الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح سنن النسائي
المسمَّى
ذخيرة العقبى في شرح المجتبى
لجامعه الفقير إلى مولاه الغتي القدير
محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الأيتوبي الوَلَّوي
المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة
عفا اللَّه عنه وعن والديه آمين
الجزء السابع والعشرون
دار آل بروم للنشر والتوزيع
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1424هـ - 2003م
دار آل بروم للنشر والتوزيع
المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم
ص ب: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوّال 055541026)
شرح سنن النسائي
بسم الله الرحمن الرحيم
63 - (التَّزْوِيجِ عَلَى الإِسْلَامِ)
3341 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: تَزَوَّجَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ، فَكَانَ صَدَاقُ مَا بَيْنَهُمَا الإِسْلَامَ، أَسْلَمَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ، قَبْلَ أَبِي طَلْحَةَ، فَخَطَبَهَا، فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، فَإِنْ أَسْلَمْتَ نَكَحْتُكَ، فَأَسْلَمَ، فَكَانَ صَدَاقَ مَا بَيْنَهُمَا).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(محمد بن موسى) الْفِطْريّ المدنيّ، صدوقٌ رُمي بالتشيّع [7] 1/ 1600.
3 -
(عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبي طلحة) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، أخو إسحاق، ثقة [4].
قال إبراهيم بن الجنيد، عن ابن معين: إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، وأخواه: إسماعيل، وعبد اللَّه ثقات. وقال أبو زرعة، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. ووثقه العجليّ. وذكره ابن حبّان في "الثقات". قال الواقديّ: مات سنة (134هـ) وكان أصغر من أخيه إسحاق. روى له مسلم، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان، هذا، وفي "كتاب الزينة" حديث رقم 117/ 5372.
4 -
(أنس) بن مالك الأنصاريّ الخادم - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، كالإسناد الماضي في الباب الذي قبله، وهو (168) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، نسبة إلى بَغْلان، قرية من قُرى بَلْخ، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَنَسٍ) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: تَزَوَّجَ أَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل ابن الأسود بن حَرَام الأنصاريّ النّجّاريّ، مشهور بكنيته، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، شهد بدرًا، وما بعدها، ومات رضي الله عنه سنة (34) وقال أبو زرعة الدمشقيّ: عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم -
أربعين سنة، روى له الجماعة، تقدم 122/ 177 (أُمَّ سُلَيْمٍ) بضمّ السين المهملة، وفتح اللام مصغّرًا - بنت مِلْحان بن خالد الأنصارية، والدة أنس الراوي عنها، يقال: اسمها سَهْلة، أو رُميلة، أو رُميثة، أو مُليكة، أو أُنيثة، وهي الغُميصاء، أو الرُّمَيصاء، اشتهرت بكنيتها، وكانت من الصحابيات الفاضلات، ماتت - رضي اللَّه تعالى عنها - في خلافة عثمان رضي الله عنه. روى لها الجماعة، وتقدّمت 43/ 737 (فَكَانَ صِدَاقُ) قال الفيّوميّ: صداق المرأةِ فيه لغاتٌ، أكثرُها فتح الصّاد، والثانيةُ كسرها، والجمعُ صُدُقٌ- بضمّتين-، والثالثةُ لغةُ الحجاز: صَدُقةٌ -أي بفتح، فضم- وتُجمَعُ على لفظها صَدُقَات، وفي التنزيل:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} الآية. والرابعةُ لغةُ تميم: صُدْقَةٌ -أي بضمّ، فسكون- والجمعُ صُدُقات، مثلُ غرفة وغُرُفَات في وجوهها، وصَدْقَةٌ -أي بفتح، فسكون- لغةٌ خامسةٌ، وجمعُها صُدَقٌ، مثلُ قَرْيَةٍ وقُرَى انتهى
(1)
[تنبيه]: الصداق هو ما تستحقّه المرأة بدلًا في النكاح، قال ابن قدامة رحمه الله تَعَالَي-: وله تسعة أسماء: الصّداقُ، والصّدُقَةُ، والمهر، والنِّحْلة، والفريضة، والأجر، والعَلائق، والعُقْرُ، والْحِبَاءُ. رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أَدُّوا العلائق". قيل: يا رسول اللَّه، وما العلائق؟، قال:"ما تراضى به الأهلون"
(2)
. وقال عمر: لها عُقْرُ نسائها. يقال: أصدقت المرأة، ومَهَرتُها، ولا يقال: أمهرتها. انتهى
(3)
.
وقد نظمت الأسماء التسعة بقولي:
وَلِلصَّدَاقِ تِسْعَةٌ أَسْمَاءُ
…
الْمَهرُ وَالنِّحْلَةُ وَالْحِبَاءُ
وَالأَجْرُ وَالصَّدَاقُ وَالصَّدُقَةُ
…
والْعُقْرُ وَالعَلَاِئقُ الْفَرِيضَةُ
فقوله: "صداقُ" مبتدأ، وهو مضافٌ إلى قوله (مَا بَيْنَهُمَا)"ما" اسم موصول، بمعنى "الذي"، وقوله (الإِسْلَامَ) خبر المبتدإ، وهو صداق، أي مهر النكاح الذي جرى بينهما هو الإسلام، أي إسلام أبي طلحة (أَسْلَمَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ، قَبْلَ أَبِي طَلْحَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (فَخَطَبَهَا) أي خطب أبو طلحة أم سُليم ليتزوّها (فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ) أي دخلت في الإسلام (فَإِنْ أَسْلَمْتَ: نَكَحْتُكَ) أي تزوّجتك، يقال: نَكَح الرجل، والمرأة أيضًا يَنْكِحُ، من
(1)
راجع "المصباح المنير" في مادّة صدق 335 - 336.
(2)
رواه الدارقطنيّ في "سننه" 3/ 244 - من حديث ابن عباس، مرفوعًا بلفظ:"أنكحوا الأيامى، ثلاثًا، قيل: ما العلائق بينهم يا رسول اللَّه؟ قال: "ما تراضى عليه الأهلون، ولو قضيب من أراك". وفي سنده محمد بن عبد الرحمن البيلمانيّ منكر الحديث، وفيه اضطراب، راجع "التعليق المغني على الدارقطني" 3/ 244 - 245.
(3)
"المغني" 10/ 97 - 98.
باب ضَرَبَ نِكَاحًا: إذا تزوّجا (فَأَسْلَمَ) أبو طلحة (فَكَانَ صِدَاقَ مَا بَيْنَهُمَا) اسم "كان" ضمير يعود إلى الإسلام، أي كان الإسلام صداقَ النكاح الذي جرى بينهما، ولم يذكرا مالًا. وهذا محلّ الترجمة، فإنه ظاهر في أن الإسلام يجوز أن يكون مهرًا للنكاح، وهذا هو المذهب الراجح. قال السنديّ: وتأويله عند من لا يقول بظاهره أن الإسلام صار سببًا لاستحقاقه لها كالمهر، لا أنه المهر حقيقةٌ، ومن جوّز أن المنفعة الدينية تكون مهرًا لا يحتاج إلى تأويل، ولا يخفى أن الرواية الآتية تردّ التأويل المذكور. وقد يؤوّل بأنها اكتفت عن المعجّل بالإسلام، وجعلت الكلّ مؤجّلًا بسببه، فليتأمّل انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تأويله الأخير بعيدٌ أيضًا، يبعده "فإن تُسلم، فذاك مهري، وما أسألك غيره"، فقد أكّدت نفي المهر الماليّ مطلقًا، معجلًا، أو مؤجّلًا، حيث قالت:"وما أسألك غيره"، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أخرجه هنا-63/ 3341 و 3342 - وفي "الكبرى" 61/ 5503 و 5504. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواز النكاح على أن يكون المهر إسلام الزوج. (ومنها): أن فيه بيان فضيلة أم سليم - رضي اللَّه تعالى عنها -، حيث كانت سببًا لإِسلام زوجها. (ومنها): جواز إسلام الرجل ليتزوّج امرأة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): استُشكل هذا الحديث مع حديث الهجرة، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هجر إليه".
[وأجيب] عنه بأجوبة، تقدّم بيانها في أوائل هذا الشرح، عند شرح حديث النيّة.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا استشكلوه، وعندي أنه لا إشكال في ذلك أصلًا، إذ دخول الشخص في الإسلام لأيّ سبب من الأسباب لا يضرّه، إذا حسن بعد ذلك إسلامه؛ إذ بعض المؤمنين الأولين هكذا كان دخولهم في الإسلام، ثم رزقهم اللَّه
(1)
"شرح السنديّ" 6/ 114.
تعالى الثبات فيه، كما قال اللَّه تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا} ، إلى أن قال:{كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الآية [النساء: 94]، ولذلك جعل اللَّه تعالى في الصدقات قسم المؤلّفة قلوبهم، فكثيرٌ من الناس يدخل في الإسلام، طمعًا في مال، أو جاه، ثم يدخل الإيمان في قلبه، فيكون من خيار المسلمين، فيكون أبو طلحة رضي الله عنه من هذا القبيل، وإنما يضرّه أن يكون بعد دخوله في الإسلام لا حاجة له إلا غرضه ذلك، بحيث لو قُدّر أن فقده ما ثبت على الإسلام، كما قال اللَّه تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} الآية [الحجّ: 11]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3342 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ مُسَاوِرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: خَطَبَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا مِثْلُكَ، يَا أَبَا طَلْحَةَ يُرَدُّ، وَلَكِنَّكَ رَجُلٌ كَافِرٌ، وَأَنَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَكَ، فَإِنْ تُسْلِمْ فَذَاكَ مَهْرِي، وَمَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، فَأَسْلَمَ، فَكَانَ ذَلِكَ مَهْرَهَا، قَالَ ثَابِتٌ: فَمَا سَمِعْتُ بِامْرَأَةٍ قَطُّ، كَانَتْ أَكْرَمَ مَهْرًا مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، الإِسْلَامَ، فَدَخَلَ بِهَا، فَوَلَدَتْ لَهُ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن النضر بن مساور": هو المروزيّ، صدوق [10] 70/ 237.
و" جعفر بن سُليمان": هو أبو سليمان الضُّبَعيّ البصريّ، صدوق زاهد، لكنه كان يتشيّع [8] 14/ 14
و"ثابتٌ": هو البنانيّ. وهذا الإسناد أيضًا من رباعيّاته، كالماضي، وهو (169) من رباعيات الكتاب.
وقوله: "ولا يحلّ لي أن أتزوّجك" استُشكل هذا بأن أبا طلحة ممن أسلم في أوائل الهجرة، وتحريم المسلمات على الكفّار إنما جاء بين الحديبية، والفتح، فكيف تقول: ولا يحلّ لي أن أتزوّجك"؟.
قال الحافظ العراقيّ في "طرح التثريب": والحديث، وإن كان صحيح الإسناد، فإنه معلّل يكون المعروف أنه لم يكن حينئذ تحريم المسلمات على الكفّار إنما نزل بين الحديبية، وبين الفتح، حين نزل قوله تعالى:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} الآية [الممتحنة: 10]، كما ثبت في "صحيح البخاريّ"، فقول أم سُليم في الحديث:"ولا يحلّ لي أن أتزوّجك" شاذّ مخالفٌ للحديث الصحيح، وما اجتمع عليه أهل السنن انتهى
(1)
.
(1)
"طرح التثريب" 2/ 27.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: النكارة في هذا الحديث قولها: "ولا يحلّ لي أن أتزوّجك" فقط، وإلا فالحديث تقدّم بالإسناد الماضي، وليست فيه هذه الجملة، والظاهر أن هذه من منكرات جعفر بن سليمان، فإنه وإن كان ثقة، إلا أن له مناكير، فقد نقل في ترجمته في "تهذيب التهذيب" عن ابن المدينيّ، أنه قال: أكثرَ عن ثابت، وكتب مراسيل، وفيها أحاديث مناكير عن ثابت، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال أيضًا: أكثرَ عن ثابت، وبقية أحاديثه مناكير. وقال الأزديّ: وأما الحديث، فعامّة حديثه عن ثابت وغيره، فيها نظر ومنكر. انتهى
(1)
.
والحاصل أن الحديث صحيح، غير "ولا يحلّ لي أن أتزوّجك"، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "مهرًا" منصوب على التمييز. وقوله: "الإسلام" يحتمل الرفع على أنه خبر لمحذوف، أي هو الإسلام. ويحتمل النصب، على أنه مفعول لفعل محذوف أيضًا، أي أعني الإسلامَ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
64 - (التَّزْوِيجُ عَلَى الْعِتْقِ)
3343 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَعَبْدَ الْعَزِيزِ -يَعْنِي ابْنَ صُهَيْبٍ- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ح وَأَنْبَأَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، وَشُعَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَهُ صَدَاقَهَا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(قتيبة) بنَ سعيد المذكور في الباب الماضي.
2 -
(أبو عوانة) الوضاح بن عبد اللَّه اليشكري الواسطيّ، ثقة ثبت [7] 41/ 46.
3 -
(حماد) بن زيد بن درهمن أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت فقيه [8] 3/ 3.
4 -
(قتادة) بن دعامة السدوسي، أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت [4] 30/ 34.
5 -
(عبد العزيز بن صُهيب) البناني البصري، ثقة [4] 17/ 1643.
(1)
راجع "تهذيب التهذيب" 1/ 306 - 308.
6 -
(شُعيب) بن الحبحاب البصريّ، ثقة [4] 78/ 1992. والباقيان تقدما في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنّ للمصنف -رحمه اللَّه تعالى- فيه إسنادين، وكلاهما من رباعياته وهو (170) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه أنسًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَنَسٍ) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَعْتَقَ صَفِيَّةَ) بنت حيي ابن أخطبَ بن سَعْنة بن ثعلبة بن عُبيد بن كعب الإسرائليّة، من أولاد هارن بن عمران عليهم السلام، أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها -، سباها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام خيبر، ثم أعتقها، ثم تزوّجها، وماتت سنة (36) وقيل: في خلافة معاوية رضي الله عنه سنة (50) وهو الصحيح (وَجَعَلَهُ صَدَاقَهَا) هذا فيه أن من أعتق أمته على أن يجعل عتقها صداقها، صحّ العقد، والعتق، والمهر، وهذا هو ظاهر الحديث، وبه قال بعض أهل العلم، وهو الحقّ، وخالف في ذلك بعضهم، وسيأتي تفصيل ذلك في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.
قال ابن الجوزيّ -رحمه اللَّه تعالى-: فإن قيل: ثواب العتق عظيم، فكيف فوّته، حيث جعله مهرًا، وكان يُمكن جعل المهر غيره؟.
فالجواب أن صفيّة بنتُ ملك، ومثلها لا يقنع إلا بالمهر الكثير، ولم يكن عنده صلى الله عليه وسلم ما يُرضيها به، ولم يَرَ أن يقتصر، فجعل صداقها نفسها، وذلك عندها أشرف من المال الكثير انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-64/ 3343 و 3344 و 79/ 3381 و 3382 و 3383 و"والصيد والذبائح" 31/ 4341 و"الطهارة" 55/ 69 و"المواقيت" 26/ 547. وأخرجه (خ)
(1)
"فتح" 10/ 163.
في "الجهاد" 2991 و"المغازي" 4198 و 4199 و"الذبائح والصيد" 5528 (م) في "الصيد والذبائح" 1940 (ق)"الذبائح" 3196 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 11676 و 11730 و 11807 و 12260 (الدارمي)1991.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواز جعل العتق صداقًا للنكاح، وفيه خلاف سيأتي تحقيقه في المسألة التالية إن شاء اللَّه تعالى، والصحيح جوازه. (ومنها): أنه يجوز للسيد تزويج أمته إذا أعتقها من نفسه، ولا يحتاج إلى وليّ، ولا حاكم، وقد اختَلَف السلف، هل يزوّج الوليّ موليّته من نفسه، أم يحتاج إلى وليّ آخر؟، فقال الأوزاعيّ، وربيعة، والثوريّ، ومالك، وأبو حنيفة، وأكثر أصحابه، والليث: يُزوّج الوليّ نفسه، ووافقهم أبو ثور. وعن مالك: لو قالت الثيّب لوليّها: زوَّجني بمن رأيتَ، فزوّجها من نفسه، أو ممن اختار لزمها ذلك، ولو لم تعلم عين الزوج. وقال الشافعيّ: يزوّجهما السلطان، أو وليّ آخر مثله، أو أقعد منه، ووافقه زفرُ، وداود. وحجّتهم أن الولاية شرطٌ في العقد، فلا يكون الناكح مُنكحًا، كما لا يبيع من نفسه
(1)
. (ومنها): استحباب عتق الأمة، وتزوّجها، وقد عقد له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- الباب التالي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في جعل عتق الأمة صداقها:
ذهبت طائفة إلى أن الرجل إذا أعتق أمته على أن يجعل عتقها صداقها، صحّ العقد، والعتق، والمهر على ظاهر الحديث، وبه أخذ من المتقدمين عليّ، وأنسٌ، وابن مسعود، وسعيد بن المسيّب، وإبراهيم النخعيّ، ومن لقيه إبراهيم، من شيوخه، والشعبيّ، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقتادة، والزهريّ، وغيرهم"، ومن فقهاء الأمصارسفيان الثوريّ، والأوزاعيّ، والحسن بن حيّ، وأبو يوسف القاضي، قال ابن حزم: خالف في ذلك أصحابه، وَوُفِّقَ، والشافعيّ
(2)
وأحمد، وإسحاق
(3)
.
وقال ابن حزم في "المحلّى": ومن أعتق أمته على أن يتزوّجها، وجعل عتقها صداقها، لا صداق لها غيره، فهو صداق صحيح، ونكاحٌ صحيح، وسنّةٌ فاضلة، فإن طلّقها قبل الدخول، فهي حرّةٌ، ولا يرجع عليها بشيء، فلو أبت أن تتزوّجه بطل
(1)
"فتح" 10/ 237.
(2)
هكذا عدّه ابن حزم مع هؤلاء، وسيأتي عن الحافظ الاعتراض فيه.
(3)
نقل هذا كله من "المحلّى" 9/ 206. و"الفتح" 10/ 161 - 162.
عتقها، وهي مملوكة كما كانت.
قال: وفي ذلك خلاف متأخّر، قال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وزفر بن الهذيل، ومالك، وابن شبرمة، والليث: لا يجوز أن يكون عتق الأمة صداقها، قال أبو حنيفة، وزفر، ومحمد، ومالك: إن فعل فلها عليه مهر مثلها، وهي حرّة، ثم اختلفوا إن أبت أن تتزوّجه، فقال أبو حنيفة، ومحمد: تسعى له في قيمتها، وقال مالك، وزفر: لا شيء عليها. ثم ذكر ابن حزم أدلّة الفريقين، وأطال في ذلك، فأجاد، وأفاد
(1)
.
قال في "الفتح" بعد أذكر ما تمسّك به الأولون: ما حاصله: وأجاب الباقون عن ظاهر الحديث بأجوبة:
أقربها إلى لفظ الحديث أنه أعتقها بشرط أن يتزوّجها، فوجبت له عليها قيمتها، وكانت معلومة، فتزوّجها بها.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قال الحافظ: إنه أقرب إلى لفظ الحديث، فيه نظر، بل هو بعيد، ولا يخفى بعده على من تأمله.
قال: ويؤيّده قوله في رواية عبد العزيز بن صُهيب:، "سمعت أنسًا قال: سبى النبيّ صلى الله عليه وسلم صفيّةَ، فأعتقها، وتزوّجها، فقال ثابت لأنس: ما أصدقها؟ قال: نفسها، فأعتقها". هكذا أخرجه البخاريّ في "المغازي". وفي رواية حمّاد، عن ثابت، وعبد العزيز، عن أنس في حديث: "قال: وصارت صفيّة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم تزوّجها، وجعل عتقها صداقها، فقال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد، أنت سألت أنسًا ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها، فتبسّم"، فهو ظاهر جدًّا في أن المجعول مهرًا هو نفس العتق، فالتأويل الأول لا بأس به، فإنه لا منافاة بينه وبين القواعد حتى لو كانت القيمة مجهولة، فإن في صحّة العقد بالشرط المذكور وجهًا عند الشافعيّة.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا ظاهر في تأييد ما قاله المجيزون، لا ما قاله المانعون، فتأمّل.
قال: وقال آخرون: قوله: "أعتقها، وتزوّجها" معناه أعتقها، ثم تزوّجها، فلما لم يعلم أنه ساق لها صداقًا، قال: أصدقها نفسها، أي لم يُصدقها شيئًا فيما أَعلَمُ، ولم يَنف أصل الصداق، ومن ثمّ قال أبو الطيّب الطبريّ من الشافعيّة، وابن المرابط من المالكيّة، ومن تبعهما: إنه قول أنس، قاله ظنًّا من قبل نفسه، ولم يرفعه.
وربّما تأيّد ذلك عندهم بما أخرجه البيهقيّ من حديث أُميمة -ويقال: أمة اللَّه- بنت
(1)
"المحلّى" 9/ 501 - 507.
رزينة، عن أمها:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعتق صفيّة، وخطبها، وتزوّجها، وأمهرها رزينة، وكان أُتي بها مَسبيّة من قريظة، والنضير".
وهذا لا يقوم به حجةٌ؛ لضعف إسناده، ويعارضه ما أخرجه الطبرانيّ، وأبو الشيخ من حديث صفيّة نفسها، قالت:"أعتقني النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجعل عتقي صداقي"، وهذا موافق لحديث أنس. ويعارضه. وفيه ردٌّ على من قال: إن أنسًا قال ذلك بناءً على ما ظنه. وقد خالف هذا الحديث أيضًا ما عليه كافّة أهل السير أن صفيّة من سبي خيبر. ويحتمل أن يكون أعتقها بشرط أن ينكحها بغير مهر، فلزمها الوفاء بذلك، وهذا خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، دون غيره.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فيه أن هذا التأويل يردّه قولها: "وجعل عتقي صداقي"، فإنه صريحٌ في تسمية المهر لها، وهو عتقها، فكيف يقال: نكحها بغير مهر؟.
وقيل: يحتمل أنه أعتقها بغير عوض، وتزوّجها بغير مهر في الحال، ولا في المآل.
قال ابن الصلاح: معناه أن العتق يحِلّ محلّ الصداق، وإن لم يكن صداقًا، قال: وهذا كقولهم: الجوع زاد من لا زاد له، قال: وهذا الوجه أصحّ الأوجه، وأقربها إلى لفظ الحديث، وتبعه النوويّ في "الروضة".
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وبُعد هذا التأويل عن لفظ الحديث أظهر من أن يُظهَر، فتبصّر، ولا تتحيّر.
وقال في "الفتح" أيضًا: ومن المستغربات قول الترمذيّ بعد أن أخرج الحديث: وهو قول الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق. قال: وكرِهَ بعض أهل العلم أن يجعل صداقها حتى يجعل لها مهرًا، سوى العتق، والقول الأول أصحّ. وكذا نقل ابن حزم عن الشافعيّ. والمعروف عند الشافعيّة أن ذلك لا يصحّ.
قال: وممن قال بقول أحمد ابن حبّان صرّح بذلك في "صحيحه" -9/ 401 رقم 4091 - .
قال ابن دقيق العيد: الظاهر مع أحمد، ومن وافقه، والقياس مع الآخرين.
فيتردد الحال بين ظن نشأ عن قياس، وبين ظنّ نشأ عن ظاهر الخبر، مع ما تحتمله الواقعة من الخصوصية، وهي وإن كانت على خلاف الأصل، لكن يتقوّى ذلك بكثرة خصائص النبيّ صلى الله عليه وسلم في النكاح انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القياس في مقابلة ظاهر النصّ، مما لا يُلتفت إليه، وما أحسن ما قال بعضهم:
إِذًا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا
…
تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ
غَدَتْ شُبَهُ القِيَاسِيِّينَ صَرْعَى
…
تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ
ودعوى الخصوصية لا تصحّ إلا بدّليل صحيح صريح.
والحاصل أن مذهب القائلين بجواز كون العتق صداقًا هو الأرجح؛ لقوّة دليله، وإن أردت التحقيق في ذلك، فارجع إلى ما كتبه أبو محمد ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "المحلّى"
(1)
، فقد أجاد هناك، وأفاد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
3344 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ح وَأَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ الْحَبْحَابِ، عَنْ أَنَسٍ، أَعْتَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا مَهْرَهَا. وَاللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح. غير شيخه عمرو ابن منصور النسائيّ، فإنه من أفراده، وهو ثقة ثبت. و"سفيان": هو الثوريّ. و"أبو نعيم": هو الفضل بن دُكين. و"يونس": هو ابن عُبيد العبدي البصريّ الثقة الثبت الفاضل. و"ابن الْحَبْحَاب": هو شعيب المذكور في السند الماضي.
وقوله: "واللفظ لمحمد" يعني أن لفظ الحديث المذكور لشيخه محمد بن رافع، وأما عمرو بن منصور، فرواه بالمعنى.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
65 - (عِتْقُ الرَّجُلِ جَارِيَتَهُ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا)
3345 -
(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ:
(1)
راجع "المحلّى" 9/ 501 - 507.
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ، فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا، وَعَلَّمَهَا، فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَعَبْدٌ يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ، وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الْكِتَابِ» ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يعقوب بن إبراهيم) الدورقي، أبو يوسف البغداديّ، ثقة حافظ [10] 21/ 22.
2 -
(ابن أبي زائدة) هو: يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة الهمدني، أبو سعيد الكوفيّ، ثقة مُتْقِنٌ، من كبار [9] 93/ 115.
3 -
(صالح بن صالح) بن حيّ، ويقال: صالح بن صالح بن مسلم بن حيّ، ويقال: حيان، وحيّ لقب حيّان، وقد يُنسب إلى جدّ أبيه، فيقال: صالح ابن حيّ، وصالح ابن حيان، الثوريّ الْهَمْدَانيّ الكوفيّ، ثقة [6].
قال ابن عُيينة: كان خيرًا من ابنيه. وقال حرب، عن أحمد: ثقة ثقة. وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقة. وقال العجليّ: كان ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". مات سنة (153). روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، هذا -65/ 3345 و 3489 و 3561.
4 -
(عامر) بن شَرَاحيل الشعبيّ الهمداني، أبو عمرو الكوفي، ثقة فقيه فاضل [3] 66/ 82.
5 -
(أبو بردة بن أبي موسى) الأشعريّ، اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقة [3] 3/ 3.
6 -
(أبو موسى) عبد اللَّه بن قيس الأشعريّ الصحابي رضي الله عنه 3/ 3. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فبغداديّ. (ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ) مبتدأٌ، أي ثلاثة رجال، أو رجالٌ ثلاثة، وخبر المبتدإ قوله (يُؤْتَوْنَ) بالبناء للمفعول (أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) أي في كلّ عمل، أو في الأعمال التي عملوا في هذه الأحوال، قاله السنديّ (رَجُلٌ) بدل تفصيل، أو بدل كلّ بالنظر إلى المجموع (كانَتْ لَهُ أَمَةٌ، فَأَدَّبَهَا) من التأديب، والأدبُ حسنُ الأحوال، والأخلاق، وقيل: التخلّق بالأخلاق الحميدة (فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا) أي أدّبها
من غير عنف، ولا ضرب، بل بالرفق واللطف (وَعَلَّمَهَا، فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا) قال العينيّ: فإن قلت: أليس التأديب داخلًا تحت التعليم؟ قلت: لا، إذ التأديب يتعلّق بالمروآت، والتعليم بالشرعيّات، أعني أن الأول عرفيّ، والثاني شرعيّ، أو الأول دنيويّ، والثاني دينيّ انتهى
(1)
(ثُمَّ أَعْتَقَها وَتَزَوَّجَهَا) أي فتزوّجه زيادة في "الإحسان إليها، فيستحقّ به مضاعفة الأجر، وليس هو من باب العود إلى صدقته حتى ينتقص به الأجر (وَعَبْدٌ يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ، وَحَقَّ مَوَالِيهِ) قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-:
[إن قلت]: يُفهم من هذا أنه يؤجر على العمل الواحد مرّتين، مع أنه لا يؤجر على كلّ عمل إلا مرّة واحدة؛ لأنه يأتي بعملين مختلفين: عبادة اللَّه، والنصح لسيّده، فيؤجر على كلّ من العملين مرّةً، وكذا كلّ آتٍ بطاعتين يؤجر على كلّ واحدة أجرها، ولا خصوصيّة للعبد بذلك.
[قلت]: يحتمل وجهين: أحدهما: أنه لما كان جنس العمل مختلفًا؛ لأن أحدهما طاعة اللَّه، والآخر طاعة مخلوق، خصّه بحصول أجره مرّتين؛ لأنه يحصل له الثواب على عمل لا يأتي في حقّ غيره، بخلاف من لا يأتي في حقّه إلا طاعةٌ خاصّة، فإنه يحصل أجره مرّةً واحدةً، أي على كلّ عمل أجر، وأعماله من جنس واحد، لكن تظهر مشاركة المطيع لأميره، والمرأة لزوجها، والولد لوالده له في ذلك.
ثانيهما: يمكن أن يكون في العمل الواحد طاعة اللَّه، وطاعة سيّده، فيحصل له على العمل الواحد الأجر مرَّتين؛ لامتثاله بذلك أمر اللَّه، وأمر سيّده المأمور بطاعته. واللَّه أعلم انتهى
(2)
.
وقال الحافظ ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: معنى هذا الحديث عندي أن العبد لما اجتمع عليه أمران واجبان: طاعة ربه في العبادات، وطاعة سيّده في المعروف، فقام بهما جميعًا كان له ضعف أجر الحرّ المطيع لربّه مثل طاعته؛ لأنه قد ساواه في طاعة اللَّه، وفضل عليه بطاعة من أمره اللَّه بطاعته. قال: ومن هنا أقول: إن من اجتمع عليه فرضان، فأدّاهما أفضل ممن ليس عليه إلا فرض واحد، فأدّاه، كمن وجب عليه صلاةٌ، وزكاةٌ، فقام بهما، فهو أفضل ممن وجبت عليه صلاةٌ فقط. ومقتضاه أن من اجتمعت عليه فروضٌ، فلم يؤدّ منها شيئًا، كان عصيانه أكثر من عصيان من لم يجب عليه إلا بعضها انتهى ملخّصًا.
قال الحافظ: والذي يظهر أن مزيد الفضل للعبد الموصوف بالصفة لما يدخل عليه من مشقّة الرقّ، وإلا فلو كان التضعيف بسبب اختلاف جهة العمل، لم يختصّ العبد بذلك. وقال ابن التين: المراد أن كلّ عمل يعمله يُضاعف له. قال: وقيل: سبب التضعيف
(1)
"عمدة القاري" 2/ 121 "كتاب العلم".
(2)
"طرح التثريب" 6/ 226.
أنه زاد لسيّده نُصحًا، وفي عبادة ربه إحسانًا، فكان له أجر الواجبين، وأجر الزيادة عليهما. قال: والظاهر خلاف هذا، وأنه بَيَّنَ ذلك لئلا يُظن أنه غير مأجور على العبادة انتهى.
قال الحافظ: وما ادّعى أنه الظاهر لا ينافي ما نقله قبل ذلك.
[فإن قيل]: يلزم أن يكون أجر المماليك ضعف أجر السادات.
[أجاب الكرمانيّ]: بأن لا محذور في ذلك، أو يكون أجره مضاعفًا من هذه الجهة، وقد يكون للسيّد جهات أخرى يستحقّ بها أضعاف أجر العبد، أو المراد ترجيح العبد المؤدّي للحقّين على العبد المؤدّي لأحدهما انتهى.
ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر مختصًا بالعمل الذي يتّحد فيه طاعة اللَّه، وطاعة السيّد، فيعمل عملًا واحدًا، ويؤجر عليه أجرين بالاعتبارين، وأما العمل المختلف الجهة، فلا اختصاص له بتضعيف الأجر فيه على غيره من الأحرار. قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أنما سبق في كلام ابن عبد البرّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- هو المعنى الأشبه بظاهر النصّ، وحاصله أن العبد لما توجه إليه واجبان: طاعة ربه، وطاعة سيده، فقام بهما جميعًا كان له أجره بهما، وهذا لا يوجد في الحرّ، ولا في العبد الذي يخلّ بأحد الواجبين. اللَّه تعالى أعلم.
(وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الْكِتَابِ) لفظ الكتاب عامّ، ومعناه خاصّ، أي المنزل من عند اللَّه، والمراد به التوراة والإنجيل، كما تظاهرت به نصوص الكتاب والسنّة، حيث يطلق أهل الكتاب. وقيل: المراد به هنا الإنجيل خاصّةً، إن قلنا: إنّ النصرانيّة ناسخة لليهوديّة. كذا قرّره جماعة، ولا يحتاج إلى اشتراط النسخ؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام كان قد أرسل إلى بني إسرائيل بلا خلاف، فمن أجابه منهم نُسب إليه، ومن كذّبه منهم، واستمرّ على يهوديّته لم يكن مؤمنًا، فلا يتناوله الخبر؛ لأن شرطه أن يكون مؤمنًا بنبيّه. نعم من دخل في اليهوديّة من غير بني إسرائيل، أو لم يكن بحضرة عيسى عليه السلام، فلم تبلغه دعوته يصدق عليه أنه يهوديّ مؤمنٌ، إذ هو مؤمنٌ بنبيّه موسى عليه السلام، ولم يكذب نبيًّا آخر، فمن أدرك بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ممن كان بهذه المثابة، وآمن به لا يُشكل أنه يدخل في الخبر المذكور، ومن هذا القبيل العرب الذين كانوا باليمن وغيرها، ممن دخل منهم في اليهوديّة، ولم تبلغهم دعوة عيسى عليه السلام؛ لكونه أُرسل إلى بني إسرائيل خاصّةً.
(1)
"فتح" 483 - 484. "كتاب العتق" رقم الحديث 2546.
نعم الإشكال في اليهود الذين كانوا بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أن الآية الموافقة لهذا الحديث، وهي قوله تعالى:{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} الآية، نزلت في طائفة آمنوا منهم، كعبد اللَّه بن سلام وغيره، ففي الطبرانيّ من حديث رفاعة الْقُرَظيّ، قال: نزلت هذه الآيات فيّ، وفيمن آمن معي. وروى الطبرانيّ بإسناد صحيح عن عليّ بن رفاعة القرظى، قال: خرج عشرةٌ من أهل الكتاب، منهم: أبي رفاعةُ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فآمنوا به، فأذوا، فنزلت:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} الآيات، فهؤلاء من بني إسرائيل، ولم يؤمنوا بعيسى، بل استمرّوا على اليهوديّة إلى أن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أنهم يؤتون أجرهم مرَّتين، قال الطيبيّ: فيحتمل إجراء الحديث على عمومه، إذ يبعُدُ أن يكون طريان الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم سببًا لقبول تلك الأديان، وإن كانت منسوخة انتهى. وسيأتي ما يؤيّده بعدُ.
ويمكن أن يقال في حقّ هؤلاء الذين كانوا بالمدينة: إنه لم تبلغهم دعوة عيسى-عليه السلام إلى أن جاء الإسلام، فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فبهذا يرتفع الإشكال، إن شاء اللَّه تعالى. قاله في "الفتح"
(1)
.
[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ في آخر هذا الحديث: ما نصّه: "ثم قال عامر: أعطيناكها بغير شيء، قد كان يُركب فيما دونها إلى المدينة". وفي لفظ: "قال الشعبيّ: خذها بغير شيء، قد كان الرجل يرحل فيما دونها إلى المدينة".
و"عامر" هو الشعبيّ، وإنما قال ذلك تحريضًا للسامع ليكون ذلك أدعى لحفظه، وأجلب لحرصه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث؛:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي موسى الأشعريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-65/ 3345 و 3346 - وفي "الكبرى" 60/ 5501 و 5502. وأخرجه (خ) في "العلم " 97 "العتق" 2544 و 2547 و"الجهاد والسير" 3011 و"أحاديث الأنبياء" 3446 و"النكاح" 5083 (م) في "الإيمان" 154 (ت) في "النكاح" 1116 (ق) في "النكاح" 1956 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 19038 و 19910 و 1937 و 19213
(1)
"فتح" 1/ 257 - 258 "كتاب العلم".
(الدارمي) في "النكاح"2244. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواز عتق الرجل جاريته، ثم نكاحها، وفيه ردّ على من كره ذلك، فمن ذلك ما وقع في رواية هشيم، عن صالح ابن صالح الراوي المذكور، وفيه قال: رأيت رجلًا من أهل خراسان، سأل الشعبيّ، فقال: إن مَن قِبَلَنا من أهل خراسان يقولون في الرجل إذا أعتق أمته، ثم تزوّجها: فهو كالراكب بدنته، فقال الشعبيّ
…
فذكر الحديث. وأخرج الطبرانيّ بإسناد رجاله ثقات عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه كان يقول ذلك. وأخرج سعيد بن منصور، عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - مثله. وعند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه أنه سئل عنه؟، فقال:"إذا أعتق أمته للَّه، فلا يعود فيها". ومن طريق سعيد بن المسيّب، وإبراهيم النخعيّ أنهما كرها ذلك. وأخرج أيضًا من طريق عطاء والحسن أنهما كانا لا يريان بذلك بأسًا. ذكره في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الصواب أنه لا كراهة في ذلك، وُيعتذر عن هؤلاء الذين كرهوا ذلك بأنهم لم يبلغهم الخبر. واللَّه تعالى أعلم.
(ومنها): أنه يدلّ على مزيد فضل من أعتق أمته، ثم تزوّجها، سواءٌ أعتقها ابتداءً للَّه، أو لسبب. (ومنها): فضل تأديب الأمة، وتعليمها، والإحسان في ذلك. (ومنها): فضل العبد الصالح الناصح لربّه، وسيّده. (ومنها): فضل مؤمن أهل الكتاب الذين آمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال القرطبيّ: الكتابيّ الذي يضاعف أجره مرّتين، هو الذي كان على الحقّ في شرعه عقدًا وفعلًا إلى أن آمن بنبيّنا صلى الله عليه وسلم، فيؤجر على اتباع الحقّ الأول والثاني انتهى.
وتعقّبه الحافظ بأنه يُشكل عليه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل: "أسلم تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّه أجرك مرّتين"، وهرقل كان ممن دخل في النصرانيّة بعد التبديل انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المراد عموم أهل الكتاب، كما يدلّ عليه قصّة هرقل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): أنه لا مفهوم للعدد في قوله: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين"، فقد ثبت في النصوص الأخرى زيادة على ذلك، فقد أخرج الطبرانيّ من حديث أبي أمامة
(1)
"فتح" 10/ 159 "كتاب النكاح".
- رضي الله عنه، رفعه:"أربعة يؤتون أجرهم مرّتين"، فذكر الثلاثة المذكورين هنا، وزاد أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم. وصحّ أيضًا حديث:"والذي يقرأ القرآن، ويتتعتع فيه، وهو شاقّ عليه، فله أجران". وحديث زينب امرأة ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنهما - في التي تتصدّق على قريبها: "لها أجران، أجر الصدقة، وأجر الصلة". وحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه في الحاكم إذا أصاب، له أجران. وحديث جرير:"من سنّ سنّة حسنةً". وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من دعا إلى هدى". وحديث أبي مسعود: "من دلّ على خير"، والثلاثة بمعنى، وهنّ في "الصحيحين". وحديث أبي سعيد في الذي تيمّم، ثم وجد الماء، فأعاد الصلاة، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لك الأجر مرّتين". أخرجه أبو داود. قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وقد يحصل بمزيد التتبّع أكثر من ذلك، وكلّ هذا دالّ على أن لا مفهوم للعدد المذكور في حديث أبي موسى رضي الله عنه انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): قال في "الفتح": قال أبو عبد الملك البونيّ وغيره: إن الحديث لا يتناول اليهوديّة البتّة، وليس بمستقيم كما قرّرناه. وقال الداوديّ، ومن تبعه: إنه يحتمل أن يتناول جميع الأمم فيما فعلوه من خير، كما في حديث حكيم بن حزام:"أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير".
وهو متعقّبٌ؛ لأن الحديث مقيّدٌ بأهل الكتاب، فلا يتناول غيرهم، إلا بقياس الخير على الإيمان، وأيضًا فالنكتة في قوله:"آمن بنبيّه" الإشعار بعليّة الأجر، أي أن سبب الأجرين الإيمان بالنبيَّينِ، والكفّار ليسوا كذلك.
ويمكن أن يقال: الفرق بين أهل الكتاب وغيرهم من الكفار أن أهل الكتاب يعرفون محمدًا صلى الله عليه وسلم، كما قال اللَّه تعالى:{يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} الآية [الأعراب: 157]. فمن آمن به، واتّبعه منهم كان له فضلٌ على غيره، وكذا من كذّبه منهم كان وزره أشدّ من وزر غيره.
وقد ورد مثلُ ذلك في حقّ نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم لكون الوحي كان ينزل في بيوتهنّ. فإن قيل: فلِمَ لم يُذْكَرُوا في هذا الحديث، فيكون العدد أربعةً؟.
قال الحافظ: أجاب شيخنا شيخ الإسلام -يعني البلقينيّ- عن ذلك بأن قضيّتهنّ خاصة بهنّ مقصورةٌ عليهنّ، والثلاثة المذكورة في الحديث مستمرّة إلى يوم القيامة.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا ذكر الحافظ، لكن تقدّم قريبًا أن في رواية
(1)
"فتح" 10/ 158 - 159. "كتاب النكاح" رقم 5083.
الطبرانيّ ذكر الأربعة، فلعلّ الحافظ لم يستحضر ذلك حينما كتب هذا الموضع، أو لعله لم يصحّح الحديث. واللَّه تعالى أعلم.
قال: وهذا مصيرٌ من شيخنا إلى أن قضيّة مؤمن أهل الكتاب مستمرّة. وقد ادعى الكرمانيّ اختصاص ذلك بمن آمن في عهد البعثة، وعلّل ذلك بأن نبيّهم بعد البعثة إنما هو محمد صلى الله عليه وسلم باعتبار عموم بعثته انتهى.
وقضيّته أن ذلك أيضًا لا يتمّ لمن كان في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن خصّه بمن لم تبلغه الدعوة، فلا فرق في ذلك بين عهده وبعده، فما قاله شيخنا أظهر. والمراد بنسبتهم إلى غير نبيّنا صلى الله عليه وسلم إنما هو باعتبار ما كانوا عليه قبل ذلك.
وأما ما قوّى به الكرمانيّ دعواه يكون السياق مختلفا، حيث قيل في مؤمن أهل الكتاب:"رجلٌ" بالتنكير، وفي "العبد" بالتعريف، وحيث زيدت فيه "إذا" الدّالّة على معنى الاستقبال، فأشعر ذلك بأن الأجرين لمؤمن أهل الكتاب، لا يقع في الاستقبال بخلاف العبد انتهى. فهو غير مستقيم؛ لأنه مشى فيه مع ظاهر اللفظ، وليس متّفقًا عليه بين الرواة، بل هو عند البخاريّ وغيره متخلف، فقد عبّر في ترجمة عيسى بـ"إذا" في الثلاثة، وعبّر في "النكاح" بقوله:"أيّما رجل" في المواضع الثلاثة، وهي صريحة في التعميم، وأما الاختلاف بالتعريف والتنكير، فلا أثر له هنا؛ لأن المعرّف بلام الجنس مؤدّاه مؤدّى النكرة. واللَّه تعالى أعلم
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3346 -
(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي زُبَيْدٍ، عَبْثَرِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"عبثر بن القاسم أبو زبيد" هو: الكوفي [8] 19/ 1164.
و"مطرّف": هو ابن طريف، أبو عبد الرحمن الكوفيّ الثقة الفاضل [6]. والباقون هم المذكورون في السند الماضي.
والحديث متّفق عليه، وقد سبق البحث عنه مستوفًى في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
"فتح" 1/ 258 - 259 "كتاب العلم" رقم 97.
66 - (الْقِسْطُ فِي الأَصْدِقَةِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "القسط" -بكسر، فسكون-: المراد به هنا العدل، قال الفيّوميّ.: قَسَطَ قَسْطًا، من باب ضرب، وقُسُوطًا: جار، وعَدَلَ أيضًا، فهو من الأضداد. قاله ابن القطّاع، وأقسط بالألف: عَدَلَ، والاسم القِسْطُ بالكسر.
و"الأصدقة": جمع قلّة للصداق بالفتح، والكسر، كقَذَال وأقذِلَة، وبِنَاء، وأَبْنِيَةٍ، وهو مهر المرأة. قال في "اللسان": الصّدَقَةُ -أي بفتحتين- والصَّدُقة -بفتح، فضمّ- والصُّدُقة -بضمّتين- والصُّدْقَة -بضمّ، فسكون- والصَّدْقَة -بفتح، فسكون- والصَّداق -بالفتح- والصِّدَاق -بالكسر-: مهر المرأة، وجمعها في أدنى العدد -يعني جمع القلّة-: أَصْدِقَةٌ، والكثير: صُدُقٌ، وهذان البناءان إنما هما على الغالب، وقد أصدق المرأة حين تزوجها: أي جعل لها صداقًا. وقيل: أصدقها: سمّى لها صَدَاقًا. انتهى بتوضيح
(1)
.
وقال في: "القاموس": الصَّدُقَةُ -بضمّ الدال-، وكغُرْفة، وصَدْمَة، وبضمّتين، وبفتحتين، وككِتاب، وسَحَاب: مهر المرأة، جمع الصَّدُقَة، كَنَدُسَة: صَدُقاتٌ، وجمعُ الصُّدقَة -بالضمّ-: صُدْقَاتٌ، وصُدَقَاتٌ، وصُدُقَاتٌ -بضمّتين- وهي أقبحها انتهى
(2)
.
وقد نظمت لغات الصداق بقولي:
قَدْ ضُبِطَ الصَّدَاقُ كَالسَّحَابِ
…
وَغُرْفَةٍ كِتَابِ
وَضَمَّتَيْنِ زِدْ وَفَتْحَتَيْنِ
…
لِمَهْرِ نِسْوَةٍ بِغَيْرِ مَيْنِ
وَجَمْعُهُ كَكُتُبٍ وَأَرْغِفَهْ
…
هذا هُوَ الْغَالِبُ يَا ذَا الْمَعْرِفَهْ
واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3347 -
(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، قَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي، هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا، فَتُشَارِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ، إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ، مِنَ
(1)
"لسان العرب" 10/ 197 مادة "صدق".
(2)
"القاموس المحيط"1162.
الصَّدَاقِ، فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ، مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ، قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ:: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ، اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ فِيهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قَالَتْ عَائِشَةُ:: وَالَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُ يُتْلَى فِي الْكِتَابِ الآيَةُ الأُولَى، الَّتِي:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قَالَتْ عَائِشَةُ:: وَقَوْلُ اللَّهِ فِي الآيَةِ الأُخْرَى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ، الَّتِي تَكُونُ فِي حَجْرِهِ، حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فى مَالِهَا، مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ، إِلاَّ بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يونس بن عبد الأعلى) الصدفي، أبو موسى المصريّ، ثقة، من صغار [10] 1/ 449.
2 -
(سليمان بن داود) بن حماد الْمَهْريّ، أبو الربيع المصريّ، ابن أخي رِشدين بن سعد، ثقة [11] 63/ 79.
3 -
(ابن وهب) عبد اللَّه المصريّ الفقيه، ثقة عابد [9] 9/ 9.
4 -
(يونس) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد، ثقة [7] 9/ 9.
5 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري المدني الفقيه الحجة الثبت [4] 1/ 1.
6 -
(عروة بن الزبير) بن العوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدني، ثقة ثبت فقيه [3] 40/ 44.
7 -
(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه سليمان، فإنه تفرّد به هو، وأبو داود. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، ونصفه الثاني بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي. (ومنها): أن فيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ، أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها -، وإنما سأل هذا السؤال؛ لأنه ليس نكاح ما طاب سببًا
للعدل في الظاهر حتى يُؤَمَّنَ به من يَخَاف عدمه، بل قد يكون النكاح سببًا للجور للحاجة إلى الأموال (عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{وَإِنْ خِفْتُمْ} ) شرطٌ، وجوابه قوله:{فَاَنكِحُوا} . أي إن خفتم أن لا تعدِلُوا في مهورهنّ، وفي النفقة عليهنّ، فانكحوا غيرهنّ من النساء.
قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ: "خفتم" من الأضداد، فإنه يكون المخوف منه معلوم الوقوع، وقد يكون مظنونًا، فلذلك اختلف العلماء في تفسير هذا الخوف، فقال أبو عبيدة:"خفتم" بمعنى أيقنتم. وقال آخرون: "خفتم" ظننتم، قال ابن عطيّة: وهذا الذي اختاره الْحُذّاق، وأنه على بابه من الظن، لا من اليقين، التقدير: من غلب على ظنه التقصير في القسط لليتيمة، فليعدل عنها انتهى
(1)
(أَلاَّ تُقْسِطُوا) أي تعدلوا، يقال: أقسط الرجل: إذا عدل، وقَسَط إذا جار، وظلم صاحبه، قال اللَّه تعالى:{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] يعني الجائرين (فِي الْيَتَامَى) قال النسفيّ: يقال للإناث: اليتامى، كما يقال: للذكور، وهو جمع يتيمة، ويتيم، وأما أيتام فجمع يتيم، لا غير انتهى
(2)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ في "المفهم": اليتيم في بني آدم من قِبَل فَقْد الأب، وفي غيرهم من قِبَل فقد الأمّ وأصل اليتيم أن يقال: على من لم يبلُغ، وقد أُطلق في هذه الآية على المحجور عليها، صغيرةً كانت، أو كبيرةً؛ استصحابًا لإطلاق اسم اليتيم لبقاء الحجر عليها. وإنما قلنا: إن اليتيمة الكبيرة قد دخلت في الآية؛ لأنها قد أُبيح العقد عليها في الآية، ولا تُنكح اليتيمة الصغيرة، إذ لا إذن لها، فإذا بلغت جاز نكاحها، لكن بإذنها، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما خرّجه الدارقطنيّ وغيره في بنت عثمان بن مظعون، "وإنها يتيمة، ولا تُنكح إلا بإذنها"، وهذا مذهب الجمهور، خلافًا لأبي حنيفة، فإنه قال: إذا بلغت لم تحتج إلى وليّ، بناء على أصله في عدم اشتراط الوليّ في صحّة النكاح انتهى
(3)
.
