديث يوثّقونه" انتهى

(3)

.

[فإن قلت]: كيف يكون صحيحًا، وفيه انقطاع؛ لأن عبد اللَّه بن بُريدة لم يسمع من عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، كما قال الدارقطنيّ؟.

[قلت]: إنما صحّ لأمور:

(أحدها): أنه متّصل على طريقة الإمام مسلم -رحمه اللَّه تعالى-، وهي أن المعاصرة تكفي في الاتصال، حيث إن عبد اللَّه بن بُريدة عاصر عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - مدّة طويلة، فإنه وُلد سنة (15) من الهجرة، وماتت هي سنة (57) وقيل: بعدها.

(1)

"النهاية" 2/ 31.

(2)

"لسان العرب" في مادّة "خسس".

(3)

"السنن الكبرى" 3/ 284.

ص: 229

(الثاني): أن له شواهد:

(فمنها): حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعد هذا، وهو حديث حسنٌ، كما سيأتي، وهو الذي يظهر من صنيع المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، حيث أورده بعده تقوية له. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "أن جارية بكرًا، أنكحها أبوها، وهي كارهة، فخيّرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية:"ففرّق النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما". رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والدارقطنيّ.

وقد صححه الحافظ أبو الحسن ابن القطّان، وغاية ما عُلّل به الإرسال، قال البيهقيّ: أخطأ فيه جرير بن حازم على أيوب السختيانيّ، والمحفوظ عن أيوب، عن عكرمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وقد رواه أبو داود عن محمد بن عُبيد، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة مرسلًا. وقد رواه ابن ماجه أيضًا من حديث زيد بن حبّان، عن أيوب موصولًا، وزيد مختلف في توثيقه، قال أبو حاتم في "علله": سألت أبي عن حديث حسين، فقال: هو خطأ إنما هو كما رواه الثقات حماد بن زيد، وابن عليّة، عن أيوب، عن عكرمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وهو الصحيح، فقلت له: الوهم ممن؟ فقال: ينبغي أن يكون من حسين، فإنه لم يروه عن جرير بن حازم غيره. قال في "التنقيح": قال الخطيب البغداديّ: قد رواه سليمان بن حرب، عن جرير بن حازم أيضًا كما رواه حسين، فبرأت عهدته، ثم رواه بإسناده، قال: ورواه أيوب بن سُويد هكذا عن الثوريّ، عن أيوب موصولًا، وكذلك رواه معمر بن سليمان، عن زيد بن حِبّان، عن أيوب انتهى.

وقال أبو الحسن ابن القطّان في كتابه "بيان الوهم والإيهام": حديث ابن عباس صحيح، ولا يضرّه أن يُرسله بعض رواته، إذا أسنده من هو ثقة انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تبيّن بهذا أن حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - صحيح، فإن غاية إعلاله هو تفرّد جرير بن حازم، عن أيوب بوصله، وتفرّد حسين بن محمد، عن جرير، به.

وقد تبيّن أن جريرًا، لم ينفرد به، فقد رواه أيوب بن سُويد، عن الثوريّ عن أيوب موصولًا، وكذلك رواه معمر بن سليمان الرقّيّ، عن زيد بن حِبّان، عن أيوب موصولًا

(1)

أيضًا. وبأن حسينًا لم ينفرد به عن جرير، فقد رواه سليمان بن حرب، عن

(1)

رواه المصنف في "الكبرى" رقم 5390.

ص: 230

جرير بن حازم بوصله

(1)

.

والحاصل أن حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - صحيح موصولًا، فيؤيّد حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - المذكور في الباب.

(ومنها): ما أخرجه أحمد، والدارقطنيّ، من حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى - عنهما بإسناد رجاله ثقات، ولفظ أحمد من طريق عمر بن حسين بن عبد اللَّه، مولى آل حاطب، عن نافع، مولى عبد اللَّه بن عمر، عن عبد اللَّه بن عمر، قال: توفي عثمان بن مظعون، وترك ابنة له من خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص، قال: وأوصى إلى أخيه، قُدامة بن مظعون، قال: عبد اللَّه: وهما خالاي، قال: فمضيت إلى قدامة بن مظعون، أخطب ابنة عثمان بن مظعون، فزوجنيها، ودخل المغيرة بن شعبة- يعني إلى أمها- فأرغبها في المال، فحطت إليه، وحطت الجارية إلى هوى أمها، فأبيا، حتى ارتفع أمرهما إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال قدامة بن مظعون: يا رسول اللَّه، ابنة أخي أوصى بها إلي، فزوجتها ابن عمتها، عبد اللَّه بن عمر، فلم أُقَصِّر بها في الصلاح، ولا في الكفاءة، ولكنها امرأة، وإنما حطت إلى هوى أمها، قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هي يتيمة، ولا تُنكَح إلا بإذنها"، قال: فانتُزِعَت -واللَّه- مني بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة بن شعبة.

والحاصل أن حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - صحيح بهذه الشواهد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا تفرّد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-36/ 3270 - وفي "الكبرى" 33/ 5390. وأخرجه (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 24523. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): دلّ حديث الباب على أن البكر البالغة إذا زُوّجت بغير إذنها لم يصحّ العقد عليها، وإليه ذهب الأوزاعيّ، والثوريّ، والحنفيّة، وحكاه الترمذيّ عن أكثر أهل العلم. وخالف في ذلك مالك، والشافعيّ، والليث، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق، فقالوا: يجوز للأب أن يزوّجها بغير استئذان، ويردّ عليهم ما تقدم من الأحاديث

(2)

.

والحاصل أن المذهب الأول هو الحقّ؛ لوضوح أدلّته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

انظر "التعليق المغني على سنن الدارقطنيّ" 3/ 235.

(2)

راجع "نيل الأوطار" 6/ 130 - 131.

ص: 231

3271 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ،، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى،، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إِذْنُهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.

و"عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان. و"محمد بن عمرو" هو: ابن علقمة بن وقّاص الليثيّ المدنيّ. و"أبو سلمة": هو ابن عبد الرحمن بن عوف الفقيه المدنيّ.

وقوله: وإن أبت فلا جواز عليها" أي لا سبيل عليها، أو لا ولاية عليها، وهذا يدلّ على أنه ليس على البكر ولاية الإجبار، فاليتيمة هنا بمعنى البكر فيما تقدّم.

والحديث صحيح، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله قبل بابين، فراجعه هناك تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌37 - (الرُّخْصَةُ فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- لم يرد بالرخصة هنا ما يقابل العزيمة، بمعنى أن نكاح المحرم كان ممنوعًا، ثم رُخّص فيه، بل أراد مطلق الجواز، بدليل أنه ترجم بعده للنهي عنه، فكأنه أشار به إلى ترجيح النهي على الإباحة، كما هو المذهب الراجح في المسألة، على ما سيأتي بيانه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

3272 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَاءٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، وَيَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَفِي حَدِيثِ يَعْلَى بِسَرِفَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"محمد بن سواء": هو السدوسيّ العنبريّ، أبو الخطّاب البصريّ المكفوف، صدوق رمي بالقدر [9] 78/ 1993.

ص: 232

و"سعيد": هو ابن أبي عروبة.

و"يعلي بن حكيم" الثقفيّ مولاهم المكيّ، نزيل البصرة، ثقة [6].

قال أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به.

وقال يعقوب بن سفيان: مستقيم الحديث. وقال ابن خراش: كان صدوقًا. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله عند المصنّف في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم 37/ 3272 و 38/ 3277 وفي "المزارعة" 45/ 3896 و 3897 و 3898.

والحديث صحيح الإسناد، إلا أنه تُكُلّم فيه، كما سيأتي بيان ذلك في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في "كتاب الحجّ" -90/ 2838 - ولم يبق إلا البحث في مسألتين:

(المسألة الأولى): في أقوال أهل العلم في حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا، حيث خالف أحاديث النهي عن نكاح المحرم:

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى- في "كتاب الاستذكار" -11/ 259 - 262 - : ما حاصله: اختلفت الآثار المسندة في تزويج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ميمونة - رضي اللَّه تعالى - عنها، واختلف في ذلك أهل السير، والعلم بالأخبار، فقد أتت الآثار بأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تزوّجها حلالًا متواترةً من طرق شتّى، عن أبي رافع، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن سليمان ابن يسار، وهو مولاها، وعن يزيد بن الأصمّ، وهو ابن أختها، وهو قول سعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسار، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وابن شهاب، وجمهور علماء المدينة، يقولون: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يَنكح ميمونة إلا وهو حلالٌ، وما أعلم أحدًا من الصحابة روي عنه أنه صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة، وهو محرم إلا ابن عباس

(1)

، وحديثه بذلك صحيحٌ ثابتٌ من نكاح ميمونة، إلا أن يكون متعارضًا مع رواية غيره، فيسقط الاحتجاج بكلام الطائفتين، وتُطلب الحجة من غير قصّة ميمونة. وإذا كان كذلك، فإن عثمان بن عفّان قد روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نكاح المحرم، وقال:"لا يَنكح المحرم، ولا يُنكح"، ولا معارض له؛ لأن حديث ابن عبّاس في نكاح ميمونة قد عارضه في ذلك غيره.

ثم أخرج أبو عمر بسنده عن يزيد بن الأصمّ، قال: حدّثتني ميمونة ابنة الحارث: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تزوّجها، وهو حلالٌ"

(2)

. قال: يزيد: كانت خالتي، وخالة ابن عبّاس.

(1)

سيأتي قريبًا الردّ على هذا بأنه ثبت عن عائشة، وأبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنهما -، فتنبّه.

(2)

رواه مسلم في "صحيحه" رقم 1411. في "النكاح".

ص: 233

وروى حمّاد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مِهران، عن يزيد بن الأصمّ، عن ميمونة، قالت: تزوّجني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بسرِف، وهما حلالان بعد ما رجعا من مكّة. وذكر عبد الرزّاق، قال: أخبرني معمر، عن الزهريّ، قال: أخبرني يزيد بن الأصمّ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة حلالًا.

قال أبو عمر: قد نقل قومٌ حديث يزيد بن الأصمّ مرسلًا؛ لظاهر رواية الزهريّ، وليس كما ظهر، إلا رواية الزهريّ، فحملت للتأويل، وجاز لمن أخبرته ميمونة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّجها حلالًا أن يُخبر بأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة حلالًا، يُحدّث به هكذا وحده، يقول: حدّثتني ميمونة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -تزوّجها حلالًا.

على أنهم يلزمهم مثله في حديث ابن عبّاس: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة، وهو محرم؛ لأنه ليس فيه أن ميمونة أخبرته، وموضع ابن عبّاس من ميمونة بموضع يزيد بن الأصمّ سواء. انتهى كلام ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال في "الفتح": قال الأثرم: قلت لأحمد: إن أبا ثور يقول: بأيّ شيء يُدفَع حديث ابن عبّاس؟ -أي مع صحّته- قال: فقال: اللَّه المستعان، ابن المسيّب يقول: وَهِمَ ابن عبّاس، وميمونة تقول: تزوّجني وهو حلال انتهى.

وقد عارض حديث ابن عباس حديث عثمان: "لا ينكح المحرم، ولا يُنكح" أخرجه مسلم.

ويُجمع بينه وبين حديث ابن عبّاس يحمل حديث ابن عبّاس على أنه من خصائص النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن عبد البرّ: اختلفت الآثار في هذا الحكم، لكن الرواية أنه تزوّجها، وهو حلال، جاءت من طرق شتّى، وحديث ابن عبّاس صحيح الإسناد، لكن الوهم إلى الواحد أقرب منه إلى الجماعة، فأقلّ أحوال الخبرين أن يتعارضا، فتطلب الحجة من غيرهما، وحديث عثمان صحيح في منع نكاح المحرم، فهو المعتمد انتهى.

ومنهم من حمل حديث عثمان على الوطء. وتُعُقّب بأنه ثبت فيه: "لا يَنكِح" بفتح أوله، و"لا يُنكَح" بضمّ أوله، "ولا يخطب". ووقع في "صحيح ابن حبّان" زيادة:"ولا يُخطب عليه". ويترجح حديث عثمان بأنه تقعيد قاعدة، وحديث ابن عبّاس واقعة عين، تحمل أنواعًا من الاحتمالات:

[فمنها]: أن ابن عبّاس كان يرى أن من قلّد الهدي يصير محرمًا، كما تقدّم تقرير ذلك

(1)

"الاستذكار" 11/ 259 - 262.

ص: 234

في "الحجّ"، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قلّد الهدي في عمرته تلك التي تزوّج فيها ميمونة، فيكون إطلاقه أنه صلى الله عليه وسلم تزوّجها، وهو محرمٌ، أي عقد عليها بعد أن قلّد الهدي، وإن لم يكن تلبّس بالإحرام، وذلك أنه كان أرسل إليها أبا رافع يخطبها، فجعلت أمرها إلى العبّاس، فزوّجها من النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقد أخرج الترمذيّ، وابن خزيمة، وابن حبّان في "صحيحيهما" من طريق مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة، وهو حلالٌ، وبنى بها، وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما". قال الترمذيّ: لا نعلم أحدًا أسنده غير حماد بن زيد، عن مطر. ورواه مالك، عن ربيعة، عن سليمان، مرسلًا.

[ومنها]: أن قول ابن عباس تزوّج ميمونة، وهو محرم، أي داخل الحرام، أو في الشهر الحرام، قال الأعشى [من الرمل]:

قَتَلُوا كِسْرَى بِلَيْلٍ مُحْرِمًا

غَادَرُوهُ لَمْ يُمَتَّعْ بِكَفَنْ

أي في الشهر الحرام. وقال آخر [من الكامل]:

قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الخَلِيفَةَ مُحْرِمًا

وَدَعَا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَقْتُولَا

أي في البلد الحرام. وإلى هذا التأويل جنح ابن حبّان، فجزم به في "صحيحه".

وعارض حديثَ ابن عباس أيضًا حديثُ يزيد بن الأصمّ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة، وهو حلالٌ". أخرجه مسلم من طريق الزهريّ، قال:"وكانت خالته، كما كانت خالة ابن عباس". وأخرج مسلم من وجه آخر عن يزيد بن الأصمّ، قال:"حدّثتني ميمونة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تزوّجها، وهو حلال، قال: وكانت خالتي، وخالة ابن عبّاس".

وأما أثر ابن المسيّب الذي أشار إليه أحمد، فأخرجه أبو داود. وأخرج البيهقيّ من طريق الأوزاعيّ، عن عطاء، عن ابن عبّاس

الحديث، قال: وقال سعيد بن المسيّب: ذَهِلَ ابنُ عباس، وإن كانت خالته، ما تزوّجها إلا بعد ما أحلّ.

قال الطبريّ: الصواب من القول عندنا أن نكاح المحرم فاسدٌ؛ لصحّة حديث عثمان رضي الله عنه. وأما قصّة ميمونة، فتعارضت الأخبار فيها، ثم ساق من طريق أيوب، قال: أُنبئت أن الاختلاف في زواج ميمونة إنما وقع لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان بعث إلى العبّاس ليُنكحها إياه، فأنكحه، فقال بعضهم: أنكحها قبل أن يُحرم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: بعد ما أحرم، وقد ثبت أن عمر، وعليًّا، وغيرهما من الصحابة فرّقوا بين محرم نكح، وبين امرأته، ولا يكون هذا إلا عن ثبت. انتهى.

ص: 235

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تلخّص مما تقدّم أن حديث كونه صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وهما حلالان أرجح من حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أنه صلى الله عليه وسلم تزوّجها، وهما محرمان؛ لموافقته لحديث عثمان رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا يَنكح المحرم، ولا يُنكح"، وأما حديث ابن عبّاس، فقابل للتأويلات المذكورة، فلا يُعارض الأول. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - قد جاء مثله صحيحًاعن عائشة، وأبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنهما -، فأما حديث عائشة، فأخرجه النسائيّ من طريق أبي سلمة عنها، وأخرجه الطحاويّ، والبزار، من طريق مسروق عنها، وصححه ابن حبّان، وأكثر ما أُعلّ بالإرسال، وليس ذلك بقادح فيه. وقال النسائيّ

(1)

: "أخبرنا عمرو بن عليّ، أنبأنا أبو عاصم، عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة مثله"، قال عمرو بن عليّ: قلت لأبي عاصم: أنت أمليت علينا من الرقعة ليس فيه عائشة، فقال: دع عائشة، حتى انظر فيه، وهذا إسناد صحيح، لولا هذه القصّة، لكن هو شاهد قويّ أيضًا.

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فأخرجه الدارقطنيّ، وفي إسناده كاملٌ أبو العلاء، وفيه ضعف، لكنه يَعتضد بحديثي ابن عباس وعائشة.

قال: وفيه ردّ على قول ابن عبد البرّ: إن ابن عبّاس تفرّد من بين الصحابة بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج، وهو محرم.

قال: وجاء عن الشعبيّ، ومجاهد مرسلًا مثله، أخرجهما ابن أبي شيبة.

وأخرج الطحاويّ من طريق عبد اللَّه بن محمد بن أبي بكر، قال: سألت أنسًا عن نكاح المحرم؟ فقال: لا بأس به، وهل هو إلا كالبيع، وإسناده قويّ. لكنه في مقابلة النص، فلا عبرة به، وكان أنسًا لم يبلغه حديث عثمان رضي الله عنه. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في ردّ الحافظ على ابن عبد البرّ نظر لا يخفى؛ إذ مراده ما صحّ في ذلك، وحديث عائشة، وأبي هريرة ضعيفان، كما يظهر مما ذُكر آنفًا، فكيف يُردّ عليه بالضعيف؟. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[المسألة الثانية]: في اختلاف أهل العلم في حكم تزويج المحرم:

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف الفقهاء في نكاح المحرم: فقال مالكٌ، والشافعيّ، وأصحابهما، والليث، والأوزاعيّ: لا يَنكح المحرم، ولا يُنكح،

(1)

أي في "الكبرى" 3/ 289.

(2)

"فتح" 10/ 207 - 208.

ص: 236

فإن فعل فالنكاح باطلٌ. وهو قول عمر بن الخطّاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن عمر، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيّب، وسالم بن عبد اللَّه، وسُليمان بن يسار. وبه قال أحمد بن حنبل. قال أحمد: ذهب فيه إلى حديث عثمان، وقال: رُوي عن عمر، وعلي، وزيد بن ثابت أنهم فرَّقوا بينهما.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه، وسفيان الثوريّ: لا بأس بأن ينكح المحرم، وأن يُنكح. وهو قول القاسم بن محمد، وإبراهيم النخعيّ. ذكر عبد الرزّاق، قال: أخبرنا محمد بن مسلم الطائفيّ، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه أنه لم ير بنكاح المحرم بأسًا. قال: وأخبرني الثوريّ، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: يتزوّج المحرم إن شاء، لا بأس به. قال عبد الرزّاق: وقال الثوريّ: لا يُلتفت إلى أهل المدينة، حجة الكوفيين

في جواز نكاح المحرم حديث ابن عبّاس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة، وهو محرم. رواه جماعة من أصحابه، منهم عطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وجابر بن زيد، أبو الشعثاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير. وروى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: حديث ابن شهاب، عن جابر بن زيد، عن ابن عبّاس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة، وهو محرم. فقال ابن شهاب: حدثني يزيد بن الأصمّ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة

"، قال عمرو: فقلت لابن شهاب: أتجعل حفظ ابن عباس كحفظ أعرابيّ يبول على فخذيه؟

(1)

.

قال أبو عمر: قد ذكرنا حجة الحجازيين القائلين بأن نكاح المحرم لا يجوز؛ لحديث عثمان رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نكاح المحرم، وأن عمر بن الخطّاب فرّق بين من نكح وبين امرأته، والفُرقة لا تكون في هذا إلا عن بصيرة مستحكمة، وذكرنا جماعة الأئمة القائلين من أهل المدينة، وليس مع العراقيين في هذا حجة إلا حديث ابن عباس في قصّة، قد خالفه فيها غيره بما تقدّم ذكره.

قال: واختلف أهل السير في تزويج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر موسى بن عقبة، عن ابن شهاب أنه تزوّجها حلالًا. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنّى: تزوّجها، وهو محرمٌ،

(1)

قال البيهقي في "معرفة السنن والآثار" -4/ 36 - : هذا الذي ذكره عمرو بن دينار لا يوجب طعنًا في روايته، ولو كان مطعونًا في الرواية لما احتجّ به ابن شهاب الزهريّ، وإنما قصد عمرو بن دينار بما قال ترجيح رواية ابن عباس على رواية يزيد بن الأصمّ، والترجيح يقع بما قال عمرو، ولو كان يزيد يقوله مرسلًا كما كان ابن عباس يقوله مرسلًا، إذ لم يشهد عمرو القصّة، كما لم يشهدها يزيد بن الأصمّ، إلا أن يزيد إنما رواه عن ميمونة، وهي صاحبة الأمر، وهي أعلم بأمرها من غيرها انتهى.

ص: 237

والأول أصحّ -إن شاء اللَّه- والحجة في ذلك حديث عثمان رضي الله عنه. والحمد للَّه انتهى كلام ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى- ببعض اختصار

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي رجحه الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى- من كون النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة - رضي اللَّه تعالى عنها -وهو حلال هو الحقّ؛ لقوة دليله، كما تقدّم.

والحاصل أن الأرجح القول بتحريم نكاح المحرم، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3273 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن منصور": هو الجوّاز المكيّ الثقة. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"عمرو": هو ابن دينار. و"أبو الشعثاء": هو جابر بن زيد البصريّ الثقة الفقيه.

والحديث صحيح الإسناد، كما سبق بيانه في الحديث الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهوحسبنا، ونعم الوكيل.

3274 -

(أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَكَحَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ، فَأَنْكَحَهَا إِيَّاهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عثمان بن عبد اللَّه": هو أبو عمرو البصريّ، نزيل أنطاكية، ثقة، من صغار [11] 112/ 155. من أفراد المصنّف.

و"إبراهيم بن الحجاج" بن زيد الساميّ -بالمهملة- الناجيّ، أبو إسحاق البصريّ، ثقة يَهِم قليلًا [10].

قال الدارقطنيّ في، "الجرح والتعديل": ثقة. وقال ابن قانع: صالح. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات سنة (231) أو سنة (2) وقال موسى بن هارون: مات سنة (233). وهو من أفراد المصنّف، وله عنده في هذا الكتاب أربعة أحاديث برقم -37/ 3274 و 43/ 5177 و 40/ 5654 و 48/ 5679.

و"وهيب": هو ابن خالد البصريّ الحافظ. والحديث صحيح الإسناد، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"الاستذكار" 11/ 262 - 265.

ص: 238

3275 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ -وَهُوَ ابْنُ مُوسَى- عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن نصر": هو أبو عبد اللَّه بن أبي جعفر النيسابوريّ الزاهد المقرئ الفقيه الحافظ الثقة [11] 60/ 1782. من أفراد المصنّف، والترمذيّ. و"عبيد اللَّه بن موسى": هو ابن أبي المختار باذام، أبو محمد العبسيّ الكوفيّ الثقة، وكان يتشيّع [9] 72/ 1326. والحديث صحيح الإسناد، وقد سبق البحث عنه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌38 - (النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الْمُحْرِم)

3276 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ

وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ، أَنَّ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، رضي الله عنه، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، فتفرد به هو وأبو داود، و"هارون بن عبد اللَّه": هو أبو موسى الحمّال البغداديّ الحافظ. و"معن": هو ابن عيسى القزّاز المدنيّ الثبت. و"مالك": هو ابن أنس إمام دار الهجرة. و"ابن القاسم": هو عبد الرحمن الْعُتقيّ المصريّ الفقيه، صاحب مالك. و"نُبيه بن وهب": هو العبدريّ المدنيّ الثقة. و"نافع": هو مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه الثبت.

وقوله: "لا ينكح" بفتح أوله، "ولا" في المواضع الثلاثة يحتمل أن تكون ناهية، والفعل مجزوم، ويحتمل أن تكون نافية، والفعل مرفوع، والنفي بمعنى النهي، وهو أبلغ.

ومعنى "لا ينكح": أي لا يعقد لنفسه. وقوله: "لا يُنكح" بضم أوله: أي لا يعقد لغيره، وقوله:"ولا يخطب" من باب نصر، من الْخِطْبة، بكسر المعجمة، وهذا يبطل تأويل من أوّل النكاح في الحديث بالجماع، كما تقدّم.

وفيه تحريم الْخِطبة في حالة الإحرام. وأما ما قاله في شرح السيوطيّ من أن النهي نهي تنزيه، وليس بحرام، ففيه نظر لا يخفى، فأين الدليل على صرفه إلى التنزيه؟. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 239

والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم في -91/ 2843 - وتقدّم هناك شرحه مستوفىً، وكذا بيان مسائله، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3277 -

حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ مَطَرٍ، وَيَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ نَافِعٍ،، عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، رضي الله عنه، حَدَّثَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:«لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح.

"أبو الأشعث": هو أحمد بن المقدام العجليّ البصريّ، صدوق [10] 138/ 319.

و"سعيد": هو ابن أبي عروبة. و"مطر": هو ابن طهمان الورّاق البصريّ. و"يعلي بن حكيم" تقدّم في الباب الماضي. و"نافع": هو مولى ابن عمر.

وقوله: "يعلي بن حكيم" بالجرّ عطفًا على "مطر"، فسعيد يروي عنهما، وكلاهما يرويان عن نُبيه بن وهب الخ.

[تنبيه]: سقط من نسخ "المجتبى" المطبوعة ذكر "نافع" من هذا السند، وهو خطأ فاحشٌ، والصواب إثباته، كما في النسخة "الهندية" 2/ 78 وكذا هو في "تحفة الأشراف" 7/ 243، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق تمام البحث فيه في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌39 - (بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الْكَلَامِ عِنْدَ النِّكَاحِ)

قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: أراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بالكلام هنا ما يتقدّم عقد النكاح من الخطبة المذكورة في الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3278 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ، وَالتَّشَهُّدَ فِي

ص: 240

الْحَاجَةِ، قَالَ: التَّشَهُّدُ فِي الْحَاجَةِ: «أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث تقدّم في "الصلاة" -24/ 1404 - ورجال إسناده كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة. و"عَبْثَر": هو ابن القاسم الزُّبيديّ، أبو زُبيد الكوفيّ، ثقة [8] 190/ 1164. و"أبو إسحاق": هو عمرو بن عبد اللَّه الهمدانيّ الكوفيّ ثقة عابد [3] 38/ 42. و"أبو الأحوص": هو عوف بن مالك بن نَضْلَة الْجُشميّ الكوفيّ، ثقة [3] 50/ 849. و"عبد اللَّه": هو ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -.

وقوله: "التشهّد في الحاجة" أي أيّ حاجة كانت، فقد أخرج أبو داود في "سننه" من طريق سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي عُبيدة، عن عبد اللَّه:"في خطبة الحاجة، في النكاح وغيره".

ولذلك قال الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-: الخطبة سنةٌ في أول العقود، مثل البيع، والنكاح، وغيرهما انتهى.

وقوله: "ويقرأ ثلاث آيات"، وهي:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70].

والحديث صحيح، وقد تقدّم شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله بالرقم المذكور، فراجعه، تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3279 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلاً كَلَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ، فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائيّ، ثقة ثبتٌ [11] 108/ 147. من أفراد المصنّف.

ص: 241

2 -

(محمد بن عيسى) بن نَجِيح أبو جعفر ابن الطبّاع البغداديّ، نزيل أَذَنَةَ

(1)

ثقة فقيهٌ [10].

قال الأثرم، عن أحمد: إن ابن الطبّاع لبيب كيّس. قال: وسمعت أبا عبد اللَّه ذكر حديث هُشيم، عن ابن شُبْرُمة، عن الشعبيّ في الذي يصوم في كفّارة، ثم يُوسر، فقال: لا أراه سمعه، قيل له: فإن أبا جعفر محمد بن عيسى يقول فيه: أخبرنا ابن شُبرُمة، قال: فتعجّب، فقلت له: ألا إن أبا جعفر عالمٌ بهذا؟ قال: نعم. وقال البخاريّ: سمعت عليًّا قال: سمعت يحيى، وعبد الرحمن يسألان محمد بن عيسى عن حديث هُشيم، وما أعلم أحدًا أعلم به منه. وقال أبو حاتم: سمعت محمد بن عيسى يقول: اختَلَفَ عبد الرحمن بن مهديّ، وأبو داود في حديث لِهُشيم، فتراضيا بي. وقال أبو حاتم أيضًا: حدثنا محمد بن عيسى ابن الطبّاع الثقة المأمون، ما رأيت من المحدثين أحفظ للأبواب منه. قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن محمد، وإسحاق ابني عيسى ابن الطبّاع؟ فقال: محمد أحبّ إليّ، وقال: إسحاق أجلّ، ومحمد أتقن. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي قال: قلت لأحمد: عمن أكتب المصنّفات؟ قال: عن ابن الطبّاع، وإبراهيم بن موسى، وأبي بكر بن أبي شيبة.

وقال أبو داود: سمعت محمد بن بكّار يقول: محمد بن عيسى أفضل من إسحاق. وقال أبو داود: محمد بن عيسى كان يتفقه، وكان يحفظ نحوًا من أربعين ألف حديث، وكان ربّما دلّس. وقال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: من أعلم الناس بحديث هُشيم، مات بالثَّغْر. وقال البخاريّ: مات سنة (224) وكان مولده سنة (150).

علّق عنه البخاريّ، وأخرج له أبو داود، والترمذيّ في "الشمائل"، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب خمسة أحاديث: -39/ 3279 و"تحريم الدم" 5/ 4019 و"البيوع" 77/ 4639 و"الزينة" 16/ 5080 و 79/ 5284.

3 -

(يحيى بن زكريا بن أبي زائدة) أبو سعيد الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة متقنٌ، من كبار [9] 144/ 226.

4 -

(داود) بن أبي هند القشيريّ البصريّ، ثقة متقنٌ، كان يَهِم بآخره [5] 21/ 538.

5 -

(عمرو بن سعيد) القرشيّ، ويقال: الثقفيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة [5].

قال الدُّوريّ، عن ابن معين: مشهور. وقال ابن الجنيد، عن ابن معين: شيخٌ

(1)

قال في "القاموس": وأَذَنَةُ محرّكةٌ بلد قرب طَرَسُوس، وجبل قرب مكة انتهى. قلت: الظاهر أن المراد هنا الأول. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 242

بصري. وقال ابن سعد، والنسائيّ: ثقة. وقال العجليّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون. وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث:- 39/ 3279 و"الخيل" 7/ 3573 و"البيعة " 6/ 4158.

6 -

(سعيد بن جبير) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 28/ 436.

7 -

(ابن عباس) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، ومحمد بن عيسى علّق عنه البخاريّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: داود، عن عمرو بن سعيد، عن سعيد ابن جبير، ورواية داود عن عمرو من رواية الأقران، وفيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - حبر الأمة وبحرها، واحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَجُلًا) هو ضماد -بكسر الضاد المعجمة، آخره دالٌ مهملة- الأزديّ، من أزد شنوءة (كَلَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ) هو أنه طلب منه صلى الله عليه وسلم أن يرقيه مما يصفه به سفهاء مكّة من أن به جنونًا، كما أخرج ذلك مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه"، مطوّلًا من طريق عبد الأعلى، عن داود، عن عمرو بن سعيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن ضمادا قَدِمَ مكةَ، وكان من أزد شنوءة، وكان يَرقِي من هذه الرِّيح، فسمع سفهاءَ من أهل مكة، يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل، لعل اللَّه يَشفِيه على يدي، قال: فلقيه، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح، وإن اللَّه يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد"، قال: فقال: أعِدْ عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر، قال: فقال: هات يدك، أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"وعلى قومك"، قال: وعلى قومي، قال: فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سَرِيّة، فمرّوا بقومه، فقال صاحب السرية

ص: 243

للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئًا، فقال رجل من القوم: أصبتُ منهم مِطْهَرة، فقال: ردوها، فإن هؤلاء قوم ضماد.

(فَقَالَ: النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْحَمْدَ) أي الثناء الجميل (لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ) أي في جميع الأمور (مَنْ يهَدِهِ اللَّهُ) بإثبات ضمير النصب: أي من يوفّقه اللَّه تعالى لاتباع طريق الحقّ (فَلَا مُضِلَّ لَهُ) أي من شيطان، أو نفس، أو غيرهما (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ) بحذف ضمير النصب (فَلَا هَادِيَ لَهُ) أي لا أحدَ يهَديه إلى الحقّ، لا من جهة العقل، ولا من جهة النقل، ولا من جهة أحد من الخلق (وَأَشْهَدُ) أي أعلم، وأتيقّن، وأعترف (أَنْ لًا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) تقدّم معنى الشهادتين في "كتاب الأذان" مستوفىً (أَمَّا بَعْدُ) أي أما بعد ما ذُكر من الحمد، وما بعده. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-39/ 3279 - وفي "الكبرى" 74/ 5527. وأخرجه (م) في "الجمعة" 868 (ق) في "النكاح" 1893 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 2744 و 3265. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما يستحبّ أن يقال في خطبة النكاح. (ومنها): أن هذه الخطبة نحو خطبة الحاجة المذكورة في حديث عبد اللَّه ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - التي تقدمت في "كتاب الصلاة". (ومنها): أن فيه استحباب اشتمال الخطبة على الحمد، والثناء والشهادتين. (ومنها): أن فيه استحباب قول "أما بعد" في خطب الوعظ، والجمعة، والعيدين، وغيرها، وكذا في خطب الكتب المصنّفة، وقد عقد الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- بابًا في "صحيحه" وذكر فيه جملة من الأحاديث فيها قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أما بعد".

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: واختلف العلماء في أول من تكلّم به، فقيل: داود عليه السلام. وقيل: يعرب بن قحطان. وقيل: قُسّ بن ساعدة. وقال بعض المفسّرين، أو كثير منهم: إنه فصل الخطاب الذي أوتيه داود- عليه السلام. وقال المحقّقون: فصل الخطاب

ص: 244

الفصل بين الحقّ والباطل انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌40 - (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْخُطْبَةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الخُطبة" هنا بضمّ الخاء المعجمة، من خطب، من باب قتل: إذا تكلّم في الموعظة. قال الفيّوميّ: يقال في الموعظة: خطَبَ القومَ، وعليهم، من باب قتل خُطْبةً -بالضمّ، وهي فُعلة بمعنى مفعولة، نحو نُسخةٍ بمعنى منسوخةٍ، وجمعها خُطب، مثلُ غُرْفة وغُرَف، فهو خطيب، والجمع الخطباء، وهو خطيب القوم: إذا كان هو المتكلّم عنهم انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3280 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: تَشَهَّدَ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا، فَقَدْ غَوَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن منصور) بن بَهْرَام الكوسج، أبو يعقوب المروزيّ، ثقة ثبت [11] 72/ 88.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ بن حسان البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 42/ 49.

3 -

(سفبان) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ، ثقة ثبت إمام حجة [7] 33/ 37.

4 -

(عبد العزيز) بن رُفيع، أبو عبد اللَّه المكيّ، نزيل الكوفة، ثقة [4] 190/ 2997.

5 -

(تميم بن طرَفة) -بفتح الطاء، والراء، والفاء-: هو الْمُسْليّ -بضم الميم، فسكون المهملة- الكوفيّ، ثقة [3] 28/ 816.

6 -

(عديّ بن حاتم) بن عبد اللَّه بن سعد بن الْحَشْرَج -بفتح المهملة، وسكون المعجمة، آخره جيم- الطائيّ، أبو طَرِيف -بفتح المهملة، وآخره فاء- الصحابيّ

(1)

"شرح النوويّ" 6/ 394.

ص: 245

الشهير، كان ممن ثبت على الإسلام في الرّدّة، وحَضَرَ فُتوح العراق، وحروب عليّ، مات - رضي اللَّه تعالى عنه - سنة (68) وهو ابن (120) سنة، وقيل:(80) سنة. تقدّمت ترجمته في 29/ 2169 - . واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من سفيان، وإسحاقُ مروزيّ، وعبدُ الرحمن بصريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: تَشَهَّدَ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَن يُطِع اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ رَشِدَ) بفتح الشين المعجمة على المشهور الموافق لقوله تعالى:{لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} ، إذ المضارع بالضمّ لا يكون للماضي بالكسر، ولذلك لَمّا قرأ شهاب الدين الموصلي في مجلس الحافظ الْمِزيّ رَشِدَ - بالكسر- ردّ عليه الشيخ بقوله تعالى:{لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} . أو بالكسر، ذكره سيبويه في "كتابه"، وهو الموافق لقوله تعالى:{فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} -بفتحتين- فإن فَعَلًا - بفتحتين- مصدر فَعِلَ -بكسر العين- كفرِحَ فَرَحًا، وسَخِطَ سَخَطًا، ولذلك ردّ الشيخ عليه بقوله تعالى:{فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} . وأنت لو تأمّلت وجدت بكلام المِزّيّ والموصِلِيّ موقعًا عظيمًا، ودلالةً باهرةٌ على فطانتهما. ذكره السنديّ

(1)

.

وقال الفيّوميّ: الرُّشدُ: الصلاحُ، وهو خلاف الغيّ والضلال، وهو إصابة الصواب، ورَشِدَ، من باب تَعِبَ، ورَشَدَ يَرْشُدُ، من باب قَتَلَ، فهو راشدٌ، والاسم الرَّشَاد انتهى.

(وَمَنْ يَعْصِهِمَا، فَقَدْ غَوَى) بفتح الواو، وقيل: بكسرها أيضًا، وضَعَّفُوه، وقال القاضي عياضٌ: وقع في روايةِ مسلم بفتح الواو، وكسرها، والصواب الفتح، وهو من الغَيّ، وهو الانهماك في الشرّ انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ: غَوَى غيًّا، من باب ضرب: انهمك في الجهل، وهو خلافُ الرُّشْد، والاسم الْغَوَاية بالفتح انتهى.

وفي "القاموس" و"شرحه": وغَوَى الرجلُ يَغْوِي غَيًّا، وغَوَايةَ بالفتح، ولا يكسر، هذه هي اللغة الفصيحة المعروفة، واقتصر عليها الجوهريّ. قال أبو عبيد: وبعضهم

(1)

"شرح السنديّ" 6/ 90.

(2)

"إكمال المعلم" 3/ 276.

ص: 246

يقول: غَوِيَ يَغوَى، كرَضِيَ غَوًى، وليست بالمعروفة: ضلّ، وخاب، وقال الأزهريّ: أي فسد. وقال ابن الأثير: الغيّ: الضلال، والانهماك في الباطل. وقال الراغب: الغَيّ جَهْلٌ من اعتقاد فاسد، وذلك لأن الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد اعتقادًا، لا صالحًا، ولا فاسدًا، وهذا النحو الثاني، يقال له: غيّ، وأنشد الأصمعيّ للمرقّش [من الطويل]:

فَمَنْ يَلْقَ خَيرًا يَحمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ

وَمَنْ يَغْوَ لًا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيّ لًا ئِمَا

وقال دُريد بن الصّمّة [من الطويل]:

وَهَلْ أَنَا إلاَّ مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ

غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أُرْشَدِ

انتهى ما في "القاموس"، وشرحه "تاج العروس" ببعض تصرّف

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ) زاد في رواية مسلم من طريق وكيع، عن سفيان:"قل: ومن يَعص اللَّه ورسوله". قيل: إنما أنكر عليه التشريك في الضمير المقتضي لتوهّم التسوية. وتُعُقّب بأنه ورد في كلامه صلى الله عليه وسلم، فالوجه أن التشريك لي الضمير يُخلّ بالتعظيم الواجب، ويوهم التشريك بالنظر إلى بعض المتكلّمين، وبعض السائلين، فيختلف حكمه بالنظر إلى المتكلّمين والسامعين. وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عديّ بن حاتم - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-40/ 3280 - وفي "الكبرى" 75/ 5530. وأخرجه (م) في "الجمعة" 870 (د) في "الصلاة" 1099 و"الأدب" 4981 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 17783 و 18892. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما يُكره للخطيب أن يقوله في خُطبته، وذلك أنه لا يجمع بين اللَّه ورسوله في ضمير واحد، وسيأتي ما قاله أهل العلم في سبب إنكاره صلى الله عليه وسلم على الخطيب قوله في المسألة التالية. (ومنها): بيان جواز

(1)

"القاموس"، وشرحه "تاج العروس" 10/ 273.

ص: 247

الخطبة أمام النبيّ صلى الله عليه وسلم بإذنه، وأن قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية محمول على التقدّم بغير إذنه. واللَّه تعالى أعلم. (ومنها): مشروعيّة إنكار المنكر لمن كان أهلًا للإنكار، وذلك بأن يعرف كونه منكرًا، ويقدر على إزالته بحسب مراتب الإزالة المبيّنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا، فليُغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في ذكر ما قاله أهل العلم في إنكاره صلى الله عليه وسلم على الخطيب المذكور: قال أبو العباس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ظاهره أنه أنكر عليه جمعَ اسم اللَّه، واسم رسوله صلى الله عليه وسلم في ضمير واحد.

ويُعارضه: ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب، فقال في خطبته:"من يُطع اللَّه ورسوله، فقد رَشَد، ومن يَعصهما، فإنه لا يضرّ إلا نفسه". وفي حديث أنس رضي الله عنه: "ومن يعصهما فقد غَوَى"، وهما صحيحان.

ويُعارضه أيضًا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، فجمع بين ضمير اسم اللَّه وملائكته، ولهذه المعارضة صَرَفَ بعضُ القرّاء هذا الذّمّ إلى أن ذلك الخطيب وقف على:"ومن يعصهما". وهذا تأويل لم تساعده الرواية" فإن الرواية الصحيحة أنه أتى باللفظين في مساق واحد، وأن آخر كلامه إنما هو: "فقد غوى"، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم ردّ عليه، وعلّمه صواب ما أخلّ به، فقال: "قل: ومن يَعص اللَّه ورسوله، فقد غَوَى"، فظهر أن ذمّه له إنما كان على الجمع بين الاسمين في الضمير، وحينئذ يتوجّه الإشكال، ونتخلّص عنه من أوجه:

[أحدها]: أن المتكلّم لا يدخل تحت خطاب نفسه إذا وجّهه لغيره، فقوله صلى الله عليه وسلم:"بئس الخطيب أنت" منصرفٌ لغير النبيّ صلى الله عليه وسلم لفظًا ومعنًى.

[وثانيهما]: أن إنكاره صلى الله عليه وسلم على ذلك الخطيب يحتمل أن يكون كأن هناك من يتوهّم التسوية من جمعهما في الضمير الواحد، فمنع ذلك لأجله، وحيث عُدِمَ ذلك جاز الإطلاق.

[وثالثها]: أن ذلك الجمع تشريفٌ، وللَّه تعالى أن يشرِّفَ من شاء بما شاء، ويمنع من مثل ذلك للغير، كما قد أقسم بكثير من المخلوقات، ومنعنا من القسم بها، فقال عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، وكذلك أَذِنَ لنبيّه صلى الله عليه وسلم في إطلاق مثل ذلك، ومنع منه الغير على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم.

ص: 248

[ورابعها]: أن العمل بخبر المنع أولى؛ لأوجه: لأنه تقعيد قاعدة، والخبر الآخر يحتمل الخصوص، كما قرّرناه، ولأن هذا الخبر ناقلٌ، والآخر مُبْقٍ على الأصل، فكان الأول أولى، ولأنه قولٌ، والثاني فِعْلٌ، فكان أولى. واللَّه أعلم انتهى كلام القرطبيّ رحمه اللَّه تعالى

(1)

.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: قال القاضي، وجماعة من العلماء: إنما أنكر عليه لتشريكه في الضمير المقتضي للتسوية، وأمره بالعطف تعظيمًا للَّه تعالى بتقديم اسمه، كما قال حبيب في الحديث الآخر:"لا يقل أحدكم ما شاء اللَّه، وشاء فلان، ولكن ليقل: ما شاء اللَّه، ثم شاء فلان".

والصواب أن سبب النهي، أن الْخُطَب شأنها البسط والإيضاح، واجتناب الإشارات والرموز، ولهذا ثبت في "الصحيح":"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلّم بكلمة أعادها ثلاثًا؛ لِتُفْهَمَ".

وأما قول الأولين، فيضعف بأشياء، منها: أن مثل هذا الضمير قد تكرَّر في الأحاديث الصحيحة من كلام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم:"أن يكون اللَّه ورسوله أحبّ إليه مما سواهما"، وغيره من الأحاديث، وإنما ثنى الضمير ههنا؛ لأنه ليس خطبة وعظ، وإنما هو تعليم حكم، فكلّما قلّ لفظه كان أقرب إلى حفظه بخلاف خطبة الوعظ، فإنه ليس المراد حفظه، وإنما يُراد الاتعاظ بها.

ومما يؤيّد هذا ما ثبت في "سنن أبي داود" بإسناد صحيح، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: علّمنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: "الحمد للَّه، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، من يهد اللَّه، فلا مُضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا، بين يدي الساعة، من يطع اللَّه ورسوله، فقد رشد، ومن يعصهما، فإنه لا يضرّ إلا نفسه، ولا يضرّ اللَّه شيئًا". واللَّه أعلم انتهى كلام النوويّ

(2)

.

وقال الشيخ عزّ الدين من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه كان يجوز له الجمع في الضمير بينه وبين ربّه تعالى، وذلك ممتنع على غيره، قال: وإنما يمتنع من غيره، دونه لأن غيره إذا جمع أوهم إطلاقه التسوية، بخلافه هو، فإن منصبه لا يتطرّق إليه إيهام ذلك. انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الشيخ عزّ الدين -رحمه اللَّه تعالى- يعكُر

(1)

"المفهم" ج2/ 510 - 512.

(2)

"شرح النوويّ" 6/ 397.

(3)

راجع "زهر الربى" 6/ 92.

ص: 249

عليه حديث أبي داود الذي قبله، حيث علّم صلى الله عليه وسلم غيره أن يقولوا:"ومن يعصهما"، فدلّ على أنه ليس مخصوصًا به، فالأولى عندي ما رجحه النوويّ، من أن سبب النهي كون الخطب محلّ بسط وإيضاح، لا إشارة وإيجاز، فتأمّل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب.

‌41 - (بَابُ الْكَلَامِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يرى ترجيح قول من قال: إن النكاح لا ينعقد إلا بلفظ النكاح، حيث أورد حديث الباب بلفظ: أنكحتكها"، وهو مذهب الشافعيّة، والحنابلة، وزادوا لفظ التزويج، لكن الراجح جوازه بكلّ ما تعارف الناس عليه، وقد تقدّم تحقيق ذلك بأدلته في المسألة الثالثة عشرة من الباب الأول رقم الحديث (3201) مستوفًى، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق ..

3281 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، يَقُولُ: إِنِّي لَفِي الْقَوْمِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ، فَرَأْ فِيهَا رَأْيَكَ، فَسَكَتَ، فَلَمْ يُجِبْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ، ثُمَّ قَامَتْ، فَقَالَتْ

(1)

: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ، فَرَأْ فِيهَا رَأْيَكَ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ؟» ، قَالَ: لَا، قَالَ: «اذْهَبْ

(2)

، فَاطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» ، فَذَهَبَ، فَطَلَبَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ شَيْئًا، وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، قَالَ:«هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ» ، قَالَ: نَعَمْ، مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، قَالَ:«قَدْ أَنْكَحْتُكَهَا عَلَى مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن منصور": هو الجَوّاز المكيّ. و"سفيان": هو ابن عُيينة. و"أبو حازم": هو سلمة بن دينار التمّار الأعرج الزاهد المدنيّ.

وهذا الإسناد من رباعيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أعلى الأسانيد له، وهو

(1)

ووقع في نسخة: "فقال" بدون تاء التأنيث، وهو خطأ.

(2)

وفي نسخة: "فاذهب".

ص: 250

(166)

من رباعيات الكتاب.

والحديث صحيح، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في - 1/ 3201 - واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌42 - (الشُّروطُ فِي النِّكَاحِ)

3282 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ، مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عيسى بن حماد) بن مسلم التجيبيّ، أبو موسى المصريّ المعروف بـ"زُغْبة"، ثقة [10] 135/ 211.

2 -

(الليث) بن سعد الإمام المصريّ الثقة الثبت الفقيه [7] 31/ 35.

3 -

(يزيد بن أبي حبيب) سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقة فقيه يرسل [5] 132/ 207.

4 -

(أبو الخير) مَرْثد بن عبد اللَّه الْيَزَنيّ المصريّ، ثقة فقيه [3] 38/ 582.

5 -

(عقبة بن عامر) الجُهنيّ الصحابيّ الشهير، ولي إمرة مصر لمعاوية - رضي اللَّه تعالى عنهما - ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، مات في قرب الستّين، تقدمت ترجمته في 108/ 144. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي: يزيد عن أبي الخيير. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ) بالبناء للمفعول، وتشديد الفاء، من التوفية، أو تخفيفها، من الإيفاء. ولفظ "الكبرى":"أن تُوفوا به"، وفي رواية البخاريّ: "أحقّ ما أوفيتم من

ص: 251

الشروط أن توفوا به". فقوله: "أن يوفى به" في تأويل المصدر مجرور بحرف جرّ محذوف قياسًا؛ لكونه مع "أن"، متعلّق بـ"أحقّ"، كما قال في "الخلاصة":

وَعَدِّ لَازِمًا بِحَرْفِ جَرٍّ

وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ

نَقْلًا وَفِي "أَنَّ" و "أَنْ" يَطَّرِدُ

مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَـ"عَجِبْتُ أَنْ يَدُوا"

وقوله (مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجَ) خبر "إنّ"، أي إنّ أليق الشروط بالوفاء شروط النكاح؛ لأن أمره أحوط، وبابه أضيق.

والراجح أن المراد به كلّ ما شرطه الزوج للمرأة ترغيبًا لها في النكاح، مما لم يكن محظورًا شرعا. وقيل: غير ذلك، مما سيأتي بيانه في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عقبة بن عامر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-42/ 3282 و 3283 - وفي "الكبرى" 76/ 5531 و 5533. وأخرجه (خ) في "الشروط" 2721 و"النكاح" 5151 (م) في "النكاح" 1418 (د) في "النكاح" 2139 (ت) في "النكاح" 1127 (ق) في "النكاح" 1954 (أحمد) في "مسند الشاميين" 16851 و 16911 و 16925 (الدارمي) في "النكاح" 2203. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في المراد بالشرط المذكور في هذا الحديث:

قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: الشروط في النكاح مختلفةٌ:

(فمنها): ما يجب الوفاء به اتفاقًا، وهو ما أمر اللَّه به، من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، وعليه حَمَل بعضهم هذا الحديث. (ومنها): ما لا يوفَى به اتفاقًا، كسؤال طلاق أختها. (ومنها): ما اختُلف فيه، كاشتراط أن لا يتزوّج عليها، أو لا يتسرّى، أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله.

وعند الشافعيّة الشروط في النكاح على ضربين: منها: ما يرجع إلى الصداق، فيجب الوفاء به. وما يكون خارجًا عنه، فمختلف الحكم فيه، فمنه ما يتعلّق بحقّ الزوج، وسيأتي بيانه. ومنه ما يَشترطه العاقد لنفسه خارجًا عن الصداق، وبعضهم يسمّيه الحلوان، فقيل: هو للمرأة مطلقًا، وهو قول عطاء، وجماعة من التابعين، وبه قال الثوريّ، وأبو عُبيد. وقيل: هو لمن شرطه. قاله مسروقٌ، وعليّ بن الحسين. وقيل: يختصّ ذلك بالأب، دون غيره من الأولياء. وقال الشافعيّ: إن وقع في نفس العقد

ص: 252

وجب للمرأة مهر مثلها، وإن وقع خارجًا عنه لم يجب. وقال مالك: إن وقع في حال العقد فهو من جملة المهر، أو خارجًا عنه، فهو لمن وُهب له. وجاء ذلك في حديث مرفوع، أخرجه النسائيّ

(1)

من طريق ابن جُريج، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: أيّما امرأة نكحت على صداق، أو حِبَاء، أو عِدَةٍ قبل عصمة النكاح، فهو لها، فما كان بعد عصمة النكاح، فهو لمن أُعطيه، وأحقّ ما أكرم الرجل ابنته، أو أخته". وأخرجه البيهقيّ من طريق حجّاج بن أرطأة، عن عمرو بن شعيب، عن عروة، عن عائشة، نحوه.

وقال الترمذيّ بعد تخريجه: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصحابة، منهم عمر، قال: إذا تزوّج الرجل المرأةَ، وشرط أن لا يُخرجها لزم. وبه يقول الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.

قال في "الفتح": كذا قال. والنقل في هذا عن الشافعيّ غريبٌ، بل الحديث عندهم محمول على الشروط التي لا تنافي مقتضى النكاح، بل تكون من مقتضياته، ومقاصده، كاشتراط العشرة بالمعروف، والإنفاق، والكسوة، والسكنى، وأن لا يقصّر في شيء من حقّها، من قسمة، ونحوها، وكشرطه عليها أن لا تَخرُج إلا بإذنه، ولا تمنعه نفسها، ولا تتصرّف في متاعه إلا برضاه، ونحو ذلك. وأما شرطٌ ينافي مقتضى النكاح، كأن لا يَقسم لها، أو لا يتسرّى عليها، أو لا يُنفق، أو نحو ذلك، فلا يجب الوفاء به، بل إن وقع في صلب العقد كفَى، وصحّ النكاح بمهر المثل. وفي وجه يجب المسمّى، ولا أثر للشرط. وفي قول للشافعيّ: يبطل النكاح.

وقال أحمد، وجماعة: يجب الوفاء بالشرط مطلقًا.

وقد استشكل ابن دقيق العيد حملَ الحديث على الشروط التي هي من مقتضيات النكاح، قال: تلك الأمور لا تؤثّر الشروط في إيجابها، فلا تشتدّ الحاجة إلى تعليق الحكم بالاشتراط فيها، ومقتضى الحديث أن لفظ:"أحقّ الشروط" يقتضي أن يكون بعض الشروط يقتضي الوفاء، وبعضها أشدّ اقتضاءً له، والشروط التي هي مقتضى العقود مستويةٌ في وجوب الوفاء، ويترجّح على ما عدا النكاح الشروط المتعلّقة بالنكاح من جهة حرمة الأبضاع، وتأكيد استحلالها. واللَّه أعلم انتهى

(2)

.

وقال الترمذيّ: وقال عليّ: سبق شرط اللَّه شرطها، قال: وهو قول الثوريّ، وبعض أهل الكوفة، والمراد في الحديث الشروط الجائزة، لا المنهيّ عنها انتهى.

(1)

أي في "الكبرى" 3/ 322 - 323. رقم 5532.

(2)

"إحكام الأحكام" 3/ 189 - 190.

ص: 253

وقد اختُلف عن عمر، فروى ابن وهب بإسناد جيّد عن عبيد بن السبّاق:"أن رجلًا تزوّج امرأة، فشرط لها أن لا يخرجها من دارها، فارتفعوا إلى عمر فوضع الشرط، وقال: المرأة مع زوجها". قال أبو عبيد: تضادّت الروايات عن عمر في هذا، وقد قال بالقول الأول عمرو بن العاص، ومن التابعين طاوس، وأبو الشعثاء، وهو قول الأوزاعيّ، وقول الليث، والثوريّ، والجمهور بقول عليّ، حتى لو كان صداقًا مثلها مائة مثلًا، فرضيت بخمسين على أن لا يخرجها، فله إخراجها، ولا يلزمه إلا المسمّى. وقالت الحنفيّة: لها أن ترجع عليه بما نقصته له من الصداق. وقال الشافعيّ: يصحّ النكاح، ويلغو الشرط، ويلزمه مهر المثل. وعنه يصحّ، وتستحقّ الكل. وقال أبو عبيد: والذي نأخذ به أنا نأمره بالوفاء بشرطه من غير أن يحكم عليه بذلك. قال: وقد أجمعوا على أنها لو اشترطت عليه أن لا يطأها لم يجب الوفاء بذلك الشرط، فكذلك هذا.

ومما يقوّي حمل حديث عقبة على الندب ما سيأتي في حديث عائشة في قصّة بريرة: "كلّ شرط ليمس في كتاب اللَّه، فهو باطل". والوطء، والإسكان، وغيرهما من حقوق الزوج إذا شرط عليه إسقاط شيء منها كان شرطًا، ليس في كتاب اللَّه، فيبطل.

وأخرج إسحاق في "مسنده" من طريق كثير بن عبد اللَّه بن عمرو، عن أبيه، عن جدّه، مرفوعًا بلفظه:"المسلمون عند شروطهم، إلا شرطًا حرّم حلالًا، أو أحلّ حرامًا". وكثير ابن عبد اللَّه ضعيف عند الأكثرين، لكن البخاريّ، ومن تبعه كالترمذيّ، وابن خزيمة يُقوّون أمره

(1)

. وقد علّق البخاريّ الجزء الأول منه في "صحيحه" بصيغة الجزم.

وأخرج الطبرانيّ في "الصغير" بإسناد حسن عن جابر: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب أمّ مبشّر بنت البراء بن معرور، فقالت: إني شرطت لزوجي أن لا أتزوّج بعده، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن هذا لا يصلح". أفاده في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجّح عندي أن الشرط الذي يلزم الوفاء به هو الشرط الذي يذكره الزوج ترغيبًا للزوجة في النكاح، مما لا يؤدّي إلى تحريم حلالٍ، أو تحليل حرام، وأما ما أدّى إلى ذلك فليس مراد حديث الباب؛ إذ الباطل لا يجوز الوفاء به؛ لحديث:"كلّ شرط ليس في كتاب اللَّه فهو باطل". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3283 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ تَمِيمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حَجَّاجًا، يَقُولُ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ حَدَّثَهُ، عَنْ عُقْبَةَ

(1)

"فتح" 5/ 212.

(2)

"فتح" 10/ 273 - 274.

ص: 254

بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ، مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد اللَّه بن محمد بن تميم": هو أبو حميد المصّيصيّ، ثقة [11] 200/ 319 من أفراد المصنّف. و"حجّاج": هو ابن محمد الأعور المصّيصيّ الثقة الثبت. و"ابن جريج": هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكيّ الفقيه الحجة. و"سعيد بن أبي أيوب مِقْلَاص المصريّ الثقة الثبت.

والحديث متفق عليه، وقد سبق البحث عنه مستوفًى في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌43 - (النِّكَاحُ الَّذِي تَحِلُّ بِهِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلاثًا لِمُطَلِّقِهَا)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "تَحِلّ" بفتح أوله، وكسر ثانيه مبنيًا للفاعل، من الحِلِّ ثلاثيًّا، ضدّ الحرمة. ويحتمل أن يكون مبنيًا للمفعول، من الإحلال رباعيًا: أي يحكم بكونها حلالًا بسبب ذلك النكاح واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3284 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي، فَأَبَتَّ طَلَاقِي، وَإِنِّي تَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، وَمَا مَعَهُ إِلاَّ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ «لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ، لَا حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ المروزيّ ابن راهويه ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(سفيان) بن عيينة بن أبي عمران، أبو محمد المكيّ، ثقة ثبت [8] 1/ 1.

3 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [4] 1/ 1.

4 -

(عروة) بن الزبير بن العوّام المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم

ص: 255

رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمروزيّ، وسفيان، فمكيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ) -بكسر الراء- وهو رفاعة بن سَمَوْأل -بفتح المهملة، والميم، وسكون الواو، بعدها همزة، ثم لام

(1)

- الْقُرَظيّ- بالقاف، والظاء المعجمة- من بني قُريظة. قال وليّ الدين: وقيل: هو ابن رفاعة، وهو أحد العشرة الذين نزل فيهم قوله تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} الآية، كما رواه الطبرانيّ في "معجمه"، وابن مردويه في "تفسيره" من حديث رفاعة بإسناد صحيح. انتهى

(2)

.

وامرأته سمّاها مالك في روايته من حديث عبد الرحمن بن الزَّبِير، كما أخرجه ابن وهب، والطبرانيّ، والدارقطنيّ في "الغرائب" موصولًا، وهو في "المبسوط""مرسلٌ تَميمة بنت وهب، وهي بمثنّاة، واختُلف هل هي بفتحها، أو بالتصغير، والثاني أرجح، ووقع مجزومًا به في النكاح لسعيد بن أبي عروبة، عن قتادة. وقيل: اسمها سهيمة -بسين مصغّرًا - أخرجه أبو نُعيم، وكأنه تصحيف. وعند ابن منده أميمة بألف. أخرجه من طريق أبي صالح، عن ابن عبّاس، وسمّى أباها الحارث، وهي واحدة اختلف في التلفّظ باسمها، والراجح الأول. قاله في "الفتح"

(3)

.

وقال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: وامرأته تميمة بنت وهب، كما رواه مالك في "الموطإ" من رواية ابن وهب، عنه، عن المسور بن رفاعة، عن الزَّبِير بن عبد الرحمن بن الزَّبِير، عن أبيه:"أنّ رفاعة طلّق امرأته ثلاثًا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فتزوّجها عبد الرحمن ابن الزَّبير، فاعتُرض عنها، فلم يَستطع أن يمسّها، فطلّقها، ولم يمسّها، فأراد رفاعة أن ينكحها، وهو زوجها الذي كان طلّقها قبل عبد الرحمن، فذكرت ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنهاه عن تزويجها، وقال: لا يحلّ لك حتى تذوق العسيلة".

هكذا أسنده ابن وهب، عن مالك في روايته، ومن طريقه رواه البيهقيّ في "سننه"، وابن عبد البرّ في "التمهيد". ورواه يحيى بن يحيى، وأكثر رواة "الموطّإ" عن مالك

(1)

وضبط وليّ الدين في "طرح التثريب" 7/ 94 - اسم أبيه السَّموَال -بفتح السين المهملة، وإسكان الميم- فليُحرّر.

(2)

"طرح التثريب" 7/ 94 - 95.

(3)

"فتح" 10/ 582 - 583.

ص: 256

مرسلًا، لم يقولوا:"عن أبيه". قال ابن عبد البرّ: وابن وهب من أجلّ من روى عن مالك هذا الشأن، وأثبتهم فيه، قال: فالحديث مسندٌ متّصلٌ صحيح، وتابع ابن وهب على روايته عن مالك متّصلًا إبراهيم بن طهمان، رواه النسائيّ في "مسند مالك"، وعُبيد اللَّه بن عبد المجيد الحنفيّ. قال: وذكره أيضًا سحنون، عن ابن وهب، وابن القاسم، وعليّ بن زياد، كلهم عن مالك، وفيه "عن أبيه"

(1)

.

قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": وكذا رواه القعنبيّ عن مالك متّصلًا. رواه الطبرانيّ في "معجمه الكبير" عن عبد العزيز، عن القعنبيّ انتهى.

قال وليّ الدين: وهذا الذي ذكرته من أنها تميمة بنت وهب، هو الذي ذكره ابن بشكوال في "مبهماته". وقال ابن طاهر في "مبهماته": هي أميمة بنت الحارث، كما روي عن ابن عبّاس. وقيل: تميمة بنت أبي عُبيد القرظيّة، روي عن قتادة. وفي حديث عائشة "تميمة بن وهب". انتهى

(2)

.

(إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ رفَاعَةَ طَلَّقَني، فَأَبَتَّ طَلَاقِي) أي طلّقني ثلاثًا. يقال: بتّ الرجل طلاق امرأته، وأبتها بالألف: إذا قطعها عن الرجعة. قال الفيّوميّ: بَتَّهُ بَتًّا، من باب ضرب، وقتل: قطعه. وبتّ الرجل طلاق امرأته، فهي مبتوتةً، والأصلُ مبتوتٌ طلاقها، وطلّقها طَلْقةً بَتَّةً، وبَتَّها بَتَّةً: إذا قطعها عن الرجعة، وأبتّ طلاقها بالألف لغةٌ. قال الأزهريّ: وُيستعمل الثلاثيّ والرباعيّ لازمين، ومتعدّيين، فيقال: بتّ طلاقَهَا، وأبتّ، وطلاقٌ باتٌّ، ومُبِتٌّ. وقال ابن فارس: يقال لما لا رجعة فيه: لا أفعله بَتَّةً انتهى.

قال الشيخ ابن دقيق العيد في "شرح العمدة": تطليقه إياها بالبتات من حيث اللفظ يحتمل أن يكون بإرسال الطلقات الثلاث. ويحتمل أن يكون بإيقاع آخر طلقة. ويحتمل أن يكون بإحدى الكنايات التي تُحمل على البينونة عند جماعة من الفقهاء، وليس في اللفظ عموم، ولا إشعار بأحد هذه المعاني، وإنما يؤخذ ذلك من أحاديث أُخر، تبيّن المراد، ومن احتجّ على شيء من هذه الاحتمالات بالحديث، فلم يُصب؛ لأنه إنما دلّ على مطلق البتّ، والدّالّ على المطلق لا يدلّ على أحد قيديه بعينه

(3)

.

قال وليّ الدين: قلت: اعتبر الشيخ لفظ الرواية التي شرحها، وهذه الرواية التي هنا صريحة في الاحتمال الثاني، فان لفظها "آخر ثلاث تطليقات"، فدلّ على أنه لم يجمعها لها دفعةً واحدةً. واعتبر ابن عبد البرّ لفظ الرواية التي سقناها من "الموطإ"، فاستدلّ به

(1)

راجع "التمهيد" 13/ 220 - 221.

(2)

"طرح التثريب" 7/ 95.

(3)

"إحكام الأحكام" 4/ 200 - 201.

ص: 257

على جواز جمع الطلاقات الثلاث، ثم قال: ويحتمل أن يكون طلاقه ذلك آخر ثلاث طلقات، ولكن الظاهر لا يُخرَج عنه إلا ببيان انتهى.

قال وليّ الدّين: وقد عرفت أن هذا الاحتمال هو صريح لفظ الرواية التي نحن في شرحها. واعتبر القرطبيّ لفظة "فبتّ طلاقها"، وقال: ظاهره أنه قال لها: أنت طالقٌ البتّة، فيكون حجةً لمالك على أن البتّةً محمولةٌ على الثلاث في المدخول بها. ويحتمل أن يريد به آخر ثلاث تطليقات، كما جاء في الرواية الأخرى:"أن رجلًا طلّق امرأته ثلاثًا". وجاز أن يُعبّر عنها بالبتَات؛ لأن الثلاث قطعت جميع الْعُلَق، والطلاق انتهى

(1)

.

قال وليّ الدين: وكلّ ذلك ذهول عن قوله في هذه الرواية: "فطلّقها آخر ثلاث تطليقات" انتهى

(2)

.

وقال الحافظ في "الفتح" بعد ما ذكر نحو ما ذكره القرطبيّ عن مالك، من أن البتّة محمولة على ثلاث تطليقات: ما نصّه: وهو عَجَبٌ ممن استدلّ به، فإن البتّ بمعنى القطع، والمراد به قطع العصمة، وهو أعمّ من أن يكون بالثلاث مجموعةٌ، أو بوقوع الثالثة التي هي آخر ثلاث تطليقات، وقد جاء في رواية البخاريّ في "اللباس" مصرَّحًا به أنه طلّقها آخر ثلاث تطليقات، فبطل الاحتجاج به. انتهى

(3)

.

(وَإِنِّي تَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ) أي بعد رفاعة (عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ) قال النوويّ -بفتح الزاي، وكسر الموحّدة- بلا خلاف، وهو الزبير بن باطاء، ويقال: باطياء. وكان عبد الرحمن صحابيًّا، والزَّبِيرُ قُتل يهوديًّا في غزوة بني قُريظة.

وهذا الذي ذكرنا من أن عبد الرحمن بن الزَّبِير بن باطاء القرظيّ هو الذي تزوّج امرأة رفاعة القُرظيّ هو الذي ذكره أبو عمر ابن عبد البرّ، والمحقّقون. وقال ابن منده، وأبو نعيم الأصفهانيّ في كتابيهما في "معرفة الصحابة": إنما هو عبد الرحمن بن الزبير بن زيد بن أُميّة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن أوس. والصواب الأول انتهى

(4)

.

قال وليّ الدين: وأما ابنه الزبير بن عبد الرحمن، فقيل: هو كجدّه بالفتح، وصححه ابن عبد البرّ، وحكاه عن رواية يحيى بن يحيى، وابن وهب، وابن القاسم، والقعنبيّ، وغيرهم، وحكى الاختلاف فيه في رواية يحيى بن بكير، والذي يقتضيه كلام البخاريّ،

(1)

"المفهم" 4/ 234.

(2)

"طرح التثريب" 7/ 96 - 97.

(3)

"فتح" 10/ 587.

(4)

"شرح النوويّ" 10/ 243.

ص: 258

والدارقطنيّ، وابن ماكولا أنه بالضمّ كالجدّ

(1)

، وصحّحه الذهبيّ انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": واتفقت الروايات كلّها عن هشام بن عروة أن الزوج الأول رفاعة، والثاني عبد الرحمن، وكذا قال عبد الوهّاب بن عطاء، عن سعيد بن أبي عروبة في "كتاب النكاح" له عن قتادة أن تَميمة بنت أبي عُبيد القرظية كانت تحت رفاعة، فطلّقها، فخَلَفَ عليها عبدُ الرحمن بن الزَّبِير. وتسميته لأبيها لا تنافي رواية مالك، فلعلّ اسمه وهب، وكنيته أبو عبيد.

إلا ما وقع عند ابن إسحاق في "المغازي" من رواية سلمة بن الفضل عنه، وتفرّد به عنه، عن هشام، عن أبيه، قال: كانت امرأة من قُريظة، يقال لها: تميمة تحت عبد الرحمن بن الزبير، فطلّقها، فتزوّجها رفاعة، ثم فارقها، فأرادت أن ترجع إلى عبد الرحمن بن الزَّبِير. وهو مع إرساله مقلوب، والمحفوظ ما اتفق عليه الجماعة عن هشام (وَمًا مَعَهُ إِلاَّ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ) -بضمّ الهاء، وسكون الدال المهملة، بعدها موحّدةٌ مفتوحةٌ- هو طرَفُ الثوب الذَي لم يُنسج، مأخوذ من هُدْب العين

(3)

، وهو شعر الْجَفْن. وأرادت أن ذكره يُشبه الهُدْبة في الاسترخاء، وعدم الانتشار. قاله في "الفتح". وقال وليّ الدين:"الْهُدْبةُ" بضم الهاء، وإسكان الدال، بعدها باء موحّدة- هي طرف الثوب الذي لم يُنسَج، وهو ما يبقى بعد قطع الثوب من السداء، شُبّه بُهدْب العين، وهو شعر جَفْنها. ثم يحتمل أن يكون تشبيه الذكر بالهدبة لصغره. ويحتمل أن يكون لاسترخائه، وعدم انتشاره

(4)

.

وفي رواية للبخاريّ من طريق أبي معاوية، عن هشام:"فتزوّجت زوجًا غيره، فلم يصل منها إلى شيء يريده". وعند أبي عوانة من طريق الدراورديّ، عن هشام:"فنكحها عبد الرحمن بن الربير، فاعتُرِضَ عنها". وقوله: "فاعتُرِضَ" بضم المثناة، وآخره ضادٌ معجمة، أي حصل له عارضٌ، حال بينه وبين إتيانها، إما من الجنّ، وإما من المرض.

وفي رواية للبخاريّ من طريق يحيى بن سعيد القطّان، عن هشام:"فذكرت له أنه لا يأتيها". وفي رواية من طريق أبي معاية، عن هشام:"فلم يقربني إلا هَنَةً واحدةً، ولم يَصِل منّي إلى شيء". و"الهنَة" -بفتح الهاء، وتخفيف النون-: المرّة الواحدة الحقير.

(1)

هكذا نسخة "الطرح" بلفظ "كالجدّ"، وهو غلط بلا شك، فإن جدّه بالفتح بلا خلاف، ولعله بخلاف الجدّ، فتأمّل.

(2)

"طرح التثريب" 7/ 96.

(3)

جمعه أهداب، مثلُ قُفْل وأقفال.

(4)

"طرح التثريب" 7/ 97.

ص: 259

(فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي) قال وليّ الدين: هكذا رويناه بفتح التاء، وكسر الجيم. ويجوز أن يكون بضمّ التاء، وفتح الجيم، مبنيًّا للمفعول. وسببه أنه فهم عنها إرادة فراق عبد الرحمن، وارادة أن يكون فراقها سببًا للرجوع إلى رفاعة، وكأنه قيل لها: إن هذا المقصود لا يحصل على تقدير أن يكون الأمر على ما ذكرت. انتهى

(1)

(إِلَى رِفَاعَةَ، لَا) وفي رواية للبخاريّ من طريق أيوب، عن عكرمة: أن رفاعة طلّق امرأته، فتزوّجها عبد الرحمن بن الزَّبِير القرظي، قالت عائشة: فجاءت، وعليها خمار أخضر، فشكت إليها -أي إلى عائشة- من زوجها، وأرتها خضرة بجلدها، فلما جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والنساء ينصر بعضهنّ بعضًا، قالت عائشة: ما رأيت ما يَلْقَى المؤمناتُ، لَجِلْدُها أشدُّ خضرةٌ من ثوبها، قال: وسمع زوجها أنها قد أتت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجاء، ومعه ابنان له من غيرها، قالت: واللَّه ما لي إليه من ذنب إلا أن ما معه، ليس بأغنى عنّي من هذه، وأخذت هدبة من ثوبها، فقال: كذبت واللَّه يا رسول اللَّه، إني لأنفضُها نَفْضَ الأديم، ولكنها ناشزة، تريد رفاعة، قال:"فإن كان ذلك لم تحلّي له، أو لم تصلحي له حتى يذوق من عُسَيلتك"، قال: وأبصر معه ابنين له، فقال:"بنوك هؤلاء؟ " قال: نعم، قال:"هذا الذي تزعمين ما تزعُمين؟، فواللَّه لهم أشبه به من الغراب بالغراب".

قال في "الفتح": وكأن هذه المراجعة بينهما هي التي حملت خالد بن سعيد بن العاص على قوله الذي وقع في رواية الزهريّ، عن عروة، فإن في آخر الحديث من طريق شعيب، عنه:"قال: فسمع خالد بن سعيد قولها، وهو بالباب، فقال: يا أبا بكر، ألا تنهى هذه عما تجهر به عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فواللَّه ما يزيد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على التبسّم".

وفيه ما كان الصحابة رضي الله عنهم عليه من سلوك الأدب بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنكارهم على من خالف ذلك بفعله، أو قوله؛ لقول خالد بن سعيد لأبي بكر الصدّيق، وهو جالس:"ألا تنهى هذه؟ "، وإنما قال خالد ذلك لأنه كان خارج الحجرة، فاحتمل عنده أن يكون هناك ما يمنعه من مباشرة نهيها بنفسه، فأمر به أبا بكر؛ لكونه جالسًا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، مشاهدًا لصورة الحال، ولذلك لما رأى أبو بكر النبيّ صلى الله عليه وسلم يتبسّم عند مقالتها لم يزجرها، وتبسّمه صلى الله عليه وسلم كان تعجبًا منها، إما لتصريحها بما يستحيي النساء من التصريح به غالبًا، وإما لضعف عقل النساء؛ لكون الحامل لها على ذلك شدّة بغضها في الزوج الثاني، ومحبّتها في الرجوع إلى الزوج الأول، ويستفاد منه جواز وقوع ذلك انتهى

(2)

.

(1)

"طرح التثريب" 7/ 97.

(2)

"فتح" 10/ 584 - 585.

ص: 260

(حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ) قال النوويّ: هو -بضمّ العين، وفتح السين، تصغير عَسَلَة-، وهي كناية عن الجماع، شبه لذّته بلذّة العسل، وحلاوته، قالوا: وأنّث العسيلة؛ لأن في العسل نعتين: التذكير والتأنيث. وقيل: أنّثها على إرادة النطفة، وهذا ضعيف؛ لأن الإنزال لا يشترط انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ: وهذه استعارة لطيفة، فإنه شبّه لذّة الجماع بحلاوة العسل، أو سمّى الجماعَ عسَلًا؛ لأن العرب تُسمّي كلَّ ما تستحليه عَسَلًا، وأشار بالتصغير إلى تقليل القدر الذي لا بُد منه في حصول الاكتفاء به، قال العلماء: وهو تغييب الحَشَفَة؛ لأنه مظِنّةُ اللّذّة. انتهى.

وقال في "الفتح": كذا في الموضعين بالتصغير، واختُلف في توجيهه، فقيل: هي تصغير العسل؛ لأن العسل مؤنّثٌ، جزم به القزّاز، ثم قال: وأحسب التذكير لغة. وقال الأزهريّ: يُذكّر، ويؤنّث. وقيل: لأن العرب إذا حقّرت الشيءَ أدخلت فيه هاء التأنيث، ومن ذلك قولهم: دُريهمات، فجمعوا الدرهم جمعَ المؤنّث عند إرادة الحقير، وقالوا أيضًا في تصغير هند هُنيدة. وقيل: التأنيث باعتبار الوطأة إشارة إلى أنها تكفي في المقصود من تحليلها للزوج الأول. وقيل: المراد قطعة من العسل، والتصغير للتقليل إشارة إلى أن القدر القليل كافٍ في تحصيل الحلّ. قال الأزهريّ: الصواب أن معنى الْعُسَيلة حلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة في الفرج، وأنّث تشبيهًا بقطعهّ من عسل. وقال الداوديّ: صُغّرت لشدّة شبهها بالعسل. وقال أبو عبيد: العسيلة لذّة الجماع، والعرب تُسمّي كلّ شيء تستلذّه عَسَلًا.

وقال الجوهريّ: صُغّرت العسلة بالهاء؛ لأن الغالب في العسل التأنيث، قال: ويقال: إنما أنّث لأنه أريد به العسلة، وهي القطعة منه، كما يقال للقطعة من الذهب: ذَهَبَة انتهى.

وقيل: معنى العُسَيلة النطفة. وهذا يوافق قول الحسن البصريّ القائل باشتراط حصول الإنزال في صحّة التحليل، وخالف بذلك جمهور العلماء، فإنهم جعلوا الشرط إدخال الحشفة في الفرج فقط، وهو الحقّ، فقد جاء تفسير العُسَلية بالجماع مرفوعًا، أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، ولفظه:

حدثنا مروان، قال: أخبرنا أبو عبد الملك المكي، قال: حدثنا عبد اللَّه بن أبي مليكة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الْعُسيلة هي الجماع".

ورجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير، أبي عبد الملك، وهو إسماعيل بن عبد الملك بن الصُّغير، قال ابن معين في رواية: ليس به بأس، وقال البخاريّ، وابن

(1)

شرح مسلم" 10/ 243 - 244.

ص: 261

عديّ: يكتب حديثه، وتكلّم فيه غيرهم، وقال في "التقريب": صدوق، كثير الوهم. انتهى.

وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 43/ 3284 و 9/ 3408 و 3409 و 10/ 3410 و 12/ 3412 و 3413 وفي "الكبرى" 77/ 5534 و 10/ 5600 و 5601 و 11/ 5602 و 13/ 5604 و 56065607. وأخرجه (خ) في "الشهادات" 2639 و"الطلاق" 5260 و 5265 و 5317 و"اللباس" 5792 و 5825 و"الأدب" 6084 (م) في "النكاح" 1433 (د) في "الطلاق" 2309 (ت) في "النكاح" 1118 (ق) في "النكاح" 1932 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23538 و 23578 و 25077 و 25364 و 25389 (الموطأ) في "النكاح" 1127 (الدارمي) في "الطلاق" 2267 و 2268. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما تحلّ به المطلّقة ثلاثًا من النكاح، وذلك أنه لا بدّ من جماع الزوج الثاني لها. (ومنها): أنه يدلّ على أن وطء الزوج الثاني لا يكون محلّلًا ارتجاع الزوج للمرأة إلا إن كان حال وطئه منتشرًا ذكره، فلو كان أشلّ، أو كان هو عِنِّينًا، أو طفلاً لم يكف على أصحّ قولي العلماء، وهو الأصحّ عند الشافعيّة أيضَا. قاله في "الفتح". (ومنها): أن الجمهور استدلّوا به على أن تغييب الحشفة في قبلها كافٍ في ذلك، من غير إنزال المنيّ. وشذّ الحسن البصريّ، فشرط الإنزال، وجعله حقيقة العسيلة. قال الجمهور: بدخول الذكر تحصل اللذّة، والعسيلة

(1)

.

(ومنها): ما قاله القرطبيّ: إنه يستفاد من الحديث على قول الجمهور أن الحكم يتعلق بأقلّ ما ينطلق عليه الاسم، خلافًا لمن قال: لا بدّ من حصول جميعه، وفي قوله:"حتى تذوقي عسيلته الخ" إشعارٌ بإمكان ذلك، لكن قولها:"ليس معه إلا مثلُ هذه الهدبة" ظاهر في تعذر الجماع المشترَط. فأجاب الكرمانيّ بأن مرادها بالهدبة التشبيه بها

(1)

"شرح مسلم للنوويّ" 10/ 244.

ص: 262

في الدقة والرقّة، لا في الرخاوة، وعدم الحركة. قال الحافظ: واستُبعِد ما قال، وسياق الخبر يُعطي بأنها شكت منه عدم الانتشار، ولا يمنع من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"حتى تذوقي"؛ لأنه علّقه على الإمكان، وهو جائز الوقوع، فكأنه قال: اصبري حتى يتأتّى منه ذلك، وإن تفارقا، فلا بدّ لها عند إرادة الرجوع إلى رفاعة من زوج آخر، يحصل لها منه ذلك. (ومنها): أنه استُدلّ بإطلاق وجود الذوق منهما على اشتراط علم الزوجين به، حتى لو وطئها نائمةً، أو مغمى عليها لم يكف، ولو أنزل هو، وبالغ ابن المنذر، فنقله عن جميع الفقهاء.

وتُعُقّب بأن فيه خلافًا. وقال القرطبيّ: فيه حجةٌ لأحد القولين في أنه لو وطئها نائمةً، أو مُغمًى عليها لم تحل لمطلّقها؛ لأنها لم تذق العسيلة؛ إذ لم تدركها

(1)

. وجزم ابن القاسم بأن وطء المجنون يُحلل، وخالفه أشهب. قاله في "الفتح"

(2)

.

(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ في قوله: "تريدين أن ترجعي إلى رفاعة" دليلٌ على أن إرادة المرأة الرجوع إلى زوجها لا يضرّ العاقد عليها، وأنها ليست بذلك في معنى التحليل المستحقّ صاحبه اللعن

(3)

.

(ومنها): أنه استُدلّ به على جواز رجوعها لزوجها الأول إذا حصل الجماع من الثاني، لكن شرط المالكيّة، ونُقل عن عثمان، وزيد بن ثابت أن لا يكون في ذلك مخادعةٌ من الزوج الثاني، ولا إرادة تحليلها للأول. وقال الأكثر: إن شُرط ذلك في العقد فسد، وإلا فلا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط وطء الزوج الثاني للمطلّقة ثلاثًا: ذهب الجمهور من الصحابة، والتابعين، فمن بعدهم إلى أن المطلّقة ثلاثًا لا تحلّ لمطلّقها حتى تنكح زوجًا غيره، ويطأها، ثم يفارقها، وتنقضي عدّتها، فأما مجرّد عقده عليها، فلا يُبيحها للأول.

وخالف في ذلك سعيد بن المسيّب، فقال: إذا عقد الثاني عليها، ثم فارقها، حلّت للأوّل، ولا يُشترط وطء الثاني؛ لقول اللَّه تعالى:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} الآية [البقرة: 230]، والنكاح حقيقة في العقد على الصحيح.

وأجاب الجمهور بأن هذا الحديث مخصّص لعموم الآية، ومبيّنٌ للمراد بها. قال النوويّ: قال العلماء: ولعلّ سعيدًا لم يبلغه هذا الحديث. قال القاضي عياض: لم يقل

(1)

"المفهم" 4/ 234.

(2)

"فتح" 10/ 586.

(3)

راجع "طرح التثريب" 7/ 100.

ص: 263

أحد بقول سعيد في هذا إلا طائفةٌ من الخوارج

(1)

.

وقال في "الفتح": قال جمهور العلماء: ذوق العسيلة كناية عن المجامعة، وهو تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة، وزاد الحسن البصريّ: حصول الإنزال. وهذا الشرط انفرد به عن الجماعة. قاله ابن المنذر، وآخرون. وقال ابن بطّال: شذّ الحسن في هذا، وخالفه سائر الفقهاء، وقالوا: يكفي من ذلك ما يوجب الحدّ، ويحصّن الشخص، ويوجب كمال الصداق، ويُفسد الحجّ والصوم. وهو في التشديد يقابل قول سعيد بن المسيّب في الرخصة.

ويردّ قول الحسن أن الإنزال لو كان شرطًا لكان كافيًا، وليس كذلك؛ لأن كلًّا منهما إذا كان بعيد العهد بالجماع مثلًا أنزل قبل تمام الإيلاج، وإذا أنزل كلّ منهما قبل تمام الإيلاج لم يذق عسيلة صاحبه، لا إن فُسّرت العسيلة بالإمناء، ولا بلذّة الجماع.

قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحلّ للأوّل، إلا سعيد بن المسيّب، ثم ساق بسنده الصحيح عنه، قال: يقول الناس: لا تحلّ للأول حتى يُجامعها الثاني، وأنا أقول: إذا تزوّجها تزويجًا صحيحًا، لا يريد بذلك إحلالها للأول، فلا بأس أن يتزوّجها الأول. وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور. وفيه تعقّب على من استعبد صحته عن سعيد. قال ابن المنذر: وهذا القول لا نعلم أحدًا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، ولعلّه لم يبغله الحديث، فأخذ بظاهر القرآن.

قال الحافظ: سياق كلامه يُشعر بذلك.

وفيه دلالة على ضعف الخبر الوارد في ذلك، وهو ما أخرجه النسائيّ - 12/ 3415 - من رواية شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سالم بن رزين، عن سالم بن عبد اللَّه، عن سعيد بن المسيّب، عن ابن عمر، رفعه في الرجل تكون له المرأة، فيُطلّقها، ثم يتزوّجها آخر، فيُطلّقها قبل أن يدخل بها، فترجع إلى الأول، فقال: لا، حتى تذوق العسيلة". وقد أخرجه النسائيّ أيضًا- 12/ 3416 - من رواية سفيان الثوريّ، عن علقمة بن مرثد، فقال: عن رزين ابن سليمان الأحمريّ، عن ابن عمر نحوه. قال النسائيّ: هذا أولى بالصواب. وإنما قال ذلك؛ لأن الثوريّ أتقن، وأحفظ من شعبة، وروايته أولى بالصواب من وجهين:

[أحدهما]: أن شيخ علقمة شيخهما هو رزين بن سليمان، كما قال الثوريّ، لا سالم ابن رزين، كما قال شعبة، فقد رواه جماعة عن علقمة كذلك، منهم: غيلان بن جامع، أحد الثقات.

[ثانيهما]: أن الحديث لو كان عند سعيد بن المسيّب، عن ابن عمر، مرفوعًا ما نسبه إلى مقالة الناس الذين خالفهم.

(1)

"شرح مسلم للنوويّ" 10/ 244.

ص: 264

ويؤخذ من كلام ابن المنذر أن نقل أبي جعفر النحّاس في "معاني القرآن"، وتبعه عبد الوهاب المالكيّ في "شرح الرسالة" القول بذلك عن سعيد بن جبير وَهَمٌ، وأعجب منه أن أبا حبّان

(1)

جزم به عن السعيدين: سعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، ولا يُعرف له سندٌ عن سعيد بن جبير في شيء من المصنّفات، وكفى قول ابن المنذر حجةً في ذلك. وحكى ابن الجوزيّ عن داود أنه وافق سعيد بن المسيّب انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن مما ذُكر أن جمهور العلماء على أن المطلّقة ثلاثًا لا تحلّ لزوجها الأول إلا بعد نكاح صحيح، ويُجامعها الزوج الثاني، وإن لم يُنزل، ثم يطلّقها، فتنقضي عدّتها، وهذا هو الحقّ الموافق لظاهر حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى - عنها المذكور في الباب، فما نُقل عن سعيد بن المسيّب من الاكتفاء بالعقد المجرّد عن الجماع، وكذا عن الحسن البصريّ من اشتراط الإنزال، فمما لا يُلتفت إليه؛ لمخالفته ما صحّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): اتفقوا على أنه إذا كان الجماع في نكاح فاسد لم يحلّل، وشذّ الحكم، فقال: يكفي، وأن من تزوّج أمة، ثم بتّ طلاقها، ثم ملكها لم يحلّ له أن يطأها حتى تتزوّج غيره. وقال ابن عبّاس، وبعض أصحابه، والحسن البصريّ: تحلّ له بملك اليمين.

واختلفوا فيما إذا وطئها حائضًا، أو بعد أن طهرت قبل تطهّر، أو أحدهما صائم، أو محرم.

وقال ابن حزم: أخذ الحنفيّة بالشرط الذي في هذا الحديث عن عائشة، وهو زائد على ظاهر القرآن، ولم يأخذوا بحديثها في اشتراط خمس رضعات؛ لأنه زائد على ما في القرآن، فليزمهم الأخذ به، أو ترك حديث الباب.

وأجابوا بأن النكاح عندهم حقيقة في الوطء، فالحديث موافق لظاهر القرآن.

ونقل ابن العربيّ عن بعضهم أنه ورد على حديث الباب ما ملخصّه أنه يلزم من القول به إما الزيادة بخبر الواحد على ما في القرآن، فيستلزم نسخ القرآن بالسنة التي لم تتواتر، أو حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين مع ما فيه من الإلباس.

والجواب عن الأول أن الشرط إذا كان من مقتضيات اللفظ ام تكن إضافته نسخًا، ولا زيادة. وعن الثاني أن النكاح في الآية أضيف إليها، وهي لا تتولى العقد بمجرّدها، فتعين أن المراد به في حقّها الوطء، ومن شرطه اتفاقًا أن يكون وطأً مباحًا، فيحتاج إلى

(1)

هكذا نسخ "الفتح""أبا حبان" بالباء، فليحرر.

(2)

"فتح" 10/ 585 - 586.

ص: 265

سبق العقد.

ويمكن أن يقال: لما كان اللفظ محتملًا للمعنيين بيّنت السنّة أنه لا بدّ من حصولهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): أنه استُدلّ بحديث الباب على أن المرأة لا حقّ لها في الجماع؛ لأن هذه المرأة شكت زوجها لا يطؤها، وأن ذكره لا ينتشر، وأنه ليس معه ما يغني عنها، ولم يفسخ النبيّ صلى الله عليه وسلم نكاحها بذلك، ومن ثمّ قال إبراهيم بن إسماعيل ابن عليّة، وداود بن عليّ: لا يفسخ بالعُنّة، ولا يُضرب لِلْعِنِّين أجل.

وقال ابن المنذر: اختلفوا في المرأة تطالب الرجل بالجماع، فقال الأكثر: إن وطئها بعد أن دخل بها مرّة واحدةً لم يؤجّل أجل العنّين، وهو قول الأوزاعيّ، والثوريّ، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعيّ، وإسحاق. وقال أبو ثور: إن ترك جماعها لعلّة أُجّل سنة، وإن كان لغير علّة فلا تأجيل.

وقال القاضي عياض: اتفق كافة العلماء على أن للمرأة حقًّا في الجماع، فيثبت لها الخيار إذا تزوّجت المجبوب، والممسوح، جاهلة بهما، ويُضرَب للعنّين أجلٌ سنة؛ لاحتمال زوال ما به.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي نقله عياض -رحمه اللَّه تعالى- عن كافّة العلماء من أن للمرأة حقًّا في الجماع هو الحقّ؛ لأن اللَّه تعالى أوجب على الزوج المعاشرة بالمعروف، وهو من المعروف، وقال تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وقد عُلِم الحقّ للرجل على امرأته أن يُجامعها، فكذلك لها ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

قال في "الفتح": وأما استدلال داود ومن يقول بقوله بقصّة امرأة رفاعة، فلا حجة فيها؛ لأن في بعض طرقه أن الزوج الثاني كان أيضًا طلّقها، كما وقع عند مسلم صريحًا من طريق القاسم، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت: "طلّق رجلٌ امرأته ثلاثًا، فتزوّجها رجلٌ آخر، فطلّقها قبل أن يدخل بها، فأراد زوجها الأول أن يتزوّجها، فسُئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فقال: لا

" الحديث. وأصله عند البخاريّ في أوائل "الطلاق". ووقع في حديث الزهريّ، عن عروة عند البخاريّ في "اللباس" في آخر الحديث بعد قوله: "حتى تذوقي عُسيلته، ويذوق عُسيلتك"، قال: ففارقته بعد، زاد ابن جريج عن الزهريّ في هذا الحديث: "أنها جاءت بعد ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنه -يعني زوجها الثاني- مسّها، فمنعها أن ترجع إلى زوجها الأول". وصرّح مقاتل بن حيّان في تفسيره، مرسلًا: "قالت: يا رسول اللَّه إنه كان مسّني، فقال: كذبت بقولك الأول، فلن أُصدّقك في الآخر، وأنها أتت أبا بكر، ثم عمر، فمنعاها".

ص: 266

وكذا وقعت هذه الزيادة الأخيرة في رواية ابن جريج المذكورة، أخرجها عبد الرزاق، عنه.

ووقع عند مالك في "الموطأ" عن المسور بن رفاعة، عن الزَّبِير بن عبد الرحمن بن الزَّبير، زاد خارج "الموطّأ" فيما رواه ابن وهب عنه، وتابعه إبراهيم بن طهمان، عن مالك عند الدارقطنيّ في "الغرائب"، عن أبيه: "أن رفاعة طلّق امرأته تميمة بنت وهب ثلاثًا، فنكحها عبد الرحمن، فاعتُرِضَ عنها، فلم يستطع أن يمسّها، ففارقها، فأراد رفاعة أن يتزوّجها

" الحديث.

ووقع عند أبي داود من طريق الأسود، عن عائشة: "سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن رجل طلّق امرأته، فتزوّجت غيره، فدخل بها، وطلّقها قبل أن يواقعها، أتحلّ للأول؟ قال: لا

" الحديث.

وأخرج الطبريّ، وابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه. والطبريّ أيضًا، والبيهقيّ من حديث أنس رضي الله عنه كذلك. وكذا وقع في رواية حماد بن سلمة، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"أن عمرو بن حزم طلّق الْغُميصاء، فنكحها رجلٌ، فطلّقها قبل أن يمسّها، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم؟، فقال: لا، حتى يذوق الآخر عسيلتها، وتذوق عسيلته". وأخرجه الطبرانيّ، ورواته ثقات.

قال الحافظ: فإن كان حماد بن سلمة حفظه، فهو حديث آخر لعائشة في قصّة أخرى، غير قصّة امرأة رفاعة، وله شاهد من حديث عُبيد اللَّه -بالتصغير ابن عباس، عند النسائيّ، كما سيأتي في المسألة التالية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): أنه قد وقع لغير امرأة رفاعة قريبٌ مما وقع لها، فقد أخرج النسائيّ-12/ 3414 - من طريق سليمان بن يسار، عن عُبَيد اللَّه بن عباس -أي ابن عبد المطّلب-:"أن الْغُميصاء، أو الرميصاء، أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم تشكو من زوجها أنه لا يصل إليها، فلم يلبث أن جاء، فقال: إنها كاذبةٌ، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال: ليس ذلك لها حتى تذوق عسيلته". ورجاله ثقات، لكن اختلف فيه على سليمان بن يسار.

قال الحافظ: ووقع عند شيخنا -يعني الحافظ العراقيّ- في "شرح الترمذيّ": "عبد اللَّه بن عباس"، مكبّرًا، وتعقب على ابن عساكر، والْمِزّيّ أنهما لم يذكرا هذا الحديث في "الأطراف". ولا تعقّب عليهما، فإنهما ذكراه في مسند عبيد اللَّه - بالتصغير- وهو الصواب.

ص: 267

وقد اختُلف في سماعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلا أنه وُلد في عصره، فذُكر لذلك في الصحابة.

واسم زوج الغميصاء هذه عمرو بن حزم. أخرجه الطبرانيّ، وأبو مسلم الكجيّ، وأبو نُعيم في الصحابة من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن عمرو بن حزم طلّق الغميصاء، فتزوّجها رجلٌ قبل أن يمسّها، فأرادت أن ترجع إلى زوجها الأول

الحديث. قال الحافظ: ولم أعرف اسم زوجها الثاني.

ووقعت لامرأة ثالثة قصّة أخرى أيضًا مع رفاعة رجلٍ آخر غير الأول، والزوج الثاني عبد الرحمن بن الزبير أيضًا. أخرجه مقاتل بن حيّان في "تفسيره"، ومن طريقه ابن شاهين في "الصحابة"، ثم أبو موسى في قوله تعالى:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} قال: "نزلت في عائشة بنت عبد الرحمن بن عقيل النضريّة، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك، وهو ابن عمها، فطلّقها بائنًا، فتزوّجت بعده عبد الرحمن بن الزَّبِير، ثم طلّقها، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنه طلّقني قبل أن يمسّني، أفأرجع إلى ابن عمّي، زوجي الأول؟ قال: لا" الحديث.

قال الحافظ: وهذا الحديث إن كان محفوظًا، فالواضح من سياقه أنها قصّة أخرى، وأن كلًّا من رفاعة القُرظيّ، ورفاعة النضريّ وقع له مع زوجة له طلاقٌ، فتزوّج كلًّا منهما عبد الرحمن بن الزَّبِير، فطلّقها قبل أن يمسّها، فالحكم في قصّتهما متّحدٌ مع تغاير الأشخاص.

وبهذا يتبيّن خطأ من وحد بينهما، ظنًّا منه أن رفاعة بن سَمَوْأَل هو رفاعة بن وهب، فقال: اختُلف في امرأة رفاعة على خمسة أقوال، فذكر الاختلاف في النطق بتميمة، وضمّ إليها عائشة، والتحقيق ما تقدّم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: جزمه في تخطئة من وحّد بينهما فيه نظر لا يخفى، إذ هو محتمل، كما أبداه هو بعد ورقتين، حيث قال: ما نصّه: وقد قدّمتُ أنه وقع لكل من رفاعة بن سموأل، ورفاعة بن وهب أنه طلّق امرأته، وأن كلًّا منهما تزوّجها عبد الرحمن بن الزبير، وأن كلًّا منهما شَكَتْ أنه ليس معه إلا مثلُ الهدبة، فلعلّ إحدى المرأتين شكته قبل أن يفارقها، والأخرى بعد أن يفارقها.

ويحتمل أن تكون القصّة واحدةً، ووقع الوهم من بعض الرواة في التسمية، أو في النسبة، وتكون المرأة شَكَت مرّتين من قبل المفارقة، ومن بعدها. واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

(1)

" فتح" 10/ 583 - 588.

ص: 268

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاحتمال الأخير عندي هو الأقرب. واللَّه تعالى أعلم.

ووقع أيضًا لأبي رُكانة قصّة أخرى، فقد أخرج أبو داود، من حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: طلّق عبد يزيد، أبو رُكانة أم ركانة، ونكح امرأة من مُزينة، فجاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما يُغني عنّي إلا كما تُغني هذه الشعرة -لشعرة أخذتها من رأسها- ففرّق بيني وبينه، قال: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد: "طلّقها، وراجع أمّ ركانة، ففعل". وهو حديث ضعيف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌44 - (تَحْرِيمُ الرَّبِيبَةِ الَّتي فِي حَجْرِهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يرى تحريم الربيبة بشرط كونها في حجر الزوج، كما هو ظاهر الآية، وحديث الباب، وهو مذهب طائفة من أهل العلم، وذهب الجمهور إلى التحريم مطلقًا، وهو الأولى، احتياطًا، وسنذكر تمام البحث فيه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.

3285 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، وَأُمُّهَا أُمُّ سَلَمَةَ، زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكِ؟» ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ يُشَارِكُنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أُخْتَكِ لَا تَحِلُّ لِي» ، فَقُلْتُ وَاللَّهِ، يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ، أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: «بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ؟» ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّهَا رَبِيبَتِي، فِي حَجْرِي، مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ، وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمران بن بكّار) بن راشد الكلاعيّ البَرّاد الحمصيّ المؤذّن، ثقة [11] 17/ 2133.

ص: 269

2 -

(أبو اليمان) الحم بن نافع البَهرَانيّ الحمصيّ، ثقة ثبت [10] 14/ 2132.

3 -

(شعيب) بن أبي حمزة دينار الأمويّ مولاهم، أبو بشر الحمصيّ، ثقة عابد، قال ابن معين: من أثبت الناس في الزهريّ [7] 69/ 85.

4 -

(زينب بنت أبي سلمة) عبد اللَّه بن عبد الأسد المخزومية، ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ماتت سنة (73)، وحضر ابن عمر جنازتها قبل أن يحجّ، ويموت بمكّة، تقدّمت ترجمتها 123/ 182.

5 -

(أم حبيبة بنت أبي سفيان) رملة بنت صخر بن حرب الأمويّة، أم المؤمنين، مشهورة بكنيتها، ماتت سنة اثنتين، أو أربع، وقيل: تسع وأربعين. وقيل: وخمسين، - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وتقدّمت ترجمتها في 122/ 180، والباقيان تُرجما في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رواته كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالحمصيين إلى شعيب، وبالمدنيين بعده. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وصحابيّة عن صحابيّة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن الزهريّ -رحمه اللَّه تعالى- أنه (قال: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ) بن الزبير بن العوّام، أحد الفقهاء المشهورين بالمدينة (أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ) عبد اللَّه بن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللَّه بن عُمر بن مخزوم المخزوميّ، أخي النبيّ صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، كما صرّح به في هذا الحديث، وابن عمّته صفية بنت عبد المطّلب، كان من السابقين إلى الإسلام، شهد بدرًا، ومات في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، مات في جمادى الآخرة سنة أربع من الهجرة، بعد أحد، فتزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم بعده زوجته أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنهما - (وَأُمُّهَا أُمُّ سَلَمَةَ) جملة من مبتدإ وخبر، معترضة، ذكرت لبيان أنها ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، واسمها هند بنت أبي أميّة المخزوميّة - رضي اللَّه تعالى عنها - (زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) برفع "زوج" بدل من "أم سلمة". وقد تقدّم قصّة زواجها من النبيّ صلى الله عليه وسلم في -28/ 3255 - (أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَيِي سُفْيَانَ) رملة بنت صخر - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَخْبَرَتها أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، انكِح) بكسر الكاف، أمر من نكح، ينكح، من باب ضرب، فهمزته همزة وصل، وليست همزة قطع، فما وقع في بعض النسخ، من كتابتها بصورة همزة القطع، فغلط، فتنبّه: أي

ص: 270

تزوّج (أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ) وفي رواية يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شهاب، عند مسلم، والنسائيّ

(1)

في هذا الحديث: "انكح أختي عزة بنت أبي سفيان"، ولابن ماجه من هذا الوجه:"انكح أختي عزّة"، وفي رواية هشام بن عروة، عن أبيه في هذا الحديث عند الطبرانيّ أنها قالت:"يا رسول اللَّه، هل لك في حَمْنَةَ بنت أبي سفيان؟، قال: أصنع ماذا؟ قالت: تنكحها". وعند أبي موسى في "الذيل": "درّة بنت أبي سفيان"، وهذا وقع في رواية الحميديّ في "مسنده" عن سفيان، عن هشام، وأخرجه أبو نُعيم، والبيهقيّ، من طريق الحميديّ، وقالا: قد أخرجه عنه، لكن حذف هذا الاسم، وكأنه عمدًا، وكذا وقع في الرواية زينب بنت أم سلمة، وحذفه البخاريّ أيضًا منها، ثم نبّه على أن الصواب درّة، وجزم المنذريّ بأن اسمها حمنة، كما في الطبرانيّ. وقال عياض: لا نعلم لعزّة ذكرًا في بنات أبي سفيان إلا في رواية يزيد بن أبي حبيب. وقال أبو موسى: الأشهر فيها عزّة

(2)

.

(قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكِ؟) هو استفهام تعجّب من كونها تطلُب أن يتزوّج غيرها مع ما طُبع عليه النساء من المغيرة (فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ) أي لست بمنفردة بك، ولا خالية من ضَرّة. وقال بعضهم: هو بوزن فاعل، من الإخلاء، متعدّيًا، ولا زمًا، من أخليت، بمعنى خَلَوتُ من الضرّة، أي لست بمتفرّغة، ولا خالية من ضرّة. وفي بعض الروايات بفتح اللام بلفظِ المفعول، حكاها الكرمانيّ. وقال عياض: مُخلية: أي منفردة، يقال: أخْلِ أَمْرَكَ، وأَخْلِ بِهِ: أي انفرد به. وقال صاحب "النهاية": معناه: لم أجدك خاليًا من الزوجات، وليس هو من قولهم: امرأة مُخْلِيَةٌ: إذا خلت من الأزواج انتهى.

(وَأَحَبُّ مَنْ يُشَارِكُنِي)"أحبّ" مرفوع بالابتداء، ومتَعلَّقُهُ محذوفٌ: أي إليّ. وفي الرواية التالية: "من شَرِكَني" بغير ألف (فِي خَيْرٍ أُخْتِي) كذا للأكثر بتنكير "خير"، أي في أيّ خير كان. وفي رواية عند البخاريّ عن هشام بن عروة، عن أبيه:"في الخير" بالتعريف. قيل: المراد صحبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، المتضمّنة لسعادة الدارين، الساترة لما لعلّه يَعْرِضُ من المغيرة التي جرت بها العادة بين الزوجات، لكن في رواية هشام المذكورة:"وأحبّ من شَرِكني فيك أختي"، فعرف أن المراد بالخير ذاته صلى الله عليه وسلم. قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

هكذا عزاه في "الفتح" إلى النسائيّ أيضًا، ولم أر عنده تسميتها بعزّة، فليُحرّر. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

"فتح" 10/ 178.

(3)

فتح" 10/ 178.

ص: 271

(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أُخْتَكِ لًا تحَلُّ لِي"، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا لَنَتَحَدَّثُ) وفي الرواية التالية: "واللَّه فقد تحدّثنا". وفي رواية البخاريّ: "فإنا نُحَدَّثُ" بضمّ أوله، وفتح الحاء على البناء للمجهول.