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ: إن قيل: كيف جاءت "ما" للآدميين، وإنما أصلها لما لا يعقِلُ، فعنه أجوبة خمسة:
[الأول]: أن "من" و"ما" قد يتعاقبان، قال اللَّه تعالى:{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} أي ومن بناها، وقال:{فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} فـ"ما" ههنا لمن يعقل، وهنّ النساء؛ لقوله بعد ذلك، مبيّنًا لمبهم "ما"، وقرأ ابن أبي
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 11 - 12.
(2)
"تفسير النسفي" 1/ 205.
(3)
"المفهم" 7/ 326.
عبلة: "من طاب" على ذكر من يعقل.
[الثاني]: قال البصريون: "ما" تقع للنعوت كما تقع لما لا يعقل، يقال: ما عندك؟ فيقال: ظريفٌ وكريمٌ، فالمعنى فانكحوا الطيّب من النساء، أي الحلال، وما حرّمه اللَّه فليس بطيّب، وفي التنزيل:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، فأجابه موسى على وفق ما سأل.
وحكى بعض الناس أن "ما" في هذه الآية ظرفيّة، أي ما دمتم تستحسنون النكاح. قال ابن عطية: وفي هذا المنزع ضعفٌ.
[الرابع]: قال الفرّاء "ما" ههنا مصدرية. وقال النحاس: وهذا بعيدٌ جدًّا، لا يصحّ، فانكحوا الطيّبة.
[الخامس]: أن المراد بـ "ما" هنا العقد، أي فانكحوا نكاحًا طيبًا، وقراءة ابن أبي عَبْلَة تردّ الأقوال الثلاثة.
واتفقوا على أن قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} ليس له مفهوم؛ إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يَخَف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة، اثنين، أو ثلاثًا، أو أربعًا كمن خاف، فدلّ على أن الآية نزلت جوابًا لمن خاف ذلك، وأن حكمها أعمّ من ذلك انتهى كلام القرطبيّ باختصار
(1)
.
(قَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي) أختها هي أسماء بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهم، والدة عبد اللَّه ابن الزبير، وعروة (هِيَ الْيَتِيمَةُ) أي التي مات أبوها (تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا) أي الذي يَلي مالها. قال الفيّوميّ:"حَجر الإنسان" بالفتح، وقد يُكسر: حِضْنه، وهو ما دون إبطه إلى الكشح، وهو في حَجْره: أي كَنَفه، وحِمَايته، والجمع حُجور انتهى.
(فَتُشَارِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيُعجبُهُ مَالُها وَجمالُهَا، فَيُرِيدُ وَليها أَنْ يَتَزَوّجَهَا، بغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ في صَدَاقِهَا) بضمّ الياء، من الإَقساط، أي يَعدِل في مهرها، وفي رواية البخَاريّ، من طريق عُقيل، عن ابن شهاب:"ويريد أن ينتقص من صداقها"(فَيُعْطِيَهَا) عطف على "يُقسِط"، عطف تفسير، وفيه دلالةٌ على النهي عن تزوّج امرأة يخاف في شأنها الجور، منفردةً، أو مجتمعة مع غيرها (مِثْلَ ما يُعْطِيهَا غَيْرُهُ) يعني أنه يريد أن يتزوّجها بغير أن يعطيها مثل ما
يُعطيها غيره، أي ممن يَرغَب في نكاحها سواه، ويدلّ على هذا قوله (فَنُهُوا) بضم النون، والهاء، مبنيًّا للمفعول (أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ) بفتح الياء بالبناء للمفعول، أي يتزوّجوهنّ (إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا بِهنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِن مِنَ الصَّدَاقِ) أي أعلى عادة مهر مثلهنّ (فَأُمِرُوا) بضم الهمزة، مبنيًّا للمفعول (أَنْ يَنْكِحُوا ما طَابَ لَهُمْ، مِنَ النسَاءِ سِوَاهُنَّ) أي
(1)
"تفسير القرطبيّ" 5/ 12 - 13.
يتزوّجوا غيرهنّ من النساء بأيّ مهر توافقوا عليه. قال في "الفتح": وتأويل عائشة هذا جاء عن ابن عبّاس مثله، أخرجه الطبريّ. وعن مجاهد في مناسبة ترتّب قوله:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} على قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} شيء آخر، قال في معنى قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا} أي إذا كنتم تخافون أن لا تعدلوا في مال اليتامى، فتحرّجتم أن لا تَلُوها، فتحرّجوا من الزنا، وانكحوا ما طاب لكم من النساء، وعلى تأويل عائشة يكون المعنى: وإن خفتم أن لا تُقسطوا في نكاح اليتامى انتهى
(1)
.
وقال الخطّابيّ: وتأويل الآية، وبيان معناها: أن اللَّه تعالى خاطب أولياء اليتامى، فقال: وإن خفتم من أنفسكم المشاحّة في صدقاتهنّ، وأن لا تعدلوا، فتبلغوا بهنّ صدق أمثالهنّ، فلا تنكحوهنّ، وانكحوا غيرهنّ من الغرائب اللواتي أُحلّ لكم خطبتهنّ من واحدة إلى أربع، وإن خفتم أن تجوروا إذا نكحتم من الغرائب أكثر من واحدة، فانكحوا منهنّ واحدةً، أو ما ملكتم من الإماء انتهى
(2)
.
(قَالَ: عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ:) - رضي اللَّه تعالى عنها -، وهو معطوفٌ على المذكور، وإن كان بغير أداة عطف (ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ، اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ) بضمّ الدّال، من الظروفة المبنيّة على الضمّ، لقطعها عن الإضافة، ونيّة معناها، أي بعد نزول هذه الآية بهذه القصّة. وفي رواية عُقيل:"بعد ذلك"(فِيهِنَّ) أي في شأن النساء (فَأَنْزَلَ اللَّه عز وجل: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ) أي يسألونك الإفتاء في النساء، والإفتاء تبيين المبهم
(3)
(قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} قال النسفيّ: أي اللَّه يفتيكم، والمتلوّ في الكتاب، أي القرآن في معنى اليامى، يعني قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}، وهو من قولك: أعجبني زيد وكرمُهُ، {وما يُتلى} في محلّ الرفع بالعطف على الضمير في {يفتيكم}، أو على لفظ {اللَّه}، و {في يتامى النساء} صلة {يُتلى}، أي يتلى عليكم في معناهنّ، ويجوز أن يكون في {يتامى النساء} بدلاً من {فيهنّ}، والإضافة بمعنى "من" (إِلَى قَوْلِهِ: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}، قَالَت عَائِشَةُ: وَالذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، أنَّهُ يُتلَى فِي الْكِتَابِ الآيَةُ الأوُلَى، التي فِيهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، قَالَت عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللَّهِ فِي الْآيَةِ الأُخرَى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رَغبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ)
(1)
"فتح" 9/ 111 "كتاب التفسير". رقم 4574.
(2)
"معالم السنن" 3/ 15 - 16.
(3)
"تفسير النسفيّ" 1/ 253.
قال في "الفتح": فيه تعيين أحد الاحتمالين في قوله: {وترغبون} ؛ لأن رغب يتغيّر معناه بمتعلقه، يقال: رغب فيه إذا أراده، ورغب عنه إذا لم يرده؛ لأنه يحتمل أن تحذف "في"، وأن تُحذف "عن". وقد تأوّله سعيد بن جبير على المعنيين، فقال: نزلت في الغنية، والمعدمة، والمرويّ هنا عن عائشة أوضح في أن الآية الأولى نزلت في الغنيّة، وهذه الآية نزلت في الْمُعدمة انتهى
(1)
(الَّتِي تَكُونُ فِي حَجْرِهِ، حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا، مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ، إِلاَّ بِالقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ) أي نُهُوا عن نكاح المرغوب فيها لجمالها، ومالها؛ لأجل زهدهم فيها، إذا كانت قليلة المال والجمال، فينبغي أن يكون نكاح اليتيمتين على السواء في العدل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-66/ 3367 - وفي "الكبرى" 69/ 5514 و"التفسير"11091. وأخرجه (خ) في "الشركة" 2494 و"الوصايا" 2763 و"التفسير" 4573 و 4600 و"النكاح" 5064 و 5092 و 5098 و 5131 و"الحيل" 6965 (م) في "التفسير" 3018 (د) في "النكاح" 2068. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو وجوب العدل في مهور النساء. (ومنها): أنه استُدلّ به على أن للوليّ أن يزوّج محجورته من نفسه. (ومنها): أن له حقًّا في التزويج؛ لأن اللَّه تعالى خاطب الأولياء بذلك. (ومنها): اعتبار مهر الْمُثُل في المحجورات، وأن غيرهنّ يجوز نكاحها بدون ذلك. (ومنها): جواز تزويج اليتامى قبل البلوغ لأنهنّ بعد البلوغ، لا يقال لهنّ: يتيمات، إلا أن يكون أطلق استصحابًا لحالهنّ. (ومنها)؛ بيان سبب نزول الآيتين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في سبب نزول هذه الآية الكريمة
(2)
:
قال أبو العبّاس القرطبيّ
(1)
-رحمه اللَّه تعالى- في "المفهم ": اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية وفي معناها، فذهبت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - إلى ما ذُكر في هذه الرواية، وحاصل الروايات المذكورة عنها: أنها نزلت في وليّ اليتيمة التي لها مالٌ، فأراد وليّها أن يتزوّجها، فأُمر بأن يوفّيها صداق أمثالها، أو يكون لها مالٌ عنده بمشاركة، أو غيرها، وهو لا حاجة له لتزويجها لنفسه، ويكره أن يزوّجها غيره مخافة أخذ مالها من عنده، فأَمَر اللَّه الأولياء بالقسط، وهو العدل، بحيث إن تزوّجها بَذَلَ لها مهر مثلها، وإن لم تكن له رغبةٌ فيها زوّجها من غيره، وأوصلها إلى مالها على الوجه المشروع.
وتكميل معنى الآية: أن اللَّه تعالى قال للأولياء: إن خفتم ألا تقوموا بالعدل، فتزوّجوا غيرهنّ، ممن طاب لكم من النساء، اثنين اثنين، إن شئتم، وثلاثًا ثلاثًا لمن شاء، وأربعًا أربعًا لمن شاء. هذا قول عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - في الآية.
وقال ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - في معنى الآية: إنه قصر الرجال على أربع؛ لأجل أموال اليتامى، فنزلت جوابًا لتحرّجهم عن القيام بإصلاح أموال اليتامى. وفسّر عكرمة قول ابن عبّاس هذا بألاّ تُكثروا من النساء، فتحتاجوا إلى أخذ أموال اليتامى. وقال السّدّيّ، وقتادة: معنى الآية: إن خفتم الجورَ في أموال اليتامى، فخافوا مثله في النساء، فإنهنّ كاليتامى في الضعف، فلا تنكحوا أكثر مما يُمكنم إمساكهنّ بالمعروف.
قال القرطبيّ: وأقرب هذه الأقوال، وأصحّها قول عائشة -إن شاء اللَّه تعالى-.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا صححه القرطبيّ هو الأرجح عندي. واللَّه تعالى أعلم.
قال: وقد اتفق كلّ من يُعاني العلوم على أن قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} ليس له مفهوم؛ إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يَخَف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة: اثنين، أو ثلاثًا، أو أربعًا، كمن خاف. فدلّ ذلك على أن الآية نزلت جوابًا لمن خاف، وأن حكمها أعمّ من ذلك انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم
(1)
أبو العباس القرطبيّ هو أحمد بن عمر بن إبراهيم 578 - 656هـ وهو صاحب كتاب "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم". وأما أبو عبد اللَّه القرطبيّ، فهو محمد بن أحمد الأنصاريّ المتوفى سنة 671 هـ وهو صاحب التفسير المشهور المسمى "الجامع لأحكام القرآن"، وهو تلميذ لأبي العباس.
(2)
"المفهم" 7/ 329 - 330.
بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: تعلّق أبو حنيفة بهذه الآية في تجويزه نكاح اليتيمة قبل البلوغ، وقال: إنما تكون يتيمة قبل البلوغ، وبعد البلوغ هي امرأة مطلقة، لا يتيمة، بدليل أنه لو أراد البالغة لما نهى عن حطّها عن صداق مثلها؛ لأنها تختار ذلك، فيجوز إجماعًا.
وذهب مالكٌ، والشافعيّ، والجمهور من العلماء إلى أن ذلك لا يجوز حتى تبلغ، وتُستأمَرَ؛ لقوله تعالى:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} الآية، والنساء اسم ينطلق على الكبار، كالرجال في الذكور، واسم الرجل لا يتناول الصغير، فكذلك اسم النساء والمرأة لا يتناول الصغيرة، وقد قال:{فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} والمراد به هناك اليتامى هنا؛ كما قالت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فقد دخلت اليتيمة الكبيرة في الآية، فلا تُزوّج إلا بإذنها، ولا تُنكح الصغيرة إذ لا إذن لها، فإذا بلغت جاز نكاحها، لكن لا تُزوّج إلا بإذنها، كما رواه الدارقطنيّ من حديث محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: زوّجني خالي قُدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان بن مظعون، فدخل المغيرة بن شعبة على أمها، فأرغبها في المال، وخطبها إليها، فرُفع شأنها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال قُدامة: يا رسول اللَّه ابنة أخي، وأنا وصيّ أبيها، ولم أقصّر بها، زوّجتها مَنْ قد عَلِمت فضلَهُ، وقَرَابته، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنها يتيمة، واليتيمة أولى بأمرها"، فنزعت منّي، وزوّجوها المغيرة بن شعبة. قال الدارقطنيّ: لم يسمعه محمد بن إسحاق من نافع، وإنما سمعه من عمر بن حسين، عنه. ورواه ابن أبي ذئب، عن عمر بن حسين، عن نافع، عن عبد اللَّه بن عمر: أنه تزوّج بنت خاله عثمان بن مظعون، قال: فذهبت أمها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن ابنتي تكره ذلك، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يفارقها، ففارقها، وقال:"لا تُنكِحوا اليتامى حتى تسأمروهنّ، فإذا سكتن، فهو إذنها"، فتزوّجها بعد عبد اللَّه المغيرةُ بن شعبة
(1)
.
فهذا يردّ ما يقوله أبو حنيفة من أنها إذا بلغت لم تحتج إلى وليّ؛ بناءً على أصله في عدم اشتراط الوليّ في صحّة النكاح. واللَّه أعلم انتهى كلام القرطبيّ
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في البحث المتعلّق بقوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} :
قال القرطبيّ في "تفسيره": اعلم أن هذا العدد مثنى، وثُلاث، ورُباع لا يدلّ على
(1)
حديث صححه الحاكم في "المستدرك" 2/ 167، ووافقه الذهبيّ.
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 13 - 14.
إباحة تسع، كما قاله مَن بَعُد فهمه للكتاب والسنّة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعةٌ، وعَضَدَ ذلك بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم نكح تسعًا، وجمع بينهنّ في عصمته، والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة الرافضة، وبعض أهل الظاهر
(1)
، فجعلوا مثنى مثل اثنين، وكذلك ثُلاث، ورباع. وذهب بعض أهل الظاهر أيضًا إلى أقبح منها، فقالوا بإباحة الجمع بين ثمان عشرة
(2)
، تمسّكًا منه بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار، والواو للجمع، فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين، وكذلك ثُلاث، ورُباع. وهذا كله جهلٌ باللسان والسنة، ومخالفة لإجماع الأمة؛ إذ لم يُسمع عن أحد من الصحابة، ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع.
وأخرج مالك في "موطّئه"، والنسائيّ، والدارقطنيّ في "سننهما" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن سلمة الثقفيّ، وقد أسلم، وتحته عشر نسوة:"اختر منهنّ أربعًا، وفارق سائرهنّ"
(3)
. وفي "كتاب أبي داود" عن الحارث بن قيس، قال: أسلمتُ، وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"اختر منهنّ أربعًا".
وقال مقاتل: إن قيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر، فلما نزلت هذه الآية، أمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُطلّق أربعًا، وُيمسك أربعًا. كذا قال:"قيس بن الحارث"، والصواب أن ذلك كان حارث بن قيس الأسديّ، كما ذكره أبو داود. وكذا روى محمد ابن الحسن في "كتاب السير الكبير" أن ذلك كان حارث بن قيس، وهو المعروف عند الفقهاء. وأما ما أُبيح للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فذلك من خصوصيّاته.
وأما قولهم: إن الواو جامعةٌ، فقد قيل: ذلك، لكن اللَّه تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات، والعرب لا تَدَعُ أن تقول: تسعة، وتقول: اثنين، وثلاثة، وأربعة، وكذلك تستقبح ممن يقول: أعط فلانًا أربعة ستة ثمانية، ولا يقول: ثمانية عشر، وإنما الواو في هذا الموضع بدل، أي انكحوا ثُلاثَ بدلًا من مثنى، ورباع بدلًا من ثُلاث، ولذلك عطف بالواو، ولم يُعطف بـ "أو"، ولو جاء بـ"أو" لجاز أن لا يكون لصاحب مثنى ثلاث، ولصاحب ثلاث رباع.
وأما قولهم: إن مثنى تقتضي اثنين، وثلاث ثلاثة، ورُباع أربعة، فتحكّم بما لا يوافقهم أهل اللسان عليه، وجهالةٌ منهم، وكذلك جَهِلَ الآخرون بأن مثنى تقتضي اثنين اثنين، وثُلاث ثلاثة ثلاثة، ورباع أربعة أربعة، ولم يعلموا أن اثنين اثنين، وثلاثًا،
(1)
هذا غير صحيح، فإن الظاهرية لا يخالفون الجمهور في ذلك، كما سيأتي قريبًا.
(2)
فيه ما في سابقه.
(3)
سيأتي أن حديث قصّة غيلان صحيح.
وأربعًا أربعًا حصرٌ للعدد، ومثنى وثلاث، ورباع بخلافها، ففي العدد المعدول عند العرب زيادة معنى، ليست في الأصل، وذلك أنها إذا قالت: جاءت الخيل مثنى، إنما تعني بذلك اثنين اثنين، أي جاءت مزدوجةً. قال الجوهريّ: وكذلك معدول العدد. وقال غيره: إذا قلت جاءني قوم مثنى، أو ثُلاث، أو أُحاد، أو عُشار، فإنما تريد أنهم جاءوك واحدًا واحدًا، أو اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو عشرة عشرة، وليس هذا المعنى في الأصل؛ لأنك إذا قلت: جاءني قوم ثلاثة ثلاثة، أو قومٌ عشرة عشرة، فقد حصرت عِدّة القوم بقولك ثلاثة وعشرة، فإذا قلت: جاءوني رُباع، وثُناء، فلم تحصر عِدّتهم، وإنما تريد أنهم جاءوك أربعة أربعة، أو اثنين اثنين، وسواء أكثر عددهم، أو قلّ في هذا الباب، فقصرهم كلّ صيغة على أقلّ ما تقتضيه بزعمه تحكّم. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحقّ أن نكاح أكثر من أربع نسوة للحرّ لا يجوز، وهذا مجمع عليه بين أهل السنَّة، قال الإمام ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-: ولا يحلّ لأحد أن يتزوّج أكثر من أربع نسوة، إماء، أو حرائر، أو بعضهنّ حرائر، وبعضهنّ إماء. قال: برهان ذلك قول اللَّه عز وجل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} ، ثم أخرج بسنده حديث غيلان الثقفي المتقدّم، ثم قال: فإن قيل: فإن معمرًا أخطأ في هذا الحديث، فأسنده. قلنا: معمر ثقة مأمون، فمن ادّعى عليه أنه أخطأ، فعليه البرهان بذلك، ولا سبيل له إليه. وأيضا فلم يَختَلِف في أنه لا يحلّ لأحد زواج أكثر من أربع نسوة أحد من أهل الإسلام، وخالف في ذلك قوم من الروافض، لا يصحّ لهم عقد الإسلام انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تبيّن بما ذكره ابن حزم أن هذه المسألة محلّ إجماع بين أهل السنة، فلا يحلّ لأحد أن يتزوّج أكثر من أربع نسوة، بإجماع أهل السنّة والجماعة، وما خالف فيها إلا قوم من الروافض، فما تقدّم من نسبة القرطبي، وغيره ذلك إلى بعض الظاهرية، غير صحيح؛ لأن أعلم الناس بمذهب الظاهرية، بل وبمذهب غيرهم أيضًا -وهو ابن حزم الظاهريّ- قد نفى الخلاف بين أهل السنة، ونسبه إلى قوم من الرافضة، فتبيّن بطلان ما ذُكر، فتبصّر، ولا تتحيّر.
وأما حديث غيلان المذكور فهو حديث تكلموا فيه، لكن الأرجح أنه صحيح، كما سيأتي.
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 17/ 18.
(2)
"المحلّى" 9/ 441.
قال الترمذيّ في "الجامع" بعد أن أخرجه بلفظ: "أن غيلان بن سلمة الثقفيّ أسلم، وله عشر نسوة في الجاهليّة، فأسلمن معه، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتخيّر منهنّ أربعًا".
وقال: هكذا رواه معمر، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، قال: وسمعت محمد ابن إسماعيل يقول: هذا حديث غير محفوظ، والصحيح ما روى شعيب بن أبي حمزة، وغيره، عن الزهريّ، وقال: حُدّثت عن محمد سُويد الثقفيّ أن غيلان بن سلمة أسلم، وعنده عشر نسوة. قال: محمد: وإنما حديث الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، أن رجلًا من ثقيف طلّق نساءه، فقال له عمر: لتُراجعنّ نساءك، أو لأرجمنّ قبرك كما رُجم قبرُ أبي رِغَال. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ في "التلخيص الحبير": وحكم مسلم في "التمييز" على معمر بالوهم فيه، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه، وأبي زرعة: المرسل أصحّ.
وحكى الحاكم عن مسلم أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة، قال: فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحّة. وقد أخذ ابن حبّان، والحاكم، والبيهقيّ بظاهر هذا الحكم، فأخرجوه من طرق، عن معمر من حديث أهل الكوفة، وأهل الخراسان، وأهل اليمامة عنه.
وقد حقق البحث في هذا الحديث الحافظ أبو الحسن ابن القطّان الفاسيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في كتابه "الوهم والإيهام"، فقال بعد ذكر نحو ما حكاه الترمذيّ عن البخاريّ، وذكر قول أبي عمر: الأحاديث في تحريم نكاح ما زاد على الأربع كلها معلولة: ما نصّه:
وليس في شيء منه تنصيص على علّة حديث غيلان، فنبيّنها كما يريد مضعّفوه، وإن كانت عندي ليست بعلة.
[فاعلم]: أنه حديث مختلف فيه على الزهريّ، فقدم رووه عنه مرسلًا من قبله، كذلك، قال مالك عنه، قال: بلغنا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من ثقيف
…
الحديث. وكذلك رواه معمرٌ عنه، قال: "أسلم غيلان
…
" مثله من رواية عبد الرزّاق، عن معمر، فهذا قول. وقول ثان، وهو زيادة رجل فوق الزهريّ، وهي إحدى روايتين عن يونس، رواه ابن وهب، عن يونس، عن الزهريّ، عن عثمان بن محمد بن أبي سُويد، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لغيلان حين أسلم، وعنده عشر نسوة
…
فذكره. وعن يونس فيه رواية أخرى تَبيّن فيها انقطاع ما بين الزهريّ وعثمان. وهذا رواه الليث، عن
(1)
"الجامع للترمذيّ" 4/ 278 - 279. بنسخة "تحفة الأحوذيّ".
يونس، عن ابن شهاب، قال بلغني عن عثمان بن أبي سُويد، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال
…
فذكر الحديث.
وقول ثالث عن الزهريّ، وهو ما ذكره البخاريّ، قال: روى شُعيب بن أبي حمزة، وغير واحد عن الزهريّ، قال: حُدّثت عن محمد بن سُويد الثقفيّ، أن غيلان بن سلمة أسلم
…
لحديث.
وقولٌ رابع عنه، رواه معمرٌ عنه، عن سالم، عن أبيه: "أن غيلان بن سلمة الثقفيّ أسلم، وله عشر نسوة في الجاهليّة، وأسلمن معه
…
" الحديث. يرويه عن معمرٍ هكذا مروان بن معاوية، وسعيد بن أبي عروبة، ويزيد بن زُريع، وقد ذكر الترمذيّ في "عللَّه" روايات جميعهم موصولة. وقد رواه أيضًا الثوريّ عن معمر، ذكره ذلك الدارقطنيّ من رواية يحيى بن سعيد عنه في "كتاب العلل"، وذكر جماعةً رووه أيضًا عن معمر كذلك، إلا أنه لم يوصل بها الأسانيد. وذكر أن يحيى بن سلام رواه عن مالك، عن الزهريّ كذلك. وهذا هو الحديث الذي اعتمد هؤلاء في تخطئة معمر فيه، وما ذلك بالبيّن، فإن معمرًا حافظ. ولا بُعد في أن يكون عند الزهريّ في هذا كلّ ما رُوي عنه. وإنما اتجهت تخطئتهم رواية معمر هذه، من حيث الاستبعاد أن يكون الزهريّ يرويه بهذا الإسناد الصحيح، عن سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم يحدث به على تلك الوجوه الواهية، تارة يرسله من قبله، وتارة عن عثمان بن محمد بن أبي سُويد، وهو لا يعرف البتّة، وتارة يقول: بلغنا عن عثمان هذا، وتارة عن محمد بن سُويد الثقفيّ.
قال ابن القطّان: وهذا عندي غير مستبعد أن يحدث به على هذه الوجوه كلها، فيعلّق كلّ واحد من الرواة عنه منها بما تيسّر له حفظه، فربّما اجتمع كلّ ذلك عند أحدهم، أو أكثره، أو أقلّه.
وأما ما قال البخاريّ من أن الزهريّ، إنما روى عن سالم، عن أبيه، أن عمر قال لرجل من ثقيف طلق نساءه:"لتُراجعنّ نساءك، أو لأرجمنّك كما رُجم قبر أبي رغال". فإنه قد روي من غير رواية الزهريّ، أن عمر قال ذلك له في حديث واحد ذكر فيه تخيير النبيّ صلى الله عليه وسلم إياه حين أسلم.
قال الدارقطنيّ: حدثنا محمد بن نوح الْجُندِيسابوري، حدّثنا عبد القدّوس بن محمد. وحدّثنا محمد بن مخلد، حدثنا حفص بن عمر بن يزيد أبو بكر، قالا: حدثنا سيف بن عبيد اللَّه الجرميّ، حدثنا سَرَّار بن مُجَشِّر
(1)
، عن أيوب، عن نافع وسالم، عن ابن عمر: "أن غيلان بن سلمة الثقفيّ أسلم، وعنده عشر نسوة، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن
(1)
سرّار -بفتح أوله، وتشديد الراء- ابن مُجَشّر -بضم الميم، وفتح الجيم، وتشديد المعجمة المكسورة- أبو عبيدة البصريّ، ثقة [8] ت سنة 165 هـ). انتهى "ت".
يمسك منهنّ أربعًا، فلما كان زمان عمر طلّقهنّ، فقال له عمر: راجعهنّ، وإلا وَرَّثْتُهُنّ مالَكَ، وأمرتُ بقبرك". زاد ابن نوح:"فأسلم، وأسلمن معه".
فهذا أيوب يرويه عن سالم، كما رواه الزهريّ عنه في رواية معمر، وزاد إلى سالم نافعًا. وسَرَّار بن مُجَشِّر أحد الثقات، وسيف بن عبيد اللَّه، قال فيه عمرو بن عليّ: من خيار الخلق. ولم يذكره ابن أبي حاتم، ولا أعرفه عند غيره
(1)
.
ولما ذكر الدارقطنيّ هذا الحديث في "كتاب العلل" قال: تفرّد به سيف بن عُبيد اللَّه الجرميّ، عن سَرَّار. وسرار بن مجشّر أبو عبيدة، ثقة، من أهل البصرة.
قال ابن القطّان: والمتحصّل من هذا، هو أن حديث الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، من رواية معمر في قصّة غيلان صحيح، ولم يَعتلّ عليه من ضعفه بأكثر من الاختلاف على الزهريّ، فاعلم ذلك. انتهى كلام الحافظ أبي الحسن ابن القطّان الفاسيّ
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر صحّة رواية معمر عن الزهريّ، وأن الحديث ثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد صح أيضًا من رواية أيوب السختياني عن نافع وسالم كلاهما عن ابن عمر.
والحاصل أن الحديث صحيح بكلا الطريقين: طريق الزهري عن سالم، وطريق أيوب عن نافع وسالم كلاهما عن ابن عمر رضي الله عنهما. وبهذا يُقطع دابر الذين خالفوا إجماع السلف، فقد سمعت أن في بعض البلدان قد وقع فتوى بحلّ ما فوق الأربع من النساء، وليس لهم متمسّك فيما سمعت إلا قولهم: لم يصحّ دليلٌ في تحريم ما زاد على الأربع من النساء، وهذا جهلٌ منهم، فقد ثبت لدينا ما يُقطع دابرهم دليلان:
(أحدهما): الإجماع، كما عرفت تحقيقه، وهو كاف وحده، فلا داعي إلى البحث عن دليل آخر.
(الثاني):- حديث قصّة غيلان المذكور، فإنه صحيح، كما عرفت إيضاحه، فإذا عرفت هذا تبيّن لك الحقّ الأبلج، فماذا بعد الحقّ إلا الضلال. اللَّهمّ أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، إنك سميع قريب مجيب الدعوات. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم فيمن تزوّج خامسة:
ذهب مالكٌ، والشافعيّ إلى أن عليه الحدّ إن كان عالمًا، وبه قال أبو ثور. وقال
(1)
بل هو معروف، قال عمرو بن علي الفلاّس: من خيار الخلق. وقال عمرو بن يزيد الجرميّ: ثقة. وقال أبو بكر البزّار في "مسنده": ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: ربما خالف. انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 2/ 144.
(2)
"كتاب الوهم والإيهام" 5/ 495 - 500. رقم الحديث 1270.
الزهريّ: يُرجم إذا كان عالمًا، وإن كان جاهلًا أدنى الحدّين الذي هو الجلد، ولها مهرها، ويُفرّق بينهما، ولا يجتمعان أبدًا.
وقال طائفة: لا حدّ عليه في شيء من ذلك، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن: يُحَدّ في ذات المحرم، ولا يُحد في غير ذلك من النكاح. وذلك مثل أن يتزوّج مجوسيّة، أو خمسة في عُقدة، أو تزوّج متعة، أو تزوّج بغير شهود، أو أَمَةً تزوّجها بغير إذن مولاها.
وقال أبو ثور: إذا علم أن هذا لا يحلّ له يجب أن يحدّ فيه كله إلا التزويج بغير شهود. وفيه قولٌ ثالثٌ قاله النخعيّ في الرجل ينكح الخامسة متعمّدًا قبل أن تنقضي عدّة الرابعة من نسائه: جُلد مائة، ولا يُنفَى.
فهذه فُتيا علماء المسلمين في الخامسة على ما ذكره ابن المنذر، فكيف بما فوقها. قاله القرطبيّ
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): ذكر الزبير بن بكّار حدّثني إبراهيم الحزاميّ، عن محمد بن معن الغفاريّ، قال: أتت امرأة إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجي يصوم النهار، ويقوم الليل، وأنا أكره أن أشكوه، وهو يعمل بطاعة اللَّه عز وجل، فقال لها: نعم الزوج زوجك، فجعلت تكرّر عليه القول، وهو يكرّر عليها الجواب، فقال له كعب الأسديّ: يا أمير المؤمنين هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه، فقال عمر: كما فهمت كلامها، فاقض بينهما، فقال كعب: عليّ بزوجها، فأتي به، فقال له: إن امرأتك هذه تشكوك، قال: أفي طعام، أم شراب؟ قال: لا، فقالت المرأة [من الرجز]:
يَا أَيَهُّا الْقَاضِي الْحَكِيمُ رَشَدُهْ
…
أَلْهَى خَلِيلي عَنْ فِرَاشِي مَسْجِدُهْ
زَهَّدّهُ فِي مَضْجَعِي تَعَبُّدُه
…
فَاقْضِ الْقَضَا كَعْبُ وَلَا تُرَدِّدُهْ
نَهَارَهُ وَلَيْلَهُ مَا يَرْقُدُة
…
فَلَسْتُ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ أَحْمَدُهْ
فقال زوجها:
زَهدَنِي فِي فَرْشِهَا وَفِي الحَجَلْ
…
أَنِّي امْرُؤٌ أَذْهَلَنِي مَا قَدْ نَزَلْ
فِي سُورَةِ النَّحلِ وَفِي السَّبعِ الطُّوَلْ
…
وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَخْوِيفٌ جَلَلْ
فقال كعبٌ:
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 18.
إِنَّ لَهَا عَلَيْكَ حَقًا يَا رَجُلْ
…
نَصِيبُهَا فِي أَرْبَعٍ لِمَنْ عَقَلْ
فَأَعْطِهَا ذَاكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعِلَلْ
ثم قال: إن اللَّه عز وجل قد أحلّ لك من النساء مثنى وثلاث ورباع، ذلك ثلاثة أيام ولياليهنّ، تعبد فيهنّ ربّك. فقال عمر: واللَّه ما أدري من أيّ أمريك أعجب؟ أمن فهمك أمرهما، أم من حكمك بينهما؟ اذهب فقد ولّيتك قضاء البصرة. وروى أبو هدبة إبراهيم بن هُدبة: حدثنا أنس بن مالك، قال: أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ تستعدي زوجها، فقالت: ليس لي ما للنساء، زوجي يصوم الدهر، قال:"لك يومٌ، وله يومٌ، للعبادة يومٌ، وللمرأة يوم"
(1)
. ذكره القرطبيّ
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3348 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: "فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشٍّ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث لا علاقة له بالترجمة، وقد عقد له في "الكبرى" ترجمة، بلفظ:"التزويج على خمسمائة درهم"، فكان الأولى أن يترجم به في "المجتبى" أيضًا. واللَّه تعالى أعلم.
ورجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزيّ نزيل نيسابور المعروف بابن راهويه ثقة ثبت حجة [10] 2/ 2.
2 -
(عبد العزيز بن محمد) الدراورديّ، أبو محمد المدني، صدوق، كان يحدث من كتب غيره، فيخطىء [8] 84/ 101.
3 -
(يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد) الليثيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة مكثر [5] 73/ 90.
4 -
(محمد بن إبراهيم) بن الحارث التيمي، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة له أفراد [4] 60/ 75.
5 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، ثقة ثبت فقيه [3] 1/ 1.
6 -
(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
هذا يحتاج إلى النظر في سنده، فليُنظر.
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 19 - 20.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه إسحاق ابن راهويه، فمروزيّ، ثم نيسابوريّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم، عن بعض: يزيد، عن محمد ابن إبراهيم، وعن أبي سلمة. (ومنها): أن فيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. (ومنها): أن فيه أبا سلمة بن عبد الرحمن أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، على بعض الأقوال. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - (عَنْ ذَلِكَ؟) أي عن مقدار المهر، وفي رواية مسلم:"سألت عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم كم كان صداق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقيّةً ونشًّا"(فَقَالَتْ: "فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي تزوّج الأزواج، أو زوّج نساءه (عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً) بضمّ الهمزة، وسكون الواو، وكسر القاف، وتشديد الياء التحتانية- قال النوويّ: والمراد أُقيّة الحجاز، وهي أربعون درهمًا
(1)
انتهى.
وقال الفيّوميّ: والأُوقيّة بضمّ الهمزة، وبالتشديد: وهي عند العرب أربعون درهمًا،
وهي في تقدير أُفعُولةٍ، كالأُعجوبة، والأُحدوثة، والجمع الأَوَاقيّ بالتشديد، وبالتخفيف للتخفيف. وقال ثعلبٌ في باب المضموم أوّله: وهي الأُوقيّة، والْوُقيّةُ لغة، وهي بضمّ الواو، هكذا هي مضبوطةٌ في كتاب ابن السّكّيت. وقال الأزهريّ: قال الليثُ: الْوُقيّةُ: سبعةُ مثاقيل، وهي مضبوطةٌ بالضمّ أيضًا. قال الْمُطَرِّزيّ: وهكذا هي مضبوطة في "شرح السنّة" في عِدّةِ مواضع، وجرَى على ألسنة الناس بالفتح، وهي لغة، حكاها بعضهم، وجمعها وَقَايا، مثلُ عَطِيّة وعطايا انتهى
(2)
.
(وَنَشٍّ) بفتح النون، وتشديد الشين المعجمة: فسّرته عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وقال كُراع: هو نصف الشيء. وقال الخطّابيّ: هو اسم موضوع لهذا القدر. وقال القرطبيّ: هو مُعَرَّبٌ، منوّنْ. انتهى
(3)
. وقال الفيّوميّ: النّشّ بالفتح: نصف الأوقيّة
(1)
وقدّر في المعيار المعاصر بـ (147) غرامًا. انظر ما كتبه الشيخ عبد اللَّه عبد الرحمن البسّام في "توضيح الأحكام" 4/ 471.
(2)
راجع "المصباح المنير" في مادّة وقى 669 - 670.
(3)
"المفهم" 4/ 133 - 134.
وغيرها، وكانت الأوقيّة عندهم أربعين درهمًا، وكان النشّ عشرين درهمًا، قال ابن الأعرابي: ونشُّ الدرهم، والرَّغِيف: نصفه انتهى.
(وَذَلِكَ خَمْسُ مِائَةِ دِرْهَمٍ)
(1)
هذا التفسير من عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، ففي رواية مسلم: قالت: أتدري ما النّشّ؟ قال: قلت: لا، قالت: نصف أوقيّة، فتلك خمسمائة درهم، فهذا صداق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأزواجه".
[فإن قيل]: فصداق أمّ حبيبة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان أربعة آلاف درهم، وأربعمائة
(2)
دينار. [فالجواب]: أن هذا القدر تبرّع به النجاشيّ من ماله، إكرامًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، لا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أدّاه، أو عقد به. قاله النوويّ
(3)
.
وقال القرطبيّ: ما ملخّصه: هذا القول من عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - إنما هو إخبار عن غالب أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن صفيّة من جملة أزواجه، وأصدقها نفسها، على ما تقدّم من الخلاف، وزينب بنت جحش، لم يُذكر لها صداق. وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان أصدقها النجاشيّ أربعة آلاف درهم، فقد خرج هؤلاء من عموم قول عائشة - رضي اللَّه تعالى عنهن - انتهى
(4)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا- 66/ 3348 - وفي "الكبرى" 68/ 5513. وأخرجه (م) في "النكاح" 1426 (د) في "النكاح" 2105 (ق) في "النكاح" 1886 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 24105 (الدارمي) في "النكاح" 2199. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): أن الصداق للمرأة عند النكاح لا بدّ منه. (ومنها): كونه الصداق خمسمائة درهم، وهذا ليس على سبيل الوجوب، وإنما هو لمن يتسّر له ذلك، وإلا فيجوز بأقلّ منه، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال:"التمس، ولو خاتمًا من ذهب"، وأنه صلى الله عليه وسلم تزوّج بأكثر من
(1)
هي بالريال السعوديّ مائة وأربعون ريالًا. انتهى "توضيح الأحكام" 4/ 472.
(2)
هكذا نسخة شرح النووي بالواو، ولعل الصواب بـ"أو"، فليحرر.
(3)
"شرح مسلم" 9/ 218.
(4)
"المفهم" 4/ 134.
ذلك، كما في قصّة أم حبيبة - رضي اللَّه تعالى عنها - الآتية بعد حديثين، غير أنّ المغالاة فيه مكروهةٌ؛ لأنها من باب السرف، والتعسير، والمباهاة. قاله القرطبيّ.
وقد تقدّم اختلاف أهل العلم في أقلّ المهر - 1/ 3201 - في شرح حديث الواهبة نفسها، مستوفًى، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3349 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "كَانَ الصَّدَاقُ، إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَةَ أَوَاقٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن عبد اللَّه بن المبارك) أبو جعفر الْمُخَرِّميّ البغداديّ الثقة الحافظ [11] 43/ 50.
2 -
(عبد الرحمن بن مهديّ) العنبريّ مولاهم البصريّ، ثقة ثبت إمام [9] 42/ 49.
3 -
(داود بن قيس) الفرّاء الدّبَاغ المدنيّ، الثقة الفاضل [5] 96/ 120.
4 -
(موسى بن يسار) المطّلبيّ مولاهم المدنيّ، ثقة [4].
روى عن أبي هريرة رضي الله عنه. وعنه ابن أخيه محمد بن إسحاق بن يسار، وعبد الرحمن بن الغسيل، وعُبيد اللَّه بن عمر العمريّ، وأبو مَعْشَر، وداود بن قيس الْفَرَّاء، وعثمان بن واقد المدنيّون. قال عباسٌ، عن ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". علّق عنه البخاريّ، وأخرج له مسلم، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث رقم 3349 - وحديث آخر رقم 14/ 4489 - حديث أبي هريرة في المُصَرّاة.
5 -
(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغدادي، وابن مهدي، فبصريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ:"كَانَ الصَّدَاقُ) ولفظ أحمد من رواية إسماعيل بن عمر، عن داود بن قيس: "كان صداقنا إذ كان فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم،
عَشْرَ أواق، وطَبَّقَ بيديه، وذلك أربع مائة".
والمراد صداق غالب الناس، الذي يتعاملون به فيما بينهم، وإلا فقد تقدّم أنه صلى الله عليه وسلم كان يتزوّج باثني عشر أوقيّة، ونَشًّا، وأمهر النجاشيّ أم حبيبة - رضي اللَّه تعالى عنها - حين زوّجها للنبيّ صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف درهم. وكذلك ثبت أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم زوّج بأقلّ من ذلك، وقال:"التمس ولو خاتمًا من حديد". وزوّج بسور من القرآن.
(إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي في حياته، ومرأىً، ومَسْمَع منه، ويستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم قرّرهم عليه، وفيه أن الصحابيّ إذا قال: كنا نفعل كذا، في عهده صلى الله عليه وسلم له حكم الرفع، وهو مذهب جماهير أهل العلم، من المحدّثين وغيرهم، وإلى ذلك أشار الحافظ السيوطي في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ
…
نَحوُ "مِنَ السُّنَّةِ" مِنْ صَحَابِي
"كَذَا أُمِرْنَا" وَكَذَا "كُنَّا نَرَى"
…
فِي عَهْدِهِ أَوْ عَنْ إِضَافَةٍ عَرَى
ثَالِثُهَا إِنْ كَانَ لَا يَخْفَى وَفِي
…
تَصْرِيحِهِ بِعِلْمِهِ الْخُلْفُ نُفِي
(عَشْرَةَ أَوَاقٍ") أي أربعمائة درهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-66/ 3349 - وفي "الكبرى" 65/ 5511. وأخرجه (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 8589. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3350 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ مُقَاتِلِ بْنِ مُشَمْرِخِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَابْنِ عَوْنٍ، وَسَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ، وَهِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ سَلَمَةُ: عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، نُبِّئْتُ عَنْ أَبِي الْعَجْفَاءِ، وَقَالَ الآخَرُونَ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي الْعَجْفَاءِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "أَلَا لَا تَغْلُوا صُدُقَ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا، أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ عز وجل، كَانَ أَوْلَاكُمْ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، مَا أَصْدَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ، وَلَا أُصْدِقَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ، أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُغْلِي بِصَدُقَةِ امْرَأَتِهِ، حَتَّى يَكُونَ لَهَا عَدَاوَةٌ فِي نَفْسِهِ، وَحَتَّى يَقُولَ: كُلِّفْتُ لَكُمْ عَلَقَ الْقِرْبَةِ، وَكُنْتُ غُلَامًا عَرَبِيًّا مُوَلَّدًا، فَلَمْ أَدْرِ مَا عَلَقُ الْقِرْبَةِ؟ قَالَ: وَأُخْرَى يَقُولُونَهَا لِمَنْ قُتِلَ فِي مَغَازِيكُمْ، أَوْ مَاتَ: قُتِلَ فُلَانٌ شَهِيدًا، أَوْ مَاتَ فُلَانٌ شَهِيدًا، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْقَرَ عَجُزَ دَابَّتِهِ، أَوْ دَفَّ رَاحِلَتِهِ ذَهَبًا، أَوْ وَرِقًا يَطْلُبُ التِّجَارَةَ، فَلَا تَقُولُوا ذَاكُمْ، وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ مَاتَ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بوّب المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "الكبرى" لهذا الحديث بقوله: [التزويج على اثنتي عشرة أوقيّة].
ورجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عَليُّ بْنُ حُجْرِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ مُقَاتِلِ بْنِ مُشَمْرِخِ
(1)
بْنِ خَالِدٍ) السعدي المروزي، نزيل بغداد، ثم مرو، ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 13.
2 -
(إسماعيل بن إبراهيم) ابن عليّة الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقة ثبت [8] 18/ 19.
3 -
(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت فقيه حجة [5] 42/ 48.
4 -
(ابن عون) هو: عبد اللَّه بن عون بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقة ثبت فاضل [5] 29/ 33.
5 -
(سلمة بن علقمة) التميمي، أبو بشر البصريّ، ثقة [6] 34/ 1889.
6 -
(هشام بن حسان) الأزديّ القردوسي، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن وعطاء مقال؛ لأنه قيل: كان يرسل عنهما [6] 188/ 300.
7 -
(محمد بن سيرين) الأنصاريّ، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقة ثبت كبير القدر [3] 46/ 57.
8 -
(أبو العَجْفَاء) -بفتح أوّله، وسكون الجيم- السلميّ البصريّ، قيل: اسمه هَرِم ابن نَسِيب -بفتح النون، وكسر السين- وقيل: بالعكس، وقيل: بالصاد، بدل السين المهملتين- صدوق
(2)
[2].
قال ابن أبي خيثمة: سألت ابن معين، عن أبي الْعَجْفاء، فقال: اسمه هَرِم، بصريّ، ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الدارقطنيّ: ثقة. وقال البخاريّ: في حديثه نظر. وقال أبو أحمد: ليس حديثه بالقائم. وذكره البخاريّ في "فصل من مات من التسعين إلى المائة".
أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب حديث الباب فقط.
(1)
بالخاء المعجمة، كما في "تهذيب التهذيب"، وزاد فيه بين مقاتل ومشمرخ أبا، وهو مُخادش". واللَّه تعالى أعلم.
(2)
قال عنه في "التقريب": مقبول، وفيه نظر، فقد وثّقه ابن معين، وابن حبان، والدارقطنيّ، فالظاهر أنه صدوق، من أجل كلام البخاريّ، وأبي أحمد الحاكم، فليُتنبّه.
9 -
(عمر بن الخطاب) أمير المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنه - 60/ 75. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير أبي العجفاء، فمن رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فمروزيّ، والصحابيّ رضي الله عنه فمدنيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعيين عن تابعيّ، عن تابعيّ: أيوب، وابن عون
(1)
، عن ابن سيرين، عن أبي العجفاء، وفيه أن الصحابي رضي الله عنه أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشرين بالجنة - رضي اللَّه تعالى عنهم -. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَيُّوبَ) بن أبي تميمة السختيانيّ (وَ) عبد اللَّه (ابْنِ عَوْنِ) بن أرطبان (وَسَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ) التيميّ (وَهِشَامِ بْنِ حَسَّانَ) القُرْدوسيّ البصريّ (دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ) يعني أن هؤلاء الأربعة حدثوا إسماعيل ابن عُلية بهذا الحديث، وتداخلت رواية بعضهم في رواية الآخرين، وكلهم رووه (عَنْ مُحَمَّدْ بْنِ سِيرِينَ) الأنصاريّ مولاهم، أبي بكر البصريّ الإمام الحجة المشهور (قَالَ سَلَمَةُ) بن علقمة (عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، نُبِّئْتُ عَنْ أَبِي الْعَجْفَاءِ) يعني رواية سلمة بن علقمة بلفظ: "عن ابن سيرين، نُبّئت عن أبي العجفاء" ببناء الفعل للمفعول، أي قال ابن سيرين أخبرني مخبر عن أبي العجفاء، والراوي له مبهم، وظاهر هذه الرواية أنها منقطعة (وَقَالَ الآخَرُونَ) أيوب، وابن عون، وهشام (عَنْ مُحَمَّدْ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي الْعَجْفَاءِ) يعني رووه بلفظ "عن محمد بن سيرين، عن أبي العجفاء"، فسموه باسمه، ورووه بـ"عن".