قال الحافظ: لم أقف على اسم من أخبر بذلك، ولعله كان من المنافقين، فإنه قد ظهر أن الخبر لا أصل له، وهذا مما يُستَدلُّ به على ضعف المراسيل.

(أنَّكَ تُرِيدُ، أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ) وفي الباب التالي: "فإنه قد بلغني أنك تخطب دَرّة بنت أم سلمة". وهو بضمّ المهملة، وتشديد الراء. وفي رواية حكاها عياضٌ، وخطأها "ذَرَّة" -بفتح المعجمة-. وعند أبي داود من طريق هشام، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة "درّة"، أو"ذرّة" على الشكّ، شكّ زهيرٌ راويه عن هشام. ووقع عند البيهقيّ من رواية الحميديّ، عن سفيان، عن هشام:"بلغني أنك تخطب زينب بنت أبي سلمة". وهو خطأ. ووقع عند أبي موسى في "ذيل المعرفة" حمنة بنت أبي سلمة، وهو خطأ. قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَقَالَ: "بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ؟) بتقدير همزة الاستفهام، وهو استفهام استثبات؛ لرفع الإشكال، أو استفهام إنكار، والمعنى: أنها إن كانت بنتَ أم سلمة من أمّ سلمة، فيكون تحريمها من وجهين، كما سيأتي بيانه، وإن كانت من غيرها فمن وجه واحد، وكأنّ أمّ حبيبة لم تطّلع على تحريم ذلك؛ إما لأن ذلك كان قبل نزول آية التحريم، وإما بعد ذلك، وظنّت أنه من خصائص النبيّ صلى الله عليه وسلم -كذا قال الكرمانيّ.

قال الحافظ: والاحتمال الثاني هو المعتمد، والأول يدفعه سياق الحديث، وكأنّ أمّ حبيبة استدلت على جواز الجمع بين الأختين بجواز الجمع بين المرأة وابنتها بطريق الأولى؛ لأن الربيبة حرمت على التأبيد، والأخت حرمت في صورة الجمع فقط، فأجابها صلى الله عليه وسلم بأن ذلك لا يحلّ، وأن الذي بلغها من ذلك ليس بحقّ، وأنها تحرم عليه من جهتين.

(فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: "وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّهَا رَبِيبَتي) أي بنت زوجتي، مشتقّةٌ من الربّ، وهو الإصلاح؛ لأنه يقوم بأمرها. وقيل: من التربية، وهو غلطٌ من جهة الاشتقاق (فِي حَجْرِي) راعَى فيه لفظ الآية، وإلا فلا مفهوم له، كذا عند الجمهور، وأنه خرج مخرج الغالب، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا. وفي رواية عراك، عن زينب بنت أمّ سلمة، عند الطبرانيّ:"لو لم أنكح أمّ سلمة ما حلّت لي، إن أباها أخي من الرضاعة"، ووقع في

(1)

"فتح" 10/ 178 - 179.

ص: 272

رواية ابن عيينة، عن هشام:"واللَّه لو لم تكن ربيبتي ما حلّت لي"، فذكر ابن حزم أن منهم من احتجّ به على أن لا فرق بين اشتراط كونها في الحجر أولا، وهو ضعيف؛ لأن القصة واحدة، والذين زادوا فيها لفظ:"في حجري" حفّاظ أثبات.

(ماحَلَّتْ لِي، إِنّها لابنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ) أي أرضعت أبا سلمة، وهو من تقديم المفعول على الفاعل (ثُوَيْبَةُ) بمثلّثة، وموحّدة، مصغرًا- كانت مولاة لأبي لهب بن عبد المطّلب، عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَلَا تَعْرِضْنَ) -بفتح أوله، وسكون العين، وكسر الراء، بعدها معجمة ساكنة، ثم نون- على الخطاب لجماعة النساء، وبكسر المعجمة، وتشديد النون، خطاب لأم حبيبة وحدها، والأول أوجه.

وقال ابن التين: ضبط -بضمّ الضاد- في بعض الأمهات، ولا أعلم له وجهًا لأنه إن كان الخطاب لجماعة النساء، وهو الأبين، فهو بسكون الضاد؛ لأنه فعل مستقبل مبنيّ على أصله، ولو أدخلت عليه التأكيد، فشدّدت النون لكان تعرّضنانّ؛ لأنه يجتمع ثلاث نونات، فيفرّق بينهن بالألف، وإن كان الخطاب لأم حبيبة خاصّة، فتكون الضاد، مكسورة، والنون مشدّدة.

وقال القرطبيّ: جاء بلفظ الجمع، وإن كانت القصة لاثنين، وهما أم حبيبة، وأم سلمة ردعًا، وزجرًا أن تعود واحدة منهما، أو من غيرهما إلى مثل ذلك، وهذا كما لو رأى رجلٌ امرأةً تكلّم رجلًا، فقال لها: أتكلّمين الرجال، فإنه مستعمل شائعٌ.

(عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ) وكان لأم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - من البنات زينب راوية الخبر، ودُرّة التي قيل: إنها مخطوبة. وكان لأم حبيبة من البنات حبيبة، وقد روت عنها الحديث، ولها صحبة (وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ) وكان لأم سلمة من الأخوات قُريبة زوج زمعة بن الأسود، وقُريبة الصغرى زوج عمر، ثم معاوية، وعزة بنت أبي أمية زوج منبّه بن الحجّاج.

وكان لأم حبيبة من الأخوات هند زوج الحارث بن نوفل، وجُويرية زوج السائب بن أبي حُبيش، وأُميمة زوج عروة بن مسعود.

وكان لغيرهما من أمهات المؤمنين من الأخوات أم كلثوم، وأم حبيبة ابنتا زمعة أختا سودة. وأسماء أخت عائشة، وزينب بنت عمر أخت حفصة، وغيرهنّ. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ: "قال عروة: وئُويبة مولاةٌ لأبي لهب، وكان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أُريه بعض أهله بشرّ حِيبة

(1)

، قال

(1)

بكسر الحاء: أي سوء حال.

ص: 273

له: ماذا لقيتَ؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم

(1)

، غير أني سُقيت في هذه بعتاقتي ثُويبة" انتهى.

قال في "الفتح": وفي هذا الحديث دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة؛ لكنه مخالف لظاهر القرآن، قال اللَّه تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} ، وأجيب أوّلًا بأن الخبر مرسل، أرسله عروة، ولم يذكر من حدّث به، وعلى تقدير أن يكون موصولًا، فالذي في الخبر رؤيا منام، فلا حجة فيه، ولعلّ الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد، فلا يحتجّ به، وثانيًا على تقدير القبول، فيحتمل أن يكون ما يتعلّق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم مخصوصًا من ذلك، بدليل قصّة أبي طالب، كما تقدّم أنه خفّف عنه، فنُقل من الغمرات إلى الضحضاح. وقال البيهقيّ: ما ورد من بطلان الخير للكفار، فمعناه أنهم لا يكون لهم التخلّص من النار، ولا دخول الجنّة، ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الذي يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم سوى الكفر بما عملوه من الخيرات. وأما عياض، فقال: انعقد الإجماع على أن الكفّار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يُثابون عليها بنعيم، ولا تخفيف عذاب، وإن كان بعضهم أشدّ عذابًا من بعض. قال الحافظ: وهذا لا يرد الاحتمال الذي ذكره البيهقيّ، فإن جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلّق بذنب الكفر، وأما ذنب غير الكفر، فما المانع من تخفيفه؟. وقال القرطبيّ: هذا التخفيف خاصّ بهذا، وبمن ورد النصّ فيه. وقال ابن المنيّر في "الحاشية": هنا قضيّتان: إحداهما محال، وهي اعتبار طاعة الكافر مع كفره؛ لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح، وهذا مفقود من الكافر.

الثانية: إثابة الكافر على بعض الأعمال تفضّلًا من اللَّه تعالى، وهذا لا يحيله العقل، فإذا تقرّر ذلك لم يكن عتق أبي لهب لثويبة قربة معتبرة، ويجوز أن يتفضّل اللَّه عليه بما شاء كما تفضّل على أبي طالب، والمتّبع في ذلك التوقيف نفيًا وإثباتًا.

قال الحافظ: وتتمة هذا أن يقع التفضّل المذكور إكرامًا لمن وقع من الكافر البرّ له، ونحو ذلك

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن هذه القصّة منامية، والذي رآها لا يدرى، هل هو مسلم، أم لا؟، فلا داعي إلى التكلّف بالتأويلات التي ذكروها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

حذف مفعول، وهو مذكور في رواية عبد الرزاق، ولفظه:"لم ألق بعدكم راحة". وفي رواية الإسماعيليّ: "لم ألق بعدكم رخاء".

(2)

"فتح" 10/ 181 - 182.

ص: 274

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث زينب بنت أبي سلمة - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-44/ 3285 و 45/ 3286 و 3287 و 46/ 3288 - وفي "الكبرى"42/ 5415 و 5416 و 43/ 5417 و 5418. وأخرجه (خ) في "النكاح" 5101و 506 و 507 و"النفقات" 5372 (م) في "الرضاع" 1449 (د) في "النكاح" 2056 (ق) في "النكاح" 1939 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 25954 و 26866. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تحريم الربيبة التي في حجر الرجل. (ومنها): تحريم الجمع بين الأمّ والبنت، وهذا هو الذي عقد له الباب التالي. (ومنها): تحريم الجمع بين الأختين، وسيأتي بعد باب، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): ثبوت الرضاع بالتحريم، وسيأتي له باب خاصّ به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم نكاح الربيبة:

ذهب الجمهور إلى تحريم الربيبة مطلقًا، سواء كانت في حجره، أم لا؟. وذهبت طائفة إلى أنها إذا لم تكن في حجره يجوز أن يتزوّجها.

وسبب ذلك اختلافهم في قوله تعالى: {فِي حُجُورِكُمْ} هل للغالب، أو يُعتبر فيه مفهوم المخالفة، فذهب إلى الأول الجمهور، وإلى الثاني بعضهم، وقد صحّ ذلك عن عمر بن الخطّاب، وعليّ بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنهما -، فقد صحّ عن عمر رضي الله عنه أنه أفتى من سأله إذا تزوّج بنت رجل كانت تحته جدّتها، ولم تكن البنت في حجره. أخرجه أبو عبيد.

وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وغيرهما من طريق إبراهيم بن عُبيد، عن مالك ابن أوس، قال: كانت عندي امرأة قد ولدت لي، فماتت، فوجدت عليها، فلقيت عليّ ابن أبي طالب، فقال لي: مالك؟، فأخبرته، فقال: ألها ابنة؟ -يعني من غيرك- قلت: نعم، قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، هي في الطائف، قال: فانكحها، قلت: فأين قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ} ؟ قال: إنها لم تكن في حجرك.

قال الحافظ: وقد دفع بعض المتأخّرين هذا الأثر، وادّعى نفي ثبوته بأن إبراهيم بن

ص: 275

عُبيد لا يُعرف، وهو عجيب، فإن الأثر المذكور عند ابن أبي حاتم في "تفسيره" من طريق إبراهيم بن عُبيد بن رفاعة، وإبراهيم ثقة، تابعيّ معروفٌ، وأبوه، وجدّه صحابيّان، والأثر صحيح عن عليّ رضي الله عنه.

قال الحافظ: بعد أثر عمر رضي الله عنه المتقدِّم: وهذا وإن كان الجمهور على خلافه، فقد احتجّ أبو عبيد للجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم:"فلا تَعْرِضنّ عليّ بناتكنّ"، قال: نعم، ولم يقيّد بالحجر. وهذا فيه نظرٌ؛ لأن المطلق محمول على المقيّد، ولولا الإجماع الحادث في المسألة، وندرة المخالف، لكان الأخذ به أولى؛ لأن التحريم جاء مشروطًا بأمرين: أن تكون في الحجر، وأن يكون الذي يريد التزويج قد دخل بالأمّ، فلا تحرم بوجود أحد الشرطين، واحتجّوا أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"لو لم تكن ربيبتي ما حلّت لي"، وهذا وقع في بعض طرق الحديث كما تقدّم، وفي أكثر طرقه:"لو لم تكن ربيبتي في حجري"، فقيّد بالحجر كما قيّد به القرآن، فقوي اعتباره. واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "لولا الإجماع الحادث" فيه نظر لا يخفى، إذ دعوى الإجماع غير صحيحة، يَرُدُّها قوله:"وندرة المخالف"، فإنه صريح في أنه لا إجماع في المسألة، فتنبّه، وإلى ما ثبت عن عمر، وعليّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - ذهب ابن حزم، وانتصر له، في كتابه "المحلّى" -9/ 527 - 532، فليُراجَع.

لكن الذي ذهب إليه الجمهور أولى، احتياطًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌45 - (تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الأُمِّ وَالْبِنْتِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر هذه الترجمة يؤكّد ما قدّمته من أن المصنّف يؤيّد مذهب من يرى جواز نكاح بنت الزوجة التي ليست في حجره، وإلا فلا فائدة في هذه الترجمة؛ لأنه إذا لم يجز نكاح الربيبة مطلقًا، سواء كانت في حجره، أم لا، كما هو

(1)

"فتح" 10/ 198.

ص: 276

مذهب الجمهور علم تحريم الجمع بين الأم والبنت من باب أولى، وأما إذا قيل بجواز نكاح غير الربيبة التي في الحجر، فقد يخفى حكم الجمع بينهما، فبينه بهذه الترجمة، ووجه دلالة الحديث عليه، أنه إذا حرم الجمع بين الأختين؛ لأجل القطيعة، فلأن يحرم الجمع بين الأمِ والبنت من باب أولى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3286 -

(أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ بَيَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،، أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْكِحْ بِنْتَ أَبِي -تَعْنِي أُخْتَهَا- فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَتُحِبِّينَ ذَلِكِ؟» ، قَالَتْ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَتْنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي، فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ» ، قَالَتْ: أُمُّ حَبِيبَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ تَحَدَّثْنَا، أَنَّكَ تَنْكِحُ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: «بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ؟» ، قَالَتْ: أُمُّ حَبِيبَةَ: نَعَمْ، قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَوَاللَّهِ لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي، مَا حَلَّتْ، إِنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي، وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ، وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه. وهو أبو عبد اللَّه الواسطيّ، نزيل مصر، ثقة عابد [10] 20/ 1399.

وقوله: "شركتني"، وفي نسخة:"شركني"، وهو -بفتح الشين، وكسر الراء- من باب تعب، يقال: شَرِكتُهُ في الأمر أَشْرَكه شَرِكًا، وشركةً، وزان كَلِمٍ، وكَلِمَة -بفتح الأول، وكسر الثاني-: إذا صرتُ له شَرِيكًا. قاله الفيّوميّ.

والحديث متّفقٌ عليه، وتمام شرحه، والكلام على مسائله تقدما في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3287 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ دُرَّةَ، بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَعَلَى أُمِّ سَلَمَةَ؟ لَوْ أَنِّي لَمْ أَنْكِحْ أُمَّ سَلَمَةَ، مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّ أَبَاهَا أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"الليث": هو ابن سعد الإمام الحجة الثبت المصريّ.

والحديث متّفق عليه، سبق الكلام عليه في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 277

‌46 - (تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ)

3288 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لَكَ فِي أُخْتِي؟ قَالَ: «فَأَصْنَعُ مَاذَا؟» ، قَالَتْ: تَزَوَّجُهَا، قَالَ: «فَإِنَّ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيْكِ؟» ، قَالَتْ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ يَشْرَكُنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي، قَالَ: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي» ، قَالَتْ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَخْطُبُ دُرَّةَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَ: «بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ؟» ، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: «وَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي، مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ، وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"عبدة": هو ابن سليمان الكلابيّ. و"هشام": هو ابن عروة.

وقوله: "فأصنع ماذا؟ " قال في "الفتح": فيه شاهدٌ على جواز تقديم الفعل على "ما" الاستفهامية؛ خلافًا لمن أنكره من النحاة.

والحديث متّفق عليه، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله قبل باب، ودلالته على الترجمة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌47 - (الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا)

3289 -

(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هارون بن عبد اللَّه) الحمال، أبو موسى البغداديّ، ثقة حافظ [10] 50/ 65.

2 -

(معن) بن عيسى الأشجعيّ مولاهم، أبو يحيى المدنيّ القزّاز، ثقة ثبت، من

ص: 278

كبار [10] 50/ 62.

3 -

(مالك) بن أنس الإمام المدنيّ الثقة الثبت الحجة [7] 7/ 7.

4 -

(أبو الزناد) عبد اللَّه بن ذكوان القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة فقيه [5] 7/ 7.

5 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبت فقيه [3] 7/ 7.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغداديّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة حديثًا، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه. هكذا في رواية الأعرج، عن أبي هريرة، وكذا رواية قبيصة ابن ذُؤيب، واختُلف في رواية الشعبيّ، ففي رواية عنه، عن أبي هريرة، وفي رواية عنه، عن جابر، كما سيأتي في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى، والحديث صحيح من الطريقين.

وقد أخرج البخاريّ روايته عن جابر، ثم قال: وقال داود، وابن عون، عن الشعبيّ، عن أبي هريرة. قال في "الفتح": أما رواية داود -وهو ابن أبي هند- فوصلها أبو داود، والترمذيّ، والدارميّ من طريقه، قال:"حدثنا عامر -هو الشعبيّ- أنبأنا أبو هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى أن تُنكح المرأة على عمّتها، أو المرأة على خالتها، أو العمّة على بنت أخيها، أو الخالة عليّ بنت أختها، لا الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى". لفظ الدارميّ، والترمذيّ نحوه. ولفظ أبي داود:"لا تُنكَح المرأة على عمّتها، ولا على خالتها". وأخرجه مسلم من وجه آخر، عن داود بن أبي هند، فقال:"عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة"، فكان لداود فيه شيخان، وهو محفوظٌ لابن سيرين عن أبي هريرة من غير هذا الوجه.

وأما رواية ابن عون -وهو عبد اللَّه- فوصلها النسائيّ في "الكبرى" 3/ 294 رقم - 5431 - من طريق خالد بن الحارث، عنه، بلفظ: "لا تزوّج المرأة على عمّتها، ولا

ص: 279

على خالتها". قال: ووقع لنا في "فوائد أبى محمد بن أبي شريح" من وجه آخر، عن ابن عون، بلفظ: "نهى أن تُنكح المرأة على ابنة أخيها، أو ابنة أختها".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي عزاه إلى "فوائد أبي محمد" موجود عند النسائيّ بالسند السابق، ولعله لم يقع في نسخة الحافظ، ولفظه بعد ما تقدّم:"قال: ولا تزوّج المرأة على ابنة أخيها، ولا ابنة أختها". فتنبّه.

قال الحافظ: والذي يظهر أن الطريقين محفوظان. وقد رواه حمّاد بن سلمة، عن عاصم، عن الشعبيّ، عن جابر، أو أبي هريرة، لكن نقل البيهقيّ عن الشافعيّ أن هذا الحديث لم يروه من وجه يثبته أهل الحديث إلا عن أبي هريرة، وروي من وجوه لا يُثبتها أهل العلم بالحديث. قال البيهقيّ: هو كما قال، قد جاء من حديث عليّ، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عبّاس، وعبد اللَّه بن عمرو، وأنس، وأبي سعيد، وعائشة، وليس فيها شيء على شرط الصحيح، وإنما اتفقا على إثبات حديث أبي هريرة.

وأخرج البخاريّ رواية عاصم، عن الشعبيّ، عن جابر، وبيّن الاختلاف على الشعبيّ فيه، قال: والحفّاظ يرون رواية عاصم خطأ، والصواب رواية ابن عون، وداود بن أبي هند انتهى.

قال الحافظ: وهذا الاختلاف لم يقدح عند البخاريّ؛ لأن الشعبيّ أشهر بجابر منه بأبي هريرة. وللحديث طرق أخرى عن جابر بشرط الصحيح، أخرجها النسائيّ -48/ 32300 - من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر. والحديث محفوظ أيضًا من أوجه عن جابر. والحديث محفوظ أيضًا من أوجه عن أبي هريرة، فلكلّ من الطريقين ما يعضده، وقول من نقل البيهقيّ عنهم تضعيف حديث جابر معارَضٌ بتصحيح الترمذيّ، وابن حبّان، وغيرهما له، وكفى بتخريج البخاريّ له موصولًا قوَّةً.

قال ابن عبد البرّ: بعض أهل الحديث يزعم أنه لم يرو هذا الحديث غير أبي هريرة - يعني من وجه يصحّ- وكأنه لم يُصحّح حديث الشعبيّ، عن جابر، وصحّحه عن أبي هريرة، والحديثان جميعًا صحيحان. وأما من نقل البيهقيّ أنهم رووه من الصحابة غير هذين، فقد ذكر مثل ذلك الترمذيّ بقوله:"وفي الباب"، لكن لم يذكر ابن مسعود، ولا ابن عبّاس، ولا أنسًا، وزاد بدلهم أبا موسى، وأبا أُمامة، وسمرة.

قال الحافظ: ووقع لي أيضًا من حديث أبي الدرداء، ومن حديث عتّاب بن أَسِيد، ومن حديث سعد بن أبي وقّاص، ومن حديث زينب امرأة ابن مسعود، فصار عدّة من رواه غير الأولين ثلاثة عشر نفسًا، وأحاديثهم موجودةٌ عند ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبي داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وأبي يعلى، والبزّار، والطبرانيّ، وابن حبّان، وغيرهم،

ص: 280

ولولا خشية التطويل لأوردتها مفصّلةً، لكن في لفظ ابن عبّاس عند أبي داود "أنه كره أن يُجمع بين العمة والخالة، وبين العمّتين، والخالتين"، وفي روايته عند ابن حبّان:"نهى أن تُزوّج المرأة على العمّة والخالة، وقال: إنكنّ إذا فعلتنّ ذلك، قطعتنّ أرحامكنّ" انتهى

(1)

.

(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لًا يُجْمَعُ) قال القرطبيّ: برفع العين هي الرواية على الخبر عن المشروعية، فيتضمّن النهي عن ذلك انتهى.

وقال السنديّ: قوله: "لا يجمع" عليّ بناء المفعول: نهيٌ، أو نفيٌ بمعناه. ويحتمل بناء الفاعل على الوجهين، على أن الضمير لـ"أحد"، أو"ناكح"، والمراد أنه لا يجمع في النكاح بعقد، أو عقدين، أو في الجماع بملك اليمين انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حاصل ما أشار إليه السنديّ أن "لا" هنا يحتمل أن تكون ناهية، فيكون الفعل مجزومًا، ويحتمل أن تكون نافيةً، فيكون الفعل مرفوعًا، والمراد به النهي.

قلت: لكن إن صحّت الرواية على الرفع فقط، كما صرّح به القرطبيّ، فإنها متعيّنة، ويكون الكلام نفيًا، بمعنى النهي، ولا يجوز الجزم؛ لأن الرواية مقدّمة. وكذلك كونه بالبناء للفاعل، ويكون الفاعل ضميرًا يعود على "أحد"، أو "ناكح"، يعتمد على صحّة الرواية" فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمّتِهَا، وَلًا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا) سواء كان بنكاح، أووطأً بملك يمين، وسواء تزوّج إحداهما على الآخر، أو عقد عليهما معًا، فإن جمع بينهما بعقد بطلا، أو مرتّبًا بطل الثاني. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-47/ 3289 و 3290 و 3291 و 3292 و 3293 و 3294 و 3295 و 3296 و 3297 - وفي "الكبرى" 44/ 5419 و 5420 و 5422 و 5423 و 5424 و 5425 و 5426. وأخرجه (خ) في "النكاح" 5109 و 5111 (م) في "النكاح" 1408

(1)

"فتح"201 - 202.

ص: 281

(د) في "النكاح" 2065 و 2066 (ت) في "النكاح" 1126 (ق) في "النكاح" 1929 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7093 و 7413 و 8876 و 8950 و 9184 و 9216 و 9303 و 9524 و 9975 و 10227 و 10211 و 10334 و 10334 و 10505 (الموطأ) في "النكاح" 1129 (الدارمي) في "النكاح" 2178 و 2179. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في الجمع بين من ذُكر في هذا الحديث، ونحوه:

قال الإمام الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-: تحريم الجمع بين من ذُكر هو قول من لقيته من المفتين، لا اختلاف بينهم في ذلك. وقال الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد تخريجه: العمل على هذا عند عامّة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافًا أنه لا يحلّ للرجل أن يجمع بين المرأة وعمّتها، أو خالتها، ولا أن تُنكح المرأة على عمّتها، أو خالتها. وقال ابن المنذر: لست أعلم في منع ذلك اختلافًا اليوم، وإنما قال بالجواز فرقة من الخوارج، وإذا ثبت الحكم بالسنّة، واتفق أهل العلم على القول به، لم يضرّه خلاف من خالفه. وكذا نقل الإجماع ابن عبد البرّ، وابن حزم، والقرطبيّ، والنوويّ. لكن استثنى ابن حزم عثمان الْبَتِّيّ، وهو أحد الفقهاء القدماء من أهل البصرة -وهو بفتح الموحّدة، وتشديد المثناة- واستثنى النوويّ طائفةً من الخوارج والشيعة. واستثنى القرطبيّ الخوارج، ولفظه: وهذا الحديث مجمع على العمل به في تحريم الجمع بين من ذُكر فيه بالنكاح، وكذلك أجمع المسلمون على تحريم الجمع بين الأختين بالنكاح؛ لقوله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] وأما بملك اليمين، فروي عن بعض السلف جوازه، وهو خلافٌ شاذّ استقرّ الإجماع بعدُ على خلافه. وأجاز الخوارج الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها وخالتها، ولا يُعتدّ بخلافهم؛ لأنهم مرقوا من الدين، وخرجوا منه، ولأنهم مخالفون للسنة الثابتة

(1)

انتهى.

وتعقّبه في "الفتح"، فقال: وفي نقله عنهم جواز الجمع بين الأختين غلط بيّنٌ، فإن عمدتهم التمسّك بأدلّة القرآن، لا يُخالفونها البتّةَ، وإنما يردّون الأحاديثَ؛ لاعتقادهم عدم الثقة بنقلتها، وتحريم الجمع بين الأختين بنصوص القرآن. ونقل ابن دقيق العيد تحريم الجمع بين المرأة وعمتها عن جمهور العلماء، ولم يُعيّن المخالف انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن جمهور أهل السنّة على العمل بما في حديث الباب، ونحوه، من تحريم الجمع بين المرأة وعمّتها، وبين المرأة وخالتها. واللَّه

(1)

"المفهم" 4/ 101 - 102.

(2)

"فتح" 10/ 202.

ص: 282

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): زاد في رواية الشيخين بعد رواية حديث الباب عن ابن شهاب -رحمه اللَّه تعالى-: ما نصّه: "فنرى خالة أبيها، وعمّة أبيها بتلك المنزلة". لفظ مسلم.

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إنما صار ابن شهاب إلى ذلك؛ لأنه حمل الخالة،

والعمّة على العموم، وتمّ له ذلك؛ لأن العفة اسم لكلّ امرأة شاركت أباك في أصليه، أو في أحدهما، والخالة اسم لكلّ أنثى شاركت أمك في أصليها، أو في أحدهما.

وقد عقد علماؤنا -يعني المالكيّة- فيمن يحرم الجمع بينهما عقدًا حسنًا، فقالوا: كلّ امرأتين بينهما نسبٌ، بحيث لو كانت إحداهما ذكرًا لحرمت عليه الأخرى، فلا يُجمع بينهما. وإن شئت أسقطت "بينهما نسبٌ" وقلت بعد ذلك: كانت إحداهما ذكرًا، لحرمت عليه الأخرى من الطرفين. وفائدة هذا الاحتراز مسألة نكاح المرأة وربيبتها

(1)

،فإن الجمع بينهما جائز، ولو قدّرت امرأة الأب رجلًا، لحلّت له الأخرى، وهذا التحرّي

(2)

هو على مذهب الجمهور المجيزين للجمع بين المرأة وربيبتها، وقد منعه الحسن، وابن أبي ليلى، وعكرمة.

وعلّل الجمهور منع الجمع بين من ذكرناه؛ لما يُفضي إليه الجمع من قطع الأرحام القريبة بما يقع بين الضرائر، من الشنآن والشرور بسبب الغيرة، وقد شهد لصحّة هذا التعليل ما ذكره أبو محمد الأصيليّ في "فوائده"، وأبو عمر بن عبد البّر عن ابن عباس، قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج الرجل المرأة على العمة، أو على الخالة، وقال:"إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم". ومن مراسيل أبي داود عن حسين، قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على قرابتها، مخافة القطيعة.

وقد طرد بعض السلف هذه العلّة، فمنع الجمع بين بنتي العمّتين، والخالتين، وبنتي الخالين، والعمّين. وجمهور السلف، وأئمة الفتوى على خلافه، وقصر التحريم على ما ينطلق عليه لفظ العمّات، والخالات.

وقد روى الترمذيّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا، وقال فيه: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح المرأة على عمّتها، أو العمّة على ابنة أخيها، والمرأة على خالتها، أو الخالة على ابنة أختها، ولا تُنكح الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى. وقال:

(1)

هكذا نسخة "المفهم"، والظاهر أنه سقطت منه لفظة "عن"، والأصل:"عن مسألة نكاح المرأة الخ"، فقوله:"فائدة هذا" مبتدأ، خبره "الاحتراز"، و"عن مسألة الخ" متعلق بالاحتراز. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

هكذا في النسخة، ولعل الصواب: وهذا التحرّز، فليُحرّر.

ص: 283

حديث حسنٌ صحيح

(1)

.

وهو مساقٌ حسنٌ بيّنٌ، غير أن فيه واوًا اقتضت إشكالاً، وهي التي في قوله:"ولا"، وذلك أنه قد ذكر العمّة، وهي الكبرى، وابنة أخيها، وهي الصغرى، والخالة، وهي الكبرى، وابنة أختها، وهي الصغرى، ثم أتى بالنهي عن إدخال إحداهما على الأخرى، طردًا وعكسًا. ويرتفع الإشكال بأن تقدّر الواو زائدة، ويكون الكلام الذي بعدها مؤكدًّا لما قبلها، ومؤيّدًا له.

وفي كتاب أبي داود من حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، مرفوعًا:"نَهَى أن يُجمع بين العمّة والخالة، وبين العمتين، والخالتين". قال ابن النّحّاس: الواجب على لفظ هذا الحديث ألا يُجمعَ بين امرأتين، إحداهما عمة الأخرى، والأخرى خالة الأخرى، وهذا يخرّج على وجه صحيح، وهو أن يكون رجلٌ، وابنه تزوّجا امرأة وابنتها، تزوّج الأب البنت، والابن الأمّ، فولدت كلّ واحدة منهما بنتًا، فابنة الأب عمّة ابنة الابن، وابنة الابن خالة ابنة الأب.

وأما الخالتان: فأن يتزوّج رجلٌ ابنة رجل، ويتزوّج الثاني ابنة الأول، فيولد لكلّ منهما ابنةٌ، فابنة كلّ واحد منهما خالة الأخرى.

وأما العمتان: فأن يتزوّج رجلٌ أمّ رجل، ويتزوّج الآخر أمّ الآخر، ثم يولد لكلّ واحد منهما ابنةٌ، فبنت كلّ واحد منهما عمّة الأخرى. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(2)

.

وقال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: قد اختلف العلماء في المعنى المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: لا تُنكح المرأة على عمّتها، ولا على خالتها":

فقالت طائفة: معناه كراهية القطيعة، فلا يجوز لأحد أن يجمع بين امرأتين بينهما قرابة رحمٍ محرّمة، أو غير محرّمة، فلم يجيزوا الجمع بين ابنتي عمّ، أو عمّة، ولا بين ابنتي خال، أو خالة. روي ذلك عن إسحاق بن طلحة بن عبيد اللَّه، والحسن بن أبي الحسن، وجابر بن زيد، وعكرمة، وقتادة، وعطاء، على اختلاف عنه. وروى ابن عيينة عن ابن أبي نَجيح، عن عطاء أنه كره أن يُجمع بين ابنتي العمّ. وعن ابن عيينة، وابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد بن عليّ أنه أخبره أن حسن بن حسن بن عليّ نكح ابنة محمد بن عليّ، وابنة عمر بن عليّ، جمع بين ابنتي عمّ، فأصبح نساؤهم لا يدرين إلى أيّتهما يذهبن. قال ابن جريج: فقلت لعطاء: الجمع بين المرأة

(1)

الترمذيّ رقم (1126) وهو حديث صحيح، كما قال.

(2)

"المفهم" 74/ 102 - 104.

ص: 284

وابنة عمّها؟ قال: لا بأس بذلك.

قال أبو عمر: ابن جريج أثبت الناس في عطاء، لا يُقاس به فيه ابن أبي نَجيح، ولا غيره. وروى معمر، عن قتادة، قال: لا بأس أن يجمع الرجل بين ابنتي العمّ.

قال أبو عمر: على هذا القول جمهور العلماء، وجماعة الفقهاء، أئمة الفتوى: مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، والأوزاعيّ، وغيرهم.

وقال جماعة منهم: إنما يُكره الجمع بين امرأتين، لو كانت إحدهما رجلًا لم يجز له نكاح الأخرى؛ اعتبارًا بالأختين، وليس ابنة العمّ من هذا المعنى. وروى معتمر بن سليمان، عن فُضيل بن ميسرة، عن أبي حَرِيز، عن الشعبيّ، قال: كلّ امرأتين إذا جَعَلتَ موضع إحداهما ذكرًا لم يجز له أن يتزوّج الأخرى، فالجمع بينهما حرامٌ، قلت له: عمن هذا؟ فقال: عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وروى الثوريّ، عن ابن أبي ليلى، عن الشعبيّ، قال: لا ينبغي رجل أن يجمع بين امرأتين، لو كانت إحداهما رجلًا لم يحلّ له نكاحها. قال سفيان: تفسير هذا عندنا أن يكون من النسب، ولا تكون بمنزلة امرأة رجل، وابنة زوجها، فإنه يَجمَع بينهما إن شاء.

قال أبو عمر: قد اختلف العلماء في جمع الرجل في النكاح بين امرأة رجلٍ وابنته من غيرها، فالجمهور على أن ذلك جائزٌ، وعليه جماعة الفقهاء بالمدينة، ومكة، والعراق، ومصر، والشام، إلا ابن أبي ليلى، من أهل الكوفة. وقد تقدّمه إلى ذلك الحسن، وعليّ، وعكرمة، وخالفهم أكثر الفقهاء؛ لأنه لا نسب بينهما. وروي أن عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب، جمع بين امرأة عليّ، وابنته من غيرها، وعبد اللَّه بن صفوان بن أمية، تزوّج امرأة رجل وابنته من غيرها.

وقالت طائفة منهم الحسن، وعكرمة: لا يجوز لأحد أن يجمع بين امرأة رجل وابنته من غيرها. واعتلّوا بالعلّة التي ذكرنا بأن إحداهما لو كان رجلًا لم يحلّ له نكاح الأخرى. انتهى كلام ابن عبد البرّ ببعض تصرّف

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر من الأدلة أن ما ذهب إليه الجمهور من جواز نكاح زوجة الرجل، وابنته من غيرها هو الحقّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3290 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ يُونُسَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي

(1)

"الاستذكار" 16/ 172 - 176.

ص: 285

قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَالْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عَبدِ الوَهَّابِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ" أبو عمر الأسديّ الزبيريّ المدنيّ، صدوق [10].

قال أبو حاتم، والنسائيّ: لا بأس به. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث، سمع منه ابن صاعد بالمدينة سنة (245). تفرّد به المصنّف، وله عنده هذا الحديث فقط.

و"محمد بن فُلَيح" بن سليمان الأسلميّ، أو الخُزَاعيّ المدنيّ، صدوق يَهِم [9].

قال ابن أبي حاتم، عن أبيه: حدّثنا معاوية بن صالح، عن ابن معين، قال؛ فُليح ليس بثقة، ولا ابنه، قال أبي: كان ابن معين، يَحمل على محمد، قلت: فما قولك فيه؟ قال: ما به بأس، ليس بذاك القويّ. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الدارقطنيّ: ثقة. وقال هارون بن عبد اللَّه الفَرْويّ: مات سنة (197)، أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وابن ماجه. وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

و"يونس": هو ابن يزيد الأيليّ.

و"قَبيصة -بفتح أوله، وكسر الموحّدة

(1)

- ابن ذُؤيب" -بالذال المعجمة، مصغّرًا - ابن حَلْحَلَة- بمهملتين مفتوحتين، بينهما لام ساكنة- الْخُزَاعيّ، أبو سعيد، ويقال: أبو إسحاق المدنيّ، نزيل دمشق، من أولاد الصحابة، ولد عام الفتح.

قال ابن سعد: كان على خاتم عبد الملك، وكان آثر الناس عنده، وكان البريدَ إليه، وكان ثقةً مأمونًا كثير الحديث. وقال ابن لهيعة، عن ابن شهاب: كان من علماء هذه الأمّة. وذكره أبو الزناد في الفقهاء. وقال محمد بن راشد، عن مكحول: ما رأيت أحدًا أعلم منه. وقال مغيرة، عن الشعبيّ: كان أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت. وقال الغلّابيّ، عن ابن معين: أُتي به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليدعو له بالبركة. وقال الهيثم، عن عبد اللَّه بن عيّاش: ذهبت عينه يوم الحرّة. وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في ثقات التابعين، وقال: كان من فقهاء أهل المدينة، وصالحيهم، مات بالشام سنة (86) وكذا قال خليفة وغيره. وقيل: غير ذلك. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

والحديث متّفق عليه، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم

(1)

فما وقع في النسخ المطبوعة من ضبطه بالقلم بضم القاف، وفتح الباء، فإنه تصحيف، فتنبّه.

ص: 286

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3291 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ رَبِيعَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا

(2)

").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إبراهيم بن يعقوب": هو الْجُوزَجانيّ، نزيل دمشق ثقة حافظ رمي بالنصب [11] 122/ 174.

و"ابن أبي مريم": هو سعيد بن الحَكَم بن محمد بن سالم، أبو محمد المصريّ الفقيه الثقة الثبت، من كبار [10] 3/ 2098. و"يحيى بن أيوب": الغافقيّ، أبو العبّاس المصريّ، صدوق، ربما أخطأ [7] 60/ 1771

و" جعفر بن ربيعة": هو أبو شُرَحبيل المصريّ، ثقة [5] 122/ 174.

و"عراك بن مالك": هو الغفاريّ الكنانيّ المدنيّ الثقة الفاضل [3] 134/ 207.

والحديث متّفق عليه، وتقدم تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3292 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، يُجْمَعُ بَيْنَهُنَّ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَالْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

وقوله: "عن أربع نسوة" أي عن الجمع بين اثنتين منهنّ، على الوجه الذي ذُكر في الحديث.

وقوله: "يُجمع بينهنّ" بالبناء للمفعول. قال السنديّ: والأقرب أنه بتقدير أن يُجمع بينهن، أي بين ثنتين منهنّ، بدلٌ عن أربع نسوة. ويحتمل أنه صفة "نسوة" بمعنى أنه يمكن الجمع بينهن لولا النهي، فنَهَى عن الجمع بينهنّ لذلك، أي أربع نسوة يجتمع في الوجود عادةً، فيمكن لذلك الجمع، لولا النهي، فنهى، حتى لا يَجمع أحدٌ، فهو نهي مقيدٌ. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(3)

.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

وفي نسخة: "وخالتها" بالواو.

(3)

"شرح السنديّ" 6/ 97.

ص: 287

والحديث متّفقٌ عليه، ومضى القول فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3293 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،،، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا»).

"عمرو بن منصور": هو أبو سعيد النسائيّ الثقة الثبت [11] 108/ 147، من أفراد المصنّف.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: و"عبد اللَّه بن يوسف": هو التّنّسييّ المصريّ الثقة الثبت، من كبار [10] 17/ 1540.

و"الليث": هو ابن سعد المذكور في السند السابق. و"أيوب بن موسى": هو أبو موسى الأمويّ المكيّ الثقة ل [6] 150/ 241 و"بُكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ": هو المخزوميّ مولاهم المدنيّ، نزيل مصر، ثقة فقيه [5] 135/ 211. و"سليمان بن يسار": هو الهلاليّ مولاهم، الثقة الفاضل الفقيه، من كبار [3] 122/ 156.

و"عبد الملك بن يسار" الهلاليّ المدنيّ، مولى ميمونة، ثقة [3].

روى عن أبي هريرة رضي الله عنه هذا الحديث فقط، وعنه أخوه سليمان بن يسار. قال أبو داود: ثقة. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وذكر أن بكير ابن الأشجّ روى أيضًا عنه. وقال ابن أبي عاصم وغيره: مات سنة (110). وأرّخه ابن قانع سنة (4) وأكثر على خلافه. تفرّد به المصنّف بحديث الباب فقط.

والحديث متّفقٌ عليه، وسبق الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3294 -

(أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، أَوْ عَلَى خَالَتِهَا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا. و"أبو سلمة": هو ابن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ الثبت الفقيه.

والحديث متّفقٌ عليه، وسبق البحث عنه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3295 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ دُرُسْتَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ

ص: 288

أَبِي كَثِيرٍ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:«لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يحيى بن دُرُسْت" -بضمتين، وسكون المهملة- ابن زياد البصريّ، ثقة [10] 23/ 24. و"أبو إسماعيل": هو إبراهيم بن عبد الملك القنَّاد البصريّ، صدوق في حفظه شيء [7] 23/ 24. والباقون كلهم رجال الصحيح.

والحديث متّفقٌ عليه، وسبق البحث عنه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌48 - (تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا)

3296 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى،، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا. و"يحيى": هو القطّان. و"هشام": هو ابن حسّان القردُوسيّ البصريّ. و"محمد": هو ابن سيرين.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الباب الماضي، ودلالته على الترجمة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3297 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَالْعَمَّةُ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا.

و"إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"المعتمر": هو ابن سليمان.

ص: 289

والحديث متّفقٌ عليه، وسبق البحث فيه مستوفًى في الباب الماضي أيضًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3298 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَاصِمٌ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى الشَّعْبِيِّ كِتَابًا، فِيهِ عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا» ، قَالَ: سَمِعْتُ هَذَا مِنْ جَابِرٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.

و"خالد": هو ابن الحارث الهُجَيميّ. و"عاصم": هو ابن سليمان الأحول البصريّ.

والحديث أخرجه البخاريّ، وتقدّم في الحديث الأول من الباب الماضي أنه صحيح من رواية الشعبيّ، عن أبي هريرة، وجابر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وتضعيف بعضهم، كالبيهقيّ لرواية جابر رضي الله عنه غير صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3299 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَخَالَتِهَا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وقد وثّقه هو وغيره.

والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3300 -

(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، أَوْ عَلَى خَالَتِهَا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة.

و"حجاج": هو ابن محمد الأعور. والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 290

‌49 - (مَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الرضاعة"، و"الرضاع" -بفتح الراء، وكسرها فيهما-، يقال: رَضَعَ الصبيُّ رَضَعًا، من باب تَعِب في لغة نجد، ورَضَعَ رَضْعًا، من باب ضَرَب لغةٌ لأهل تهامة، وأهل مكّة، يتكلّمون بها، وبعضهم يقول: أصل المصدر من هذه اللغة كسرُ الضاد، وإنما السكون تخفيف مثلُ الْحَلِفِ والْحَلْفِ، ورَضَعَ يَرْضَعُ بفتحتين لغةٌ ثالثةٌ رَضَاعًا، ورَضَاعَةً بفتح الراء. وأرضعته أمّه، فارتضع، فهي مُرْضِعٌ، ومُرْضِعَةٌ أيضًا. وقال الفرّاء، وجماعة، إن قُصِدَ حقيقة الوصف بالإرضاع، فمرضِعٌ بغير هاء، وإن قُصد مجاز الوصف بمعنى أنها محلّ الإرضاع فيما كان، أو سيكون فبالهاء، وعليه قوله تعالى:{تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} ، ونساء مَرَاضِعُ، ومَرَاضِيعُ. قاله الفيّوميّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3301 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَالِكٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَا حَرَّمَتْهُ الْوِلَادَةُ حَرَّمَهُ الرَّضَاعُ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عبيد اللَّه بن سعيد) أبو قُدامة السرخسيّ، ثقة ثبت سنّيّ [10] 15/ 15.

2 -

(يحيي) بن سعيد القطّان البصريّ، ثقة ثبت إمام [9] 4/ 4.

3 -

(مالك) بن أنس الإمام المدنيّ، ثقة ثبت حجة [7] 7/ 7.

4 -

(عبد اللَّه بن دينار) العدويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة [4] 167/ 260.

5 -

(سليمان بن يسار) الهلاليّ مولاهم المدنيّ، ثقة فاضل فقيه، من كبار [3] 122/ 156.

6 -

(عروة) بن الزبير بن العوّام المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 40/ 44.

7 -

(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فسرخسيّ، ويحيى، فبصريّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة من ثقات التابعين، يروي بعضهم عن بعض: عبد اللَّه بن دينار،

ص: 291

وسليمان، وعروة. (ومنها): أن سليمان وعروة من الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، المجموعين في قول بعضهم:

إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ

مَقَالَتُهُم لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ

فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ

سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ

(ومنها): أن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة المجموعين في قولي:

المُكثِرُونَ فِي رِوَايَةِ الخَبَر

مِنَ الصَّحَابَةِ الأَكَارِمِ الْغُرَرْ

أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ

فَأَنَسٌ فَزَوجَةُ الْهَادِي الأَبَرُ

ثُمَّ ابْنُ عَباسٍ يَلِيهِ جَابِرُ

وَبَعْدَهُ الْخُدرِيُّ فَهْوَ الآخِرُ.

واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَا حَرَّمَتْهُ الوِلَادَةُ) بكسر الواو (حَرَّمَهُ الرَّضَاعُ) بكسر الراء، وفتحها، أي وأباحت ما أباحته، يعني أن الرضيع يصير ولدًا للمرضعة بسبب الرضاع، فيحرم عليه ما يحرُم على ولدها النسبي، ويباح له ما يُباح له.

قال في "الفتح": وهو بالإجماع فيما يتعلّق بتحريم النكاح، وتوابعه، وانتشار الحرمة بين الرضيع، وأولاد المرضعة، وتنزيلهم منزلة الأقارب في جواز النظر، والخلوة، والمسافرة، ولكن لا يترتّب عليه باقي أحكام الأمومة، من التوارث، ووجوب الإنفاق، والعتق بالملك، والشهادة، والعقل، وإسقاط القصاص.

ووقع في رواية: "الرضاعة، تحرّم ما حرّمته الولادة". قال القرطبيّ: وهو دالّ على جواز نقل الرواية بالمعنى، قال: ويحتمل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم قال اللفظين في وقتين. قال الحافظ: الثاني هو المعتمد، فإن الحديثين مختلفان في القصّة، والسبب، والرواي، وإنما يأتي ما قال إذا اتحد ذلك. وقد وقع عند أحمد من وجه آخر عن عائشة:"يحرُم من الرضاع ما يحرم من النسب، من خال، أو عمّ، أو أخ".

قال القرطبيّ: في الحديث دلالةٌ على أن الرضاع ينشُر الحرمة بين الرضيع والمرضعة وزوجها، صاحب اللبن، أو سيّدها، فإذا أرضعت المرأة صبيًّا حرُمت عليه؛ لأنها تصير أمّه، وأمها لأنها جدّته، فصاعدًا، وأختها؛ لأنها خالته، وبنتها؛ لأنها أخته، وبنت بنتها، فنازلًا؛ لأنها بنت أخته، وكذلك بنت صاحب اللبن؛ لأنها أخته، وبنت بنته فنازلًا؛ لأنها بنت أخته، وأمّه، فصاعدًا؛ لأنها جدّته، وأخته؛ لأنها عمّته، ولا يتعدّى التحريم إلى أحد من قرابة الرضيع، فليست أخته من الرضاعة أختًا لأخيه، ولا بنتًا

ص: 292

لأبيه؛ إذ لا رضاع بينهم.

والحكمة في ذلك أن سبب التحريم ما ينفصل من أجزاء المرأة، وزوجها، وهو اللبن، فإذا اغتذى به الرضيع صار جزءًا من أجزائها، فانتشر التحريم بينهما، واعتُبر صاحب اللبن أن وجود اللبن بسبب مائه وغذائه، بخلاف قرابات الرضيع؛ لأنه ليس بينهم وبين المرضعة، ولا زوجها نسبٌ، ولا سببٌ. فتدبّره. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-49/ 3301 و 3302 و 3303 و 3304 و 52/ 3314 و 3315 و 3316 و 3317 و 3318 و 3319 - وفي "الكبرى" 46/ 5436 و 5435 و 5436 و 5444 و 50/ 5468 و 5469 و 5470 و 5471 و 5472 و 5473. وأخرجه (خ) في "الشهادات" 2644 و 2646 و"النكاح" 5103 و 5239 (م) في "النكاح" 1408 و"الرضاع"1444 و 1445 (د) في "النكاح" 2055 و 2057 (ت) في "الرضاع" 1147 و 1148 (ق) في "النكاح" 1937 و 1948 و 1949 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23534 و 23565 و 23582 و 23650 و 23722 و 23850 و 23910 و 25092 و 25123 و 25295 و 25802 (الموطأ) في "الرضاع" 1277 و 1278 و 1279 (الدارمي) في "النكاح" 2247 و 2248. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال في "الفتح": قال العلماء: يُستثنى من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرُم من النسب" أربع نسوة، يحرُمن في النسب مطلقًا، وفي الرضاع قد لا يحرُمن:

[الأولى]: أم الأخ في النسب حرام؛ لأنها إما أمّ، وإما زوج أبٍ، وفي الرضاع قد تكون أجنبيّةً، فترضع الأخ، فلا تحرم على أخيه.

[الثانية]: أم الحفيد حرام في النسب؛ لأنها إما بنت، أو زوج ابنٍ، وفي الرضاع قد تكون أجنبيّةً، فترضع الحفيد، فلا تحرم على جدّه.

[الثالثة]: جدّة الولد في النسب حرام؛ لأنها إما أم، أو أم زوجة، وفي الرضاع قد

(1)

"المفهم" 4/ 177 - 178.

ص: 293

تكون أجنبية، أرضعت الولد، فيجوز لوالده أن يتزوّجها.

"الرابعة": أخت الولد حرام في النسب؛ لأنها بنت، أو ربيبةٌ، وفي الرضاع قد تكون أجنبية، فترضع الولد، فلا تحرم على الوالد.

وهذه الصور الأربع اقتصر عليها جماعة، ولم يستثن الجمهور شيئًا من ذلك، وفي التحقيق لا يُستثنى شيء من ذلك؛ لأنهنّ لم يحرمن من جهة النسب، وإنما حرمن من جهة المصاهرة.

واستدرك بعض المتأخّرين أمّ العمّ، وأمّ العمّة، وأمّ الخال، وأمّ الخالة، فإنهنّ يحرُمن في النسب، لا في الرضاع. وليس ذلك على عمومه. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3302 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِرَاكٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ عَمَّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، يُسَمَّى أَفْلَحَ، اسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا، فَحَجَبَتْهُ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «لَا تَحْتَجِبِي مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد: ستة، وكلهم من رجال الصحيح، وقد تقدّموا قبل باب. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّهَا أَخْبَرَتهُ، أَنَّ عَمَّها مِنَ الرَّضَاعَةِ، يُسَمَّى أَفْلَحَ) وفي الرواية الآتية في - 52/ 3317 - من طريق ابن شهاب، عن عروة:"قالت كان أفلح أخو أبي القعيس يستأذن عليّ، وهو عمّي من الرضاعة، فأبيت أن آذن له، حتى جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: ائذني له، فإنه عمّك، قالت عائشة: وذلك بعد أن نزل الحجاب".

"أبو القُعيس" بقاف، وعين، وسين مهملتين، مصغّرًا. وفي رواية لمسلم: أفلح بن قُعيس، قال في "الفتح": والمحفوظ أفلح أخو أبي القعيس. ويحتمل أن يكون اسم أبيه قُعيسًا، أو اسم جدّه، فنُسب إليه، فتكون كنية أبي القعيس وافقت اسم أبيه، أو اسم جدّه. ويؤيّده ما وقع في "الأدب" من طريق عُقيل، عن الزهريّ، بلفظ:"فإن أخا بني القعيس"، وكذا وقع عند النسائيّ من طريق وهب بن كيسان، عن عروة

(2)

. ووقع عند

(1)

"فتح" 10/ 177.