[تنبيه]: ظاهر رواية سلمة الانقطاع كما أشرف آنفًا، ورواية هؤلاء الثلاثة تحتمل السماع، لكن صرح في رواية الإمام أحمد في "مسنده" -340 - من طريق ابن عيينة، عن أيوب، قال: سمعه من أبي العجفاء، وكذلك حكى البخاريّ، أن هشام بن حسّان، قال: عن ابن سيرين: حدثنا أبو العجفاء، فثبت بذلك الاتصال -والحمد للَّه- وسيأتي تمام البحث قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.
(قَالَ) أبو العجفاء (قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَلَا) أدة استفتاح،
(1)
ابن عون تابعي من الطبقة الخامسة؛ لأنه رأى أنسًا رضي الله عنه، وما قال عنه في "التقريب": من السادسة محلّ نظر، واللَّه تعالى أعلم.
وتنبيه، يلقَى بها إلى المخاطب، تنبيهًا له، وإزالةً لغفلته (لَا تُغْلُوا) بضمّ التاء، من الإغلاء رباعيًّا، يقال: غلا في الدين غُلُوًّا، من باب قَعَدَ: تَصَلَّبَ، وشَدّد حتى جاوز الحدّ، وفي التنزيل:{لا تغلوا في دينكم} الآية، وغالى في أمره مُغالاةً: بالغ، وغلا السّعرُ يغلُو، والاسمُ الغَلَاءُ -بالفتح، والمدّ- ارتفع، ويقال للشيء إذا زاد، وارتفع: قد غلا، ويتعدّى بالهمز، فيقال: أغلى اللَّه السّعرَ. قاله الفيّوميّ.
وقوله (صُدُقَ النِّسَاءِ) وفي بعض النسخ: "صداق النساء"، و"الصُّدُقُ" -بضمَتين-: جمع صداق -بفتح الصاد، وكسرها- وقد تقدّم ضبط هذه اللفظة في شرح الترجمة. وهو بالنصب مفعول "تُغلوا". والمعنى: لا ترفعوا مُهُر النساء، ولا تتجاوزا به الحدّ الذي يتيسَّرُ لمن يريد النكاح.
[تنبيه]: قولي: "من الإغلاء رباعيًا" هذا هو الصواب؛ وأما قول السنديّ: هو من الغلوّ الخ، فليس بشيء؛ لأنه هنا متعدّ نصبَ قوله:"صُدُقَ النساءِ"، والذي يتعدى هو الرباعي، وأما الثلاثيّ، فلازم، لا ينصب المفعول به، بل يتعدّى إليه إما بالباء، وإما بـ"في"، وأما دعواه أن نصبه بنزع الخافض فتكلّفٌ لا داعي إليه.
وقوله: أيضًا: وليس من الغلاء، ضدّ الرخاء كما يوهمه كلام بعضهم، فجعله مضارعًا لـ"أغلى". غير صحيح أيضًا؛ لأنه صرّح بهذا التفسير في "لسان العرب"، فقال: الغلاء: نقيض الرخص، غلا السعر وغيره يغلو غَلاءً ممدود، فهو غالٍ، إلى أن قال: يقال: غاليتُ صَداقَ المرأة: أي أغليته، ومنه قول عمر رضي الله عنه:"لا تُغالوا صُدُقَات النساء"، وفي رواية:"لا تُغالوا صُدُقَ النساء"، وفي رواية:"في صَدُقاتهنّ"، أي لا تبالغوا في كثرة الصّداق، وأصلُ الغلاء: الارتفاع، ومجاوزة القدر في كلّ شيء. وقال أيضًا: وغلا في الدين، والأمر غُلُوًّا: جاوز الحدّ. وقال: غلوت في الأمر غُلُوًّا، وغَلَانيةً، وغَلَانيًا: إذا جاوزت فيه الحدّ، وأفرطت فيه. انتهى ملخّصًا
(1)
.
وقال ابن الأثير بعد تفسير كلام عمر رضي الله عنه هذا: ما نصّه: وأصل الغَلاء: الاتفاع، ومجاوزة القدر في كلّ شيء، يقال: غاليت الشيء، وبالشيء، وغلوت فيه أغلو: إذا جاوزت فيه الحدّ انتهى
(2)
.
فثبت بهذا صحّة كونه مضارع "أغلى"، وأن "صُدُقَ النساء" منصوب به على أنه مفعوله، لا أنه منصوب بنزع الخافض، كما ادعاه السنديّ، فإنه تكلّفٌ، لا داعي إليه، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
لسان العرب في مادة "غلا" 15/ 131 - 132.
(2)
"النهاية" 3/ 382.
(فَإِنَّهُ) الفاء تعليليّةٌ، والضمير راجع إلى الإغلاء المفهوم من "تُغلُوا"، أي لأن إغلاء الصداق (لَوْ كَانَ مَكْرُمَةً) -بفتح الميم، وسكون الكاف، وضمّ الراء -أي شَرَفًا، ومَفْخَرَةً، قال في "القاموس": الْكَرَمُ محرّكةً، والْكَرَامةُ: ضدّ اللؤم. وقال في "اللسان": والْمَكْرُمةُ، والْمَكرُمُ: فعلُ الْكَرَم، وفي "الصحاح": واحدة المكارم، ولا نظير له إلا مَعُونٌ، من العَوْنِ؛ لأنّ كلّ مَفعُلَة فالهاء لها لازمةٌ، إلا هذين، قال أبو الأَخْرَز الْحِمَّاني [من الرجز]:
مَرْوَانُ مَرْوَانُ أَخُو الْيَوْمِ الْيَمِي
(1)
…
لِيَوْمِ رَوْعٍ أَوْ فِعَالِ مَكْرُمِ
وُيروَى:
نَعَمْ أَخُو الْهَيجَاءِ فِي الْيَوْمِ الْيَمِي
وقال جَمِيل [من الطويل]:
بُثَيْنَ الْزَمِي "لَا" إِنَّ "لَا" إِنْ لَزِمْتِهِ
…
عَلَى كَثْرَةِ الْوَاشِينَ أَيُّ مَعُونِ
وقال الفرّاء: مَكْرُم جمعُ مكرُمة، ومعُونٌ جمع معونة انتهى
(2)
.
(فِي الدُّنْيَا) متعلّقٌ بـ"مكرمة" أي مما يتشرّف به الناس فيما بينهم في الدنيا؛ لكونه عملًا محمودًا (أَوْ تَقوَى عِنْدَ اللَّهِ عز وجل) أي من الأعمال الصالحة التي يتشرّف بها العبد عند اللَّه تعالى، فترفع بها درجاته في الآخرة (كَانَ أَوْلَاكُمْ بِهِ) أي أحقّكم بمغالاة المهر (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) بالرفع على أنه اسم "كان" مؤخّرًا، ويجوز العكَس (مَا) نافية (أَصْدَقَ) بالبناء للفاعل: أي أعطى الصداق (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ) أي أزواجه، أمهات المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنهنّ - (وَلَا أُصْدِقَتِ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله (امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ، أَكْثَرَ) مفعول ثانٍ، تنازعاه الفعلان قبله (مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ) وفي بعض النسخ:"اثنتي عشرة"(أُوقِيَّةَ) تقدّم ضبط الأقية، ومعناها، ومقدار الاثنتي عشرة أوقية أربعمائة وثمانون درهمًا.
[فإن قلت]: هذا الذي قاله عمر رضي الله عنه يعارضه ما ثبت كون مهر أم حبيبة - رضي اللَّه تعالى عنها - أربعة آلاف درهم، وأيضًا ما تقدّم في حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من زيادة النّشّ، فكيف يُجمع؟.
[قلت]: يُجمع بأن مراد عمر رضي الله عنه إذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتولّى النكاح، أو الإنكاح بنفسه، فإنه لا يزيد على القدر المذكور، وأما زيادة مهر أم حبيبة - رضي اللَّه تعالى عنها -،
(1)
أي اليوم الشديد، وفيه قلب مكانيّ انظر تصريفه في "اللسان" في مادة "يوم".
(2)
"لسان العرب" مادّة "كرم" 12/ 512 - 513.
فليس منه صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من عند النجاشيّ رضي الله عنه، أعطاها من عنده تكريمًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وتبجيلًا له.
وأما ما تقدّم في حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من زيادة النّشّ، فيحمل على أنَّ عمر رضي الله عنه ذكر الاثنتي عشرة، وألغى ذكر النّشّ، لكونه كسرًا، ومثلُ هذا كثير في استعمال العرب. واللَّه تعالى أعلم.
(وَإنَّ الرجُلَ لَيُغْلي) بضمّ الياء، كما تقدّم، وفي بعض النسخ:"ليُغالي". قال السنديّ: قوله: "وإن الرجل ليُغالي" كذا في بعض النسخ، وهو من غاليت، وفي بعضها: ليُغلي"، والوجه ليغلو؛ لكونه من الغلوّ، كما تقدّم انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم الردّ عليه قريبًا، فلا تنسَ.
(بِصَدُقَةِ امْرَأَتِهِ) وفي بعض النسخ: "بصَدُقَة امرأة". وهو بفتح الصاد، والقاف، وضمّ الدال، وآخره تاء: الصداق. ويجوز فيها فتح الدال، وإسكانها، مع فتح الصاد، ويجوز ضمّ الصاد مع ضمّ الدال، وإسكانها، وقد تقدّم تمام ضبطها عند شرح الترجمة. وفي رواية أحمد:"وإن الرجل ليُبتَلَى بصَدُقَة امرأته"، وقال مرّةً: "وإن الرجل ليُغلي بصَدُقَة امرأته
…
".
(حَتَّى يَكُونَ لَهَا عَدَاوَةٌ) بفتح العين: اسم من المعاداة (فِي نَفْسِهِ) أي حتى يعادي امرأته في نفسه عند أداء ذلك المهر؛ لثقله عليه حينئذ، أو عند ملاحظة قدره، وتفكّره فيه بالتفصيل. قاله السنديّ (وَحَتَّى يَقُولَ: كَلِفْتُ) -بفتح الكاف، وكسر الكاف، مبنيًّا للفاعل، يقال: كَلِفتُ الأمرَ، من باب تَعِبَ: حَمَلته على مشقّة. ويحتمل أن يكون بضمّ الكاف، وتشديد اللام، مبنيًّا للمفعول: أي كلّفوني، وحمّلُوني، يقال: كَلَّفتُهُ الأمرَ، فتكلَّفه، مثلُ حَمَّلْته، فتحمّله، وزنًا ومعنى على مشقّة أيضًا. أفاده الفيّوميّ.
وقوله (لَكُمْ) أي لأجلكم، وفي رواية أحمد:"كَلِفْتُ إليكِ" بإفراد الضمير (عَلَقَ الْقِرْبَةِ) بالنصب مفعول "كلِفتُ" وهو -بفتح العين المهملة، واللام-: حبلُ القِرْبة الذي تُعلّق به. والقِرْبة -بكسر، فسكون-: الْمَزَادة، جمعها قِرَب -بكسر، ففتح-، مثل سِدْرَةِ وسِدَرٍ. يريد أنه تحمّل لأجلها كلّ شيء، حتّى عَلَقَ الْقِرْبة، وهو حبلها الذي تُعَلَّقُ به. وفي بعض الروايات؛ "عَرَقَ الْقِرْبَة" بفتح العين المهملة والراء- أيضًا.
قال في "النهاية": وفي حديث عمر رضي الله عنه: " جَشِمْتُ إليك عَرَقَ القِرْبَة": "أي تكلّفت إليك، وتَعِبتُ حتى عَرِقْتُ كعَرَقِ الْقِرْبَة، وعَرَقُها: سَيَلَانُ مائها. وقيل: أراد بِعَرَق القربة عَرَقَ حاملِها من ثِقَلَها. وقيل: أراد: إني قصدتُكِ، وسافرتُ إليك،
واحتجتُ إلى عَرَقِ القربة، وهو ماؤها. وقيل: أراد تكلّفتُ لك ما لم يبلغه أحدٌ، وما لا يكون؛ لأن القربة لا تَعرَقُ. وقال الأصمعيّ: عَرَقُ القربة معناه: الشّدّةُ، ولا أدري ما أصله. انتهى
(1)
.
وقال الزمخشريّ في "الفائق": جَشِمتُ إليك عَرَقَ القربةِ، أو عَلَقَ القربةِ" هذا مثلٌ تضربه العرب في الشدّة والتعَبِ، وفيه أقاويل ذكرتها في "كتاب المستقصى في أمثال العرب".
وقال في "اللسان" بعد ذكر نحو ما تقدّم: وقيل: معناه جَشِمتُ إليك النَّصَبَ، والتعَبَ، والْغُرْمَ، والمؤونة حتى جَشِمتُ إليك عَرَقَ القِرْبة: أي عِرَاقَها الذي يُخْرَزُ حولها. ومن قال: عَلَقَ القربة أراد السُّيُور التي تُعلَّقُ بها. وقال ابن الأعرابيّ: كَلِفتُ إليكِ عرَقَ القربة، وعَلَقَ القربة، فأما عَرَقُها فعَرَقُك بها عن جَهْد حَمْلِها، وذلك لأن أشدّ الأعمال عندهم السَّقْيُ، وأما عَلَقُها فما شُدَّت به، ثم عُلِّقَت. وقال أيضًا: عَرَقُ القربة، وعَلَقُها واحدٌ، وهو مِعْلاقٌ تُحمَلُ به القربةُ، وأبدلوا الراء من اللام، كما قالوا: لَعَمْري، ورَعَفري انتهى
(2)
.
(وَكُنْتُ) الظاهر أن القائل هو أبو العجفاء (غُلَامًا عَرَبِيًّا) أي منسوبًا إلى العرب، قال الفيّوميّ: ورجلُ عربيّ: ثابت النسب في العرب، وإن كان غير فصيح، وأعرب بالألف: إذا كان فصيحًا، وإن لم يكن من العرب انتهى (مُوَلَّدًا) بصيغة اسم المفعول، قال الفيّوميّ: ورجلٌ مُولَّدٌ بالفتح: عربيّ، غير مَخضٍ، وكلامٌ مولَّدٌ كذلك انتهى (فَلَمْ أَدْرِ مَا عَلَقُ القِرْبَةِ؟) يعني أنه لكونه مولَّدًا، وليس عربيًّا فصيحًا متقنًا لكلام العرب، لم يفهم معنى قول عمر رضي الله عنه:"عَلَقَ القربة"، حيث إنها غريبة في الاستعمال لا تتداولها الألسن، فلا يفهمها إلا الفصيح المتقين للغة العرب، ولذا اختلف اللغويّون في تفسيرها، على ما قدمناه (قَالَ) عمر رضي الله عنه (وَأُخْرَى) أي وخصلة أخرى غير مغالاة المهور، مكروهة شرعًا، ثم بين تلك الخصلة بقوله (يَقُولُونَهَا لِمَنْ قُتِلَ فِي مَغَازِيكُمْ) أي محلّ غزوكم، أو المغازي جمع مَغْزًى مصدرًا ميميًا: أي غزواتكم (أَوْ مَاتَ) عطفٌ على "قُتل" أي مات على فراشه، دون يقتله أحد (قُتِلَ فُلَانٌ شَهِيدًا) ببناء الفعل للمفعول، والجملة مقول "يقولونها"(أَوْ مَاتَ فُلَانٌ شَهِيدًا، وَلَعَلَّه) أي ذلك المقتول، أو الميت (أنْ يَكُونَ قَدْ أَوْقَرَ عَجُزَ دَابَّتِهِ) أي حَمَلها وِقْرًا، والوِقْر -بالكسر: الحملُ، وأكثر ما يُستَعمل في حِملِ البغل والحمار. قاله في "النهاية"
(3)
(أَوْ دَفَّ رَاحِلَتِهِ ذَهَبًا) الظاهر أن "أو"
(1)
" النهاية" 3/ 220 - 221 - و 290.
(2)
"لسان العرب" 10/ 241 مادة عرق.
(3)
"النهاية" 5/ 213.
للشكّ من الراوي، و"دَّفُّ الرَّحْلِ" بفتح الدال المهملة، وتشديد الفاء: جانب كُور البعير، وهو سرجه. قاله في "النهاية"
(1)
(أَوْ وَرِقًا) و"أو" هنا للتنويع. و"الْوَرِق" بفتح الواو، وكسر الراء، وإسكانها للتخفيف: الفضّة المضروبة، وقيل: مضروبة كانت، أو غير مضروبة (يَطْلُبُ التِّجَارَةَ) ببناء الفعل للفاعل، والجملة حال من فاعل "أَوْقَرَ"، أي حال كونه طالبًا للتجارة، لا للغزو.
أراد عمر رضي الله عنه بهذا أن الشهيد هو الذي أخلص الخروج للجهاد، وأما من خرج مع الغزاة يريد التجارة، فقُتل، أو مات فليس بشهيد.
(فَلَا تَقُولُوا ذَاكُمْ) أي لا تقولوا: فلانٌ شهيد (وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (مَن قُتِلَ فِيِ سَبِيلِ اللهِ) أي لأجل إعلاء كلمة اللَّه تعالى (أَوْ مَاتَ) على فراشه من غير أن يُقتل (فهُوَ فِي الْجَنَّةِ) يعني أن الذي ينبغي أن يقال في مثل هؤلاء الغُزَاة أن من قُتل منهم، أو مات لإعلاء كلمة اللَّه تعالى فهو في الجنّة على الإجمال، لا التفصيل بتعيين الاسم؛ إذ لا يَعلم المخلِصَ من غير المخلص بالتفصيل حقيقةً، إلا اللَّه تعالى، أو من أطلعه بالوحي، فلا يجوز لأحد أن يجزم بأن شخصًا معيّنًا من أهل الجنّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.
[تنبيه]: كتب العلاّمة أحمد محمد شاكر -رحمه اللَّه تعالى- بحثًا نفيسًا يتعلّق بهذا الحديث، أحببت إيراده هنا، للفائدة، قال -رحمه اللَّه تعالى- تعليقًا على رواية الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- في "مسنده" عن إسماعيل ابن عُليّة، عن سلمة بن علقمة بسند النسائيّ: ما نصّه:
إسناد صحيح، وإن كان ظاهره الانقطاع، يقول ابن سيرين:"نُبّئت عن أبي العجفاء"، وأبو العجفاء: اسمه هَرِم -بفتح الهاء، وكسر الراء- "ابن نَسِيب" -بفتح النون، وكسر السين- وثّقه ابن معين، والدارقطنيّ، وابن حبّان. وقد سمع ابنُ سيرين هذا الحديث من أبي العجفاء، كما سيأتي -340 - يعني في "المسند" فالظاهر أنه سمعه منه، ومن غيره عنه، فتارة يرويه هكذا، وتارة هكذا، وتارة يقول:"عن أبي العجفاء" كما سيأتي -287 - . وقال البخاريّ في "التاريخ الصغير" 112 - 113 - : قال سلمة بن
(1)
"النهاية" 1/ 125.
علقمة، عن ابن سيرين نُبّئت، عن أبي العجفاء، عن عمر، في الصداق. قال هشام، عن ابن سيرين: حدثنا أبو العجفاء. وقال بعضهم: عن ابن سيرين، عن ابن أبي العجاء، عن أبيه، في حديثه نظر. وهشام: هو ابن حسّان الأزديّ، قال سعيد بن أبي عروبة: ما رأيت أحفظ عن محمد بن سيرين من هشام.
والحديث رواه الحاكم في "المستدرك" 2/ 175 - 176 من طريق يزيد بن هارون، عن ابن عون، عن ابن سيرين عن أبي العجفاء. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقد رواه أيوب السختيانيّ، وحبيب بن الشهيد، وهشام بن حسّان، وسلمة بن علقمة، ومنصور بن زاذان، وعوف بن أبي جميلة، ويحيى بن عتيق، كلّ هذه التراجم من روايات صحيحة عن محمد بن سيرين. وأبو العجاء السلميّ، اسمه هرم بن حيان، وهو من الثقات.
وتعقّبه الحافظ الذهبيّ في اسمه، وقال: بل هرم بن نَسِيب، ولم يتعقّبه في تصحيح الحديث. ورواه أيضًا أبو داود 2/ 199 والترمذيّ 2/ 183 - 184 والنسائيّ 2/ 87 - 88 وابن ماجه 1/ 298 - 299 والبيهقيّ في "السنن الكبرى" 7/ 234 بعضهم طوله، وبعضهم اختصره.
قال الترمذيّ: هذا حديث صحيح. وفي أكثر هذه الروايات: عن ابن سيرين، عن أبي العجفاء، ولكن حكاية البخاريّ أن هشام بن حسّان، قال عن ابن سيرين: حدثنا أبو العجفاء، والرواية الآتية - 340 - رواية سفيان بن عيينة، عن أيوب، عن ابن سيرين: سمعه من أبي العجفاء، صريحتان في وصل الحديث؛ لأنهما من رواية رجلين من أثبت الناس في حديث ابن سيرين، وهما أيوب السختيانيّ، وهشام بن حسّان. وسلمة بن علقمة التميميّ البصريّ، ثقة حافظ متقن، وإسماعيل شيخ أحمد: هو ابن عُليّة انتهى ما كتبه العلامة أحمد شاكر -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: خلاصة القول في هذا الحديث أنه متّصلٌ صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه آخر]: قد اشتهر على الألسنة أن امرأة اعترضت على عمر رضي الله عنه في نهيه عن المغالاة في المهور، فقالت:"نهيتَ الناسَ آنفًا أن يُغالوا في صداق النساء، واللَّه تعالى يقول في "كتابه": {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} ، فقال عمر رضي الله عنه: كلّ أحد أفقه من عمر، مرّتين، أو ثلاثًا، ثم رجع إلى المنبر، فقال للناس: إني
(1)
"تخريج المسند" 10/ 282 - 286.
كنت نهيتكم أن تُغالوا في صداق النساء، ألا فليفعل رجلٌ في ماله ما بدا له".
وهذا لا يثبت، بل هو حديث منكر، يرويه مجالد، عن الشعبيّ، عن عمر. أخرجه البيهقيّ 7/ 233 - وقال: هذا منقطع.
والحاصل أن له علّتين: الانقطاع، وضعف مجالد.
وكذا ما رواه عبد الرزاق في "مصنّفه" 6/ 180/ 10420 عن قيس بن الربيع، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ، قال
…
فذكر نحوه، مختصرًا، وزاد في الآية، فقال:"قنطارًا من ذهب" وقال: ولذلك هي قراءة عبد اللَّه. ضعيف أيضًا، له علتان:[الأولى]: الانقطاع، فإن أبا عبد الرحمن السلمي، لم يسمع من عمر رضي الله عنه، كما قاله ابن معين. [والثانية]: سوء حفظ قيس بن الربيع. ذكره الشيخ الألباني -رحمه اللَّه تعالى- في "إروائه"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-66/ 3350 - وفي "الكبرى" 66/ 5511. وأخرجه (د) في "النكاح" 2106 (ت) في "النكاح" 1114 (ق) في "النكاح" 1887 (أحمد) في "مسند العشرة" 287 (الدارمي) في "النكاح" 2200. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): عدم المغالاة في مهور النساء؛ لأنه يؤدّي إلى تعطيل الزواج، وفساد المزاج. (ومنها): فقه عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه -، حيث استنبط مما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدفعه مهرًا لنسائه أنه هو المختار الأعدل، فيكون تجاوزه غلوًّا، واعتداءً، وهذا التفقه منه رضي الله عنه لا يتعارض مع قوله تعالى:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا}
(2)
الآية. لأن الآية -كما قال بعض المحققين- لا تعني المغالاة بالمهور، وإنما المبالغة في التمثيل بالقنطار، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد. وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "من بني للَّه مسجدًا، ولو كمَفْحَصِ قطاة، بني اللَّه له بيتًا في الجنّة"
(3)
ومعلومٌ أنه لا يكون مسجد كمَفْحَص قطاة.
وقد تقدّم أن قصّة المرأة التي عارضت عمر رضي الله عنه بالآية المذكورة غير صحيحة.
(1)
راجع "إرواء الغليل" 6/ 347 - 348.
(2)
اختُلف في تفسير القنطار المذكور في الآية، فقال أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه: هو ملء مَسْك ثور ذهبًا. وقال معاذ: ألف ومائتا أوقيّة ذهبًا. وقيل: سبعون ألف مثقال. وقيل: مائة رطل ذهبًا. انتهى "نيل الأوطار" 6/ 179.
(3)
رواه أحمد رقم 2158 وفي إسناد جابرٌ الجعفيّ، وفيه كلام مشهور.
ويؤيّد تفقّه عمر رضي الله عنه ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لابن أبي حدرد، وقد جاء يستعينه في مهره، فسأله عنه، فقال: مائتين، فغضب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال:"كأنكم تقطعون الذهب والفضّة من عُرْض الحرّة، أو جبل"
(1)
.
(2)
.
(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التوسّط في مهور النساء. (ومنها): ضرب المثل لإيضاح المسألة. (ومنها): النهي عما يقوله الناس: فلانٌ الشهيد؛ لأنه لا يُعلم إخلاصه في جهاده، ولأنه لا يمكن القطع لأحد بذلك، بل هو مما استأثر اللَّه تعالى به عن خلقه، إلا من أطلعه بالوحي، بل ينبغي أن يقال: من قتل في سبيل اللَّه فهو شهيد، واللَّه أعلم بمن يقاتل في سبيله.
[تنبيه]: مما ينبغي الْحَذَرُ عنه ما شاع اليومَ في ألسنة الناس من قولهم: فلان المرحوم؛ لأن فيه الوصف القطعيّ بأن اللَّه تعالى رحمه، وذلك من القول بلا علم؛ لأنه لا يُعلم هل رحمه الله، أم عذّبه؟، فلا ينبغي ذلك، بل يقال فلان رحمه الله كان كذا، على سبيل الدعاء له، لا الإخبار. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3351 -
(أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا، وَهِيَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، زَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ، وَأَمْهَرَهَا أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَجَهَّزَهَا مِنْ عِنْدِهِ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ شُرَحْبِيلَ ابْنِ حَسَنَةَ، وَلَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ، وَكَانَ مَهْرُ نِسَائِهِ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ترجم المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- على هذا الحديث في "الكبرى" بقوله: [التزويج على أربعمائة درهم].
ورجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(العباس بن محمد الدُّوريّ) أبو الفضل البغداديّ، خُوَارزميّ الأصل، ثقة حافظ [11] 102/ 135.
(1)
أخرجه مسلم بسياق آخر، ولفظه من طريق أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"هل نظرت إليها، فإن في عيون الأنصار شيئا؟ "، قال: قد نظرت إليها، قال:"على كم تزوجتها؟ "، قال: على أربع أواق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"على أربع أواق، كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث، تصيب منه"، قال: فبعث بعثا إلى بني عبس، بعث ذلك الرجل فيهم.
(2)
انظر تفسير القرطبيّ 5/ 100 - 101.
2 -
(عليّ بن الحسن بن شَقيق) أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقة حافظ، من كبار [10] 22/ 906.
3 -
(عبد اللَّه بن المبارك) الحنظليّ، أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد، جُمعت فيه خصال الخير [8] 32/ 36.
4 -
(معمر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، من كبار [7] 10/ 10.
5 -
(الزهريّ) محمد بن مسلم المدنيّ الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.
6 -
(عروة بن الزبير) بن العوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.
7 -
(أُمُّ حَبِيبَةَ) رملة بنت أبي سُفيان صخر بن حرب بن أميّة بن عبد شمس الأمويّة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، تكنّى أم حبيبة، وهي بها أشهر من اسمها. وقيل: بل اسمها هند، ورملة أصحّ. وأمها صفيّة بنت أبي العاص بن أميّة، وُلدت قبل البعثة بسبعة عشر عامًا، تزوّجها حليفهم عُبيد اللَّه -بالتصغير- ابن جحش بن رئاب بن يَعمر الأسديّ، من بني أسد خزيمة، فأسلما، ثم هاجر إلى الحبشة، فولدت له حبيبة، فيها كانت تُكنى. وقيل: إنما ولدتها بمكة، وهاجرت، وهي حامل بها
(1)
إلى الحبشة. وقيل: ولدتها بالحبشة. وتزوّج حبيبة داود بن عروة بن مسعود. ماتت - رضي اللَّه تعالى عنها - سنة (2) أو (49)، وقيل:(50) تقدّمت في 13/ 704 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، وشيخه بغداديّ، والباقيان مروزيان، ومعمر بصري، ثم يمنيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ) رملة بنت أبي سُفيان - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا) وذلكَ سنة سبع من الهجرة، وقيل: سنة ستّ، والأول أشهر (وَهِيَ بِأَرضِ الْحَبَشَةِ) وذلك بعد زوجها عُبيد اللَّه بن جحش بن رئاب الأسديّ المذكور آنفًا.
(1)
لعل المراد حملها على ظهرها، أو رأسها، أو نحو ذلك، لا أنها حمل في بطنها، وإلا لا فرق بين القول التالي وهذا، فليتأمل.
وقصّة زواجه صلى الله عليه وسلم لها، هو ما أخرجه ابن سعد من طريق إسماعيل بن عمرو بن سعيد الأمويّ، قال: قالت أم حبيبة: رأيت في المنام كأن زوجي عبيد اللَّه بن جحش بأسوء صورة، ففزعت، فأصبحت، فإذا به قد تنصّر، فأخبرته بالمنام، فلم يحفل به، وأكبّ على الخمر، حتى مات، فأتاني آتٍ في نومي، فقال: يا أمّ المؤمنين، ففزعتُ، فما هو إلا أن انقضت عدّتي، فما شعرتُ إلا برسول النجاشيّ، يستأذن، فإذا هي جارية، يقال لها: أبرهة، فقالت: إن الملك يقول لك: وكّلي من يزوّجك، فأرسلتُ إلى خالد بن الوليد سعيد بن العاص بن أمية، فوكّلته، فأعطيت أبرهة سوارين من فضّة، فلما كان العشيّ أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب، ومن هناك من المسلمين، فحضروا، فخطب النجاشيّ، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، وتشهّد، ثم قال: أما بعد: فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتب إليّ أن أزوّجه أم حبيبة
(1)
، فأجبتُ، وقد أصدقتها عنه أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير، فخطب خالد، فقال: قد أجبت إلى ما دعا إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وزوّجته أم حبيبة
(2)
، وقبض الدنانير، وعمل لهم النجاشيّ طعامًا، فأكلوا، قالت أم حبيبة: فلما وصل إليّ المال أعطيتُ أبرهة منه خمسين دينارًا، قالت: فردّتها عليّ، وقالت: إن الملك عزم عليّ بذلك، وردّت عليّ ما كنتُ أعطيتها أوّلًا، ثم جاءتنى من الغد بعُود، ووَرْسٍ، وعَنبَر، وزَبَاد كثير، فقدِمتُ به معي على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(3)
.
(زَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ) -بفتح النون على المشهور. وقيل: تُكسر، وتخفيف الجيم، وأخطأ من شدّدها، وبتشديد آخره. وحكى المطرّزيّ التخفيف، ورجحه الصغانيّ.
وهو ملك الحبشة وقت ذاك، واسمه أصحمة بن أبجر، واسمه بالعربيّة عطيّة، والنجاشيّ لقبٌ له، أسلم على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يُهاجر إليه، وكان رِدْئًا للمسلمين نافعًا، وقصّته مشهورة في المغازي في إحسانه إلى المسلمين الذين هاجروا إليه في صدر الإسلام، وأخرج أصحاب "الصحيح" قصّة صلاته صلى الله عليه وسلم عليه صلاة الغائب من طرق، وتقدّم للنسائيّ في "كتاب الجنائز" -57/ 1946. مات -رحمه اللَّه تعالى- في رجب سنة تسع على ما قاله الطبريّ، وجماعة، وقيل: قبل الفتح. ولما مات قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "مات اليوم عبد صالحٌ، فقدموا، فصلّوا عليه". وفي لفظ: "قد مات عبد صالحٌ، يقال له: أصحمة، فقدموا، فصلّوا على أصحمة". وفي لفظ: "إن أخاكم أصحمة النجاشيّ قد تُوفّي، فصلّوا عليه، قال: فوثب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ووثبنا معه حتى جاء
(1)
الذي أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى النجاشيّ، هو عمرو بن أمية الضمريّ. "الإصابة" 12/ 261.
(2)
وحكى ابن عبد البرّ أن الذي عقد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليها عثمان بن عفان رضي الله عنه. ولما بلغ أبا سفيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نكح ابنته، قال: هو الفحل لا يُجدع أنفه.
(3)
راجع "الإصابة" 12/ 260 - 262.
المصلّى، فقام، فصففنا وراءه، فكبّر أربع تكبيرات"
(1)
.
و"أصحمة" بوزن أربعة، وحاؤه مهملة. وقيل: معجمة. وقيل: إنه بموحّدة بدل الميم. وقيل: صحمة بغير ألف. وقيل: كذلك لكن بتقديم الميم على الصاد. وقيل: بزيادة ميم في أوله بدل الألف. قال الحافظ في "الإصابة" بعد ذكر ما تقدّم: ويتحصّل من هذا الخلاف في اسمه ستة ألفاظ، لم أرها مجموعة انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فعلى هذا ما اشتهر على ألسنة أهل بلدنا من أن اسمه أحمد مما لا أصل له، اللَّهمّ إلا أن يُدّعَى أنه صُحّف من بعض هذه الألفاظ. واللَّه تعالى أعلم.
(وَأَمْهَرَهَا أَرْبَعَةَ آلَافٍ) أي من الدراهم، يعني أنه دفع إليها مهرًا مقداره أربعة آلاف درهم.
[فإن قلت]: هذه الرواية صريحة في أن النجاشيّ دفع أربعة آلاف درهم، وقد تقدّمت رواية أنه دفع إليها أربعمائة دينار، فكيف الجمع بينهما؟
[قلت]: يُجمَع يحمل إحدى الروايتين على أنها رواية بالمعنى؛ لتساوي العددين من حيث القيمةُ. واللَّه تعالى أعلم.
(وَجَهَّزَهَا مِنْ عِنْدِهِ) أي هيّأ لها جهاز السفر، يقال: جهّزت المسافر بالتثقيل: هيّأتُ له جهازه، والجهاز أُهْبةُ السفر، وما يُحتاج إليه في قطع المسافة، وهو بفتح الجيم، وبه قرأ السبعة في قوله تعالى:{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} ، والكسر لغة قليلةٌ. قاله الفيّوميّ (وَبَعَثَ بِهَا مَعَ شرَحْبيلَ ابْنِ حَسَنَةَ) هو شُرَحبيل بن عبد اللَّه بن المطاع بن عبد اللَّه بن الْغِطريف بن عبد العزّى بن جثامة بن مالك الكنديّ، ويقال: التميميّ، ويقال: إنه من ولد الْغَوْث بن مُزاحم بن تميم بن عامر، فقيل له التميميّ لذلك.
وحسنة أمه، وقيل: تَبَنّته. وكانت مولاةً لمعمر بن حبيب الْجُمحيّ، فكان جُنادة، وجابرٌ ابنا سفيان بن معمر بن حبيب أخويه لأمه. ويقال: إن معمرًا زوّج حسنَةَ لرجل من الأنصار من بني زُريق، يقال له: سُفيان، وكان معمر قد تبنّاه، فنُسب إليه، فولدت جابرًا، وجُنادة، فأسلم جابر وأخوه، وأخوهما لأمهما شُرَحبيل قديمًا، وهاجروا إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، ونزلوا في بني زُريق، ثم هلك سفيان وابناه في خلافة عمر، فحالف شُرحبيلُ بني زُهرةَ، وكان شُرحبيل ممن سيّره أبو بكر في فتوح الشام، وُيكنى شرحبيل أبا عبد اللَّه، ويقال: أبا عبد الرحمن، ويقال: أبا واثلة، وله رواية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عند ابن ماجه، وعن عبادة بن الصامت، روى عنه ابناه: ربيعة، وعبد الرحمن بن
(1)
انظر "الإصابة" 1/ 177 - 178.
(2)
"الإصابة" 1/ 177 - 178.
غَنم، وأبو عبد اللَّه الأشعريّ. قال ابن البَرْقيّ، ولّاه عمر على ربع من أرباع الشام، ويقال: إنه طُعِن هو وأبو عُبيدة في يوم واحد، ومات في طاعون عَمَواس، وهو ابن (67)، وحديثه في الطاعون، ومنازعته لعمرو بن العاص في ذلك مشهورة. أخرجه أحمد وغيره. وقال ابن زَبْر: إنه الذي افتتح طَبَريّة. وقال ابن يونس: أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مصر، فمات شُرحبيل بها.
(وَلَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءِ) يعني أنه صلى الله عليه وسلم لم يمهرها بشيء (وَكَانَ مَهْرُ نِسَائِهِ أَرْبَعَ مِائَةِ دِرْهَمٍ) يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان مقدار مهره الذي يدفعه لنسائه غالبًا أربعمائة درهم، وإنما أمهر أم حبيبة النجاشيُّ كرمًا من عنده تعظيمًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وهذا يوافق ما تقدّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه رقم (3349)"كان الصداق إذ كان فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عشرة أواق"، ويخالف حديث عائشة رضي الله عنها: حيث قالت: "كان صداقه اثنتى عشرة أوقيّة وَنَشًّا". ويمكن الجمع بأن حديث أم حبيبة وأبي هريرة رضي الله عنه للمهر الذي يتعامل به الصحابة، وحديث عائشة رضي الله عنها للمهر الذي يدفعه صلى الله عليه وسلم، ومعنى "كان مهر نسائه" أي نساءِ أصحابِهِ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أم حبيبة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-66/ 3351 - وفي "الكبرى" 67/ 5512. وأخرجه (د) في "النكاح" 2086 (أحمد) في "مسند القبائل" 26862. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): جواز دفع أربعة آلاف درهم مهرًا، لمن لا يشق ذلك عليه، وكان عن طيب نفس الدافع. (ومنها): أنه لا يجب على الزوج دفع المهر من ماله، بل لو دفع عنه شخصٌ آخر جاز. (ومنها): ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم من كريم الأخلاق، وجميل الفعال، حيث كان يسعى في رفع معاناة الضعفاء والمساكين، فإنه لما حلّ بأ حبيبة - رضي اللَّه تعالى - عنها في دار الغربة عناءٌ شديدٌ، وذلك أنه لَمَّا مات زوجها على أسوء حال، حيث ارتدّ عن الإسلام، وتنصّر، فدخلها من ذلك حزن شديد، قام النبيّ صلى الله عليه وسلم بإزالة ذلك عنها، كما فعل بصفية - رضي اللَّه تعالى عنها -، حينما أصيب أبوها، وزوجها في غزوة خيبر، وكانت عروسًا، فوقعت أسيرة تحت قيد الرقّ، فقام صلى الله عليه وسلم بإزالة ذلك عنها، فأعتقها، وأدخلها في عداد أمهات المؤمنين، فظهر بذلك مصداق قوله عز وجل: {لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، وقوله عز وجل:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، فصلى اللَّه وسلم، وبارك عليه وعلى آله، وصحبه أجمعين.
(ومنها): بيان منقبة النجاشيّ، وفضيلته، حيث طلب منه النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يزوّجه أم حبيبة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فقام في ذلك أحسن قيام، وبالغ في إكرامها تعظيمًا له صلى الله عليه وسلم أيَّ إكرام، ف- رضي اللَّه تعالى - عنه، وأرضاه، وجعل جنّة الفردوس مثواه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
67 - (التَّزْوِيجُ عَلَى نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "النّوَى" -بفتح النون، والواو، مقصورًا-: اختُلف في المراد به على أقوال: فقيل: المراد واحدة نوى التمر، كما يوزن بنوى الخَرُّوب، وأن القيمة عنها يومئذ كانت خمسة دراهم. وقيل: كان قدرها يومئذ ربع دينار. ورُدّ بأن نوى التمر يَختلف في الوزن، فكيف يُجعل معيارًا لما يوزن به؟. وقيل: لفظ النواة من ذهب عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورق، وجزم به الخطّابيّ، واختاره الأزهريّ، ونقله عياضٌ عن أكثر العلماء. ويؤيّده أن في رواية للبيهقيّ من طريق سعيد بن بشر، عن قتادة:"وزن نواة من ذهب، قُوّمت خمسةَ دراهمَ". وقيل: وزنها من الذهب خمسة دراهم. حكاه ابن قتيبة، وجزم به ابن فارس، وجعله البيضاويّ الظاهر. واستُبعِدَ لأنه يستلزم أن يكون ثلاثة مثاقيل ونصفًا. ووقع في رواية حجّاج بن أرطأة، عن قتادة، عند البيهقيّ:"قُوّمت ثلاثة دراهم وثلثًا". وإسناده ضعيف، ولكن جزم به أحمد. وقيل: ثلاثة ونصفٌ. وقيل: ثلاثة وربع. وعن بعض المالكيّة النواة عند أهل المدينة ربع دينار. ويؤيّد هذا ما وقع عند الطبرانيّ في "الأوسط" في آخر الحديث قال أنس: " جاء وزنها ربع دينار". وقد قال الشافعيّ: النواة ربع النّشّ نصف أوقيّة، والأوقيّة أربعون درهمًا، فيكون خمسة دراهم، وكذا قال أبو عبيد: إن عبد الرحمن بن عوف دفع خمسة دراهم، وهي تسمى نواة كما تسمّى الأربعون أوقيّة، وبه جزم أبو عوانة، وآخرون. قاله في "الفتح"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3352 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ،
(1)
"فتح"10/ 293.
وَاللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِهِ أَثَرُ الصُّفْرَةِ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ ، فَأَخْبَرَهُ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا؟» ، قَالَ: زِنَةَ نَوَاةٍ، مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَوْلِمْ، وَلَوْ بِشَاةٍ» ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن سلمة) المرادي الجملي، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.
2 -
(الحارث بن مسكين) بن محمد بن يوسف الأموي مولاهم، أبو عمرو المصريّ القاضي، ثقة فقيه [10] 9/ 9.
3 -
(ابن القاسم) عبد الرحمن الْعُتقي، أبو عبد اللَّه المصري الفقيه، صاحب مالك، ثقة، من كبار [10] 19/ 20.
4 -
(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبتين [7] 7/ 7.
5 -
(حميد الطويل) ابن أبي حميد، أبو عبيدة البصري، ثقة، يدلس [5] 87/ 108.
6 -
(أنس بن مالك) خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، فقد تفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أن فيه أنسًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ) بن عبد عوف ابن عبد الحارث بن زهرة القرشيّ الزهريّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، أسلم قديمًا، ومناقبه شهيرة، ومات - رضي اللَّه تعالى عنه - سنة (32) وقيل: غير ذلك، تقدّمت ترجمته في -40/ 2208 - (جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِهِ أَثَرُ الصُّفْرَةِ) أي أثر طيب. وفي رواية: "فلقيه النبيّ صلى الله عليه وسلم في سكة من سِكك المدينة، وعليه وَضَر من صفرة". وفي رواية: "وعليه وضرٌ من خَلُوق". وفي رواية: "وعليه رَدْعُ زعفران". و"الوضر" بفتح الواو، والضاد المعجمة، وآخره راءٌ: هو في الأصل الأثر. و"الرَّدْعُ " بمهملات مفتوح الأول،
ساكن الثاني-: هو أثر الزعفران. والمراد بالصفرة صفرةُ الْخَلُوق، والْخَلُوق: طيب من زعفران وغيره. قاله في "الفتح"
(1)
.
وفي الحديث قصّة، ساقه البخاريّ، ولفظه:
حدثنا عليّ، حدثنا سفيان، قال: حدثني حميد، أنه سمع أنسا رضي الله عنه، قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم، عبد الرحمن بن عوف -وتزوج امرأة من الأنصار-:"كم أصدقتها؟، قال: وَزْنَ نواة من ذهب، وعن حميد، سمعت أنسا، قال: لما قدموا المدينة، نزل المهاجرون على الأنصار، فنزل عبد الرحمن بن عوف، على سعد بن الربيع، فقال: أقاسمك مالي، وأَنزِل لك عن إحدى امرأتيّ، قال: بارك اللَّه لك في أهلك ومالك، فخرج إلى السوق، فباع، واشترى، فأصاب شيئا من أقط، وسمن، فتزوج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أولم، ولو بشاة".
(فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟) وفي الرواية الآتية في -75/ 3374 - : "فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: مَهْيم". أي ما شأنك، أو ما هذا (فَأَخْبَرَهُ، أنّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ) هي بنت أبي الحيسر أنس بن رافِع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل (فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا) أيْ أَيَّ مَبلغ من المال دفعت إلى هذه المرأة. وفي رواية: "كم أصدقتها؟ "(قَالَ) عبد الرحمن (زِنَةَ نَوَاةٍ) بالنصب على تقدير فعل، أي سُقتُ إليها زنةَ نواة، ويجوز الرفع على تقدير مبتدإ، أي الذي سقته إليها هو زنةُ نواة.
قال في "النهاية": النواةُ اسم لخمسة دراهم، كما قيل للأربعين أوقيّة وللعشرين نَشّ. وقيل: أراد قدر نواة من ذهب كان قيمتها خمسة دراهم، ولم يكن ثَمَّ ذهب، وأنكره أبو عبيد. قال الأزهريّ: لفظ الحديث، يدلّ على أنه تزوّج المرأة على ذهب قيمته خمسة دراهم، ألا تراه قال: نواة من ذهب، ولست أدري لِمَ أنكره أبو عُبيد، والنواة في الأصل عَجَمَةُ التمرة انتهى
(2)
. وتقدّم الخلاف في معنى النواة مستوفًى أول الباب.
(مِنْ ذَهَبٍ) قال في "الفتح": كذا وقع الجزم في رواية ابن عيينة، والثوريّ، وكذا في رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، وحميد. وفي رواية زهير، وابن عليّة:"نواة من ذهب، أو وزن نواة من ذهب". وكذا في رواية عبد الرحمن نفسه بالشكّ. وفي رواية شعبة عن عبد العزيز بن صُهيب: "على وزن نواة"، وعن قتادة:"على وزن نواة من ذهب"، ومثل الأخير في رواية حماد بن زيد، عن ثابت، وكذا أخرجه مسلم من طريق
(1)
"فتح" 10/ 292.
(2)
"النهاية" 5/ 131 - 132.
أبي عوانة، عن قتادة، ولمسلم من رواية شعبة، عن أبي حمزة، عن أبي:"على وزن نواة، فقال رجلٌ من ولد عبد الرحمن: من ذهب". ورجّح الداوديّ رواية من قال: "على نواة من ذهب"، واستنكر رواية من روى: "وزن نواة. قال الحافظ: واستنكاره هو المنكر؛ لأن الذين جزموا بذلك أئمّةٌ حُفّاظ. قال عياضٌ: لا وهم في الرواية؛ لأنها إن كانت نواة تمر، أو غيره، أو كان للنواة قدرٌ معلوم، صلح أن يقال في كلّ ذلك: وزن نواة. انتهى.
(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْلِمْ) فعل أمر من أولَمَ: إذا صَنَعَ وَلِيمَة، أي اصنع وليمة. و"الوليمة": اسم لكلّ طعام يُتّخذ لجمع. وقال ابن فارس هي طعام الْعُرْس، وزاد الجوهريّ شاهدًا، والجمع وَلائم. قاله الفيّوميّ. وقال ابن منظور: الوليمة طعام العُرس، والإملاك. وقيل: هي كلّ طعام صُنِع لِعُرس وغيره، وقد أولم. قال أبو عبيد: سمعت أبا زيد يقول: يُسمَّى الطعام الذي يُصنع عند الْعُرْس الوليمةَ، والذي عند الإملَاكِ النَّقِيعَةَ انتهى
(1)
. وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة الرابعة إن شاء اللَّه تعالى.
(وَلَوْ بِشَاةٍ)"لو" هنا للتقليل، كما في حديث:"رُدُّوا السائل ولو بظلف مُحْرَق"
(2)
، قال السيوطيّ في "الكوكب الساطع" عند تعداد معاني "لو":
وَقِلَّةٍ كَخَبَرِ الْمُصَدَّقِ
…
تَصَدَّقُوا وَلَو بِظِلْفِ مُحْرَقِ
وقال في "الفتح": ليست "لو" هذه الامتناعيّة
(3)
، وإنما هي للتقليل. وزاد في رواية حماد بن زيد:"فقال: بارك اللَّه لك" قبل قوله: "أولم". وكذا في رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، وحميد، وزاد في آخر الحديث:"قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني، ولو رفعت حجرًا لرجوت أن أصيب ذهبًا أو فضّة". فكأنه قال ذلك إشارةً إلى إجابة الدعوة النبويّة بأن يبارك اللَّه له. ووقع في رواية أبي هريرة رضي الله عنه بعد قوله: "أَعْرَستَ؟ "، قال: نعم، قال:"أولمت؟ " قال: لا، فرمى إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بنواة من ذهب، فقال:"أولم، ولو بشاة". وهذا لو صحّ كان فيه أن الشاة من إعانة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان يعكُرُ على من استدلّ به على أن الشاة أقلّ ما يشرع للموسر، ولكن الإسناد ضعيف. وفي رواية معمر، عن ثابت:"قال أنس: فلقد رأيته قسم لكلّ امرأة من نسائه بعد موته مائة ألف". قال الحافظ: قلت: مات عن أربع نسوة، فيكون جميع تركته ثلاثة
(1)
"لسان العرب" 12/ 643. مادة ولم.
(2)
حديث صحيح أخرجه النسائيّ.
(3)
أي وهي الشرطيّة، فقد اختلف النحاة، هل تفيد الامتناع أم لا؟، ولو عبّر بالشرطيّة لكان أولى.
آلاف ألف ومائتي ألف. وهذا بالنسبة لتركة الزبير بن العوّام رضي الله عنه قليلٌ جدًّا، فيحتمل أن تكون هذه دنانير، وتلك دراهم؛ لأن كثرة مال عبد الرحمن مشهورٌ جدًّا. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أنس بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-67/ 3352 و 74/ 3373 و 75/ 3374 و 3375 و 84/ 3389. وفي "الكبرى" 64/ 5507 و 5508 و 83/ 5558 و 84/ 5559 و 5560. وأخرجه (خ) في "البيوع" 2049 و"الحوالة" 2293 و"المناقب" 3781 و"النكاح" 5072 و 5148 و 5153 و 5155 و 5167 و"الأدب" 6082 و"الدعوات" 6386 (م) في "النكاح" 1427 (د) في "النكاح" 2109 (ت) في "البرّ والصلة" 1933 (ق) في "النكاح" 1907 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 12274 و 12564 و12710 (الموطأ) في "النكاح" 1157 (الدارمي) في "الأطعمة" 2064 و 2204. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(1)
:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعيّة النكاح على نواة من ذهب، وهي خمسة دراهم، على ما تقدّم من الخلاف في تفسير النواة. (ومنها): جواز خروج العروس، وعليه أثر العرس، من خلوق ونحوه. (ومنها): جواز التزعفر للرجال عند العرس، فيُخصّص به النهي الوارد في ذلك، على ما هو رأي المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، لكن الأرجح أنه أصابه من امرأته، ولم يستعمله قصدًا، جمعًا بينه، وبين حديث النهي عن التزعفر للرجال، وسيأتي تمام البحث فيه بعد سبعة أبواب في - 75/ 3374 - " باب الرخصة في الصفرة عند التزوّج"، إن شاء اللَّه تعالى.
(ومنها): استحباب الدعاء للمتزوّج، وسيأتي في باب مستقلّ -73/ 3372 و 74/ 3373 - إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): سؤال الإمام، وكبير القوم أصحابه، وأتباعه عن أحوالهم، ولا سيّما إذا رأى منهم ما لم يَعهَدْ. (ومنها): تأكّد أمر الوليمة، وسيأتي اختلاف العلماء في حكمها في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أن الوليمة
(1)
المراد فوائد حديث قصّة عبد الرحمن بن عوف، لا بخصوص رواية المصنّف في هذا الباب فقط، بل بعموم الروايات التي تعرضت لذكرها في الشرح، فتنبّه لذلك.
تكون بعد الدخول. قال في "الفتح": ولا دلة فيه، وإنما فيه أنها تُستدرك إذا فأتت بعد الدخول، هكذا قال في "الفتح"، وفيه نظر لا يخفى، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أن أقلّ ما يجزئ الموسر في اليمة شاة. قال في "الفتح": ولولا ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه بأقلّ من الشاة لكان يمكن أن يستدل به على أن الشاة أقلّ ما تُجزىء في الوليمة، ومع ذلك فلا بدّ من تقييده بالقادر عليها، وأيضًا فيعكُر على الاستدلال أنه خطاب واحد، وفيه اختلافٌ، هل يستلزم العموم أولًا، وقد أشار إلى ذلك الشافعيّ فيما نقله البيهقيّ عنه، قال: لا أعلمه أمر بذلك غير عبد الرحمن، ولا أعلمه أنه صلى الله عليه وسلم ترك الوليمة، فجعل ذلك مستندًا في كون الوليمة ليست بحتم. انتهى
(1)
.
(ومنها): أنه يُستفاد من السياق طلب تكثير الوليمة لمن يَقدر. قال عياضٌ: وأجمعوا على أن لا حدّ لأكثرها، وأما أقلّها فكذلك، ومهما تيسّر أجزأ، والمستحبّ أنها على قدر حال الزوج، وقد تيسّر على الموسر الشاة، فما فوقها. (ومنها): أنه يدلّ على أن النكاح لا بدّ فيه من صداق؛ لاستفهامه على الكمّية، ولم يقل: هل أصدقتها، أم لا؟ ويشعر ظاهره بأنه يحتاج إلى تقديرٍ؛ لإطلاق لفظة "كم" الموضوعة للتقدير، كذا قال بعض المالكيّة. قال الحافظ: وفيه نظر؛ لاحتمال أن يكون المراد الاستخبار عن الكثرة، أو القلّة، فيخبره بعد ذلك بما يليق بحال مثله، فلما قال له القدر، لم يُنكر عليه، بل أقرّه
(2)
. (ومنها): أنه استُدلّ به على استحباب تقليل الصداق؛ لأن عبد الرحمن بن عوف كان من مياسير الصحابة رضي الله عنهم، وقد أقرّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على إصداقه وزن نواة من ذهب.
وتُعُقّب بأن ذلك كان في أول الأمر حين قدم المدينة، وإنما حصل له اليسار بعد ذلك من ملازمة التجارة حتى ظهر منه من الإعانة في بعض الغزوات ما اشتهر، وذلك ببركة دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم -له. (ومنها): أنه استُدلّ بقصّة عبد الرحمن مع سعد بن الربيع على جواز المواعدة لمن يريد أن يتزوّج بها، إذا طلّقها زوجها، وأوفت العدّةَ؛ لقول سعد بن الربيع:"انظر أيّ زوجتيّ أعجب إليك حتى أطلّقها، فإذا انقضت عدّتها تزوّجتها"، ووقع تقرير ذلك، ويعكر على هذا أنه لم يُنقل أن المرأة علمت بذلك، ولا سيّما ولم يقع تعيينها، لكن الاطلاع على أحوالهم إذ ذاك يقتضي أنهما علمتا معًا؛ لأن ذلك كان قبل نزول آية الحجاب، فكانوا يجتمعون، ولولا وثوق سعد بن الربيع من كلّ منهما بالرضا ما جزم بذلك.
(1)
"فتح" 10/ 293 - 294.
(2)
"فتح 10/ 295.
وقال ابن المنيّر: لا يستلزم المواعدة بين الرجلين وقوع المواعدة بين الأجنبيّ والمرأة؛ لأنها إذا مُنع، وهي في العدّة من خطبتها تصريحًا، ففي هذا يكون بطريق الأولى؛ لأنها إذا طلّقت دخلت العدّة قطعًا. قال: ولكنها وإن اطّلعت على ذلك، فهي بعد انقضاء عدّتها بالخيار، والنهي إنما وقع عن المواعدة بين الأجنبيّ والمرأة، أو وليّها، لا مع أجنبيّ آخر انتهى.
(ومنها): جواز نظر الرجل إلى المرأة قبل أن يتزوّج بها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى "الوليمة":
قال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: الوليمة اسم للطعام في العُرس خاصّةً، لا يقع هذا الاسم على غيره، كذلك حكاه ابن عبد البرّ عن ثعلب وغيره من أهل اللغة. وقال بعض الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إن الوليمة تقع على كلّ طعام لسرور حادث، إلا أن استعمالها في طعام العرس أكثر، وقول أهل اللغة أقوى؛ لأنهم أهل اللسان، وهم أعرف بموضوعات اللغة، وأعلم بلسان العرب.
و"الْعَذِيرة": اسم لدعوة الختان، وتُسمّى الإعذار. و"الْخُرْسُ، والْخُرْسَة" عند الولادة. و"الوَكِيرَة": دعوة البناء، يقال: وَكّر، وخرّس، مشدّدٌ. و"النَّقِعة": عند قُدوم الغائب، يقال: نَقَعَ، مخفّفٌ. و"العقيقة": الذبح لأجل الولد، قال الشاعر:
كُلَّ الطَّعَامِ تَشْتَهِي رَبِيعَهْ
…
الْخُرسَ وَالإعْذَارَ وَالنَّقِيعَهْ
والحِذَاقُ: الطعام عند حِذَاق الصبيّ. و"المَأْدُبَةُ: اسمٌ لكلّ دعوة لسبب كانت، أو لغير سبب. والآدِبُ: صاحب المأدُبة، قال الشاعر [من الرمل]:
نَحنُ فِي الْمَشْتَاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى
…
لَا تَرَى الآدِبَ مِنَّا يَنْتَقِرْ
و"الْجَفَلَى" في الدعوة: أن يعمّ الناسَ بدعوته. و"النَّقَرَى": هو أن يَخُصّ قومًا دون قوم انتهى كلام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
وقال في "الفتح": وقال صاحب "المحكم": الوليمة: طعام العرس، والإملاك. وقيل: كلّ طعام صُنع لعرس وغيره. وقال عياض في "المشارق": الوليمة طعام النكاح. وقيل: الإملاك. وقيل: طعام العرس خاصّة. وقال الشافعيّ، وأصحابه: تقع الوليمة على كل دعوة تُتّخذ لسرور حادثة، من نكاح، أو ختان، وغيرهما، لكن الأشهر استعمالها عند الإطلاق في النكاح، وتقييده في غيره، فيقال: وليمة الختان، ونحو
(1)
"المغني" 10/ 191.
ذلك. وقال الأزهريّ: الوليمة مأخوذةٌ من الْوَلْم، وهو الجمع وزنًا ومعنًى؛ لأن الزوجين يجتمعان. وقال ابن الأعرابيّ: أصلها من تتميم الشيء، واجتماعه. وجزم الماورديّ، ثم القرطبيّ بأنها لا تُطلق في غير طعام العرس إلا بقرينة.
وأما الدعوة، فهي أعمّ من الوليمة، وهي بفتح الدال على المشهور، وضمها قطرب في مثلّثه، وغلّطوه في ذلك، على ما قاله النوويّ. قال: ودِعوة النسب بكسر الدال، وعكس ذلك بنو تيم الرباب، ففتحوا دَعوة النسب، وكسروا دال دِعوة الطعام انتهى. قال الحافظ: وما نسبه لبني تيم الرباب نسبه صاحبا "الصحاح " و"المحكم" لبني عديّ الرباب، فاللَّه أعلم.
وذكر النوويّ تبعًا لعياض أن الولائم ثمانية: "الإعذار" -بعين مهملة، وذال معجمة-: للختان. و"العقيقة": للولادة. و"الْخُزس" -بضم المعجمة، وسكون الراء، ثم سين مهملة- لسلامة المرأة من الطلق. وقيل: طعام الولادة. و"العقيقة": تختصّ باليوم السابع. و"النّقيعة ": لقدوم المسافر، مشتقّةٌ من النقع، وهو الغبار. و"الوكيرة": للسكن المتجدّد، مأخوذ من الوَكَر، وهو المأوى، والمستقرّ. و"الوَضِيمة" -بضاد معجمة-: لما يُتّخذ عند المصيبة. و"المادبة": لما يُتخذ بلا سبب، ودالها مضمومة، ويجوز فتحها انتهى.
و"الإعذار" يقال فيه أيضًا: "الْعُذرَة" -بضمّ، فسكون-. و"الْخُرس"، يقال فيه أيضًا: بالصاد المهملة بدل السين، وقد تزاد في آخره هاء، فيقال: خُرْسة، وخرصة.
وقيل: إنها لسلامة المرأة من الطلق، وأما التي للولادة بمعنى الفرح، في العقيقة.
واختُلف في النقيعة، هل التي يصنعها القادم من السفر، أو تُصنع له؟، قولان.
وقيل: النقيعة التي يصنعها القادم، والتي تُصنع له تُسمى التُّحْفة. وقيل: إن الوليمة خاصّ بطعام الدخول، وأما طعام الإملاك، فيُسمّى الشُّنْدَخ -بضمّ المعجمة، وسكون النون، وفتح الدال المهملة، وقد تضمّ، وآخره خاء معجمةٌ، مأخوذ من قولهم: فرسٌ شُنْدَخٌ، أي يتقدّم غيره، سمّي طعام الإملاك بذلك؛ لأنه يتقدّم الدخول.
قال الحافظ: وأغرب شيخنا في "التدريب"، فقال: الولائم سبعٌ، وهي: وليمة الإملاك، وهو التزوّج، ويقال لها: النقيعة -بنون، وقاف-. ووليمة الدخول، وهو العرس، وقَلَّ من يغاير بينهما انتهى. وموضع الإغراب إغرابه تسمية وليمة الإملاك نقيعة. ثم رأيته تبع في ذلك المنذريّ في "حواشيه"، وقد شذّ بذلك. وقد فاتهم ذكر الحِذاق -بكسر المهملة، وتخفيف الذال المعجمة، وآخره قاف-: الطعام الذي يتخذ عند حِذْق الصبيّ، ذكره ابن الصبّاع في "الشامل". وقال ابن الرفعة: هو الذي يُصنع
عند الختم، أي ختم القرآن، كذا قيّده، ويحتمل ختم قدر مقصود منه. ويحتمل أن يطرد ذلك في حِذقه لكلّ صناعة. وذكر المحامليّ في "الرونق" في الولائم "العَتِيرة" - بفتح المهملة، ثم مثنّاة مكسورة- وهي شاة تذبح في أول رجب. وتُعُقّب بأنها في معنى الأضحية، فلا معنى لذكرها مع الولائم.
وأما المأدبة، ففيها تفصيلٌ؛ لأنها إن كانت لقوم مخصوصين، فهي النَّقَرَى -بفتح النون والقاف، مقصورًا، وإن كانت عامّةً، فهي الْجَفَلَى -بجيم، وفاء، بوزن الأول-، قال الشاعر [من الرمل]:
نَحنُ فِي الْمَشتَاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى
…
لَا تَرَى الآدِبَ منَّا يَنْتَقِرْ
وَصَفَ قومه بالجود، وأنهم إذا صنعوا مأدبة دعوا إليها عمومًا، لا خصوصًا. وخصّ الشتاء؛ لأنها مظنّة قلّة الشيء، وكثرة احتياج من يُدعَي. و"الآدب": اسم الفاعل من المأدبة، وينتقر مشتقّ من النقَرَى. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الوليمة:
قال ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: ما ملخّصه: لا خلاف بين أهل العلم في أن الوليمة سنّةٌ في الْعُرس مشروعة. قال: وليست واجبةً في قول أكثر أهل العلم. وقال بعض أصحاب الشافعيّ: هي واجبة. انتهى
(2)
.
وقال البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه": [باب الوليمةُ حقّ]. قال ابن بطّال: قوله: "الوليمة حقّ" أي ليست بباطل، بل يُندب إليها، وهي سنّة فضيلة، وليس المراد بالحقّ الوجوب، ثم قال: ولا أعلم أحدًا أوجبها.
قال الحافظ: كذا قال، وغفل عن رواية في مذهبه بوجوبها، نقلها القرطبيّ، وقال: إن مشهور المذهب أنها مندوبة. وابن التين عن مذهب أحمد، لكن الذي في "المغني" أنها سنّة. بل وافق ابن بطال في نفي الخلاف بين أهل العلم في ذلك، قال: وقال بعض الشافعيّة: هي واجبة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بها عبد الرحمن بن عوف، ولأن الإجابة إليها واجبة، فكانت واجبة. وأجاب بأنه طعام لسرور حادثٍ، فأشبه سائر الأطعمة، والأمر محمول على الاستحباب، بدليل ما ذكرناه، ولكونه أمره بشاة، وهي غير واجبة اتفاقًا. وأما البناء فلا أصل له.
(1)
"فتح" 10/ 301 - 302
(2)
"المغني" 10/ 192 - 193.
قال الحافظ: والبعض الذي أشار إليه من الشافعيّة هو وجهٌ معروفٌ عندهم، وكذلك حكى الوجوب في "البحر" عن أحد قولي الشافعيّ، وقد جزم به سُليم الرازيّ، وقال: إنه ظاهر نصّ "الأمّ"، ونقله عن النصّ أيضًا أبو إسحاق الشيرازيّ في "المهذّب"، وهو قول أهل الظاهر، كما صرّح به ابن حزم. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن من النظر في الأدلّة أن الأرجح هو مذهب من قال بوجوب الوليمة على القادر عليها؛ لأنها ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا، والقول أمرٌ، وهو للوجوب إلا عند وجود صارف عنه، والقائلون بالاستحباب لم يأتوا بصارف، غير دعوى الإجماع، وقد عرفت أنها دعوى باطلة، فقد قال بالوجوب بعض أهل العلم، وهو نصّ الشافعيّ في "الأمّ"، وقول أهل الظاهر، فلا إجماع، فبقي دليل الوجوب بلا معارض، فوجب القول به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم إجابة الدعوة:
ذهب جمهور العلماء إلى وجوب الإجابة إليها، وهو المشهور عند الشافعيّة، والحنابلة، وقالوا: إنها فرض عين، ونصّ عليه مالك، وقال به أهل الظاهر، ونقل القاضي عياض الاتفاق عليه، وابن عبد البرّ الإجماع عليه. وذهب بعضهم إلى استحبابها، قاله بعض الشافعيّة، والحنابلة، وقال أبو الحسن من المالكيّة: إنه المذهب، وصرّح صاحب "الهداية" من الحنفيّة بأن الإجابة سنّةٌ، لكنه استدلّ بقوله صلى الله عليه وسلم:"من لم يُجب الدعوة، فقد عطى أبا القاسم"، وشبّهها فيما إذا كان هناك غناء ونحوه بصلاة الجنازة واجبة الإقامة، وإن حضرتها نياحة، وذلك يُفْهِمُ الوجوب. وقال بعض الشافعيّة، والحنابلة: إجابتها فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط الحرج عن الباقين. وحكى الشيخ تقيّ الدين في "شرح الإلمام" عن بعضهم أنه خصّ الوجهين في إجابتها فرض عين، أو كفاية بما إذا دُعي الجميع، وقال: لو خصّ كلّ واحد بالدعوة، تعيّنت الإجابة على الكلّ
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن الحقّ هو الذي عليه الجمهور، وهو كون الإجابة فرض عين؛ لوضوح أدلّته؛ كحديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ومن ترك الدعوة، فقد عصى اللَّه ورسوله". متّفقٌ عليه. وحديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "من دُعي إلى وليمة، فلم يأتها، فقد عصى اللَّه ورسوله". رواه أبو عوانة في "صحيحه". فهذا نصّ صريح في عصيان من لم يجب الدعوة، ولا يُطلق العصيان إلا على ترك الواجب،
(1)
"فتح" 10/ 288.
(2)
"طرح التثريب" 7/ 70/ 71.
كما أفاده في "الفتح"
(1)
.
والحاصل أن إجابة الدعوة فرض عين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في حكم إجابة الدعوة غير العُرْس:
ذهبت طائفة إلى وجوب الإجابة مطلقًا، وذهب الأكثرون إلى أن الوجوب يخصّ العرس فقط، وأما غيرها فتستحبّ إجابتها، وإلى المذهب الأول مال الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-، حيث قال في "صحيحه":
[باب إجابة الداعي في العُرس وغيره]: ثم أخرج بسنده عن نافع، قال: سمعت عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أجيبوا هذه الدَّعْوة إذا دُعيتم إليها"، قال: كان عبد اللَّه يأتي الدعوة في العُرس وغير العرس، وهو صائم انتهى.
قال في "الفتح": قوله: "كان عبد اللَّه" القائل هو نافع. وقد أخرج مسلمٌ من طريق عبد اللَّه بن نمير، عن عبيد اللَّه بن عمر العمريّ، عن نافع بلفظ:"إذا دُعي أحدكم إلى وليمة عرس، فليجب". وأخرجه مسلم، وأبو داود من طريق أيوب، عن نافع بلفظ:"إذا دعا أحدكم أخاه، فليجب عُرسًا كان، أو نحوه"، ولمسلم من طريق الزُّبيديّ، عن نافع، بلفظ:"من دُعي إلى عرس، أو نحوه فليُجب". وهذا يؤيّده ما فهمه ابن عمر أن الأمر بالإجابة لا يختصّ بطعام العرس.
وقد أخذ بظاهر الحديث بعض الشافعيّة، فقال بوجوب الإجابة إلى الدعوة مطلقًا عُرسًا كان، أو غيره بشرطه، ونقله ابن عبد البرّ عن عبيد اللَّه بن الحسن العنبريّ قاضي البصرة، وزعم ابن حزم أنه قولُ جمهور الصحابة والتابعين، ويكعُرُ عليه
(2)
ما نقلناه عن عثمان بن أبي العاص، وهو من مشاهير الصحابة أنه قال في وليمة الختان: لم يكن يُدعى لها، لكن يمكن الانفصال عنه بأنّ ذلك لا يمنع القول بالوجوب لو دعوا. وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه دعا بالطعام، فقال رجلٌ من القوم: أعفني، فقال ابن عمر: إنه لا عافية لك من هذا، فقم. وأخرج الشافعيّ، وعبد الرزاق بسند صحيح، عن ابن عبّاس أن ابن صفوان دعاه، فقال: إني مشغول، وإن لم تُعفني جئته.
(1)
"فتح" 10/ 306.
(2)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أثر عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه هذا لا يصحّ؛ لأن في سنده عنعنة ابن إسحاق، والحسن البصريّ، وهما مشهوران بالتدليس، فلا يعكر على ما قاله ابن حزم، فتنبّه.
وجزم بعدم الوجوب في غير وليمة النكاح المالكيّة، والحنفيّة، والحنابلة، وجمهور الشافعيّة، وبالغ السرخسيّ منهم، فنقل فيه الإجماع، ولفظ الشافعيّ: إتيان دعوة الوليمة حقّ، والوليمة التي تعرف وليمة العرس، وكلّ دعوة دُعي إليها رجلٌ وليمةٌ، فلا أُرخّص لأحد في تركها، ولو تركها لم يتبيّن لي أنه عاص في تركها كما تبيّن لي في وليمة العرس. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن مما تقدّم من الأدلّة أن أرجح الأقوال هو القول بوجوب إجابة الدعوة مطلقًا، لقوّة أدلّته، ولم يأت القائلون بالفرق بين العرس وغيرها بدليل صحيح، صريح، فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّرْ بالاعتساف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في وقت الوليمة، هل هو عند العقد، أو عقبه، أو عند الدخول، أو عقبه، أو موسّعٌ من ابتداء العقد إلى انتهاء الدخول؟ على أقوال:
قال النووي: اختلفوا، فحكى عياضٌ أن الأصحّ عند المالكيّة استحبابه بعد الدخول، وعن جماعة منهم أنه عند العقد، وعند ابن حبيب عند العقد، وبعد الدخول. وقال في موضع آخر: يجوز قبل الدخول وبعده. وذكر ابن السبكيّ أن أباه قال: لم أر في كلام الأصحاب تعيين وقتها، وأنه استنبط من قول البغويّ: ضرب الدفّ في النكاح جائزٌ في العقد، والزفاف، قبلُ وبعدُ قريبًا منه، أن وقتها موسّعٌ من حين العقد، قال: والمنقول من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها بعد الدخول، كأنه يشير إلى قصّة زينب بنت جحش - رضي اللَّه تعالى عنها -، وقد ترجم البيهقيّ في وقت الوليمة انتهى.
قال الحافظ: وما نفاه من تصريح الأصحاب متعقّبٌ بأن الماورديّ صرّح بأنها عند الدخول، وحديث أنس رضي الله عنه في هذا الباب صريح في أنها بعد الدخول لقوله فيه:"أصبح عروسًا بزينب، فدعا القوم". واستحبّ بعض المالكيّة أن تكون عند البناء، ويقع الدخول عقبها، وعليه عمل الناس اليوم، ويؤيّد كونها للدخول، لا للإملاك أن الصحابة بعد الوليمة تردّدوا، هل هي زوجةٌ، أو سُرّيّةٌ، فلو كانت الوليمة عند الإملاك لعرفوا أنها زوجة؛ لأن السّرّيّة لا وليمة لها، فدلّ على أنها عند الدخول، أو بعده انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن كونها بعد الدخول هو الأرجح؛ لحديث أنس رضي الله عنه المتقدّم في قصّة زينب - رضي اللَّه تعالى عنها -، فإنه صريحٌ في ذلك. واللَّه
(1)
"فتح" 10/ 308
(2)
"فتح" 10/ 288 - 289.
تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في تحديد أيام الوليمة:
قال الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه": [باب حقّ إجابة الوليمة والدعوة، ومن أولم سبعة أيام، ونحوه، ولم يوقّت النبيّ صلى الله عليه وسلم يومًا، ولا يومين".
قال في "الفتح": أي لم يجعل للوليمة وقتا معينا يختص به الإيجاب، أو الاستحباب، وأخذ ذلك من الإطلاق، وقد أفصح بمراده في "تاريخه"، فإنه أورد في ترجمة زُهير بن عثمان الحديث الذي أخرجه أبو داود، والنسائيّ
(1)
من طريق قتادة، عن عبد اللَّه بن عثمان الثقفيّ، عن رجل من ثقيف، كان يُثني عليه، إن لم يكن اسمه زهير ابن عثمان، فلا أدري ما اسمه؟ يقوله قتادة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الوليمة أول يوم حقّ، والثاني معروفٌ، والثالث رياء وسمعة". قال البخاريّ: لا يصحّ إسناده، ولا يصحّ له صحبةٌ -يعني لزهير- قال: وقال ابن عمر وغيره، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فليُجب"، ولم يخصّ ثلاثة أيام، ولا غيرها، وهذا أصحّ، قال: وقال ابن سيرين، عن أبيه:"أنه لما بني بأهله أولم سبعة أيام، فدعا في ذلك أُبيّ بن كعب، فأجابه" انتهى. وقد خالف يونس بن عُبيد قتادة في إسناده، فرواه عن الحسن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلًا، أو معضلًا، لم يذكر عبد اللَّه بن عثمان، ولا زهيرًا، أخرجه النسائيّ
(2)
، ورجحه على الموصول، وأشار أبو حاتم إلى ترجيحه، ثم أخرج النسائيّ عقبه حديث أنس:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أقام على صفيّة ثلاثة أيام حتى أعرس بها"
(3)
، فأشار إلى تضعيفه، أو إلى تخصيصه، وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو يعلى بسند حسن عن أنس رضي الله عنه، قال: "تزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم صفيّة، وجعل عتقها صداقها، وجعل الوليمة ثلاثة أيام
…
" الحديث.
قال الحافظ: وقد وجدنا لحديث زهير بن عثمان شواهد، منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه مثله، أخرجه ابن ماجه، وفيه عبد الملك بن حسين، وهو ضعيف جدًّا، وله طريق أخرى عن أبي هريرة، وعن أنس مثله، أخرجه ابن عديّ، والبيهقيّ، وفيه بكر بن خنيس، وهو ضعيفٌ، وله طريق أخرى ذكر ابن أبي حاتم أنه سأل أباه عن حديث رواه مروان بن معاوية، عن عوف، عن الحسن، عن أنس نحوه؟ فقال: إنما هو عن الحسن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسل. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أخرجه الترمذيّ بلفظ: "طعام
(1)
أي في "الكبرى" 4/ 137 رقم 6596.
(2)
"الكبرى" 4/ 137 رقم 6596.
(3)
"الكبرى" 4/ 138 رقم 6598.
أول يوم حقّ، وطعام يوم الثاني سنةٌ، وطعام يوم الثالث سمعة، ومن سمّع سمّع اللَّه به"، وقال: لا نعرفه إلا من حديث زياد بن عبد اللَّه البكائيّ، وهو كثير الغرائب، والمناكير. قال الحافظ: وشيخه فيه عطاء بن السائب، وسماع زياد منه بعد اختلاطه، فهذه علّته. وعن ابن عباس رفعه: "طعام في العرس يوم سنّة، وطعام يومين فضلٌ، وطعام ثلاثة أيام رياء وسمعة". أخرجه الطبرانيّ بسند ضعيف.
وهذه الأحاديث، وإن كان كلّ منها لا يخلو عن مقال، فمجموعها يدلّ على أن للحديث أصلًا.
وقد وقع في رواية أبي داود، والدارميّ في آخر حديث زهير بن عثمان:"قال قتادة: بلغني عن سعيد بن المسيّب أنه دُعي أول يوم وأجاب، ودعي ثاني يوم فأجاب، ودُعي ثالث يوم فلم يُجب، وقال: أهل رياء وسمعة"، فكأنه بلغه الحديث، فعمل بظاهره، إن ثبت ذلك عنه.
وقد عمل به الشافعيّة، والحنابلة، قال النوويّ: إذا أولم ثلاثًا، فالإجابة في اليوم الثالث مكروهة، وفي الثاني لا تجب قطعًا، ولا يكون استحبابها فيه كاستحبابها في اليوم الأول. وقد حكى صاحب "التعجيز" في وجوبها في اليوم الثاني وجهين، وقال في "شرحه": أصحّهما الوجوب، وبه قطع الجرجانيّ؛ لوصفه بأنه معروفٌ، أو سنةٌ، واعتبر الحنابلة الوجوب في اليوم الأول، وأما الثاني فقالوا: سنةٌ؛ تمسّكًا بظاهر لفظ حديث ابن مسعود. وفيه بحث.
وأما الكراهة في اليوم الثالث، فأطلقه بعضهم؛ لظاهر الخبر. وقال العمرانيّ: إنما تكره إذا كان المدعوّ في الثالث هو المدعوّ في الأول، وكذا صوّره الرويانيّ، واستبعده بعض المتأخّرين، وليس ببعيد؛ لأن إطلاق كونه رياء وسمعة يُشعر بأن ذلك صنع للمباهاة، وإذا أكثر الناس، فدعا في كلّ يوم فرقةً لم يكن في ذلك مباهاةٌ غالبًا.
وإلى ما جنح إليه البخاريّ ذهب المالكيّة، قال عياضٌ: استحبّ أصحابنا لأهل السعة كونها أسبوعًا، قال: وقال بعضهم: محلّه إذا دعا في كلّ يوم من لم يدع قبله، ولم يُكرّر عليهم. وهذا شبيهٌ بما تقدّم عن الرويانيّ، وإذا حملنا الأمر في كراهة الثالث على ما إذا كان هناك رياء وسمعةٌ، ومباهاةٌ كان الرابع، وما بعده كذلك، فيمكن حمل ما وقع من السلف من الزيادة على اليومين عند الأمن من ذلك، وإنما أطلق ذلك على الثالث لكونه الغالب. واللَّه أعلم
(1)
.
(1)
"صحيح البخاريّ مع الفتح" 10/ 300 - 304.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن مذهب المالكيّة، وهو الذي مال إليه البخاريّ، من جواز كون الوليمة أسبوعًا لمن تيسّر له هو الأرجح؛ إن خلا عن الرياء والسمعة؛ لإطلاق النصوص؛ وأما الأحاديث التي احتج القائلون بالكراهة فيما بعد اليوم الثاني، فقد علمت كونها كلها ضعافًا، لا ينبغي أن تُذكر لمعارضة إطلاق الأحاديث الصحاح بها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: لوجوب إجابة الدعوة شروطٌ: منها: أن يكون الداعي مكلّفا حرًّا رشيدًا، وأن لا يخصّ الأغنياء، دون الفقراء، وأن لا يُظهر قصد التودّد لشخص بعينه لرغبة فيه، أو رهبة منه، وأن يكون الداعي مسلمًا على الأصحّ، وأن يختصّ باليوم الأول على المشهور، وأن لا يُسبق، فمن سبق تعيّنت الإجابة له دون الثاني، وإن جاءا معًا قدّم الأقرب رحمًا على الأقرب جوارًا على الأصحّ، فإن استوى أقرع، وأن لا يكون هناك منكر، أو ما يتأذّى بحضوره، وأن لا يكون له عذرٌ، وضبطه الماورديّ بما يُرخّص به في ترك الجماعة. هكذا أفاده في "الفتح" وغيره
(1)
. وبعض ما ذكر محلّ تأمّل، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3353 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: رَآنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيَّ بَشَاشَةُ الْعُرْسِ، فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: «كَمْ أَصْدَقْتَهَا؟» قَالَ: زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
وقوله: "بشاشة الْعُرْس". قال في "القاموس": البَشُّ، والبَشَاشةُ: طلاقة الوجه، بَشِشْتُ بالكسر أَبَشُّ، واللطف في المسألة، والإقبال على أخيك، والضحك إليه، وفَرَحُ الصّديق بالصديق انتهى.
و"الْعُرْسُ" بالضمّ: الزِّفَافُ، ويذكّرُ ويؤنّث، فيقال: هو العُرْس، والجمع أعراس، مثلُ قُفْل وأقفال، وهي العرس، والجمعُ عُرْسات، والعرس أيضًا: طعام الزفاف، وهو مذكر؛ لأنه اسم للطعام. قاله الفيّوميّ.
والمعنى هنا: أنه صلى الله عليه وسلم رأى عبد الرحمن، وهو مسرور، طليق الوجه، تظهر عليه البَشَاشَة الحاصلة للمتزوّج أيام عُرْسه.
(1)
"فتح" 10/ 302. و"طرح التثريب" 7/ 73.
وقوله: "فقلت: تزوّجتُ الخ" أي بعد أن سأله النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما سبق أنه قال له:"مَهْيَم؟ ".
وقوله: "كم أصدقتها؟ " أيْ أيَّ مقدار دفعت لها مهرًا.
وقوله: "زنة نواة" بكسر الزاي، وتخفيف النون.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في شرح الحديث الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3354 -
(أَخْبَرَنَا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ح وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ تَمِيمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حَجَّاجًا، يَقُولُ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ عَلَى صَدَاقٍ، أَوْ حِبَاءٍ، أَوْ عِدَةٍ، قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ، فَهُوَ لَهَا، وَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ، فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِاهُ، وَأَحَقُّ مَا أُكْرِمَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ ابْنَتُهُ، أَوْ أُخْتُهُ». اللَّفْظُ لِعَبْدِ اللَّهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(هلال بن العلاء) الباهليّ مولاهم، أبو عمرو الرَّقّيّ، صدوق [11] 10/ 1199 من أفراد المصنّف.
2 -
(عبد اللَّه بن محمد بن تميم) أبو حُميد الْمِصِّيصيّ، ثقة [11] 200/ 319 من أفراد المصنّف أيضًا.
3 -
(حجاجٌ) بن محمد الأعور المصِّيصيّ، ثقة ثبت اختلط في آخره [9] 28/ 32.
4 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل [6] 28/ 32.
5 -
(عمرو بن شعيب) بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو المدنيّ، أو الطائفيّ، صدوق [5] 105/ 140.
6 -
(أبوه) شعيب بن محمد بن عبد اللَّه الطائفي، صدوق [3] 105/ 140.
7 -
(عبد اللَّه بن عمرو) بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - 89/ 111 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن جدّه، وتابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ) بالبناء للمفعول (عَلَى صَدَاقٍ) بفتح الصاد المهملة، وكسرها: أي مهر معيّن (أَوْ حِبَاءٍ) بكسر المهملة، والمدّ: أي عطيّة، وهو ما يعطيه الزوج، سوى الصداق بطريق الهبة (أَوْ عِدَةٍ) بكسر العين المهملة: ما يعده الزوج أن يعطيه في المستقبل (قَبْلَ عِصمَةِ النِّكَاح) أي قبل عقد النكاح، والعصمة ما يُعتصم به، من عقد، وسبب (فَهُوَ لَهَا) أي للزوجة (وَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ) أي بعد عقد النكاح (فَهُوَ لِمَنْ أَعْطَاهُ) أي لمن أعطاه الزوج، من أولياء الزوجة. وفي نسخة:"لمن أعطيه". والمعنى: أن ما يقبضه الوليّ من الزوج قبل العقد، فهو للمرأة، وما يقبضه بعده، فهو للوليّ.
قال الخطّابيّ: هذا يُتَأَوّلُ على ما يشترطه الوليّ لنفسه، سوى المهر. وقد اختلف الناس في وجوبه، فقال سفيان الثوريّ، ومالك بن أنس في الرجل يَنكح المرأة على أن لأبيها كذا وكذا شيئًا، اتفقا عليه سوى المهر: إن ذلك كله للمرأة، دون الأب، وكذلك روي عن عطاء، وطاوس. وقال أحمد: هو للأب، ولا يكون ذلك لغيره من الأولياء؛ لأن يد الأب مبسوطةٌ في مال الولد. وروي عن عليّ بن الحسين أنه زوّج ابنته رجلًا، واشترط لنفسه مالًا. وعن مسروق أنه زوّج ابنته رجلًا، واشترط لنفسه عشرة آلاف درهم، يجعلها في الحجّ والمساكين. وقال الشافعيّ: إذا فعل ذلك فلها مهر المثل، ولا شيء للوليّ. انتهى
(1)
.
(وَأَحَقُّ مَا أُكْرِمَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ ابْنَتُهُ، أَوْ أُخْتُهُ) فيه دليلٌ على مشروعية صلة أقارب الزوجة، وإكرامهم، والإحسان إليهم، وأن ذلك حلالٌ لهم، وليس من قبيل الرسوم المحرمة، إلا أن يمتنعوا من التزويج إلا به، فيكون من العَضْل المحرّم.
والحاصل أن إكرام الشخص بسبب بنته، أو أخته بدفع مال إليه جائزٌ، وكذلك اشتراطه هو لنفسه، بشرط أن لا يؤدّي ذلك إلى أن يمتنع من تزويجها إلا به، فلا يجوز؛ للنهي عن العضل. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله (اللَفْظُ لِعَبْدِ اللَّهِ) يعني أن لفظ المتن الذي ساقه، فإنه لشيخه عبد اللَّه بن محمد ابن تميم، وأما شيخه هلال بن العلاء، فرواه بمعناه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"معالم السنن" 3/ 59.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.
وأما تضعيف بعضهم له بسبب عنعنة ابن جريج؛ حيث إنه مدلّسٌ، فيجاب عنه بأنه صرّح بالتحديث في رواية المصنّف هنا، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-67/ 3354 - وفي "الكبرى" 64/ 5509. وأخرجه (د) في "النكاح" 2129 (ق) في "النكاح" 1955 (أحمد) في "مسند المكثرين" 6670. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
68 - (إِبَاحَةِ التَّزْوِيجِ
(1)
بِغَيْرِ صَدَاقٍ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: إذا تزوّجت المرأة بغير مهرٍ تُسمّى مفوّضةً -بكسر الواو وفتحها- كما سيأتي بيان ذلك في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.
3355 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ زَائِدَةَ بْنِ قُدَامَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالأَسْوَدِ، قَالَا: أُتِيَ عَبْدُ اللَّهِ، فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا، فَتُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَلُوا هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا أَثَرًا، قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا نَجِدُ فِيهَا -يَعْنِي أَثَرًا- قَالَ: أَقُولُ بِرَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا، فَمِنَ اللَّهِ، لَهَا كَمَهْرِ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ، فَقَالَ: فِي مِثْلِ هَذَا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا، فِي امْرَأَةٍ، يُقَالُ لَهَا: بِرْوَعُ بِنْتُ وَاشِقٍ، تَزَوَّجَتْ رَجُلاً، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَقَضَى لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ صَدَاقِ نِسَائِهَا، وَلَهَا
(1)
وفي نسخة: "التَّزَوُّجِ".
الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَرَفَعَ عَبْدُ اللَّهِ يَدَيْهِ، وَكَبَّرَ، قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا، قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ:"الأَسْوَدُ" غَيْرُ زَائِدَةَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن) بن المسور بن مخرمة الزهريّ البصريّ، صدوق، من صغار [10].
[تنبيه]: وقع في بعض النسخ: "عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن"، وهو غلط فاحش، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
2 -
(عبد الرحمن بن عبد اللَّه أبو سعيد) مولى بني هاشم البصريّ، نزيل مكة، لقبه جَرْدَقَةُ، صدوقٌ ربما أخطأ [9] 43/ 1824.
3 -
(زائدة بن قُدامة) الثقفي، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقة ثبت [7] 74/ 91.
4 -
(منصور) بن المعتمر أبو عتّاب الكوفيّ، ثقة ثبت [6] 2/ 2.
5 -
(إبراهيم) بن يزيد النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ الفقيه، ثقة [5] 29/ 33.
6 -
(علقمة) بن قيس النخعيّ الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه عابد [2] 61/ 77.
7 -
(الأسود) بن يزيد النخعيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة مكثر فقيه [2] 29/ 33.
8 -
(عبد اللَّه) بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - 35/ 39. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنّه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه وشيخ شيخه فبصريان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيين عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَلْقَمَةَ) بن قيس (وَالأَسْوَدِ) بن يزيد، أنهما (قَالَا: أُتِيَ) بالبناء للمجهول (عَبدُ اللَّهِ) أي ابن مسعود؛ لأنه المقصود إذا أُطلق في الكوفة، كما أنه إذا أطلق في المدينة فإنه ابن عمر، وفي مكة، فابن الزبير، وفي البصرة عبد اللَّه بن عباس، وفي مصر والشام فعبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وإلى ذلك أشار الحافظ السيوطيّ في "ألفية المصطلح" بقوله:
وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ "عَبدُ اللَّهِ" فِي
…
طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرِ وَإِنْ يَفِي
بِمَكَّةِ فَابْنُ الزُّبَيرِ أو جَرَى
…
بِكُوفَةِ فَهْوَ ابْنُ مَسعُودٍ يُرَى
وَالْبَصرَةِ البَحرُ وَعِندَ مِصرِ
…
وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو
(فِي رَجُلِ) أي في قضية رجل (تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يَفْرِض لَهَا) -بفتح الياء، وكسر الراء- من فرض الشيء، من باب ضرب: إذا أوجبه، أي لم يُلزِم نفسه مهرًا معيّن المقدار (فَتُوُفِّيَ) بالبناء للمفعول: أي مات (قَبْلَ أَنْ يَدخُلَ بِهَا) أي يجامعها (فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه (سَلُوا هَلْ تَجْدُونَ فِيهَا أَثَرًا) أي نقلًا من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو من الخلفاء الراشدين، أو غيرهم. وفي الرواية الآتية آخر الباب من طريق سفيان، عن منصور: "فقال عبد اللَّه: ما سُئلتُ منذ فارقت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أشدّ عليّ من هذه، فأتوا غيري
…
" (قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كنية ابن مسعود رضي الله عنه (مَا نَجدُ فِيهَا -يَعْنِي أَثَرًا-) وفي الرواية المذكورة: "فاختلفوا إليه فيها شهرًا، ثم قالوا له في آخر ذلك: من نسأل إن لم نسألك؟، وأنت من جِلَّة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بهذا البلد، ولا نجد غيرك" (قَالَ) عبد اللَّه (أَقُولُ بِرَأْيِ) قال الفيّوميّ: الرأي: العقلُ والتدبير، ورجلٌ ذو رأي، أي بصيرةٍ، وحِذْقٍ بالأمور، وجمعه آراء انتهى. أي أحكم في هذه المسألة باجتهادي. وفي رواية سفيان:"سأقول فيها بِجَهْدِ رأيي"(فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ) أي فإن كان ذلك الرأي صوابًا، فهو من توفيق اللَّه تعالى إياي لإصابته، فله الحمد والمنّة. وفي رواية سفيان:"فإن كان صوابًا، فمن اللَّه وحده لا شريك له، وإن كان خطأ، فمنّي، ومن الشيطان، واللَّه ورسوله بُرآءُ"(لَهَا كَمَهْرِ نِسَائِهَا) أي يجب لها مهر مثلُ مهر قراباتها من نساء قومها (لَا وَكْسَ) -بفتح، فسكون -أي لا نقص منه. قال في "اللسان": الوَكْسُ: النقص، وقد وَكَسَ الشيءُ: نَقَصَ، ووكَستُ فلانًا: نقصته. والوكسُ اتّضاع الثمن في البيع، قال الشاعر [من الرجز]:
بِثَمَنِ مِنْ ذَاكَ غيْر وَكْسٍ
…
دُونَ الْغَلَاءِ وَفُوَيْقَ الرُّخْصِ
أي بثمن غير ذي وَكْسٍ. انتهى (وَلَا شَطَطَ) -بفتحتين -أي ولا زيادة عليه. قال في "اللسان": الشطَطُ: مجاوزة القدر في بيع، أو طلب، أو احتكام، أو غير ذلك، وفي التنزيل العزيز:{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} [الجن: 4]، وقال عَنْتَرَةُ [من الكامل]:
شَطَّتْ مَزَارَ الْعَاشِقِينَ فَأَصْبَحَتْ
…
عَسِرًا عَلَيَّ طِلَابهُا ابْنَةُ مَخْرَمِ
أي جاوزت مَزَار العاشقين. انتهى بتصرّف.
(وَلَهَا الْمِيرَاثُ) أي ترث من ذلك الزوج؛ لكونها زوجة له، وقد قال اللَّه تعالى:{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ} الآية [النساء: 12]، (وَعَلَيْهَا العِدَّةُ) لوفاة زوجها، وقد قال اللَّه تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} الآية [البقرة: 234] (فَقَامَ
رَجُلٌ) وفي الرواية الآتية -57/ 3525 - من طريق زيد بن الحباب، عن سفيان، عن منصور: "فقام معقل بن سنان الأشجعيّ، فقال: قضى فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق
…
" الحديث. وعند أحمد: "فقام رجلٌ من أشجع، أُراه سَلَمَة بن يزيد
…
"، ولا تعارض بين الروايتين، لاحتمال أن يكون كلٌّ منهما قام، فتكلّم، ويؤيّد هذا الجمع، ما يأتي في رواية سفيان: "وذلك بسمع أناس من أشجع، فقاموا، فقالوا: نشهد أنك قضيت بما قضى به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
…
الحديث (مَنْ أَشْجَعَ) أي من قبيلة أشجع بن ريث بن غَطَفان بن سعد بن قيس عيلان، وهي قبيلة مشهورة، قاله في "اللباب"
(1)
. وفي رواية سفيان: "وذلك بسمع أُناس من أشجع، فقاموا، فقالوا
…
" (فَقَالَ) ذلك الرجل (فِي مِثْلِ هَذَا) متعلّقٌ بـ"قضى"، و"في" بمعنى الباء: أي بمثل قضائك هذا (قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا، فِي امْرَأَةٍ) بدل من "فينا" بدل بعض من كلّ (يُقَالُ لَهَا: بَرْوَعُ بنْتُ وَاشِقٍ) قال الفيّوميّ: بَرْوَعُ على وزن فَوْعَل -بفتح الفاء، وسكون العين- بنت واشق الأشجعيّة، من الصحابيات، قالوا: وكسر الباء خطأ؛ لأنه لا يُوجَد فِعْوَلٌ بالكسر إلا خِرْوَعٌ، نَبتٌ معروف، وعِتْوَدٌ، اسم واد، وعِتْوَرٌ، اسم واد أيضًا، وذِرْوَدٌ، اسم جَبَل، وقال بعضهم: رواه المحدثون بالكسر، ولا سبيلَ إلى دَفْع الرواية، والأسماءُ الأعلامُ لا مَجَالَ للقياس فيها، فالصواب جواز الفتح والكسر، واتفقوا على فتح الواو انتهى كلام الفيّوميّ ببعض زيادة
(2)
.
وقال في "الإصابة": بَرْوع بنت واشق الرُّؤاسيّة الكلابيّة، أو الأشجعيّة، زوج هلال ابن مرّة، لها ذكرٌ في حديث مَعْقِل الأشجعيّ وغيره، وأخرج حديثها ابن عاصم من روايتها، فساق من طريق المثنّى بن الصّبّاح، عن عمرو بن شُعيب، عن سعيد بن المسيّب، عن بروع بنت واشق أنها نكحت رجلًا، وفوّضَت إليه، فتُوفّي قبل أن يُجامعها، فقضى لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بصداق نسائها. وحديث معقِل مُخرَّجٌ في "السنن"، وأكثر النسائيّ من تخريج طرقه، وبيان الاختلاف من رُواته في قصّة عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه. وعند أحمد من طريق زائدة، عن منصور، عن إبراهيم، والأسود
…
الحديث، وفيه: فقام رجلٌ من أشجع، أُراه سلمة بن يزيد، فقال: تزوّج رجلٌ منّا امرأةً من بني رُؤاس، يقال لها: بَرْوع
…
الحديث. انتهى
(3)
.
(تَزَوَّجَت رَجُلًا، فَمَاتَ قَبلَ أَنْ يَدخُلَ بِهَا) أي يجامعها (فَقَضَى لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثلِ صَدَاقِ نِسَائِهَا، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَرَفَعَ عَبْدُ اللَّهِ يَدَيْهِ، وَكَبَّرَ) أي فرحًا بموافقة اجتهاده حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
(1)
"الأنساب" 1/ 165 و"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 64. و "اللب" 1/ 62.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 44 - 45.
(3)
"الإصابة" 12/ 156.