(2)

هكذا عزا إلى النسائيّ، وليس في نسخ "المجتبى"، ولا "الكبرى"، إلا بلفظ:"أخا أبي القعيس"، فليتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 294

البخاريّ في "التفسير" من طريق شعيب، عن ابن شهاب بلفظ:"أن أفلح أخا أبي القعيس"، وكذا لمسلم من طريق يونس، ومعمر، عن الزهريّ، وهو المحفوظ عن أصحاب الزهريّ، لكن وقع عند مسلم من طريق ابن عُيينة، عن الزهريّ "أفلح بن أبي القعيس"، وكذا لأبي داود من طريق الثوريّ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، ولمسلم من طريق ابن جريج، عن عطاء:"أخبرني عروة أن عائشة قالت: استأذن عليّ عمّي من الرضاعة أبو الجعد"، قال: فقال لي هشام: إنما هو أبو القُعيس. وكذا وقع عند مسلم، من طريق أبي معاوية، عن هشام:"استأذن عليها أبو القُعَيس"، وسائر الرواة عن هشام قالوا:"أفلح أخو أبي القعيس"، كما هو المشهور، وكذا سائر أصحاب عروة، ووقع عند سعيد بن منصور، من طريق القاسم بن محمد:"أن أبا قعيس أتى عائشة، يستأذن عليها". وأخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق القاسم، عن أبي القعيس.

والمحفوظ أن الذي استأذن هو أفلح، وأبو القعيس هو أخوه.

قال القرطبيّ: كلّ ما جاء من الروايات وَهَمٌ إلا من قال: "أفلح أخو أبي القعيس"، أو قال:"أبو الجعد"؛ لأنها كنية أفلح.

قال الحافظ: وإذا تدبّرتَ ما حرّرتُ عرفتَ أن كثيرًا من الروايات لا وَهَمَ فيه، ولم يُخطىء عطاء في قوله:"أبو الجعد"، فإنه يحتمل أن يكون حفظ كنية أفلح. وأما اسم أبي القعيس فلم أقف عليه إلا في كلام الدارقطنيّ، قال: هو وائل بن أفلح الأشعريّ. وحكى هذا ابن عبد البرّ، ثم حكى أيضًا أن اسمه الجعد. فعلى هذا يكون أخوه وافق اسمه اسم أبيه. ويحتمل أن يكون أبو القعيس نُسِبَ لجدّه، ويكون اسمه وائل بن قُعيس ابن أفلح بن القعيس، وأخوه أفلح بن قعيس بن أفلح، أبو الجعد. قال ابن عبد البرّ في "الاستيعاب": لا أعلم لأبي القعيس ذكرًا إلا في هذا الحديث.

(اسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا) أي طلب منها أن تأذن له في الدخول عليها (فَحَجَبَتْهُ) أي منعته من الدخول عليها. وفي رواية شعيب، عن الزهريّ:"فقلت: لا آذن له، حتى أستأذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس"(فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول، والمخبرة هي عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، كما مرّ آنفًا (فَفَالَ:"لا تَحْتَجِيِي مِنْهُ) وفي رواية: "ائذني له، فإنه عمّك تربت يمينك"، وفي رواية "يداك"، أو "يمينك". وفي رواية مالك، عن هشام بن عروة: "إنه عمّك فليلج عليك". وفي رواية الحكم: "صدق أفلح، ائذني له"، ووقع في رواية سفيان الثوريّ، عن هشام عند أبي داود: "دخل عليّ أفلح، فاستترت منه، فقال: أتستترين مني، وأنا عمّك؟ قلت: من أين؟ قال: أرضعتك امرأة أخي، قلت:

ص: 295

إنما أرضعتني المرأة، ولم يُرضعني الرجل

" الحديث.

ويُجمع بأنه دخل عليها أوّلًا، فاستترت، ودار بينهما الكلام، ثم جاء يستأذن ظنًّا منه أنها قبلت قوله:"فلم تأذن له، حتى تستأذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

(فَإِنَّهُ يَحرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ) هذا ظاهر في رفعه. ووقع في رواية شعيب: "قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب"، ووقع في رواية سفيان بن عيينة:"ما تحرمون من النسب". وهذا ظاهره الوقف

(2)

.

ولا تعارض بينهما، فإن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - ترويه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتفتي به، وعدى تقدير التعارض، فالرفع يقدّم على الوقف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه في الحديث الماضي.

(المسألة الثانية): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما يَحرُم من الرضاع، وهو ما يحرم من النسب. (ومنها): أن لبن الفحل يتعلّق به التحريم، فتنتشر الحرمة لمن ارتضع بلبنه، فلا تحلّ له بنت زوج المرأة التي أرضعته من غيرها مثلًا، وفيه خلاف قديمٌ، سيأتي بيانه بعد بابين، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أنه استُدلّ به على أن من ادّعى الرضاع، وصدّقه الرضيع يثبتُ حكم الرضاع بينهما، ولا يَحتاج إلى بيّنة؛ لأن أفلح ادّعى، وصدّقته عائشة، وأذن الشارع بمجرّد ذلك.

وتُعُقّب باحتمال أن يكون الشارع اطّلع على ذلك من غير دعوى أفلح، وتسليم عائشة. قاله في "الفتح"

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فيه أن الأول هو الظاهر، فلا يعدل عنه بالاحتمال. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن قليل الرضاع يُحرّم كما يحرّم كثيره؛ لعدم الاستفصال

(1)

"المفهم" 10/ 188 - 189.

(2)

"المفهم" 10/ 188 - 189.

(3)

"فتح"10/ 189 - 190.

ص: 296

فيه. وتُعقَّب بأن عدم الذكر لا يدلّ على العدم المحض، ولا سيّما وعائشة هي التي روت:"خمس رضعات يحرّمن". (ومنها): أن من شكّ في حكم يتوقّف عن العمل حتى يسأل العلماء عنه. (ومنها): أن من اشتبه عليه الشيء طالب المدّعي ببيانه ليرجع إليه أحدهما، وأن العالم إذا سئل يصدّق من قال الصواب فيها. (ومنها): أن فيه وجوبَ احتجاب المرأة من الرجال الأجانب. (ومنها): مشروعيّة استئذان المحرم على محرمه. (ومنها): أن المرأة لا تأذن في بيت الرجل إلا بإذنه. (ومنها): جواز التسمية بـ"أفلح". (ومنها): أن المستفتي إذا بادر بالتعليل قبل سماع الفتوى أُنكِر عليه؛ لقوله لها: "تربت يمينك"، فإن فيه إشارةً إلى أنه كان من حقها أن تسأل عن الحكم فقط، ولا تُعلّل. (ومنها): أن بعضهم ألزم به من أطلق من الحنفيّة القائلين: إن الصحابيّ إذا روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثًا، وصحّ عنه، ثمّ صحّ عنه العمل بخلافه أن العمل بما رأى، لا بما روى؛ لأن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - صحّ عنها أن لا اعتبار بلبن الفحل، ذكره مالك في "الموطّإ"، وسعيد بن منصور في "السنن"، وأبو عبيد في "كتاب النكاح" بإسناد حسن، وأخذ الجمهور، ومنهم الحنفيّة بخلاف ذلك، وعملوا بروايتها في قصّة أخي أبي القُعيس، وحرّموه بلبن الفحل، فكان يلزمهم على قاعدتهم أن يتّبعوا عمل عائشة، ويُعرضوا عن روايتها، ولو كان رَوَى هذا الحكم غير عائشة لكان لهم معذرة، لكنّه لم يروه غيرها، وهو إلزام قويّ. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3303 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»).

قالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"عبد اللَّه بن أبي بكر" بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ المدنيّ. و"عمرة" بن عبد الرحمن الأنصاريّ المدنيّة.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في الحديث الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3304 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَحْرُمُ

(1)

"فتح" 10/ 189 - 190.

ص: 297

مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عُبيد" بن محمد بن واقد المحاربيّ النحّاس الكوفيّ، صدوق [10] 144/ 226.

و"عليّ بن هاشم" بن الْبَرِيد الكوفيّ، صدوق يتشيّع، من صغار الثامنة 43/ 2242.

وفي هذا الإسناد رواية عبد اللَّه بن أبي بكر، عن أبيه، عن عمرة، بخلاف الرواية السابقة، فإنه روى عن عمرة مباشرة، وهي الرواية التي أخرجها مسلم، والظاهر أن الروايتين محفوظتان، وذلك أنه عبد اللَّه رواه عن أبيه، عنها، ثم حدّثته هي بعد ذلك، أو حدثته هي، وثبّته أبوه.

والحديث متفق عليه، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌50 - (تَحْرِيمُ بِنْتِ الأَخَ مِنَ الرَّضَاعَةِ)

3305 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَكَ تَنَوَّقُ فِي قُرَيْشٍ، وَتَدَعُنَا؟ ، قَالَ: «وَعِنْدَكَ أَحَدٌ؟» ، قُلْتُ: نَعَمْ، بِنْتُ حَمْزَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هنّاد بن السريّ) بن مصعب التميميّ، أبو السريّ الكوفيّ، ثقة [10] 23/ 25.

2 -

(أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش، من كبار [9] 26/ 30.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران الكاهليّ مولاهم الكوفيّ، ثقة حافظ قارئ ورع، لكنه يدلّس [5] 17/ 18.

4 -

(سعد بن عُبيدة) أبو حمزة الكوفيّ الثقة [3] 77/ 1008.

ص: 298

5 -

(أبو عبد الرحمن السلميّ) عبد اللَّه بن حبيب بن رَبيعة الكوفيّ المقرئ، ثقة ثبت، ولأبيه صحبة [2] 112/ 152.

6 -

(عليّ) بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه - 74/ 91. واللَّه تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن سعد، عن أبي عبد الرحمن السلميّ. (ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، واحد العشرة المبشّرين بالجنّة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَليٍّ رضي الله عنه) أنه (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَكَ تَنَوَّقُ) بفتح التاء الفوقيّة، ثم نون مفتوحة، ثمّ واو مشدّدة، ثمّ قاف: أي تختار، وتُبالغ في الاختيار. وقال القرطبيّ: هذا الحرف عند أكثر الرواة بفتح النون والواو وتشديدها، وهو فعلٌ مضارعٌ محذوف إحدى التاءين، وماضيه تَنَوَّقَ، ومصدره تَنَوُّقًا: أي بالغ في اختيار الشيء، وانتقائه. وعند العذريّ، والهوزنيّ، وابن الحذاء: تَتُوقُ- بتاء مضمومة، من تاق يتوقُ، توقًا، وتَوَقَانًا: إذا اشتاق. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" بعد ما ذكر نحو ما تقدّم في ضبطه: مشتقٌّ من النّيقة -بكسر النون، وسكون التحتانيّة، بعدها قافٌ: وهو الخيار من الشيء، يقال: تنوّق تنوُّقًا: أي بالغ في اختيار الشيء، وانتقائه. انتهى (فِي قُرَيْشٍ) متعلّق بـ"تنوّق"، أي تختار نساء قريش غير بني هاشم فتنكحهن (وَتَدَعُنَا؟) أي تتركنا معاشر بني هاشم، فلا تنكح نساءهم.

وفي رواية سعيد بن منصور، من طريق سعيد بن المسيّب:"قال عليّ: يا رسول اللَّه، ألا تتزوّج بنت عمّك حمزة، فإنها من أحسن فتاة قريش".

وكأن عليًّا لم يعلم بأن حمزة رضيع النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو جوّز الخصوصيّة، أو كان ذلك قبيل تقرير الحكم. قال القرطبيّ: وبعيد أن يقال عن عليّ: لم يعلم بتحريم ذلك. قاله في "الفتح"

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَعِنْدَكَ) وفي نسخة: "وعندكم"(أَحَدٌ؟) بتقدير أداة الاستفهام، أي هل

(1)

"المفهم" 4/ 180.

(2)

"فتح" 10/ 177.

ص: 299

عندكم امرأة تصلُح للنكاح؟.

[تنبيه]: إنما ذَكَّر لفظ "أحد" وإن كان المراد المرأة؛ لأنه يطلق على الذكر والأنثى، والواحد والكثير. قال الفيّوميّ: و"أحَدٌ" أصله وَحَدٌ، فأُبدلت الواو همزةً، ويقع على الذكر والأنثى، وفي التنزيل:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} الآية. ويكون بمعنى "شيء"، وعليه قراءة ابن مسعود:"وإن فاتكم أحدٌ من أزواجكم". أي شيءٌ. ويكون أحدٌ مرادفًا لواحدٍ في موضعين سماعًا: أحدهما وصف اسم الباري تعالى، فيقال: هو الواحد، وهو الأحد؛ لاختصاصه بالأحديّة، فلا يَشْرَكُهُ فيها غيره، ولهذا لا يُنعت به غير اللَّه تعالى، فلا يقال: رجلٌ أحدٌ، ولا درهمٌ أحدٌ، ونحو ذلك. والموضع الثاني: أسماء العدد؛ للغلبة، وكثرة الاستعمال، فيقال: أحدٌ وعشرون، وواحدٌ وعشرون، وفي غير هذين يقع الفرق بينهما في الاستعمال بأن "الأحد" لنفي ما يذكر معه، فلا يُستعمل إلا في الجحد؛ لما فيه من العموم، نحوُ ما قام أحدٌ، أو مضافًا نحو ما قام أحدُ الثلاثة، والواحد اسمٌ لِمُفتَتَحِ العددِ، كما تقدّم، ويُستعمل في الإثبات مضافًا، وغير مضافٍ، فيقال: جاءني واحدٌ من القوم، وأما تأنيث أحد، فلا يكون إلا بالألف، لكن لا يقال: إحدى إلا مع غيرها، نحوُ إحدى عشرة، وإحدى وعشرون، قال ثعلب: وليس للأحد جمعٌ، وأما الآحاد، فيحتمل أن يكون جمع الواحد، مثل شاهد وأشهاد، قالوا: وإذا نُفي أحدٌ اختَصَّ بالعاقل، وأطلقوا فيه القول، وقد تقدّم أن "الأحد" يكون بمعنى "شيء"، وهو موضوع للعموم، فيكون كذلك، فيُستعمل لغير العاقل أيضًا، نحوُ ما بالدار من أحد، أي من شيء، عاقلًا كان أو غير عاقل، ثم يُستثنى، فيقال: إلا حمارًا، ونحوهُ، فيكون الاستثناء متّصلًا، وصرّح بعضهم بإطلاق "أحد" على غير العاقل؛ لأنه بمعنى "شيء"، كما تقدّم انتهى كلام الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

(قُلْتُ: نَعَمْ، بِنتُ حَمْزَةَ) مبتدأ خبره محذوف، أي عندنا بنت حمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنه. واسمها عُمارة. وقيل: فاطمة. وقيل: أمامة. وقيل: أمة اللَّه. وقيل: سلمى. والأول هو المشهور. قاله في "الفتح"

(2)

. وقال في موضع آخر: وجملة ما تحصّل لنا من الخلاف في اسمها سبعة أقوال: أمامة، وعمارة، وسلمى، وعائشة، وفاطمة، وأمة اللَّه، ويعلى. وحكى المزّيّ في أسمائها أمّ الفضل، لكن صرّح ابن بشكوال بأنها كنية. انتهى

(3)

.

(1)

راجع "المصباح المنير" في مادّة وحد.

(2)

"فتح" 8/ 292 في "المغازي" -"باب عمرة القضاء" رقم 4251.

(3)

"فتح" 10/ 177 "كتاب النكاح" رقم 5100.

ص: 300

(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا لَا تحَلُّ لِي) أي لا يحلّ لي نكاحها (إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ) جملة "إنّ" تعليليّةٌ؛ إنما لم تحلّ لي؛ لأنها ابنة أخي من الرضاعة، وهو حمزة ابن عبد المطّلب رضي الله عنه، فقد أرضعتهما ثُويبة مولاة أبي لهب، عمّه صلى الله عليه وسلم، كما أرضعت أبا سلمة رضي الله عنه. قال مصعب الزبيريّ: كانت ثُويبة أرضعت النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما أرضعت حمزة، ثم أرضعت أبا سلمة. انتهى.

[تنبيه]: ذكر ابن منده ثويبة في "الصحابة"، وقال: اختُلف في إسلامها. وقال أبو نُعيم: لا نعلم أحدًا ذكر إسلامها غيره. والذي في السير أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُكرمها، وكانت تدخل عليه بعد ما تزوّج خديجة، وكان يرسل إليها الصلة من المدينة إلى أن كان بعد فتح خيبر ماتت، ومات ابنها مسروح انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 50/ 3305 - وفي "الكبرى" 47/ 5446. وأخرجه (م) في "الرضاع" 1446 (أحمد) في "مسند العشرة" 621 و 933 و 1102 و 1173 و 1361. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تحريم بنت الأخ من الرضاعة. (ومنها): أن فيه ثبوت الرضاع بالاستفاضة، فإنها كانت في الجاهليّة، وكان ذلك مستفيضًا عند من وقع له. (ومنها): أيضًا يستفاد ثبوت النسب، فإنه إذا ثبت الرضاع، فإن من لازمه أن يثبت النسب، وقد عقد الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- لذلك بابًا، فقال:[باب الشهادة على الأنساب، والرضاع، والمستفيض، والموت القديم].

قال في "الفتح": هذه الترجمة معقودة لشهادة الاستفاضة، وذكر منها النسب، والرضاعة، والقديم، فأما النسب، فيستفاد من أحاديث الرضاعة، فإنه من لازمه، وقد نُقِل فيه الإجماع، وأما الرضاعة، فيستفاد ثبوتها بالاستفاضة من أحاديث الباب، فإنها

(1)

"فتح" 10/ 181.

ص: 301

كانت في الجاهليّة، وكان ذلك مستفيضا عند من وقع له. وأما الموت القديم، فيستفاد منه حكمه بالإلحاق. قاله ابن المنيّر. واحترز بالقديم عن الحادث، والمراد بالقديم ما تطاول الزمان عليه، وحدّه بعض المالكيّة بخمسين سنة، وقيل: بأربعين انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3306 -

(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنْتُ حَمْزَةَ، فَقَالَ: «إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ» ، قَالَ: شُعْبَةُ: هَذَا سَمِعَهُ قَتَادَةُ، مِنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إبراهيم بن محمد" بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن مَعمَر التيمي المعمريّ، أبو إسحاق البصريّ، قاضيها، ثقة [11] 28/ 550.

و"يحيى بن سعيد": هو القطّان. و" جابر بن زيد": هو أبو الشعثاء الأزديّ، ثم الْجَوْفيّ البصريّ الثقة الفقيه [3] 136/ 236.

ورجال الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وفيه رواية تابعي، عن تابعيّ.

وقوله: "ذُكر لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ" بالبناء للمفعول، وقد تقدّم أن الذي ذكر له ذلك هو عليّ رضي الله عنه.

وقوله: "قال شعبة الخ" إنما صرّح شعبة بذلك؛ لأن قتادة مشهورٌ بالتدليس، فيُخشى أن يكون دلّسه، فأزال ذلك بأنه سمعه من جابر.

والحديث متّفقٌ عليه، وأخرجه المصنّف هنا -/ 3307 و 3308 - وفي "الكبرى" 47/ 5445 و 5447. وسبق تمام البحث فيه في الحديث الذي قبله.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3307 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أُرِيدَ عَلَى بِنْتِ حَمْزَةَ، فَقَالَ: «إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَإِنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد اللَّه بن الصبّاح بن عبد اللَّه": هو الهاشميّ العطار البصريّ، ثقة، من كبار [10] 49/ 1739.

و"محمد بن سواء" - بتخفيف الواو، والمدّ-: هو أبو الخطّاب السدوسيّ العنبريّ البصريّ المكفوف، صدوق رمي بالقدر [9] 78/ 1993.

و"سعيد": هو ابن ابن أبي عروبة.

(1)

"فتح" 5/ 581. "كتاب الشهادات".

ص: 302

وقوله: "أريد على بنت حمزة" أي أرادوه لأجل أن يتزوّجها، وقد سبق أن الذي أراده على ذلك، وطلب منه ذلك هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌51 - (الْقَدْرُ الَّذِي يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "يحرم" بضم أوله، وفتح ثانيه، وتشديد الراء المكسورة من التحريم، مبنيًا للفاعل، والمعنى بيان عدد الرضاعة الذي يثبت به التحريم للرضاعة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3308 -

(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل وَقَالَ الْحَارِثُ: "فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ، عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ"، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هارون بن عبد اللَّه) أبو موسى الحمّال البغداديّ، ثقة حافظ [10] 50/ 62.

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمد المصريّ القاضي، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

[تنبيه]: قوله: "والحارثُ بنُ مسكين" بالرفع عطف على "هارون"، فهو شيخ ثان للمصنّف. واللَّه تعالى أعلم.

3 -

(معن) بن عيسى القزّاز المدنيّ، ثقة ثبت، من كبار [10] 50/ 62.

4 -

(ابن القاسم) عبد الرحمن الْعُتَقيّ المصريّ الفقيه، ثقة، من كبار [10] 19/ 20.

5 -

(مالك) بن أنس الإمام الحجة الثبت [7] 7/ 7.

6 -

(عبد اللَّه بن أبي بكر) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقة [5] 118/ 163.

ص: 303

7 -

(عمرة) بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة الأنصارية المدنيّة، ثقة [3] 134/ 203.

8 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث فتفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير هارون، فبغداديّ، والحارث وابن القاسم، فمصريان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّة، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أَنزَلَ اللَّهُ عز وجل، وَقَالَ الْحَارِثُ:"فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ القُرآنِ، عَشْرُ رَضَعَات) مبتدأ خبره جملة "يُحرّمن". وقوله (مَعْلُومَاتٍ) احترز به عما يُتوهّم، أو يُشكّ في وصوله إلى الجوف من الرضعات، وفيه أن الرضعات إذا كانت غير معلومات لم تحرّم (يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ) أي التحريم المتعلّق بالرضاع كان شرطه أن يكون الرضيع رضع من المرأة عشر رضعات معلومات، ثم نسخ ذلك بأنه إذا رضع منها خمس رضعات معلومات ثبت التحريم بينهما (فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ) ببناء الفعل للمفعول، والجملة في محلّ نصب على الحال، أي مات صلى الله عليه وسلم، والحال أن "خمس رضعات معلومات"

يُحرّمن من جملة ما يُقرأ من القرآن.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وقولها: "فتوفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهنّ فيما يُقرأ" بضمّ الياء من يُقرأ، ومعناه: أن النسخ بخمس رضعات تأخّر إنزاله جدًّا حتّى إنه صلى الله عليه وسلم توفّي، وبعض الناس يقرأ خمس رضعات، ويجعلها قرآنا متلوًّا؛ لكونه لم يبلغه النسخ؛ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أن هذا لا يُتلى.

والنسخ ثلاثة أنواع:

[أحدها]: ما نُسخ حكمه، وتلاوته، كعشر رضعات. [والثاني]: ما نُسخت تلاوته، دون حكمه، كخمس رضعات، وكـ "الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما". [والثالث]: ما نُسخ حكمه، وبقيت تلاوته، وهذا هو أكثر، ومنه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} [البقرة: 240]، واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

(1)

"شرح مسلم" 10/ 271 - 272.

ص: 304

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -؛ الحاصل أن كُلًّا من العشر، والخمس منسوخٌ، لكن الأول نسخ تلاوةً وحكمًا، بخلاف الثاني، فإنه نسخ تلاوةً فقط، دون حكم، فيجب العمل به، فلا يُحرّم من الرضاع أقلّ من خمس رضعات، وهذا هو الراجح. وسيأتي تحقيق الخلاف فيه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 51/ 3308 - وفي "الكبرى"48/ 5449. وأخرجه (م) في "الرضاع" 1452 (د) في "النكاح" 2062 (ق) في "النكاح" 1942 (الموطأ) في "الرضاع" 1293 (الدارمي) في "النكاح" 2253. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان القدر الذي يحرّم من الرضاعة، وهو خمس رضعات معلومات، وفيه اختلاف بين العلماء، كما سيأتي تحقيقه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أن فيه جواز النسخ، وأنه ثلاثة أقسام: ما نُسخ تلاوة وحكمًا. وما نُسخ حكما فقط. وما نُسخ تلاوةً فقط، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في مقدار ما يُحرّم من الرضاعة:

قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف السلف والخلف في مقدار ما يحرّم من الرضاع:

فقال مالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، والثوريّ، والأوزاعيّ، والليث، والطبري: قليل الرضاع، وكثيره يُحرّم، ولو مصّةً واحدةً، إذا وصلت إلى حلقه، وجوفه.

وهو قول عليّ، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عبّاس، وسعيد بن المسيّب، والحسن، ومجاهد، وعروة، وطاوس، وعطاء، ومكحول، والزهويّ، وقتادة، والحكم، وحمّاد. وقال الليث بن سعد: أجمع المسلمون في أن قليل الرضاع، وكثيره يُحرّم في المهد ما أفطر الصائم.

قال أبو عمر: لم يقف الليث على خلاف في ذلك.

وعند مالك في هذا الباب: عن إبراهيم بن عقبة؛ أنه سأل سعيد بن المسيّب، عن

ص: 305

الرضاعة؟ فقال سعيد: كلّ ما كان في الحولين، وإن كانت قطرة واحدةً، فهو يحرّم، وما كان بعد الحولين، فإنما هو طعام يأكله.

قال إبراهيم بن عقبة: ثم سألت عروة بن الزبير؟ فقال: مثل ما قال سعيد بن المسيّب. وعن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت سعيد بن المسيّب يقول: لا رضاعة إلا ما كان في المهد، وإلا ما أنبت اللحم والدم.

وعن ابن شهاب أنه كان يقول: الرضاعة قليلها وكثيرها تُحرّم، والرضاعة من قبل الرجال تُحرّم.

قال أبو عمر: الحجة في هذا ظاهر قول اللَّه عز وجل: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، ولم يخصّ قليل الرضاعة من كثيرها.

وقد روى ابن جريج، عن عمر بن دينار، عن ابن عمر أنه قيل له: قضى ابن الزبير بألا تُحرّم المصة، ولا المصّتان. فقال: قضاء اللَّه خير من قضاء ابن الزبير، حرّم الأختَ من الرضاعة.

وقالت طائفة منهم: عبد اللَّه بن الزبير، وأمّ الفضل، وعائشة على اختلاف عنها: لا تحرّم المصة، ولا المصّتان، ولا الرضعة، ولا الرضعتان، ولا الإملاجة، ولا الإملاجتان.

وبه قال سليمان بن يسار، وسعيد بن المسيّب. وإليه ذهب أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عُبيد. ورووا في ذلك حديثًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تحرّم الإملاجة، ولا الإملاجتان"

(1)

، ومنهم من يرويه:"الرضعة، والرضعتان". قالوا: فما زاد على ذلك حرَّم، وذهبوا إلى أن الثلاث رضعات، فما فوقها تحُرّم، ولا تحرّم ما دونها.

وذهب الشافعيّ إلى أنه لا يحرّم من الرضاع إلا خمس رضعات متفرّقات. واحتجّ بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرّم الرضاعة، ولا الرضعتان، ولا المصّة، ولا المصّتان". ومما رواه أبو بكر، قال: حدّثنا أبو خالد الأحمر، عن حجّاج، عن أبي الزبير، قال: سألت ابن الزبير، عن الرضاع؛ فقال: لا تُحرّم الرضعة، ولا الرضعتان، ولا الثلاث، قال أصحابه: وابن الزبير، رَوَى هذا الحديثَ، وفَهِمَ منه أنه لا تُحرّم الثلاث أيضًا، وأفتى به. وذكروا عن ابن مسعود، وأبي موسى، وسليمان بن يسار، وغيرهم أنهم قالوا: إنما يُحرّم من الرضاع ما أنبت اللحم والدم، وأنشز العظم، وفتق الأمعاء. وعن أبي هريرة

(1)

راه مسلم رقم 1451، وسيأتي للمصنّف 3309.

ص: 306

- رضي الله عنه: "لا يُحرّم من الرضاعة إلا ما فتَقَ الأمعاء".

واحتجّ الشافعيّ بحديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - المذكور في الباب: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحرّمن، ثم نُسخن

" الحديث.

فكان في هذا الحديث بيان ما يُحرّم من الرضعات، وكان مفسِّرًا لقوله:"لا تحرّم الرضعة، والرضعتان"، فدلّ على أن قوله:"لا تحرّم المصّة، ولا المصّتان، ولا الرضعة، ولا الرضعتان" خرج على جواب سائل سأله عن الرضعة، والرضعتين، هل تُحرّمان؟ فقال: لا؛ لأن من سنّته وشريعته أنه لا يُحرّم إلا خمس رضعات، وأنها نَسَخت العشر الرضعات، كما لو سأل سائلٌ: هل يُقطع السارق في درهم، أو درهمين؟، كان الجواب لا يقطع في درهم، ولا درهمين؛ لأنه قد بيّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه لا يقطع إلا في ربع دينار، فكذلك بيانه في الخمس الرضعات.

[أفإن قيل]: لو كانت ناسخةً للعشر رضعات عند عائشة كما روت عنها عمرة، ما كانت عائشة لتأمر أختها أم كلثوم أن تُرضع سالم بن عبد اللَّه عشر رضعات؛ ليدخل عليها، فتستعمل المنسوخ، وتدع الناسخ. وكذلك حفصة أمرت أختها فاطمة بمثل ذلك في عاصم.

[والجواب]: أن أصحاب عائشة الذين هم أعلم بها من نافع، وهم: عروة، والقاسم، وعمرة رووا عنها خمس رضعات، ولم يَرو أحدٌ منهم عشر رضعات. وقد روي عنها سبع رضعات، وقد روي عنها عشر رضعات، والصحيح عنها خمس رضعات، ومن روى أكثر من خمس رضعات، فقد وَهِم؛ لأنه قد صحّ عنها أن الخمس الرضعات المعلومات نَسخن العشر المعلومات، فمحالٌ أن تقول بالمنسوخ. وهذا لا يصحّ عنها عند ذي فهم. وفي حديثها المسند أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر سهلة بنت سُهيل امرأة أبي حذيفة أن تُرضع سالمًا مولى أبي حذيفة خمس رضعات. قال عروة: فأخذت بذلك عائشة. فكيف يَقبَل أحدٌ عنها أنها أفتت بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بعشر رضعات؟ هذا لا يقبله من أنصف نفسه، ووفق لرشده، ولو صحّ عنها حديث نافع، عن سالم في العشر كان غيره معارضًا له بالخمس. انتهى كلام ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال العلاّمة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: قال أصحاب الخمس: الحجة لنا حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وقد أخبرت هي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم توفّي، والأمر على ذلك، قالوا: ويكفي في هذا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل: "أرضعي سالمًا خمس

(1)

"الاستذكار" 18/ 259 - 267.

ص: 307

رضعات، تحرمي عليه"، قالوا: وعائشة أعلم الأمة بحكم هذه المسألة هي، ونساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - إذا أرادت أن يدخل عليها أحدٌ أمرت إحدى بنات إخوتها، أو أخواتها، فأرضعته خمس رضعات. قالوا: ونفي التحريم بالرضعة، والرضعتين صريحٌ في عدم تعليق التحريم بقليل الرضاع وكثيره، وهي ثلاثة أحاديث صحيحة صريحة، بعضها خرج جوابًا للسائل، وبعضها تأسيسُ حكم مبتدأ. قالوا: وإذا علقنا التحريم بالخمس، لم نكن قد خالفنا شيئًا من النصوص التي استدللتم بها، وإنما نكون قد قيّدنا مطلقها بالخمس، وتقييد المطلق بيان، لا نسخٌ، ولا تخصيص.

وأما من علّق التحريم بالقليل والكثير، فإنه يُخالف أحاديث نفي التحريم بالرضعة والرضعتين، وأما صاحب الثلاث، فإنه وإن لم يُخالفها، فهو مخالف لأحاديث الخمس.

قال من لم يُقيّده بالخمس: حديث الخمس لم تنقله عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - نقل الأخبار، فيحتجَّ به، وإنما نقلته نقل القرآن، والقرآن إنما يَثبُت بالتواتر، والأمة لم تنقل ذلك قرآنًا، فلا يكون قرآنًا، وإذا لم يكن قرآنًا، ولا خبرًا امتنع إثبات الحكم به.

قال أصحاب الخمس: الكلام فيما نقل من القرآن آحادًا في فصلين:

[أحدهما]: كونه من القرآن.

[والثاني]: وجوب العمل به، ولا ريب أنهما حكمان متغايران، فإن الأول يوجب انعقاد الصلاة به، وتحريم مسّه على المحدث، وقراءته على الجنب، وغير ذلك من أحكام القرآن، فإذا انتفت هذه الأحكام لعدم التواتر، لم يلزم انتفاء العمل به، فإنه يكفي فيه الظنّ، وقد احتجّ كلّ واحد من الأئمة الأربعة به في موضع، فاحتجّ به الشافعيّ، وأحمد في هذا الموضع. واحتجّ به أبو حنيفة في وجوب التتابع في صيام الكفّارة بقراءة ابن مسعود:"فصيام ثلاثة أيام متتابعات". واحتجّ به مالك، والصحابة قبله في فرض الواحد من ولد الأمّ أنه السدس بقراءة أُبَيّ:"وإن كان رجلٌ يُورث كلالة، أو امرأة، وله أخ، أو أخت من أمّ، فلكلّ واحد منهما السدس"، فالناس كلهم احتجّوا بهذه القراءة، ولا مستند للإجماع سواها.

قالوا: وأما قولكم: إما أن يكون نقله قرآنًا، أو خبرًا، قلنا: بل قرآنًا صريحًا، قولكم: فكان يجب نقله متواترًا، قلنا: حتى إذا نسخ لفظه، أو بقي، أما الأول، فممنوع، والثاني مسلَّم، وغاية ما في الأمر أنه قرآن نُسخ لفظه، وبقي حكمه، فيكون له حكم قوله:"الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما" مما اكتُفِى بنقله آحادًا، وحكمه ثابت، وهذا مما لا جواب عنه.

ص: 308

وفي المسألة مذهبان آخران ضعيفان:

"أحدهما": أن التحريم لا يثبت بأقلّ من سبع، كما سئل طاوس عن قول من يقول: لا يحرم من الرضاع، دون سبع رضعات، فقال: قد كان ذلك، ثم حدث بعد ذلك أمر جاء بالتحريم، المرّةُ الواحدة تحرّم، وهذا المذهب لا دليل عليه.

[الثاني]: التحريم إنما يثبت بعشر رضعات، وهذا يُروى عن حفصة، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

وفيها مذهب آخر، وهو الفرق بين أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهنّ قال طاوس: كان لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم رضعات محرّمات، ولسائر الناس رضعات معلومات، ثم تُرك ذلك بعد.

وقد تبيّن الصحيح من هذه الأقوال. وباللَّه التوفيق انتهى كلام ابن القيّم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

وقال الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: أجاب القائلون بتحريم قليل الرضاع وكثيره عن الأحاديث التي استدلّ بها القائلون بخمس رضعات بأجوبة:

[منها]: أنها متضمّنة لكون الخمس الرضعات قرآنا، والقرآن شرطه التواتر، ولم يتواتر محلّ النزاع.

وأجيب بأن كون التواتر شرطًا ممنوعٌ، والسند ما أسلفنا عن أئمّة القراءات، كالجزريّ وغيره في "باب الحجّة في الصلاة بقراءة ابن مسعود، وأُبيّ" من أبواب الصلاة، فإنه نقل هو وجماعة من أئمة القراءات الإجماع على ما يُخالف هذه الدعوى، ولم يُعارضه نقله ما يصلح لمعارضته، كما بيّنا ذلك هناك. وأيضًا اشتراط التواتر فيما نُسخ لفظه على رأي المشترطين ممنوعٌ. وأيضًا انتفاء قرآنيّته لا يستلزم انتفاء حجّيّته على فرض شرطيّة التواتر؛ لأن الحجّة ثبتت بالظنّ، ويجب عنده العمل، وقد عَمِلَ الأئمة بقراءة الآحاد في مسائل كثيرة، منها: قراءة ابن مسعود "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، وقراءة أُبيّ:"وله أخٌ أو أختٌ من أمّ"، ووقع الإجماع على ذلك، ولا مستند له غيرها. وأجابوا أيضًا بأن ذلك لو كان قرآنا لحُفِظ؛ لقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وأجيب بأن كونه غير محفوظ ممنوعٌ، بل قد حفظه اللَّه برواية عائشة له. وأيضًا المعتبر حفظ الحكم، ولو سُلّم انتفاء قرآنيّته على جميع التقادير لكان سنة؛ لكون الصحابيّ راويًا له عنه صلى الله عليه وسلم؛ لوصفه له بالقرآنيّة، وهو يستلزم صدوره

(1)

"زاد المعاد" 5/ 572 - 574.

ص: 309

عن لسانه، وذلك كاف في الحجيّة؛ لما تقرّر في الأصول من أن المرويّ آحادًا إذا انتفى عنه وصف القرآنيّة لم ينتف وجوب العمل به، كما سلف.

واحتجّوا أيضًا بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23]، وإطلاق الرضاع يُشعر بأنه يقع بالقليل والكثير، ومثلُ ذلك حديثُ:"يحرم من الرضاع ما يحرُم من النسب". ويُجاب بأنه مطلقٌ مقيّد بما سلف.

واحتجّوا بما ثبت في "الصحيحين" عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه أنه تزوّج أم يحيى بنت أبي إهاب الآتي للنسائيّ في -57/ 3331 - ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستفصله عن الكيفيّة، ولا سأل عن العدد حين أمره بفراقها.

ويُجاب أيضًا بأن أحاديث الباب اشتملت على زيادة على ذلك المطلق المشعور به من ترك الاستفصال، فيتعيّن الأخذ بها، على أنه يمكن أن يكون ترك الاستفصال لسبق البيان منه صلى الله عليه وسلم للقدر الذي يثبت به التحريم.

[فإن قلت]: حديث: "لا يُحرّم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء" يدلّ على عدم اعتبار الخمس؛ لأن الفتق يحصل بدونها.

[قلت]: أجيب عن ذلك بأن الحديث منقطع؛ لأنه من رواية فاطمة بنت المنذر، عن أم سلمة، ولم تسمع منها شيئًا.

فالظاهر ما ذهب إليه القائلون باعتبار الخمس.

وأما حديث: "لا تُحرّم الرضعة والرضعتان"، ونحوه من الأحاديث، فمفهومها يقتضي أن ما زاد عليها يوجب التحريم، كما أن مفهوم أحاديث الخمس أن ما دونها لا يقتضي التحريم، فيتعارض المفهومان، ويُرجع إلى الترجيح، ولكنه قد ثبت عند ابن ماجه بلفظ:"لا يُحرّم إلا عشر رضعات، أو خمس"، وهذا مفهوم حصر، وهو أولى من مفهوم العدد.

وأيضًا قد ذهب بعض علماء البيان كالزمخشريّ إلى أن الإخبار بالجملة الفعليّة المضارعية يفيد الحصر، والإخبار عن الخمس الرضعات بلفظ يُحرّمن كذلك، ولو سلم استواء المفهومين، وعدم انتهاض أحدهما كان المتوجّه تساقهما، وحمل ذلك المطلق على الخمس، لا على ما دونها، إلا أن يدلّ عليه دليلٌ، ولا دليل يقتضي أن ما دون الخمس يحرم إلا مفهوم قوله:"لا تحرّم الرضعة والرضعتان"، والمفروض أنه قد سقط، نعم لا بدّ من تقييد الخمس الرضعات بكونها في زمن المجاعة؛ لحديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - الآتي آخر الباب:"فإن الرضاعة من المجاعة".

وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أبي داود، مرفوعًا: "لا رضاع إلا ما أنشز العظم،

ص: 310

وأنبت اللحم". فيجاب بأن الإنبات والإنشاز إن كانا يحصلان بدون الخمس، ففي حديث الخمس زيادة يجب قبولها، والعمل بها، وإن كانا لا يحصلان إلا بزيادة عليها، فيكون حديث الخمس مقيّدًا بهذا الحديث، لولا أنه من طريق أبي موسى الهلاليّ، عن أبيه، عن ابن مسعود. وقد قال أبو حاتم: إن أبا موسى، وأباه مجهولان. وقد أخرجه البيهقيّ من حديث أبي حَصِين، عن أبي عطيّة، قال: جاء رجلٌ إلى أبي موسى، فذكره بمعناه، وهذا يدلّ على فرض أنه يفيد ارتفاع الجهالة عن أبي موسى، لا يفيد ارتفاعها عن أبيه، فلا ينتهض الحديث لتقييد أحاديث الخمس بإنشاز العظم، وإنبات اللحم. انتهى كلام الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى- ببعض تصرّف

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن مما تقدّم من الأدلة أن ما ذهب إليه القائلون باعتبار الخمس، ومنهم الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- هو الأرجح، لوضوح أدلّته، وانظر ما كتبه ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى- في "المُحلّى" منتصرًا لهذا المذهب، فقد حقّق الموضوع تحقيقًا جيّدًا.

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3309 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، وَأَيُّوبَ، عَنْ صَالِحٍ، أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ عَنِ الرَّضَاعِ؟ فَقَالَ: «لَا تُحَرِّمُ الإِمْلَاجَةُ، وَلَا الإِمْلَاجَتَانِ». وَقَالَ قَتَادَةُ: «الْمَصَّةُ، وَالْمَصَّتَانِ»).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عبد اللَّه بن الصبّاح بن عبد اللَّه) الهاشميّ العطّار البصريّ، ثقة، من كبار [10] 49/ 1739.

2 -

(محمد بن سواء) -بتخفيف الواو، والمدّ- أبو الخطّاب السدوسيّ العنبريّ البصريّ المكفوف، صدوق رمي بالقدر [9] 78/ 1993.

3 -

(سعيد) بن أبي عروبة مهران، أبو النضر البصريّ، ثقة ثبت، من أثبت الناس في قتادة، لكنه يدلس، واختلط بآخره [6] 34/ 38.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقة ثبت، يدلس [4] 30/ 34.

(1)

"نيل الأوطار" 6/ 330 - 332. طبعة دار الكتب العلمية.

(2)

"المحلّى" 10/ 16.

ص: 311

5 -

(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت فقيه عابد [5] 42/ 48.

[تنبيه]: قوله: "وأيوب" بالجرّ عطفا على "قتادة"، فسعيد يروي هذا الحديث عن كلّ من قتادة، وأيوب، وكلاهما يرويانه عن صالح أبي الخليل. واللَّه تعالى أعلم.

6 -

(صالحٌ) بن أبي مريم الضُّبَعيّ مولاهم، أبو الخليل البصريّ، ثقة [6].

قال ابن معين، وأبو داود، والنسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبَّان في "الثقات". وأغرب ابن عبد البرّ، فقال في "التمهيد": لا يُحتجّ به. أخرج له الجماعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم 3309 و 3334 و 4458 و 4465 و 4565.

7 -

(عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل) أبو محمد الهاشمي المدنيّ، أمير البصرة، له رؤية، ولأبيه، وجدّه صحبة [2] 41/ 2211.

8 -

(أمّ الفضل) لبابة بنت الحارث بن حَزن الهلاليّة، زوج العباس بن عبد المطّلب، وأخت ميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ماتت في خلافة عثمان رضي الله عنه، تقدّمت ترجمتها في 64/ 985. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير الصحابية، فإنها مدنيّة. (ومنها): أن رواية قتادة، وأيوب عن صالح أبي الخليل من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأنهما تابعيان، بخلافه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أُمِّ الفَضْلِ) لبابة بنت الحارث - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّ نَبِيَّ اللَّه صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ عَنِ الرِّضَاعِ؟) أي عن مقدار الرضاع الذي يتعلق به التحريم (فَقَالَ: "لَا تحُرِّمُ الإمْلَاجَةُ) بكسر الهمزة المرّة، من أملجته أمه: إذا أرضعته، أي لا تحرّم الرضعة الواحدة (وَلَا الإِمْلَاجَتَانِ) أي الرضعتان (وَقَالَ قَتَادَةُ) بن دعامة في روايته (الْمَصَّةُ) بفتح الميم، وتشديد الصاد المهملة: المرّة من مَصّ يَمَصّ، يقال: مَصِصْتُه بالكسر أَمَصُّهُ، من باب تَعِبَ، ومَصَصْتُهُ أمُصُّهُ، من باب قتل: شربتُهُ شُربًا رَفِيقًا، كامتصصته. أفاده في "القاموس".

أي لا تُحرّم الرضعة الواحدة (وَالْمَصَّتَانِ) أي الرضعتان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 312

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أم الفضل - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-51/ 3309 - وفي "الكبرى" 48/ 5454. وأخرجه (م) في "الرضاع" 1451 (ق) في " النكاح" 1940 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار"26332 و 26339 (الدارمي) في "النكاح" 2252. واللَّه تعالى أعلم.

وتمام البحث فيما يتعلّق بمذاهب العلماء تقدّم في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3310 -

(أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ، وَالْمَصَّتَانِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "شُعيب بن يوسف": أبو عمرو النسائيّ، ثقة صاحب حديث [10] 42/ 49 من أفراد المصنّف.

و"يحيى": هو القطّان. و"هشام": هو ابن عروة. والحديث صحيح، انفرد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-51/ 3310 - وفي "الكبرى" 48/ 5456، وتقدّم شرحه، والبحث عما يتعلّق به من المسائل قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3311 -

(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ، وَالْمَصَّتَانِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "زياد بن أيوب": هو أبو هاشم الطوسيّ الأصل، يُلقّب دلّويه، وكان يغضب منها، ولقّبه أحمد شعبة الصغير، ثقة حافظ [10] 101/ 132. و"أيوب": هو ابن أبي تميمة كيسان السختيانيّ. و"ابن أبي مليكة": هو عبد اللَّه ابن عبيد اللَّه المكيّ.

والحديث أخرجه مسلم في "الرضاع" 1450، وأخرجه المصنّف هنا - 51/ 3311، و 3312 - وفي "الكبرى" 48/ 5451 و 5462. و (د) في "النكاح" 2063 (ت) في "الرضاع" 1150 و (ق) في "النكاح" 1941 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23506 و 24123 و 25284 و 25568 (الدارمي) في "النكاح" 2251.

وشرح الحديث، والمسائل المتعلّقة به سبقت قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 313

3312 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَتَبْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ، نَسْأَلُهُ عَنِ الرَّضَاعِ؟ فَكَتَبَ أَنَّ شُرَيْحًا، حَدَّثَنَا أَنَّ عَلِيًّا، وَابْنَ مَسْعُودٍ، كَانَا يَقُولَانِ: يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَكَانَ فِي كِتَابِهِ، أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ الْمُحَارِبِيَّ، حَدَّثَنَا أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقُولُ: «لَا تُحَرِّمُ الْخَطْفَةُ، وَالْخَطْفَتَانِ»).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(محمد بن عبد اللَّه بن بَزِيع) -بفتح الموحّدة، وكسر الزاي- البصريّ، ثقة [10] 43/ 588.

2 -

(يزيد بن زُريع) أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.

3 -

(سعيد) بن أبي عروبة المترجم قبل حديث.

4 -

(قتادة) بن دعامة المترجم قبل حديث أيضًا.

5 -

(إبراهيم بن يزيد النخعيّ) أبو عمران الكوفيّ، ثقة فقيه، يرسل كثيرًا [5] 29/ 33.

6 -

(شريح) بن الحارث بن قيس بن الجهم بن مُعاوية بن عامر الكنديّ، النخعيّ القاضي، أبو أميّة الكوفيّ، ويقال: شُريح بن شُرَحبيل، ويقال: ابن شراحيل، ويقال: من أولاد الفرس الذين كانوا باليمن، ثقة [2]. وقيل: له صحبة.

قال ابن معين: كان في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه، استقضاه عمر على الكوفة، وأقرّه عليّ، وأقام على القضاء بها ستّين سنة، وقضى بالبصرة سنة. قال عليّ بن عبد اللَّه ابن معاوية بن ميسرة: حدّثني أبي، عن أبيه معاوية، عن أبيه مَيْسرة، عن أبيه شُريح قال: وَليت القضاء لعمر، وعثمان، وعليّ، فمن بعدهم إلى أن استعفيتُ من الحجاج، قال: وكان له مائة وعشرون سنة، وعاش بعد استعفائه سنة، ثم مات. وقال ابن المدينيّ: ولي شُريح البصرة سبع سنين زمن زياد، وولي الكوفة ثلاثًا وخمسين سنة. قال عليّ: ويقال: تعلّم العلم من معاذ. وقال حنبل بن إسحاق، عن ابن معين: شُريح ابن هانئ، وشريح بن أرطأة، وشريح القاضي أقدم منهما، وهو ثقة. وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة. وقال أبو حَصِين: كان شاعرًا قائفًا. وكذا قال ابن سيرين، وزاد: وكان تاجرًا، وكان كَوْسجًا. وقال أبو إسحاق السبيعيّ، عن هُبيرة بن يَرِيم: إن عليًّا جمع الناس بالرَّحْبَة، فقال: إني مفارقكم، فجعلوا يسألونه حتى نَفِد ما عندهم، ولم يبق إلا شريحٌ، فجثا على ركبتيه، وجعل يسأله فقال له عليّ: اذهب فأنت أقضى العرب. وقال عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء: أتانا زياد بشُريح، فقضى فينا سنةً، لم يقض فينا

ص: 314

مثله قبله، ولا بعده. قال أبو نعيم: مات سنة (78) زمن مصعب بن الزبير، وهو ابن مائة وثمان سنين بعد ما عُزل عن القضاء بسنتين. وفيها أرّخه غير واحد. وقال خليفة، وغيره: سنة (80) وقال المدائنيّ: سنة (82). وقيل: سنة (97). وقيل: سنة (99). أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب أربعة أحاديث برقم 51/ 3312 و 4/ 3756 و 46/ 3936 و 11/ 5400.

7 -

(أبو الشعثاء المحاربيّ) سُليم بن الأسود بن حنظلة الكوفيّ، ثقة، من كبار [3] 90/ 112.

8 -

(عليّ) بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه - 74/ 91.

9 -

(ابن مسعود) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنه - 35/ 39.

10 -

(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى قتادة، والباقون كوفيون، سوى عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فمدنيّة. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة أبي الخطاب البصريّ، أنه (قَالَ: كتَبْنَا إِلَى إبرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ، نَسْألُهُ عَنِ الرِّضَاعِ؟) أي عن المقدار الذي يحرّم منه (فَكَتَبَ أَنَّ شُرَيْحًا) القاضي (حَدَّثَنا أَنَّ عَلِيًّا، وَابْنَ مَسْعُودٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (كَانَا يَقُولَانِ: يُحَرِّمُ مِنَ الرِّضَاعِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ) أي عملًا بإطلاق الآية: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} ، وحديث:"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"(وَكَانَ فِي كِتَابِهِ) أي في كتاب إبراهيم الذي أرسله إلى قتادة، ومن معه (أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ) سُلَيم بن الأسود (الْمُحَارِبِيَّ) بضم الميم: نسبة إلى قبيلة، وهم عدّة قبائل وبطون، ذكر بعضهم ابن الأثير في "اللباب" 3/ 170 - 171 (حَدَّثَنَا أَنَّ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (حَدَّثَتهُ، أن نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقُولُ: "لا تُحَرِّمُ الْخَطْفَةُ) -بفتح الخاء المعجمة، وسكون الطاء المهملة-: أي الرضاعة القليلة يأخذها الصبيّ من الثدي بسرعة (وَالْخَطْفَتَانِ) أي المرّتان من الرضاعة القليلة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 315

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-51/ 3312 - وفي "الكبرى" 48/ 5462. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3313 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، فِي حَدِيثِهِ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ: «انْظُرْنَ مَا إِخْوَانُكُنَّ؟ "، وَمَرَّةً أُخْرَى: "انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، مِنَ الرَّضَاعَةِ؟ ، فَإِنَّ الرَّضَاعَةَ مِنَ الْمَجَاعَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هناد بن السريّ) المذكور في الباب الماضي.

2 -

(أبو الأحوص) سلاّم بن سُلَيم الحنفيّ الكوفيّ، ثقة متقن [7] 79/ 96.

3 -

(أشعث بن أبي الشعثاء) المحاربيّ الكوفيّ ثقة [6] 90/ 112.

4 -

(أبوه) أبو الشعثاء سليم بن الأسود المذكور في السند السابق.

5 -

(مسروق) بن الأجدع بن مالك الهمدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه مخضرم [2] 90/ 112.

6 -

(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير الصحابية، فمدنيّة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ مخضرم، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مَسْرُوقٍ) بن الأجدع -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، وأظنّه ابنًا لأبي القُعيس، وغلِط من قال: هو عبد اللَّه بن يزيد، رضيع عائشة؛ لأن عبد اللَّه هذا تابعيّ باتفاق الأئمة، وكان أمّه التي أرضعت عائشة عاشت بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم،

ص: 316

فولدته، فلهذا قيل له: رضيع عائشة انتهى

(1)

(فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجهِهِ) وفي رواية البخاريّ من طريق شعبة، عن الأشعث:"فكأنه تغيّر وجهه، كأنه كره ذلك". وفي رواية له من طريق عن الأشعث: "فقال: "عائشة من هذا؟ " (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("انظُرْنَ مَا إِخْوَانُكُنَّ؟ ") "ما" استفهاميّة، والمعنى: تأمّلن ما وقع من ذلك، هل هو رضاعٌ صحيح بشرطه، من وقوعه في زمن الرضاعة، ومقدار الارتضاع، فإن الحكم الذي ينشأ من الرضاع إنما يكون إذا وقع الرضاع المشترط. قال المهلّب: معناه: انظرن ما سبب هذه الأُخوّة، فإن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر حتى تسدّ الرضاعة المجاعة. وقال أبو عُبيد: معناه أن الذي جاع كان طعامه الذي يُشبعه اللبن من الرضاع، لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع.