(قَالَ: أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ) النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- (لَا أَعْلَمُ أَحَدًا، قَالَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ: "الأَسْوَدُ" غَيْرَ زَائِدَةَ) يعني أن زائدة بن قُدَامة تفرّد بزيادة الأسود مع علقمة في روايته عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولم يذكره غيره ممن روى الحديث عن منصور، كسفيان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-68/ 3355 و 3356 و 3357 و 3358 و 57/ 3545 - وفي "الكبرى" 70/ 5515 و 71/ 5516 و 72/ 5517 و 5518 و 5519 و 5520 و 5521 و 5522 و 5523. وأخرجه (د) في "النكاح" 2114 (ت) في "النكاح" 1145 (ق) في "النكاح" 1891 (الدارمي) في "النكاح" 2246. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواز النكاح بغير تسمية المهر. (ومنها): ما كان عليه ابن مسعود رضي الله عنه من الورع، حيث امتنع عن الفتوى بلا نصّ، حتى تردّدوا إليه نحو شهر، وهكذا ينبغي للعالم أن يتريّث، ولا يبادر إلى الفتوى، حتى يضطرّ إليه، ويبحث طويلًا في النصوص الشرعيّة، وأقوال أهل العلم ممن سبقه، ويبذل جهده في ذلك. (ومنها): أنه ينبغي للعالم إذا لم يفهم الحكم في القضية أن يُحيلها إلى غيره من أهل العلم، قبل أن يجتهد فيها، فإذا لم يجد أحدًا يحلّ القضية قام بحلّها، وبذل جهده في ذلك. (ومنها): أن إصابة الحقّ توفيقٌ من اللَّه تعالى، فينبغي الشكر عليه، وأن خطأه من تلبيس الشيطان، ولا يُنسب إلى الشارع. (ومنها): أن المجتهد إذا أخطأ لا لوم عليه، بل يُعذر في ذلك، حيث إن له أجرًا باجتهاده، لحديث عمرو بن العاص، أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر". متّفقٌ عليه. (ومنها): أن المرأة التي لم يُسمّ لها صداقٌ إذا مات عنها زوجها لها مهر مثل نساء قومها، من غير زيادة، ولا نقص. (ومنها): أنها تجب عليها العدّة. (ومنها): أنها ترث من زوجها ذلك، بهذا كلّه قضى ابن مسعود رضي الله عنه، موافقًا لقضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في حكم النكاح بلا تسمية صداق:
قال العلامة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: ما حاصله: إن النكاح يصحّ من غير تسمية صداق، في قول عامّة أهل العلم، وقد دلّ على هذا قول اللَّه تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} الآية [البقرة: 236] ثم أورد حديث ابن مسعود رضي الله عنه المذكور في الباب، قال: ولأنّ القصد من النكاح الوُصلة، والاستمتاع، دون الصداق، فصحّ من غير ذكره كالنفقة، وسواء تركا ذكر المهر، أو شرطا نفيه، مثل أن يقول: زوّجتك بغير مهر، فيقبله كذلك. ولو قال: زوجتك بغير مهر في الحال، ولا في الثاني صحّ أيضًا. وقال بعض الشافعيّة: لا يصحّ في هذه الصورة؛ لأنها تكون كالموهوبة، وليس بصحيح؛ لأنه قد صحّ فيما إذا قال: زوّجتك بغير مهر، فيصحّ ههنا؛ لأن معناهما واحدٌ، وما صحّ في إحدى الصورتين المتساويتين صحّ في الأخرى، وليست كالموهوبة؛ لأن الشرط يَفْسُدُ، ويجب المهر.
إذا ثبت هذا، فإن المزوّجة بغير مهر تُسمّى مفوّضة -بكسر الواو وفتحها- فمن كسر أضاف الفعل إليها على أنها فاعلة، مثلُ مُقوِّمة، ومن فتح أضافه إلى وليّها، ومعنى التفويض الإهمال، كأنها أهملت أمر المهر، حيث لم تسمّه، ومنه قول الشاعر [من البسيط]:
لَا يَصلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ
…
وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالَهُمْ سَادُوا
يعني مهملين.
والتفويض على ضربين: تفويض بُضْعٍ، وتفويض مَهْرٍ، فأما تفويض البضع، فهو الذي ذكره الخِرَقيّ، وفسّرناه، وهو الذي ينصرف إليه إطلاق التفويض. وأما تفويض المهر فهو أن يجعلا الصداق إلى رأي أحدهما، أو رأي أجنبيّ، فيقول زوّجتك على ما شئتَ، أو على حكمك، أو على حكمي، أو حكمها، أو حكم أجنبيّ، ونحوه. فهذه لها مهر المثل في ظاهر كلام الخِرَقيّ؛ لأنها لم تُزوّج نفسها إلا بصداق، لكنه مجهولٌ، فسقط لجهالته، ووجب مهر المثل.
والتفويض الصحيح أن تأذن المرأة الجائزة الأمر لوليّها في تزويجها بغير مهر، أو بتفويض قدره، أو يزوّجها أبوها كذلك، فأما إن زوّجها غير أبيها، ولم يذكر مهرًا بغير إذنها في ذلك، فإنه يجب مهر المثل. وقال الشافعيّ: لا يكون التفويض إلا في الصورة الأولى.
قال: فإذا طلّقت المفوّضة البُضْعِ قبل الدخول، فليس لها إلا المتعة، نصّ عليه
أحمد في رواية جماعة، وهو قول ابن عمر، وابن عبّاس، والحسن، وعطاء، وِجابر بن زيد، والشعبيّ، والزهريّ، والنخعيّ، والثوريّ، والشافعيّ، وإسحاق، وأبي عُبيد، وأصحاب الرأي.
وعن أحمد روايةٌ أخرى، أن الواجب لها نصف مهر مثلها؛ لأنه نكاح صحيحٌ يوجب مهر المثل بعد، فيوجب نصفه بالطلاق قبل الدخول، كما لو سمّى مُحرَّمًا. وقال مالكٌ، والليث، وابن أبي ليلى: المتعة مستحبّةٌ غير واجبة؛ لأن اللَّه تعالى قال: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} ، فخصّهم بها، فيدلّ على أنها على سبيل الإحسان والتفضّل، والإحسان ليس بواجب؛ ولأنها لو كانت واجبةً لم يختصّ المحسنين دون غيرهم. ولنا قوله تعالى:{وَمَتِّعُوهُنَّ} ، أمرٌ، والأمر يقتضي الوجوب، وقال تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، وقال تعالى:{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} الآية [الأحزاب: 49]؛ ولأنه طلاقٌ في نكاح يقتضي عوضًا، فلم يَعرُ عن العوض، كما لو سمّى مهرًا، وأداء الواجب من "الإحسان، فلا تعارض بينهما انتهى كلام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3356 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ أُتِيَ فِي امْرَأَةٍ، تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ، فَمَاتَ عَنْهَا، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، لَا يُفْتِيهِمْ، ثُمَّ قَالَ: أَرَى لَهَا صَدَاقَ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَشَهِدَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الأَشْجَعِيُّ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، بِمِثْلِ مَا قَضَيْتَ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو ثقة حافظ، و"يزيد": هو ابن هارون. و"سفيان ": هو الثوريّ.
وقوله: "فاختلفوا إليه" أي تردّدوا إلى ابن مسعود رضي الله عنه، يقال: هو يَختَلِف إلى فلان: إذا كان يتردّد. أفاده في "تاج العروس" 6/ 103 مادّة خلف.
والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله، أورده المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- لبيان مخالفة سفيان لزائدة في زيادة الأسود، ولبيان اسم الرجل الأشجعيّ بأنه معقل بن سنان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(1)
"المغني" 10/ 137 - 139.
3357 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَمَاتَ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا، قَالَ: لَهَا الصَّدَاقُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، فَقَالَ: مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ: فَقَدْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "قَضَى بِهِ فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.
و"إسحاق بن منصور": هو الكوسج. و"عبد الرحمن ": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ. و"فِرَاس" -بكسر الفاء، وتخفيف الراء: هو ابن يحيي الهمدنيّ الخارفيّ الكوفيّ، صدوق [6] 59/ 2541.
و"الشعبيّ": هو عامر بن شَرَاحيل. و"مسروق": هو ابن الأجدع. و"عبد اللَّه": هو ابن مسعود رضي الله عنه.
وقوله: "ولم يَفْرِض لها" بفتح الياء، وكسر الراء، من باب ضرب: أي لم يقدّر لها المهر، أو لم يلتزم منه مِقْدارًا معيّنًا، بل تزوّجها من دون ذكره.
والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3358 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد هو الإسناد الماضي، وإنما أتى به لبيان أن سفيان في هذا الحديث له طريقان: طريق فراس، عن الشعبيّ، عن مسروق، عن عبد اللَّه. وطريق منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه. وكلاهما محفوظان- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3359 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ أَتَاهُ قَوْمٌ، فَقَالُوا: إِنَّ رَجُلاً مِنَّا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَجْمَعْهَا إِلَيْهِ، حَتَّى مَاتَ؟ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا سُئِلْتُ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ هَذِهِ، فَأْتُوا غَيْرِي، فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ فِيهَا شَهْرًا، ثُمَّ قَالُوا لَهُ فِي آخِرِ ذَلِكَ: مَنْ نَسْأَلُ إِنْ لَمْ نَسْأَلْكَ؟ ، وَأَنْتَ مِنْ جِلَّةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، بِهَذَا الْبَلَدِ، وَلَا نَجِدُ غَيْرَكَ، قَالَ: سَأَقُولُ فِيهَا بِجَهْدِ رَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي، وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بُرَآءُ، أُرَى أَنْ أَجْعَلَ لَهَا صَدَاقَ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَ: وَذَلِكَ بِسَمْعِ أُنَاسٍ، مِنْ أَشْجَعَ، فَقَامُوا، فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَضَيْتَ، بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي امْرَأَةٍ مِنَّا، يُقَالُ لَهَا: بِرْوَعُ بِنْتُ وَاشِقٍ، قَالَ: فَمَا رُئِيَ عَبْدُ اللَّهِ، فَرِحَ فَرْحَةً يَوْمَئِذٍ، إِلاَّ بِإِسْلَامِهِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. والسند مسلسلٌ بثقات الكوفيين، غير شيخه، فمروزيّ ثقة حافظ، وفيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم، عن بعض: داود، والشعبيّ، وعلقمة.
وقوله: "ولم يجمعها إليه" بفتح حرف المضارعة، أي لم يضمّ تلك المرأة إلى نفسه، بمعنى أنه لم يجامعها.
وقوله: "ما سُئلت" بالبناء للمفعول.
وقوله: "من جلّة" بكسر الجيم، وتشديد اللام، جمع جليل، قال في "القاموس": وقومٌ جِلَةٌ بالكسر: عُظَماءُ، سادَةٌ، ذَوُو أخطارٍ انتهى.
وقوله: "بجهد رأيي". قال الفيّوميّ: الجُهْد بالضمّ في الحجاز، وبالفتح في غيرهم: الوسع، والطاقة. وقيل: المضموم: الطاقة، والمفتوح المشقّة. والْجَهْدُ بالفتح لا غيرُ: النهاية، والغاية، وهو مصدرٌ، من جَهَد، من باب نَفَعَ: إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب، وجهده الأمر، والمرضُ أيضًا: إذا بلغ منه المشقّةَ. انتهى.
ومقصود ابن مسعود رضي الله عنه أنه سيبذل جهده في التفكير، والتنقيب في المسألة حتى يتوصّل إلى معرفتها حسب طاقته. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "فمن اللَّه" أي من توفيقه عز وجل. وقوله: "فمنّي، ومن الشيطان" أي من قصوري، وتقصيري، ومن تسويل الشيطان، وتلبيسه عليّ وجهَ الحقّ. وقوله:"بُرَآء" بضمّ الباء الموحدة، وتخفيف الراء، بوزن كُرماء، جمع بريء، وإنما جمعه للتعظيم، أو لأن أقلّ الجمع اثنان. ووقع في النسخة "الهندية":"بَرَاءٌ -بفتح الموحّدة، على وزن قَفَاء، يقال: بَرِئَ زيدٌ من دَينِه يَبْرَأُ مهموزًا، من باب تعِبَ بَرَاءةً: سقط عنه طلبه، فهو بريء، وبارىء، وبَرَاءٌ بالفتح والمدّ. قاله الفيّوميّ. فعلى هذا فهو مفرد، فيكون خبرًا لـ "اللَّهُ"، وخبر "ورسوله" محذوفٌ. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "أَرَى" بفتح الهمزة مبنيًا للفاعل. وقوله: "بسمع أناس" من إضافة المصدر إلى فاعله. يعني أن قضاء ابن مسعود رضي الله عنه بذلك كان بمكان يسمعه أناس من أشجع. وقوله: "فقالوا: نشهد الخ" تقدّم لنا أنه لا تنافي بينه وبين ما تقدّم من أن رجلًا، أو معقل بن سنان قال ذلك؛ لأنه يُحمل على أنه تكلم، وأنهم وافقوه على ذلك، فنسب إليهم كما نُسب إليه.
والحديث صحيح، وقد سبق الكلام عليه قريبًا، وإنما أورده هنا لبيان الاختلاف على الشعبيّ، فإنه في السابق رواه عن مسروق، عن عبد اللَّه، وهنا عن علقمة، عن عبد اللَّه، وكلاهما محفوظٌ، وأيضًا المتكلم في السابق هو معقل بن سنان، وهنا أناس من أشجع، ولا يضرّ هذا الاختلاف، كما بينته آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
69 - (بَابُ هِبَةِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا لِرَجُلٍ بِغَيْرِ صَدَاقٍ)
3360 -
(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ.، فَقَامَتْ قِيَامًا طَوِيلاً، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: زَوِّجْنِيهَا، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ؟» ، قَالَ: مَا أَجِدُ شَيْئًا، قَالَ: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» ، فَالْتَمَسَ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَقَالَ: لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ؟» ، قَالَ: نَعَمْ سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، لِسُوَرٍ سَمَّاهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ زَوَّجْتُكَهَا عَلَى مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.
و"معن": هو ابن عيسى القزّاز المدنيّ. و"مالك": هو إمام دار الهجرة. و"أبو حازم": هو سلمة بن دينار التمّار الأعرج المدنيّ. وهو مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه هارون بن عبد اللَّه الحمّال، فإنه بغداديّ.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله في - 1/ 3201 - فراجعه تستفد.
ثم إن الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أراد بهذه الترجمة جواز النكاح بلفظ الهبة، بلا مهر، وهو في هذا موافق لمذهب الحنفيّة، والأوزاعيّ، لكنه مخالف لهم في عدم وجوب المهر، فإنهم أوجبوا مهر المثل، لكن سبق أن ترجم بقوله:": باب الكلام الذي ينعقد به النكاح" ثم أورد حديث الباب، فقلت هناك: الظاهر أنه يرجّح مذهب القائلين
بعدم الجواز إلا بلفظ النكاح، أو التزويج، فلعلّه أراد هنا جواز النكاح بلا صداق، فيكون مؤكدًا للباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.
وقد ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بقوله: [باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد؟].
قال في "الفتح": أي فيحلّ له نكاحها بذلك، وهذا يتناول صورتين: إحداهما مجرّد الهبة، من غير ذكر مهر. والثاني: العقد بلفظ الهبة. فالصورة الأولى ذهب الجمهور إلى بطلان النكاح، وأجازه الحنفيّة، والأوزاعيّ، ولكن قالوا: يجب مهر المثل، وقال الأوزاعيّ: إن تزوّج بلفظ الهبة، وشرط أن لا مهر لم يصحّ النكاح.
وحجة الجمهور قوله تعالى: {خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، فعدَّوا ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وأنه يتزوّج بلفظ الهبة بغير مهر في الحال، ولا في المآل.
وأجاب المجيزون عن ذلك بأن المراد أن الواهبة تختصّ به، لا مطلق الهبة.
والصورة الثانية: ذهب الشافعيّة، وطائفة إلى أن النكاح لا يصحّ إلا بلفظ النكاح، أو التزويج؛ لأنهما الصريحان اللذان ورد بهما القرآن والحديث. وذهب الأكثر إلى أنه يصحّ بالكنايات. واحتجّ الطحاويّ لهم بالقياس على الطلاق، فإنه يجوز بصرائحه، وكناياته مع القصد انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدّم ترجيح مذهب الأكثرين القائلين بالجواز بأدلّته في - 41/ 3281 - فارجع إليه تزدد علمًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
70 - (بابُ إِحْلالِ الْفَرْجِ)
3361 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّجُلِ يَأْتِي جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: إِنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَهُ جَلَدْتُهُ مِائَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ رَجَمْتُهُ).
(1)
"فتح" 10/ 205.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدْ بْنُ بَشارٍ) بندار، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت [10] 24/ 27.
2 -
(محمد) بن جعفر غندر أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة صحيح الكتاب [9] 21/ 22.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 24/ 27.
4 -
(أبو بشر) جعفر بن أبي وَحْشيّة إياس، ثقة من أثبت الناس في سعيد بن جبير، وضعّفه شعبة في حبيب بن سالم، ومجاهد [5] 13/ 520.
5 -
(خالد بن عُرْفُطة) مقبول [6].
روى عن الحسن البصريّ، وأبي سفيان طلحة بن نافع، وحبيب بن سالم. وعنه أبو بشر، وقتادة، وواصل مولى أبي عُيينة. ذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال أبو حاتم، وأبو بكر البزار في "مسنده": إنه مجهول، زاد أبو حاتم: لا أعرف أحدًا اسمه خالد بن عُرفطة إلا الصحابيّ.
روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، وله عندهما حديث الباب فقط.
6 -
(حبيب بن سالم) الأنصاريّ، مولى النعمان بن بشير، لا بأس به [3] 19/ 528.
7 -
(النُّعْمانُ بْنُ بَشِيرٍ) بن سعد بن ثعلبة الأنصاريّ الخرجيّ، له ولأبيه صحبة، ثم سكن الشام، ثم ولي إمرة الكوفة، ثم قُتِل - رضي اللَّه تعالى عنه - بحمص سنة (65) وله (64) سنة، تقدمت ترجمته في 19/ 528. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير خالد بن عرفطة، فقد تفرّد به المصنف، وأبو داود. (ومنها): أن رواية أبي بشر عن خالد من رواية الأكابر عن الأصاغر، حيث إن أبا بشر من الطبقة الخامسة، وخالدًا من السادسة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِير) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِي الرّجُلِ يَأْتِي جارَيةَ امْرَأَتِهِ، قالَ: إِنْ كَانَتْ أحَلَّتْها لَهُ) أي إن كانت امرأته جعلت جاريتها حلالًا، وأذنت له فيها (جَلَدْتُهُ مِائَةَ) قال ابن العربيّ: يعني أدّبته تعزيرًا، وأبلُغُ به عدد الحدّ، لا أنه رأى
حدّه بالجلد حدًّا له. قال السنديّ بعد نقل كلام ابن العربيّ هذا: لأن المحصن حدّه الرجم، لا الجلد، ولعلّ سبب ذلك أن المرأة إذا أحلّت جاريتها لزوجها، فهو إعارة الفروج، فلا يصحّ، لكن العارية تصير شبهةً، تسقط الحدّ، إلا أنها شبهة ضعيفةٌ جدًّا، فيُعزَّر صاحبها. انتهى (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ رَجَمْتُهُ) أي لكونه محصنًا زنى، وحدّ المحصن إذا زنى الرجم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث النعمان بن بشير - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا ضعيف.
قال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "كتاب الرجم" من "الكبرى" بعد أن أورد حديث النعمان بن بشير، وسلمة بن المحبّق، في بابين، وبيّن اختلاف طرق حديثهما: ما نصّه: قال أبو عبد الرحمن: ليس في هذا الباب شيء صحيح يُحتجّ به انتهى
(1)
.
وقال الحافظ المنذريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "مختصر سنن أبي داود": وقال الترمذيّ: حديث النعمان في إسناده اضطراب، سمعت محمدًا -يعني البخاريّ- يقول: لم يسمع قتادة من حبيب بن سالم هذا الحديث أيضًا، إنما رواه عن خالد بن عُرْفُطة، وأبو بشر لم يسمع من حبيب بن سالم هذا الحديث أيضًا، إنما رواه عن خالد ابن عُرفطة. هذا آخر كلامه. انتهى
(2)
.
وخالد بن عُرفطة، قال أبو حاتم الرازيّ: هو مجهول. وقال الترمذيّ أيضًا: سألت محمدَ بن إسماعيل عنه؛ فقال: إني أتقي هذا الحديث. وقال النسائيّ: أحاديث النعمان هذه مضطربةٌ.
وقال الخطّابيّ: هذا الحديث غير متّصل، وليس العمل عليه. هذا آخر كلامه. انتهى
كلام المنذريّ
(3)
. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-70/ 3361 و 3362 و 3363 - وفي "الكبرى" 82/ 5551 و 5552 و 5553 و 5554 و 5555. وأخرجه (د) في "الحدود" 4458 و 4459 (ت) في
(1)
راجع "السنن الكبرى" للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- 4/ 296 - 298 من رقم 7225 - إلى رقم 7233.
(2)
"جامع الترمذيّ" 5/ 13 - 14 بنسخة "تحفة الأحوذيّ". إلا أن النسخة فيها نقص، فليُحرر.
(3)
"مختصر المنذريّ لسنن أبي داود" 6/ 270 - 271.
"الحدود" 1451 (ق) في "الحدود" 2551 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 17930 (الدارمي) في "الحدود"2329. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في حكم من وقع على جارية امرأته:
قال الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "الجامع": وقد اختلف أهل العلم في الرجل يقع على جارية امرأته، فروي من غير واحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، منهم: عليّ، وابن عمر رضي الله عنهم أن عليه الرجم. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ليس عليه حدّ، ولكن يُعزّر. وذهب أحمد، وإسحاق إلى ما روى النعمان بن بشير، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم -انتهى كلام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
وقال الشوكانيّ بعد ذكر ما تقدّم: وهذا -يعني مذهب أحمد، وإسحاق- هو الأرجح؛ لأن الحديث، وإن كان فيه المقال المتقدِّم، فأقلّ أحواله أن يكون شبهة يُدرأ بها الحدّ انتهى. وهو محلّ توقُّف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3362 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ رَجُلاً، يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُنَيْنٍ، وَيُنْبَزُ قُرْقُورًا، أَنَّهُ وَقَعَ بِجَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، فَرُفِعَ إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، فَقَالَ: لأَقْضِيَنَّ فِيهَا بِقَضِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَكَ جَلَدْتُكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَكَ رَجَمْتُكَ بِالْحِجَارَةِ، فَكَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَهُ، فَجُلِدَ مِائَةً"، قَالَ قَتَادَةُ: فَكَتَبْتُ إِلَى حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ، فَكَتَبَ إِلَيَّ بِهَذَا).
قال الجامع عفا اللَّه تعالىَ عنه: "محمد بن معمر": هو الحضرميّ البصريّ، صدوق [11] 2/ 1370. و"حَبّان" بفتح الحاء المهملة-: هو ابن هلال، أبو حبيب البصريّ، ثقة ثبت [9] 44/ 590. و"أبان": هو ابن يزيد العطار البصريّ الثقة [7] 9/ 787. و"قتادة": هو ابن دعامة السدوسيّ الإمام المشهور [4].
وقوله: يقال له: "عبد الرحمن بن حُنين" لم أجد من ترجمه.
وقوله: وُينبَزُ" بالبناء للمفعول، أي يُلقّبُ، ويُدعى. قال الفيّوميّ: نَبَزَه نَبْزًا، من باب ضرب: لَقَّبه، والنَّبْزُ اللقبُ، تسميةً بالمصدر، وتنابزوا: نَبَزَ بعضهم بعضًا انتهى.
وقوله: فكتب إليّ بهذا" يعني أن قتادة أخذ هذا الحديث من النعمان بن سالم بالمكاتبة، والمكتابة طريقٌ من الطرق المعتبرة في أخذ الحديث عند المحدّثين، إلا أن قتادة معروف بالتدليس، ويأخذ عمن دبّ ودرج، فلعلّه أخذه بواسطة شخص لا يوثق به.
(1)
"الجامع" 5/ 14 - 15 بنسخة "تحفة الأحوذيّ".
والحديث ضعيفٌ سبق الكلام فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3363 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَارِمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ،، عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فِي رَجُلٍ، وَقَعَ بِجَارِيَةِ امْرَأَتِهِ: «إِنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَهُ، فَأَجْلِدْهُ مِائَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ، فَأَرْجُمْهُ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو داود": هو سليمان بن سيف الحَرّانيّ الثقة الحافظ [11] 103/ 136 من أفراد المصنّف. و"عارم": هو محمد بن الفضل السدوسي البصريّ الحافظ الثقة الثبت من صغار [9] 46/ 1728.
وقوله: "فأجلده " مضارع مبدوء بهمزة المتكلّم، وكذا فأرجمه. والحديث ضعيف، سبق الكلام فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3364 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ، قَالَ: قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فِي رَجُلٍ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ، إِنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا، فَهِيَ حُرَّةٌ، وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ، فَهِيَ لَهُ، وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا).
"الحسن": هو البصريّ الإمام المشهور. و"قبيصة بن حُريث"، ويقال: حُريث بن قبيصة، والأول أشهر الأنصاريّ البصريّ، صدوق [3] 9/ 465.
و"سلمة بن المُحَبِّق" -بفتح الموحّدة المشدّدة عند المحدثين، وقيل: بكسرها- وقيل: سلمة بن ربيعة بن المُحَبَّق، واسمه صخر بن عُبيد، ويقال: عُبيد بن صخر الْهُذَليّ، أبو سنان، له صحبة. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسكن البصرة. وروى عنه ابنه سنان، وقَبيصة بن حُريث، والحسن البصريّ، وغيرهم.
قال العسكريّ في "التصحيف"، عن أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: ما سمعتُ من ابن شَبَّة وغيره إلا بكسر الباء، قال العسكريّ: فقلت له: إن أصحاب الحديث كلهم يفتحون الباء، فقال: أَيْشٍ الْمُحَبَّقُ في اللغة؟ فقلتُ: الْمُضَرَّطُ، فقال: هل يستحسن أحدٌ أن يسمي ابنه الْمُضَرَّط؟ وإنما سماه الْمُضَرِّط تفاؤلًا بأنه يُضَرِّطُ أعداءه، كما سمّوا عمرو بن هند مُضَرِّط الحجارة.
وجزم ابن حبّان بأنه سلمة بن ربيعة بن المحبّق، وأنه نُسب إلى جدّه. وذكر أبو سليمان بن زَبْر في كتاب "الصحابة" أن سلمة لَمّا بُشّر بابنه سنان، وهو بخيبر، قال:
لَسَهمٌ أرمي به عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحبّ إليّ مما بشرتموني به. أخرج له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث: حديثا البابين، و 4/ 4244 - حديث:"فإن دباغها ذكاتها".
وقوله: "إن استكرهها فهي حرّة الخ": قال الخطّابيّ: لا أعلم أحدًا من الفقهاء يقول به، وفيه أمورٌ تخالف الأصول، منها: إيجاب المثل في الحيوان. ومنها: استجلاب الملك بالزنا. ومنها: إسقاط الحدّ عن البدن، وإيجاب العقوبة في المال، وهذه كلها أمور منكرة، لا تخرّج على مذهب أحد من الفقهاء، وخليقٌ أن يكون الحديث منسوخًا، إن كان له أصل في الرواية
(1)
.
وقال البيهقيّ في "سننه" حصول الإجماع من فقهاء الأمصار بعد التابعين على ترك القول به دليل على أنه إن ثبت صار منسوخًا بما ورد من الأخبار في الحدود، ثم أخرج عن أشعث، قال: بلغني أن هذا كان قبل الحدود، وذكر هذا الحازميّ في "ناسخه". وقال الخطّابيّ: الحديث منكر ضعيف الإسناد، منسوخ انتهى. وقال السنديّ: قلت: وبين رواياته تعارض لا يخفى
(2)
.
والحديث ضعيف، قال المنذريّ: وأخرجه النسائيّ، وقال: لا تصحّ هذه الأحاديث. وقال البيهقيّ: وقبيصة بن حُريث غير معروف. وروينا عن أبي داود: أنه قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الذي رواه عن سلمة بن المحبّق: شيخ لا يُعرف" لا يُحدث عنه غير الحسن -يعني قبيصة بن حُريث. وقال البخاريّ في "التاريخ": قبيصة بن حريث سمع سلمة بن المحبّق في حديثه نظر. وقال ابن المنذر: لا يثبت خبر سلمة بن المحبّق. وقال الخطّابيّ: هذا حديث منكر، وقبيصة بن حريث غير معروف، والحجة لا تقوم بمثله، وكان الحسن لا يبالى أن يروي الحديث ممن سمع. وقال بعضهم: هذا كان قبل الحدود. وقد اختلف في هذا الحديث عن الحسن، فقيل: عنه، عن قبيصة بن حريث، عن سلمة بن المحبّق. وقيل: عنه، عن سلمة، من غير ذكر قبيصة. وقيل: عنه، عن جَوْن
(3)
بن قتادة، عن سلمة. وجَوْن بن قتادة، قال الإمام أحمد: لا يُعرف. هذا آخر كلامه
(4)
.
والحديث أخرجه المصنّف هنا-70/ 3364 و 3365 - وفي "الكبرى" 82/ 5555
(1)
"معالم السنن" 6/ 271 من هامش مختصر المنذريّ.
(2)
"شرح السنديّ" 6/ 125.
(3)
"جَوْن" بفتح الجيم، وسكون الواو، وبعدها نون.
(4)
"مختصر سنن أبي داود" 6/ 271 - 272.
و 5557. وأخرجه (د) في "الحدود" 4460 (ق) في "الحدود" 2552 (أحمد) في "مسند البصريين" 19556. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، ونعم الوكيل.
3365 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ، أَنَّ رَجُلاً غَشِىَ جَارِيَةً لاِمْرَأَتِهِ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «إِنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا، فَهِيَ حُرَّةٌ مِنْ مَالِهِ، وَعَلَيْهِ الشَّرْوَى لِسَيِّدَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ، فَهِيَ لِسَيِّدَتِهَا، وَمِثْلُهَا مِنْ مَالِهِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عبد اللَّه بن بَزِيع" هو: -بفتح الموحّدة، وكسر الزاي- البصريّ الثقة. و"يزيد"؛ هو ابن زُريع البصريّ الثقة الثبت. و"سعيد": هو ابن أبي عَرُوبة البصريّ الثقة الثبت. والسند مسلسلٌ بالبصريين.
وقوله: "الشَّرْوَى" بفتح الشين المعجمة، وسكون الراء، وفتح الواو، مقصورًا، بوزن الْجَدْوَى: هو المثل، يقال: هذا شَرْوَى هذا: أي مثله، قاله في "القاموس"، والنهاية "
(1)
.
والحديث ضعيفٌ سبق الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
71 - (تَحرِيمُ الْمُتْعَةِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الْمُتْعَةُ" -بضمّ الميم، وسكون المثناة الفوقانيّة-: هو النكاح إلى أجل معيّن، وهو من التمتّع بالشيء، وهو الانتفاع به، يقال: تمتّعتُ به أَتَمَتَّعُ تمتعًا، والاسم الْمُتْعة، كأنه يَنتَفِع بها إلى أمد معلوم. وقد كان مباحًا في أول الإسلام، ثم حرّم، وهو الآن جائزٌ عند الشيعة. قاله ابن الأثير
(2)
.
وقال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: نكاح المتعة: هو المؤقّت في العقد. وقال في
(1)
"النهاية" 2/ 470.
(2)
"النهاية" 4/ 292.
العُباب: كان الرجل يُشارط المرأة شرطًا على شيء إلى أجل معلوم، ويُعطيها ذلك، فيستحلّ بذلك فرجها، ثم يُخلي سبيلها من غير تزويج، ولا طلاق. انتهى.
وقال ابن منظور -رحمه اللَّه تعالى-: والمتعة: التمتّع بالمرأة، لا تريد إدامتها لنفسك، ومتعة التزويج بمكة منه. وأما قول اللَّه تعالى في "سورة النساء" بعقب ما حُرّم من النساء، فقال:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي عاقدي النكاح الحلال، غير زُناة {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} ، فإن الزّجّاج ذكر أن هذه الآية غلِطَ فيها قومٌ غَلَطًا عظيمًا لجهلهم باللغة، وذلك أنهم ذهبوا إلى قوله:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} من المتعة التي قد أجمع أهل العلم أنها حرامٌ، وإنما معنى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} ، فما نكحتم منهنّ على الشريطة التي جرى في الآية أنه الإحصان أن تبتغوا بأموالكم محصنين، أي عاقدين التزويج، أي فما استمتعتم به منهنّ على عقد التزويج الذي جرى ذكره، فآتوهنّ أُجورهنّ فريضة، أي مهورهنّ، فإن استمتع بالدخول بها، آتى المهر تامًا، وإن استمتع بعقد النكاح آتى نصف المهر. قال الأزهريّ: المتاع في اللغة كلّ ما انتُفِعَ به، فهو متاعٌ، وقوله تعالى:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} ليس بمعنى زوّدوهنّ الْمُتَعَ، إنما معناه: أعطوهنّ ما يَستمتعن، وكذلك قوله:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} قال: ومن زعم أن قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} التي هي الشرط في التمتّع الذي يفعله الرافضة، فقد أخطأ خطأً عظيمًا؛ لأن الآية واضحةٌ بيّنةٌ. قال: فإن احتجّ محتجّ من الروافض بما يروى عن ابن عباس أنه كان يراها حلالًا، وأنه كان يقرؤها "فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمَّى"، فالثابت عندنا أن ابن عباس كان يراها حلالًا، ثم لما وقف على نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم رجع عن إحلالها. انتهى المقصود من كلام ابن منظور
(1)
.
وترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه": "باب نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة أخيرًا". قال في "الفتح": يعني تزويج المرأة إلى أجل، فإذا انقضى وقعت. وقوله في الترجمة:"أخيرًا" يُفهم منه أنه كان مباحًا، وأن النهي عنه وقع في آخر الأمر، وليس في أحاديث الباب التي أوردها التصريح بذلك، لكن قال في آخر الباب:"أن عليًّا بين أنه منسوخ، وقد وردت عدّة أحاديث صحيحة صريحة بالنهي عنها بعد الإذن فيها، وأقرب ما فيها عهدا بالوفاة النبوية ما أخرجه أبو داود من طريق الزهريّ، قال: "كنّا عند عمر بن عبد العزيز، فتذاكرنا متعة النساء، فقال رجلٌ يقال له ربيع بن
(1)
"لسان العرب" 8/ 329 - 330.
سبرة: أشهد على أبي أنه حدّث أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نَهَى عنها في حجة الوداع". انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3366 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ، وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، مَا أَنَّ عَلِيًّا بَلَغَهُ، أَنَّ رَجُلاً لَا يَرَى بِالْمُتْعَةِ بَأْسًا، فَقَالَ: إِنَّكَ تَائِهٌ، إِنَّهُ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفيّ البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.
3 -
(عبيد اللَّه بن عمر) بن حفص العمريّ المدنيّ، ثقة ثبت [5] 15/ 15.
4 -
(الزهريّ) محمد بن مسلم المدنيّ الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.
5 -
(الحسن بن محمد) بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، أبو محمد المدنيّ، المعروف أبوه بابن الحنفيّة، ثقة فقيه رُمي بالإرجاء [3].
قال مصعب الزُّبيريّ، ومُغيرة بن مِقْسَم، وعثمان بن إبراهيم الحاطبيّ: هو أول من تكلّم في الإرجاء، وتوفّي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وليس له عقب. وقال ابن سعد: كان من ظرفاء بني هاشم، وأهل العقل منهم، وكان يُقدّم على أخيه أبي هاشم في الفضل والهيئة، وهو أوّل من تكلّم في الإرجاء. وقال الزهريّ: حدثنا الحسن، وعبد اللَّه ابنا محمد، وكان الحسن أرضاهما في أنفسنا، وفي رواية: وكان الحسن أوثقهما. وقال محمد بن إسماعيل الجعفريّ: حدثنا عبد اللَّه بن سلمة بن أسلم، عن أبيه، عن حسن، ومحمد، قال: وكان حسنٌ من أوثق الناس عند الناس. وقال سفيان، عن عمرو بن دينار: ما كان الزهريّ إلا من غلمان الحسن بن محمد. وقال ابن حبّان: كان من علماء الناس بالاختلاف. وقال سلّام بن أبي مطيع، عن أيوب: أنا أتبرّأ من الإرجاء، إن أول من تكلّم فيه رجلٌ من أهل المدينة، يقال له: الحسن بن محمد. وقال عطاء بن السائب، عن زاذان، وميسرة، أنهما دخلا على الحسن بن محمد، فلاماه على الكتاب الذي وضع في الإرجاء، فقال لزاذان: يا أبا عمر، لَوَدِدتُ أني كنتُ متّ، ولم أكتبه. وقال خليفة: مات سنة (99)، أو (100)، وقيل: غير ذلك في وفاته. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان: هذا الحديث، وأعاده خمس مرّات، و (4245)
(1)
"فتح" 10/ 209.
حديث "مفاتح كلام اللَّه الدنيا والآخرة للَّه
…
" الحديث.
وكتب الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- بعد ذكر ما تقدّم: ما مختصره: المراد بالإرجاء الذي تكلّم به الحسن بن محمد فيه غير الإرجاء الذي يَعِيبه أهل السنّة المتعلّق بالإيمان، وذلك كتب كتابًا، وفيه: ونُوالي أبا بكر وعمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، ونُجاهد فيهما؛ لأنهما لم تَقْتَتِلْ عليهما الأمة، ولم تشكّ في أمرهما، ونُرجىء من بعدهما، ممن دخل في الفتنة، فنكل أمرهم إلى اللَّه. قال: فالإرجاء الذي تكلّم فيه هو عدم القطع على إحدى الطائفتين بكونها مصيبة، أو مخطئة انتهى باختصار.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كون المراد بالإرجاء الذي طُعِن به هو هذا النوع محلُّ تأمّل ونظر. واللَّه تعالى أعلم.
6 -
(عبد اللَّه بن محمد) بن عليّ بن أبي طالب الهاشمي، أبو هاشم ابن الحنفيّة، ثقةٌ قرنه الزهريّ بأخيه الحسن [4].
قال الزبير: كان أبو هاشم صاحَبَ الشيعة، فأوصى إلى محمد بن عليّ بن عبد اللَّه ابن عبّاس، وصَرَفَ الشيعة إليه، ودفع إليه كتبه، ومات عنده. وقال ابن سعد: كان صاحب علم ورواية، وكان ثقة، قليل الحديث، وكانت الشيعة يلقَونه، وينتحلونه، وكان بالشام مع بني هاشم، فحضرته الوفاة، فأوصى إلى محمد بن عليّ، وقال: أنت صاحب هذا الأمر، وهو في وَلَدك، ومات في خلافة سليمان بن عبد الملك. وقال ابن عيينة، عن الزهريّ: حدّثنا عبد اللَّه، والحسن ابنا محمد بن عليّ، وكان الحسن أرضاهما، وفي رواية: وكان الحسن أوثقهما، وكان عبد اللَّه يتبع -وفي رواية: يجمع- أحاديث السبئية
(1)
. وقال العجليّ: عبد اللَّه والحسن ثقتان. وقال أبو أُسامة: أحدهما مُرْجىء، والآخر شيعيّ. وقال النسائيّ؛ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن عبد البرّ: كان أبو هاشم عالمًا بكثير من المذاهب والمقالات، وكان عالمًا بالحدثان، وفنون العلم. قال أبو حسان الزياديّ وغيره: مات سنة ثمان وتسعين. وأرخه الهيثم سنة تسع وتسعين، وكذا أرخه خليفة. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث،
(1)
قال في "الفتح": والسبئية -بمهملة، ثم موحّدة ينسبون إلى عبد اللَّه بن سبأ، وهو من رؤساء الروافض، وكان المختار بن أبي عبيد على رأيه، ولما غلب على الكوفة، وتتبع قتلة الحسين، فقتلهم أحبّته الشيعة، ثم فارقه أكثرهم لما ظهر منه من الأكاذيب، وكان من رأي السبئية موالاة محمد بن عليّ بن أبي طالب، وكانوا يزعمون أنه المهديّ، وأنه لا يموت حتى يخرج في آخر الزمان. ومنهم من أقرّ بموته، وزعم أن الأمر بعده صار إلى ابنه هاشم هذا. انتهى "فتح" 10/ 209.
وأعاده خمس مرّات.
7 -
(محمد بن عليّ) بن أبي طالب الهاشميّ، أبو القاسم ابن الحنفيّة المدنيّ، ثقة عالم [2] 112/ 157.
8 -
(علي) بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه - 74/ 91 واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنِ الْحَسَنِ، وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَي مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِمَا) من طريق مالك بن أنس، أن ابن شهاب أخبره، أن عبد اللَّه، والحسن ابني محمد أخبراه أن أباهما محمد بن عليّ أخبرهما (أَنَّ عَلِيًّا بَلَغَهُ، أَنَّ رَجُلًا لا يَرَى بِالْمُتْعَةِ بَأْسًا) الرجل هو ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، ففي رواية البخاريّ في "كتاب ترك الحيل":"أن عليًّا قيل له: إن ابن عباس لا يرى بمتعة النساء بأسًا". وعند الدارقطنيّ: "أن عليًّا سمع ابن عبّاس، وهو يُفتي في متعة النساء، فقال: أما علمت
…
" (فَقالَ: إِنَّكَ تائِهٌ) وفي رواية لمسلم: "إنك رجلٌ تائه"، وللدارقطني: "إنك امرؤ تائه". و"التائه": هو الحائر الذاهب عن الطريق المستقيم. قال الفيّوميّ: تاه الإنسان في المَفازة يَتيهُ تَيْهًا: ضَلَّ عَن الطريق، وتاه يتُوهُ تَوْهًا لغةٌ، وقد تَيَّهْتُهُ، وتَوَّهْتُهُ، ومنه يُستعار لمن رام أمرًا، فلم يُصادف الصواب، فيقال: إنه تائه انتهى.
(إِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو ضميرٌ يفسره ما بعده، وهو قوله (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا) أي عن المتعة. وفي رواية أحمد، عن سفيان:"نَهَى عن نكاح المتعة"(وَعَنْ لُحُوم الْحُمُرِ الْأَهْلِيةِ) هو في معنى قوله في الرواية التالية: "الحمر الإنسيّة"، أي الحمر التيَ تألف الناس، دون الوحشيّة، فإنها مباحة.
وقوله (يَوْمَ خَيْبَرَ) هكذا لجميع الرواة عن الزهريّ: "خيبر" بالمعجمة أوّله، والراء آخره، إلا ما رواه عبد الوهّاب الثقفيّ، عن يحيى بن سعيد، عن مالك في هذا الحديث، فإنه قال:"حُنَين" -بمهملة أوّله، ونونين- أخرجه المصنّف بعد حديث، والدارقطنيّ، ونبّها على أنه وهمٌ، تفرّد به عبد الوهّاب. وأخرجه الدارقطنيّ من طريق آخر، عن يحيى بن سعيد، فقال:"خيبر" على الصواب. وأغرب من ذلك رواية إسحاق بن راشد، عن الزهريّ، عنه بلفظ:"نهى في غزوة تبوك عن نكاح المتعة"، وهو خطأ أيضًا. قاله في "الفتح"
(1)
.
ثمّ إنّ العلّة في جمع عليّ رضي الله عنه بين النهي عن الحمر الأهليّة والمتعة في هذا الحديث
(1)
"فتح" 10/ 210.
أن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - كان يرخّص في الأمرين معًا، فردّ عليه عليّ رضي الله عنه في الأمرين معًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-71/ 3366 و 3367 و 3368 و"الصيد والذبائح" 31/ 4335 و 4336 - وفي "الكبرى" 80/ 5538 و 5539 و 5540 وأخرجه (خ) في "المغازي" 4216 و"الذبائح والصيد" 5523 (م) في "النكاح" 1407 (ت) في "الأطعمة" 1794 (ق) في "النكاح" 1961 (أحمد) في "مسند العشرة" 1207814 (الموطأ) في "النكاح" 1151 (الدارمي) في "الأضاحي" 1990 "النكاح"2197. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تحريم المتعة. (ومنها): بيان تحريم الحمر الأهلية. (ومنها): جواز النسخ في الشريعة الإسلامية، وهو مجمع عليه بين المسلمين، كما قال في "الكوكب الساطع":
النَّسْخُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ واقِعُ
…
وَقائِلُ التَّخْصِيصِ لا يُنَازعُ
(ومنها): جواز تكرار النسخ، حسب المصالح. (ومنها): أن أفاضل الصحابة رضي الله عنهم كانوا يخفى عليهم بعض النصوص الواضحة، فقد خفي على ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - نسخ المتعة، فكان يُفتي بجوازها حتى بيّن له عليّ رضي الله عنه ذلك، فمن هنا ينبغي أن يتنبّه المقلّدون للمذاهب أن الأئمة يخفى عليهم بعض النصوص، فيُفتون بخلافه، فيكون ذلك مذهبًا لهم، وهم في ذلك معذورون، فإذا تبيّن الحقّ لمقلّديهم فعليهم أن يتّبعوا النصوص، ويعتذروا عن أئمتهم، ولا يتجمّدوا، فيقولوا: إمامنا أعلم منا، فلعله كان عنده دليلٌ أقوى من هذا، فإن هذا قولٌ بالظنون الكاذبة. فلا حول ولا قوّة إلا باللَّه العلي العظيم.
(ومنها): أن العالم إذا أخطأ النصّ، لا يُضَلَّلُ، ولا يُهجر، وإنما يُبيّن له الحقّ؛ لأنه ما يخالف النص إلا باجتهاد، والخطأ في الاجتهاد مغفور، بل صاحبه مأجور، لما أخرجه الشيخان، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب فله أجران، د إذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر".
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قوله: "يوم خيبر" الظاهر أنه ظرفٌ للأمرين: للنهي عن المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية. وحكى البيهقيّ عن الحميديّ أن سفيان بن عيينة كان يقول: قوله: "يوم خيبر" يتعلّق بالحمر الأهليّة، لا بالمتعة، قال البيهقيّ: وما قاله محتملٌ- يعني في روايته هذه، وأما غيره فصرّح أن الظرف يتعلّق بالمتعة. وفي رواية للبخاريّ من طريق مالك بلفظ:"نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن متعة النساء، وعن لحوم الحمر الأهلية"، وهكذا أخرجه مسلم من رواية ابن عيينة أيضًا. وفي رواية عبيد اللَّه بن عمر، عن الزهريّ عند البخاريّ في "ترك الحيل":"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر"، وكذا أخرجه مسلم، وزاد من طريقه:"فقال: مَهْلًا يا ابن عباس"، ولأحمد من طريق معمر بسنده أنه "بلغه أن ابن عباس رخّص في متعة النساء، فقاله: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهليّة"، وأخرجه مسلم من رواية يونس بن يزيد، عن الزهريّ، مثل رواية مالك، والدارقطنيّ من طريق ابن وهب، عن مالك، ويونس، وأسامة بن زيد ثلاثتهم، عن الزهريّ كذلك. وذكر السهيليّ أنّ ابن عيينة رواه عن الزهريّ بلفظ:"نهى عن أكل الحمر الأهليّة عام خيبر، وعن المتعة بعد ذلك، أو في غير ذلك اليوم".
قال الحافظ؛ وهذا اللفظ الذي ذكره لم أره من رواية ابن عيينة، فقد أخرجه أحمد، وابن أبي عمر، والحميديّ، وإسحاق في مسانيدهم عن ابن عيينة باللفظ الذي أخرجه البخاريّ من طريقه، لكن منهم من زاد لفظ "نكاح"، كما بيّنته. وكذا أخرجه الإسماعيليّ من طريق عثمان بن أبي شيبة، وإبراهيم بن موسى، والعباس بن الوليد. وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد اللَّه بن نُمير، وزُهير بن حرب جميعًا عن ابن عيينة بمثل لفظ مالك، وكذا أخرجه سعيد بن منصور، عن ابن عيينة، لكن قال:"زمن" بدل "يوم"، قال السهيليّ: ويتّصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال؛ لأن فيه النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر، وهذا شيء لا يعرفه أحدٌ من أهل السير، ورواةِ الأثر، قال: فالذي يظهر أنه وقع تقديم وتأخير في لفظ الزهريّ.
وهذا الذي قاله سبقه إليه غيره في النقل عن ابن عيينة، فذكر ابن عبد البرّ من طريق قاسم بن أصبغ أن الحميديّ ذكر عن ابن عيينة أن النهي زمن خيبر عن لحوم الحمر الأهليّة، وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر، قال: ثم راجعت "مسند الحميديّ" من طريق قاسم بن أصبغ، عن أبي إسماعيل السلمي عنه، فقال بعد سياق الحديث:"قال ابن عُيينة: يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهليّة زمن خيبر، ولا يعني نكاح المتعة".
قال ابن عبد البرّ: وعلى هذا أكثر الناس. وقال البيهقيّ: يُشبه أن يكون كما قال لصحّة الحديث في أنه صلى الله عليه وسلم رخّص فيها بعد ذلك، ثمّ نهى عنها، فلا يتمّ احتجاج عليّ إلا إذا وقع النهي أخيرًا؛ لتقوم الحجة به على ابن عبّاس رضي الله عنهما.
وقال أبو عوانة في "صحيحه": سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث عليّ رضي الله عنه أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأما المتعة، فسكت عنها، وإنما نهى عنها يوم الفتح انتهى.
والحامل لهؤلاء على هذا ما ثبت من الرخصة فيها بعد زمن خيبر، كما أشار إليه البيهقيّ، لكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن عليًّا رضي الله عنه لم تبلغه الرخصة فيها يوم الفتح؛ لوقوع النهي عنها عن قربٍ، كما سيأتي بيانه، ويؤيّد ظاهرَ حديث عليّ رضي الله عنه ما أخرجه أبو عوانة، وصححه من طَريق سالم بن عبد اللَّه:"أن رجلًا سأل ابن عمر عن المتعة؟، فقال: حرام، فقال: إن فلانًا يقول فيها، فقال: واللَّه لقد علم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حرّمها يوم خيبر، وما كنّا مسافحين".
قال السهيليّ: وقد اختُلِفَ في وقت تحريم نكاح المتعة، فأغربُ ما رُوي في ذلك من قال: في غزوة تبوك، ثم رواية الحسن أن ذلك كان في عمرة القضاء، والمشهور في تحريمها أن ذلك كان في غزوة الفتح، كما أخرجه مسلم من حديث الرَّبِيع بن سَبْرة، عن أبيه، وفي رواية عن الربيع، أخرجها أبو داود أنه كان في حجة الوداع، قال: ومن قال من الرُّواة: كان في غزوة أوطاس، فهو موافق لمن قال: عام الفتح انتهى.
فتحصّل مما أشار إليه ستّة مواطن: خيبر، ثم عمرة القضاء، ثم الفتح، ثم أوطاس، ثم تبوك، ثم حجة الوداع. قال الحافظ: وبقي عليه حُنين؛ لأنها وقعت في رواية قد نبّهتُ عليها قبلُ، فإما أن يكون ذَهِل عنها، أو تركها عمدًا لخطأ رُواتها، أو لكون غزوة أوطاس، وحنين واحدة.
فأما رواية تبوك، فأخرجها إسحاق بن راهويه، وابن حبّانَ من طريقه، من حديث أبي هريرة:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نزل بثَنِيَّة الوداع رأى مصابيح، وسمع نساء يبكين، فقال: ما هذا؟ فقالوا: يا رسول اللَّه، نساء كانوا تمتّعوا منهنّ، فقال: هَدَمَ المتعةَ النكاحُ، والطلاقُ، والميراثُ". وأخرجه الحازميّ من حديث جابر قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام جاءت نسوة، قد كنّا تمتّعنا بهنّ يطفن برجالنا، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ذلك له، قال: فغضب، وقام خطيبًا، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، ونهى عن المتعة، فتواعدنا يومئذ، فسُمّيت ثنيّة الوداع".
وأما رواية الحسن، وهو البصريّ، فأخرجها عبد الرزاق من طريقه، وزاد:"ما كانت قبلها، ولا بعدها"، وهذه الزيادة منكرة من راويها عمرو بن عُبيد، وهو ساقط الحديث، وقد أخرجه سعيد بن منصور من طريق صحيحة عن الحسن بدون هذه الزيادة.
وأما غزوة الفتح، فثبتت في "صحيح مسلم"، كما قال. وأما أوطاس، فثبتت في مسلم أيضًا من حديث سلمة بن الأكوع. وأما حجة الوداع، فوقع عند أبي داود من حديث الربيع بن سَبْرة، عن أبيه. وأما قوله:"لا مخالفة بين أوطاس والفتح" ففيه نظر؛ لأن الفتح كان في رمضان، ثم خرجوا إلى أوطاس في شوّال، وفي سياق مسلم أنهم لم يخرجوا من مكّة حتى حُرِّمت، ولفظه:"أنه غزا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الفتح، فأذن لنا في متعة النساء، فخرجت أنا ورجل من قومي- فذكر قصّة المرأة إلى أن قال:- ثم استمتعت منها، فلم أخرج حتى حرّمها"، وفي لفظ له: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائمًا بين الركن والباب، وهو يقول
…
" بمثل حديث ابن نمير، وكان تقدّم في حديث ابن نمير أنه قال: "يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن اللَّه قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة"، وفي رواية: "أَمَرَنا بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ثم لم نخرج حتى نهانا عنها"، وفي رواية له: "أمر أصحابه بالتمتّع من النساء- فذكر القصّة، قال:- فكُنّ معنا ثلاثًا، ثم أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بفراقهنّ"، وفي لفظ: "فقال: إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة".
فأما أوطاس، فلفظ مسلم:"رخّص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثًا، ثم نهى عنها"، وظاهر الحديثين المغايرة، لكن يحتمل أن يكون أطلق على عام الفتح عام أوطاس لتقاربهما، ولو وقع في سياقه أنهم تمتّعوا من النساء في غزوة أوطاس لما حَسُنَ هذا الجمع. نعم ويبعد أن يقع الإذن في غزوة أوطاس بعد أن يقع التصريح قبلها في غزوة الفتح بأنها حرمت إلى يوم القيامة.
وإذا تقرّر ذلك، فلا يصحّ من الروايات شيء بغير علّة إلا غزوة الفتح. وأما غزوة خيبر، وإن كانت طرق الحديث فيها صحيحة، ففيها من كلام أهل العلم ما تقدّم. وأما عمرة القضاء، فلا يصحّ الأثر فيها؛ لكونها من مرسل الحسن، ومراسيله ضعيفة؛ لأنه كان يأخذ من كلّ أحد، وعلى تقدير ثبوته، فلعلّه أراد أيام خيبر؛ لأنهما كانا في سنة واحدة، كما في الفتح وأوطاس سواء.
وأما قصّة تبوك فليس في حديث أبي هريرة التصريح بأنهم استمتعوا منهنّ في تلك الحالة، فيحتمل أن يكون ذلك وقع قديمًا، ثم وقع التوديع منهنّ حينئذ، والنهي، أو
كان النهي وقع قديمًا، فلم يبلغ بعضهم فاستمرّ على الرخصة، فلذلك قرن النهي بالغضب؛ لتقدّم النهي في ذلك، على أن في حديث أبي هريرة مقالًا، فإنه من رواية مؤمّل بن إسماعيل، عن عكرمة بن عمّار، وفي كلّ منهما مقالٌ.
وأما حديث جابر، فلا يصحّ؛ فإنه من طريق عبّاد بن كثير، وهو متروك. وأما حجة الوداع، فهو اختلاف على الربيع بن سَبْرَة، والرواية عنه بأنها في الفتح أصحّ وأشهر، فإن كان حفظه فليس في سياق أبي داود سوى مجرّد النهي، فلعله صلى الله عليه وسلم أراد إعادة النهي ليَشِيع، ويسمعه من لم يسمعه قبل ذلك.
فلم يبقَ من المواطن كما قلنا صحيحًا صريحًا سوى غزوة خيبر، وغزوة الفتح، وفي غزوة خيبر من كلام أهل العلم ما تقدّم.
وزاد ابن القيّم في "الهدي" أن الصحابة لم يكونوا يستمتعوت باليهوديات، يعني فيقوى أن النهي لم يقع يوم خيبر، أو لم يقع هناك نكاح متعة، لكن يمكن أن يجاب بأن يهود خيبر كانوا يصاهرون الأوس والخزرج قبل الإسلام، فيجوز أن يكون هناك من نسائهم من وقع التمتّع بهنّ، فلا ينهض الاستدلال بما قال.
وقال الماورديّ في "الحاوي": في تعيين موضع تحريم المتعة وجهان: أحدهما: أن التحريم تكرَّر؛ ليكون أظهر وأنشر حتى يعلمه من لم يكن علمه؛ لأنه قد يحضر في بعض المواطن من لا يحضر في غيرها. والثاني: أنها أُبيحت مرارًا، ولهذا قال في المرّة الأخيرة:"إلى يوم القيامة"، إشارةً إلى أن التحريم الماضي كان مؤذنًا بأن الإباحة تعقبه، بخلاف هذا، فإنه تحريمٌ مؤبّد، لا تعقبه إباحة أصلًا، وهذا الثاني هو المعتمد، ويردّ الأول التصريح بالإذن فيها في الموطن المتأخّر عن الموطن الذي وقع التصريح فيه بتحريمها كما في غزوة خيبر، ثم الفتح.
وقال النوويّ: الصواب أن تحريمها وإباحتها وقعا مرّتين، فكانت مباحة قبل خيبر، ثمّ حرّمت فيها، ثم أُبيّحت عام الفتح، وهو عام أوطاس، ثم حرّمت تحريمًا مؤبّدًا، قال: ولا مانع من تكرير الإباحة. ونقل غيره عن الشافعيّ أن المتعة نُسخت مرّتين، وقد ثبت في حديث ابن مسعود رضي الله عنه سبب الإذن في نكاح المتعة، وأنهم كانوا إذا غزوا اشتدّت عليهم العُزبة، فأذن لهم في الاستمتاع، فلعلّ النهي كان يتكرّر في كلّ موطن بعد الإذن، فلما وقع في المرّة الأخيرة أنها حرّمت إلى يوم القيامة لم يقع بعد ذلك إذن واللَّه أعلم.
والحكمة في جمع عليّ رضي الله عنه بين النهي عن الحمر والمتعة أن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - كان يرخّص في الأمرين معًا، فردّ عليه عليّ رضي الله عنه في الأمرين معًا، وأن
ذلك يوم خيبر، فإما أن يكون على ظاهره، وأن النهي عنهما وقع في زمن واحد، وإما أن يكون الإذن الذي وقع عام الفتح لم يبلغ عليًّا لقصر مدّة الإذن، وهو ثلاثة أيام، كما تقدّم.
والحديث في قصّة تبوك
(1)
على نسخ الجواز في السفر لأنه نهى عنها في أوائل إنشاء السفر مع أنه كان سفرًا بعيدًا، والمشقّة فيه شديدة كما صرّح به في الحديث في توبة كعب، وكأن علّة الإباحة، وهي الحاجة الشديدة انتهت من بعد فتح خيبر، وما بعدها. واللَّه أعلم.
قال الحافظ: والجواب عن قول السهيليّ أنه لم يكن في خيبر نساءٌ يستمتع بهنّ ظاهر مما بيّنته من الجواب عن قول ابن القيّم: لم تكن الصحابة يتمتّعون باليهوديات، وأيضًا فيقال -كما تقدّم-: لم يقع في الحديث التصريح بأنهم استمتعوا في خيبر، وإنما فيه مجرّد النهي، فيؤخذ منه أن التمتّع من النساء، كان حلالًا، وسبب تحليله ما تقدّم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، حيث قال:"كنا نغزو، وليس لنا شيء -ثم قال-: فرخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب"، فأشار إلى سبب ذلك، وهو الحاجة مع قلّة الشيء، وكذا في حديث سهل بن سعد الذي أخرجه ابن عبد البرّ بلفظ:"إنما رخّص النبيّ صلى الله عليه وسلم في المتعة لعزبة كانت بالناس شديدة، ثم نهى عنها"، فلما فُتِحت خيبر وسع عليهم من المال، ومن السبي، فناسب النهي عن المتعة؛ لارتفاع سبب الإباحة، وكان ذلك من تمام شكر نعمة اللَّه على التوسعة بعد الضيق، أو كانت الإباحة إنما تقع في المغازي التي يكون في المسافة إليها بُعْدٌ ومشقّةٌ، وخيبر بخلاف ذلك؛ لأنها بقرب المدينة فوقع النهي عن المتعة فيها إشارة إلى ذلك من غير تقدّم إذن فيها، ثم لمّا عادوا إلى سفرة بعيدة المدّة، وهي غزاة الفتح، وشقّت عليهم العزوبة أذن لهم في المتعة، لكن مقيّدًا بثلاثة أيام فقط دفعًا للحاجة، ثم نهاهم بعد انقضائها عنها. وهكذا يجاب عن كلّ سفرة ثبت فيها النهي بعد الإذن.
وأما حجة الوداع، فالذي يظهر أنه وقع فيها النهي مجرّدًا، إن ثبت الخبر في ذلك؛ لأن الصحابة حجِّوا فيها بنسائهم بعد أن وُسّع عليهم، فلم يكونوا في شدّة، ولا طول عزبة، وإلا فمخرج حديث سَبْرة روايه، هو من طريق ابن الربيع عنه، وقد اختُلِفَ عليه في تعيينها، والحديث واحدٌ في قصّة واحدةٍ، فتعيّن الترجيح، والطريق التي أخرجها مسلم مصرّحة بأنها في زمن الفتح أرجح، فتعيّن المصير إليها، واللَّه أعلم انتهى
(2)
.
(1)
قوله: "والحديث في قصة تبوك إلخ" هكذا عبارة الفتح، وفيها غموض، ودعل فيها سقطًا. واللَّه تعالى أعلم.
(2)
"فتح" 210 - 214.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: خلاصة القول في مسألة المتعة أن الأصحّ أنها مما تكرَّر نسخها، وإباحتها، فكانت مباحة قبل خيبر، فحرّمت فيها، ثم أُبيحت زمن الفتح لمدّة ثلاثة أيام، ثم حرّمت فيها بعد الثلاثة تحريمًا مؤبّدًا إلى يوم القيامة، وأما الرواية بأنه حرمت عام حجة الوداع، فتؤوّل بأن المراد أنه صلى الله عليه وسلم أعاد ذكر تحريمها، حتى يعلمه الجميع، دون أن يتقدّم له إذن فيه، فبهذا تجتمع أحاديث الباب، ويزول إشكالها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في أقوال أهل العلم في حكم نكاح المتعة:
قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قال أبو بكر الطرطوشيّ: ولم يرخّص في نكاح المتعة إلا عمران بن حُصين، وابن عبّاس، وبعض الصحابة، وطائفة من أهل البيت، وفي قول ابن ابن عباس يقول الشاعر [من الطويل]:
أَقُولُ لِلرَّكْبِ إِذْ طالَ الثَّواءُ بِنَا
(1)
…
يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فُتْيا ابْنِ عَبّاسِ
فِي بَضَّةٍ رَخْصَةِ الأَطْرَافِ ناعِمَةٍ
(2)
…
تَكُونُ مَثوَاكَ حَتَّى مَرْجِعِ النّاسِ
وسائر العلماء، والفقهاء، من الصحابة والتابعين، والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخةٌ
(3)
، وأن المتعة حرام انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(4)
.
وقال الحافظ ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "الاستذكار": وأما الصحابة رضي الله عنهم، فإن الأكثر منهم على النهي عنها، وتحريمها. قال: وأصحاب ابن عبّاس من أهل مكة، واليمن كلهم يرون المتعة حلالًا على مذهب ابن عبّاس، وحرّمها سائر الناس. قال معمر: قال الزهريّ: ازداد الناس لها مقتًا حين قال الشاعر:
يا صاحِ هَلْ لَكَ فِي فُتْيَا ابْنِ عَبّاسِ
قال ابن عبد البرّ: هما بيتان:
قالَ الْمُحَدِّثُ لَمَّا طَالَ مَجْلِسُهُ
…
يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فُتْيا ابْنِ عَبّاسِ
فِي بَضَّةِ رَخْصَةِ الأَطْرافِ آنِسَةٍ
…
تَكُونُ مَثواكَ حَتَّى مَرْجِعِ النَّاسِ
(1)
بالفتح: الإقامة.
(2)
البضّة بالفتح: المرأة الناعمة، سمراء، كانت، أو بيضاء، وقيل: هي اللَّحِيمة البيضاء. والرَّخْصُ -بفتح، فسكون-: الشيء الناعم اللين، ورَخْصَة الأطراف: أي لينتها.
(3)
يعني قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} الآية، وقد تقدّم الاختلاف، هل هي منسوخة، أم ليست بمنسوخة، ولكن معناها: ما استمتعتم به منهنّ بنكاح صحيح، وليس المتعة المعروفة، فلا تدلّ الآية عليها، وهذا هو الصحيح في معنى الآية، كما تقدّم تحقيقه؟، فتنبّه لذلك.
(4)
"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 133.
وروى الليث بن سعد، عن بكير بن الأشجّ، عن عمار مولى الشَّرِيد، قال: سألت ابن عبّاس عن المتعة، أسفاح هي، أم نكاح؟ قال: لا سِفاحٌ هي، ولا نكاح، قلت: فما هي؟، قال: المتعة، كما قال اللَّه تعالى، قلت: هل عليها عدّةٌ؟، قال: نعم حيضةٌ، قلت: يتورثان؟ قال: لا.
قال أبو عمر: اتفق أئمّةُ علماء الأمصار، من أهل الرأي والآثار" منهم: مالك، وأصحابه من أهل المدينة، وسفيان، وأبو حنيفة من أهل الكوفة، والشافعيّ، ومن سلك سبيله من أهل الحديث والفقه والنظر، والليث بن سعد من أهل مصر، والمغرب، والأوزاعيّ في أهل الشام، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عُبيد، وداود، والطبريّ على تحريم نكاح المتعة لصحّة نهي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندهم عنها.
واختلفوا في معنًى منها، وهو الرجل يتزوّج المرأة عشرة أيام، أو شهرًا، أو أيامًا معلومات، وأجلًا معلومًا، فقال مالك، والثوريّ، وأبو حنيفة، والشافعيّ، والأوزاعيّ: هذا نكاح المتعة، وهو باطلٌ، يُفسخ قبل الدخول، وبعده. وقال زفر: إن تزوّجها عشرة أيام، أو نحوها، أو شهرًا، فالنكاح ثابت، والشرط باطلٌ، وقالوا كلهم إلا الأوزاعي: إذا نكح المرأة نكاحًا صحيحًا، ولكنه نوى في حين عقده عليها ألا يمكث معها إلا شهرًا، أو مدّة معلومة، فإنه لا بأس به، ولا تضرّه في ذلك نيّته إذا لم يكن شرط ذلك في نكاحه.
قال ابن عبد البرّ: في حديث ابن مسعود رضي الله عنه بيانُ أن المتعة نكاح إلى أجل، وهذا يقتضي الشرط الظاهر، وإذا سلم العقد منه صحّ. وباللَّه التوفيق انتهى كلام ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى- باختصار
(1)
.
وقال الحافظ في "الفتح": وقد اختلف السلف في نكاح المتعة، قال ابن المنذر: جاء عن الأوائل الرخصة فيها، ولا أعلم اليوم أحدًا يُجيزها إلا بعض الرافضة، ولا معنى لقولٍ يُخالف كتاب اللَّه، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقال عياضٌ: ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلا الروافض. وأما ابن عبّاس، فروي عنه أنه أباحها. وروي عنه أنه رجع عن ذلك. قال ابن بطال: روى أهل مكّة واليمن عن ابن عبّاس إباحة المتعة. وروي عنه الرجوع بأسانيد ضعيفة، وإجازة المتعة عنه أصحّ، وهو مذهب الشيعة. قال: وأجمعوا على أنه متى وقع الآن أُبطل سواء كان قبل الدخول، أم بعده، إلا قول زُفر أنه جعلها كالشروط الفاسدة، ويردّه قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كان عنده منهنّ شيء، فليُخلّ
(1)
"الاستذكار" 16/ 300 - 302.
سبيلها". وهو حديث سبرة المذكور في هذا الباب بعد هذا.
وقال الخطّابيّ: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة، ولا يصحّ على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى عليّ، وآل بيته، فقد صحّ عن عليّ أنها نسخت.
ونقل البيهقيّ عن جعفر بن محمد أنه سُئل عن المتعة، فقال:"هي الزنا بعينه"، قال الخطّابيّ: ويُحكى عن ابن جُريج جوازها اهـ.
وقد نقل أبو عوانة في "صحيحة " عن ابن جُريج أنه رجع عنها بعد أن روى بالبصرة في إباحتها ثمانية عشر حديثًا.
وقال ابن دقيق العيد: ما حكاه بعض الحنفيّة عن مالك من الجواز خطأٌ، فقد بالغ المالكيّة في منع النكاح المؤقّت حتى أبطلوا توقيت الحلّ بسببه، فقالوا: لو علّق على وقت لا بُد من مجيئه وقع الطلاق الآن لأنه توقيت للحلّ، فيكون في معنى نكاح المتعة.
وقال عياض: وأجمعوا على أن شرط البطلان التصريح بالشرط، فلو نوى عند العقد أن يفارقها بعد مدّة صحّ نكاحه، إلا الأوزاعيّ، فأبطله. واختلفوا هل يُحدّ ناكح المتعة، أو يُعزّر؟ على قولين، مأخذهما أن الاتفاق بعد الخلاف، هل يرفع الخلاف المتقدِّم.
وقال القرطبيّ: الروايات كلّها متّفقةٌ على أن زمن إباحة المتعة لم يطُل، وأنه حُرِّم، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض. وجزم جماعة من الأئمة بتفرّد ابن عبّاس بإباحتها، فهي من المسألة المشهورة، وهي نُدرة المخالف، ولكن قال ابن عبد البرّ: أصحاب ابن عبّاس من أهل مكة واليمن على إباحتها، ثم اتفق فقهاء الأمصار على تحريمها.
وقال ابن حزم: ثبت على إباحتها بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، ومعاوية، وأبو سعيد، وابن عباس، وسلمة، ومعبد ابنا أُميّة بن خلف، وجابر، وعمرو بن حريث، ورواه جابر عن جميع الصحابة مدّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر، قال: ومن التابعين طاوس، وسعيد بن جُبير، وعطاء، وسائر فقهاء مكة.
قال الحافظ: وفي جميع ما أطلقه نظر:
أما ابن مسعود، فمستنده فيه الحديث الماضي في أوائل النكاح
(1)
، وقد بيّنت فيه ما
(1)
هو ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من طريق إسماعيل، عن قيس، قال: قال عبد اللَّه: كنا نغزو مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وليس لنا شيء، فقلنا: ألا نستخصي؟، فنهانا عن ذلك، ثم رَخّصَ لنا أن ننكح المرأة بالثوب، ثم قرأ علينا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} .
نقله الإسماعيليّ، من الزيادة فيه المصرّحة عنه بالتحريم، وقد أخرجه أبو عوانة من طريق أبي معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، وفي آخره:"ففعلناها، ثم تُرك ذلك".
وأما معاوية فأخرجه عبد الرزاق من طريق صفوان بن يعلي بن أميّة: "أخبرني يعلى أن معاوية استمتع بامرأة بالطائف"، وإسناده صحيح، لكن في رواية أبي الزبير عن جابر عند عبد الرزّاق أيضًا أن ذلك كان قديمًا، ولفظه:"استمتع معاوية مَقْدَمه الطائف بمولاة لبني الحضرميّ، يقال لها: معانة، قال جابر: ثم عاشت معانة إلى خلافة معاوية، فكان يرسل إليها بجائزة كلّ عام"، وقد كان معاوية متّبعا لعمر، مقتديًا به، فلا يُشكّ أنه عمل بقوله بعد النهي، ومن ثَمّ قال الطحاويّ: خطب عمر، فنهى عن المتعة، ونقل ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يُنكر عليه ذلك منكر، وفي هذا دليلٌ على متابعتهم له على ما نهَى عنه. وأما أبو سعيد، فأخرج عبد الرزاق، عن ابن جُريج أن عطاءَ قال: أخبرني من شئتُ عن أبي سعيد، قال: لقد كان أحدنا يستمتع بملء القدح سَويقا. وهذا - مع كونه ضعيفًا؛ للجهل بأحد رواته- ليس فيه التصريح بأنه كان بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأما ابن عبّاس، فتقدّم النقل عنه، والاختلاف هل رجع، أو لا؟.
وأما سلمة، ومعبد، فقصّتهما واحدةٌ، اختُلف فيها، هل وقعت لهذا، أو لهذا، فروى عبد الرزّاق بسند صحيح، عن عمرو بن دينار، عن طاوسٍ، عن ابن عبّاس، قال:"لم يَرُعْ عمر إلا أمّ أراكة، قد خرجت حُبلى، فسألها عمر، فقالت: استمتع بي سلمة بن أميّة". وأخرج من طريق أبي الزبير، عن طاوس، فسمّاه معبد بن أُميّة.
وأما جابر، فمستنده قوله:"فعلناها"، وقد تقدّم بيانه، ووقع في رواية أبي نضرة، عن جابر عند مسلم:"فنهانا عمر، فلم نفعله بعدُ"، فإن كان قوله:"فعلنا" يعمّ جميع الصحابة، فقوله:"ثم لم نعُد" يعمّ جميع الصحابة، فيكون إجماعًا، وقد ظهر أن مستنده الأحاديث الصحيحة التي بيّنّاها.
وأما عمرو بن حُريث
(1)
، وكذا قوله: "رواه جابر عن جميع الصحابة، فعجيبٌ،
وإنما قال جابر: "فعلناها"، وذلك لا يقتضي تعميم جميع الصحابة، بل يصدُقُ على
فعل نفسه وحده.
وأما ما ذكره عن التابعين، فهو عند عبد الرزاق، عنهم بأسانيد صحيحة. وقد ثبت عن جابر عند مسلم:"فعلناها، مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم نهانا عمر، فلم نَعُد لها"، فهذا يردّ عدّه جابرًا فيمن ثبت على تحليلها. وقد اعترف ابن حزم مع ذلك بتحريمها؛ لثبوت
(1)
هكذا عبارة "الفتح"، ولعل فيه سقطًا، فليُحرّر.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها حرامٌ إلى يوم القيامة"، قال: فأَمِنّا بهذا القولِ نسخَ التحريم. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كلام الحافظ رحمه للَّه تعالى هذا تحريرٌ نفيسٌ جدًّا.
وخلاصة القول في مسألة نكاح المتعة أخذًا مما سبق من الأحاديث، وأقوال الأئمة من السلف، والخلف أنه نكاحٌ باطلٌ، ولا يوجد الآن من يقول بجوازه، ممن ينتسب إلى أهل السنّة، والجماعة، وإنما يخالف فيها بعض الرافضة، ولا عبرة بخلافهم.
والحاصل أن نكاح المرأة بشرط أن تمكث معه مدّةٌ معيّنة، لا يصحّ، وأما من نكح امرأة نكاحًا صحيحًا، ونوى أن لا يمكث معها إلا مدّة نواها صحّ نكاحه، على ما عليه جلّ أهل العلم، خلافًا للأوزاعيّ، كما ذكره ابن قُدامة في "المغني"
(2)
، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه اللَّه تعالى-كما في "مجموع الفتاوى": قال: هذا ليس بنكاح متعة، ولا يحرم، وذلك أنه قاصدٌ، وراغب فيه، ولكن لا يريد دوام المرأة معه، وهذا ليس بشرط، فإن دوام المرأة معه ليس بواجب، بل له أن يطلّقها، فإذا قصد أن يطلّقها بعد مدّة، فقد قصد أمرًا جائزًا، بخلاف نكاح المتعة، فإنه مثل الإجارة، تنقضي فيه بانقضاء المدّة، ولا ملك له عليها بعد انقضاء الأجل، وأما هذا فملكه ثابت مطلقٌ انتهى
(3)
.
والحاصل أن صورة المتعة المحرّمة هو نكاحٌ إلى أجل، ولا ميراث فيه، ولا طلاق، بل ينقضي بانقضاء الأجل من غير طلاق، ولا عدّةَ، فهذا نكاح متعة، حرّمه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على تحريمه، إلا الرافضة، وأما إذا نكح امرأةً نكاحًا صحيحًا، ولكن نوى أن يفارقها لمدة معيّنة شهرًا، أو نحو ذلك، فلا يسمّى متعةً، بل هو نكاحٌ صحيح، إلا عند الأوزاعيّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
3367 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْحَسَنِ، ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، مَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح غير شيخه الحارث، وهو ثقة حافظ. و"ابن القاسم": هو عبد الرحمن العُتقيّ الفقيه المصريّ،
(1)
"فتح" 10/ 216 - 218.
(2)
انظر "المغني" 7/ 573.
(3)
انظر "مجموع الفتاوى" 32/ 147.
صاحب مالك.
وقوله: "الإنسيّة" -بكسر الهمزة، فسكون النون-: نسبة إلى الإنس، وهم بنو آدم، أو -بضمّ، فسكون-: نسبة إلى الأُنس، صدّ الوحشة، أو -بفتحتين-: نسبة إلى الأَنَسَة بمعنى الأُنْس أيضًا، والمراد هي التي تَأْلَفُ البيوت.
قال ابن الأثير: "الحمر الإنسيّة": هي التي تألف البيوت، والمشهور فيها كسر الهمزة، منسوبة إلى الإنس، وهم بنو آدم، الواحد إنسيٌّ. وفي كتاب أبي موسى ما يدلّ على أن الهمزة مضمومة، فإنه قال: هي التي تألف البيوت، والأُنسُ صدّ الوحشة، والمشهور في ضدّ الوحشة الأُنسُ بالضمّ، وقد جاء فيه الكسر قليلًا. قال: ورواه بعضهم بفتح الهمزة والنون، وليس بشيء. قال ابن الأثير: إن أراد أن الفتح غير معروف في الرواية، فيجوز، وإن أراد أنه ليس بمعروف في اللغة فلا، فإنه مصدرُ أنِستُ به آنَسُ أَنَسًا، وأَنَسَةٌ انتهى كلام ابن الأثير
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3368 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالُوا: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، يَقُولُ أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَالْحَسَنَ ابْنَىْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَخْبَرَاهُ، أَنَّ أَبَاهُمَا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُمَا، أَنَّ عَلِىَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، قَالَ:"نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ، عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ".
قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: "يَوْمَ حُنَيْنٍ"، وَقَالَ: هَكَذَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْ كِتَابِهِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة.
و"عمرو بن عليّ": هو الفلاّس. و"عبد الوهاب": هو ابن عبد المجيد الثقفيّ
البصريّ، ثقة تغيّر قبل موته [8]. و"يحيى بن سعيد": هو الأنصاريّ المدنيّ الثقة
الثبت [5].
ومن لطائف هذا الإسناد أن مشايخه الثلاثة، قد اتفق الستة بالرواية عنهم بلا واسطة، كما تقدّم غير مرّة، وفيه رواية الأكابر عن الأصاغر، فإن يحيى بن سعيد من الطبقة الخامسة، من شيوخ مالك، وهو من السابعة، ففيه رواية تابعيّ، عن تابع التابعين.
وقوله: "قال ابن المثنّى الخ" أشار به إلى ما تقدم من أن رواة الزهريّ اتفقوا على
(1)
"النهاية" 1/ 74 - 75.
"يوم خيبر"، وخالفهم في ذلك عبد الوهّاب الثقفيّ، فرواه عن يحيى بن سعيد، عن مالك، عن الزهريّ، فقال:"يوم حُنين"، وهو خطأ من عبد الوهّاب؛ لأن الدارقطنيّ أخرجه من طريق آخر عن يحيى بن سعيد، فقال:"خيبر"، كما هو رواية الجمهور، وهو الصواب.
وقوله: "هكذا حدّثنا عبد الوهّاب من كتابه"، كأنه يشير إلى مخالفته لسائر الحّفاظ
الذين ضبطوا الرواية على أنها "يو خيبر"، لا "يوم حُنين"، كما ذكرنا بيانه آنفًا. والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق الكلام فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3369 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَذِنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُتْعَةِ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا، وَرَجُلٌ، إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَعَرَضْنَا عَلَيْهَا أَنْفُسَنَا، فَقَالَتْ: مَا تُعْطِينِي؟ فَقُلْتُ رِدَائِي، وَقَالَ صَاحِبِي رِدَائِي، وَكَانَ رِدَاءُ صَاحِبِي أَجْوَدَ، مِنْ رِدَائِي، وَكُنْتُ أَشَبَّ مِنْهُ، فَإِذَا نَظَرَتْ إِلَى رِدَاءِ صَاحِبِي أَعْجَبَهَا، وَإِذَا نَظَرَتْ إِلَيَّ أَعْجَبْتُهَا، ثُمَّ قَالَتْ: أَنْتَ وَرِدَاؤُكَ يَكْفِينِي، فَمَكَثْتُ مَعَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ اللاَّتِى يَتَمَتَّعُ، فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا»).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد الإمام الحجة الفقيه المصريّ [7] 31/ 35.
3 -
(الربيع بن سَبرة) بن مَعْبَد، ويقال: ابن عَوْسَجَة الْجُهَنيّ المدنيّ، ثقة [3]. وثّقه المصنّف، وابن حبّان، وقال العجليّ حجازيّ تابعيّ ثقة. روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.
4 -
(أبوه) سبرة بن معبد، أو ابن عَوْسَجة، صحابيّ، أول مشاهده الخَنْدَقُ، وكان ينزل ذا المروة، ومات بها في خلافة معاوية - رضي اللَّه تعالى عنهما -، تقدّم في -19/ 3135. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (171) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنهم ما بين بَغْلاني، وهو شيخه، ومصري، وهو الليث، ومدنِييَّنِ، وهما الباقيان. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ) بفتح السين المهملة، وسكون الباء الموحّدة (الْجُهَنِيِّ) بضم الجيم، وفتح الهاء: نسبة إلى جُهينة، أبي قبيلة من قُضاعة، واسمه زيد بن ليث بن سود ابن أسلم بن الحاف بن قُضاعة، نزلوا الكوفة والبصرة
(1)
(عَنْ أَبِيهِ) سَبْرَةَ رضي الله عنه (قَالَ) وفي بعض النسخ: "أنّه قال"(أَذِنَ) بكسر الذال المعجمة، من باب عَلِمَ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُتْعَةِ) بالاستمتاع بالنساء إلى أجل مسمّى، بدفع مقدار من المال.
وفي رواية لمسلم من طريق عُمارة بن غزيّة، عن الربيع بن سَبْرة: "أن أباه غزا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتحَ مكّة، قال: فأقمنا بها خمس عشرة- ثلاثين بين ليلة ويوم-
…
(فانْطَلَقْتُ أَنَا، وَرَجُلٌ) وفي رواية مسلم المذكورة: "فخرجت أنا ورجلٌ من قومي، ولي عليه فضلٌ في الجمال، وهو قريبٌ من الدَّمَامة، مع كلّ واحد منّا بُرْدٌ، فبُردي خَلَقٌ، وأما بُرْد ابن عمّي، فبُرْدٌ جديدٌ غَضٌّ
…
" (إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ) الظاهر أنه أراد عامر بن لؤيّ بن غالب بن فهر، وقد ذكر في "لبّ اللباب" بهذا الاسم عدّة قبائل، فراجعه
(2)
(فَعَرَضْنا عَلَيْهَا أَنْفُسَنَا) أي تقدّم كلٌّ منا إليها بطلب الاستمتاع بها. وفي رواية مسلم المذكورة: "حتى إذا كنّا بأسفل مكّة، أو بأعلاها، فتلقّتنا فتاةٌ، مثلُ الْبَكْرة الْعَنْطَنَطَة
(3)
، فقلنا: هل لك أن يستمتع منك أحدنا؟
…
" (فَقالَتْ: ما تُعْطِينِي؟) "ما" استفهاميّة: أي أيّ شيءِ تدفع إليّ أجرة لاستمتاعك بي؟. وفي رواية مسلم: "قال: وماذا تبذُلان؟، فنشر كلّ واحد منا بُرْده
…
(فَقُلْتُ: رِدَائِي) منصوب بفعل محذوف مع المفعول الثاني؛ لدلالة السؤال عليه، أي أُعطيك ردائي (وَقالَ صَاحِبِي: رِدَائِي، وَكانَ رِداءُ صَاحِبِي أُجْوَدَ مِنْ رِدَائِي، وَكُنْتُ أَشَبَّ مِنْهُ) وفي رواية مسلم:"ولي عليه فضلٌ في الجمال، وهو قريبٌ من الدّمامة" وهو بفتح الدال المهملة: وهي القبح في الصورة (فَإِذَا نَظَرَتْ إِلَى رِدَاءِ صَاحِبِي أَعْجَبَهَا) أي لكونه جديدًا (وَإِذَا نَظَرَتْ إِلَيَّ أعْجَبتُها) أي لكونه أجمل. وفي رواية مسلم: "فجعلت تنظر إلى الرجلين، ويراها صاحبي تنظر إلى عِطْفها، فقال: إن بُرد هذا خَلَقٌ، وبردي جديدٌ غَضٌّ
…
"، وفي رواية: "قال: إن بُرد هذا
(1)
راجع "اللباب" 1/ 317 - 318 و"الأنساب" 2/ 134 - 135. و"معجم البلدان" 2/ 194 - 195.
(2)
"اللبّ" ج 2/ 102.
(3)
"البَكْرة" بفتح، فسكون: الفَتيّةُ من الإبل: أي شابّة قويّة. و"العنطنطة" بعين مهملة مفتوحة، وبنونين، الأولى مفتوحةٌ، وبطاءين مهملتين-: هي الطويلة العنق في اعتدال، وحسن قوام، وقيل: هي الطويلة فقط، والأول أشهر. وفي رواية:"كأنها بَكْرَة عَيْطَاء" بفتح، فسكون، وهو بمعنى الأول.
خَلَقٌ مَحٌّ"
(1)
(ثُمَّ قَالَتْ: أَنْتَ، وَرِدَاؤُك، يَكْفِينِي) هكذا معظم نسخ "المجتبى"، و"الكبرى"، وهو أيضًا في "صحيح مسلم" بلفظ "يكفيني" بالياء التحتيّة: وهو صحيح، ووجهه: أن يكون "أنت" مبتدءًا، حذف خبره، لدلالة ما بعده عليه، أي أنت تكفيني، و"رداؤك" مبتدأ خبره جملة "يكفيني"، وكتب في النسخة "الهنديّة "تكفيني" بالياء والتاء، وكتب فوقه كلمة "معًا" إشارة إلى أنه صحيح باللفظين، فأما نسخة الياء التحتانيّة، فكما سبق، وأما نسخة التاء الفوقانيّة فتكون الجملة خبرًا لـ"أنت"، و"رداؤه" مبتدأ خبره محذوف، أي "يكفيني"، والجملة معترضة، بين المبمتدإِ والخبر.
وقال السنديّ في "شرحه": قوله: "أنت ورداك" أي مع رداك، أو ورداك مبتدأ، خبره محذوف، مثل "كما ترى"، أو "رديء"، والجملة حال، أي أنت تكفيني، والحال أن رداك كما ترى، أو التقدير:"ورداك يكفيني". انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا نسخته "ورداك" بالقصر، ثم مقتضى قوله:"أي مع رداك" أنه بالنصب على المفعوليّة معه، وهذا إذا صحّت الرواية به فذاك، وإلا فالرفع متعيّنٌ. واللَّه تعالى أعلم.
وفي رواية لمسلم: "فتقول: بُرد هذا لا بأس به، ثلاث مرار، أو مرّتين"، وفي رواية: "فآمرت نفسها ساعةً، ثم اختارتني على صاحب
…
" (فَمَكَثْتُ مَعَهَا ثَلَاثًا) أي ثلاث ليال (ثُمَّ إِنَّ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ هَذِهِ النِّساءِ اللاَّتِي يَتَمَتَّعُ) وفي بعض النسخ: "يستمتع". وفي رواية مسلم: "التي يتمتّع" بالإفراد، قال النوويّ في شرحه: هكذا هو في جميع النسخ "التي يتمتّع"، أي يتمتّع بها، فحُذف "بها" لدلالة الكلام عليه، أو أوقع "يتمتّع" موقع "يُباشر"، أي يباشرها، وحُذف المفعول انتهى
(3)
(فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا) أي يتركها، ويفارقها؛ لكونها مُحرّمة، وفي رواية لمسلم من طريق عبد العزيز بن عمر، حدثني الربيع بن سبرة الجهني، أن أباه حدثه، أنه كان مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا أيها الناس، إني قد كنت أذنت لكم، في الاستمتاع من النساء، وإن اللَّه قد حرم ذلك، إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء، فليُخَلِّ سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
بفتح الميم، وتشديد الحاء المهملة: أي بالٍ.
(2)
"شرح السندي" 6/ 127.
(3)
"شرح مسلم" 9/ 187.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى)؛ في درجته:
حديث سَبْرَة بن مَعْبد الجُهنيّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا- 71/ 3369 - وفي "الكبرى" 81/ 5550. وأخرجه (م) في "النكاح" 1406 (د) في "النكاح" 2072 و 2073 (ق) في "النكاح" 1962 (أحمد) في "مسند المكيين" 14913 و 14921 (الدارمي) في "النكاح" 2195 و 2196. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تحريم المتعة تحريمًا مؤبّدًا بعد أن كانت مباحة.
[فإن قلت]: ثبت في "صحيح مسلم" -رحمه اللَّه تعالى- قول جابر رضي الله عنه: "استمتعنا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر"، وفي رواية:"كنا نستمتع بالقُبْضة من التمر والدقيق الأيّام على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر"، فكيف يُجمع بينه وبين رواية سبرة رضي الله عنه هذه، حيث قال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:"وإن اللَّه حرّم ذلك إلى يوم القيامة"؟.
[قلت]: يُجمَعُ بينهما بأن حديث جابر رضي الله عنه محمول على أن الذي استمتع في عهد أبي بكر، وعمر لم يبلغه النسخ، أفاده النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
. واللَّه تعالى أعلم. (ومنها): أن فيه التصريح بأن المتعة أُبيحت يوم فتح مكّة، ثم نسخت فيه. (ومنها): أن في رواية عبد العزيز المتقدّمة: "إني كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع الخ" التصريح بالناسخ والمنسوخ في حديث واحد، من كلام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كحديث:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزروها"، كما تقدّم في "كتاب الجنائز". (ومنها): أن المهر الذي كان أعطاها يستقرّ لها، ولا يحلّ أخذ شيء منه، وإن فارقها قبل الأجل المسمّى، كما أنه يستقرّ في النكاح المعروف المهر المسمّى بالوطء، ولا يسقط منه شيء بالفرقة بعده. قاله النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
"شرح مسلم" 9/ 186.
(2)
"شرح مسلم" 9/ 189.
72 - (إِعْلانُ النِّكاحِ بِالصَّوْتِ، وَضَرْبِ الدُّفِّ)
3370 -
(أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، الدُّفُّ وَالصَّوْتُ، فِي النِّكَاحِ»).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مجاهد بن موسى) الْخُوارَزْميّ الْخُتَّليّ
(1)
، أبو عليّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 85/ 102.
2 -
(هُشيم) بن بشير بن القاسم السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم -بمعجمتين- الواسطيّ، ثقة ثبت، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7] 88/ 109.
3 -
(أبو بَلْج) -بفتح أوّله، وسكون اللام بعدها جيم- الفَزَاريّ الكوفيّ الواسطيّ الكبير
(2)
، اسمه يحيى بن سُليم بن بَلْج، ويقال: ابن أبي سُليم، أو ابن أبي الأسود، صدوق، ربّما أخطأ [5].
قال ابن معين، وابن سعد، والنسائيّ، والدارقطنيّ: ثقة. وقال البخاريّ: فيه نظر. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، لا بأس به. وقال ابن سعد: قال يزيد بن هارون: قد رأيت أبا بَلْج، وكان جارًا لنا، وكان يتّخذ الْحَمامَ يستأنس بهنّ، وكان يذكر اللَّه تعالى كثيرًا. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: يُخطىء. وقال يعقوب بن سفيان: كوفيّ لا بأس به. وقال إبراهيم بن يعقوب الْجُوزَجانيّ، وأبو الفتح الأزديّ: كان ثقة. ونقل ابن عبد البرّ، وابن الجوزيّ أن ابن معين ضعّفه. وقال أحمد: روى حديثًا منكرًا. وقال الفسويّ في "تاريخه": حدّثنا بُندار، عن أبي داود، عن شعبة، عن أبي بَلْج، عن عَمرو ابن ميمون، عن عبد اللَّه بن عمرو، قال:"ليأتيّنّ على جهنّم زمانٌ تُخفق أبوابها، ليس فيها أحد". قال ثابتٌ البنانيّ: سألت الحسن عن هذا، فأنكره. روى له الأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.
(1)
بضمّ المعجمة، وتشديد المثنّاة المفتوحة.
(2)
أما الصغير، فهو جارية بن بَلْج التميميّ الواسطيّ من [5] أيضًا، وليس له رواية في الكتب الستّة، وإنما يُذكر في كتب الرجال للتمييز.
4 -
(محمد بن حاطب) بن الحارث بن مَعْمر بن حَبِيب بن وَهْب بن حُذَافة بن جُمَح الْجُمَحيّ، أبو القاسم، ويقال: أبو إبراهيم، ويقال: أَبو وهب الكوفيّ، أمه أم جمِيل بنت الْمُجَلّل العامريّة.
روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أمه، وعليّ بن أبي طالب. وروى عنه: أولاده: إبراهيم، والحارث، وعمر، وابن ابنه عثمان بن إبراهيم، وسعد بن إبراهيم، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو بَلْج يحيى بن سُلَيم، وسماك بن حَرْب، وغيرهم.
وُلِد بأرض الحبشة، وكانت أمه قد هاجرت إليها مع زوجها حاطب بن الحارث. وقال مصعب بن عبد اللَّه الزُّبيريّ: كانت أسماء بنت عُمَيس قد أرضعت محمد بن حاطب مع ابنها عبد اللَّه بن جعفر. وقال ابن سعد: حَفِظَ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه رَقاه حين احترقت يده.
وقال الهيثم: توفي في ولاية بشر بن مروان على الكوفة. وقال غيره: مات سنة أربع وسبعين بمكة. وقيل: بالكوفة. وقال أبو نُعيم: مات سنة ست وثمانين. ويقال: إنه أوّل من سُمّي محمدًا في الإسلام من قُريش. روى له المصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (172) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنهم ما بين كوفيَّيْنِ، وواسطي، وبغدادي. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ مُحَمَّدْ بْنِ حَاطِبٍ) بن الحارث الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَصْلُ ما بَيْنَ الْحَلالِ والْحَرَامِ) "فصل" -بفتح الفاء، وسكون الصاد المهملة، مصدر فَصَلَ، يقال: فَصَلَ الحدُّ بين الأرضين فَصْلًا، من باب ضَرَبَ: إذا فرّق بينهما، وهو هنا بمعنى الفاصل، فهو من إطلاق المصدر، وإرادة اسم الفاعل، يعني أنّ الشيء الفارق بين النكاح الحلال، والسفاح الحرام هو (الدُّفُّ) أي ضرب الدف، وهو -بضمّ الدال المهملة، وفتحها، وتشديد الفاء-: هو الذي يُلْعب به، وجمعه دُفُوف -بضمتين-، فقوله: "فصلُ" مبتدأٌ، و"الدُّفّ" خبره، على حذف مضاف، أي ضربُ الدُّفّ. (وَالصَّوْتُ) بالرفع عطفًا على "الدّفّ" أي رفع الصوت إعلانًا للنكاح.
وقال القاري في "المرقاة": "الصوت": أي الذكر، والتشهير، و"الدّفّ": أي ضربه، فإنه يتمّ به الإعلان. قال ابن الملك: ليس المراد أن لا فرق بين الحلال والحرام في النكاح إلا هذا الأمر، فإن الفرق يحصلُ بحضور الشهود عند العقد، بل المراد الترغيب إلى إعلان أمر النكاح، بحيث لا يَخفَى على الأباعد، فالسنّة إعلان النكاح بضرب الدّفّ، وأصوات الحاضرين بالتهنئة، أو النغمة في إنشاد الشعر المباح. وفي "شرح السنّة": معناه: إعلان النكاح، واضطراب الصوت به، والذكر في الناس، كما يقال: فلان ذهب صوته في الناس. وبعض الناس يذهب به إلى السماع، وهذا خطأ - يعني السماع المتعارف بين الناس الآن- انتهى كلام القاري
(1)
.
وقال البيهقيّ في "سننه": ذهب بعض الناس إلى أن المراد السماع، وهو خطأٌ، وإنما معناه عندنا إعلان النكاح، واضطراب الصوت به، والذكر في الناس
(2)
.
وقال بعض أهل التحقيق: ما ذكره البيهقيّ محتملٌ، وليس الحديث نصًّا فيه، فالأول محتملٌ أيضًا، فالجزم بكونه خطأ لا دليل عليه، عند الإنصاف. واللَّه تعالى أعلم انتهى.
قال السنديّ: يمكن أن يكون مراده أن الاستدلال به على السماع خطأ، وهذا ظاهرٌ؛ لأن الاحتمال يُفسد الاستدلال، لكن قد يقال: ضمُّ الصوت إلى الدفّ شاهد صدقٍ على أن المراد هو السماع، إذ ليس المتبادر عند الضمّ غيرُهُ مثلَ تبادره، فصحّ الاستدلال؛ إذ ظهور الاحتمال يكفي في الاستدلال، ثم قد جاء في الباب ما يغني، ويَكفي في إفادة أن المراد هو السماع، فإنكاره يُشبه ترك الإنصاف. واللَّه تعالى أعلم انتهى كلام السنديّ
(3)
.
وقال العلامة المباركفوريّ: الظاهر عندي -واللَّه تعالى أعلم- أن المراد بالصوت ها هنا الغناء المباح، فإن الغناء المباح بالدّفّ جائزٌ في العُرْس، يدلّ عليه حديث الرُّبيّع بنت مُعوِّذ - رضي اللَّه تعالى عنها -، وهو ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من طريق خالد ابن ذكوان، قال: قالت الرُّبَيِّعُ بنت مُعَوِّذ بن عَفراء، جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل حين بُنِي عليَّ، فجلس على فراشي، كمجلسك مني، فَجَعَلَت جُويريات لنا يضربن بالدفّ، ويَندُبن من قُتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يَعلَم ما في غد، فقال:"دَعِي هذه، وقولي بالذي كنت تقولين". انتهى كلام المباركفوريّ بتصرّف
(4)
.
(1)
راجع "تحفة الأحوذيّ" 4/ 209.
(2)
انظر "السنن الكبرى" للبيهقيّ 7/ 290.
(3)
"شرح السنديّ" 6/ 127 - 128.
(4)
"تحفة الأحوذيّ" 4/ 209.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى: هذا الذي قاله المباركفوري -رحمه اللَّه تعالى- من حمل الصوت على الغناء المباح هو الحقّ، وسيأتي تمام البحث فيه في -80/ 3384 - باب "اللَّهو والغناء عند العرس"، إن شاء اللَّه تعالى.