(وَمَرَّةً أُخْرَى) أي قال مرّة أخرى (انْظُرْنَ مَن إخوَانُكُن مِنَ الرضَاعَةِ؟) بـ"مَنْ" بدل "ما"، وهي أوجه، وهي استفهامية أيضًا (فَإِنَّ الرَّضَاعَةَ) وفي رواية البخاريّ: "فإنما الرضاعة (مِنَ المَجَاعَةِ) فيه تعليل الباعث على إمعان النظر والفكر؛ لأن الرضاعة تُثبتُ النسبَ، وتجعل الرضيع مَحْرَمًا.

والمعنى: أن الرضاعة التي تثبت بها الحرمة، وتحِلُّ بها الخلوة، هي حيث يكون الرضيع طفلًا، يسدّ اللبن جوعته؛ لأن معدته ضعيفة، يكفيها اللبن، وينبتُ بذلك لحمه، فيصير كجزء من المرضعة، فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال: لا رضاعة معتبرةٌ إلا المغنية عن المجاعة، أو المطعمة من المجاعة، كقوله تعالى:{أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} ، ومن شواهده حديث ابن مسعود:"لا رضاع إلا ما شدّ العظم، وأنبت اللحم". أخرجه أبو داود، مرفوعًا، وموقوفًا، وحديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء". أخرجه الترمذي، وصححه

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 51/ 3313 - وفي "الكبرى" 49/ 5464. وأخرجه (خ) في

(1)

"فتح" 10/ 184.

(2)

"فتح" 10/ 184 - 185.

ص: 317

"الشهادات" 2647 و"النكاح" 5102 (م) في "الرضاع" 1455 (د) في "النكاح" 2058 (ق) في "النكاح" 1945 (الدارمي)2256. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مقدار الرضاعة التي يثبت بها التحريم، وذلك خمس رضعات، ووجه الاستدلال بهذا الحديث على ذلك، أنه يدلّ على أن الرضعة الواحدة، لا تحرّم؛ لأنها لا تُغني من الجوع، فإذًا لا بدّ من تقدير ما يُحرّم منها، فيكون أولى ما يؤخذ به ما قدّرته الشريعة، وهو خمس رضعات.

(ومنها): جواز دخول من اعترفت المرأة بالرضاعة معه عليها، وأنه يصير أخًا لها، وقبول قولها فيمن اعترفت به. (ومنها): سؤال الرجل زوجته عن سبب إدخال الرجال بيته، والاحتياط في ذلك، والنظر فيه.

(ومنها): أنه استدلّ به على أن التغذية بلبن المرضعة يُحَرِّم، سواء كان بشرب أم أكل بأيّ صفة كان، حتى الوُجور، والسُّعوط، والثَّرْد، والطَّبْخ، وغير ذلك، إذا وقع ذلك بالشرط المذكور من العدد لأن ذلك يطرد الجوع، وهو موجود في جميع ما ذُكر، فيوافق الخبر والمعنى، وبهذا قال الجمهور، لكن استثنى الحنفيّة الحُقْنة.

وخالف في ذلك الليث، وأهل الظاهر، فقالوا: إن الرضاعة المحرمة إنما تكون بالتِقَام الثدي، ومصّ اللبن منه.

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن الرضاعة إنما تُعتبر في حال الصغر؛ لأنها الحال الذي يمكن طرد الجوع فيها باللبن بخلاف حال الكبر، وضابط ذلك تمام الحولين، وعليه يدلّ حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، رفعه:"لا رضاع إلا ما كان في الحولين". أخرجه الدرقطنيّ، وقال: لم يُسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ. وأخرجه ابن عديّ، وقال: غير الهيثم يوقفه على ابن عباس، وهو المحفوظ. وحديث أمّ سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام". صححه الترمذيّ، وابن حبّان.

وقال القرطبيّ: في قوله: "فإنما الرضاعة من المجاعة" تثبيت قاعدة كلّيّة صريحة في اعتبار الرضاع في الزمن الذي يستغني به الرضيع عن الطعام باللبن، ويعتضد بقوله تعالى:{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ، فإنه يدلّ على أن هذه المدّة أقصى مدّة الرضاع المحتاج إليه عادةً المعتبر شرعًا، فما زاد عليه لا يُحتاج إليه عادةً، فلا يُعتبر شرعًا، إذ لا حكم للنادر، وفي اعتبار إرضاع الكبير انتهاك حرمة المرأة بارتضاع الأجنبيّ منها؛ لاطلاعه على عورتها، ولو بالتقامه ثديها.

ص: 318

يعني على الغالب، وأيضًا على مذهب من يشترط التقام الثدي. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: مذهب عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -كما سيأتي- أنها لا تفرّق في حكم الرضاع بين حال الصغر والكبر، وقد استُشكل ذلك مع كون هذا الحديث من روايتها، واحتجّت هي بقصّة سالم مولى أبي حُذيفة، فلعلّها فهمت من قوله:"إنما الرضاعة من المجاعة" اعتبار مقدار ما يسدّ الجوعة من لبن المرضعة لمن يرتضع منها، وذلك أعمّ من أن يكون المرتضع صغيرًا أو كبيرًا، فلا يكون الحديث نصًّا في منع اعتبار رضاع الكبير، وحديث ابن عبّاس مع تقدير ثبوته ليس نصًا في ذلك، ولا حديث أم سلمة؛ لجواز أن يكون المراد أن الرضاع بعد الفطام ممنوع، ثم لو وقع رتب عليه حكم التحريم، فما ثبت في الأحاديث المذكورة ما يدفع هذا الاحتمال، فلهذا عملت عائشة بذلك

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌52 - (لَبَنُ الْفَحْلِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الْفَحْلُ" بفتح الفاء؛ وسكون المهملة: الذكر من الحيوان، جمعه فُحُول، وفُحُولةٌ- بالضمّ فيهما- وفِحالٌ -بالكسر-، والمراد به هنا الرجل الذي نزل بسببه لبن المرأة، فنسبة اللبن إليه مجازيّةٌ؛ للسببيّة.

قال العلاّمة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى- عند قوله: "ولبن الفحل محرِّمٌ": معناه أن المرأة إذا أرضعت طفلًا بلبن ثاب من وطء رجل، حُرِّمَ الطفلُ على الرجل، وأقاربه، كما يُحرَّم ولده من النسب؛ لأن اللبن من الرجل، كما هو من المرأة، فيصير الطفل ولدًا للرجل، والرجل أباه، وأولاد الرجل إخوته، سواء كانوا من تلك المرأة، أو من غيرها، وإخوة الرجل، وأخواته أعمام الطفل وعمّاته، وآباؤه، وأمهاته أجداده، وجدّاته.

قال أحمد: لبن الفحل أن يكون للرجل امرأتان، فترضع هذه صبيّة، وهذه صبيًّا، لا يزوّج هذا من هذا. وسُئل ابن عبّاس عن رجل له جاريتان، أرضعت إحداهما جارية،

(1)

راجع "الفتح" 10/ 185 - 186.

ص: 319

والأخرى غُلامًا، فقال: لا، اللقاح واحدٌ. قال الترمذيّ: هذا تفسير لبن الفحل. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قال القاضي عبد الوهاب: يُتصوّر تجريد لبن الفحل برجل له امرأتان ترضع إحداهما صبيًّا، والأخرى صبية، فالجمهور قالوا: يَحرُم على الصبيّ تزويج الصبيّة، وقال من خالفهم: يجوز. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الجمهور هو الحقّ، وسيأتي تحقيقه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

3314 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ، أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ رَجُلاً، يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أُرَاهُ فُلَانًا» ، لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ فُلَانٌ حَيًّا، لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، دَخَلَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يُحَرَّمُ مِنَ الْوِلَادَةِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلّهم تُرجموا في الباب الماضي، وكذا مضى هناك لطائف الإسناد.

و"معن": هو ابن عيسى القزّاز المدنيّ. و"مالك": هو إمام دار الهجرة. و"عبد اللَّه ابن أبي بكر": هو ابن محمد بن عمرو بن حرّم الأنصاريّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمرَةَ) بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة الأنصاريّة المدنيّة، ثقة [3] 134/ 203 (أَنَّ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِندَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ رَجُلًا) لم يسمّ (يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ) بنت عمر بن الخطّاب، أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - (قَالَتْ عَائِشَةُ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، قال في "الفتح": فيه التفات، وكان السياف يقتضي أن تقول: قلت انتهى (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ، فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أُرَاهُ) بضمّ الهمزة: أي أظنه (فُلَانًا، لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ) اللام هنا بمعنى "عن"، نحو قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} . وبه يقول ابن الحاجب. وقال ابن مالك، وغيره: هي لام

(1)

راجع "المغني" 9/ 520 - 521.

(2)

"فتح" 10/ 189.

ص: 320

التعليل. وقيل: لام التبليغ. قال ابن هشام: وحيث دخلت اللام على غير المقول له، فالتأويل على بعض ما ذكرناه، نحو:{قَالَتْ: أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} ، {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} الآية، وقول الشاعر [من الكامل]:

كَضَرَائِرِ الْحَسنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا

حَسَدًا وَبُغْضًا إِنَّهُ لَذَمِيمُ

(1)

(قَالَت عَائِشَةُ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ فُلَانٌ حَيًّا) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ووهم من فسّره بأفلح أخي أبي القعيس؛ لأن أبا القُعيس أبو عائشة من الرضاعة، وأما أفلح فهو أخوه، وهو عمها من الرضاعة، كما سيأتي أنه عاش حتى جاء يستأذن على عائشة، فأمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تأذن له بعد أن امتنعت، وقولها:"لو كان حيًّا" يدلّ على أنه كان مات، فيحتمل أن يكون أخًا لهما آخر. ويحتمل أن تكون ظنت أنه مات لبعد عهدها به، ثم قدم بعد ذلك، فاستأذن.

وقال ابن التين: سُئل الشيخ أبو الحسن عن قول عائشة: "لو كان فلانٌ حيًّا" أين هو من الحديث الآخر الذي فيه: "فأبيت أن آذن له"، فالأول ذكرت أنه ميت، والثاني ذكرت أنه حيّ؟.

فقال: هما عمان من الرضاعة: أحدهما رضع مع أبي بكر الصدّيق، وهو الذي قالت فيه:"لو كان حيًّا"، والآخر أخو أبيها من الرضاعة.

قال الحافظ: الثاني ظاهرٌ من الحديث، والأول حسنٌ محتملٌ، وقد ارتضاه عياضٌ، إلا أنه يحتاج إلى نقل؛ لكونه جزم به، قال: وقال ابن أبي حازم: أرى أن المرأة التي أرضعت عائشة امرأة أخي الذي استأذن عليها. قال الحافظ: وهذا بيّنٌ في الحديث الثاني، لا يحتاج إلى ظنّ، ولا هو مشكلٌ، إنما المشكل كونها سألت عن الأول، ثم توقّفت في الثاني.

وقد أجاب عنه القرطبيّ، قال: هما سؤالان، وقعا مرَّتين في زمنين عن رجلين، وتكرّر منها ذلك، إما لأنها نسيت القصة الأولى، وإما لأنها جوّزت تغيّر الحكم، فأعادت السؤال انتهى. وتمامه أن يقال: السؤال الأول كان قبل الوقوع، والثاني بعد الوقوع، فلا استبعاد في تجويز ما ذكر من نسيان، أو تجويز النسخ.

ويؤخذ من كلام عياض جواب آخر، وهو أن أحد العمّين كان أعلى، والآخر أدنى، أو أحدهما كان شقيقًا، والآخر لأب فقط، أو لأم فقط، أو أرضعتها زوجة أخيه بعد

(1)

راجع "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 213 - 214. بتحقيق محمد محيي الدين.

ص: 321

موته، والآخر في حياته.

وقال ابن المرابط: حديث عمّ حفصة قبل حديث عمّ عائشة، وهما متعارضان في الظاهر، لا في المعنى؛ لأن عمّ حفصة أرضعته المرأة مع عمر، فالرضاعة فيهما من قبل المرأة، وعمّ عائشة إنما هو من قبل الفحل، كانت امرأة أبي القعيس أرضعتها، فجاء أخوه يستأذن عليها، فأبت، فأخبرها الشارع أن لبن الفحل يُحّرم، كما يُحرّم من قبل المرأة انتهى.

فكأنه جوّز أن يكون عمّ عائشة الذي سألت عنه في قصّة عمّ حفصة كان نظير عمّ حفصة في ذلك، فلذلك سألت ثانيًا في قصّة أبي القعيس. وهذا إن كان وجده منقولًا، فلا مَحِيد عنه، وإلا فهو محملٌ حسنٌ. واللَّه تعالى أعلم. قاله في "الفتح"

(1)

.

(لِعَمِّهَا) تقدّم معنى هذه اللام هذِه قريبًا (مِنَ الرَّضَاعَةِ، دَخَلَ عَلَيَّ؟) جواب "لو"

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ ما يُحَرَّمُ مِنَ الوِلادَةِ") أي وتبيح ما تبيحه، وهو بالإجماع فيما يتعلق بتحريم النكاح وتوابعه، وانتشار الحرمة بين الرضيع، وأولاد المرضعة، وتنزيلهم منزلة الأقارب في جواز النظر، والخلوة، والمسافرة، ولكن لا يترتب عليه باقي أحكام الأمومة، من التوارث، ووجوب الإنفاق، والعتق بالملك، والشهادة، والعقل، وإسقاط القصاص. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفق عليه، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله قبل بابين، فلنذكر هنا ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، فنقول:

[مسالة]: في اختلاف أهل العلم في لبن الفحل:

ذهب الجمهور إلى أن لبن الفحل يُحَرِّمُ، قال ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: وممن قال بتحريمه: عليّ، وابن عباس، وعطاء، وطاوسٌ، ومجاهد، والحسن، والشعبيّ، والقاسم، وعروة، ومالكٌ، والثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وإسحاق، وأبو عُبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، وأصحاب الرأي. قال ابن عبد البرّ: وإليه ذهب فقهاء الأمصار بالحجاز، والعراق، والشام، وجماعة أهل الحديث.

ورخّص في لبن الفحل سعيد بن المسيّب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، والنخعيّ، وأبو قلابة، وُيروى ذلك عن ابن الزبير، وجماعة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غير مُسَمِّينَ؛ لأن الرضاع من المرأة، لا من الرجل. انتهى

(2)

.

(1)

10/ 175 - 176.

(2)

"المغني" 9/ 521.

ص: 322

وقال في "الفتح": وفي الحديث أن لبن الفحل يحرّم، فتنتشر الحرمة لمن ارتضع الصغير بلبنه، فلا تحلّ له بنت زوج المرأة التي أرضعته من غيرها مثلًا، وفيه خلاف قديم، حكي عن ابن عمر، وابن الزبير، ورافع بن خَديج، وزينب بنت أمّ سلمة، وغيرهم. ونقله ابن بطّال عن عائشة، وفيه نظر. ومن التابعين عن سعيد بن المسيّب، وأبي سلمة، والقاسم، وسالم، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، والشعبيّ، وإبراهيم النخعيّ، وأبي قلابة، وإياس بن معاوية. أخرجها ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن المنذر. وعن ابن سيرين:"نُبّئت أن ناسًا من أهل المدينة اختلفوا فيه". وعن زينب بنت أبي سلمة أنها سألت، والصحابة متوافرون، وأمهات المؤمنين، فقالوا: الرضاعة من قبل الرجل لا تُحرّم شيئًا. وقال به من الفقهاء ربيعة الرأي، وإبراهيم ابن عليّة، وابن بنت الشافعيّ، وداود، وأتباعه.

وأغرب عياضٌ، ومن تبعه في تخصيصهم ذلك بداود، وإبراهيم، مع وجود الرواية عمن ذكرنا بذلك.

وحجتهم في ذلك قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} الآية. ولم يذكر العمّة، ولا البنت كما ذكرهما في النسب.

وأجيبوا بأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدلّ على نفي الحكم عما عداه، ولا سيّما وقد جاءت به الأحاديث الصحيحة. واحتجّ بعضهم من حيث النظر بأن اللبن لا ينفصل من الرجل، وإنما ينفصل من المرأة، فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل؟. والجواب أنه قياسٌ في مقابلة النصّ، فلا يُلتفت إليه. وأيضًا فإن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معًا، فوجب أن يكون الرضاع منهما، كالجدّ لَمّا كان سبب الولد أوجب تحريم ولد الولد به؛ لتعلّقه بولده، وإلى هذا أشار ابن عبّاس بقوله في هذه المسألة:"اللقاح واحد". أخرجه ابن أبي شيبة. وأيضًا فإن الوطء يُدرّ اللبن، فللفحل فيه نصيب.

وذهب الجمهور من الصحابة، والتابعين، وفقهاء الأمصار، كالأوزاعيّ في أهل الشام، والثوريّ، وأبي حنيفة، وصاحبيه في أهل الكوفة، وابن جريج في أهل مكة، ومالك في أهل المدينة، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأتباعهم إلى أن لبن الفحل يُحرِّمُ. وحجتهم هذا الحديث الصحيح.

وألزم الشافعيّ المالكيّة في هذه المسألة بردّ أصلهم بتقديم عمل أهل المدينة، ولو خالف الحديث الصحيح، إذا كان من الآحاد؛ لما رواه عن عبد العزيز بن محمد، عن ربيعة، من أن لبن الفحل لا يحرّم، قال عبد العزيز بن محمد: وهذا رأي فقهائنا، إلا الزهريّ، فقال الشافعيّ: لا نعلم شيئًا من علم الخاصّة أولى بأن يكون عامًّا ظاهرًا من

ص: 323

هذا، وقد تركوه للخبر الوارد، فيلزمهم على هذا: إما أن يردّوا هذا الخبر، وهم لم يردّوه، أو يردّوا ما خالف الخبر، وعلى كلّ حال هو المطلوب. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن ما ذهب إليه الجمهور، من أن لبن الفحل يتعلّق به التحريم هو الحقّ؛ لحديث الباب. قال ابن قدامة بعد ذكر حديث الباب؛ ما نصّه: وهذا نصّ قاطع في محلّ النزاع، فلا يُعوّل على ما خالفه انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3315 -

(أَخْبَرَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ

(3)

قَالَتْ: جَاءَ عَمِّي أَبُو الْجَعْدِ، مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَرَدَدْتُهُ، قَالَ: وَقَالَ هِشَامٌ: هُوَ أَبُو الْقُعَيْسِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ائْذَنِي لَهُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدموا غير مرّة.

و"عطاء": هو ابن أبي رباح.

وقوله: "أبو الجعد" هو كنية أفلح الآتي، عمّ عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -.

وقوله: "وقال هشام: هو. أبو القُعيس" يعني أن هشام بن عروة قال في روايته: إن عمّ عائشة هو أبو القعيس، لكن اتفق الحفّاظ على أن الصواب أنه أخو أبي القعيس، لا أبو القعيس، وهو أفلح الآتي في الروايات الآتية، وهو أبو الجعد، وقد تقدّم بيان ذلك قبل بابين في -49/ 3302 - فتنبّه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله بالرقم المذكور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3316 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ، اسْتَأْذَنَ عَلَى عَائِشَةَ، بَعْدَ آيَةِ الْحِجَابِ، فَأَبَتْ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «ائْذَنِي لَهُ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ» ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ، وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ، فَقَالَ: «إِنَّهُ عَمُّكِ، فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ»).

(1)

"فتح" 10/ 189.

(2)

"المغني" 9/ 521 - 522.

(3)

وفي بعض النسخ: "أن عائشة أخبرته"، وفي بعضها:"عن عائشة" بدل "أن عائشة".

ص: 324

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلّهم تقدّموا والنصف الأول من الإسناد بصريون، والآخر مدنيّون.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى": ما نصّه: "حدثني أبي، عن أيوب"، وهو خطأ، والصواب كما في بعض نسخ "الكبرى"، ونحوه في "تحفة الأشراف" ج 12/ ص 228 - زيادة:"عن أبيه"، فعبد الصمد لا يرويه عن أيوب مباشرة، وإنما يرويه بواسطة أبيه عبد الوارث، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "فذُكر الخ" بالبناء للمفعول، والذاكرة له هي عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، كما سيأتي في الحديث التالي، إن شاء اللَّه تعالى.

وقولها: "إنما أرضعتني المرأة" أي امرأة أخيه، لا أخوه، كأنها ظنّت أن أحكام الرضاع تثبت بين الرضيع والمرضع فقط.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3317 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ، يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ، وَهُوَ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ» ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.

والحديث متفق عليه، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3318 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ عَمِّي، أَفْلَحُ، بَعْدَ مَا نَزَلَ الْحِجَابُ، فَلَمْ آذَنْ لَهُ، فَأَتَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْتُهُ؟ ، فَقَالَ: «ائْذَنِي لَهُ، ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ، وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ، قَالَ: «ائْذَنِي لَهُ تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"سفيان": هو ابن عيينة.

[تنبيه]: قوله: "وهشام بن عروة" بالجرّ عطفًا على "الزهريّ"، فسفيان يروي هذا الحديث من كلّ من الزهريّ، وعروة، وكلاهما يرويانه عن عروة. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 325

وقوله: "تربت يمينك"، إنما قاله إظهارًا لكراهية ذكر هذا الكلام، فإنه معلوم أن المرأة هي التي تُرضع، لا الرجل.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3319 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَسْوَدِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَ أَفْلَحُ، أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ، يَسْتَأْذِنُ، فَقُلْتُ: لَا آذَنُ لَهُ، حَتَّى أَسْتَأْذِنَ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ لَهُ: جَاءَ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ، يَسْتَأْذِنُ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَقَالَ: «ائْذَنِي لَهُ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ» ، قُلْتُ: إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ، وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ، قَالَ: «ائْذَنِي لَهُ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: (الربيع بن سليمان بن داود الجيزيّ، أبو محمد المصريّ الأعرج، ثقة [11] 122/ 173. و"أبو الأسود": هو النضر بن عبد الجبّار المراديّ مولاهم المصريّ، ثقة، من كبار [10] 66/ 1801. و"إسحاق بن بكر": هو أبو يعقوب المصريّ، صدوق فقيه [10] 122/ 173. و"بكر بن مضر": هو والد إسحاق بن بكر الراوي عنه المصريّ الثقة الثبت [8] 122/ 173. و"جعفر بن ربيعة": هو أبو شرحبيل المصريّ الثقة [5] 122/ 173. و"عراك بن مالك": هو الغفاريّ الكناني المدنيّ الثقة الفاضل [3] 132/ 207.

ومن لطائف الإسناد أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، فانفرد به هو، وأبو داود، وشيخ شيخه، فانفرد به هو، وأبو داود، وابن ماجه، وهم مصريون إلى جعفر، والباقون مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم، عن بعض، وفيه رواية الابن، عن أبيه.

والحديث متفق عليه، وقد سبق البحث عنه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 326

‌53 - (بَابُ رَضَاعِ الْكَبِيرِ)

3320 -

(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ نَافِعٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، تَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، تَقُولُ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ، إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لأَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ، مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ عَلَيَّ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرْضِعِيهِ» ، قُلْتُ: إِنَّهُ لَذُو لِحْيَةٍ، فَقَالَ: "أَرْضِعِيهِ، يَذْهَبْ مَا فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ"، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عَرَفْتُهُ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ بَعْدُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يونس بن عبد الأعلى) بن ميسرة الصدفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقة، من صغار [10] 1/ 449.

2 -

(ابن وهب) عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقة حافظ عابد [9] 9/ 9.

3 -

(مخرمة بن بُكير) بن عبد اللَّه، أبو المسور المدنيّ، صدوق، وروايته عن أبيه وجادة من كتابه، قاله أحمد، وابن معين، وغيرهما، وقال ابن المدينيّ: سمع من أبيه قليلًا [7] 28/ 438.

4 -

(أبوه) بُكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد اللَّه، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقة [5] 135/ 211.

5 -

(حُميد بن نافع) الأنصاريّ، أبو أفلح المدنيّ، ثقة [3] 53/ 332.

6 -

(زينب بنت أبي سلمة) عبد اللَّه بن عبد الأسد المخزوميّة، ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ماتت سنة (73)، وتقدّمت ترجمتها في 123/ 182.

7 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم. لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، وشيخ شيخه، فمصريان، و "بكير" مدنيّ سكن مصر. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ: بُكير، عن حميد، وصحابيّة، عن صحابية: زينب، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنهما -. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 327

شرح الحديث

عن زينب بنت أبي سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها قالت:(سَمِعْتُ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) - رضي اللَّه تعالى عنها - (تَقُولُ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنتُ سُهَيْلِ) بن عمرو القرشيّة العامرية، أسلمت قديمًا، وهاجرت مع زوجها أبي حُذيفة إلى الحبشة، فولدت له هناك محمد بن أبي حذيفة. ذكره ابن إسحاق. وقال ابن سعد: أمها فاطمة بنت عبد العزّى ابن أبي قيس، من رهط زوجها سُهيل بن عمرو، أسلمت قديمًا بمكة، وبايعت، ثم تزوّجت شَماخ بن سعيد بن قائف بن الأوقص السلميّ، فولدت له عامرًا، ثم تزوّجت عبد اللَّه بن الأسود بن عمرو، من بني مالك بن حِسْل، فولدت له سليطًا، ثم تزوّجت عبد الرحمن بن عوف، فولدت له سالمًا، فهم إخوة ابن أبي حذيفة لأمه

(1)

(إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يًا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ) حُذف منه المفعول: أي الكراهية.

و"أبو حُذيفة": هو ابن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمسى بن عبد مناف، القرشيّ العَبْشميّ، خال معاوية، اسمه مِهْشَم، وقيل: هاشم، وقيل: قيس، كان من السابقين إلى الإسلام، وهاجر الهجرتين، وصلّى إلى القبلتين. قال ابن إسحاق: أسلم بعد ثلاثة وأربعين إنسانًا. وهو ممن شهد بدرًا، وكان طُوَالًا، حسن الوجه، استُشهد يوم اليمامة، وهو ابن ستّ وخمسين سنة

(2)

.

(مِن) تعليليّة، أي لأجل (دُخُولِ سَالِمٍ عَلَيَّ) وذلك أنه تبناه حين كان التبنّي جائزًا، فكان يُدعى ابنه، وكان يسكن معهم في بيت واحد، فحين نزلت الآية:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} ، وحرّم التبنّي كره أبو حذيفة دخول سالم مع اتحاد المسكن، وفي تعدّده مشقّةٌ عليهم، فجاءت سهلة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لحلّ هذه المشكلة.

وفي رواية مسلم: فقالت: إن سالمًا كان يُدعَى لأبي حُذيفة، وإن اللَّه عز وجل قد أنزل في كتابه:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} ، وكان يدخل عليّ، وأنا فُضُلٌ

(3)

، ونحن في منزل ضَيِّقٍ

" الحديث.

وسالم: هو ابن معقل -بفتح الميم، وسكون العين المهملة، وكسر القاف- يكنى أبا

(1)

راجع "الإصابة" 12/ 319 - 320.

(2)

راجع "الإصابة" 11/ 81.

(3)

قولها: "فُضلٌ": بضم الفاء، والضاد المعجمة، قال الخطّابيّ: أي وأنا مبتذلة في ثياب مهنتي، يقال: تفضّلت المرأة: إذا تبذّلت في ثياب مهنتها. اهـ طرح التثريب 7/ 134.

ص: 328

عبد اللَّه، كان من الفرس، وكان عبدًا لثُبيتة -بضمّ الثاء المثلّثلة، وفتح الباء الموحدة، وإسكان الياء المثنّاة، من تحتُ، بعدها نون- وقيل: بُثينة -بضمّ الباء الموحّدة، وفتح الثاء المثلثة، وإسكان الياء المثنّاة، من تحتُ، بعدها نون- وقيل: عمرة. وقيل: سلمى بنت يَعار -بفتح الياء المثناة، من تحتُ. وقيل: بالمثنّاة من فوقُ- الأنصاريّة، فأعتقته سائبةً، فانقطع إلى أبي حُذيفة، فتبنّاه، حتى جاء الشرع بإبطال ذلك، وكانا من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، واستُشهِدا باليمامة سنة اثنتى عشرة، فوُجد رأس أحدهما عند رجلي الآخر

(1)

.

وكان أبو حذيفة أنكحه ابنة أخته فاطمة بنت الوليد بن عتبة. وروى البخاريّ من حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤمّ المهاجرين الأولين في مسجد قُباء، فيهم أبو بكر، وعمر. وأخرجه الطبرانيّ، زاد: وكان أكثرهم قرآنًا. وأخرج الشيخان عن عبد اللَّه بن عمرو، رفعه:"خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبيّ بن كعب، ومُعاذ بن جبل". وأخرج ابن المبارك في "كتاب الجهاد" من طريق حنظلة بن أبي سفيان، عن عبد الرحمن بن سابط: أن عائشة احتبست على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ما حبسك؟ قالت: سمعت قارئًا يقرأ، فذكرت من حسن قراءته، فأخذ رداءه، وخرج، فإذا هو سالمٌ مولى أبي حذيفة، فقال:"الحمد للَّه الذي جعل في أمتي مثلك". وأخرجه أحمد، وابن ماجه من طريق الوليد بن مسلم: حدثني حنظلة، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عائشة، فذكره موصولًا، وله شاهد عند البزّار بإسناد رجاله ثقات. وروى ابن المبارك أيضًا أن لواء المهاجرين كان مع سالم، فقيل له في ذلك، فقال: بئس حامل القرآن أنا -يعني إن فررت، فقُطعت يمينه، فأخذه بيساره، فقطعت، فاعتنقه إلى أن صُرع، فقال لأصحابه: ما فعل أبو حذيفة؟ -يعني مولاه- قيل: قُتل، قال: فانتجعوني بجنبه

(2)

، فأرسل عمر ميراثه إلى معتقته ثُبيتة، فقالت: إنما أعتقته سائبةً، فجعله في بيت المال. وذكر ابن سعد أن عمر أعطى ميراثه لأمه، فقال: كُليه انتهى ملخّصًا من "الإصابة"

(3)

.

(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرْضِعِيهِ") وفي رواية لمسلم: "فقال: "أرضعيه، تحرمي عليه" (قُلْتُ: إِنَّهُ لَذُو لِحْيَةٍ) أرادت أنه رجل كبير، لا يصلح للإرضاع، حيث تجاوز مدّة الرضاع. وفي الرواية التالية: قالت: وكيف أرضعه، وهو رجل كبير؟، فقال: ألستُ

(1)

"طرح التثريب" 7/ 134.

(2)

أي اجعلوني بجواره في قبره.

(3)

راجع "الإصابة" 4/ 103 - 106.

ص: 329

أعلم أنه رجلٌ كبيرٌ؟ ". وفي رواية لمسلم: "قالت: وكيف أرضعه، وهو رجلٌ كبير، فتبسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال: قد علمت أنه رجلٌ كبيرٌ"، وفي رواية: "وكان قد شهد بدرًا" (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَرْضِعِيهِ) أي وإن كان ذا لحية (يَذْهَبْ) مجزوم بأداة شرط مقدّر، أي إن ترضعيه يذهبْ، أو بالطلب قبله؛ لنيابته عن أداة الشرط.

قال النوويّ: قال القاضي: لعلّها حلبته، ثم شربه من غير أن يمسّ ثديها، ولا التقت بشرتاهما، وهذا الذي قاله القاضي حسين. ويحتمل أنه عُفي عن مسّه للحاجة، كما خُصّ بالرضاعة مع الكبر. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني هو القويّ؛ إلا قوله: "كما خُصّ الخ"، فسيأتي أن الأرجح عدم خصوصيته.

وأما ما أخرجه ابن سعد، عن الواقديّ، عن محمد بن عبد اللَّه ابن أخي الزهريّ، عن أبيه، قال: كانت تحلُبُ في مسعط، أو إناء، قدر رَضْعَة، فيشربه في كلّ يوم حتى مضت خمسة أيام، فكان بعدُ يدخل عليها، وهي حاسرٌ، رخصة من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لسهلة انتهى

(2)

. ففي إسناده الواقديّ شديد الضعف، وهو أيضًا مرسل. واللَّه تعالى أعلم.

(مَا فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيفَةَ) أي من الكراهية (قَالَتْ) سهلة - رضي اللَّه تعالى عنها - (واللَّهِ مَا عَرَفْتُهُ) الضمير لما يظهر في وجهه، من الكراهية (فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ بَعْدُ) تعني أنها بعد ما أرضعت سالمًا بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم لم تر في وجه زوجها ما كانت تراه قبل أن ترضعه، من الكراهية، وذلك لأنه علم أنها صارت أمه رضاعًا، فلم يبق في قلبه رِيبة في دخوله عليها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-53/ 3320 و 3321 و 3322 و 3323 و 3324 - وفي "الكبرى" 51/ 5474 و 5476 و 5479 و 5480 و 5481. وأخرجه (م) في "الرضاع" 1453 (د) في

(1)

"شرح مسلم للنوويّ" 10/ 274.

(2)

راجع الإصابة 12/ 320.

ص: 330

"النكاح" 2061 (ق) في "النكاح"1943. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم رضاع الكبير، وظاهر تبويبه أنه يرى جوازه، وقد اختلف فيه العلماء كما سيأتي بيانه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): سهولة الشريعة، وسماحتها حيث سهّلت في محلّ الحاجة، فأجازت إرضاع المرأة من له صلة بها، إذا اضطرّت إلى ذلك. (ومنها): أن من أشكل عليه حكم من الأحكام الشرعية عليه أن يسأل العلماء، سواء كان ذكرًا، أم أنثى. (ومنها): أن التبنّي كان جائزًا، ثم نسخ. (ومنها)؛ أنه يجوز لمن لم يبلغ مبلغ الرجال من الصغار أن يدخلوا على النساء الأجنبيّات. (ومنها): جواز الإرشاد إلى الحيل المشروعة. (ومنها): ما قاله ابن الرفعة: يؤخذ منه جواز تعاطي ما يُحصّل الحِلَّ في المستقبل، وإن كان ليس حلالًا في الحال

(1)

. (ومنها): ما كان عليه أبو حذيفة من الغيرة، فيما لم يأذن به الشرع، وانقياده للحقّ بعد الرضاع، وهكذا ينبغي لكلّ مسلم أن يكون غيورًا على حُرَمه، فإذا كان هناك تسهيلٌ من الشارع انقاد له. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم رضاع الكبير:

ذهبت طائفة إلى أن إرضاع الكبير يثبت به التحريم، وممن قاله به عليّ بن أبي طالب، كما حكاه عنه ابن حزم، وأما ابن عبد البرّ، فأنكر الرواية عنه في ذلك، وقال: لا يصحّ. وعائشة، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، والليث بن سعد، وابن عُلية، وحكاه النوويّ عن داود الظاهريّ، وإليه ذهب ابن حزم، ويؤيّد ذلك الإطلاقات القرآنيّة، كقوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، وهو ظاهر مذهب المصنّف كما قررناه في المسألة السابقة.

وذهب الجمهور إلى أن حكم الرضاع إنما يثبت في الصغير، وأجابوا عن قصّة سالم بأجوبة:

(منها): أنه حكم منسوخٌ، وبه جزم المحبّ الطبريّ في "أحكامه"، وقرّره بعضهم بأن قصّة سالم كانت في أوائل الهجرة، والأحاديث الدالّة على اعتبار الحولين من رواية أحداث الصحابة، دلّ على تأخّرها. وهو مستندٌ ضعيفٌ؛ إذ لا يلزم من تأخّر إسلام الراوي، ولا صغره أن لا يكون ما رواه متقدّمًا. وأيضًا ففي سياق قصّة سالم ما يُشعر

(1)

راجع "الفتح" 10/ 187.

ص: 331

بسبق الحكم باعتبار الحولين؛ لقول امرأة أبي حذيفة في بعض طرقه، حيث قال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أرضعيه"، قالت: وكيف أرضعه، وهو رجلٌ كبيرٌ؟، فتبسّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال:"قد علمت أنه رجلٌ كبير"، وفي رواية: قالت: إنه ذو لحية، قال:"أرضعيه". وهذا يشعر بأنها كانت تعرف أن الصغر معتبرٌ في الرضاع المحرّم.

(ومنها): دعوى الخصوصيّة بسالم، وامرأةِ أبي حُذيفة، والأصل فيه قول أم سلمة، وأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما نرى هذا إلا رخصةً أرخصها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لسالم بسهلة، فلما نزل الاحتجاب، ومُنِعوا من التبنّي شقّ ذلك على سهلة، فوقع الترخيص لها في ذلك؛ لرفع ما حصل لها من المشقّة.

وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه يقتضي إلحاق من يساوي سهلة في المشقّة، والاحتجاج بها، فتنفَى الخصوصية

(1)

.

وفيه أيضًا أن دعوى الخصوصيّة تحتاج إلى دليل، وقد اعترف أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم بصحّة الحجة التي جاءت بها عائشة، ولا حجة في إبائهنّ لها، كما أنه لا حجة في أقوالهنّ، ولهذا سكتت أمّ سلمة لما قالت لها عائشة: أما لك في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ؟، ولو كانت هذه السنّة مختصّةً بسالم لَبَيَّنَها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كما بيّن اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذع من المعز، واختصاص خزيمة بأن شهادته كشهادة رجلين

(2)

.

وذهب بعضهم إلى أن الرضاع يُعتبر فيه الصغر إلا فيما دعت إليه الحاجة، كرضاع الكبير الذي لا يستغني عن دخوله على المرأة، ويشقّ احتجابها منه، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيميّة، ورجّحه الشوكانيّ، قال: وبه يحصل الجمع بين الأحاديث، وذلك بأن تجعل قصّة سالم المذكورة مخصّصة لعموم:"إنما الرضاع من المجاعة"، و"لا رضاع إلا في الحولين"، و"لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام"، و"لا رضاع إلا ما أنشر العظم، وأنبت اللحم". وهذه طريقة متوسطة بين طريقة من استدلّ بهذه الأحاديث على أنه لا حكم لرضاع الكبير مطلقًا، وبين من جعل رضاع الكبير كرضاع الصغير مطلقًا؛ لما لا يخلو عنه كلّ واحدة من هاتين الطريقتين من التعسّف. ويؤيّد هذا أن سؤال سهلة امرأة أبي حذيفة كان بعد نزول آية الحجاب، وهي مصرّحة بعدم جواز إبداء الزينة لغير من في الآية، فلا يُخصّ منها غير من استثناه اللَّه تعالى، إلا بدليل، كقضيّة سالم، وما كان مماثلًا لها في تلك العلّة التي هي الحاجة إلى رفع الحجاب، من

(1)

"فتح" 10/ 186.

(2)

"نيل الأوطار" 6/ 332 - 333.

ص: 332

غير أن يقيّد ذلك بحاجة مخصوصة من الحاجات المقتضية لرفع الحجاب، ولا بشخص من الأشخاص، ولا بمقدار من عمر الرضيع معلوم، وقد ثبت في حديث سهلة أنها قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن سالمًا ذو لحية، فقال: "أرضعيه". انتهى كلام الشوكانيّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن هذا القول الثالث المفصِّل كما ذهب إليه ابن تيمية، ورجحه الشوكانيّ -رحمهما اللَّه تعالى- هو الأرجح إذ به يحصل التوفيق بين الأدلة، وحاصله أن رضاع الكبير محرّمٌ، إذا كانت هناك حاجة مثل حاجة سهلة، وسالم، حيث إنه لا يستغني عن دخوله عليها، ويشق عليها الاحتجاب عنه، فإذا رضع منها خمس رضعات، كما أمر صلى الله عليه وسلم سهلة بأن ترضع سالمًا خمس رضعات ثبت التحريم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): اختلف القائلون بعدم تحريم رضاع الكبير في السنّ الذي يختص التحريم بالإرضاع فيه على أقوال:

(القول الأوّل): أنه حولان على طريق التحديد من غير زيادة، فمتى وقع الرضاع بعدهما، ولو بلحظة لم يترتّب عليه حكم. وهذا مذهب الشافعيّ، وأحمد، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وإسحاق بن راهويه، وأبي عُبيد، وأبي ثور، وحكاه ابن عبد البرّ عن الحسن بن حيّ. وحكاه ابن حزم عن ابن شبرمة، وسفيان الثوريّ، وداود، وأصحابهم. وحكاه ابن عبد البرّ عن داود أيضًا. وهذا يُخالف نقل النوويّ عن داود. قال ابن حزم: ورواه ابن وهب، عن مالك، ثم رجع عنه.

واحتجّ هؤلاء بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} الآية. وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة"

(2)

، متّفقٌ عليه. قال ابن عبد البرّ: وهو خلاف رواية أهل المدينة عن عائشة، ولكن العمل بالأمصار على هذا انتهى.

وبما رواه الترمذيّ، والنسائيّ، عن أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء

(3)

، من الثدي، وكان قبل الفطام". قال الترمذيّ: حسنٌ صحيح. وروى الدارقطنيّ من طريق الهيثم بن جميل، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين". قال الدارقطنيّ: لم يسنده، عن ابن عيينة

(1)

"نيل الأوطار" 6/ 333 - 334.

(2)

أي إن الرضاعة التي يحصل بها الحرمة ما كان في الصغر والرضيعُ طفل يقوته اللبن، ويسد جوعه بخلاف ما بعد ذلك من الحال التي لا يشبعه فيها إلا الخبز واللحم، وما في معناهما انتهى "طرح التثريب" 7/ 136.

(3)

قوله: "فتق الأمعاء" بالفاء، والتاء: أي وسعها لاغتذاء الصبيّ به وقت احتياجه إليه.

ص: 333

غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ انتهى. وهذا الحديث نصّ في هذه المسألة. قاله وليّ الدين

(1)

.

(القول الثاني): أنه يُعتبر حكمه، ولو كان بعد الحولين بمدّة قريبة، وهو مستمرّ الرضاع، أو بعد يومين من فصاله، وهذا هو المشهور من مذهب مالك، وفي القريبة عندهم أقوالٌ: قيل: أيام يسيرة. وقيل: شهر. وقيل: شهران. وقيل: ثلاثة. قال أبو العباس القرطبيّ: وكأن مالكًا -رحمه اللَّه تعالى- يشير إلى أنه لا يفطم الصبيّ دفعة واحدة في يوم واحد، بل في أيام، وعلى تدريج، فتلك الأيام التي يحاول فيها فطامه حكمها حكم الحولين؛ لقضاء العادة بمعاودته الرضاع فيها.

(القول الثالث): تقدير ذلك بسنتين ونصف، وهو قول أبي حنيفة، وجعل قوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} دالًا على تقدير كلّ من الحمل، والفصال بذلك كالأجل المضروب للمدتين. وقال صاحباه، والشافعيّ: هذه المدّة للمجموع، وقد دلّ قوله تعالى:{يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} على حصّة الفصال من ذلك، فصارت بقيّة المدّة، وهي ستة أشهر للحمل، وهي أقلّه، مع أن أبا حنيفة لا يقول: أكثر الحمل سنتان ونصف، وإنما يقول: إنه سنتان.

(القول الرابع): تقديره بثلاث سنين، وهذا قول زفر، كذا أطلق النقل عنه غير واحد، منهم صاحب "الهداية"، وقيّد ابن عبد البرّ عنه بأن يجتزىء باللبن، ولا يطعم. (القول الخامس): أنه إن فطم قبل الحولين فما رضع بعده لا يكون رضاعًا، ولو أرضع ثلاث سنين لم يفطم كان رضاعًا، حكاه ابن عبد البرّ عن الأوزاعيّ، وحكي أيضًا عن ابن القاسم أنه لو فطمته أمه قبل الحولين، واستغنى عن الرضاع، فأرضعته أجنبيّة قبل تمام الحولين لم يعد رضاعًا

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الأقوال كلّها للقائلين بعدم تحريم رضاع الكبير، وقد تقدّم لك في المسألة السابقة أن الأرجح أنه محرّم إذا كانت هناك حاجة مثل حاجة سالم مع سهلة، وكان خمس رضعات، كما أثبته الشارع لهما لشدّة حاجتهما، وأمر سهلة أن تُرضعه خمس رضعات، وأما إذا لم توجد حاجة شديدة فقول من حدّده بحولين أرجح؛ لوضوح أدّلته. فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3321 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْنَاهُ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ -وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ- عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ

(1)

"طرح التثريب" 7/ 136 - 137.

(2)

راجع "طرح التثريب" 7/ 137.

ص: 334

بِنْتُ سُهَيْلٍ، إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ، مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ عَلَيَّ، قَالَ:«فَأَرْضِعِيهِ» ، قَالَتْ: وَكَيْفَ أُرْضِعُهُ، وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟ فَقَالَ:«أَلَسْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟» ، ثُمَّ جَاءَتْ بَعْدُ، فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا، مَا رَأَيْتُ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ بَعْدُ شَيْئًا أَكْرَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن" الزهريّ البصريّ، صدوق، من صغار [10] 42/ 48.

و"سفيان": هو ابن عيينة. و"القاسم": هو ابن محمد بن أبي بكر الصدّيق. والإسناد كله رجال الصحيح.

وقولها: "من دخول سالم الخ" أي لأجل دخوله عليّ.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3322 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْوَزِيرِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ يَحْيَى، وَرَبِيعَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ، أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا، مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، حَتَّى تَذْهَبَ

(1)

غَيْرَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ، فَأَرْضَعَتْهُ، وَهُوَ رَجُلٌ، قَالَ رَبِيعَةُ: فَكَانَتْ رُخْصَةً لِسَالِمٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه "أحمد بن يحيى بن الوزير": هو أبو عبد اللَّه المصريّ، ثقة [11] 42/ 2690 فتفرد به هو وأبو داود.

[تنبيه]: وقع في النسخة المصريّة: "أبو الوزير"، وهو تصحيف، والصواب "ابن الوزير". فتنبّه.

و"سليمان": هو ابن بلال المدنيّ، ثقة [8] 30/ 558. و"يحيي": هو ابن سعيد الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5] 22/ 23. و"ربيعة": هو ابن أبي عبد الرحمن فَرُّوخ المدنيّ الفقيه، المعروف بـ"ربيعة الرأي"[5] 36/ 729.

[تنبيه]: قوله: "وربيعة" بالجرّ عطفًا على "يحيي"، يعني أن سليمان بن بلال أخبر ابنَ وهب، عن كلّ من يحيى بن سعيد، وربيعة الرأي، وكلاهما يرويان عن القاسم بن محمد بن أبي بكر. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "غيرة" بفتح الغين المعجمة، وسكون التحتانية، من غار الرجل على امرأته، وهي على زوجها يَغَار، من باب تَعِب غَيْرًا، وغَيْرَةً -بالفتح-، وغارًا، ولا يقال: غِيرًا، وغِيرةً بالكسر.

(1)

وفي نسخة: "يذهب" بالياء بدل التاء، وهو صحيح، إلا أن الأولى أولى.

ص: 335

وقول ربيعة: "فكانت رخصةً الخ" الضمير للحكم المذكور، والتأنيث باعتبار الخبر، وهو "رخصة"، والمراد به أن حلّ إرضاع الكبير، وثبوت الحرمة به رخصةٌ لسالم للضرورة، ولا يتناول غيره.

وهذا رأي ربيعة، كما هو رأي أكثر أهل العلم، وتقدّم البحث فيه مستوفىً قريبًا، وأن الأرجح أنه ليس رخصةً لسالم فقط، بل يعُمّه وغيره، ممن هو على مثل حاله في الضرورة، فتنبّه.

والحديث صحيحٌ، وقد سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3323 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ -وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ- عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالِمًا يَدْخُلُ عَلَيْنَا، وَقَدْ عَقَلَ مَا يَعْقِلُ الرِّجَالُ، وَعَلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ، قَالَ: «أَرْضِعِيهِ، تَحْرُمِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ» ، فَمَكَثْتُ حَوْلاً، لَا أُحَدِّثُ بِهِ، وَلَقِيتُ الْقَاسِمَ، فَقَالَ: حَدِّثْ بِهِ، وَلَا تَهَابُهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "حميد بن مسعدة": هو الباهليّ البصريّ، صدوق [10] 5/ 5. و"سفيان بن حبيب": هو البزّاز، أبو محمد البصريّ، ثقة [9] 67/ 82. و"ابن جريج": هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. و"ابن أبي مُليكة": هو عبد اللَّه بن عُبيد اللَّه بن أبي مليكة. ورجال الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير سفيان بن حبيب، فإنه من رجال الأربعة، وأخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد".

وقولها: "وقد عقل ما يعقل الرجال" أي من عورات النساء. وقولها: "وعلم ما يعلم الرجال" مؤكّدٌ لما قبله.

وقوله: "فمكثت حولًا الخ""مكث" من باب قتل: أي أقمت، وتَلَبَّثتُ.

[تنبيه]: قائل: "مكثت" هو ابن أبي مُليكة، وسياق مسلم في "صحيحه" أصرح في ذلك، ولفظه: قال: فمكثتُ سنة، أو قريبًا منها، لا أُحدّثُ به، وهِبْتُهُ، ثم لقيتُ القاسم، فقلت له: لقد حدّثتني حديثًا ما حدّثتُهُ بعدُ، قال: فما هو؟ فأخبرته، قال: فحدّثهُ عنّي أن عائشة أخبرتنيه" انتهى.

والظاهر أن سبب عدم تحديث ابن أبي مليكة به، ومكثه حولًا، أو قريبًا منه، خوفه أن لا يُقبل منه؛ لكون أكثر أهل العلم على خلافه، حيث إنهم لا يرون تحريم رضاع الكبير، ثم لما لقي القاسم حثه على التحديث به، وعدم الخوف منه؛ لثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا ثبت الحديث عنه، وجب نشره، والعمل به، دون أن يُلتَفَتَ إلى عدم عمل

ص: 336

الأكثرين به؛ لأن السنة إذا ثبتت فإنها حاكمة، وليست محكومًا عليها.

وقوله: "ولا تهابه""لا" نافية، والفعل. مرفوع، والمراد من النفي النهي، أي لا تخف من تحديثه؛ لثبوته.

والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

3324 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، كَانَ مَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ وَأَهْلِهِ، فِي بَيْتِهِمْ، فَأَتَتْ بِنْتُ سُهَيْلٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ:: إِنَّ سَالِمًا قَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ، وَعَقَلَ مَا عَقَلُوهُ، وَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْنَا، وَإِنِّي أَظُنُّ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَقَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ» ، فَأَرْضَعْتُهُ، فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُهُ، فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"عبد الوهاب": هو ابن عبد المجيد الثقفيّ البصريّ. و"أيوب": هو ابن كيسان السختيانيّ البصريّ. ورجال الإسناد كلهم رجال الصحيح.

وقوله: "تحرمي عليه" أي تصيري حرامًا عليه بذلك الرضاع، ويذهب بسببه غَيْرة أبي حذيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -.

والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3325 -

(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، وَمَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ، بِتِلْكَ الرَّضْعَةِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، يُرِيدُ رَضَاعَةَ الْكَبِيرِ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللَّهِ مَا نُرَى الَّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ، إِلاَّ رُخْصَةً فِي رَضَاعَةِ سَالِمٍ وَحْدَهُ، مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضْعَةِ، وَلَا يَرَانَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

9 -

(يونس بن عبد الأعلى) الصدفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقة، من صغار [10] 1/ 449.

2 -

(ابن وهب) عبد اللَّه المصريّ، ثقة حافظ عابد [9] 9/ 9.

3 -

(يونس) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد، ثقة [7] 9/ 9.

4 -

(مالك) بن أنس الإمام المدنيّ الحجة الثبت [7] 7/ 7.

ص: 337

5 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ المدنيّ الحجة الثبت الإمام [4] 1/ 1.

6 -

(عروة) بن الزبير بن العوّام المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.

7 -

(أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم) - رضي اللَّه تعالى عنهنّ -. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من مالك، والباقون مصريون، ويونس وإن كان أيليّا إلا أنه سكن مصر، ومات بصعيد مصر. (ومنها): أن فيه رواية تابعى عن تابعي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُرْوَةَ) بن الزبير (قَالَ: أَبَى) قال الفيّوميّ: أبَى الرجل يَأْبَى إِبَاءً -بالكسر، والمدّ- وإباءةً: امتنع، فهو آبٍ، وأَبِيّ على فاعل وفَعِيلِ، وتأبيّ مثلُهُ، وبناؤه شاذّ؛ لأن فَعَلَ يَفعَلُ -بفتحتين يكون حَلقيّ العين، أو اللام، ولم يأت من حَلقيّ الفاء إلا أبَى يأبَى، وعَضَّ يَعَضّ في لغة، وأَثَّ الشعرُ يَأَثَّ: إذا كثُر، والْتَفَّ، وربّما جاء في غير ذلك، قالوا: وَدَّ يَوَدُّ في لغة، وأما لغة طيّىء في باب نَسِيَ يَنْسَى: إذا قَلَبُوا، وقالوا: نَسَى ينسَى، فهو تخفيف انتهى

(1)

.

وذكر بعضهم أن ابنَ سِيدَهْ حَكَى عن قوم أَبِيَ يَأبَى -أي من باب عَلِمَ- كنَسِيَ يَنْسَى. وحكى ابن جنيّ، وصاحب "القاموس": أَبَى يَأْبِي، كضرب يَضرب، فعلى هذا يجوز أن يكون أَبَى يَأْبَى -بالفتح فيهما- من باب تداخل اللغتين، أي أن المتكلّم بالفتح فيهما أخذ الماضي من لغة، والمضارع من لغة انتهى

(2)

.

والمعنى هنا: امتنع (سَائِرُ أَزوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي باقي أزواجه صلى الله عليه وسلم رضي اللَّه تعالى عنهنّ -، غير عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فإنها كانت تعَمِّمُ الحكم كلّ من رضع كبيرًا، ولا تخصّه بسالم (أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنّ، بِتِلْكَ الرَّضْعَةِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ) زاد في رواية أبي داود: "حتى يَرْضَعَ في المهد"(يُرِيدُ رَضَاعَةَ الكَبِيرِ) أي يريد عروة بتلك الرضعة الإشارة إلى رضاعة الكبير (وَقُلنَ لِعَائِشَةَ: وَاللَّهِ مَا نُرَى) بضم النون: أي نَظُنُّ، أو بفتحها: أي نعتقد (الَّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، سَهلَةَ بِنتَ سُهَيلِ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أي بإرضاع سالم، مع كبره (إِلَّا رُخْصَةً) أي تيسيرًا عليها (فِي رَضَاعَةِ سَالِمٍ وَحْدَهُ، مِنْ رَسُولِ اللهِ

(1)

راجع "لمصباح المنير" في مادّة أبى ص 3.

(2)

راجع هامش "المصباح المنير" ص 3.

ص: 338

- صلى الله عليه وسلم) متعلّقٌ بـ"رخصة"(وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضعَةِ، وَلَا يَرَانَا) قال الزرقانيّ: أي لأنها قضيّة عين، لم تأت في غيره، واحتفّت بها قرينة التبنّي، وصفات لا توجد في غيره، فلا يُقاس عليه. قال المازريّ: ولها أن تُجيب بأنه ورد متأخّرًا، فهو ناسخٌ لما عداه، مع ما لأمهات المؤمنين من شدّة الحكم في الحجاب، والتغليظ فيه. قال الزرقاني: كذا قال، وفيه نظرٌ لا يخفى

(1)

.

وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرحه": ولو كان الأمر إلينا لقلنا بثبوت ذلك الحكم في الكبير، عند الضرورة، كما في الْمَوْرِدِ، وأما القول بالثبوت مطلقًا كما تقول عائشة فبعيدٌ، ودعوى الخصوصيّة لا بدّ من إثباتها انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ جدًّا، وقد تقدّم تحقيقه.

والحاصل أن الأرجح أنه لا يخُصّ سالمًا، بل هو رخصة لكلّ من كان على مثل حال سالم من الضرورة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عروة عن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا موقوفٌ صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-53/ 3325 و 3326 - وفي "الكبرى" 51/ 5477 و 5478. وأخرجه (د) في "النكاح" 2061 (الموطأ) في "الرضاع" 1288. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3326 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ، أَنَّ أُمَّهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّهَا أُمَّ سَلَمَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَانَتْ تَقُولُ: أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُدْخَلَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللَّهِ مَا نُرَى هَذِهِ إِلاَّ رُخْصَةً، رَخَّصَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً لِسَالِمٍ، فَلَا يَدْخُلْ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ، وَلَا يَرَانَا).

(1)

"شرح الزرقاني على الموطّإ" 3/ 245 - 246.

(2)

"شرح السنديّ" 6/ 107.

ص: 339

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلّهم تقدّموا، غير:

1 -

(أبي عبيدة بن عبد اللَّه بن زَمعة) بن الأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزّى بن قُصَي القرشيّ الأسديّ، مقبول [3].

روى عن أبيه، وأمه زينب بنت أبي سلمة، وجدّته أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأم قيس بنت مِحصَن، وحمزة بن عبد اللَّه بن عمر. وعنه ابنه رُكَيح، وموسى بن يعقوب بن عبد اللَّه بن وهب بن زمعة، والأعرج، وعبد اللَّه بن زياد، والزهريّ، ومحمد بن إسحاق. وقال أبو زرعة: لا أعرف أحدًا سمّاه.

له عند مسلم، والمصنّف حديث الباب فقط، وأخرج له أبو داود حديثًا واحدًا في "الحجّ"، وابن ماجه ثلاثة أحاديث.

وقوله: "أن يُدخل الخ" بالبناء للمفعول.

والحديث موقوف صحيح، سبق الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌54 - (الْغِيْلَةُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الغِيلَة" -بكسر الغين المعجمة- ويقال لها: الْغَيلُ -بفتح، فسكون- والْغِيال: أن يجامع الرجل امرأته، وهي موضع، وسيأتي تمام البحث فيها قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

3327 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ جُدَامَةَ بِنْتَ وَهْبٍ حَدَّثَتْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ، حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ يَصْنَعُهُ -وَقَالَ إِسْحَاقُ-: «يَصْنَعُونَهُ، فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ»).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عبيد اللَّه) بن سعيد، أبو قُدامة السرخسيّ، ثقة ثبت [10] 15/ 15.

2 -

(إسحاق بن منصور) الكوسج، أبو يعقوب المروزيّ، ثقة ثبت [11] 72/ 88.

ص: 340

3 -

(عبد الرحمن) بن مهديّ بن حسان البصريّ، ثقة ثبت حجة [9] 42/ 49.

4 -

(أبو الأسود) محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسديّ المدنيّ، يتيم عروة، ثقة [6] 171/ 276.

5 -

(جُدامة بنت وهب) بن محصن، ويقال: بنت جَندَل، ويقال: بنت جُندَب الأسدية، أخت عُكاشة بن مِحصَن لأمه. روت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في النهي عن الغِيلَة. وروت عنها عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامها قديمًا، وهاجرت مع قومها إلى

المدينة. وقال الواقديّ: كانت تحت أنس بن قتادة، ممن شهِدَ بدرًا، وقُتِل يوم أحد. وقال الدارقطنيّ: هي بالجيم، والدال المهملة، ومن ذكرها بالذال المعجمة، فقد صحف. وكذا قال العسكريّ، وحُكي بالذال المعجمة عن جماعة. وقال الطبريّ: جُدامة بنت جَندل، والمحدّثون قالوا: ابنة وهب، والمختار أنها ابنة جَنْدل الأسديّة، أسلمت قديما بمكّة، وبايعت، وهاجرت مع قومها إلى المدينة

(1)

.

وقال الإمام مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بعد أن أورد الحديث عن شيخيه: خلف بن هشام، ويحيى بن يحيى: ما نصّه: وأما خلف فقال: عن جُذامة الأسديّة، والصحيح ما قاله يحيى بالدال -يعني بالمهملة- انتهى.

قال النوويّ: وهكذا قال جمهور العلماء: إن الصحيح أنها بالمهملة، والجيم مضمومة بلا خلاف.

وقوله: " جدامة بنت وهب"، وفي الرواية الأخرى: جدامة بنت وهب أخت عكاشة. قال القاضي عياض: قال بعضهم: إنها أخت عكاشة على قول من قال: إنها جدامة بنت وهب بن محصن. وقال آخرون: هي أخت رجل آخر، يقال له: عكاشة بن وهب، ليس بعكاشة بن مِحصن المشهور. ثم ذكر كلام الطبريّ السابق. قال: والمختار أنها جدامة بنت وهب الأسديّة أخت عكاشة بن محصن المشهور الأسديّ، وتكون أخته من أمه انتهى كلام النوويّ

(2)

. روى لها الجماعة، سوى البخاريّ، لها عندهم حديث الباب فقط. والباقون تقدّموا قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخيه، فالأول سرخسيّ، والثاني

(1)

"تهذيب التهذيب" 4/ 667.

(2)

"شرح مسلم" 10/ 257.

ص: 341

مروزيّ، وعبد الرحمن، فإنه بصريّ. (ومنها): أن فيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة من المكثرين السبعة. (ومنها): أن فيه رواية صحابية عن صحابية: عائشة عن جُدَامَةَ رضي الله عنهما، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّ جُدَامَةَ) بضم الجيم، والدال المهملة

(1)

(بنتَ وَهب) بن مِحصن، - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (حَدّثَتْهَا) أي أخبرت عائشة. قال الحافظ ائن عبد البرّ: كلّ الرواة رووه هكذا، إلا أبا عامر العَقَديَّ، فجعله عن عائشة، لم يذكر جُدامة، وكذا رواه القعنبيّ في غير "الموطّإ"، ورواه فيه كسائر الرواة عن عائشة، عن جُدامة، وفي رواية عائشة عن جُدامة دليلٌ على حرصها على العلم، وبحثها عنه، وأن القوم لم يكونوا يُرسلون من الأحاديث في الأغلب إلا ما يستوفيه المحدّث لهم بها، أو لوجوه غير ذلك انتهى

(2)

.

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ) أي قصدت (أَنْ أَنْهَى عَنِ الغِيلَةِ) قال النوويّ: قال أهل اللغة: الغيلة هنا بكسر الغين، ويقال لها: الغيل -بفتح الغين مع حذف الهاء، والغِيال -بكسر الغين. وقال جماعة من أهل اللغة: الغَيلة -بالفتح المرّة الواحدة، وأما بالكسر فهي الاسم من الغيل. وقيل: إن أريد بها وطء المرضع جاز الغيلة، والغيلة بالكسر والفتح.

واختلف العلماء في المراد بالغيلة في هذا الحديث، وهي الغيل، فقال مالك في "الموطّإ"، والأصمعيّ، وغيره من أهل اللغة: أن يُجامع امرأته، وهي موضع، يقال منه، أغال الرجل، وأَغْيَلَ إذا فَعَلَ ذلك. وقال ابن السّكّيت: هو أن تُرضع المرأة، وهي حامل، يقال منه: غالت، وأغيلت.

قال العلماء: سبب همّه صلى الله عليه وسلم بالنهي عنها أنه يخاف منه ضرر الولد الرضيع، قالوا: والأطبّاء يقولون: إن ذلك اللبن داء، والعرب تكرهه، وتتّقيه. انتهى كلام النوويّ

(3)

.

وفسّره مالك في "الموطّإ"، فقال: الغِيلةُ أن يمسّ الرجل امرأته، وهي تُرضع. قال الحافظ أبو عمر: اختلف العلماء، وأهل اللغة في معنى "الغِيلة"، فقال منهم قائلون كما قال مالك: معناها أن يطأ الرجل امرأته، وهي ترضع. وقال الأخفش: الغِيلة، والغِيل سواء، وهو أن تلد المرأة، فيغشاها زوجها، وهي تُرضع، فتحمل، فإذا حملت فسد

(1)

قال أبو حاتم: "الجدامة": ما لم يَندَقَّ من السُّنْبُل وقال غيره: هو ما يبقى في الغربال من نَصِيّة. راجع "المفهم" مع الهامش.

(2)

راجع "الاستذكار" 18/ 281 - 282.

(3)

"شرح مسلم" 10/ 258.

ص: 342

اللبن عليّ الصبيّ، ويفسد به جسده، وتضعف قوته، حتى ربّما كان ذلك في عقله، قال: وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه: "إنه ليدرك الفارس، فيُدعثره عن سرجه"

(1)

. أي يضعُف، فيسقط عن السرج، قال الشاعر [من الوافر]:

فَوَارِسُ لَمْ يُغَالُوا فِي رَضَاعِ

فَتَنْبُوا فِي أَكُفِّهِمُ السُّيُوفُ

يقال: قد أغال الرجل ولده، وأُغيل الصبيّ، وصبيّ مُغالٌ، ومُغْيَلٌ: إذا وَطِىء أبوه أمّه في رضاعه، قال امرؤ القيس [من الطويل]:

فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعِ

فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُغْيَلِ

وقال بعض أهل اللغة: الغِيلة أن تُرضع المرأة ولدها، وهي حاملٌ. وقال غيره: الغيل نفس الرضاع. انتهى

(2)

.

وقال أبو العبَّاس القرطبيّ بعد أن ذكر المعنيين السابقين: والحاصل أن كلّ واحد منهما يقال عليه غيلة في اللغة، وذلك أن اللفظ كيفما دار إنما يرجع إلى الضرر والهلاك، ومنه تقول العرب: غالني أمر كذا: أي أضرّ بي، وغالته الغول: أي أهلكته، وكلّ واحدة من الحالتين المذكورتين مُضرّةٌ بالولد، ولذلك يصحّ أن تُحمل الغيلة في الحديث على كلّ واحد منهما.

فأما ضرر المعنى الأول، فقالوا: إن الماء -يعني المنيّ- يُغيل اللبن: أي يفسده، ويُسأل عن تعليله أهل الطب. وأما الثاني، فضرره بيّن محسوس، فإن لبن الحامل داء، وعلّة في جوف الصبيّ، يظهر أثره عليه.

ومراده صلى الله عليه وسلم بالحديث المعنى الأول، دون الثاني؛ لأنه هو الذي يحتاج إلى نظر في كونه يضرّ الولد، حتى احتاج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أن ينظر إلى أحوال غير العرب الذين يصنعون ذلك، فلما رأى أنه لا يضرّ أولادهم لم يَنْهَ عنه. وأما الثاني، فضرره معلومٌ للعرب، وغيرهم، بحيث لا يحتاج إلى نظر، ولا فكر.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كون المراد من الحديث المعنى الأول فقط، مع أن أهل اللغة أثبتوا المعنيين محلّ نظر. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

هو ما أخرجه أحمد في "مسنده"، وابن ماجه في "سننه"، ولفظه: حدثنا حماد بن خالد، قال: ثنا معاوية -يعني ابن صالح- عن المهاجر، مولى أسماء بنت يزيد الأنصارية، قال: سمعت أسماء بنت يزيد، تقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول:"لا تقتلوا أولادكم سرًّا، فوالذي نفسي بيده، إنه ليدرك الفارس، فيدعثره"، قالت: قلت: ما يعني؟ قال: الغيلة يأتي الرجل امرأته، وهي ترضع. وهو حديث حسن.

(2)

"التمهيد" 13/ 91 - 93. و"الاستذكار" 18/ 282 - 283.

ص: 343

قال: وإنما همّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الغِيلة لما أكثرت العرب من اتقاء ذلك، والتحدّث بضرره، حتى قالوا: إنه ليدرك الفارس، فيُدعثره عن فرسه. قال: ثم لما حصل عند النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لا يضرّ أولاد العجم سوّى بينهم، وبين العرب في هذا المعنى، فسوّغه، فيكون حجة لمن قال من الأصوليين: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم -كان يحكم بالرأي والاجتهاد. انتهى كلام القرطبيّ باختصار

(1)

.

(حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ فَارِسَ) لقب قبيلة، ليس باب ولا أمّ، وإنما هم أخلاط من تَغْلِب اصطلحوا على هذا الاسم (وَالرُّومَ) بضم الراء نسبة إلى روم بن عيصو بن إسحاق (يَصْنَعُهُ) أي يصنع المذكور من الغيلة (وَقَالَ إِسْحَاقُ) أي ابن منصور، أحد شيخيه (يَصْنَعُونَهُ) أي بلفظ الفعل المسند إلى واو الجماعة. وفي رواية مسلم:"يُغِيلون" بضمّ الياء "فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ) وفي رواية لمسلم: "فنظرت في الروم، وفارس، فإذا هم يُغيلون أولادهم، فلا يضُرّ أولادهم ذلك شيئًا".

قال الحافظ أبو عمر: هذا يردّ كلّ ما قاله الأخفش، وحكاه عن العرب، وذلك من أكاذيب العرب، وظنونهم، ولو كان ذلك حقًّا لنهى عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على جهة الإرشاد والأدب، فإنه كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على نفع المؤمنين رؤوفًا بهم، وما ترك شيئًا ينفعهم إلا دلّهم عليه، وأمره به صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جُدامة بنت وهب - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-54/ 3327 - وفي "الكبرى" 54/ 5485. وأخرجه (م) في "النكاح" 1442 (د) في "الطبّ" 3882 (ت) في "الطب" 2076 (ق) في "النكاح" 2011 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 26494 و"مسند القبائل" 26901 (الموطأ) في "الرضاع" 1292 (الدارمي) في "النكاح" 2217. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم الغِيلة، وهو الجواز،

(1)

"المفهم" 4/ 174 - 175.

(2)

"الاستذكار" 18/ 282 - 283.

ص: 344

حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه، وبيّن سبب ترك النهي. (ومنها): جواز الاجتهاد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبه يقول جمهور الأصوليين. وقيل: لا يجوز؛ لتمكنّه من الوحي. قال النوويّ: والصواب الأول

(1)

. (ومنها): أن فيه إباحة التحدّث عن الأمم الماضية بما يفعلون. (ومنها): ما قاله الحافظ ابن عبد البرّ: فيه دليلٌ على أن من نهيه صلى الله عليه وسلم ما يكون أدبًا، ورفقًا، وإحسانًا إلى أمته ليس من باب الديانة، ولو نهى عن الغِيلة كان ذلك وجه نهيه عنها انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قال الحافظ أبو عمر: قال ابن القاسم، وابن الماجشون، وحكاه ابن القاسم، عن مالك، ولم يسمعه منه: في الرجل يتزوّج المرأة، وهي تُرضع، فيُصيبها، وهي تُرضع: إن ذلك اللبن له، وللزوج قبله؛ لأن الماء يُغيّر اللبن، ويكون منه الغذاء. واحتجّ بهذا الحديث: "لقد هممتُ أن أنهى عن الغيلة

" الحديث. قال ابن القاسم: وبلغني عن مالك: إذا ولدت المرأة من الرجل، فاللبن منه بعد انفصاله وقبله، ولو طلّقها، فتزوّجت، وحملت من الثاني، فاللبن منهما جميعًا أبدًا حتى يتبيّن انقطاعه من الأول. ومن الحجة لمالك أيضًا أن اللبن يغيّره وطء الزوج الثاني، ولوطئه فيه تأثير قوله صلى الله عليه وسلم: إذ نظر إلى المرأة الحامل من السبي، فسأل: "هل يطأ هذه صاحبها؟ " قيل له: نعم، فقال: لقد هممتُ أن ألعنه لعنةً تدخل معه في قبره، أيورّثه، وليس منه، أو يستعبده، وهو قد عداه في سمعه وبصره". قال: وهو حديثٌ في إسناده لين

(3)

.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والشافعيّ: اللبن من الأول في هذه المسألة حتى تضع، فيكون من الآخر، وهو قول ابن شهاب. وقد روي عن الشافعيّ أنه منهما حتى تضع، فيكون من الثاني. انتهى

(4)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه مالك رحمه الله أقرب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

راجع "شرح مسلم" للنوويّ 10/ 258.

(2)

"التمهيد" 13/ 93.

(3)

بل هو حديث صحيح، أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم 1441، وأبو داود في "سننه" 2156، وأحمد في "مسنده" 21196 و 26973، والدارميّ في "مسنده"2478.

(4)

"التمهيد" 13/ 93 - 94 و"الاستذكار" 18/ 283 - 284.

ص: 345

‌55 - (بَابُ الْعَزْلِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "العزل" -بفتح العين المهملة، وسكون الزاي-: مصدر عزل، من باب ضرب، يقال عزَلتُ الشيء عن غيره عَزْلًا: إذا نحّيته عنه، ومنه عزَلتُ النائب، كالوكيل: إذا أخرجته عما كان له من الحكم. وعزَلَ المجامعُ: إذا قارب الإنزال، فنزع، وأمنى خارج الفرج.

[فائدة]: المجامع إذا أمنى في الفرج الذي ابتدأ الجماع فيه، قيل: أَمَاهَ: أي ألقَى ماءه، وإن لم يُنزل، فإن كان لإعياء وفُتُور، قيل: أَكْسَلَ، وأقحَطَ، وفَهَّرَ تفهيرًا، وإن نزع، وأمنى خارج الفرج، قيل: عزل، لهان أولج في فرجٍ آخر، وأمنى فيه، قيل: فَهَرَ فَهرًا، من باب نفع، ونُهي عن ذلك، وإن أمنى قبل أن يُجامع، فهو الزُّمَّلِقُ -بضمّ الزاي، وفتح الميم، مشدّدة، وكسر اللام- ذكره الفيّوميّ.

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3328 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَرَدَّ الْحَدِيثَ، حَتَّى رَدَّهُ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: ذُكِرَ ذَلِكَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «وَمَا ذَاكُمْ؟» ، قُلْنَا: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ، فَيُصِيبُهَا، وَيَكْرَهُ الْحَمْلَ، وَتَكُونُ لَهُ الأَمَةُ، فَيُصِيبُ مِنْهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ، قَالَ: «لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّمَا هُوَ الْقَدَرُ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحدريّ البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(حميد بن مسعدة) بن المبارك الساميّ الباهليّ البصريّ، صدوق [10] 5/ 5.

3 -

(يزيد بن زُريع) أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.

4 -

(ابن عون) عبد اللَّه، أبو عون البصريّ، ثقة ثبت فاضل [5

(2)

] 29/ 33.

5 -

(محمد بن سيرين) الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقة ثبت فقيه عابد [3] 46/ 57.

6 -

(عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرِ بْنِ مَسْعُودٍ) الأنصاريّ الأزرق، أبو بشر المدنيّ، مقبول [3] 50/ 1286.

(1)

راجع "المصباح المنير" في مادّة "عزل" ص 407 - 408.

(2)

جعله في "التقريب" من السادسة، والحقّ أنه من الخامسة، مثل أيوب السختياني؛ لأنه رأى أنسًا رضي الله عنه، فتأمّل. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 346

7 -

(أبو سعيد الخدريّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي - رضي اللَّه تعالى عنهما - 169/ 262. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه إسماعيل، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى ابن سيرين، والباقيان مدنيّان. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبد الرحمن بن بشر، وفيه أبو سعد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرِ بْنِ مَسْعُودٍ) الأنصاريّ الأزرق (وَرَدَّ الْحَدِيثَ) أي ردّ عبد الرحمن هذا الحديث (حًتَّى رَدَّهُ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (قَالَ: ذُكرَ ذَلِكَ) أي العزل، وفي رواية مسلم من طريق معاذ بن معاذ، عن ابن عون: "ذُكر العزل عند النبيّ صلى الله عليه وسلم

" (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) يعني أنهم سألوه عن حكم العزل. وقال القرطبيّ: والذي حرّكهم للسؤال عنه أنهم خافوا أنه يكون محرّمًا؛ لأنه قطعٌ للنسل، ولذلك أُطلق عليه: "الوأد الخفيّ"

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَمَا ذَاكُمْ؟) أي أيُّ شيء ذاك الأمر الذي تذكرونه؟ قُلْنَا: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ،) أي الزوجة (فَيُصِيبُهَا) أي يُجامعها. وفي رواية مسلم المذكورة:"فيُصيب منها"(وَيكْرَهُ الْحَمْلَ) بفتح حرف المضارعة، مبنيًّا للفاعل، وفاعله ضمير "الرجل"، و"الحمل" مفعوله (وَتكُونُ لَهُ الأَمَةُ، فَيُصِيبُ مِنهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ) لئلا يكون ولده رقيقًا، أولئلا يمتنع عليه بيعها؛ لكونها أمّ ولده. وقال في "الفتح": ففي هذه الرواية إشارة إلى أن سبب العزل شيئان: أحدهما كراهة مجيء الولد من الأمة، وهو إما أنفَةٌ من ذلك، وإما لئلا يتعذّر بيع الأمة إذا صارت أم ولد، وإما لغير ذلك. والثاني: كراهة أن تحمل الموطوءة، وهي ترضع، فيضرّ ذلك بالولد المرضع انتهى

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا عَلَيْكُم أَنَّ لَا تَفْعَلُوا) أي ليس عليكم ضرر في الترك، ففيه إشارةٌ أن ترك العزل أحسن من فعله. أو المعنى على النهي: أي لا تفعلوا العزل. وفي رواية البخاريّ: "أو إنكم لتفعلون؟ "فَإنَّمَا هُوَ الْقَدَرُ) أي إنما المؤثر في وجود الولد وعدمه

(1)

"المفهم" 4/ 166.

(2)

"فتح" 10/ 384.

ص: 347

القدرُ، لا العزل، فأيّ حاجة إليه.

قال الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-: اختُلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ما عليكم ألا تفعلوا الخ": فقيل: ما عليكم في العزل، ولا في امتناعكم منه شيء، فاعزلوا، أو لا تعزلوا، فقد فُرغ من الخلق، وإعدادهم، وما قضي، وسَبَقَ في علم اللَّه، فلا بدّ أن يكون لا محالة. قال اللَّه عز وجل:{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} [النبأ: 29]، وقال عز وجل:{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر: 52، 53] وقيل: بل معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أن لا تفعلوا": أي لا تفعلوا العزل، كأنه نَهى عنه. انتهى كلام ابن عبد البرّ

(1)

.

وقال العلاّمة أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: اختُلف في قوله: "لا عليكم ألا تفعلوا"، ففهمتْ طائفةٌ منه النهي والزجر عن العزل، كما حكي عن الحسن، ومحمد ابن المثنى، وكان هؤلاء فهموا من "لا" النهي عما سُئل عنه، وحُذف بعد قوله:"لا"، فكأنه قال: لا تعزلوا، وعليكم ألاّ تفعلوا، تأكيدًا لذلك النهي.

وفهمت طائفةٌ أخرى منها الإباحة، وكأنها جعلت جواب السؤال قوله:"لا عليكم ألا تفعلوا": أي ليس عليكم جناحٌ في أن لا تفعلوا.

وهذا التأويل أولى بدليل قوله: "ما من نسمة كائنة إلا ستكون"، وبقوله:"لا عليكم ألا تفعلوا، فإنما هو القدر"، وبقوله:"إذا أراد اللَّه خلقَ الشيء لم يمنعه شيء"، وهذه الألفاظ كلّها مصرّحة بأن العزل لا يردّ القدر، ولا يضرّه، فكأنه قال: لا بأس به.

وبهذا تمسّك من رأى إباحة العزل مطلقًا عن الزوجة والسُّرِّيّة، وبه قال كثيرٌ من الصحابة، والتابعين، والفقهاء.

وقد كرهه آخرون من الصحابة، وغيرهم، متمسّكين بالطريقة المتقدّمة، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"ذلك الوأد الخفيّ"

(2)

.

ووقع في رواية مسلم لهذا الحديث من طريق أيوب، عن ابن سيرين: ما نصّه: "قال محمد

(3)

: وقوله: لا عليكم" أقرب إلى النهي. ومن طريق معاذ بن معاذ، عن ابن عون، عن ابن سيرين: ما نصّه: قال ابن عون: فحدّثتُ به الحسنَ، فقال: واللَّه لكأنّ هذا زجر.

قال في "الفتح": قال القرطبيّ: كان هؤلاء فهموا من "لا" النهي عما سألوه عنه،

(1)

"الاستذكار" 18/ 204 - 205.

(2)

رواه أحمد 6/ 361 رقم 434، ومسلم 1442، وابن ماجه 2011.

(3)

أي ابن سيرين.

ص: 348

فكأن عندهم بعد "لا" حذفًا، تقديره: لا تعزلوا، وعليكم أن لا تفعلوا، ويكون قوله:"وعليكم الخ" تأكيدًا للنهي.

وتُعُقّب بأن الأصل عدم هذا التقدير، وإنما معناه: ليس عليكم أن تتركوا، وهو يساوي أن لا تفعلوا. وقال غيره: قوله: وإلا عليكم أن لا تفعلوا" أي لا حرج عليكم أن لا تفعلوا، ففيه نفي الحرج عن عدم الفعل، فأفهم ثبوت الحرج في فعل العزل، ولو كان المراد نفي الحرج عن الفعل لقال: لا عليكم أن تفعلوا، إلا أن يُدّعَى أنّ "لا" زائدةٌ، فيقال: الأصل عدم ذلك.

ووقع في رواية مسلم من طريق مجاهد، عن قَزَعَةَ، عن أبي سعيد الخدريّ، قال؛ ذُكر العزل عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"ولِمَ يَفعَلُ ذلك أحدكم؟ "، ولم يقل: لا يفعل ذلك، فأشار إلى أنه لم يصرّح لهم بالنهي، وإنما أشار أن الأولى ترك ذلك؛ لأن العزل إنما كان خشية حصول الولد، فلا فائدة في ذلك؛ لأن اللَّه إن كان قدّر خلق الولد لم يمنع العزل ذلك، فقد يسبق الماء، ولا يشعر العازل، فيحصل العلوق، ويلحقه الولد، ولا رادّ لما قضى اللَّه، والفرار من حصول الولد يكون لأسباب:

(منها): خشية علوق الزوجة الأمةِ؛ لئلاّ يصير الولد رقيقا، أو خشية دخول الضرر على الولد المرضع إذا كانت الموطوءة تُرضعه، أو فرارًا من كثرة العيال، إذا كان الرجل مُقِلًّا، فيرغب عن

(1)

قلّة الولد، لئلا يتضرّر بتحصيل الكسب، وكلُّ ذلك لا يُغني شيئًا. وقد أخرج أحمد، والبزّار، وصحّحه ابن حبّان من حديث أنس رضي الله عنه: أن رجلًا سأل عن العزل؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج اللَّه منها ولدًا". وله شاهدان في "الكبير" للطبراني عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وفي "الأوسط" له عن ابن مسعود رضي الله عنه.

قال الحافظ: وليس في جميع الصور التي يقع العزل بسببها ما يكون العزل فيه راجحًا، سوى الصورة المتقدّمة من عند مسلم في طريق عبد الرحمن بن بشر، عن أبي سعيد -يعني حديث الباب- وهي خشية أن يضرّ الحمل بالولد المرضع؛ لأنه مما جُرّب، فضرّ غالبًا، لكن وقع في بقية الحديث عند مسلم أن العزل بسبب ذلك لا يفيد؛ لاحتمال أن يقع الحمل بغير الاختيار. ووقع عند مسلم في حديث أُسامة بن زيد: جاء رجلٌ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعزل عن امرأتي شفقةً على ولدها، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إلا، إن كان كذلك، فلا، ما ضار ذلك فارس ولا الروم".

(1)

هكذا في "الفتح"، والظاهر أنه بـ"في" بدل "عن". واللَّه أعلم.

ص: 349

وفي العزل أيضًا إدخال ضرر على المرأة لما فيه من تفويت لذّتها انتهى

(1)

. وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي سعيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-55/ 3328 - وفي "الكبرى" 54/ 5486. وأخرجه (خ) في "البيوع" 2229 و"العتق" 2542 و "المغازي" 4138 و"النكاح" 5210 و"القدر" 6603 و"التوحيد" 7409 (م) في "النكاح" 1438 (د) في "النكاح" 2170 و 2172 (ق) في "النكاح" 1926 (أحمد) في "مسند المكثرين" 10694 و 10788 و 10820 و 11066 و 11110 و 11151 و 11172 و 11208 و 112251 و 11335 و 11468 (الموطأ) في "الطلاق" 1262 (الدارمي) في "النكاح" 2223 و 2224. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم العزل، وهو مختلف فيه، سيأتي بيانه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): جواز كراهة الإنسان حمل زوجته؛ لسبب من الأسباب.

(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم "أو إنكم لتفعلون" يُشعر بأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يطّلع على فعلهم ذلك، ففيه تعقّبٌ على من قال: إن قول الصحابيّ: كنّا نفعل كذا في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرفوعٌ؛ معتلًّا بأن الظاهر اطلاع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ففي هذا الخبر أنهم فعلوا العزل، ولم يعلم به حتى سألوه عنه.

ويُجاب عن هذا بأن دواعيهم كانت متوفّرة على سؤاله صلى الله عليه وسلم عن أمور الدين، فإذا فعلوا الشيء، وعلموا أنه لم يطّلع عليه بادروا إلى سؤاله عن الحكم فيه، فيكون الظهور من هذه الحيثيّة. أفاده في "الفتح".

وأيضًا على تقدير أنه صلى الله عليه وسلم لا يطّلع عليه أن الوحي لا يسكت عنه، كما أفصح بذلك جابر رضي الله عنه حيث قال:"كنّا نَعزل، والقرآن يَنزل" رواه مسلم، فقد استدلّ الصحابيّ رضي الله عنه على جواز العزل بعدم نزول القرآن بتحريمه، وهو استدلالٌ واضح.

(1)

"فتح" 10/ 384 - 385.

ص: 350

وأخرج الدارقطنيّ، وغيره عن أبي ثعلبة الْخُشَنيّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"إن اللَّه تعالى فرض فرائض، فلا تضيّعوها، وحدّ حُدُودًا، فلا تعتدوها، وحرّم أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم، غير نسيان، فلا تبحثوا عنها"

(1)

.

(ومنها): ما قاله الحافظ ابن عبد البّر: في هذا الحديث إثبات قِدَم العلم، وأن الخلق يُجزَون في علم قد سبق، وجفّ به القلم في كتاب مسطور. على هذا أهل السنَّة، وهم أهل الحديث، والفقه.

وجمدة القول في الْقَدَر أنه علم اللَّه، وسرّه، لا يُدرك بجدل، ولا تُشْفِي منه خُصُومةٌ، ولا احتجاج، وحسبُ المؤمن بالقدر أنه لا يقوم بشيء، دون إرادة اللَّه عز وجل، وأن الخلق كلهم خلقُهُ، وملكه، ولا يكون في ملكه إلا ما شاء، وما نشاء إلا أن يشاء اللَّه، {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، وله الخلق، والأمرُ، له ما في السموات، وما في الأرض، وما بينهما، وما تحت الثرى، ولا يكون في شيء من ذلك إلا ما يشاء، يغفر لمن يشاء، ويُعذّب من يشاء، ومن عذّبه فبذنبه، ويعفو عمن يشاء من عباده، ومن لم يوفّقه، فليس بظالم له، لا يظلم مثقال ذرّة، وإن تك حسنةً يُضاعفها، وما ربّك بظلاّم للعبيد انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم العزل:

اختلف السلف في حكم العزل، قال ابن عبد البرّ: لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرّة إلا بإذنها؛ لأن الجماع من حقّها، ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل. ووافقه في نقل الإجماع ابن هُبيرة.

قال في "الفتح": وتُعُقّب بأن المعروف عند الشافعيّة أن المرأة لا حقّ لها في الجماع أصلًا

(3)

، ثم في خصوص هذه المسألة عند الشافعيّة خلافٌ مشهور في جواز العزل عن الحرّة بغير إذنها. قال الغزاليّ وغيره: يجوز، وهو المصحّح عند المتأخّرين.

واحتجّ الجمهور لذلك بحديث عن عمر، أخرجه أحمد، وابن ماجه بلفظ:"نُهي عن العزل عن الحرّة إلا لإذنها". وفي إسناده ابن لهيعة. والوجه الآخر للشافعيّة الجزم بالمنع إذا امتنعت، وفيما إذا رضيت وجهان، أصحّهما الجواز. وهذا كلّه في الحرّة، وأما الأمة، فإن كانت زوجة، فهي مُرَتّبة على الحرّة، إن جاز فيها ففي الأمة أولى، وإن

(1)

حسّنه النوويّ في "الأربعين"، وأعلّه ابن رجب بالانقطاع بين مكحول، وأبي ثعلبة رضي الله عنه.

(2)

"الاستذكار" 18/ 209 - 210.

(3)

قلت: قد تقدّم لنا البحث في هذا، وأن الحقّ وجوب الجماع للمرأة إذا احتاجت، فلا تغفل.

ص: 351

امتنع فوجهان، أصحّهما الجواز؛ تحرّزًا من إرقاق الولد، وإن كانت سُرّيّةً جاز بلا خلاف عندهم إلا في وجه حكاه الرويانيّ في المنع مطلقًا، كمذهب ابن حزم، وإن كانت السرّية مستولدةً، فالراجح الجواز فيه مطلقًا؛ لأنها راسخةٌ في الفراش. وقيل؛ حكمها حكم الأمة المزوّجة.

هذا: واتفقت المذاهب الثلاثة على أن الحرّة لا يعزل عنها إلا بإذنها، وأن الأمة يعزل عنها بَغير إذنها، واختلفوا في المزوّجة، فعند المالكيّة يحتاج إلى إذن سيّدها، وهو قول أبي حنيفة، والراجح عن محمد، وقال أبو يوسف، وأحمد: الإذن لها، وهي رواية عن أحمد، وعنه بإذنها، وعنه يباح العزل مطلقًا، وعنه المنع مطلقًا.

والذي احتجّ به من جنح إلى التفصيل لا يصحّ إلا عند عبد الرزاق عنه بسند صحيح، عن ابن عبّاس، قال:"تُستأمر الحرّة في العزل، ولا تُستأمر الأمة السرّيّة، فإن كانت أمة تحت حرّ، فعليه أن يستأمرها". وهذا نصّ في المسألة، فلو كان مرفوعًا لم يجُز العدول عنه.

وقد استنكر ابن العربيّ القول بمنع العزل عمن يقول بأن المرأة لا حقّ لها في الوطء، ونقل عن مالك أن لها حقّ المطالبة به إذا قصد بتركه إضرارها

(1)

. وعن الشافعيّ، وأبي حنيفة لا حقّ لها فيه إلا في وطأة واحدة يستقرّ بها المهر، قال: فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يكون لها حقّ في العزل، فإن خصّوه بالوطئة الأولى، فيمكن، وإلا فلا يسوغ فيما بعد ذلك إلا على مذهب مالك بالشرط المذكور انتهى.

وما نقله عن الشافعيّ غريبٌ، والمعروف عند أصحابه أنه لا حقّ لها أصلًا. نعم جزم ابن حزم بوجوب الوطء، وبتحريم العزل، واستند إلى حديث جدامة بنت وهبٍ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سُئل عن العزل، فقال: "ذلك الوأد الخفيّ". أخرجه مسلم.

وهذا معارض بحديثين: أحدهما أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، وصححه من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر، قال:"كانت لنا جواري، وكنّا نعزل، فقالت اليهود: إن تلك الموءودة الصغرى، فسُئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: كذبت اليهود، لو أراد اللَّه خلقه لم تستطع ردّه".

(1)

هذا هو الصواب الذي تدلّ عليه النصوص، فقد أوجب اللَّه تعالى لهنّ مثل ما عليهنّ، في قوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية، فكما أن عليها التمكين من جماعها، كذلك عليه أن يجامعها إذا طلبت منه، وليس هناك مانع، من مرض، أو نحوه، لظاهر الآية.

والحاصل أن مذهب مالك -رحمه اللَّه تعالى- هو الأرجح في المسألة. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 352

وأخرجه النسائيّ من طريق هشام، وعليّ بن المبارك، وغيرهما عن يحيى، عن محمد ابن عبد الرحمن، عن أبي مُطيع بن رفاعة، عن أبي سعيد نحوه. ومن طريق أبي عامر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه. ومن طريق سليمان الأحول أنه سمع عمرو بن دينار يسأل أبا سلمة بن عبد الرحمن عن العزل؟ فقال: زعم أبو سعيد، فذكر نحوه، قال: فسألت أبا سلمة، أسمعته من أبي سعيد؟ قال: لا، ولكن أخبرني رجلٌ عنه.

والحديث الثاني: في النسائيّ من وجه آخر عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وهذه طرُقٌ يتقوّى بعضها ببعضٍ.

وجُمعَ بينها وبين حديث جدامة يحمل حديث جدامة على التنزيه، وهذه طريقة البيهقيّ.

ومنهم من ضعّف حديث جدامة بأنه معارضٌ بما هو أكثر طرُقًا منه، وكيف يصرح بتكذيب اليهود في ذلك، ثم يُثبته؟. وهذا دفعٌ للأحاديث الصحيحة بالتوهّم، والحديث صحيحٌ لا ريب فيه، والجمع ممكنٌ.

ومنهم من ادّعى أنه منسوخٌ. ورُدّ بعدم معرفة التاريخ. وقال الطحاويّ: يحتمل أن يكون حديث جدامة على وفق ما كان عليه الأمر أوّلًا من موافقة أهل الكتاب، وكان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يُنْزَل عليه، ثم أعلمه اللَّه بالحكم، فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه.

وتعقّبه ابن رُشد، ثم ابن العربيّ بأنه لا يَجزِم بشيء تبعًا لليهود، ثم يُصرّح بتكذيبهم فيه.

ومنهم: من رجّح حديث جدامة بثبوته في الصحيح، وضعف مقابله بأنه حديث واحد، اختُلف في إسناده، فاضطَرَبَ.

وردّ بأن الاختلاف إنما يَقدح حيث لا يقوَى بعض الوجوه، فمتى قويَ بعضها عُمل به، وهو هنا كذلك، والجمع ممكن.

ورجّح ابن حزم العمل بحديث جدامة بأن أحاديث غيرها توافق أصل الإباحة، وحديثها يدلّ على المنع، قال: فمن ادّعى أنه أُبيح بعد أن مُنع، فعليه البيان.

وتُعُقّب بأن حديثها ليس صريحًا في المنع، إذ لا يلزم من تسميته وأدًا خفيًّا على طريقة التشبيه أن يكون حرامًا.

وخصّه بعضهم بالعزل عن الحامل؛ لزوال المعنى الذي كان يحذره الذي يَعزل من حصول الحمل. لكن فيه تضييعُ الحمل؛ لأن المنيّ يغذوه، فقد يؤدّي العزل إلى موته،

ص: 353

أو إلى ضعفه المفضي إلى موته، فيكون وَأْدًا خفيًّا.

وجمعوا أيض بيّن تكذيب اليهود في قولهم: الموؤودة الصغرى، وبين إثبات كونه وأدًا خفيًّا في حديث جدامة بأن قولهم: الموؤودة الصغرى يقتضي أنه وأدٌ ظاهر، لكنه صغير بالنسبة إلى دفن المولود بعد وضعه حيًّا، فلا يعارض قوله: إن العزل وأدٌ خفيّ، فإنه يدلّ على أنه ليس في حكم الظاهر، فلا يترتّب عليه حكم، وإنما جعله وأدًا من جهة اشتراكهما في قطع الولادة.

وقال بعضهم: قوله: "الوأد الخفيّ" وَرَدَ على طريقة التشبيه؛ لأنه قطع طريق الولادة قبل مجيئه، فأشبه قتل الولد بعد مجيئه.

قال ابن القيّم: الذي كُذِّبَت فيه اليهودُ زعمهم أن العزل لا يُتصوّر معه الحمل أصلًا، وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد، فأكذبهم، وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء اللَّه خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن وأدًا حقيقيةً، وإنما سمّاه وأدًا خفيًّا في حديث جدامة؛ لأن الرجل إنما يعزل هربًا من الحمل، فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، لكن الفرق بينهما أن الوأد ظاهر بالمباشرة، اجتمع فيه القصد والفعل، والعزل يتعلّق بالقصد صِرْفًا، فلذلك وصفه بكونه خفيًّا.

قال الحافظ: فهذه عدّة أجوبة يقف معها الاستدلال بحديث جدامة على المنع.

قال: وقد جنح إلى المنع من الشافعيّة ابن حبّان

(1)

، فقال في "صحيحه":[ذكرُ الخبر الدّالّ على أن هذا الفعل مزجورٌ عنه، لا يُباح استعماله]، ثم ساق حديث أبي ذرّ رفعه:"ضعه في حلاله، وجنّبه حرامه، وأقرره، فإن شاء اللَّه أحياه، وإن شاء أماته، ولك أجر" انتهى.

ولا دلالة فيما ساقه على ما ادّعاه من التحريم، بل هو أمر إرشاد لما دلّت عليه بقية الأخبار. واللَّه أعلم.

وعند عبد الرزّاق وجهٌ آخر عن ابن عباس أنه أنكر أن يكون العزل وأدًا، وقال: المني يكون نطفةً، ثم علقةً، ثم مضغةً، ثم عظمًا، ثم يُكسى لحمًا، قال: والعزل قبل ذلك كله".

وأخرج الطحاويّ من طريق عبد اللَّه بن عديّ بن الخيار عن عليّ نحوه في قصّة

(1)

قلت: جعلُ ابْنِ حبّان من مقلّدي الشافعيّ فيه نظر لا يخفى، فمن تتبع مذهبه في "صحيحه" يعلم أنه لا يقلّده، ولا يقلّد غيره، بل هو كسائر أهل الحديث مجتهد، يتبع الدليل، ولا ينظر إلى قول أحد، كما هو حال الشيخين، وأصحاب السنن، وقد قدّمنا تمام البحث في هذا الموضوع في مقدّمة هذا الشرح بما فيه الكفاية، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

ص: 354

حرب عند عمر، وسنده جيّد. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن مما ذُكر أن الأرجح قول من قال بجواز العزل للحاجة، وأن الأولى عدم فعله، وبهذا تجتمع الأدلة في هذا الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: اختلف القائلون بالنهي عن العزل في علّة النهي، فقيل: لتفويت حقّ المرأة. وقيل: لمعاندة القَدَر، وهذا الثاني هو الذي يقتضيه معظم الأخبار الواردة في ذلك، والأول مبنيّ على صحّة الخبر المفرّق بيّن الحرّة والأمة. وقال إمام الحرمين: موضع المنع أنه ينزع بقصد الإنزال خارج الفرج خشية العلوق، ومتى فُقِد ذلك لم يُمنع، وكأنه راعى سبب المنع، فإذا فُقد بقي أصل الإباحة، فله أن ينزع متى شاء حتى لو نزع، فأنزل خارج الفرج اتفاقًا، لم يتعلّق به النهي. قاله في "الفتح"

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في حكم معالجة إسقاط النطفة، واستعمال الأدوية لذلك، أو لمنع الحمل، وحكم تحديد النسل:

قال في "الفتح" بعد ذكر ما تقدّم في المسألة الماضية: ما نصّه: وُينتزع من حكم العزل حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح، فمن قال بالمنع هناك، ففي هذه أولى، ومن قال بالجواز يمكن أن يلتحق به هذا، ويمكن أن يُفرّق بأنه أشدّ؛ لأن العزل لم يقع فيه تعاطي السبب، ومعالجة السقط تقع بعد تعاطي السبب.

ويلتحق بهذه المسألة تعاطي المرأة ما يقطع الْحَبَل من أصله، وقد أفتى بعض متأخّري الشافعيّة بالمنع، وهو مشكلٌ على قولهم بإباحة العزل مطلقًا. انتهى

(3)

.

وقد صدرت قرارات من هيئة كبار العلماء في هذا الموضوع، أحببت إيرادها هنا تتميمًا للفائدة، وهذا نصّها:

وهذا قرار رقم 42 بتاريخ 13/ 4/ 1396هـ

الحمد للَّه، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وعلى آله وصحبه، وبعد:

ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام 1396 هـ بَحَثَ المجلسُ موضوع منع الحمل، وتحديد النسل، وتنظيمه، بناءً على ما تقرّر في الدورة السابعة للمجلس المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان

(1)

"فتح" 10/ 385 - 387.

(2)

"فتح" 10/ 387.

(3)

"فتح" 10/ 387 - 388.

ص: 355

1395هـ من إدراج موضوعها في جداول أعمال الدورة الثامنة. وقد اطّلع المجلس على البحث المعدّ في ذلك، من قِبَل اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء، وبعد تداول الرأي، والمناقشة بيّن الأعضاء، والاستماع إلى وجهات النظر، قرّر المجلس ما يلي:

نظرًا إلى أن الشريعة الإِسلامية تَرغب في انتشار النسل، وتكثيره، وتعتبر النسل نعمةً كبرى، ومنّةً عظيمةً، مَنَّ اللَّهُ بها على عباده، فقد تضافرت بذلك النصوص الشرعيّة، من كتاب اللَّه، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، مما أوردته اللجنة الدائمة للبحوث العلميّة، والإفتاء في بحثها المعدّ للهيئة، والمقدّم لها، ونظرًا إلى أن القول بتحديد النسل، أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانيّة التي فطر اللَّه الخلق عليها، وللشريعة الإِسلاميّة التي ارتضاها الربّ لعباده، ونظرًا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل، أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين بصفة عامة، وللأمة العربيّة المسلمة بصفة خاصّة، حتى تكون لديهم القدرة على استعمار البلاد، واستعمار أهلها، وحيث إن في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهليّة، وسوء ظن باللَّه تعالى، وإضعافًا للكيان الإِسلاميّ المتكوّن من كثرة اللبنات البشريّة، وترابطها؛ لذلك كلّه، فإن المجلس يقرّر بأنه لا يجوز تحديد النسل مطلقًا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد منه خشية الإملاق؛ لأن اللَّه تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ، وأما إذا كان منع الحمل لضرورة محقّقة، ككون المرأة لا تلد ولادة عاديّةٌ، وتضطرّ معها إلى إجراء عمليّة جراحية لإخراج الولد، أو كان تأخيره لفترة ما؛ لمصلحة يراها الزوجان، فإنه لا مانع حينئذ من منع الحمل، أو تأخيره، عملًا بما جاء في الأحاديث الصحيحة وما روي عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم من جواز العزل، وتمشيًا مع ما صرّح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء لإلقاء النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعيّن منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحقّقة، وقد توقف فضيلة الشيخ عبد اللَّه بن غديان في حكم الاستثناء. وصلى اللَّه على محمد.

"هيئة كبار العلماء".

وهذا نصّ قرار مجمع الفقه الإِسلامي رقم (1) د 5/ 09/ 88 بشأن تنظيم النسل:

إن مجلس مجمع الفقه الإِسلاميّ المنعقد في دورة المؤتمر الخامس بالكويت من (1) إلى (6) جمادى الأولى 1409 هـ 10/ - إلى 15 - كانون الأول (ديسمبر) 1988 م بعد اطلاعه على البحوث المقدّمة من الأعضاء، والخبراء في موضوع تنظيم النسل، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، وبناءً على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإِسلاميّة الإنجاب، والحفاظ على النوع الإنسانيّ، وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد؛

ص: 356

لأن إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة، وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل، والحفاظ عليه، والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليّات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها، قرّر ما يلي:

1 -

: لا يجوز إصدار قانون عامّ يحد من حرّية الزوجين في الإنجاب.

2 -

: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل، أو المرأة، وهو ما يُعرف بـ "الإعقام"، أو "التعقيم" ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعيّة.

3 -

: يجوز التحكّم المؤقّت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدّة معينة من الزمان، إذا دعت حاجة معتبرةٌ شرعًا بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما، وتراضٍ، بشرط أن لا يترتّب على ذلك ضررٌ، وأن تكون الوسيلة مشروعةٌ، وأن لا يكون فيها عدوانٌ على حمل قائم. واللَّه أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قرّره هيئة كبار العلماء، ومجمع الفقه الإِسلامي بالكويت، ونحوهما ما قرره مجلس المجمع الفقه الإسلاميّ بمكة المكرمة، تقرير حسنٌ جدًّا، ينبغي التمسّك به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: ومما له صلةٌ بالمسألة ما قرّره مجلس المجمع الفقه الإسلاميّ لرابطة العالم الإِسلاميّ بشأن تحويل الذكر إلى الأنثى، وبالعكس، فقد قرّر في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرّمة في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409هـ الموافق 19 فبراير 1989 م إلى يوم الأحد 20 رجب 1409 هـ الموافق 26 فبراير 1989 م قد نظر في موضوع تحويل الذكر إلى الأنثى، وبالعكس، وبعد البحث والمناقشة بين أعضائه قرّر ما يلي:

1 -

: الذكر الذي كملت أعضاء ذكورته، والأنثى التي كملت أعضاء أنوثتها، لا يحلّ تحويل أحدهما إلى النوع الآخر، ومحاولة التحويل جريمة يستحقّ فاعلها العقوبة؛ لأنه تغيير لخلق اللَّه، وقد حرّم اللَّه سبحانه وتعالى هذا التغيير بقوله تعالى، مخبرًا عن قول الشيطان:{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} ، فقد جاء في "صحيح مسلم"

(1)

عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لعن اللَّه الواشمات، والمستوشمات، والنامصات، والمتنمصات، والمتفلّجات للحسن، المغيّرات خلق اللَّه سبحانه وتعالى"، ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب اللَّه سبحانه وتعالى -يعني قوله تعالى:

(1)

هكذا عزوه إلى "صحيح مسلم" فقط، والصواب أنه متّفق عليه، فقد أخرجه البخاريّ في "التفسير"، و"اللباس" من "صحيحه"، فليُتنبّه.

ص: 357

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .

2 -

: أما من اجتمع في أعضائه علامات النساء والرجال، فينظر فيه إلى الغالب من حاله، فإن غلبت عليه الذكورة، جاز علاجه طبيًا بما يُزيل الاشتباه في أنوثته، سواء كان العلاج بالجراحة، أو بالهرمونات؛ لأن هذا المرض والعلاج يُقصد به الشفاء منه، وليس تغييرًا لخلق اللَّه سبحانه وتعالى.

وصلى اللَّه على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد للَّه ربّ العالمين

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3329 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي الْفَيْضِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُرَّةَ الزُّرَقِيَّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الزُّرَقِيِّ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْعَزْلِ؟ ، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي تُرْضِعُ، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مَا قَدْ قُدِّرَ فِي الرَّحِمِ سَيَكُونُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد" شيخ محمد بن بشّار هو ابن جعفر، غُندر. و"أبو الفيض" بن أيّوب، ويقال: ابن أيّوب الْمَهريّ -بفتح الميم، وسكون الهاء- الحمصيّ، من بني عقيل، مشهور بكنيته، ثقة [4].