وقوله (في النِّكَاح) متعلّق بحال محذوف من "الدّفّ، والصوت"، أي حال كونهما واقعين في حال النكاح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث محمد بن حاطب هذا حسنٌ، من أجل الكلام في أبي بَلْج، فهو وإن وثّقه الجمهور، فقد تكلّم فيه بعضهم، كما تقدّم في ترجمته، فيكون حديثه حسنًا، كما قال الترمذيّ في "جامعه"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-72/ 3370 و 3371 - وفي "الكبرى" 86/ 5562. وأخرجه (ت) في "النكاح" 1088 (ق) في "النكاح"، 1896. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو استحباب إعلان النكاح بالصوت، وضرب الدّفّ فيه. (ومنها): عناية الشارع بالبعد عن مواضع التهم، حيث أمر بإعلان النكاح؛ لئلا يقع الشخص في تهمة؛ لأن كلّ من رآه يدخل على امرأة غير ذات محرم له من غير أن يُعلن نكاحها، يسيء الظنّ فيه، وفيه إيقاع المسلمين في حرج عظيم، فإذا أعلن بالنكاح زال هذا الظنّ. (ومنها): إباحة ضرب الدّفّ، ورفع الصوت بالغناء المباح في العرس.
قال العلاّمة الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وفي ذلك دليلٌ على أنه يجوز في النكاح ضرب الأدفاف، ورفع الأصوات بشيء من الكلام، ونحوه، نحو "أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ"، ونحوه، لا بالأغاني المُهَيِّجة للشرور المشتملة على وصف الجمال، والفجور، ومعاقرة الخمور، فإن ذلك يحرم في النكاح، كما يحرم في غيره، وكذا سائر الملاهي المحرّمة انتهى
(2)
. وسيأتي تمام البحث في هذا في -80/ 3384 - إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(1)
راجع "الجامع" 4/ 208 - 209 بنسخة "تحفة الأحوذيّ".
(2)
"نيل الأوطار" 6/ 198.
3371 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ حَاطِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الصَّوْتُ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عبد الأعلى": هو الصنعانيّ البصريّ الثقة [10]. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ الثقة الثبت [8]
والحديث سبق شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
73 - (كَيْفَ يُدْعَى لِلرَّجُلِ إِذَا تَزَوَّجَ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بنحو هذه الترجمة، فإنه قال:"بابٌ كيف يُدعى للمتزوّج".
قال في "الفتح": قال ابن بطّال: إنما أراد بهذا -واللَّه أعلم- ردّ قول العامّة عند العروس بالرفاء والبنين، فكأنه أشار إلى تضعيفه، ونحوِ ذلك، كحديث معاذ بن جبل أنه شَهِدَ إملاك رجل من الأنصار، فخطب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنكح الأنصاريّ، وقال: "على الإلفة والخير، والبركة، والطير الميمون، والسعة في الرزق
…
" الحديث، أخرجه الطبرانيّ في "الكبير" بسند ضعيف، وأخرجه في "الأوسط" بسند أضعف منه، وأخرجه أبو عمرو البَرْقانيّ في "كتاب معاشرة الأهلين" من حديث أنس، وزاد فيه: "والرفاء والبنين"، وفي سنده أبانُ العبديّ، وهو ضعيف.
وأقوى من ذلك ما أخرجه أصحاب السنن، وصححه الترمذيّ، وابن حبّان، والحاكم، من طريق سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا رفّأ إنسانًا، قال: بارك اللَّه لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير".
وقوله: "رَفَّأَ" بفتح الراء، وتشديد الفاء، مهموز: معناه دعا له في موضع قولهم: بالرفاء والبنين، وكانت كلمة تقولها أهل الجاهليّة، فورد النهي عنها، كما روى بقيّ بن مَخْلَد، من طريق غالب، عن الحسن، عن رجل من بني تميم، قال:"كنّا نقول في الجاهليّة: بالرفاء والبنين، فلما جاء الإسلام علّمنا نبيّنا صلى الله عليه وسلم، قال: قولوا: "بارك اللَّه
لكم، وبارك فيكم، وبارك عليكم".
قال: ودلّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه على أن اللفظ كان مشهورًا عندهم غالبًا حتى سُمّي كلّ دعاء للمتزوّج ترفئة.
قال: ودلّ صنيع المصنّف على أن الدعاء للمتزوّج بالبركة هو المشروع، ولا شكّ أنها لفظةٌ جامعةٌ، يدخل فيها كلّ مقصود من ولد وغيره، ويؤيّد ذلك ما تقدّم من حديث جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قال له:"تزوّجت بكرًا، أو ثَيِّبًا؟ ": قال: "بارك اللَّه لك"، والأحاديث في ذلك معروفة انتهى ما في "الفتح" باختصار
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3372 -
(حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَشْعَثَ
(2)
، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: تَزَوَّجَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، امْرَأَةً مِنْ بَنِي جُشَمٍ، فَقِيلَ لَهُ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينِ، قَالَ: قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ، وَبَارَكَ لَكُمْ» ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفيّ البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.
2 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعانيّ البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.
3 -
(خالد) بن الحارث الْهُجيميّ البصريّ ثقة ثبت [8] 42/ 47.
4 -
(أشعث) بن عبد الملك الْحُمْرانيّ، أبو هانئ البصريّ الثقة الفقيه [6] 129/ 191.
5 -
(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصريّ الإمام الحجة المشهور [3].
6 -
(عَقيل -بفتح المهملة، وكسر القاف- ابن أبي طالب) بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ، أبو يزيد، وقيل: أبو عيسى. أسلم قبل الحُديبية، وشَهِد غزوة مُؤْتة، وكان أسنّ من جعفر بعشر سنين، وكان جعفر أسنّ من عليّ بعشر سنين، وكان عَقيل من أنسب قريش، وأعلمهم بأيامها. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعنه ابنه محمد، وحفيده عبد اللَّه ابن محمد، وعطاء، وغيرهم. قال ابن سعد: قالوا: مات في خلافة معاوية بعد ما عَمِي. وفي "تاريخ البخاريّ الأصغر" بسند صحيح: أنه مات في أول خلافة يزيد بن معاوية قبل وقعة الْحَرَّة. وقال ابن سعد: خرج عَقيلٌ مهاجرا في أول سنة ثمان، فشهد مؤتة، ثم رجع، فعَرَض له مرضٌ، فلم يُسمَع له بخبر، لا في فتح مكة، ولا حنين، ولا الطائف، وله عقب اهـ.
قال الحافظ: وفيما قاله نظرٌ، فقد روى الزبير بن بكّار من طريق الحسين بن عليّ،
(1)
"فتح" 10/ 277 - 278.
(2)
وفي بعض النسخ: "الأشعث".
قال: كان ممن ثبت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حُنين: العبّاس، وعليّ، وعَقيل، وسَمَّى جماعةً. انتهى. أخرج له المصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط، وعند ابن ماجه له حديث الباب، وآخر في الوضوء. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير الصحابيّ، فأخرج له المصنف، وابن ماجه فقط. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن صحابيه من المقلين من الرواية، فليس له إلا حديثان فقط، أحدهما: حديث الباب عند المصنف، وابن ماجه، والآخر: حديث: "يجزئ من الوضوء مد، ومن الغسل صاع" عند ابن ماجه. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنِ الْحَسَنِ) البصريّ -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (قالَ: تَزَوَّجَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (امْرَأَةً مِنْ بَنِي جُشَمَ) هكذا في بعض نُسخ "المجتبى" بالجيم المضَمومة، وفتح الشين المعجمة، وهو الذي في "مسند أحمد"، و"سنن ابن ماجه".
وأما ما وقع في "الكبرى"، ومعظم نُسخ "المجتبى" من قوله:" جثم" -بجيم، فثاء مثلّثة- فالظاهر أنه تصحيف، والصواب، الأول، فإني لم أجد من ذكر قبيلة اسمها جُثم" بالثاء المثلثة، بل الذي ذُكر في "القاموس"، و"شرحه التاج"، و"اللباب"، و"لبّ اللباب" إنما هو "جُشَم" بالشين المعجمة. واللَّه تعالى أعلم.
و" جُشم" غير منصرف؛ للعلميّة، والعدل عن جاشم، أي عظيم
(1)
. وهو اسم لعدّة قبائل، من الأنصار وغيرهم، كما بُيِّين ذلك في كتب الأنساب
(2)
.
(فَقِيلَ لَهُ) وفي رواية أحمد: "فدخل عليه القوم، فقالوا"(بِالرَّفاءِ والْبَنِينَ) بكسر الراء، وتخفيف الفاء، والمدّ، بوزن كتاب، من رفأتُ الثوبَ: إذا أصلحته. قال الفيّوميّ: رَفَوتُ الثوبَ رَفْوًا، من باب قتل، ورفيته رَفْيًا، من باب رَمَى لغةُ بني كعب، وفي لغةٍ: رفأته أَرْفَؤُهُ، مهموزٌ -بفتحتين-: إذا أصلحتَهُ، ومنه يقال: بالرفاء والبنين، مثلُ كتاب: أي بالإصلاح. وبين القوم رِفاءٌ: أي التحام، واتفاقٌ انتهى.
وقال الخطّابيّ: كان من عادتهم أن يقولوا: بالرفاء والبنين، والرِّفَاء من الرَّفْو، يجيء بمعنيين: أحدهما التسكين، يقال: رَفَوتُ الرجل: إن سكّنت ما به من الرَّوْعِ. والثاني:
(1)
انظر حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل على "الخلاصة" 2/ 167.
(2)
راجع "الأنساب" 2/ 61 - 62 و"اللباب" 1/ 279 - 180 و"لبّ اللباب" 2/ 205.
أن يكون بمعنى الموافقة، والالتئام، ومنه رَفَوتُ الثوب. والباء متعلّقة بمحذوف، دلّ عليه المعنى: أي أَعْرَسْتَ. ذكره الزمخشريّ.
وقال في "اللسان": رَفَوْتُهُ: سَكَّنْتُهُ من الرُّعْب، قال أبو خِرَاشٍ الْهُذَلِيُّ [من الطويل]:
رَفَؤنِي وَقالُوا يَا خُوَيلِدُ لا تُرَعْ
…
فَقُلْتُ وَأَنكَرْتُ الوُجُوهَ هُمُ هُمُ
يقول: سَكَّنُوني، اعتبر بمشاهدة الوجوه، وجعلها دليلاً على ما في النفوس، يريد رَفَؤُوني، فألقى الهمزةَ. ورَفَوْتُ الثوبَ أَرْفُوهُ رَفوًا لغةٌ في رَفأته، يُهْمَزُ، ولا يُهْمَز، والْهَمْزُ أعلى. وقال أبو زيد: الرِّفَاء: الموافقةُ، وهي الْمُرافاة بلا همز، وأنشد [من الوافر]:
وَلَمَّا أَنْ رَأَيْتُ أَبَا رُوَيْمِ
…
يُرافِينِي وَيَكْرَهُ أَنْ يُلَامَا
والرِّفَاءُ: الالتحام والاتّفاق. ويقال: رَفَّيتُهُ تَرْفِيَةً: إذا قلتَ للمتزوِّج: بالرِّفاء والبنين. قال ابن السِّكّيت: وإن شئتَ: كان معناه بالسكون والطُّمأنينة، من قولهم: رَفَوتُ الرجل: إذا سكّنته انتهى.
(قالَ: قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أحمد: "فقال: لا تفعلوا ذلك، قالوا: فما نقول، يا أبا يزيد؟ قال: قولوا: بارك اللَّه لكم، وبارك عليكم، إنا كذلك كنا نؤمر". وفي رواية له: "لا تقولوا ذلك، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن ذلك، قولوا: بارك اللَّه فيك، وبارك لك فيها".
قال في "الفتح": واختُلف في علّة النهي عن ذلك، فقيل: لأنه لا حمد فيه، ولا ثناء، ولا ذكر للَّه. وقيل: لما فيه من الإشارة إلى بغض البنات؛ لتخصيص البنين بالذكر، وأما الرفاء، فمعناه الالتئام، من رفأت الثوب، ورفوته رَفوًا، ورِفَاءً، وهو دعاء للزوج بالالتئام، والائتلاف، فلا كراهية فيه.
وقال ابن المنيّر: الذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كره اللفظ؛ لما فيه من موافقة الجاهليّة؛ لأنهم كانوا يقولونه تفاؤلًا، لا دُعاءً، فيظهر أنه لو قيل للمتزوّج بصورة الدعاء لم يكره، كأن يقول: اللَّهم ألفّ بينهما، وارزقهما بنين صالحين، مثلًا، أو ألّفَ اللَّه بينكما، ورزقكما ولدًا ذكرًا، ونحو ذلك.
وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عمر بن قيس، قال: "شهدت شُريحًا، وأتاه رجل من أهل الشام، فقال: إني تزوّجت امرأةً، فقال: بالرفاء والبنين
…
" الحديث، وأخرجه عبد الرزاق من طريق عديّ بن أرطأة، قال: "حدّثتُ شُريحًا أني تزوّجت امرأةً، فقال: بالرفاء والبنين"، فهو محمولٌ على أن شُريحًا لم يبلغه النهي عن ذلك
انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في قول ابن المنيّر: فيظهر أنه لو قيل للمتزوّج الخ نظر لا يخفى؛ إذ فيه عدول عن الدعاء المأثور إلى غيره، وقد قال اللَّه تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآية، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية، فما ثبت الأمر به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو:"بارك اللَّه لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير"، ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في السنة أولى بالاتباع، فإنه أجمع لكلّ ما يطلبه الإنسان، من الخيرات، فإن البركة تعمّ كلّ خير في الدنيا والآخرة، فلا داعي للعدول عن السنّة، فلا تكن أسير التقليد، فإنه ملجأ البليد، ومَسْرَح العنيد. واللَّه تعالى أعلم.
("بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ، وَبَارَكَ لَكُمْ") ولفظ أحمد، وأبي داود:"بارك اللَّه لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير". ولفظ ابن ماجه: "اللَّهم بارك لهم، وبارك عليهم". وفي لفظ له: "بارك اللَّه لكم، وبارك عليكم، وجمع بينكما في خير". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عقيل بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيحٌ.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-73/ 3372 - وفي "عمل اليوم والليلة" 262، وفي "الكبرى" 85/ 5561. وأخرجه (ق) في "النكاح" 1906 (أحمد) في "مسند أهل البيت" 1740 و"مسند المكيين" 15313 (الدارمي) في "النكاح" 2173. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان كيفيّة الدعاء للمتزوّج، وهو الدعاء بالبركة. (ومنها): البعد عن عادات الجاهليّة، وتقاليدهم، والتقيد بالسنّة قولًا وفعلاً؛ لأن الهدى، والرشاد، والفلاح مرتبطة بها، قال اللَّه تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، وقال:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} ، وقال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} .
(ومنها): مشروعيّة تهنئة المتزوّج، والدعاء له بالبركة والخبر. (ومنها): إظهار
المسلم الفرح والسرور إذا حصل خيرٌ لأخيه المسلم، فإن ذلك من الإيمان، للحديث
(1)
"فتح" 10/ 278.
المتّفق عليه، من حديث أنس رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
74 - (دُعاءُ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ التَّزْوِيجَ)
3373 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَثَرَ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟». قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ، مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ، وَلَوْ بِشَاةٍ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلّهم رجال الصحيح، وكلّهم تقدّموا غير مرّة.
والسند من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (173) من رباعيات الكتاب. وقوله:" أثر صُفرة" أي أثر طيب النساء، قيل: إنه تعلّق به من طيب العروس، ولم يقصده. وقيل: بل يجوز للعروس أن يستعمله، وهو الذي يميل إليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، كما تدلّ عليه الترجمة التالية، وسيأتي تمام البحث في ذلك في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى.
وقوله: "وزن نواة": قال في "النهاية": النواة اسم لخمسة دراهم كما قيل للأربعين أوقيّةٌ، وللعشرين نشٌّ. وقيل: أراد قدر نواة من ذهب، كان قيمتُها خمسةَ دراهم، ولم يكن ثَمّ ذهب، وأنكره أبو عبيد. قال الأزهريّ: لفظ الحديث يدلّ على أنه تزوّج المرأة على ذهب قيمته خمسة دراهم، ألا تراه قال:"نواة من ذهب" ولست أدري لم أنكره أبو عبيد؟، والنواة في الأصل عَجَمَةُ
(1)
التمرة انتهى
(2)
. وقد تقدّم تمام البحث في ذلك في "باب التزويج على نواة من ذهب".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله في 67/ 3352 و 3353 - واستدلّ به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا على مشروعيّة دعاء من لم يحضر وقت النكاح، وهو استدلال واضح، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
(1)
"العَجَمَة" -بفتحتين- واحدة الْعَجَمِ، كقصبة وقَصَب: النوى، والعنب، والنَّبْق، وغير ذلك. أفاده في "المصباح".
(2)
"النهاية" 5/ 131 - 132.
بالبركة دون أن يشهد الزواج. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
75 - (الرُّخْصَةُ فِي الصُّفْرَةِ عِنْدَ التَّزْوِيجِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الصُّفْرة" -بضمّ الصاد المهملة، وسكون الفاء-: لونٌ دون العمرة، ويطلق على الأسود أيضًا. والمراد به هنا صفرة الْخَلُوق، و"الْخَلُوق" -بفتح الخاء المعجمة، وضم اللام، آخره قاف، وِزان رَسُولٍ-: ما يُتخلّقُ به من الطيب، قال بعض الفقهاء: وهو مائعٌ فيه صُفْرةٌ، والْخِلاقُ، مثلُ كتاب بمعناه. قاله الفيّوميّ. وقال في "الفتح"؛ طيبٌ يُصنَع من زعفران وغيره
(1)
.
ثم إن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- استَدَلّ بحديث الباب على جواز استعمال الصُّفرة عند الزواج، وهذا أحد الأجوبة في الجمع بين حديث الباب، وحديث النهي عن التزعفر للرجال الآتي في "كتاب الزينة" في باب "التزعفر" برقم 73/ 5257 و 5258 - إن شاء اللَّه تعالى، ولكن الأقرب من هذا أن يقال: إن الصفرة التي بعبد الرحمن إنما هي من جهة زوجته، لا بقصد منه، فلا تنافي بينه وبين حديث النهي عن التزعفر للرجال، فهذا هو الأرجح عندي، على ما سيأتي قريبًا.
قال في "الفتح": واستدلّ بحديث الباب على جواز التزعفر للعروس، وخُصّ به عموم النهي عن التزعفر للرجال، كما سيأتي بيانه في "كتاب اللباس".
وتُعقّب باحتمال أن تكون تلك الصفرة، كانت في ثيابه، دون جسده. وهذا الجواب للمالكيّة على طريقتهم في جوازه في الثوب، دون البدن، وقد نَقَلَ ذلك مالكٌ عن علماء المدينة، وفيه حديث أبي موسى:"لا يقبل اللَّه صلاة رجل في جسده شيء من خَلُوق"، أخرجه أبو داود. فإن مفهومه أن ما عدا الجسد لا يتناوله الوعيد.
ومنع من ذلك أبو حنيفة، والشافعيّ، ومن تبعهما في الثوب أيضًا، وتمسّكوا بالأحاديث في ذلك، وهي صحيحة، وفيها ما هو صريحٌ في المدّعَى، كما سيأتي بيانه،
(1)
10/ 292.
وعلى هذا فأجيب عن قصّة عبد الرحمن بأجوبة:
[أحدها]: أن ذلك كان قبل النهي، وهذا يحتاج إلى تاريخ، ويؤيّده أن سياق قصّة عبد الرحمن يُشعر بأنها كانت في أوائل الهجرة، وأكثر من روى النهي ممن تأخّرت هجرته.
[ثانيها]: أن أثر الصفرة التي كانت على عبد الرحمن تعلّقت به من جهة زوجته، فكان ذلك غير مقصود له. ورجّحه النوويّ، وعزاه للمحقّقين، وجعله البيضاويّ أصلًا، ردّ إليه أحد الاحتمالين أبداهما في قوله:"مهيم"، فقال: معناه: ما السبب في الذي أراه عليك؟ فلذلك أجاب بأنه تزوّج، قال: ويحتمل أن يكون استفهام إنكار؛ لما تقدّم من النهي عن التضمّخ بالخلوق، فأجاب بقوله:"تزوّجت"، أي فتعلّق بي منها، ولم أقصد إليه.
[ثالثها]: أنه كان قد احتاج إلى التطيّب للدخول على أهله، فلم يجد من طيب الرجال حينئذ شيئًا، فتطيّب من طيب المرأة، وصادف أنه كان فيه صُفْرة، فاستباح القليل منه عند عدم غيره؛ جمعًا بين الدليلين، وقد ورد الأمر في التطيّب للجمعة، ولو من طيب المرأة، فبقي أثر ذلك عليه.
[رابعها]: أنه كان يسيرًا، ولم يبق إلا أثره، فلذلك لم يُنكره.
[خامسها]: -وبه جزم الباجيّ- أن الذي يكره من ذلك ما كان من زعفران وغيره من أنواع الطيب، وأما ما كان ليس بطيب، فهو جائز.
[سادسها]: أن النهي عن التزعفر للرجال ليس على التحريم بدلالة تقريره لعبد الرحمن بن عوف في هذا الحديث.
[سابعها]: أن العَرُوس يُستثنى من ذلك، ولا سيّما إذا كان شابًّا، ذكر ذلك أبو عُبيد قال: وكانوا يُرخّصون للشابّ في ذلك أيام عُرْسه، قال: وقيل: كان في أوّل الإسلام من تزوّج لبس ثوبًا مصبوغًا علامةً لزواجه ليُعان على وليمة عرسه، قال: وهذا غير معروف.
قال الحافظ: وفي استفهام النبيّ صلى الله عليه وسلم له عن ذلك دلالة على أنه لا يختصّ بالتزويج، لكن وقع في بعض طرقه عند أبي عوانة من طريق شعبة، عن حميد بلفظ:"فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرأى عليّ بَشاشة العُرْس، فقال: أتزوّجتَ؟ قلت: تزوّجت امرأة من الأنصار"، فقد يتمسّك بهذا السياق للمدّعي، ولكن القصّة واحدة، وفي أكثر الروايات أنه قال له:"مهيم؟، أو ما هذا؟ "، فهو المعتمد.
وبَشاشة العُرْس أثره، وحسُنه، أو فرحه وسروره، يقال: بَشَّ فلان بفلان، أي أقبل
عليه فرحًا به ملطفًا به. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن الجواب الثاني هو الصحيح، وحاصله أن أثر الصفرة تعلّقت بعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من جهة زوجته، دون قصد، فلذلك لم يُنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه ذلك، فلا تعارض بينه، وبين حديث النهي عن التزعفر للرجال، وهذا هو الأرجح، كما تقدّم ترجيح النوويّ له، وعزوه للمحققين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3374 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ جَاءَ، وَعَلَيْهِ رَدْعٌ، مِنْ زَعْفَرَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَهْيَمْ؟» ، قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، قَالَ: «وَمَا
(2)
أَصْدَقْتَ؟» ، قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ:«أَوْلِمْ، وَلَوْ بِشَاةٍ» ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلّهم تقدّموا غير مرّة.
و"أبو بكر بن نافع": هو محمد بن أحمد بن نافع العبديّ، أبو بكر البصريّ، صدوق، من صغار [10] 27/ 813.
و"حماد": هو ابن سلمة
(3)
البصريّ الثقة، أثبت الناس في ثابت [8]. و"ثابت": هو ابن أسلم البناني البصريّ الثقة الثبت [4].
وقوله: "رَدْع من زعفران" -براء، ودالٍ، وعين مهملات، مفتوح الأول، ساكن
الثاني-: هو أثر الزعفران.
وقوله: "مَهْيَمْ" -بفتح الميم، وسكون الهاء، وفتح التحتانية، وسكون الميم-: أي ما شأنك؟، أو ما هذا؟، وهي كلمة استفهام، مبنيّةٌ على السكون، وهل هي بسيطةٌ، أم مركبّةٌ؟ قولان لأهل اللغة. وقال ابن مالك: هي اسم فعل بمعنى أخبر. ووقع في رواية للطبرانيّ في "الأوسط": "فقال: له: مهيم؟، وكانت كلمته إذا أراد أن يسأل عن الشيء". ووقع في رواية ابن السكن: "مهين" بنون آخره، بدل الميم، والأول هو المعروف. قاله في "الفتح"
(4)
.
ثم يحتمل أن يكون الاستفهام استفهام إنكار، ويحتمل أن يكون سؤالًا، أي ما
(1)
"فتح" 10/ 295.
(2)
وفي نسخة: "فما" بالفاء.
(3)
نصّ على أنه ابن سلمة في "تحفة الأشراف" 1/ 123.
(4)
10/ 292.
السبب في الذي أراه عليك؟.
وقال في "اللسان": "مَهْيَم" كلمة يمانية، معناها: ما أمرك؟، وما هذا الذي أرى بك؟، ونحو هذا من الكلام. قال الأزهريّ: ولا أعلم على وزن مَهْيَم كلمة غير مَرْيَم. وقال الجوهريّ: كلمة يُستفهم بها، معناها: ما حالك؟، وما شأنك؟ انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم الكلام عليه في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3375 -
(أَخْبَرَنِي
(2)
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْوَزِيرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا
(3)
سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيَّ -كَأَنَّهُ يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ- أَثَرَ صُفْرَةٍ، فَقَالَ:«مَهْيَمْ؟» ، قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ:«أَوْلِمْ، وَلَوْ بِشَاةٍ» ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن يحيى بن الوزير": هو التُّجيبيّ أبو عبد اللَّه المصريّ، ثقة [11] 42/ 2690. من أفراد المصنّف، وأبي داود. والباقون كلهم رجال الصحيح، والسند فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: يحيى، عن حميد، وفيه مصريّان: أحمد بن يحيى، وسعيد بن كثير، ومدنيّان: سليمان بن بلال، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وبصريّان: حميد الطويل، وأنس بن مالك، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى من الأحاديث (2286)، وهو آخر من مات من الصحابة في البصرة، سنة (92) أو (93)، وقد جاوز المائة.
وقوله: "عَلَيَّ" هي "عَلَى" الجارّةُ، وياء المتكلّم، متعلّقٌ بـ"رأى". وقوله:"كأنه يعني عبد الرحمن بن عوف" يعني أن أنسًا رضي الله عنه أراد بقوله: "عليّ" الحكاية عن عبد الرحمن بن عوف، لا عن نفسه.
والحديث متّفقٌ عليه، وسبق الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه
المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
(1)
"لسان العرب" 12/ 565 - 566.
(2)
وفي نسخة: "أخبرنا".
(3)
وفي نسخة: "حدّثنا"، وفي أخرى:"أخبرنا".
76 - (تَحِلَّةُ الْخَلْوَةِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: زاد في "الكبرى": "وَتَقْدِيمُ الْعَطِيَّةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ". ووقع في النسخة "الهندية": "نِحْلَة الخلوة".
و"التحِلّة" -بفتح الفوقانية، وكسر الحاء المهملة، وتشديد اللام-: مصدر حَلَّل بالتثقيل، على تَقعِلَة، كذكّر تَذْكِرةً، وجَرَّبَ تَجْرِبَةً، وبَصَّرَ تَبْصِرَةً، وأصله: تَحْلِلَةٌ، فنُقلت كسرة اللام الأولى، إلى الحاء، ثم أُدغمت في اللام الثانية، يقال: حَلَلْتُ اليمين: إذا فعلتَ ما يُخرج عن الحِنْث، فانحلّت هي، وحَلَّلْتُها بالتثقيل، وفعلتُهُ تَحِلّة القسم: أي بقدر ما تُحلُّ به اليمين، ولم أُبالغ فيه، ثم كثُر هذا حتى قيل لكلّ شيء لم يُبالغ فيه: تحليلٌ
(1)
.
وقال في "اللسان": وحلَّلَ اليمينَ تحليلًا، وتَحِلَّةً، وتَحِلًّا، وهذه شاذّةٌ: كَفَّرَها، و"التَّحِلّةُ": ما كُفّر به. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن مما ذُكر أن "التَّحِلّة" يُطلق على معنيين: أحدهما: أنه مصدر حلّل بالتثقيل، والثاني: أنه الشيء الذي يقع به تحليل الشيء، وكلا المعنيين يناسبان ترجمة المصنّف "تَحِلَّةُ الخلوةِ"، فعلى الأول يكون المعنى: تحليل الرجل الخلوة بزوجته بدفع شيء مما تسرّ به. وعلى الثاني يكون المعنى: الشيء الذي يجعل الخلوة بالزوجة حلالًا.
وأما "النحلة"، فهي بكسر النون، وضمّها لغتان، وأصلها من العطاء، يقال: نَحَلتُ فلانًا شيئًا: أعطيتُه، فالصداق عطيّة من اللَّه تعالى للمرأة. ومنه قوله تعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} الآية [النساء: 4]. وقيل: "نحلةً" في الآية: أي عن طيب نفس من الأزواج من غير تناع. وقال قتادة: معنى "نحلةً" فريضة واجبةً. وقال ابن جريج، وابن زيد: فريضة مُسمّاةً. قال أبو عبيد: ولا تكون النحلة إلا مسمّاةً معلومةً. وقال الزجّاج: "نحلةً" تَدَيُّنًا، والنحلة الديانة والملّة، يقال: هذا نحلته: أي دينه. وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء الذين كانوا يأخذونه في الجاهليّة، حتى قال بعض النساء في زوجها [من الرجز]:
لا يَأخُذُ الْحُلْوانَ مِنْ بَنَاتِنَا
(1)
راجع "المصباح المنير"، وهامشه. 1/ ص 148.
أفاده القرطبيّ في "تفسيره"
(1)
. وقال النسفيّ في "تفسير": "نحلة" من نحله كذا: إذا أعطاه إياه، ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلةً، ونحلًا، وانتصابها على المصدر؛ لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء، فكأنه قال: وانحلوا النساء صدقاتهنّ نحلة، أي أعطوهنّ مهورهنّ عن طيبة أنفسكم، أو على الحال من المخاطبين، أي آتوهنّ صدقاتهنّ ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء، أو من الصدقات، أي منحولةً، معطاة عن طيبة الأنفس. وقيل: نحلة من اللَّه تعالى عطية من عنده، وتفضلًا منه عليهنّ. انتهى
(2)
.
ثم إن التَّحِلّة، أو النِّحْلَة المذكورة تشمل المهر، وغيره مما يُدفع للمرأة قبل الدخول بها استطابة لقلبها، وإدخالاً للمسرة عليها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3376 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: تَزَوَّجْتُ فَاطِمَةَ رضي الله عنها فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنِ بِي، قَالَ: «أَعْطِهَا شَيْئًا» ، قُلْتُ: مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ، قَالَ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ؟» ، قُلْتُ: هِيَ عِنْدِي، قَالَ: «فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ»).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائيّ، ثقة ثبت [11] 108/ 147.
2 -
(هشام بن عبد الملك) أبو الوليد الطيالسيّ البصريّ، ثقة ثبت [9] 122/ 172.
3 -
(حمّاد) بن سلمة بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد [8] 181/ 288.
4 -
(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ البصريّ، ثقة ثبت فقيه [5] 42/ 48.
5 -
(عكرمة) أبو عبد اللَّه البربريّ، مولى ابن عباس، ثقة ثبت فقيه [3] 2/ 325.
6 -
(ابن عباس) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31.
7 -
(عليّ) بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه - 74/ 91. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فنسائيّ، وعليّ رضي الله عنه، فمدنيّ،. (ومنها): أن فيه رواية رواية تابعيّ عن تابعيّ: أيوب، عن عكرمة، ورواية صحابيّ، عن صحابيّ، ابن عبّاس، عن عليّ رضي الله عنهم. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 24.
(2)
"تفسير النسفيّ" 1/ 206.
شرح الحديث
(عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ عَلِيًّا) رضي الله عنه، هكذا في رواية حماد بن سلمة، عن أيوب جعله من مسند عليّ رضي الله عنه، وخالفه سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب، فجعله من مسند ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، ولم يذكر عليًّا رضي الله عنه، كما سيُبيّنه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في الرواية التالية (قَالَ: تَزَوْجْتُ فَاطِمَةَ رضي الله عنها) وكان زواجه لها بعد أن ابتنى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - بأربعة أشهر ونصف، وذلك سنة اثنتين من الهجرة، وكان سنّها يوم تزوّجها خمس عشرة سنة، وخمسة أشهر ونصفًا، ولم يتزوّج عليها حتى ماتت. قال الزهريّ، عن عروة، عن عائشة: عاشت فاطمة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ستة أشهر. زاد غيره: وهي بنت سبع وعشرين سنة. وقيل: ثمان. وكانت أول آل النبيّ صلى الله عليه وسلم لُحُوقًا به، وغسلها عليّ رضي الله عنه، ودُفنت ليلًا - رضي اللَّه تعالى عنها -. وقيل: ماتت بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر، وقيل: بمائة يوم. وقيل: بثمانية أشهر. وقيل: غير ذلك
(1)
. (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنِ بِي) أي اجعلني بانيًا بها. وفي النسخة "الهندية": "ابنها بي".
قال في "النهاية": البناء، والابتناء: الدخول بالزوجة، والأصل فيه أن الرجل كان إذا تزوّج امرأة بَنَى عليها قُبّةً؛ ليدخل بها فيها، فيقال: بَنَى الرجلُ على أهله. قال الجوهريّ: بني على أهله: أي زَفَّها، والعامّة تقول: بَنَى بأهله، وهو خطأٌ. قال صاحب "النهاية": وهذا القول فيه نظر، فإنه قد جاء في غير موضع من الحديث، وغير الحديث، وعاد الجوهريّ، فاستعمله في "كتابه" انتهى
(2)
.
وفي "القاموس": بَنَى على أهله، وبها: زَفّها، كابتنى انتهى.
قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: والحاصل أنه جاء بالوجهين، لكن يجب التنبيه على أن الباء في هذا الحديث ليست هي الباء التي اختلفوا فيها، فإنها الباء الداخلة على المرأة المدخولِ بها، والمدخولُ بها ههنا متروكةٌ، فيجوز تقديره "على أهلي"، أو"بأهلي"، والباء المذكورة باء التعدية، والمعنى: اجعلني بانيًا على أهلي، أو بأهلي، فلا إشكال في هذا الحديث على القولين، كما لا يخفى انتهى كلام السنديّ
(3)
.
(قالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَعْطِهَا شَيْئًا") الظاهر أن التنكير هنا للتعميم: أي شيء كان، مهرًا، أو
(1)
راجع "تهذيب التهذيب" 4/ 683 - 684.
(2)
"النهاية" 1/ 157 - 158.
(3)
"شرح السنديّ" 6/ 129 - 130.
غيره، كثيرًا كان، أو قليلًا، وذلك استمالَةً لقلبها، واستجلابًا لمودّتها.
وفي رواية أبي داود: "أن عليًّا لَمّا تزوّج فاطمة أراد أن يدخل بها، فمنعه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى يُعطيها شيئًا
…
" الحديث.
قال عليّ رضي الله عنه (قُلْتُ: ما عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ)"من" زائدة لتأكيد القلّة، أراد الشيء الزائد على الحوائج اللازمة، وإلا فلا يريد أنه لا شيء عنده، لا من الملابس، ومن الطعام، ولا من البيت، ونحو ذلك، إذ معلوم أن هذه الأشياء كانت عند عليّ رضي الله عنه، وإلا فلا يجترىء أن يزُفّها إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس عنده شيء، من الفأوى، ولا الطعام، ولا اللباس. واللَّه تعالى أعلم (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (" فأَيْنَ دِرْعُكَ) -بكسر الدال المهملة، وسكون الراء، بعدها عين مهملة-: هي لَبُوس الحديد، تذكّرُ، وتؤنّثُ، يقال: دِرْعٌ سابغٌ، ودرعٌ سابغةٌ، قال أبو الأخْرَز [من الرجز]:
مقَلَّصَا بِالدِّرْعِ ذِي التَّغَضُّنِ
(1)
…
يَمْشِي الْعِرَضْنَى
(2)
فِي الْحَدِيدِ الْمُتْقَنِ
والجمع في القلّة: أَدْرُعٌ، وأَدْرَاعٌ، وفي الكثرة: دُرُوعٌ، قال الأعْشَى [من البسيط]:
واختارَ أَدْراعَهُ أَنْ لا يُسَبَّ بِهَا
…
وَلَمْ يَكُنْ عَهْدُهُ فِيهَا بِخَتَّارِ
وتصغير دِرْع: دُرَيْعٌ، بغير هاء، على غير قياس؛ لأن قياسه بالهاء، وهو شاذٌّ. أفاده
في "اللسان"
(3)
. فقوله: "أين" اسم استفهام في محلّ رفع خبر مقدّم، لقوله:
"درعُك"، وقوله (الْحُطَمِيَّةُ؟) بالرفع صفة لـ"درعك". و"الْحُطَيّمة" -بضمّ الحاء، وفتح الطاء المهملتين-: قال في "النهاية": هي التي تَحطِم السيوف، أي تكسرها. وقيل: هي العريضة الثقيلة. وقيل: منسوبة إلى بطن من عبد القيس، يقال لهم: حُطَمة بن مُحارب، كانوا يَعمَلون الدِّرْعَ، وهذا أشبه الأقوال انتهى
(4)
.
(قُلْتُ: هِيَ عِنْدِي، قَالَ: "فأَعْطِهَا إِيَّاهُ") زاد في رواية أبي داود: "فأعطاها درعه، ثم دخل بها". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
أي صاحب التَّثَني، في "القاموس": والغَضْنُ، ويُحرّك: كلّ تثَنٍّ في ثوب، أو جلد، أو درع، جمعه غُضُون اهـ.
(2)
في "القاموس": يمشي العِرَضْنَةَ، والْعِرَضْنَى: أي في مِشْيته بَغْيٌ من نشاطه. اهـ.
(3)
راجع "لسان العرب" 8/ 81 - 82.
(4)
"النهاية" 1/ 402.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-76/ 3376 و 3377 - وفي "الكبرى" 88/ 5567 و 5568. وأخرجه (د) في "النكاح" 2125. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعيّة تَحِلّة الخلوة، أي دفع الزوج إلى زوجته شيئًا من المال، سواء كان مهرها، أو غيرها حتى تمكّنه من تسليم نفسها إليه. (ومنها): عناية الشارع بمراعاة ما يحفظ الودّ، ويُحدث الوئام، وحسن العشرة بين الزوجين، فإن الرجل إذا دفع إلى امرأته مبادرًا قبل أن يجتمع بها، يجعلها تستشعر بصلاحيته للبقاء معه، إذ هو مِعْطاءٌ، جواد، لا بخيلٌ ذو أحقاد. (ومنها): أن من ليس له شيء زائد على الحوائج الضروريّة، يجوز أن يقول: ما عندي شيءٌ، ولا يكون بذلك كاذبًا؛ إذ العرف جارٍ بمثل هذا. (ومنها): أنه دليلٌ على جواز الامتناع من تسليم المرأة ما لم تقبض مهرها، وفيه خلاف لأهل العلم يأتي بيانه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الدخول بالزوجة قبل تقديم شيء لها، مهرًا كان، أو غيره:
قال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: يجوز الدخول بالمرأة قبل إعطائها شيئًا، سواء كانت مُفوّضةً، أو مسمّى لها. وبهذا قال سعيد بن المسيّب، والحسن، والنخعيّ، والثوريّ، والشافعيّ. وروي عن ابن عبّاس، وابن عمر، والزهري، وقتادة، ومالك: لا يدخل بها حتى يُعطيها شيئًا. قال الزهريّ: مَضَتِ السنّة أن لا يدخل بها حتى يُعطيها شيئًا. قال ابن عباس: يخلع إحدى نعليه، ويُلقيها إليها. انتهى
(1)
.
وقال ابن حزم في "المحلّى": ومن تزوّج، فسمّى صداقًا، أو لم يسمّ، فله الدخول بها أحبّت، أم كرهت، ويُقضَى لها بما سمّى لها، أحبّ، أم كره، ولا يُمنَع من أجل ذلك من الدخول بها، لكن يُقضَى له عاجلًا بالدخول، وُيقضى لها عليه حسب ما يوجد عنده بالصداق، فإن كان لم يُسمّ لها شيئًا قُضي عليه بمهر مثلها، إلا أن يتراضيا بأكثر،
(1)
"المغني" 10/ 147 - 148.
أو بأقلّ، وهذا مكان اختلف السلف فيه.
روينا من طريق عبد الرزّاق، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول: قال ابن عبّاس: إذا نكح المرأة، وسمّى لها صداقًا، فأراد أن يدخل عليها، فليُلقِ إليها رداءه، أو خاتما، إن كان معه. ومن طريق ابن وهب: حدّثني يونس ابن يزيد الأيليّ، عن نافع، عن ابن عمر قال: لا يصلح للرجل أن يقع على امرأته حتى يُقَدِّم إليها شيئًا من مالها ما رضيت به من كسوة، أو عطاء، قال ابن جريج: وقال عطاء، وسعيد بن المسيّب، وعمرو -هو ابن دينار- لا يمسّها حتى يرسل إليها بصداق، أو فريضة، قال عطاء، وعمرو: إن أرسل إليها بكرامة لها ليست من الصداق، أو إلى أهلها، فحسبه، هو يحلّها له. وقال سعيد بن جبير: أعطها، ولو خمارًا. وقال الزهريّ: بلغنا في السنّة أن لا يدخل بامرأة حتى يُقَدِّم نفقة، أو يكسو كسوةً ذلك مما عمل به المسلمون. وقال مالك: لا يدخل عليها حتى يُعطيها مهرها الحالّ، فإن وهبته له أُجبر على أن يفرض لها شيئًا آخر، ولا بدّ.
وذهب آخرون إلى إباحة دخوله عليها، وإن لم يعطها شيئًا، كما روينا من طريق أبي داود، نا محمد بن يحيى بن فارس الذهليّ، نا عبد العزيز بن يحيى الْحَرّانيّ، نا محمد ابن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أنيسة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد اللَّه اليزنيّ -هو أبو الخير- عن عقبة بن عامر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم زوّج رجلًا امرأة برضاهما، فدخل بها الرجل، ولم يفرض لها صداقًا، ولم يعطها شيئًا، وكان ممن شهد الحديبية، وكان من شهدها له سهمٌ بخيبر، فحضرته الوفاة، فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زوَّجني فلانة، ولم أفرض لها صداقا، ولم أعطها شيئًا، ولكنّي أُشهدكم أني أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، قال: فأخذته، فباعته بمائة ألف".
وروينا من طريق وكيع، عن هشام الدستوائيّ، عن سعيد بن المسيّب، قال: اختلف أهل المدينة في ذلك، فمنهم من أجازه، ولم ير به بأسًا. ومنهم: من كرهه، قال سعيد: وأيّ ذلك فعل فلا بأس به -يعني دخول الرجل بالمرأة التي تزوّج، ولم يُعطها شيئًا.
ومن طريق وكيع، عن سفيان الثوريّ، عن منصور بن المعتمر، ويونس بن عبيد، قال منصور: عن إبراهيم النخعيّ، وقال يونس: عن الحسن، ثم اتفقا جميعًا على أنه لا بأس بأن يدخل الرجل بامرأته قبل أن يُعطيها شيئًا.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن الزهريّ في الرجل يتزوّج المرأة، ويُسمّي لها صداقًا، هل يدخل عليها، ولم يُعطها شيئًا؛ فقال الزهريّ: قال اللَّه تعالى:
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} الآية. فإذا فرض الصداق، فلا جناح عليه في الدخول عليها، وقد مَضَت السنّة أن يُقَدَّمَ لها شيءٌ من كسوة، أو نفقة.
ومن طريق سعيد بن منصور، نا هشيمٌ، ثنا حجاج، عن أبي إسحاق السبيعيّ، أن كريب بن أبي مسلم- وكان من أصحاب ابن مسعود- تزوّج امرأةً على أربعة آلاف درهم، ودخل بها قبل أن يعطيها من صداقها شيئًا.
وبهذا يقول سفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأبو سليمان -يعني داود الظاهريّ- وأصحابهم. وقال الأوزاعيّ: كانوا يستحسنون أن لا يدخل بها حتى يُقدِّم لها شيئًا. وقال الليث: إن سمّى لها مهرًا، فأحبّ إليّ أن يقدّم لها شيئًا، وإن لم يفعل لم أر به بأسا. وقال أبو حنيفة: إن كان مهرها مؤجّلًا فله أن يدخل بها، أحبّت، أم كرهت، حلّ الأجلُ، أو لم يحلّ، فإن كان الصداق نقدًا لم يجز له أن يدخل بها حتى يؤدّيه إليها، فلو دخل بها، فلها أن تمنع نفسها منه حتى يوفّيها جميع صداقها.
قال أبو محمد: أما تقسيم أبي حنيفة، ومالك، فدعوى بلا برهان، لا من قرآن، ولا من سنّة، ولا قياس، ولا قول متقدّم، ولا أرى له وجهًا، فلم يبق إلا قول من أباح دخوله عليها، وإن لم يُعطها شيئًا، أو منع من ذلك.
فنظرنا في حجة من منع من ذلك، فوجدناهم يحتجّون بحديث فيه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عليًّا أن يدخل بفاطمة - رضي اللَّه تعالى عنهما - حتى يُعطيها شيئًا.
قال: وهذا خبر لا يصحّ لأنه إنما جاء من طريق مرسلة، أو فيها مجهول، أو ضعيفٌ، وقد تقصّينا طرقها، وعللَّها في "كتاب الإيصال" إلا أن صفتها كلّها ما ذكرنا ههنا لا يصحّ شيء منها، إلا خبر من طريق أحمد بن شعيب
(1)
، أنا عمرو بن منصور،
نا هشام بن عبد الملك الطيالسيّ، نا حماد بن زيد
(2)
، عن أيوب السختيانيّ، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عليًّا، قال: تزوّجت فاطمة، فقلت: يا رسول اللَّه ابن لي
(3)
، فقال: أعطها شيئًا
…
" الحديث.
قال: إنما ذلك على أنه صداقها، لا على معنى أنه لا يجوز الدخول إلا حتى يعطيها
شيئًا، وقد جاء هذا مبينًا، ثم أخرج بسنده عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن
(1)
يعني النسائيّ، والحديث هو المذكور في الباب.
(2)
هكذا قال ابن حزم: "حماد بن زيد"، والذي صرح به الحافظ المزّيّ في "تحفة الأشراف" 5/ 114 أنه ابن سلمة، وهو الأصحّ؛ لأن هشام بن عبد الملك ممن يروي عن حماد بن سلمة، دون حماد ابن زيد، انظر "تدريب الراوي" 2/ 325 - 326. واللَّه تعالى أعلم.
(3)
هكذا نسخة "المحلّى"أبن لي"، وقد عرفت أن لفظه عند "المصنّف"ابن بي"، وفي نسخة "ابنها بي"، وقد تقدم بيان معناه في الشرح. واللَّه تعالى أعلم.
الحسن البصريّ، عن أنس، قال: قال عليّ بن أبي طالب: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول اللَّه، قد علمت قَدَمي في الإسلام، ومناصحتي، وأني، وأني، قال:"وما ذاك يا عليّ؟ " قال: تُزَوِّجُني فاطمةَ، قال:"وما عندك؟ "، قلت: عندي فرسي، ودرعي، قال:"أما فرسك، فلا بدّ لك منها، وأما درعك، فبعها"، قال: فبعتها بأربعمائة وثمانين، فأتيته بها، فوضعتها في حجره، ثم قبض منها قبضةٌ، وقال:"يا بلال أبغنا بها طيبًا". وذكر باقي الحديث. فهذا بيان أن الدرع إنما ذُكِرَت في الصداق، لا من أجل الدخول؛ لأنها قصّة واحدة بلا شكّ. قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في دعوى كون الحديثين بمعنى واحد نظرٌ لا يخفى. واللَّه تعالى أعلم.
قال: وقد جاء في هذا أثرٌ، كما رويناه من طريق أبي عبيد، نا عمر بن عبد الرحمن، نا منصور بن المعتمر، عن طلحة بن مصرّف، عن خيثمة بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أن رجلًا تزوّج امرأة، فجهّزها إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل أن يَنقُدَها شيئًا".
وخيثمة من أكابر أصحاب ابن مسعود، وصحب عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما. وقال اللَّه عز وجل:{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ، ولا خلاف بين المسلمين في أنه من حين يعقد الزواج، فإنها زوجة له، فهو حلالٌ لها، وهي حلالٌ له، فمن منعها منه حتى يُعطيها الصداق، أو غيره، فقد حال بينه وبين امرأته، بلا نصّ من اللَّه تعالى، ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن الحقّ ما قلنا: أن لا يُمنع حقّه منها، ولا تُمنَع هي حقها من صداقها، لكن يُطلق على الدخول عليها، أحبّت، أم كرهت، ويؤخذ مما يوجد له صداقها، أحبّ، أم كره، وصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم -تصويبُ قول القائل:"أعط كلّ ذي حقّ حقّه"، وباللَّه تعالى التوفيق. انتهى كلام ابن حزم -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أرجح الأقوال في المسألة أنه يجوز أن يدخل الرجل بامرأته قبل أن يدفع لها شيئًا؛ لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه المتقدِّم، ولحديث خيثمة بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم -المتقدم، ولما أخرجه أبو داود من حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت: أمرني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أُدخل امرأةً على زوجها قبل أن يُعطيها شيئًا". والحديث، وإن كان في إسناده مقال، فالأحاديث المذكورة تشهد له، لكن الأولى أن لا يدخل بها حتى يعطيها شيئًا؛ لحديث عليّ رضي الله عنه المذكور في الباب، وبهذا يُجْمَعُ بين حديث الباب والأحاديث المذكورة.
(1)
"المحلّى" 9/ 488 - 490.