قال ابن سُميع في الطبقة الرابعة: لقيه شعبة بواسط. وقال الغلابيّ، عن ابن معين: أبو الفيض الذي روى عنه شعبة شاميّ من أبناء جندب الحجّاج. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقة. وقال العجليّ: شاميّ ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال يعقوب ابن سفيان: له أحاديث حسان. وذكره ابن حبّان في "الثقات". أخرج له أبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده حديث الباب فقط.

و"عبد اللَّه بن مرّة الزّرقيّ" -بضم الزاي، وفتح الراء، بعدها قافٌ- الأنصاريّ المدنيّ، مجهول [6].

روى عن أبي سعد الأنصاريّ. وعنه أبو الفيض الحمصيّ الشاميّ فقط، تفرّد به المصنّف، وليس له عنده إلا هذا الحديث فقط.

و"أبو سعيد الزرقيّ" الأنصاريّ، ويقال: أبو سعد، قيل: اسمه سعيد بن عُمارة بن سعد. وقيل: عامر بن مسعود. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في "العزل"، وفي "الضحايا". وعنه عبد اللَّه بن مُرّة الزُّرقيّ، ويونس بن ميسرة بن حَلْبس، ومكحول الشاميّ. ووقع عند

(1)

راجع "توضيح الأحكام" للشيخ عبد اللَّه بن عبد الرحمن البسام 4/ 459 - 463.

ص: 358

الطبرانيّ في حديث يونس بن ميسرة، قال: خرجت مع أبي سعد الخير إلى شراء الضحايا

الحديث. ووقع في رواية ابن ماجه لهذا الحديث بعينه عن يونس: خرجت مع أبي سعيد الزُّرقي.

وقال ابن أبي حاتم: سُئل أبي عن أبي سعيد الزرقي، فقال: هو من الأنصار، ولا أدري له صحبة أم لا. وقال سعيد بن عبد العزيز: له صحبة. ووهّى ابن عبد البرّ قول من قال: هو عامر بن مسعود، وإليه يومئ كلام الحاكم أبي أحمد. وقال ابن حبّان في "الصحابة": سعد بن عُمارة أبو سعيد. وقيل: عُمارة بن سعد، والأول أصحّ، وهو الذي يقال له: أبو سعيد الخير. تفرد به المصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف حديث الباب فقط، وعند ابن ماجه حديث واحد في "الضحايا".

وقوله: "إن ما قد قُدّر في الرحم سيكون""ما" موصولة اسم "إنّ"، وليست كافّةً، و"قُدِّر" بالبناء للمجهول، و"في الرحم" متعلّق به، والجملة صلة الموصول، وخبر "إنّ" قوله:"سيكون"، بتقدير خبر "يكون"، أي "فيه"، أي سيكون حاصلًا فيه.

والمعنى: أن الذي قدّر اللَّه تعالى أن يكون في الرحم، سيكون فيه. ويحتمل أن تكون "يكون" تامّة، بمعنى يقع، ويوجد، فلا حاجة إلى تقدير الخبر. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح، وإن كان في إسناده مجهولٌ، وهو عبد اللَّه بن مرّة الزرقيّ، إلا أن الأحاديث السابقة تشهد له، فيصحّ بها، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-55/ 3329 - وفي "الكبرى" 54/ 5487. وأخرجه (أحمد) في "مسند المكيّين" 15305. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌56 - (حَقُّ الرَّضَاعِ، وَحُرْمَتُهُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: و"الْحُرْمَةُ" -بضمّ، فسكون-: ما لا يحِلّ انتهاكه. و"الحرمة": الْمَهَابةُ، وهو اسم من الاحترام، مثلُ الْفُرْقة، من الافتراق، والجمع حُرُمات، مثل غُرْفة وغُرْفات. أفاده الفيّوميّ. فيكون عطفه على "حقّ" من عطف المرادف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3330 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنْ حَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يُذْهِبُ عَنِّي مَذَمَّةَ الرَّضَاعِ؟ ، قَالَ: «غُرَّةُ عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ»).

ص: 359

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) الدورقيّ، أبو يوسف البغداديّ، ثقة حافظ [10] 21/ 22.

2 -

(يحيي) بن سعيد القطّان البصريّ، ثقة ثبت [9] 4/ 4.

3 -

(هشام) بن عروة بن الزبير المدنيّ، ثقة فقيه ربما دلّس [5] 49/ 61.

4 -

(أبوه) عروة بن الزبير بن العوّام المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 40/ 44.

5 -

(حجّاج بن حجّاج) بن مالك الأسلميّ، مقبول [3].

روى عن أبيه، وأبي هريرة. وعنه عروة بن الزبير، وعبد اللَّه بن الزبير على اختلاف فيه. وثّقه ابن حبّان. تفرّد به المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، أخرجوا له حديث الباب فقط. وله عند المصنّف في "السنن "الكبرى" حديث آخر من روايته عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يُحرّم من الرضاع المصة والمصتان، ولا يحرّم منه إلا ما فتق الأمعاء من اللبن".

6 -

(أبوه) حجاج بن مالك بن عويمر بن أبي أسيد بن رفاعة الأسلميّ. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث الباب. وعنه ابنه حجاج بن حجاج الأسلميّ. تفرّد به المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ بحديث الباب فقط. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير حجاج بن حجاج، وأبيه، فمن رجال المصنف، وأبي داود، والترمذيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه. (ومنها): أن صحابيه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا حديث الباب فقط. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ حَجَّاجٍ بْنِ حَجّاج) الأسلميّ (عَنْ أَبِيهِ) هكذا رواه يحيى بن سعيد القطّان، عن حجاج، عن أبيه، فزاد "عن أبيه"، وتابعه عليه جماعة، وهو الصواب، كما سيأتي. وخالفه سفيان الثوريّ، فلم يقل:"عن أبيه"، قال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "الكبرى" 3/ 306 رقم 5483 - : أخبرنا إسحاق بن منصور الكوسج المروزيّ، قال: حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن مهديّ- عن سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن حجاج الأسلميّ، قال: قلت: يا رسول اللَّه: ما يذهب عني مذمّة الرضاع؟ قال: "غرةٌ عبدٌ، أو أمة" انتهى.

وقال البيهقيّ في "السنن الكبرى" -7/ 464 بعد أن أخرجه من طريق عبد اللَّه بن

ص: 360

وهب، عن عمرو بن الحارث، والليث بن سعد، وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي، كلهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن الحجاج بن الحجاج الأسلميّ، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال: وأخبرنيه ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن حجاج بن حجاج الأسلميّ، عن أبيه، أنه قال: يا رسول اللَّه، ما يُذهب عني مذمة الرضاع، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"الغرّة، العبد، والأمة". وكذلك رواه أبو معاوية، وعبد اللَّه بن إدريس، عن هشام بن عروة، إلا أنهما قالا:"العبد، أو الأمة". وقيل: عنه، عن حجاج بن أبي الحجّاج، عن أبيه. والصواب الحجاج بن الحجاج، عن أبيه. قاله البخاريّ انتهى

(1)

.

(قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ما يُذهِبُ عَنِّي مَذَمَّةَ الرِّضَاعِ؟) أي أيّ شيء يُذهب عني الحقّ الذي تعلّق بي للمرضعة؟؛ لأجل إحسانها لي بالرضاع، فإني إن لم أكافئها على ذلك صرتُ مذمومًا عند الناس بسبب عدم المكافأة.

وقال في "النهاية": "الْمَذَمَّة" بالفتح مَفْعَلة من الذّمّ، وبالكسر من الذِّمَّة، والذِّمَام.

وقيل: هي بالكسر والفتح: الحقُّ، والحرمة التي يُذمّ مُضَيِّعُها. والمراد بمذمّة الرضاع: الحقّ اللازم بسبب الرضاع، فكأنه سأل ما يُسقط عنّي حقّ المرضعة حتّى أكون قد أدّيته كاملًا؟، وكانوا يستحبّون أن يُعطوا للمرضعة عند فِصَال الصبيّ شيئًا سوى أجرتها انتهى

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (غُرَّةُ) فاعل لمحذوف، دلّ عليه السؤال، أي يُذهب عنك المذمّة غرّة. ويحتمل أن يكون خبرًا لمبتدإ محذوف، أي الْمُذهِب عنك ذلك غُرّة.

و"الغُرّة" بضم الغين المعجمة، وتشديد الراء: أصل الغرّة: البياض الذي يكون في وجه الفرس، والمراد به هنا العبد نفسه، أو الأمة نفسها.

قال ابن منظور: الغرّة: العبد، أو الأمة، كأنه عُبّر عن الحسم كلّه بالغرّة، وقال الراجز:

كُلُّ قَتيلِ فِي كُلَيْبٍ غُرَّهْ

حَتَّى يَنَالَ الْقَتْلَ آلُ مُرَّهْ

يقول: كلهم ليسوا بكفء لكليب، إنما هم بمنزلة العبيد والإماء، إن قتلتُهُم، حتى أَقتُل آل مرّة، فإنهم الأكفاء حينئذ. قال: وقال أبو سعيد: الغرّةُ عند العرب أنفَسُ شيء يُمْلَكُ، وأفضلُهُ، والفرسُ غُرّةُ مال الرجل، والعبدُ غرّةُ ماله، والبعير النجيب غُرّةُ ماله،

(1)

"السنن الكبرى" للبيهقيّ 7/ 464.

(2)

"النهاية" 2/ 169.

ص: 361

والأمةُ الفارهةُ من غرّة المال. قال: وأصل الغرّة البياض الذي يكون في وجه الفرس، وكأنه عُبّر عن الجسم كلّه بالغرّة انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": والغرّة في الأصل البياض يكون في جبهة الفرس، وقد استعمل للآدميّ في الحديث المتقدِّم في الوضوء:"إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًّا". وتطلق الغرّة على الشيء النفيس، آدميًّا كان، أو غيره، ذكرًا كان، أو أنثى. وقيل: أُطلق على الآدمي غرّةٌ لأنه أشرف الحيوان، فإن محلّ الغرّة الوجه، والوجهُ أشرف الأعضاء انتهى

(2)

.

والمعنى: أنه- صلى الله عليه وسلم قال له: إنها قد قامت بخدمتك، وأنت طفلٌ، فكافئها بخادم يقوم بمهنتها، وقضاء حاجتها؛ أداءً لحقّها؛ إذ الجزاء من جنس العمل.

وقوله (عَبْد، أَو أَمَة) يحتمل أن يكون بالرفع بدلا من "غرّة"، أو عطف بيان. ويحتمل أن يكون بالإضافة، ويكون من إضافة العام إلى الخاصّ، كشجر أراك، وعلم الفقه، و"أو" يحتمل أن تكون للتنويع، أو للشّكّ من الراوي، والأول أظهر.

وقال في "الفتح": عند شرح دية الجنين: ما نصّه: وقال الإسماعيليّ: "فقضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيها بغرّة عبد، أو أمة": قرأ العامة بالإضافة، وغيرهم بالتنوين. وحكى القاضي عياض الخلاف، وقال: التنوين أوجه؛ لأنه بيان للغرّة ما هي؟، وتوجيه الآخر أن الشيء قد يُضاف إلى نفسه، لكنّه نادر. وقال الباجيّ: يحتمل أن تكون "أو" شكًّا من الراوي في تلك الواقعة المخصوصة، ويحتمل أن تكون للتنويع، وهو الأظهر. انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث حجّاج بن مالك هذا حسنٌ، وقال الترمذيّ: هذا حديث حسنٌ صحيح.

[فإن قلت]: كيف يكون حسنًا، وفي إسناده حجاج بن حجاج، قال عنه في "التقريب": مقبول، أي يحتاج إلى متابع؟.

[قلت]: حجّاج بن حجاج وثّقه ابن حبّان، وقال الذهبيّ عنه في "الميزان" - 1/ 461: صدوق. وروى عنه عروة بن الزبير، وعبد اللَّه الزبير على خلاف فيه، فمن كان

(1)

"لسان العرب" في مادة غرر 5/ 18 - 19.

(2)

"فتح" 14/ 244 "كتاب الديات".

(3)

"فتح" 14/ 244 "كتاب الديات".

ص: 362

هكذا لا ينقص حديثه عن درجة الحسن، فالحق أن حديثه حسنٌ. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-56/ 3330 - وفي "الكبرى" 52/ 5482 و 5483. وأخرجه (د) ف 2064 (ت) في "الرضاع" 1153 (أحمد) في "مسند المكيين"15306. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حقّ الرضاع، وحرمته. (ومنها): أن أم الرضاعة تستحقّ البرّ والإحسان إليها من الرضيع، وأن ذلك يَسقُط ببذله الغرّة المذكورة. (ومنها): ما كان عليه الصحابة من الحرص على تعلّم أحكام الدين. (ومنها): عناية الشارع بمراعاة حقوق أصحاب "الإحسان" فينبغي مكافأتهم، وفي حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، مرفوعًا:"من استعاذكم باللَّه، فأعيذوه، ومن سألكم باللَّه، فأعطوه، ومن دعاكم، فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفًا، فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه". رواه أحمد، وأبو داود، وصححه ابن حبّان، والحاكم، ووافقه الذهبيّ. (ومنها): أن مكافأة المرضعة لا يكون بشيء قليل، وإنما بشيء حسن جميل؛ لأن غرّة الشيء خياره، وأفضله، فكما أن إحسانها أتمّ، كذلك تكون مكافأتها أتمّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌57 - (الشِّهَادَةُ فِي الرِّضَاعِ)

3331 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ عُقْبَةَ، وَلَكِنِّي لِحَدِيثِ عُبَيْدٍ أَحْفَظُ، قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقُلْتُ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ، فَجَاءَتْنِي امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّهَا كَاذِبَةٌ، قَالَ: «وَكَيْفَ بِهَا، وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا، دَعْهَا عَنْكَ»).

ص: 363

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عليّ بن حُجر) السعديّ المروزيّ، ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 13.

2 -

(إسماعيل) بن إبراهيم ابنُ عليّة البصريّ، ثقة حافظ [8] 18/ 19.

3 -

(أيوب) بن أبي تميمة السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت فقيه عابد [5] 42/ 48.

4 -

(ابن أبي مُليكة) عبد اللَّه بن عُبيد اللَّه بن أبي مليكة زُهير بن عبد اللَّه بن جُدْعان المكيّ، ثقة فقيه [3] 101/ 132.

5 -

(عبيد بن أبي مريم) المكيّ، مقبول [3].

روى عن عقبة بن الحارث. وعنه ابن أبي مليكة. ذكره ابن حبّان في "الثقات". قال ابن المدينيّ: لا نعرفه. أخرج له البخاريّ، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف حديث الباب فقط.

6 -

(عقبة بن الحارث) بن عامر بن نوفل بن عبد مناف النوفليّ المكيّ صحابيّ، من مسلمة الفتح، بقي إلى ما بعد الخمسين من الهجرة، تقدم في -104/ 1365. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، أو من خماسيّاته بالنسبة لسماع ابن أبي مُليكة عن عقبة نفسه. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فمروزيّ، ونصفه الثاني بالمكيين. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عبيد بن أبي مريم. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ أَبي مُلَيْكَةَ) هو عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن أبي مُليكة، نُسب إلى جدّه، أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ) المكيّ (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (قَالَ) أي ابن أبي مُليكة (وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ عُقْبَةَ) أي ابن الحارث الصحابيّ المذكور (وَلَكِنِّي لِحَدِيثِ عُبَيْدٍ أَحْفَظُ) يعني أنه وإن سمعه من عقبة نفسه، لكنه أتقن لحديث عبيد ابن أبي مريم، فلذا ساقه من طريقه، وهذا فيه أن اعتماده على عقبة، لا عبيد؛ لأنه مجهول، لكن لما صحّ لديه أصل الحديث بسماعه من عقبة، لكنه لم يستوعب ما سمعه منه، وإنما أتقن رواية عبيد ساقه بواسطته، من باب التقوية، والمتابعة، لا من باب

ص: 364

الرواية استقلالًا.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وعبيد بن أبي مريم مكيّ، ما له في "الصحيح" سوى هذا الحديث، ولا أعرف من حاله شيئًا، إلا أن ابن حبّان ذكره في ثقات التابعين، وأن العمدة فيه على سماع ابن أبي مليكة له من عقبة بن الحارث نفسه انتهى

(1)

.

وفي رواية أبي داود من طريق حماد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث، قال: وحدّثنيه صاحب لي، عنه، وأنا لحديث صاحبي أحفظ، ولم يسمّه.

[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ في "الشهادات" من طريق ابن جريج، قال: سمعت ابن أبي مليكة، قال: حدّثني عقبة بن الحارث، أو سمعته منه

الحديث. فقال في "الفتح": وفيه إشارة إلى التفرقة في صيغ الأداء بين الإفراد والجمع، أو بين القصد إلى التحديث وعدمه، فيقول الراوي فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ، أو قصد الشيخ تحديثه بذلك:"حدّثني" بالإفراد، وفيما عدا ذلك "حدّثنا" بالجمع، أو "سمعت فلانًا يقول". ووقع عند الدارقطنيّ من هذا الوجه:"حدّثني عقبة بن الحارث"، ثم قال:"لم يُحدّثني، ولكن سمعته يحدّث"، وهذا يعيّن أحد الاحتمالين، وقد اعتمد النسائيّ فيما يرويه عن الحارث بن مسكين، فيقول:"الحارث بن مسكين قراءةٌ عليه، وأنا أسمع"، ولا يقول: حدّثني، ولا أخبرني؛ لأنه لم يقصده بالتحديث، وإنما كان يسمعه من غير أن يشعر به انتهى ما في "الفتح"

(2)

.

(قَالَ) عقبة (تَزَوَّجْتُ امْرَأَةَ) وفي رواية البخاريّ في "كتاب العلم" من طريق عمر بن سعيد بن أبي حسين، عن ابن أبي مليكة: "أنه تزوّج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة

". قال في "الفتح": اسمها غَنيّة -بفتح المعجمة، وكسر النون، بعدها ياء تحتانيّةٌ، مشدّدةٌ، وكنيتها أم يحيى. قال: وَهِمَ الكرمانيّ، فقال: لا يعرف اسمها. و"أبو إهاب" -بكسر الهمزة-: لا أعرف اسمه، وهو مذكورٌ في الصحابة. و"عزيز" -بفتح العين المهملة، وكسر الزاي، آخره زايٌ أيضًا- ومن قاله بضمّ أوله فقد حرّف. انتهى كلام الحافظ.

(فَجَاءَتنا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ (قال الحافظ: لم أقف على اسمها (فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا) زاد الدارقطنيّ: "فدخلت علينا امرأةٌ سوداء، فسألت، فأبطأنا عليها، فقالت: تصدّقوا عليّ، فواللَّه فقد أرضعتكما جميعًا". زاد البخاريّ في "العلم": "فقال لها عقبة: ما أرضعتني، ولا أخبرتني" -أي بذلك قبل التزوّج-. زاد في "الشهادة" في [باب إذا شهد

(1)

"فتح" 10/ 190 - 191. "كتاب النكاح".

(2)

"فتح" 5/ 600 - 601 "كتاب الشهادات".

ص: 365

بشيء، فقال آخر: ما علمت ذلك]، وفي "العلم": فركب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فسأله" (فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) وقد سبق أنه ركب من مكة إلى المدينة (فَأَخْبَرتُهُ) أي بما حدث من تلك القضيّة، كما بيّنه بقوله (فَقُلْتُ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ) تقدّم أن اسمها غنية بنت أبي إهاب بن عزيز (فَجَاءَتْنِي امْرَأَة سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا) أراد بذلك التعريض بكونها كاذبة في دعواها ذلك، كما سيصرّح به قريبًا (فَأَعْرَضَ) أي حوّل النبيّ صلى الله عليه وسلم وجهه (عَنِّي) زاد في رواية البخاريّ في "البيوع": "وتبسّم النبيّ صلى الله عليه وسلم ". وإنما أعرض عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ كراهيةً لسؤاله؛ إذ حقّه حينما وقعت له الشبهة أن يبتعد عنها، ويفارقها، ولا يستمرّ على نكاحها؛ إذ لا يليق بالعاقل في مثل هذا إلا الإعراض عن الشبهة، والتنزّه عنها، لا السؤال ليتوسّل به إلى إبقائها عنده (فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّهَا كَاذِبَةٌ) أي في دعواها ذلك (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَكَيْفَ بِهَا) أي كيف يُظنّ بها الكذب، أو يُجزم به (وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتُكُمَا) أي وهو أمر ممكن، ولا يُعلم ذلك عادةً إلا من قِبَلها، فكيف تُكذّب فيه؟ (دَعْهَا) أي المرأة التي تزوّجتها؛ لوقوع الشبهة في كونها أختًا لك من الرضاعة، وقد أخذ بظاهره الإمام أحمد، وطائفة، وحمله الجمهور على أنه أرشده إلى الأحوط والأولى، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في "المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. وقوله (عَنْكَ) متعلّق بـ"دع" على تضمينه معنى أَبْعِدْ، أي أبعدها عنك بالطلاق. وزاد الدارقطنيّ في آخره:"لا خير لك فيها"، وفي رواية للبخاريّ:"فنهاه عنها"، وزاد في رواية له:"ففارقها، ونكحت زوجًا غيره". قال الحافظ: اسم هذا الزوج ظُريب -بضم المعجمة المشالة، وفتح الراء، وآخره موحّدة، مصغّرًا. انتهى

(1)

.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عقبة بن الحارث - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-57/ 3331 - وفي "الكبرى" 53/ 5484. وأخرجه (خ) في "العلم" 88 و "البيوع" 2052 و"الشهادات" 2640 و 2659 و"النكاح" 5105 (د) في "الأقضية" 3603 (ت) "الرضاع" 1151 (أحمد) "مسند المدنيين" 15715 و "مسند الكوفيين" 18930 (الدارمي) "النكاح" 2255. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"فتح" 1/ 249.

ص: 366

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعيّة الشهادة على الرضاع. (ومنها): قبول شهادة المرأة في الرضاع، كما هو ظاهر ترجمة المصنّف، وسيأتي في المسألة التالية تحقيق الخلاف في ذلك، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): قبول شهادة الإماء والعبيد، وفيه خلاف أيضًا، وسيأتي في المسألة الخامسة، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): جواز إعراض المفتي لينبّه المستفتي على أن الحكم فيما سأله الكفّ عنه. (ومنها): جواز تكرار السؤال لمن لم يفهم المراد، والسؤال عن السبب المقتضي لرفع النكاح. (ومنها): مشروعية الاستبراء عن الشبهات. (ومنها): الإنكار على من يتعاطى الشبهات. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في ثبوت الرضاع بشهادة المرضعة وحدها:

ذهبت طائفة إلى ثبوت الرضاع بشهادتها، وبه قال أحمد، قال عليّ بن سعيد: سمعت أحمد يُسأل عن شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، قال: تجوز على حديث عقبة ابن الحارث، وهو قول الأوزاعيّ، ونُقل عن عثمان، وابن عباس، والزهريّ، والحسن، وإسحاق، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج، عن ابن شهاب، قال: فرّق عثمان بيّن ناس، تناكحوا بقول امرأة سوداء: إنها أرضعتهم، قال ابن شهاب: الناس يأخذون بذلك من قول عثمان اليوم، واختاره أبو عبيد، إلا أنه قال: إن شهدت المرضعة وحدها وجب على الزوج مفارقة المرأة، ولا يجب عليه الحكم بذلك، وإن شهدت معها أخرى وجب الحكم به.

واحتجّ أيضًا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يُلزم عقبة بفراق امرأته، بل قال له:"دعها عنك"، وفي رواية ابن جريج:"كيف، وقد زعمت"، فأشار إلى أن ذلك على التنزيه.

وذهب الجمهور إلى أنه لا يكفي في ذلك شهادة المرضعة؛ لأنها شهادة على فعل نفسها. وقد أخرج أبو عبيد من طريق

(1)

عمر، والمغيرة بن شعبة، وعليّ بن أبي طالب، وابن عباس أنهم امتنعوا من التفرقة بيّن الزوجين بذلك، فقال عمر: فرّق بينهما إن جاءت بيّنة، وإلا فخلّ بين الرجل وامرأته، إلا أن يتنزّها، ولو فُتح هذا الباب لم تشأ امرأة أن تُفرَق بيّن الزوجين إلا فَعَلت. وقال الشعبيّ: تُقبل مع ثلاث نسوة بشرط أن لا تتعرّض نسوة لطلب أجرة. وقيل: لا تُقبل مطلقًا. وقيل: تقبل في ثبوت المحرميّة، دون ثبوت الأجرة لها على ذلك. وقال مالك: تقبل مع أخرى. وعن أبي حنيفة: لا

(1)

هكذا نسخ "الفتح"، والظاهر أن الصواب "من طرق، عن عمر الخ"، أو نحو هذا، فليحرّر.

ص: 367

تقبل في الرضاع شهادة النساء المتمحّضات، وعكسه الإصطخريّ من الشافعيّة.

وأجاب من لم يقبل شهادة المرضعة وحدها يحمل النهي في قوله: "فنهاه عنها" على التنزيه، وبحمل الأمر في قوله:"دعها عنك" على الإرشاد

(1)

.

وقال العلاّمة الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن ذكر الخلاف المذكور، وحملهم الخبر على الاستحباب: ما نصّه:

ولا يخفى أن النهي حقيقة في التحريم، كما تقرّر في الأصول، فلا يُخرَج عن معناه الحقيقيّ إلا لقرينة صارفة، والاستدلال على عدم قبول المرأة المرضعة بقوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية [البقرة: 282] لا يُفيد شيئًا؛ لأن الواجب بناء العامّ على الخاصّ، ولا شكّ أن الحديث أخصّ مطلقًا.

وأما ما أجاب به عن الحديث صاحب "ضوء النهار" من أنه مخالف للأصول، فيجاب عنه بالاستفسار عن الأصول، فإن أراد الأدلّة القاضية باعتبار شهادة عدلين، أو رجل وامرأتين، فلا مخالفة؛ لأن هذا خاصّ، وهي عامّةٌ، وإن أراد غيرها، فما هو؟.

وأما ما رواه أبو عبيد عن عليّ، وابن عباس، والمغيرة أنهم امتنعوا من التفرقة بيّن الزوجين بذلك، فقد تقرّر أن أقوال بعض الصحابة ليست بحجة على فرض عدم معارضتها لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، فكيف إذا عارضت ما هو كذلك؟.

وأما ما قيل من أن أمره صلى الله عليه وسلم من باب الاحتياط، فلا يخفى مخالفته لما هو الظاهر، ولا سيّما بعد أن قرّر

(2)

السؤال أربع مرّات، كما في بعض الروايات، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول له في جميعها:"كيف؟ وقد قيل"، وفي بعضها:"دعها عنك" كما في حديث الباب، وفي بعضها:"لا خير لك فيها"، مع أنه لم يثبت في رواية أنه صلى الله عليه وسلم أمره بالطلاق، ولو كان ذلك من باب الاحتياط لأمره به.

فالحقّ وجوب العمل بقول المرأة المرضعة، حرّة كانت، أو أمةً، حصل الظنّ بقولها، أو لم يحصل؛ لما ثبت في رواية أن السائل قال:"وأظنها كاذبة"، فيكون هذا الحديث الصحيح هادمًا لتلك القواعد المبنيّة على غير أساس، أعني قولهم: إنها لا تقبل شهادة فيها. تقرير لفعل الشاهد، ومخصّصًا لعمومات الأدلّة، كما خصّصها دليل كفاية العدالة في عورات النساء عند أكثر المخالفين انتهى كلام الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(3)

.

(1)

راجع "الفتح" 5/ 600. "كتاب الشهادات".

(2)

هكذا نسخة "النيل" والظاهر أن الصواب: "بعد أن كرّر" بالكاف. فليُتأمل.

(3)

"نيل الأوطار" 6/ 338.

ص: 368

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى- تحقيقٌ حسنٌ جدًّا.

وحاصله ترجيح القول بقبول شهادة المرضعة؛ عملًا بظاهر حديث الباب، وهو ظاهر مذهب المصنّف، والبخاريّ -رحمهما اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في شهادة الإماء والعبيد:

قال الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-: [باب شهادة الإماء والعبيد] وقال أنسٌ: شهادة العبد جائزة، إذا كان عدلًا، وأجازه شُريح، وزُرارة بن أوفَى. وقال ابن سيرين: شهادته جائزة إلا العبد لسيّده. وأجازه الحسن، وإبراهيم التيميّ في الشيء التافه. وقال شُريح: كلكم بنو عبيد وإماء. ثم أورد حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه هذا مستدلًّا لجواز قبول شهادتهم.

وقال في "الفتح": وقد ذهب الجمهور إلى أنها لا تُقبل مطلقًا. وقالت طائفةٌ: تقبل مطلقًا. قال: ووجه الدلالة من حديث عقبة أنه صلى الله عليه وسلم أمر عقبة بفراق امرأته بقول الأمة المذكورة، فلو لم تكن شهادتها مقبولةً ما عَمِل بها.

واحتجّوا أيضًا بقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} قالوا: فإن كان الذي في الرّقّ رضًا، فهو داخلٌ في ذلك.

وأجيب عن الآية بأنه تعالى قال في آخرها: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} والإباء إنما يتأتّى من الأحرار؛ لاشتغال الرقيق بحقّ السيّد.

وفي الاستدلال بهذا القدر نظر. وأجاب الإسماعيليّ عن حديث الباب، فقال: قد جاء في بعض طرقه: "فجاءت مولاة لأهل مكة" قال: وهذا اللفظ يُطلق على الحرّة التي عليها الولاء، فلا دلالة فيه على أنها كانت رقيقة.

وتُعُقّب بأن رواية حديث الباب فيه التصريح بأنها أمةٌ، فتعيّن أنها ليست بحرّة. وقد قال ابن دقيق العيد: إن أخذنا بظاهر حديث الباب، فلا بدّ من القول بشهادة الأمة. وقد سبق إلى الجزم بأنها كانت أمةً أحمد بن حنبل، رواه عنه جماعة، كأبي طالب، ومُهَنًّا، وحرب، وغيرهم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مذهب القائلين بقبول شهادة العبيد والإماء، كما أيّده الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- هو الحقّ؛ لظهور أدلّته، والقائلون بخلافه لم يأتوا

(1)

"فتح" 5/ 598 - 599. "كتاب الشهادات".

ص: 369

بدليل مقنع، يعتمد عليه، فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَّور بالاعتساف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌58 - (نِكَاحُ مَا نَكَحَ الآبَاءُ)

3332 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: لَقِيتُ خَالِي، وَمَعَهُ الرَّايَةُ، فَقُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ، أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، أَوْ أَقْتُلَهُ).

رجال هذا الإسناد. سبعة:

1 -

(أحمد بن عثمان بن حكيم) الأوديّ الكوفيّ، ثقة [11] 160/ 252.

2 -

(أبو نُعيم) الفضل بن دُكين، وهو لقب، واسمه عمرو بن حمّاد الكوفيّ، ثقة ثبت [9] 11/ 516.

3 -

(الحسن بنْ صالح) هو الحسن بن صالح بن صالح بن حيّ، وهو حيّان بن شُفَيّ -مصغّرا- الهمداني الكوفيّ، ثقة فقيه عابد رمي بالتشيّع [7] 160/ 252.

4 -

(السُّدّيّ) إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، أبو محمد الكوفيّ، صدوق يَهِم، ورمي بالتشيّع [4] 100/ 1359.

5 -

(عديّ بن ثابت) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقة رمي بالتشيّع [4] 49/ 605.

6 -

(البراء) بن عازب بن الحارث بن عديّ، أبو عُمارة الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما -، نزل الكوفة، ومات سنة (72هـ) تقدّم 86/ 105.

7 -

(خاله) هانئ بن نِيار بن عمرو بن عبيد بن كلاب بن دُهمان بن غَنْم بن ذئبان بن هميم بن كاهل بن ذُهل بن بَلِيّ البلويّ، حليف الأنصار، مشهور بكنيته. وقيل: مالك ابن هُبيرة، والأول أصحّ، وهو خال البراء بن عازب، وقيل: عمّه، شَهِدَ بدرًا، وما بعدها. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعنه البراء بن عازب، وجابر، وابن أخيه سعيد بن عُمير

ص: 370

ابن عُقبة بن نيار، وعبد الرحمن بن جابر بن عبد اللَّه، وبُشَير بن يسار، وغيرهم

(1)

.

وذكر في "الإصابة": وقيل: اسمه الحارث بن عمرو، كذا ذكره المِزّيّ عن ابن معين، وخطّأه ابن عبد الهادي، فقال: إنما قال ابن معين في ابن أبي موسى. قال: وكأن سبب قول من سمّاه الحارث بن عمرو قول البراء: لقيت خالي الحارث بن عمرو. ولكن يحتمل أن يكون له خالٌ آخر، وهو الأشبه. قال أبو عمر: مات في أول خلافة معاوية بعد أن شهد مع عليّ رضي الله عنه حروبه كلها، ثم قيل: إنه مات سنة إحدى، وقيل: اثنتين، وقيل: خمس وأربعين

(2)

. وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، هذا، وفي "كتاب الضحايا" 4397 حديث الأضحية بالجذعة، وفي "كتاب الأشربة" 5677 حديث: (اشربوا في الظروف، ولا تسكروا". واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وصحابيّ عن صحابيّ. (ومنها): أن صحابيه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا خمسة أحاديث. راجع "تحفة الأشراف" 9/ 65 - 68. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ الْبَرَاءِ) بن عازب - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: لَقِيتُ خَالِي) وفي رواية الترمذيّ من طريق أشعث، عن عديّ بن ثابت:"مرّ بي خالي، أبو بردة بن نيار"(وَمَعَهُ الرَّايَةُ) وفي رواية الترمذيّ المذكورة: "ومعه لواء". قال الفيّوميّ؛ والراية عَلَم الجيش، يقال: أصلها الهمز، لكن العرب آثرت تركه تخفيفًا. ومنهم من يُنكر هذا القول، ويقول: لم يُسمع الهمز. والجمع رايات. وقال في موضع آخر: ولواء الجيش علمه، وهو دون الراية، والجمع أَلْوية. انتهى.

والمقصود من تلك الراية أن تكون دالّة على إِمْرَتِه، وكونه مبعوثًا من جهة النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر.

(فَقُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ) أي على قواعد الجاهليّة، فإنهم كانوا يتزوّجون بأزواج آبائهم، ويعدّون ذلك من باب الإرث، ولذلك ذكر اللَّه تعالى النهي من ذلك بخصوصه، حيث قال:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ}

(1)

"تهذيب التهذيب" 4/ 485.

(2)

"الإصابة" 11/ 34.

ص: 371

الآية، مبالغة في الزجر عن ذلك، فهذا الرجل سلك مسلكهم في عدّ ذلك حلالًا، فصار مرتدًّا، فقتل لذلك. وهكذا أول الحديث من لا يقول بظاهره، والظاهر أن الأخذ بظاهر الحديث، وإن لم يستحلّ هو الحقّ، كما هو مذهب أحمد، وإسحاق ابن راهويه، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.

[تنبيه]: هذه الرواية صريحةٌ في كون ذلك الرجل تزوّج امرأة أبيه عقدًا، فتأويل بعضهم بحمله على الوطء بلا عقد باطل. قال الخطابيّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد ذكره هذا القول: وهذا تأويلٌ فاسد، قال: ومن ادعى أن هذا النكاح شبهةٌ، فأسقط من أجلها الحدّ، فقد أبعد؛ لأن الشبهة إنما تكون في أمر يشبه الحلال من بعض الوجوه، وذوات المحرم لا تحلّ بوجه من الوجوه، ولا في حال من الأحوال، وإنما هو زنا محضٌ، وإن لُقب بالنكاح، كمن استأجر أمةً، فزنى بها، فهو زنا، وإن لُقّب باسم الإجارة، ولم يكن مسقطًا عنه الحدّ، وإن كانت المنافع قد تستباح بالإجارات.

وزعم بعضهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أمر بقتله لاستحلاله نكاح امرأة أبيه، وكان ذلك مذهب أهل الجاهليّة، كان الرجل منهم يرى أنه أولى بامرأة أبيه من الأجنبيّ، فيرثها كما يرث ماله، وفاعل هذا على الاستباحة له مرتدّ عن الدين، فكان هذا جزاؤه القتل لردّته.

قال الخطّابيّ: وهذا تأويلٌ فاسد، ولو جاز أن يُتأول ذلك في قتله لجاز أن يُتأوّل مثله في رجم من رجمه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الزناة، فيقال: إنما قتله بالرجم لاستحلاله الزنا، وقد كان أهل الجاهليّة يستحلّون الزنا، فلا يجب على من زنى الرجم حتى يعتقد هذا الرأي، وهذا ما لا خفاء بفساده، وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله لزنائه، ولتخطّيه الحرمة في أمه

(1)

.

وقد أوجب بعض الأئمة تغليظ الدية على من قتل ذات محرم، وكذلك أوجبوا على من قتل في الحرم، فألزموه دية وثلثًا، وهو قول عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وروي عن عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه: أنه أُتِيَ بشارب في رمضان، فضربه حدّ السكر، وزاده عشرين"، لارتكابه ما حرّم اللَّه عليه في ذلك الشهر انتهى

(2)

.

(مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد موته (أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، أَوْ أَقتُلَهُ)"أو" للشكّ من الراوي. وفي رواية الترمذيّ: "بعثني أن آتيه برأسه". وزاد في الرواية التالية: "وآخذ ماله". وفيه أخذ مال من فعل ذلك بعد قتله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

كذا في الأصل، ولعلها:"في امرأة أبيه التي هي مثل أمه".

(2)

"معالم السنن" 6/ 267 - 269.

ص: 372

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي بردة بن نيار - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

[تنبيه]: قد أعلّ بعض العلماء هذا الحديث بالاضطراب، فقال المنذريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وقد اختُلف في هذا الحديث اختلافًا كثيرًا، فروي عن البراء بن عازب - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: "بينما أطوف على إبل لي ضلّت

" الحديث. وروي عنه، عن عمه

وروي عنه، قال: "مرّ خالي أبو بردة بن نيار، ومعه لواء

" وروي عنه، عن خاله، وسماه هشيم في حديثه الحارث بن عمرو

وروي عنه، قال: "مرّ بنا ناسٌ ينطلقون

" وروي عنه: "إني لأطوف على إبل ضلّت لي في تلك الأحياء في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ جاءهم رهط معهم لواء

". انتهى.

وأجيب بأن هذا الاضطراب غير موجب للضعف؛ قال ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- بعد ذكر كلام المنذريّ: وهذا كلّه يدلّ على أن الحديث محفوظ، ولا يوجب هذا تركه بوجه، فإن البراء بن عازب حدّث به عن أبي بردة بن نيار، واسمه الحارث بن عمرو، وأبو بردة كنيته، وهو عمه وخاله، وهذا واقع في النسب، وكان معه رهط، فاقتصر على ذكر الرهط مرّةً، وعين من بينهم أبا بردة بن نيار باسمه مرّة، وبكنيته أخرى، وبالعمومة تارة، وبالخؤولة أخرى، فأي علّة في هذا توجب ترك الحديث؟. انتهى

(1)

.

وقال الشيخ الألبانيّ بعد أن ذكر الاختلافات، وذكر رواية زيد بن أبي أنيسة الآتية في الحديث التالي: ما نصّه: فقد زاد زيد بيّن عديّ والبراء يزيدَ بن البراء، وزيد ثقة من رجال الشيخين، وزيادة الثقة مقبولة، وسائر رجال الإسناد ثقات رجال الشيخين أيضًا، غير يزيد بن البراء، وهو صدوق، ولعلّ عديّ بن ثابت تلقّاه عنه، عن البراء في مبدإ الأمر، ثم لقي البراء، فسمعه منه، فحدّث به تارة هكذا، وتارة هكذا، وكلّ حدّث عنه بما سمع منه، وكلّ ثقة من زيد بن أبي أنيسة الذي أثبت فيه يزيد بن البراء، والسّدِّيّ، واسمه إسماعيل الذي لم يذكر يزيد فيه، مع متابعة الربيع بن الرُّكين له على ضعفه.

وبهذا يزول الاضطراب الذي أَعَلّ الحديث به ابنُ التركماني؛ لأنه أمكن التوفيق بيّن

الوجوه المضطربة منه الثابتة عن رواتها.

وأما الوجوه الأخرى التي أشار إليها الترمذيّ

(2)

، فهي غير ثابتة؛ لأن مدار أكثرها

(1)

"تهذيب السنن" 6/ 266. من هامش مختصر المنذريّ.

(2)

قال الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- عقب إخراج الحديث: حديث غريب، وقد روى محمد بن إسحاق هذا الحديث عن عديّ بن ثابت، عن عبد اللَّه بن يزيد، عن البراء. وقد روي هذا الحديث =

ص: 373

على أشعث

(1)

، وهو ضعيف، كما عرفت، وأحدها من طريق ابن إسحاق، وهو مدلّسٌ، ولو صرّح بالتحديث فليس بحجة عند المخالفة.

ويؤيّد صحّة الحديث أن له طريقًا أخرى، وشاهدًا. أما الطريق فيرويه أبو الجهم، عن البراء بن عازب، قال:"بينما أنا أطوف على إبل لي قد ضلّت، إذ أقبل ركبٌ، أو فوارس، معهم لواء، فجعل الأعراب يُطيفون بي لمنزلتي من النبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ أتوا قُبّةً، فاستخرجوا منها رجلًا، فضربوا عنقه، فسألت عنه، فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه". أخرجه أبو داود (4456)، والنسائيّ في "الكبرى"(5490) والطحاويّ 2/ 85، والدارقطنيّ 371 والحاكم، وعنهما البيهقيّ، وعن غيرهما 8/ 208 وأحمد 4/ 295 من طريق مطرف بن طَرِيف الحارثيّ، ثنا أبو الجهم عنه.

قال: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين، غير أبي الجهم، واسمه سليمان بن جهم بن أبي الجهم الأنصاريّ، مولى البراء، وهو ثقة.

وأما الشاهد، فيرويه معاوية بن قُرَّة المزنيّ، عن أبيه، قال: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوّج امرأة أبيه أن أضرب عنقه، وأصفّي ماله". أخرجه ابن ماجه (2608): حدثنا محمد بن عبد الرحمن ابن أخي الحسين الجعفيّ، ثنا يوسف بن منازل التميميّ، ثنا عبد اللَّه بن إدريس، عن خالد بن أبي كريمة، عن معاوية بن قُرَّة به.

قال البوصيريّ في "الزوائد": هذا إسناد صحيح. رواه النسائيّ في "كتاب الرجم"

عن العباس بن محمد، عن يوسف بن منازل به. ورواه الدارقطنيّ في "سننه" من طريق معاوية بن قُرَّة أيضًا، ورواه الحاكم في "المستدرك" من طريق محمد بن إسحاق الصنعانيّ، عن يوسف بن منازل، فذكره، ورواه البيهقيّ في "الكبرى" عن الحاكم بالإسناد والمتن. ورواه البيهقيّ (8/ 208) من طريق أخرى غير الحاكم، والطحاويّ (2/ 86) عن يوسف به انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن حديث الباب صحيح، والاضطراب الذي ذُكر غير موجب لضعفه؛ لأن الاضطراب لا يؤثّر مع إمكان الجمع، وقد تحقّق -بحمد اللَّه- كما عرفت. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

= عن أشعث، عن عديّ، عن يزيد بن البراء، عن أبيه. وروي عن أشعث، عن عديّ، عن يزيد ابن البراء، عن خاله، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.

(1)

هو ابن سوّار.

(2)

"إرواء الغليل" 8/ 18 - 22.

ص: 374

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-58/ 3332 و 3333 - وفي "الكبرى" 55/ 5488 و 5489 و 5490. وأخرجه (د) ففي "الحدود"4456 و 4457 (ت) في "الأحكام" 1362 (ق) في "الحدود" 2607 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 18134 و 18146 (الدارمي) في "النكاح"2239. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم نكاح ما نكح الآباء، وهو قتله، وأخذ ماله، لحديث الباب؛ لكن لا بدّ من حمله على أن ذلك الرجل الذي أمر صلى الله عليه وسلم بقتله كان عالمًا بالتحريم.

(ومنها): تحريم نكاح ما نكح الآباء، كما هو نصّ كتاب اللَّه تعالى في قوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} الآية [النساء: 22]. (ومنها): حرص الشريعة المطهّرة على المحافظة على حقوق الآباء، وتحريم هتك حرمتهم، وذلك حيث حرّمت نكاح ما نكح الآباء؛ احترامًا لهم، ولا تُنتهك حرماتهم، وهذا من معالي محاسن الشريعة. (ومنها): أن فيه دليلًا على أن للإمام أن يأمر بقتل من خالف قطعيًّا من قطعيّات الشريعة، كهذه المسألة، فإن اللَّه تعالى يقول:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [النساء: 22]، لكن ينبغي تقييده بما ذكرناه في الفائدة الأولى. (ومنها): أن فيه متمسّكًا لقول مالك -رحمه اللَّه تعالى-: إنه يجوز التعزير بالقتل. (ومنها): أن فيه دليلًا لمن يقول بالعقوبة بأخذ المال، وقد تقدّم الخلاف في التعزير به في "كتاب الزكاة"، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم من تزوج امرأة أبيه:

ذهب أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه إلى أنه يقتل، ويؤخذ ماله على ظاهر الحديث. وقال الحسن البصريّ: عليه الحدّ، وهو قول مالك، والشافعيّ. وقال سفيان: يُدرأ عنه الحدّ، إذا كان التزويج بشهود. وقال أبو حنيفة: يُعزّر، ولا يُحدّ. وقال صاحباه: أما نحن فنرى عليه الحدّ، إذا فعل ذلك متعمّدًا. أفاده الخطّابيّ

(1)

.

وقال العلامة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- في "زاد المعاد": وقد نصّ أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد في رجل تزوّج امرأة أبيه، أو بذات محرم، فقال: يُقتل، ويُدخل ماله في بيت المال. وهذا القول هو الصحيح، وهو مقتضى حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وقال

(1)

"معالم السنن" 6/ 269.

ص: 375

الشافعيّ، ومالك، وأبو حنيفة: حدّه حدّ الزاني، ثم قال أبو حنيفة: إن وطئها بعقد عُزّر، ولا حدّ عليه. وحكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقضاؤه أحقّ وأولى. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- هو الحقّ الذي لا مرية فيه؛ لصحّة حديث الباب، كما أيده ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-.

وحاصله أن من نكح امرأة أبيه، عالمًا بالتحريم يقتل، ويؤخذ ماله؛ قضاءَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3333 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْبَرَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَصَبْتُ عَمِّي، وَمَعَهُ رَايَةٌ، فَقُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَجُلٍ، نَكَحَ امْرَأَةَ أَبِيهِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَآخُذَ مَالَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن منصور": هو أبو سعيد النسائيّ الثقة الثبت [11] 108/ 147. و"عبد اللَّه بن جعفر": هو أبو عبد الرحمن القرشيّ مولاهم الرّقّيّ، ثقة تغيّر بآخره، ودم يفحش اختلاطه [10] 177/ 280. و"عبيد اللَّه بن عمرو": هو أبو وهب الأسديّ الرقّيّ، ثقة فقيه، ربما وهم [8] 177/ 280. و"زيد": هو ابن أبي أُنيسة زيد الجزريّ، أبو أسامة، كوفيّ الأصل، ثم سكن الرُّها، ثقة له أفراد [6] 191/ 306.

و"يزيد بن البراء" بن عازب الأنصاريّ الحارثي الكوفيّ، أمير عُمَان، صدوق [3].

روى عن أبيه. وعنه عديّ بن ثابت، وأبو جَنَاب الكلبيّ، وسيف أبو عائذ السعديّ، وقال: كان أميرًا علينا بعمان، وكان كخير الأمراء. وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرّد به المصنّف، وأبو داود، له عند المصنّف حديث الباب فقط، وعند أبي داود له حديث الباب، وآخر في الخطبة على القوس يوم العيد.

وقوله: "أصبت عمّي" تقدّمِ أنه لا منافاة بين قوله: "عمّي"، وقوله:"خالي"؛ لإمكان أن يكون له عمًّا، وخالًا من جهتين.

والحديث صحيحٌ، وقد سبق شرحه، والكلام على مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"زاد المعاد" 5/ 15 - 16.

ص: 376

‌59 - (تَأوِيلُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ})

3334 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَ جَيْشًا إِلَى أَوْطَاسٍ، فَلَقُوا عَدُوًّا، فَقَاتَلُوهُمْ، وَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ، فَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا، لَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ تَحَرَّجُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، أَيْ هَذَا لَكُمْ حَلَالٌ، إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعانيّ، ثم البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(يزيد بن زُريع) أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.

3 -

(سعيد) بن أبي عروبة مهران، أبو النضر البصريّ، ثقة ثبت، يدلّس، واختلط بآخره [6] 34/ 38.

4 -

(قتادة) بن دِعامة السدوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقة ثبت يدلّس [4] 30/ 34.

5 -

(أبو الخليل) صالح بن أبي مريم الضبعيّ البصريّ، ثقة [6] 51/ 3308.

6 -

(أبو علقمة الهاشميّ) الفارسي المصريّ، مولى بني هاشم، ويقال: حليف الأنصار، قاضي إفريقية ثقة، من كبار [3] 96/ 1354.

7 -

(أبو سعيد الخدريّ) سعيد بن مالك بن سنان - رضي اللَّه تعالى عنهما - 169/ 262. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى أبي الخليل، وأبو علقمة مصريّ، وأبو سعيد مدني. (ومنها): أن رواية قتادة، عن أبي الخليل من رواية الأكابر عن الأصاغر. (ومنها): أن فيه أبا سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 377

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَعَثَ جَيْشًا إِلَى أَوْطَاسِ) وفي رواية مسلم: (أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم حنين، بعث جيشًا إلى أوطاس

". قال النوويّ: "أوطاس": موضع عند الطائف، يُصرَف، ولا يُصرف انتهى

(1)

. وقال الفيّوميّ: "أوطاس" من النوادر التي جاءت بلفظ الجمع للواحد، وهو واد في ديار هَوَازن، جَنُوبيّ مكة، بنحو ثلاث مَراحل، وكانت وقعتها بعد فتح مكة بنحو شهر انتهى

(2)

.

(فَلَقُوا) بضم القاف، وأصله لَقِيُوا بكسرها، من باب تَعِبَ، فلما استُثقلت الضمة على الياء نُقلت إلى القاف بعد سلب كسرتها، ثم حُذفت الياء لالتقاء الساكنين (عَدُوًّا) وهم هوازن. وفي نسخة:"فلقوا العدو"(فَقَاتَلُوهُمْ، وَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ) أي غلبوهم، وانتصروا عليهم (فَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا،) -بفتح السين المهملة، جمع سَبيّة، مثل عَطيّة وعَطَايا، وهي فَعِيلة بمعنى مفعولة، أي مسِبيّة (لَهُنَّ أَزْوَاجٌ فْي الْمُشْرِكِينَ) أي الذين قاتلوهم، وانتصروا عليهم (فَكَانَ الْمُسلِمُونَ تَحَرَّجُوا) أي تجنّبوا الحرَج، وهو الإثم، قال الفيّوميّ: حَرِج صدرُهُ حَرَجًا، من باب تَعِبَ: ضاق، وحَرِجَ الرجلُ: أثِمَ، وصدرٌ حَرِجٌ ضَيِّقٌ، ورجلٌ حَرِجٌ آثم، وتحرّج الإنسان تحرُّجًا، هذا مما ورد لفظه مُخالفًا لمعناه، والمراد فعل فعلًا جانب به الحَرَجَ، كما يقال: تحنّث إذا فعل ما يخرُج به عن الحنث، قال ابن الأعرابيّ للعرب أفعالٌ تخالف معانيها ألفاظَها، قالوا: تحرّج، وتحنّث، وتأثّم، وتهجّد: إذا ترك الْهُجُود، ومن هذا الباب ما ورَدَ بلفظ الدعاء، ولا يُراد به الدعاء، بل الحثّ، والتحريض، كقوله:"تَرِبت يداك"، و"عَقْرَى حَلْقَى"، وما أشبه ذلك انتهى

(3)

.

(من غَشيَانِهنَّ) متعلّق بـ"تحرّجوا" يعني أنهم خافوا الوقوع في الحرج، وهو الإثم بسبب غشيانهنّ، أي وطئهنّ، من أجل أنهنَّ ذوات أزواج، والمزوّجة لا تحلّ لغير زوجها. زاد في رواية مسلم:"من أجل أزواجهنّ من المشركين". قال القرطبيّ: أي ظنّوا أن نكاح أزواجهنّ لم تنقطع عصمته. انتهى

(4)

.

(فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ) بالرفع عطف على المحرّمات السابقة في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية أي حرّمت عليكم نكاح المحصنات، أي

(1)

"شرح مسلم"10/ 277.

(2)

"المصباح المنير" في مادة وطس.

(3)

"المصباح المنير" في مادة حرج.

(4)

"المفهم" 4/ 193.

ص: 378

ذوات الأزواج، فإنهنّ حرام على غير أزواجهنّ، إلا ما ملكتم بالسبي، فإنه ينفسخ نكاح أزواجهن الكفار، وتحلّ لكم، إذا انقضى استبراؤها.

قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تفسيره": والتحصّن التمنّع، ومنه الحِصن؛ لأنه يُمتنع فيه، ومنه قوله تعالى:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} ، أي لتمنعكم، ومنه الحِصان للفرس -بكسر الحاء- لأنه يمنع صاحبه من الهلاك، والْحَصَان -بفتح الحاء- المرأة العفيفة لمنعها نفسها من الهلاك، وحَصُنت المرأةُ تَحصُنُ، فهي حَصَانٌ، مثلُ جبُنت فهي جَبَان، وقال حسّان في عائشة - رضي اللَّه تعالى عنهما -[من الطويل]:

حَصَانٌ رَزَازَنٌ ما تُزَنُّ بِريبةٍ

وَتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحُومِ الْغَوَافِلِ

والمصدر الْحَصَانة -بفتح الحاء- والحِصن كالعلم. انتهى

(1)

.

وقال السمين الحلبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تفسيره": قرأ الجمهور هذه اللفظة، سواء كانت معرّفةً بـ"أل"، أم نكرةً بفتح الصاد، والكسائيّ بكسرها في جميع القرآن، إلا قوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} فإنه وافق الجمهور، فأما الفتح، ففيه وجهان:

أشهرهما أنه أُسند الإحصان إلى غيرهنّ، وهو إما الأزواج، أو الألياء، فإن الزوج يُحصن امرأته، أي يُعفّها، والوليّ يُحصنها بالتزويج، واللَّه يُحصنها بذلك.

والثاني: أن هذا المفتوح الصاد بمنزلة المكسور، يعني أنه اسم فاعل، وإنما شذّ فتح عين اسم الفاعل في ثلاثة ألفاظ: أحصَنَ، فهو مُحصَن، وألفج، فهو مُلْفَج

(2)

، وأسهَبَ، فهو مُسْهَب.

وأما الكسر، فإنه أسند الإحصان إليهنّ؛ لأنهن يُحصِنّ أنفسهن بعفافهنّ، أو يُحصِنّ فروجهنّ بالحفظ، أو يُحصنّ أزواجهنّ.

وقد ورد الإحصان في القرآن لأربعة معان: الأول: التزوج، كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى:{مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} . الثاني: الحرّيّة، كما في قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} الآية. الثالث: الإسلام، كما في قوله تعالى؛ {فَإِذَا أُحْصِنَّ} قيل في تفسيره: أسلمن. الرابع: العفة، كما في قوله تعالى:{مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} . انتهى

(3)

.

({مِنَ النِّسَاءِ}) في محلّ نصب على الحال ({إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}) قال السيمن

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 120.

(2)

يقال: ألفج، فهو ملفَجٌ بفتح اللام: إذا أفلَسَ. "ق".

(3)

"الدر المصون في علم الكتاب المكنون" 2/ 344. بزيادة من حاشية الجمل 1/ 371.

ص: 379

الحلبي -رحمه اللَّه تعالى-: إن أريد بالإحصان هنا التزوّج كان المعنى: وحُرّمت عليكم المحصنات، أي المزوّجات، إلا النوع الذي ملكته أيمانكم، إما بالسبي، أو بملكٍ، من شراء، وهبة، وإرث، وهو قول بعض أهل العلم، ويدلّ على الأول قول الفرزدق [من الطويل]:

وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا

حَلَالٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ

يعني أن مجرّد سبائها أحلّها بعد الاستبراء.

وإن أريد به الإسلام، أو العفّةُ فالمعنى: أن المسلمات، أو العفيفات حرامٌ كلّهنّ، يعني فلا يُزنَى بهنّ، إلا ما مُلك منهنّ بتزويج، أو ملك يمين، فيكون المراد بـ"ما ملكت أيمانكم" التسلّط عليهنّ، وهو قدر مشترك، وعلى هذه الأوجه الثلاثة يكون الاستثناء متّصلًا.

وإن أريد به الحرائر، فالمراد إلا ما مُلِكَتْ بملك يمين، وعلى هذا فالاستثناء منقطع. انتهى

(1)

.

(أيْ هَذَا) النوع من النساء، وهو المستثنى المذكور (لَكُمْ حَلَالٌ) أي أحلّ لكم وطؤهنّ (إِذَا انْقَضَتْ) وفي نسخة:"مضت"(عِدَّتُهُنَّ) يعني بعدتهنّ استبراءهنّ من ماء الزوج الكافر، وهو بوضع الحمل إذا كانت حاملًا، وبحيضة، إذا كانت حائلًا، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة. أفاده النوويّ

(2)

.

وقال السنديّ: أي هذا لكم حلالٌ، أي هذا النوع، وهو ما ملكه اليمين بالسبي، لا بالشراء، كما هو المورد، والأصل، وإن كان عموم اللفظ، لا خصوص السبب، لكن قد يُخصّ بالسبب، إذا كان هناك مانع من العموم، كما هنا انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي سعيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-59/ 3334 - وفي "الكبرى"56/ 5491 أو 5492 و"التفسير" 11096

(1)

"الدر المصون في علم الكتاب المكنون" 2/ 344 - 345.

(2)

"شرح مسلم" 10/ 278.

(3)

"شرح السنديّ" 6/ 110 - 111.

ص: 380

و 11097. وأخرجه (م) في "الرضاع" 1456 (د) في "النكاح" 2155 (ت) في "النكاح" 1132 و"التفسير" 3016 و 3017 (أحمد) في "مسند المكثرين" 11388 (الدارمي) في "الطلاق" 2295. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان سبب نزول هذه الآية، وبيان المعنى المراد منها. (ومنها): أن فيه دلالة على وجوب توقّف الإنسان، وبحثه، وسؤاله عما لا يتحقّق وجهه، ولا حكمه، وهو دأب من يخاف اللَّه سبحانه وتعالى، ولا يُختَلَف في أن ما لا يتبيّن حكمه لا يجوز الإقدام عليه. قاله القرطبيّ

(1)

. (ومنها): أن فيه جواز وطء المسبيّات، إذا اسْتُبْرِئْنَ. (ومنها): أن نكاح المشركين ينفسخ إذا سُبيت زوجاتهم؛ لدخولها في ملك سابيها.

(ومنها): أن فيه دلالةً للمذهب المختار، وهو مذهب جماهير العلماء أن العرب يجري عليهم الرقّ كما يجري على العجم، وأنهم إذا كانوا مشركين، وسُبُوا، جاز استرقاقهم؛ لأن الصحابة سبوا هوازن، وهم عبدة الأوثان، وقد استرقّوهم، ووطئوا سباياهم،. وبهذا قال مالك، والشافعيّ في قوله الصحيح الجديد، وجمهور العلماء. وقال أبو حنيفة، والشافعيّ في قوله القديم: لا يَجري عليهم الرّقّ؛ لشرفهم

(2)

.

(ومنها): أن فيه دلالةً أيضًا لمذهب من أجاز وطء المشركات بملك اليمين، وإن لم تكن من أهل الكتاب. (ومنها): أن المراد بعدّة المسبيّات تحقّق براءة رحمهنّ، وذلك بوضع حملها، إن كانت حاملًا، وبحيضة إن كانت غير حامل. (ومنها): أنه لا يجوز وطء حامل مسبيّة حتى تضع، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" من طريق عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه

(3)

، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أَتَى بامرأة مُجِحٍّ

(4)

على باب فُسطاط، فقال: "لعله يُريد أن يُلِمَّ

(5)

بها؟ "، فقالوا: نعم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن ألعنه، لعنا يدخل معه قبره، كيف يُوَرِّثُهُ، وهو لا يحل له؟، كيف يستخدمه، وهو لا يحل له؟ ". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم وطء المسبيّة المشركة بملك اليمين:

(1)

"المفهم" 4/ 193.

(2)

راجع "شرح مسلم للنوويّ" 10/ 253 - 254.

(3)

هو جُبَير بن نُفَير بن مالك الحضرمي الحمصيّ من كبار التابعين، مات سنة 80 هـ.

(4)

بضم الميم، وكسر الجيم، وتشديد الحاء المهملة، بصيغة اسم الفاعل: هي الحامل القريبة الولادة.

(5)

أي يطأها.

ص: 381

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: واعلم أن مذهب الشافعيّ، ومن قال بقوله من العلماء أن المسبيّة من عَبَدة الأوثان، وغيرهم من الكفّار الذين لا كتاب لهم، لا يحلّ وطؤها بملك اليمين، حتى تُسلم، فما دامت على دينها، فهي محرّمة، وهؤلاء المسبيّات كُنّ من مشركي العرب عبدة الأوثان، فيؤوّل هذا الحديث، وشبهه على أنهنّ أسلمن، وهذا التأويل لا بدّ منه. واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

وقال الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ما حاصله: ظاهر الحديث أنه لا يشترط في جواز وطء المسبيّة الإسلام، ولو كان شرطًا لبيّنه صلى الله عليه وسلم، ولم يُبيّنه، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وذلك وقتها، ولا سيّما وفي المسلمين في يوم حنين وغيره من هو حديث عهد بالإِسلام، يخفى عليهم مثل هذا الحكم، وتجويز حصول الإسلام من جميع السبايا، وهي في غاية الكثرة بعيدٌ جدًّا، فإن إسلام مثل عدد المسبيّات في أوطاس دفعةً واحدةً، من غير إكراه لا يقول بأنه يصحّ تجويزه عاقلٌ. ومن أعظم المؤيّدات لبقاء المسبيّات على دينهنّ ما ثبت من ردّه صلى الله عليه وسلم لهنّ بعد أن جاء إليه جماعة من هوازن، وسألوه أن يردّ إليهم ما أخذ عليهم من الغنيمة، فردّ إليهم السبي فقط. وقد ذهب إلى جواز وطء المسبيّات الكافرات بعوإلاستبراء المشروع جماعة: منهم طاوس، وهو الظاهر؛ لما سلف انتهى كلام الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكره الشوكانيّ أن الأرجح قول من قال بجواز وطء المسبيات الكافرات غير الكتابيات بعد الاستبراء؛ لقوة دليله، وأن التأويل الذي ذكره النوويّ فيه بُعدٌ، وتكلّف، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): اختلف العلماء أيضًا في الأمة إذا بيعت، وهي مزوّجةٌ مسلمًا، هل ينفسخ النكاح، وتحلّ لمشتريها، أم لا؟، فقال ابن عبّاس: ينفسخ لعموم قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]. وقال سائر العلماء: لا ينفسخ، وخصّوا الآية بالمملوكة بالسبي. قال المازريّ: هذا الخلاف مبنيّ على أن العموم إذا خرج على سبب، هل يقصر على سببه، أم لا؟، فمن قال: يُقصَرُ على سببه لم يكن فيه حجة للمملوكة بالشراء؛ لأن التقدير إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي، ومن قال: لا يقصر، بل يُحمل على عمومه قال: ينفسخ نكاح المملوكة بالشراء، لكن ثبت في حديث شراء عائشة بريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خيّر بريرة في زوجها، فدلّ

(1)

"شرح مسلم" 10/ 278.

(2)

"نيل الأوطار" 6/ 326 - 327.

ص: 382

على أنه لا ينفسخ بالشراء، لكن هذا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وفي جوازه خلاف. قاله النوويّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحقّ جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، وهو الأصحّ عند الأصوليين، وهو قول الجمهور، وعليه الأئمة الأربعة، فيما حكاه ابن الحاجب، قال السيوطيّ في "الكواكب الساطع":

وَجَازَ أن يُخَصَّ فِي الصَّوَابِ

سُنَّتُهُ بِهَا وَبِالْكِتَابِ

وَهوَ بِهِ وَخَبَرِ التَّوَاتُرِ

وَخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الأَكْثَرِ

(2)

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌60 - (بَابُ الشِّغَارِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الشغار" -بمعجمتين، الأولى منهما مكسورة- قال الفيّوميّ: شَغَرَ البلدُ شُغُورًا، من باب قعد: إذا خلا عن حافظٍ يمنعه، وشَغَرَ الكلبُ شَغْرًا، من باب نَفَعَ: رفع إحدى رجليه ليبول، وشَغَرَت المرأة: رفعت رجلَها للنكاح، وشَغَرتهُا: فعلتُ بها ذلك، يتعدّى، ولا يتعدّى، وقد يتعدّى بالهمز، فيقال: أشغرتها، وشاغَرَ الرجلُ الرجلَ شِغَارًا، من باب قاتل: زوّج كلّ واحد صاحبه حَرِيمتَهُ على أن بُضْعَ كلِّ واحدة صداقُ الأخرى، ولا مهر سوى ذلك، وكان سائغًا في الجاهليّة، قيل: مأخوذٌ من شَغَرَ البلدُ، وقيل: من شَغَر برجله: إذا رفعها، والشَّغَار، وزانُ سَلَامٍ: الفارغ انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3335 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنِ الشِّغَارِ").

(1)

"شرح مسلم" 10/ 278.

(2)

راجع "الجليس الصالح النافع بتوضيح معاني الكوكب الساطع" شرحي للنظم المذكور ص 194 - 196.

(3)

"المصباح المنير" في مادة شغر.

ص: 383

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.

و"عُبيد اللَّه بن سعيد": هو أبو قُدامة السرخسيّ، الثقة الثبت. و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان البصريّ، الثقة الثبت الإمام. و"عُبيد اللَّه": هو ابن عمر العمريّ المدنّي الثقة الثبت. و"نافع": هو مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه الثقة الثبت.

وقوله: "نَهَى عَنِ الشِّغَارِ"، وفي رواية ابن وهب، عن مالك:"نهى عن نكاح الشغار"، ذكره ابن عبد البرّ، وهو مراد من حذفه. كما قاله في "الفتح"

(1)

. ومعناه: أن يُزوّج الرجل الرجلَ موليّته على أن يزوّجه الآخر موليّته، ولا صداق بينهما.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وسيأتي تمام شرحه، وبيان المسائل المتعلّة به في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى، وإنما أخّرتها تبعًا للمصنّف، حيث خصّص الباب الآتي لتفسير الشغار، فيكون إستيفاء البحث هناك أليق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3336 -

(أَخْبَرَنَا

(2)

حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَا جَلَبَ، وَلَا جَنَبَ، وَلَا شِغَارَ فِي الإِسْلَامِ، وَمَنِ انْتَهَبَ نُهْبَةً، فَلَيْسَ مِنَّا» ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حُميد بن مسعدة) بن المبارك الساميّ الباهليّ البصريّ، صدوق [10] 5/ 5.

2 -

(بشر) بن المفضّل بن لاحق، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت عابد [8] 66/ 82.

3 -

(حُميد) بن أبي حميد الطويل، أبو عبيدة البصريّ، ثقة يدلّس [5] 87/ 108.

4 -

(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصريّ، ثقة فقيه فاضل، يرسل كثيرًا [3] 32/ 36.

5 -

(عمران بن حُصين) بن عبيد بن خَلَف الخزاعيّ، أبو نُجيد الصحابي ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أسلم عام خيبر، وكان فاضلًا، وقضى بالكوفة، ومات رضي الله عنه سنة (52) بالبصرة، وتقدّم في 201/ 321 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم

(1)

"فتح" 10/ 203.

(2)

وفي نسخة: "حدثنا".

ص: 384

رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا جَلَبَ) -بفتحتين- والفعل من بابي ضرب، وقتل. قال الفيّوميّ: جَلَبتُ الشيءَ جَلْبًا، من بابي ضرب، وقتل، والْجَلَبُ -بفتحتين- فَعَلٌ بمعنى مفعول، وهو ما تجْلُبُه من بلد إلى بلد، وجَلَبَ على فرسه جَلْبًا، من باب قتل: بمعنى استحثّه للعدو بوَكْزٍ، أو صِيَاح، أو نحوه، وأجلب عليه بالألف لغة انتهى.

وقال ابن الأثير: الجَلَب يكون في شيئين: أحدهما في الزكاة، وهو أن يَقْدَم المُصَدِّقُ على أهل الزكاة، فينزلَ موضعًا، ثم يرسل مَن يجلُب إليه الأموال من أماكنها؛ ليأخذ صدقتها، فنهي عن ذلك، وأُمر أن تؤخذ صدقاتهم على مياههم، وأماكنها.

والثاني: في السباق، وهو أن يَتبَعَ الرجلُ فرسَهُ، فيزجره، ويَجلُب عليه، ويَصِيح، حثًّا له على الجري، فنهي عن ذلك

(1)

.

وقال الفيّوميّ: فُسر الجَلَب بأن ربّ الماشية لا يُكلَّفُ جَلَبَها إلى البلد ليأخذ الساعي منها الزكاة، بل تُؤخذ زكاتها عند المياه انتهى.

(وَلا جَنَبَ) -بفتحتين- والفعل من باب قعد، وقتل، يقال: جَنَبتُ الرجل الشرِّ جُنُوبًا، من باب قَعَد: أبعدتُهُ عنه، وجنّبتُهُ بالتثقيل مبالغة. والجنيبة: الفرس تُقاد، ولا تُكب، فَعِيلةٌ بمعنى مفعولة، يقال: جَنَبْتُهُ أَجْنُبُهُ، من باب قتل: إذا قُدته إلى جنبك. قاله الفيّوميّ.

وقال ابن الأثير: الْجَنَب -بالتحريك- في السباق أن يَجْنُبَ فرسًا إلى فرسه الذي يسابق عليه، فإذا فَتَرَ المركوبُ تحوّل إلى المجنوب.

وهو في الزكاة أن ينزل العامل بأقصى مواضع أصحاب الصدقة، ثم يأمر بالأموال أن تُجنَب إليه، أي تُحضَرَ، فنُهُوا عن ذلك. وقيل: أن يَجْنُبَ ربّ المال بماله، أي يُبعِده عن موضعه، حتّى يحتاج العامل إلى الإبعاد في اتباعه، وطلبه انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ: وقوله: لا جَنَبَ أي إذا كانت الماشية في الأفنية، فتُتْركُ فيها، ولا تُخرَجُ إلى المرعى ليَخرُج الساعي لأخذ الزكاة؛ لما فيه من المشقّة، فأَمَرَ بالرفق من

(1)

"النهاية" 1/ 280.

(2)

"النهاية" 1/ 303.

ص: 385

الجانبين. وقيل: معنى "ولا جَنَبَ" أي لا يَجْنُبُ أحدٌ فَرَسًا إلى جانبه في السباق، فإذا قَرُب من الغاية انتقل إليها، فيَسْبِقُ صاحبه. وقيل: غير ذلك انتهى.

(وَلا شِغَارَ) بكسر الشين المعجمة، سيأتي تفسيره في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى. وتعبيره بـ"لا" النافية للجنس، يدلّ على أن النهي في قوله:"نهى عن الشغار" محمول على عدم المشروعيّة أصلًا. قال السنديّ: وعليه اتفاق الفقهاء انتهى

(1)

.

وقوله (فِي الإِسْلَامِ) الظاهر أنه قيد لكلِّ من الْجَلَب، والْجَنَب، والشغار. ويحتمل أن يكون قيدًا للأخير

(2)

. واللَّه تعالى أعلم.

(وَمَنِ انْتَهَبَ) أي سَلَبَ، واختلس، وأخذ قهرًا (نُهْبَةٌ) بالفتح مصدر نَهَب، وبالضمّ اسم منه، يقال: نَهبَهُ نَهْبًا، كجَعَل، وَسَمِعَ، وكَتَبَ: أخذه، كانتهبه، والاسم النُّهْبةُ، والنُّهبَى، والنُّهَيْبَى، بضمّهنّ، والنُّهّيْبَى، كسُمَّيْهَى. قاله في "القاموس". وقال الفيّوميّ: والنُّهْبةُ مثالُ غُرْفَة، والنُّهبى بزيادة ألف التأنيث: اسمٌ للمنهوب انتهى.

فعلى هذا يُعرب مفعولًا به لـ "انتهب"، وعلى الأوّل يكون مفعولًا مطلقًا، والمفعول به مقدّرٌ: أي مالًا. واللَّه تعالى أعلم.

(فَلَيْسَ منَّا) أي ليس من المطيعين لأمرنا، أو ليس من جماعتنا، وعلى طريقتنا، وسنّتنا، وظاهر الحديث أنه ليس من المؤمنين أصلًا، فإن كان مُسْتَحِلاًّ، فلا إشكال، لأن استحلال ما حرّمه اللَّه تعالى مع العدم به، يكون ارتدادًا عن الإسلام، وإلا فلا بدّ من تأويله بنحو ما ذكرناه؛ لإجماع أهل السنَّة على أن مرتكب الذنوب غير الشرك تحت المشيئة، فليُتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عمران بن حُصين - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، والجمهور على أن الحسن لم يسمع من عمران بن حصين - رضي اللَّه تعالى عنهما -

(3)

، وأيضًا هو مدلّسٌ؟.

[قلت]: لم ينفرد به الحسن، بل تابعه فيه محمد بن سيرين، فقد أخرجه أحمد في "مسنده"، فقال:

(1)

"شرح السنديّ" 6/ 111.

(2)

راجع "تحفة الأحوذيّ" 4/ 270.

(3)

راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" 1/ 388 - 391.

ص: 386

حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رَبَاح، عن معمر، عن ابن سيرين، عن عمران بن حصين، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"لا شغار في الإسلام".

ومحمد بن سيرين، وإن قال الدارقطنيّ: لم يسمع من عمران

(1)

، إلا أنه لم يوصف بالتدليس، وأيضًا، فإن للحديث شواهدَ من حديث أنس رضي الله عنه، كما في الحديث التالي وإن كان فيه ضعف، على ما سيأتي، ومن حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - عند أحمد، قال:

حدثنا قُراد أبو نوح، أخبرنا عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا جلب، ولا جنب، ولا شغار في الإسلام".

وهذا إسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.

والحاصل أن حديث عمران - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-60/ 3336 و"الخيل" 15/ 3591 و 16/ 3592 - وفي "الكبرى" 57/ 5495 و"الخيل " 15/ 4431 و 16/ 4432. وأخرجه (د) في "الجهاد" 2581 (ت) في "النكاح" 1123 (ق) في "الفتن" 3937 (أحمد) في "مسند البصريين" 19354 و 19485. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تحريم نكاح الشِّغَار، وسيأتي بيان اختلاف العلماء فيه في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): تحريم الجلب- باللام-، سواء فُسِّر بالجلب في الزكاة، أو في السباق، على ما سبق توضيحه. (ومنها): تحريم الجنب -بالنون- في الزكاة، أو في السباق، على ما سبق توضيحه أيضًا. (ومنها): عناية الشارع بسدّ أبواب الأمور التي يأتي بها إلحاق الضرر بالأمة، فإن هذه الأشياء إذا تأمّلناها عرفنا أن سبب النهي عنها هو إلحاق الضرر بالآخرين، كما لا يخفى على ذي بصيرة، فما ألطف حكمة الشارع الحكيم، وأحكمها، {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3337 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ الْفَزَارِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا جَلَبَ، وَلَا جَنَبَ، وَلَا شِغَارَ فِي الإِسْلَامِ»).

(1)

راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" 3/ 587.

ص: 387

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ، وَالصَّوَابُ حَدِيثُ بِشْرٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عليّ بن محمد بن عليّ" بن أبي المضاء المِصِّيصيّ القاضي، ثقة [11] 83/ 2415.

و"محمد بن كثير" بن أبي عطاء الثقفيّ الصنعانيّ، أبو يوسف، نزيل المِصِّيصة، صدوقٌ، كثير الغلط، من صغار [9] 46/ 2256.

و"الفَزَاريّ": إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة الإمام أبو إسحاق المصّيصيّ، ثقة حافظ، له تصانيف [8] 58/ 863.

و"حميد": هو الطويل المذكور في السند السابق.

وشرح الحديث تقدّم في الذي قبله، وهو حديث ضعيف، وإنما الصحيح حديث عمران رضي الله عنه المتقدِّم.

ثم إن حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-60/ 3337 - وفي "الكبرى" 57/ 5496. وأخرجه (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 12247 و12620. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (قَالَ: أَبو عَبْد الرَّحْمَنِ) النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- (هَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ) أي هذا الحديث بهذا السند خطأ فاحشٌ (وَالصَّوَابُ حَدِيثُ بِشْرٍ) يعني ابن المفضّل الذي تقدّم قبله. أراد -رحمه اللَّه تعالى- أن رواية محمد بن كثير، من طريق الفزاريّ، عن حميد، عن أنس غلطٌ؛ لأنه خالف فيه بشر المفضّل، حيث جعله عن حميد عن الحسن البصريّ، عن عمران، وهو أوثق منه، وأحفظ بالإجماع، فقد قال عنه أحمد بن حنبل: إليه المنتهى في التثبّت بالبصرة، وعدّه ابن معين في أثبات شيوخ البصريين، وكذا أثنى عليه غيرهما

(1)

، بخلاف محمد بن كثير، فقد ضعّفه الكثيرون، فقد ضعّفه أحمد جدًّا، وقال: منكر الحديث. وقال البخاريّ: لينٌ جدًّا. وكذا ضعفه غيرهم، ووثقه بعضهم

(2)

.

وأيضًا قد تابع بشرًا حمادُ بن سلمة، والحارثُ بن عمير، وأبو قزعة، كلهم عن حميد، عن الحسن، عن عمران بن حصين - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

فقد رواه أحمد في "مسنده" 4/ 443 عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن به. ورواه 4/ 439 عن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، عن الحارث بن عمير، عن حميد، عن الحسن، به. ورواه 4/ 429 عن غندر، عن شعبة، عن أبي قزعة

(3)

، عن الحسن به.

(1)

راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" 1/ 231 - 232.

(2)

راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" 3/ 682 - 683.

(3)

اسمه سويد حُجير الباهليّ البصريّ وهو ثقة.

ص: 388

[فإن قلت]: أيضًا لم يتفرّد محمد بن كثير بهذا، فقد رواه معمر، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه، أخرجه أحمد 3/ 162 و 165 و 197 وابن ماجه (1885) وابن حبّان في "صحيحه"(4154)، فهلا يصحّ بذلك؟.

[قلت]: رواية معمر قد أعلّها الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى-، فقد ذكر الحافظ ابن رجب -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح علل الترمذيّ"، فقال: وقد كان بعض المدلّسين، يسمع الحديث من ضعيف، فيرويه عنه، ويدلّسه معه عن ثقة، لم يسمعه منه، فيُظنّ أنه سمعه منهما، كما روى معمر عن ثابت، وأبان، وغير واحد

(1)

، عن أنس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه نهى عن الشغار". قال أحمد: هذا عمل أبان. يعني أنه حديث أبان، وإنما معمر، يعني دلّسه. ذكره الخلّال، عن هلال بن العلاء الرقّيّ، عن أحمد انتهى

(2)

.

فتبيّن بهذا أن رواية معمر غير صحيحة، فلا تقوّي رواية محمد بن كثير.

والحاصل أن الحديث صحيح من مسند عمران بن حُصين - رضي اللَّه تعالى عنهما -، لا من مسند أنس رضي الله عنه

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌61 - (تَفْسِيرُ الشِّغَارِ)

3338 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، ح وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: مَالِكٌ حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ

(1)

أخرجه أحمد في "مسنده" 3/ 165 - رقم 12275 - فقال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن ثابت، وأبان، وغير واحد، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا شغار في الإسلام".

(2)

انظر "شرح علل الترمذيّ" 2/ 865 تحقيق الدكتور همام عبد الرحيم سعيد.

(3)

وقد صحح الشيخ الألباني الحديث من رواية أنس أيضًا، نظرًا لظاهر الإسناد، قال: وإسناده صحيح على شرط الشيخين، راجع "إرواء الغليل" 6/ 305 - 307. لكن قد عرفت أن المصنّف ضعف رواية محمد بن كثير، وضعّف أحمد رواية معمر، فلا يستقيم التصحيح، وإنما الحديث لعمران بن حصين - رضي اللَّه تعالى عنهما -، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 389

الرَّجُلَ ابْنَتَهُ، عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هارون بن عبد اللَّه) الحمال، أبو موسى البغداديّ الحافظ، ثقة [10] 50/ 62.

2 -

(الحارث بن مسكين) القاضي المصريّ، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

3 -

(معن) بن عيسى القزّاز المدنيّ، ثقة ثبت، من كبار [10] 50/ 62.

4 -

(ابن القاسم) عبد الرحمن العُتَقيّ المصريّ الفقيه، صاحب مالك، ثقة، من كبار [10] 19/ 20.

5 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7] 7/ 7.

6 -

(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.

7 -

(ابن عمر) - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخيه، فالأول بغداديّ، والثاني مصريّ، وكذا ابن القاسم. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ الشِّغَارِ) قال النوويّ؛ قال العلماء: الشغار -بكسر الشين المعجمة، وبالغين المعجمة- أصله في اللغة الرفع، يقال: شَغَرَ الكلبُ إذا رفع رجله ليبول، كأنه قال: لا ترفع رجل بنتي حتى أرفع رجل بنتك انتهى. وقال صاحب "النهاية": قيل له: شغار؛ لارتفاع المهر بينهما، من شغر الكلب: إذا رفع إحدى رجليه ليبول انتهى.

وقال الخطّابيّ: وقال بعضهم: أصل الشغر في اللغة الرفع، يقال: شغر الكلب برجله: إذا رفعها عند البول، قال: فإنما سمي هذا النكاح شغارًا لأنهما رفعا المهر بينهما. قال: وهذا القائل لا ينفصل ممن قال، بل سُمِّي شغارًا لأنه رُفِع العقدُ من أصله، فارتفع النكاح، والمهر معًا، ويبيّن لك أن النهي قد انطوى على الأمرين معًا، أن البدل هنا ليس شيئًا غير العقد، ولا العقد شيئًا غير البدل، فهو إذا فسد مهرًا فسد عقدًا، وإذا أبطلته الشريعة، فإنما أفسدته على الجهة التي كانوا يوقعونه، وكانوا يوقعونه مهرًا

ص: 390

وعقدًا، فوجب أن يفسدا معًا انتهى

(1)

.

قال الحافظ وليّ الدين: فهذه ثلاثة أقوال على تفسير الشغار بالرفع، قال الرافعيّ: وفي بعض الشروح أن الكلب إذا كان يبول حيث يصل من غير مبالاة، قيل: شغر الكلب برجله، فسُمي شغارًا؛ لعدم المبالاة فيه بالمهر. وقال ابن عبد البرّ: للشغار في اللغة معنى لا مدخل لذكره هنا، وذلك أنه مأخوذ عندهم من شغر الكلب: إذا رفع رجله ليبول، وذلك زعموا ألا يكون منه إلا بعد مفارقة حال الصغر على حال يمكن فيها طلب الوثوب على الأنثى للنسل، وهو عندهم للكلب إذا فعله علامة بلوغه إلى حال الاحتلام من الرجال، ولا يرفع رجله للبول إلا وهو قد بلغ ذلك المبلغ، يقال منه: شغر الكلب إذا رفع رجله، فبال، أم لم يبُل، ويقال: شَغَرتُ المرأةَ أشغرها شَغْرًا: إذا رفعت رجلها للنكاح انتهى.

ثم قال النوويّ، وقيل: هو من شغر الكلب، إذا خلا لخلوّه عن الصداق انتهى. قال الرافعيّ، ويقال لخلوّه عن بعض الشروط، وقال صاحب "النهاية" بعد كلامه المتقدّم. وقيل: الشغر البعد. وقيل: الاتساع انتهى.

فهذه ثلاثة أقوال غير ما تقدّم، وهي الخلوّ، والبعد، والاتساع. وعبّر القاضي عياض في "المشارق" بقوله: وقيل: من رَفْع الصداق فيه، وبُعْده منه انتهى. وهذا يقتضي رجوع البعد إلى المعنى المشهور، وهو الرفع. واللَّه أعلم انتهى كلام وليّ الدين

(2)

.

(وَالشِّغَارُ) هذا التفسير مدرج من قول نافع، كما سيأتي تحقيقه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى، وهو مبتدأ، خبره قوله (أَنْ يُزَوّجَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ) ليس ذكر البنت قيدًا في هذا، بل غيرها من الأخوات، والعمات، ونحوها كذلك، كما هو في حديث أبي هريرة الآتي بعد هذا. قال النوويّ في "شرح مسلم": أجمعوا على أن غير البنات من الأخوات، وبنات الأخ، والعمّات، وبنات الأعمام، والإماء كالبنات في هذا. وصورته الواضحة: زوّجتك بنتي على أن تزوّجني بنتك، ويضع كلّ واحدة صداقًا للأخرى، فيقول: قَبِلتُ. انتهى

(3)

.

(وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ) أي بل صداق كلّ واحدة منهما هو بضع الأخرى.

وهذا النهي محمول على عدم المشروعية بالاتفاق، ثم إن الجمهور قالوا: لا ينعقد أصلًا، وقال الحنفيّة: ينعقد، ويلزم فيه مهر المثل، وبه يخرج عن كونه شغارًا. والحقّ

(1)

"معالم السنن" 3/ 20 - 21.

(2)

"طرح التثريب" 7/ 28 - 29.

(3)

"شرح صحيح مسلم" 10/ 204 - 205.

ص: 391

ما ذهب إليه الجمهور، وسيأتي مزيد تحقيق لذلك في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-60/ 3335 و 61/ 3338 - وفي "الكبرى" 57/ 5493 و 58/ 5497. وأخرجه (خ) في "النكاح" 5112 (م) في "النكاح" 1415 (د) "النكاح" 2074 (ت) "النكاح" 1124 (ق) "النكاح" 1883 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4512 و 4678 و 4899 و 5267 و 5622 (الموطأ) في "النكاح" 1134 (الدارمي) في "النكاح" 2180. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: ظاهر الحديث أن تفسير الشغار من تَتِمّة المرفوع، وقد أخرجه الشيخان، وغيرهما من طريق عبيد اللَّه بن عمر، وفيه:"قلت لنافع: ما الشغار؟ قال: يَنكِح ابنة الرجل، ويُنكحه ابنته بغير صداق، وينكح أخت الرجل، ويُنكحه أخته بغير صداق".

فيكون مدرجًا في رواية مالك. وقال الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-: لا أدري تفسير الشغار في الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو من ابن عمر، أو من نافع، أو من مالك؟، حكاه عنه البيهقيّ في "المعرفة". وقال الرافعيّ: قال الأئمة: وهذا التفسير يجوز أن يكون مرفوعًا، ويجوز أن يكون من عند ابن عمر انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قال ابن عبد البرّ: ذكر تفسير الشغار جميع رواة مالك عنه انتهى.

قال الحافظ: ولا يَرِدُ على إطلاقه أن أبا داود، أخرجه عن القعنبيّ، فلم يذكر التفسير. وكذا أخرجه الترمذيّ من طريق معن بن عيسى؛ لأنهما اختصرا ذلك في تصنيفهما، وإلا فقد أخرجه النسائيّ من طريق معن بالتفسير. وكذا أخرجه الخطيب في "المدرج" من طريق القعنبيّ.

نعم اختَلَفَ الرواة عن مالك فيمن يُنسب إليه تفسير الشغار، فالأكثر لم ينسبوه لأحد، ولهذا قال الشافعيّ فيما حكاه في "المعرفة": لا أدري التفسير عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو

(1)

"طرح التثريب" 7/ 21 - 22.

ص: 392

عن ابن عمر، أو عن نافع، أو عن مالك، ونسبه محرز بن عون، وغيره لمالك. قال الخطيب: تفسير الشغار ليس من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما هو قول مالك وُصل بالمتن المرفوع، وقد بين ذلك ابن مهديّ، والقعنبيّ، ومحرز بن عون، ثم ساقه كذلك عنهم، ورواية محرز بن عون عند الإسماعيليّ، والدارقطنيّ في "الموطّآت"، وأخرجه الدارقطنيّ أيضًا من طريق خالد بن مخلد، عن مالك، قال: سمعت أن الشغار أن يتزوّج الرجل إلخ، وهذا دالّ على أن التفسير من منقوله لا من مقوله. ووقع عند البخاريّ في "ترك الحيل" من طريق عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع في هذا الحديث تفسير الشغار من قول نافع، ولفظه "قال عبيد اللَّه بن عمر: قلت لنافع: ما الشغار؟ فذكره"، فلعل مالكًا أيضًا نقله عن نافع.

وقال أبو الوليد الباجيّ: الظاهر أنه من جملة الحديث، وعليه يحمل حتى يتبيّن أنه من قول الراوي، وهو نافع.

قال الحافظ: قد تبيّن ذلك، ولكن لا يلزم من كونه لم يرفعه أن لا يكون في نفس الأمر مرفوعًا، فقد ثبت ذلك من غير روايته، فعند مسلم من رواية أبي أسامة، وابن نُمير عن عبيد اللَّه بن عمر أيضًا عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مثله سواء، قال: وزاد ابن نُمير: "والشغار أن يقول الرجل للرجل: زوَّجني ابنتك، وأُزوّجك ابنتي، وزوّجني أختك، وأزوّجك أختي". وهذا يحتمل أن يكون من كلام عبيد اللَّه بن عمر، فيرجع إلى نافع. ويحتمل أن يكون تلقّاه عن أبي الزناد، ويؤيّد الاحتمال الثاني وروده في حديث أنس، وجابر، وغيرهما أيضًا، فأخرج عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت، وأبان، عن أنس مرفوعًا:"لا شغار في الإسلام، والشغار أن يزوّج الرجل الرجل أخته بأخته". وروى البيهقيّ من طريق نافع بن يزيد، عن ابن جُريج، عن أبي الزبير، عن جابر، مرفوعًا:"نُهى عن الشغار، والشغار أن يَنكح هذه بهذه بغير صداق، بُضْعُ هذه صداق هذه، وبُضع هذه صداقِ هذه". وأخرج أبو الشيخ في "كتاب النكاح" من حديث أبي ريحانة: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن المشاغرة، والمشاغرة أن يقول: زوّج هذا من هذه، وهذه من هذا بلا مهر".

قال القرطبيّ: تفسير الشغار صحيح موافق لما ذكره أهل اللغة، فإن كان هذا مرفوعًا فهو المقصود، وإن كان من قول الصحابيّ، فمقبولٌ أيضًا؛ لأنه أعلم بالمقال، وأقعد بالحال انتهى

(1)

.

(1)

"فتح" 10/ 203 - 204.

ص: 393

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم، هل يُشترط في الشغار ما اقتضاه ظاهر الحديث من مراعاة الوصفين المذكورين، أم لا؟:

(اعلم): أنهم اختلفوا هل يُعتبر في الشغار الممنوع ظاهر الحديث في تفسيره، فإن فيه وصفين: أحدهما: تزويج كلّ من الوليين وليّته للآخر بشرط أن يُزوّجه وليّته.

والثاني: خلوّ بُضع كلّ منهما من الصداق، فمنهم من اعتبرهما معًا، حتى لا يمنع مثلًا إذا زوّج كلّ منهما الآخر بغير شرط، وإن لم يذكر الصداق، أو زوّج كلّ منهما الآخر بالشرط، وذكر الصداق.

وذهب أكثر الشافعيّة إلى أن علّة النهي الاشتراك في البضع؛ لأن بضع كلّ منهما يصير مورد العقد، وجعل البضع صداقًا مخالفٌ لإيراد عقد النكاح، وليس المقتضي للبطلان ترك ذكر الصداق؛ لأن النكاح يصحّ بدون تسمية الصداق. واختلفوا فيما إذا لم يصرّحا بذكر البضع، فالأصحّ عندهم الصحّة، ولكن وُجد نصّ الشافعيّ على خلافه، ولفظه: إذا زوّج الرجل ابنته، أو المرأة يلي أمرها، من كانت لآخر على أن صداق كلّ واحدة بضع الأخرى، أو على أن يُنكحه الأخرى، ولم يُسمّ أحدٌ منهما لواحدة منهما صداقًا، فهذا الشغار الذي نهى عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو منسوخٌ. هكذا ساقه البيهقيّ بإسناده الصحيح عن الشافعيّ. قال: وهو الموافق للتفسير المنقول في الحديث. واختَلَف نصّ الشافعيّ فيما إذا سمّى مع ذلك مهرًا، فنصّ في "الإملاء" على البطلان، وظاهر نصّه في "المختصر" الصّحّة، وعلى ذلك اقتصر في النقل عن الشافعيّ من ينقل الخلاف من أهل المذاهب.

وقال القفّال: العلّة في البطلان التعليق، والتوقيف، فكأنه يقول: لا ينعقد نكاح بنتي حتى ينعقد لي نكاح بنتك. وقال الخطّابيّ: كان ابن أبي هريرة يشبّهه برجل تزوّج امرأة، واستثنى عضوًا من أعضائها، وهو مما لا خلاف في فساده. وتقرير ذلك أنه يزوّج وليّته، ويستثني بُضعها حيث يجعله صداقًا للأخرى. وقال الغزاليّ في "الوسيط": صورته الكاملة أن يقول: زوّجتك ابنتي على أن تزوّجني ابنتك، على أن يكون بُضع كلّ واحدة منهما صداقًا للأخرى، ومهما انعقد نكاح ابنتي انعقد نكاح ابنتك. قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ" ينبغي أن يُزاد: ولا يكون مع البضع شيء آخر، ليكون متّفقًا على تحريمه في المذهب.

ونقل الخِرَقيّ أن أحمد نصّ على أن علّة البطلان ترك ذكر المهر، ورجّح ابن تيميّة

ص: 394

في "المحرّر" أن العلّة التشريك في البضع. وقال ابن دقيق العيد: ما نصّ عليه أحمد هو ظاهر التفسير المذكورة في الحديث لقوله فيه: ولا صداق بينهما، فإنه يشعر بأن جهة الفساد ذلك، وإن كان يحتمل أن يكون ذلك ذكر لملازمته لجهة الفساد، ثم قال: وعلى الجملة ففيه شعور بأن عدم الصداق له مدخل في النهي، ويؤيّده حديث أبي ريحانة الذي ذكره انتهى

(1)

.

وقال العلامة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: قال الإمام أحمد: الشغار الباطل أن يزوّجه وليّته على أن يزوّجه الآخر وليّته، ولا مهر بينهما على حديث ابن عمر، فإن سمّوا مع ذلك مهرًا صحّ العقد بالمسمّى عنده. وقال الخرقيّ: لا يصحّ، ولو سمّوا مهرًا على حديث معاوية. وقال أبو البركات ابن تيميّة، وغيره من أصحاب أحمد: إن سمّوا مهرًا، وقالوا مع ذلك: بُضع كلّ واحدة مهر الأخرى لم يصحّ، وإن لم يقولوا ذلك صحّ. واختُلف في علّة النهي، فقيل: هي جعل كلّ واحد من العقدين شرطًا في الآخر. وقيل: العلّة التشريك في البضع، وجعلُ بُضع كلّ واحدة مهرًا للأخرى، وهي لا تنتفع به، فلم يرجع إليها المهر، بل عاد المهر إلى الوليّ، وهو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليّته، وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين، وإخلاء لنكاحهما عن مهر تنتفع به، وهذا هو الموافق للغة العرب، فإنهم يقولون: بلدٌ شاغر من أمير، ودارٌ شاغرةٌ من أهلها: إذا خلت، وشغَرَ الكلب: إذا رفع رجله، وأخلى مكانها، فإذا سمّوا مهرًا مع ذلك زال المحذور، ولم يبق إلا اشتراط كلّ واحد على الآخر شرطًا لا يؤثّر في فساد العقد، فهذا منصوص أحمد.

وأما من فرّق، فقال: إن قالوا مع التسمية: إن بُضع كلّ واحدة مهرٌ للأخرى فسد؛ لأنها لم يرجع إليها مهرها، وصار بضعها لغير المستحقّ، وإن لم يقولوا ذلك صحّ، والذي يجيء على أصله أنهم متى عقدوا على ذلك، وإن لم يقولوه بألسنتهم أنه لا يصحّ؛ لأن القصود في العقود معتبرةٌ، والمشروط عرفًا كالمشروط لفظًا، فيبطل العقد بشرط ذلك، والتواطىءِ عليه ونيّته، فإن سُمّي لكلّ واحدة مهر مثلها صحّ، وبهذا تظهر حكمة النهي، واتفاق الأحاديث في هذا الباب انتهى كلام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- أرجح؛ لأنه أقرب إلى ظاهر الحديث؛ لأن تفسير الشغار المذكور، إن كان مرفوعًا فواضحٌ، وإلا فتفسير الصحابيّ، أو الراوي أقرب؛ لأنه من أهل اللغة، وأفهم بمقاصد الشريعة.

(1)

راجع "الفتح" 10/ 204.

(2)

"زاد المعاد في هدي خير العباد" 5/ 108 - 109.

ص: 395

والحاصل أن الشغار لا يكون شغارًا محرّمًا إلا إذا خلا عن ذكر المهر، فإن ذُكر المهر، جاز، اللَّهمّ إلا أن يترتّب عليه محظورٌ، وذلك بأن يشترط على أنه إذا حصل شقاقُ إحدى المرأتين مع زوجها، ففارقها انتُزعت الأخرى قهرًا بسبب ذلك، كما يُفعل في بعض البلدان، فلا يجوز؛ لإلحاق الضرر بالثانية؛ وقد صحّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا ضرر، ولا ضرار". رواه أحمد

(1)

.

[فإن قلت]: أخرج أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح، من طريق ابن سحاق، حدّثني عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج، أن العبّاس بن عبد اللَّه بن العباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وكانا جعلا صداقًا، فكتب معاوية إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

فقد أوضح معاوية رضي الله عنه فيه أن الشغار يشمل أيضًا ما سُمّي فيه المهر، قال ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-: فهذا معاوية بحضرة الصحابة، لا يُعرف له منهم مخالف، يَفسَخ هذا النكاح، وإن ذكرا فيه الصداق. انتهى.

(2)

.

[قلت]: هذا فهم معاوية رضي الله عنه في حمل الشغار على ما يشمل الصورة المذكور في هذا الحديث، وقد تقدّم أن غيره خالفه في ذلك، ففسّروا الشغار بما اشتمل على وصفين: اشتراط كلّ منهما على الآخر أن يزوّجه موليّته، والخلوّ من ذكر الصداق، فهذا الحمل إن كان مرفوعًا، فواضح، وإن كان موقوفًا، فالقائلون به أكثر. وأما قول ابن حزم: فهذا معاوية بحضرة الصحابة، لا يعرف له منهم مخالف الخ، ففيه نظر لا يخفى، فمن أين له أنه قال ذلك بحضرة الصحابة؟، ومن أين عرف عدم مخالفتهم له؟، وقد تقدّم أن تفسير الشغار بما تقدّم وقع في حديث ابن عمر، وأبي هريرة، وأنس، وجابر، وأبي ريحانة - رضي اللَّه تعالى عنهم -. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم نكاح الشِّغَار:

أجمعوا على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحّته، فالجمهور على البطلان. وفي رواية عن مالك يفسخ قبل الدخول، لا بعده. وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعيّ. وذهب الحنفيّة إلى صحّته، ووجوب مهرب المثل، وهو قول الزهريّ، ومكحول، والثوريّ، والليث، ورواية عن أحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وهو قول على

(1)

"مسند أحمد" 22272 و 2862.

(2)

"المحلّى" 9/ 516.

ص: 396

مذهب الشافعيّ؛ لاختلاف الجهة.

لكن قال الشافعيّ: إن النساء محرّمات إلا ما أحلّ اللَّه، أو ملك يمين، فإذا ورد النهي عن نكاح تأكد التحريم. قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور من بطلان نكاح الشغار هو الحقّ؛ لما ذكره الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- آنفًا، من أن الأصل في النساء التحريم، فلا يحلّ منهن إلا ما أحلّه الشارع، فإذا ورد نهي في نوع من النكاح، كالشغار المذكور ازداد التحريم تأكُّدًا، فتبصّر، ولا تتحيّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

3339 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ

(2)

، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الشِّغَارِ.

قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَالشِّغَارُ كَانَ الرَّجُلُ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ

(3)

، عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ أُخْتَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن إسماعيل بن إبراهيم": هو الحافظ الثقة المعروف أبوه بـ"ابن عُليّة".

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى" محمد بن إبراهيم"، والظاهر أنه سقط منه لفظ "ابن إسماعيل"، ولا يقال: إنه نُسب إلى جدّه؛ لأنه لم يشتهر بذلك، بل يكون سقط من النسخ غلطًا، وقد ذكره الحافظ المزّيّ على الصواب في "تحفة الأشراف" 10/ 186. واللَّه تعالى أعلم.

و"عبد الرحمن بن محمد بن سلام" -بتشديد اللام-: هو أبو القاسم البغداديّ، ثم الطوسيّ، لا بأس به [11] 172/ 1141.

و"إسحاق الأزرق": هو ابن يوسف الواسطيّ، ثقة [9] 22/ 489. و"عبيد اللَّه": هو ابن عمر العمريّ المتقدّم في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسأله الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

(1)

"فتح" 10/ 204 - 205.

(2)

ووقع في بعض النسخ "عبد اللَّه" مكبّرًا، وهو تصحيفٌ فاحشٌ، فتنبّه.

(3)

وفي نسخة: "كان يزوّج الرجل ابنته".

ص: 397

أخرجه هنا-61/ 3339 - ولم يذكره في "الكبرى". وأخرجه (م) في "النكاح" 1416 (ق) في "النكاح" 1884 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين"7784. واللَّه تعالى أعلم.

وتقدّم شرح الحديث، وذكر بقيّة المسائل في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌62 - (بَابُ التَّزْوِيجِ عَلَى سُوَرٍ مِنَ الْقُرْآنِ)

أي هذا باب ذكر الحديث الدَّالّ على مشروعيّة التزويج على تعليم القرآن، وأراد به ترجيح مذهب القائلين بجواز ذلك.

قال النوويّ في شرح مسلم: في هذا الحديث دليلٌ على جواز كون الصداق تعليم القرآن، وجواز الاستئجار لتعليم القرآن، وكلاهما جائزان عند الشافعيّ، وبه قال عطاء، والحسن بن صالح، ومالك، وإسحاق، وغيرهم.

ومنعه جماعة، منهم: الزهريّ، وأبو حنيفة، وهذا الحديث مع الحديث الصحيح:"إن أحقّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب اللَّه" يردّان قول من منع ذلك. ونقل القاضي عياض جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن العلماء كافّةً، سوى أبي حنيفة انتهى كلام النوويّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحقّ هو ما ذهب إليه الأولون القائلون بجواز كون الصداق تعليم القرآن، عملًا بظاهر حديث الباب، وقد تقدّم المسألة مستوفاة في - 1/ 3201 - فراجعها تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

3340 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، جِئْتُ لأَهَبَ نَفْسِي لَكَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا، وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ

(1)

"شرح مسلم" 10/ 217.

ص: 398

بِهَا حَاجَةٌ، فَزَوِّجْنِيهَا، قَالَ:«هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟» ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، فَقَالَ:«انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» ، فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي، قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ، فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ، إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ» ، فَجَلَسَ الرَّجُلُ، حَتَّى طَالَ مَجْلِسُهُ، ثُمَّ قَامَ، فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ، فَدُعِيَ، فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ:«مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟» ، قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّدَهَا

(1)

، فَقَالَ:«هَلْ تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ؟»

(2)

، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:«مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

و"يعقوب": هو ابن عبد الرحمن القاريّ المدنيّ، نزيل الإسكندريّة [8]. و"أبو حازم": هو سلمة بن دينار التمّار الأعرج المدنيّ [5].

والسند من رباعيّات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (167) من رباعيات الكتاب، وهو أعلى الأسانيد له، كما تقدّم غير مرّة.

وقوله: "فصعّد" بتشديد العين المهملة: أي رفع. وقوله: "وصوّب" بتشديد الواو: أي خفض، يعني أنه بعد أن وهبت له نفسها نظر إلى أعلاها، وأسفلها، يتأمّها، هل تصلح له، أم لا؟.

وقوله: "لم يقض فيها شيئًا" من قبول، واختيار، أو ردّ صريح لترجع. وقوله:"إن لم تكن الخ" هذا من حسن أدب ذلك الصحابيّ، حيث يخاطبه صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الأسلوب. وقوله:"قال سهل: ما له رداء" هذه جملة معترضة في البين لبيان أنه ما كان عنده إلا إزار واحدٌ، وما كان عنده رداء، ولذلك ردّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بما ردّ به. وقوله:"فلها نصفه" متعلّقٌ بقوله: "هذا إزاري". وقوله: "مولّيَا" من ولي ظهره بالتشديد: أي أدبر.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله في - 1/ 3201 - فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

وفي نسخة: "أعادها"، والظاهر أنه تصحيف.

(2)

وفي نسخة: "قلبك".

ص: 399

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، - عفا اللَّه تعالى عنه - وعن والديه ومشايخه آمين: قد انتهيت من كتابة الجزء السابع والعشرين من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى-، المسمّى "ذخيرةَ العُقبَى في شرح المجتبى"، أو "غاية المنى في شرح المجتنى".

وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، في مكة المكرمة زادها اللَّه تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني من خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأَعْظِمْ به تكريمَا.

وأخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة اللَّه، وبركاته".

ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الثامن والعشرون مفتتحًا بالباب 63 "التزويج على الإسلام" الحديث رقم 3341.

"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

ص: 400