والحاصل أنه يُستحبّ له أن يدفع لها شيئًا، مما يطيّب به خاطرها، ويستجلب به محبّتها، ويستميل إليه به قلبها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3377 -
(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ عَلِيٌّ رضي الله عنه، فَاطِمَةَ رضي الله عنها، قَالَ: لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَعْطِهَا شَيْئًا» ، قَالَ: مَا عِنْدِي، قَالَ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ؟»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة. و"عبدة": هو ابن سليمان الكلابيّ الكوفيّ. و"سعيد": هو ابن أبي عروبة.
والحديث صحيح، سبق الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
77 - (الْبِنَاءُ فِي شَوَّالٍ)
3378 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَوَّالٍ، وَأُدْخِلْتُ عَلَيْهِ فِي شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَائِهِ كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي؟ ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.
و"سفيان"؛ هو الثوريّ.
والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم للمصنّف سندًا ومتنًا، في -18/ 3237 - "التزويج في شوّال"، رواه هناك عن عبيد اللَّه بن سعيد، عن يحيى القطّان، عن الثوريّ، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله، فلا حاجة إلى إعادته هنا، فمن أراد فليُراجعه هناك، ودلالته على الترجمة واضحة.
وقوله: "وأُدخلت" بالبناء للمفعول. وقوله: "أحظى" أفعل تفضيل من حَظِيَ، يقال: حَظِي عند الناس يَحظَى، من باب تَعِب حِظَةً، وزان عِدَةٍ، وحُظْوَةً بضم الحاء، وكسرها: إذا أحبّوه، ورفعوا منزلته، فهو حَظِيٌّ، على فَعِيلٍ، والمرأة حَظِيَةٌ: إذا كانت
عند زوجها كذلك. قاله الفيّوميّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
78 - (الْبِناءُ بِابْنَةِ تِسْعٍ)
3379 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا بِنْتُ سِتٍّ، وَدَخَلَ عَلَيَّ وَأَنَا بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، وَكُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح. غير شيخه محمد ابن آدم المصّيصيّ، فإنه من أفراده هو، وأبي داود، وهو ثقة. و"عبدةُ": هو ابن سليمان الكلابيّ. و"هشامٌ": هو ابن عروة.
وقولها: "وكنت ألعب بالبنات" قال في "النهاية": أي التماثيل التي يَلْعَب بها الصَّبَايا، وهذه اللفظة يجوز أن تكون من باب الباء والنون والتاء؛ لأنها جمع سلامة لبنت على ظاهر اللفظ انتهى
(1)
.
قال القاضي عياضٌ: فيه جواز اتخاذ اللُّعَب، وإباحة لَعِبِ الجواري بها، وقد جاء في الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ذلك، فلم ينكره، قالوا: وسببه تدريبهنّ بتربية الأولاد، وإصلاح شأنهنّ وبيوتهنّ. قال النوويّ: ويحتمل أن يكون مخصوصًا من أحاديث النهي عن اتخاذ الصور؛ لما ذكر من المصلحة. ويحتمل أن يكون هذا منهيًّا عنه، وكانت قضيّة عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذه، ولعبها في أول الهجرة، قبل تحريم الصور انتهى.
وقال السيوطيّ في "شرحه": ويحتمل أن يكون ذلك؛ لكونهنّ دون البلوغ، فلا تكليف عليهنّ، كما جاز للوليّ إلباس الصبيّ الحرير انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الأخير مما ذكره النوويّ هو الأرجح عندي؛ وحاصله أن قصّة عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - متقدّمة على أحاديث النهي، فجاء النهي بعدها، فَنُسخ الجواز، وقد تقدّم تحقيق القول في مسألة الصور في أوائل هذا
(1)
"النهاية" 1/ 158.
(2)
"زهر الربى" 6/ 131.
الشرح. واللَّه تعالى وليّ التوفيق.
وأما الاحتمال الذي ذكره السيوطيّ، ففيه نظرٌ لا يخفى، إذ جواز إلباس الصغير الحرير ليست مسألة مجمعًا عليها، فقد خالف الحنفيّة في ذلك، وهو الظاهر من أدلة الشرع، فقد نهى صلى الله عليه وسلم الحسن لما أراد أن يأكل من تمر الصدقة، وغير ذلك من الأدلة. واللَّه تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم أيضًا في 29/ 3256 - "إنكاح الرجل ابنته الصغيرة" رواه هناك عن إسحاق بن راهويه، عن أبي معاوية، عن هشام بن عروة، وتقدّم هناك تمام شرحه، وبيان مسائله، فلا حاجة إلى إعادتهما هنا، فمن أراد الاستفادة، فَلْيَرْجِع إليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3380 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَبَنَى بِهَا، وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، وأبو داود، وهو مصريّ ثقة.
و"عمّه": هو سعيد بن الحكم بن محمد الثقة الثبت الفقيه. و"يحيى بن أيوب":
هو الغافقيّ، أبو العباس المصريّ. و"عمارة بن غزيّة": هو الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ.
و"محمد بن إبراهيم": هو التيميّ المدنيّ.
وقوله: "وهي بنت ست سنين" فيه التفات، إذ الظاهر أن تقول:"وأنا بنت ست سنين"، كما في الرواية التي قبلها.
والحديث متفق عليه، كما سبق الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
79 - (الْبِنَاءُ فِي السَّفَرِ)
3381 -
(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، غَزَا خَيْبَرَ، فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا الْغَدَاةَ بِغَلَسٍ، فَرَكِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ، فَأَخَذَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ، وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنِّي لأَرَى بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ، قَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ، فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ» ، قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: وَخَرَجَ الْقَوْمُ إِلَى أَعْمَالِهِمْ، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَالْخَمِيسُ، وَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً، فَجَمَعَ السَّبْيَ، فَجَاءَ دِحْيَةُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنَ السَّبْي، قَالَ: «اذْهَبْ، فَخُذْ جَارِيَةً» ، فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُييٍّ، سَيِّدَةَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، مَا تَصْلُحُ إِلاَّ لَكَ، قَالَ: «ادْعُوهُ بِهَا» ، فَجَاءَ بِهَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خُذْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْي غَيْرَهَا» ، قَالَ: وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَعْتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا، فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، مَا أَصْدَقَهَا، قَالَ: نَفْسَهَا، أَعْتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا، قَالَ: حَتَّى إِذَا كَانَ بِالطَّرِيقِ، جَهَّزَتْهَا لَهُ أُمُّ سُلَيْمٍ، فَأَهْدَتْهَا إِلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَأَصْبَحَ عَرُوسًا، قَالَ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ، فَلْيَجِئْ بِهِ» ، قَالَ: وَبَسَطَ نِطَعًا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالأَقِطِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمْنِ، فَحَاسُوا حَيْسَةً، فَكَانَتْ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(زياد بن أيوب) البغداديّ، أبو هاشم الطوسي الأصل، يلقب دلويه، وكان يغضب منها، ولقبه أحمد شعبة الصغير، ثقة حافظ [10] 101/ 132.
2 -
(إسماعيل ابن علية) هو ابن إبراهيم بن مقسم، أبو بشر البصري، ثقة ثبت [8] 18/ 19.
3 -
(عبد العزيز بن صُهيب) البناني البصري، ثقة [4] 17/ 1643.
4 -
(أنس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (174) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين،
غير شيخه، فبغداديّ، طوسيّ الأصل. (ومنها): أن فيه أنسًا - رضي اللَّه تعالى عنه - أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة في البصرة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَنَسٍ) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، غَزَا خَيْبَرَ) بمعجمة، وتحتانيّة، وموحّدة، بوزن جعفر: مدينة كبيرة، ذات حُصُون ومزارع، على ثمانية بُرُد من المدينة إلى جهة الشام. وذكر أبو عبيدة البكريّ أنها سُمّيت باسم رجل من العماليق نزلها.
قال ابن إسحاق: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم في بقيّة المحرّم سنة سبع، فأقام يُحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها في صفر. وروى يونس بن بُكير في "المغازي" عن ابن إسحاق في حديث المسور ومروان قالا: انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -من الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح فيما بين مكة والمدينة، فأعطاه اللَّه فيها خيبر بقوله:{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} يعني خيبر، فقدِمَ المدينة في ذي الحجة، فأقام بها حتى سار إلى خيبر في المحرّم. وذكر موسى بن عُقبة في "المغازي" عن ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم "أقام بالمدينة عشرين ليلةً، أو نحوها، ثم خرج إلى خيبر. وعند ابن عائذ من حديث ابن عباس "أقام بعد الرجوع من الحديبية عشر ليال"، وفي مغازي سليمان التيميّ" أقام خمسة عشر يومًا".
وحكى ابن التين عن ابن حصار أنها كانت في آخر سنة ستّ، وهذا منقول عن مالك، وبه جزم ابن حزم.
قال الحافظ: وهذه الأقوال متقاربة، والراجح منها ما ذكره ابن إسحاق. ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ستّ بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي، وهو ربيع الأول. وأما ما ذكره الحاكم عن الواقديّ، وكذا ذكره ابن سعد أنها كانت في جمادى الأولى، فالذي رأيته في "مغازي الواقديّ" أنها كانت في صفر. وقيل: في ربيع الأول.
وأغرب من ذلك ما أخرجه ابن سعد، وابن أبي شيبة، من حديث أبي سعيد الخدريّ، قال: "خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان
…
" الحديث، وإسناده حسنٌ، إلا أنه خطأ، ولعلها كانت إلى حُنين، فتصحّفت، وتوجيهه بأن غزوة حنين كانت ناشئة عن غزوة الفتح، وغزوة الفتح خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها في رمضان جزمًا، واللَّه أعلم.
وذكر الشيخ أبو حامد في "التعليقة" أنها كانت سنة خمس، وهو وَهَمٌ، ولعله انتقال
من الخندق إلى خيبر.
وذكر ابن هشام أنه صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة نُمَلية -بنون مصغّرًا- ابن عبد اللَّه الليثيّ. وعند أحمد، والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سِبَاع بن عُرْفُطة، وهو أصحّ. قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَصَلَّيْنَا عِنْدَها الْغَدَاةَ) أي صلاة الصبح (بغَلَسٍ) بفتحتين: ظلمة آخر الليل. وفي رواية للبخاريّ من طريق حميد الطويل، عن أَنس رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلًا، وكان إذا أتى قومًا بليل، لم يقربهم حتى يُصبح
…
" الحديث. وفي رواية بلفظ: "إذا غزا لم يغزو بنا حتى يُصبح، وينظر، فإن سمع أذانًا كفّ عنهم، وإلا أغار، قال: فخرجنا إلى خيبر، فانتهينا إليهم ليلًا، فلما أصبح، ولم يسمع أذانًا ركب
…
". وحكى الواقديّ أن أهل خيبر سمعوا بقصده لهم، فكانوا يخرجون في كلّ يوم متسلّحين، مستعدّين، فلا يرون أحدًا، حتى إذا كانت الليلة التي قدِمَ فيها المسلمون ناموا، فلم تتحرّك لهم دابّةً، ولم يَصِحْ لهم ديك، وخرجوا بالمساحي، طالبين مزارعهم، فوجدوا المسلمين". قاله في "الفتح"
(2)
.
وذكر ابن إسحاق أنه نزل بوادٍ يقال له الرجيع، بينهم وبين غَطَفان؛ لئلا يُمِدُّوهم، وكانوا حُلفاءهم، قال: فبلغني أن غطفان تجهّزوا، وقصدوا خيبر، فسمعوا حسًّا خلفهم، فظنّوا أن المسلمين خلفوهم في ذراريّهم، فرجعوا، فأقاموا، وخذلوا أهل خيبر
(3)
.
(فَرَكِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي ركب مركوبه. وعن أنس رضي الله عنه، قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم قريظة، والنضير، على حمار، وبوم خيبر على حمار مخطوم بِرَسَن
(4)
ليف، وتحته إكاف من لِيف". رواه الترمذيّ، والبيهقيّ، وقال الترمذيّ: هو ضعيف. وقال ابن كثير: والذي ثبت في الصحيح عند البخاريّ، عن أنس رضي الله عنه: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجرى في زُقاق خيبر، حتى انحسر الإزار عن فخذه"، فالظاهر أنه كان يومئذ على فرس، لا على حمار، ولعلّ هذا الحديث إن كان صحيحًا، فهو محمول على أنه ركبه في بعض الأيام، وهو محاصرها. قاله العينيّ
(5)
.
(1)
راجع "الفتح" 8/ 238 - 239 "كتاب المغازي".
(2)
8/ 243.
(3)
"فتح" 8/ 243.
(4)
الرَّسَنُ بفتحتين: الحبل، والجمع أرسان. "مصباح".
(5)
راجع "عمدة القاري" 3/ 324.
(وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل الأنصاريّ، زوج أم سليم والدة أنس رضي الله عنهم (وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ) جملة اسمية في محلّ نصب على الحال من فاعل "ركب"(فأَخَذَ نَبِيُّ اللَّه صلى الله عليه وسلم) كذا هو في نسخ "المجتبى"، و"الكبرى" بلفظ:"فأخذ"، ومعناه صحيح، أي شرع صلى الله عليه وسلم يُجري مركوبه في زُقاق خيبر. ولفظ الشيخين:"فأجرى نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم"، من الإجراء (فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ) بضمّ الزاي، وبقافين، وهو السّكّة، يذكّر، ويؤنّث، والجمع أَزِقّة، وزُقّانٌ، بضمّ الزاي، وتشديد القاف، وبالنون. وفي "الصحاح": قال الأخفش: أهل الحجاز يؤنّثون الطريق، والصراط، والسبيل، والسوق، والزُّقَاق، وبنو تميم يذكّرون هذا كلّه، والجمع الزُّقّانُ والأزِقّةُ، مثلُ حُوَار، وحُوران، وأَحْوِرة انتهى
(1)
.
(وَإنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ) بفتح الميم، وضمّها، يقال: مَسِسته، من باب تَعِبَ، وفي لغة مَسَسْتُهُ مَسًّا، من باب قَتَلَ: إذا أفضيت إليه من غير حائل. أفاده في "المصباح"(فَخِذَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) استدلّ به من قال: إن الفخذ ليست بعورة، وتقدّم تحقيق ذلك في "كتاب الصلاة".
(وَإِنِّي لَأَرَى بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا دَخَلَ القَرْيَةَ، قالَ: "اللَّهُ أكبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ) زاد في رواية للبخاري: فرفع يديه، وقال:"اللَّه أكبر خربت خيبر". قال السهيليّ: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى آلات الهدم، مع أن لفظ الْمِسْحات من سَحَوتُ: إذا قشرتَ أخذ منه أن مدينتهم يتخرب انتهى. ويحتمل أن يكون قال: "خربت خيبر" بطريق الوحي، ويؤيّده قوله بعد ذلك:"إنا إذا نزلنا الخ". قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال العينيّ: قوله: "خربت خيبر" أي صارت خَرَابًا. وهل ذلك على سبيل الخبرية، فيكون ذلك من باب الإخبار بالغيب، أو يكون ذلك على جهة الدعاء عليهم، أو على جهة التفاؤل لَمّا رآهم خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، وذلك من آلات الحراث. ويجوز أن يكون أخذًا من اسمها. وقيل: إن اللَّه أعلمه بذلك انتهى
(3)
.
(إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ) قال الجوهريّ: ساحة الدار: ناحيتها، والجمع ساحات وسُوح، وساحٌ أَيضًا، مثل بَدَنة وبُدْن، وخَشَبَة وخَشَب. وأصل الساحة الفضاء بين المنازل، وُيطلق على الناحية، والجهة، والبناء انتهى. وقال الفيّوميّ: ساحة الدار: الموضع المتّسع أمامها، والجمع ساحات، وساحٌ، مثلُ ساعة وساعات، وساعٍ انتهى.
(1)
راجع "عمدة القاري" 3/ 324.
(2)
8/ 244.
(3)
"عمدة القاري" 3/ 325.
(فَسَاءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ"، قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ) أنس رضي الله عنه (وَخَرَجَ الْقَوْمُ) أي اليهود من بيوتهم، متوجّهين (إِلَى أَعْمَالِهِمْ)، أو "إلى" بمعنى اللام، أي خرجوا لأجل أعمالهم التي كانوا يعملونها؛ فإنهم كانوا أصحاب زرع (قالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ) بن صُهيب الراوي عن أنس رضي الله عنه (فَقَالُوا) أي القوم الذين خرجوا إلى أعمالهم لَمّا رأوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه قد حلّوا بساحتهم (مُحَمَّدٌ) أي جاء محمد، فارتفاعه على أنه فاعل لفعل محذوف. ويجوز أن يكون خبر مبتدإ محذوف: أي هذا محمد (قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ) بن صهيب (وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا) أشار بهذا إلى أنه لم يسمع هذه اللفظة من أنس، وإنما سمعه من بعض أصحابه عنه، ففيه رواية عن مجهول. والحاصل أن عبد العزيز قال: سمعت من أنس قوله: قالوا: "محمد" فقط، وسمع من بعض أصحابه قولهم:"محمد والخميس".
قال الحافظ: يحتمل أن يكون بعض أصحابه محمد بن سيرين، فقد أخرجه البخاريّ من طريقه. أو ثابتًا البُنَانيّ، فقد أخرجه مسلم من طريقه انتهى
(1)
(والْخَمِيسُ) بفتح الخاء المعجمة-: الجيش، وسُمّي خميسًا؛ لأنه خمسة أقسام: مقدّمة، وساقةٌ، وقَلْبٌ، وجناحان. ويقال: مَيمنة، وميسرةٌ، وقلبٌ، وجناحان. وقال ابن سِيدَهْ: لأنه يخمس ما وجده. وتعقّبه الأزهريّ بأن التخميس إنما ثبت بالشرع، وقد كان أهل الجاهليّة يسمّون الجيش خميسًا، ولم يكونوا يعرفون الخمس، فبان أن التسمية الأولى هي الأولى
(2)
.
وقال في "اللسان": و"الخميس": الجيش. وقيل: الجيش الْجَرّار. وقيل: الجيشُ الْخَشِنُ. وقال في "المحكم": الجيش يَخْمِسُ ما وجَدَه، وسمّي بذلك؛ لأنهم خمسُ فِرَق: المقدّمة، والقلب، والميمنة، والميسرة، والساقة، ألا ترى إلى قول الشاعر:
قَدْ يَضْرِبُ الْجَيْشَ الْخَمِيسَ الأَزْوَرَا
فجعله صفة انتهى
(3)
.
ثم ارتفاع "الخميس" بكونه عطفًا على "محمد"، ويحتمل نصبه على أنه مفعولٌ معه، والواو فيه بمعنى "مع"، أي جاء محمد مع الجيش، كما قال في "الخلاصة":
يُنْصَبُ تالِي الْواوِ مَفْعُولًا مَعَهُ
…
فِي نَحوِ "سِيرِي والطَّرِيقَ مُسْرِعَه"
بِمَا مِنَ الْفِعلِ وَشِبْهِهِ سَبَقْ
…
ذَا النَّصْبُ لَا بِالْوَاوِ فِي الْقَوْلِ الأَحَقُّ
(وَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً) -بفتح العين المهملة، وسكون النون -أي قَهْرًا وغَلَبَة، وقيل: أخذه
(1)
"فتح" 2/ 33. "كتاب الصلاة".
(2)
راجع "الفتح" 2/ 33 و"عمدة القاري" 3/ 325.
(3)
"لسان العرب" 6/ 70. مادة خمس.
عنوةً: أي عن طاعة، وصُلح. قال ابن الأثير: هو من عنا يعنو: إذا ذلّ وخَضَعَ، والعَنْوَةُ: المرّة الواحدة منه، كأن المأخوذ بها يَخْضَعُ ويَذِلُّ
(1)
. وأُخِذت البلاد عَنوَةً بالقهر والإذلال.
وقال ابن الأعرابي: عنا يَعنُو: إذا أخذ الشيء قهرًا، وعنا يَعنُو عَنْوةً فيهما: إذا أخذ الشيء صُلحًا بإكرام ورِفْقٍ. والْعَنْوةُ أيضًا المودّةُ. وقال الأزهري: قولهم: أخذتُ الشيءَ عَنْوةً يكون غلبةً، ويكون عن تسليم وطاعةٍ ممن يُؤخذ منه الشيءُ، وأنشد الفراء لِكُثَيِّر [من الطويل]:
فَمَا أَخَذُوهَا عَنْوَةً عَنْ مَوَدَّةٍ
…
وَلَكِنَّ ضَرْبَ الْمَشْرَفِيِّ اسْتَقالَهَا
فَهذا على معنى التسليم والطاعة بلا قتال. ذكره ابن منظور
(2)
.
وقال في "الفتح": وقد اختُلف في فتح خيبر، هل كان عنوةً، أو صلحًا، وفي حديث عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس رضي الله عنه التصريح بأنه كان عَنوةً، وبه جزم ابن عبد البرّ، وردّ على من قال فُتحت صلحًا، قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال: فُتحت صُلحًا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لحَقْن دمائهم، وهو ضربٌ من الصلح، لكن لم يقع ذلك إلا بحصار، وقتال. انتهى.
قال الحافظ: والذي يظهر أن الشبهة في ذلك قول ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر، فغلب على النخل، وألجأهم إلى القصر، فصالحوه على أن يجلوا منها، وله الصفراء، والبيضاء، والحلقة، ولهم ما حملت ركابهم، على أن لا يكتموا، ولا يُغيّبوا
…
" الحديث، وفي آخره: "فسبَى نساءهم، وذراريّهم، وقسم أموالهم؛ للنكث الذي نكثوا، وأراد أن يُجليهم، فقالوا: دَعْنَا في هذه الأرض نُصلحها
…
" الحديث. أخرجه أبو داود، والبيهقيّ، وغيرهما. وكذلك أخرجه أبو الأسود في "المغازي" عن عروة. فعلى هذا كان قد وقع الصلح، ثم حدث النقض منهم، فزال أثر الصلح، ثمّ منّ عليهم بترك القتل، وإبقائهم عُمّالًا بالأرض، ليس لهم فيها ملكٌ، ولذلك أجلاهم عمر رضي الله عنه، فلو كانوا صُولحوا على أرضهم لم يُجْلَوا منها. واللَّه أعلم.
قال: وقد احتجّ الطحاويّ على أن بعضها فُتح صلحًا بما أخرجه هو وأبو داود من طريق بُشَير بن يسار: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا قسم خيبر، عزل نصفها لنوائبه، وقسم نصفها
(1)
"النهاية" 3/ 315.
(2)
"لسان العرب" 15/ 101 مادّة عنا.
بين المسلمين"، وهو حديث اختُلف في وصله وإرساله، وهو ظاهر في أن بعضها فُتح صُلحًا. واللَّه أعلم انتهى ما في "الفتح"، بتصرّف يسير
(1)
.
وقال ابن المنذر: اختلفوا في فتح خيبر، كانت عنوة، أو صلحًا، أو جلاء أهلها عنها بغير قتال، أو بعضها صلحًا، وبعضها عنوةً، وبعضها جلاء أهلها عنها. قال: وهذا هو الصحيح، وبهذا أيضًا يندفع التضادّ بين الآثار. ذكره العينيّ
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- من أن بعضها فتح قهرًا، وبعضها فتح صلحًا، وبعضها أجلي أهلها عنها هو الحقّ؛ جمعًا بين الأحاديث، وأما ردّ ابن عبد البرّ بأن أنسًا صرّح بأن خيبر فُتحت عنوةً، فلا وجه له؛ لأن "العنوة" -كما تقدّم في كلام أهل اللغة- تُطلق على القهر والغلبة، وعلى الصلح، من الأضداد، فلا دلالة لها على ما قاله، بل الحقّ أن الآثار المختلفة في هذا الباب تدلّ دلالةً واضحة فيما صححه ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم.
(فَجَمَعَ السَّبْيَ) -بفتح، فسكون-: هو في الأصل مصدر، وُصف به، أي القوم الْمَسبِيِّين. قال الفيّوميّ: سَبَيتُ العدوّ سَبْيًا، من باب رمى، والاسم السِّبَاء، وزان كتاب، والقصر لغةٌ، وأسبيتهُ مثله، فالغلام سَبِيٌّ، ومَسْبيٌّ، والجارية سَبِيّةٌ، ومَسْبيّةٌ، وجمعها سَبَايا، مثلُ عطيّة وعطايا، وقَومٌ سَبْيٌ، وَصْفٌ بالمصدر. قال الأصمعيّ: لا يقال للقوم: إلا كذلك. انتهى
(3)
.
(فَجاءَ دِحْيَةُ) -بكسر الدال المهملة، وفتحها- ابن خليفة بن فَرْوة بن فَضالة بن امرئ القيس الكلبيّ، وكان أجمل الناس وجهًا، وكان جبريل عليه السلام يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورته. قال ابن سعد: أسلم قديمًا، ولم يشهد بدرًا، وشَهِد المشاهد، وبقي إلى خلافة معاوية، وكان رسول النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، قال الواقديّ: لقيه بحمص في المحرّم سنة سبع. وقال بعضهم سكن دمشق، وكان منزله بقرية الْمِزَّة. ومات في خلافة معاوية - رضي اللَّه تعالى عنهما -.
(فَقالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَعطِنِي جَارِيةً مِنَ السَّبْي، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (اذْهَبْ، فَخُذْ جَارِيَةً) قال الكرمانيّ: [فإن قلت]: كيف جاز للرسول صلى الله عليه وسلم إعطاؤها لدحية قبل القسمة؟ [قلت]: صَفِيُّ المغنم لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فله أن يُعطيه لمن شاء صلى الله عليه وسلم. قال العينيّ: هذا غير مقنع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال له ذلك قبل أن يعيّن الصفيّ، وههنا أجوبة جيّدة:
(1)
"فتح" 8/ 255 - 256 "كتاب المغازي".
(2)
"عمدة القاري" 3/ 326.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 265. مادّة سبى.
[الأول]: يجوز أن يكون أذن له في أخذ الجارية على سبيل التنفيل له، إما من أصل
الغنيمة، أو من خمس الخمس، سواء كان قبل التمييز، أو بعده.
[الثاني]: يجوز أن يكون أذن له على أنه يحسب من الخمس إذا ميز.
[الثالث]: يجوز أن يكون أذن له ليقوم عليه بعد ذلك، ويُحسب من سهمه انتهى
(1)
. (فأَخَذَ صَفِيَّةَ) -بفتح الصاد المهملة (بِنْتَ حُيَيِّ) بضمّ الحاء المهملة، وكسرها، وفتح الياء الأولى المخفّفة، وتشديد الثانية- ابن أخطب بن سَعْيَةَ -بفتح السين، وسكون العين المهملتين، وفتح الياء التحتانيّة- ابن سفلة بن ثعلبة، وهي من بنات هارون بن عمران عليه السلام، وأمها برّة بنت سَمَوأل
(2)
وكانت تحت سَلّام بن مشكم القرظيّ، ثم فارقها، فتزوجها كنانة بن الربيع بن أبي الْحُقيق-بضمّ المهملة، وفتح القاف الأولى- النَّضِيريّ، فقتل عنها يوم خيبر
(3)
.
قال الواقديّ: ماتت في خلافة معاوية رضي الله عنه سنة خمسين. وقال غيره: ماتت في خلافة عليّ رضي الله عنه سنة ستّ وثلاثين، ودُفنت بالبقيع. (فَجَاءَ رَجُلٌ) لم يعرف اسمه (إِلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقالَ: يَا نَبِي اللَّهِ، أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ، سَيِّدَةَ قُرَيْظَةَ) -بضم القاف، وفتح الراء، مصغّرًا (والنَّضِيرِ) بفتح النون، وكسر الضاد- قبيلتان عظيمتان من يهود خيبر، وقد دخلوا في العرب على نسبهم إلى هارون عليه السلام (ما تَصْلُحُ) -بفتح اللام، وضمّها، يقال: صَلَحَ الشيءُ صُلُوحًا، من باب قَعَدَ، وصلاحًا أيضًا، وصَلُحَ بالضمّ لغةٌ، وهو خلاف فسَدَ، وصَلَحَ يَصلَح، بالفتح فيهما، من باب نفع لغة ثالثة. أفاده الفيّوميّ (إِلَّا لَكَ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (ادْعُوهُ بِهَا) أي ادعو دحية مع صفيّة، فالباء بمعنى "مع"، أو المعنى ادعوه يأتي بها، ويؤيّده قوله (فَجَاءَ بِهَا) معطوف على محذوف، أي فدُعي، فجاء بصفيّة (فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"خُذْ جارَيةً مِنَ السَّبْي غَيْرَها") أي غير صفيّة - رضي اللَّه تعالى عنها -. قال الكرمانيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: [فإن قلت]: لَمّا وهبها لدحية، فكيف رجع عنها؟ [قلت]: إما لأنه لم يتمّ عقد الهبة بعدُ، وإما لأنه أبو المؤمنين، وللوالد أن يرجع عن هبته للولد، وإما لأنه اشتراها منه انتهى.
قال العينيّ -رحمه اللَّه تعالى-: أجاب الكرمانيّ بثلاثة أجوبة: الأول فيه نظر؛ لأنه لم يجر عقد هبته حتى يقال: إنه رجع عنها، وإنما أعطاها إياه بوجه من الوجوه التي
(1)
"عمدة القاري" 3/ 326.
(2)
وفي "الفتح""شوال" بالمعجمة.
(3)
"فتح" 8/ 245 "المغازي".
ذكرناها عن قريب. الثاني فيه نظرٌ أيضًا؛ لأنه لا يمشي ما ذكره في مذهب غيره.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مذهبه هو الصحيح في مسألة جواز رجوع الوالد فيما وهبه لولده؛ لصحة الأحاديث بذلك، كما سيأتي في محلّه إن شاء اللَّه تعالى.
قال: الثالث ذكر أنه اشتراها منه، أي من دحية، ولم يجر بينهما عقد بيع أوّلًا، فكيف اشتراها منه بعد ذلك.
[فإن قلت]: وقع في رواية مسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اشترى صفيّة منه بسبعة أرؤس. [قلت]: إطلاق الشراء على ذلك على سبيل المجاز؛ لأنه لما أخذها منه على الوجه الذي نذكره الآن، وعوّضه عنها بسبعة أرؤس على سبيل التكرّم والفضل أطلق الراوي الشراء عليه لوجود معنى المبادلة فيه.
وأما وجه الأخذ فهو أنه لما قيل له: إنها لا تصلح له من حيث إنها من بيت النبوّة، فإنها من ولد هارون أخي موسى - عليهما الصلاة والسلام -، ومن بيت الرياسة، فإنها من بيت سيّد قُريظة والنضير، مع ما كانت عليه من الجمال الباعث على كثرة النكاح المؤدّية إلى كثرة النسل، وإلى جمال الولد، لا للشهوة النفسانيّة، فإنه صلى الله عليه وسلم معصومٌ منها.
وعن المازريّ: يُحمل ما جرى مع دحية على وجهين: أحدهما: أن يكون ردّ الجارية برضاه، وأذن له في غيرها. الثاني: أنه إنما أذن له في جارية من حشو السبي، لا في أخذ أفضلهنّ، ولَمّا رأى أنه أخذ أَنْفَسَهنّ، وأجودهنّ نسبًا وشرفًا وجمالًا استرجعها؛ لئلّا يتميّز دحية بها على باقي الجيش، مع أن فيهم من هو أفضل منه، فقطع هذه المفاسد، وعوّضه عنها. وفي سيرة الواقديّ: أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه أخت كنانة بن الربيع ابن أبي الحُقَيق، وكان كنانة زوج صفيّة، فكأنه صلى الله عليه وسلم طيب خاطره لما استرجع منه صفيّة بأن أعطاه أخت زوجها. وقال القاضي عياضٌ: الأولى عندي أن صفيّة كانت فيئًا؛ لأنها كانت زوجة كنانة بن الربيع، وهو وأهله من بني الحقيق، كانوا صالحوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وشَرَط عليهم أن لا يكتموا كنزًا، فإن كتموه، فلا ذمّة لهم، وسألهم عن كنز حييّ ابن أخطب، فكتموه، فقالوا: أذهبته النفقات، ثم عثر عليه عندهم، فانتقض عهدهم، فسباهم، وصفيّة من سبيهم، فهي فيء، لا يُخمس، بل يفعل فيه الإمام ما رأى.
قال العينيّ: هذا يتفرّع على مذهبه أن الفيء لا يُخمس، ومذهب غيره أنه يخمس. انتهى
(1)
.
وقال أبو العباس القرطبيّ -بعد ذكر نحو ما تقدّم-: وحَذَارِ من أن يَظُنّ جاهل
(1)
راجع "عمدة القاري" 3/ 326 - 327.
برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن الذي حمله على ذلك غلبة الشهوة النفسانيّة، وإيثار اللذّة الجسمانيّة، فإن ذلك اعتقادٌ يجرّه جهل بحال النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبأنه معصوم من مثل ذلك، إذ قد أعانه اللَّه تعالى على شيطانه، فأسلم، فلا يأمره إلا بخير، وقد نزع اللَّه من قلبه حظّ الشيطان، حيث شقّ قلبه، فأخرجه منه، وطهّره، وملأه حكمة وإيمانًا، وإنما الباعث له على اختيار ما اختاره من أزواجه ما ذكرتُ لك، وما في معناه. انتهى
(1)
.
(قالَ: وإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَعْتَقَهَا) أي فأعتق النبيّ صلى الله عليه وسلم صفيّة - رضي اللَّه تعالى عنها - (وَتَزَوّجَها، فَقَالَ لَهُ ثابِتٌ) أي البنانيّ الراوي عن أنس رضي الله عنه (يَا أَبَا حَمْزَةَ) كنية أنس رضي الله عنه (مَا أَصْدَقَهَا)"ما" استفهاميّة، أي أيَّ شيء أعطاها مهرًا في زواجها (قالَ:) أنس رضي الله عنه (نَفْسَها) بالنصب مفعولًا لفعل مقدّر دلّ عليه السؤال: أي أصدقها نفسها (أَعْتَقَها) جملة في محلّ نصب على الحال (وَتَزَوَّجَها، قَالَ) أنسٌ رضي الله عنه (حَتَّى إِذَا كَانَ بِالطَّرِيقِ) وفي رواية في "الصحيح": "فخرج بها حتى إذا بلغ سدّ الرَّوْحاء" و"السدّ" بفتح السين وضمّها، وهو جبل الرَّوحاء، وهي قرية جامعة من عمل الْفُرْع لمزينة، على نحو أربعين ميلًا من المدينة، أو نحوها. و"الرَّوحاء" بفتح الراء، والحاء المهملة ممدود. وفي رواية:"أقام عليها بطريق خيبر ثلاثة أيام حين أعرس بها، وكانت فيمن ضرب عليها الحجاب". وفي رواية: "أقام بين خيبر والمدينة ثلاثة أيام، فبنى بصفيّة"(جَهَّرَتْهَا لَهُ أُمُّ سُلَيْمٍ) أي هيّئتها، وأصلحتها لأجل النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأم سليم بنت مِلْحان هي والدة أنس - رضي اللَّه تعالى عنهما - (فأَهْدَتْهَا إِلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ) أي زَفّت أم سليم صفيّة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. وفي رواية "فهدتها له"، قيل: هو الصواب.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بل الصواب جواز الوجهين، فقد قال الفيّوميّ: وهَدَيتُ الْعَرُوس إلى بَعْلها هِداءً بالكسر والمدّ، فهي هَدِيٌّ، وهَدِيّةٌ، ويُبْنَى للمفعول، فيقال: هُدِيَتْ فهي مَهْديّةٌ، وأهديتها بالألف لغة قيس عَيْلَانَ فهي مُهْدَاةٌ انتهى
(2)
.
(فَأَصْبَحَ عَرُوسًا) -بفتح العين المهملة، على وزن فَعُول- يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في إعراسهما، يقال: رجل عَرُوس، وامرأةٌ عَرُوس، وجمع الرجل عُرُسٌ، والمرأة عَرَائس، وفي المَثَل: كاد العَرُوس أن يكون مَلِكًا. وقول العامّة: العَرُوس للمرأة، والْعَرِيس للرجل ليس له أصل. قاله العينيّ
(3)
.
(قالَ) صلى الله عليه وسلم (مَنْ كانَ عِنْدَهُ شَيءٌ، فَليَجِئْ بِهِ) كذا في رواية البخاريّ، قال النوويّ:
(1)
"المفهم" 4/ 140.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 636.
(3)
"عمدة القاري" 3/ 327.
وهو رواية، وفي بعضها:"فليجئني به" بنون الوقاية (قَالَ: وَبَسَطَ) بفتح السين المهملة، من باب نصر (نِطَعًا) قال الفيّوميّ: "النَّطْعُ: المتخذ من الأديم معروفٌ، وفيه أربع لغات: فتح النون، وكسرها، ومع كلّ واحد فتح الطاء، وسكونها، والجمعُ أَنْطَاعٌ، ونُطُوعٌ انتهى.
وقال السيوطيّ في "شرحه": فيه أربع لغات مشهورات: فتح النون، وكسرها، مع فتح الطاء، وإسكانها، أفصحهنّ كسر النون، وفتح الطاء.
(فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالأَقِطِ) قال الأزهريّ: "الأقط": ما يُتَّخذُ من اللبن الْمَخِيض يُطْبَخ، ثمّ يُتْرَك حتى يَمْصُل
(1)
، وهو -بفتح الهمزة، وكسر القاف، وقد يُسَكَّنُ القاف للتخفيف، مع فتح الهمزة، وكسرها، مثلَ تخفيف كَبِدٍ. قاله الصغانيّ عن الفرّاء انتهى (وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالَسَّمْنِ، فَحاسُوا حَيْسَة) أي خلطوا بين كلّها، وجعلوه طعاما واحدًا.
و"الْحَيْسُ" -بفتح الحاء المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره سين مهملة-: هو تمرٌ يُخلَط بسمن وأقط، يقال: حاس الحيس يَحِيسه: أي يخلطه. وقال ابن سيده: الْحَيْسُ هو الأَقِطُ يُخلَط بالسمن والتمر، وحاس حَيْسًا وحَيْسَةً: خَلَطَه، قال الشاعر [من الكامل]:
وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا
…
وَإِذَا يُحاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدَبُ
قال الجوهريّ: الحَيْسُ: الخَلْطُ، ومنه سُمّي الحيس، وفي "المخصّص" قال الشاعر:
التَّمْرُ والسَّمْنُ جَميعًا والأَقِط
…
الْحَيْسُ إِلَّا أنَّهُ لَمْ يَخْتَلِطْ
وفي الغريبين: هو ثريد من أخلاط. قال الفارسيّ في "مجمع الغرائب": اللَّه أعلم
بصحته
(2)
.
(فَكَانَتْ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) اسم "كانت" الضمير الذي فيه يرجع إلى الأشياء الثلاثة التي اتّخذ منها الحيس، و"وليمةَ" بالنصب خبرها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، ونعم الوكيل.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى)؛ في درجته:
حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.
(1)
في "المصباح": "الْمَصْلُ" مثالُ فَلْس: عُصارة الأَقِطِ، وهو ماؤه الذي يُعصَر منه حين يُطبخ. اهـ.
(2)
"عمدة القاري" 3/ 327.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-79/ 3381 و 3382 و 3383 وفي "الطهارة" 55/ 69 و"الصيد والذبائح" 31/ 4341 - و"الكبرى" 94/ 5576 و 5577 و 45/ 64. وأخرجه (خ) في "الجهاد" 2991 و"المغازي" 4198 و 4199 و"الذبائح والصيد" 25528 (م) في "الذبائح والصيد" 1940 (ق) في "الذبائح" 3196 (أحمد) في "مسند المكثرين" 1676 و 11730 و 11807 و 12260 (الدارمي) في "الأضاحيّ" 1991. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعيّة البناء في السفر. (ومنها): جواز إطلاق صلاة الغداة على صلاة الصبح؛ خلافًا لمن كره ذلك. (ومنها): جواز الإرداف، إذا كانت الدّابّة مُطيقةً، وقد ورد فيه غير حديث. (ومنها): استحباب التكبير والذكر عند الحرب، وهو موافقٌ لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} الآية [الأنفال: 45]. (ومنها): استحباب التثليث في التكبير؛ لقوله: "قالها ثلاثًا". (ومنها): أن فيه دلالةً على أن الفخذ ليس بعورة، وقد تقدّمت مباحثه في "كتاب الصلاة". (ومنها): مشروعيّة إجراء الخيل، وأنه لا يُخلّ بمراتب الكبار، لا سيّما عند الحاجة، أو لرياضة الدّابة، أو لتدريب النفس على القتال. (ومنها): استحباب عتق الأمة، وتزوّجها، وقد تقدّمت مباحثه مستوفاة في -65/ 3345 - باب "عتق الرجل جاريته، ثم يتزوّجها". (ومنها): مشروعيّة زفاف العروس ليلا. (ومنها): أن فيه مطلوبية وليمة العرس، وكونها بعد الدخول، وقدم البحث عنه قريبًا. (ومنها): أن فيه إدلال الكبير على أصحابه، وطلب الطعام منهم في نحو هذا. (ومنها): أنه يستحبّ لأصحاب الزوج، وجيرانه مساعدته في الوليمة بما يتيسّر لهم من الطعام وغيره. (ومنها): أن الوليمة تكون بما تيسّر، ولا يُشترط كونها شاة، بل ذلك لمن تيسّر له. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3382 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا، يَقُولُ: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَقَامَ عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، بِطَرِيقِ خَيْبَرَ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، حِينَ عَرَّسَ بِهَا، ثُمَّ كَانَتْ فِيمَنْ ضُرِبَ عَلَيْهَا الْحِجَابُ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن نصر" الفرّاء النيسابوريّ، ثقة [11] 8/ 3224 من أفراد المصنّف، والباقون كلهم رجال الصحيح. و"أيوب بن سليمان": هو
ولد سليمان بن بلال شيخ أبي بكر في هذا السند، ثقة [9] 30/ 558. و"أبو بكر بن أبي أويس": هو عبد الحميد بن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أُويس الأصبحيّ المدنيّ، ثقة [9] 30/ 558. "وسليمان بن بلال": هو القرشيّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقة [8] 30/ 558. و"يحيى": هو ابن سعيد الأنصاريّ المدنيّ الثقة الفقيه. و"حميد": هو ابن أبي حميد الطويل البصريّ الثقة العابد.
وقوله: "أقام على صفيّة بنت حُيي الخ" وفي رواية البخاريّ: " أقام على صفيّة بنت
حيي بطريق خيبر ثلاثة أيام حتى أعرس بها".
قال في "الفتح": المراد أنه أقام في المنزلة التي أعرس فيها ثلاثة أيام، لا أنه سار ثلاثة أيام، ثم أعرس؛ لأن في حديث سُويد بن النعمان المذكور في أول غزوة خيبر أن الصهباء قريبة من خيبر، وبيّنَ ابن سعد في حديثٍ ذَكَرَهُ في ترجمتها أن الموضع الذي بني بها فيه بينه وبين خيبر ستة أميال. وقد ذكر في الطريق التي قبل هذه أنه صلى الله عليه وسلم أعرس بصفية بسدّ الصهباء، وهو يبيّن المراد من قوله:"بطريق خيبر"، وكذا قوله في الطريق الثالثة:"أقام بين خَيْبَرَ والمدينة ثلاث ليال"، ولا مغايرة بينه وبين قوله في التي قبلها ثلاثة أيام لأنه يبيّن أنها ثلاثة أيام بليالها انتهى
(1)
.
وقوله: "حين عرّس بها" هكذا نسخ "المجتبى"، و"الكبرى""عرّس" من التعريس، والمشهور في كتب اللغة:" أعرس بالمرأة" بالألف: إذا دخل بها، و"عرّس بالمكان" - بالتشديد-: إذا نزل به آخر الليل.
قال الفيّوميّ: وأعرس بامرأته بالألف: دخل بها، وأعرس: عَمِلَ عُرْسًا، وأما عَرَّسَ بامرأته بالتثقيل على معنى الدخول، فقالوا: هو خطأٌ، وإنما يقال: عَرَّسَ: إذا نزل المسافر؛ ليستريح نَزْلةً، ثم يرتحل، قال أبو زيد، وقالوا: عَرَّسَ القوم في المنزل تعريسًا: إذا نزلوا أيَّ وقت كان من ليل، أو نهار، فالإعراس دخول الرجل بامرأته، والتعريس نُزول المسافر ليستريح انتهى
(2)
.
وقوله: "صفيّة بنت حُيَيّ" قال النوويّ: والصحيح أن هذا كان اسمها قبل السبي.
وكان اسمها زينب، فسمّيت بعد السبي، والاصطفاء صفيّة. وحُييّ بضمّ الحاء، وكسرها.
والحديث متْفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(1)
"فتح" 259 - 260 "كتاب المغازي".
(2)
"المصباح المنير".
3383 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثًا، يَبْنِي
(1)
بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُييٍّ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ، وَلَا لَحْمٍ، أَمَرَ بِالأَنْطَاعِ، وَأَلْقَى عَلَيْهَا مِنَ التَّمْرِ، وَالأَقِطِ، وَالسَّمْنِ، فَكَانَتْ وَلِيِمَتَهُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَقَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّأَ لَهَا خَلْفَهُ، وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسماعيل": هو ابن أبي كثير المدنيّ. والإسناد من رباعيات المصنّف، وهو (175) من رباعيات الكتاب.
وقوله: "إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين الخ" قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: استدلّت به المالكيّة، ومن وافقهم على أنه يصحّ النكاح بغير شهود، إذا أُعلن؛ لأنه لو أشهد لم يخف عليهم. وهذا مذهب جماعة من الصحابة، والتابعين، وهو مذهب الزهريّ، ومالك، وأهل المدينة، شرطوا الإعلان، دون الشهادة. وقال جماعة من الصحابة، ومن بعدهم: تشرط الشهادة، دون الإعلان، وهو مذهب الأوزاعيّ، والثوريّ، والشافعيّ، وأبي حنيفة، وأحمد، وغيرهم، وكلّ هؤلاء يشترطون شهادة عدلين، إلا أبا حنيفة، فقال: ينعقد بشهادة فاسقين، وأجمعت الأمة على أنه لو عقد سرًّا، بغير شهود لم ينعقد، وإما إذا عقد سرًّا بشهادة عدلين، فهو صحيح عند الجماهير. وقال مالك: لا يصحّ. واللَّه أعلم انتهى كلام النوويّ
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد سبق تحقيق القول في المسألة، وأن الصحيح قول من قال بوجوب الإعلان؛ لصحّة الأدلّة على ذلك. واللَّه تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وسبق الكلام عليه قريبًا واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
(1)
وفي نسخة: "بنى".
(2)
"شرح النووي على صحيح مسلم" 9/ 228 - 229.
80 - (اللَّهْوُ وَالْغِناءُ عِنْدَ الْعُرْسِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "اللَّهو": معروف، يقول أهل نَجْد: لَهَوتُ عنه أَلهُو لُهِيًّا، والأصل على فُعُولٍ، من باب قَعَدَ، وأهل العالية: لَهِيتُ عنه أَلْهَى، من باب تَعِبَ، ومعناه السُّلوان والتَّركُ، ولَهَوْتُ به لَهْوًا، من باب قَتَلَ: أُولِعْتُ به، وتلهّيتُ به أيضًا. قال الطُّرطُوشيُّ، وأصل اللَّهو: الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة. قاله الفيّوميّ.
و"الغِنَاء": بكسر المعجمة، وزان كتاب: الصوت، وقياسه الضمّ؛ لأنه صوت.
قاله الفيّوميّ أيضًا. وقال في "اللسان": "الغِناء، من الصوت: ما طُرِّب به، قال حُميد ابن ثور [من الطويل]:
عَجِبْتُ لَهَا أَنَّى يَكُونُ غِنَاؤُها
…
فَصِيحًا وَلَمْ تَفْغَرْ بِمَنْطِقِهَا فَمَا
(1)
و"العُرْسُ" -بضمّ، فسكون، أو بضمّتين-: مِهْنَةُ الإملاك، والبناء. وقيل: طعامه خاصّةٌ، أُنثى، تؤنّثها العرب، وقد تُذَكَّرُ، قال الراجز:
إِنَّا وَجَدْنَا عُرُسَ الْحَنَّاطِ لَئِيمَةً مَذْمُومَةَ الْحُوَّاطِ
نُدْعَى مَعَ النَّسَّاج وَالْخَيَّاطِ
وتصغيرها بغير هاء، وهو نادرٌ؛ لأن حقّه الهاء، إذ هَو مؤنّثٌ على ثلاثة أحرف. قاله في "اللسان"
(2)
. واللَّه تعال أعلم بالصواب.
3384 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ، فِي عُرْسٍ، وَإِذَا جَوَارٍ يُغَنِّينَ، فَقُلْتُ: أَنْتُمَا صَاحِبَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، يُفْعَلُ هَذَا عِنْدَكُمْ، فَقَالَا: اجْلِسْ إِنْ شِئْتَ، فَاسْمَعْ مَعَنَا، وَإِنْ شِئْتَ اذْهَبْ، قَدْ رُخِّصَ لَنَا فِي اللَّهْوِ عِنْدَ الْعُرْسِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عليّ بن حُجر) السّعْديّ المروزيّ، ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 13.
2 -
(شريك) بن عبد اللَّه النخعيّ القاضي بالواسطة، ثم الكوفة، أبو عبد اللَّه الكوفي، صدوق يخطئ كثيرًا، تغيّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلا فاضلًا عابدًا شديدًا على أهل البدع [8] 25/ 29.
(1)
"لسان العرب" 15/ 139.
(2)
"لسان العرب" 6/ 134.
3 -
(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه بن السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد، اختلط بآخره [3] 38/ 42.
4 -
(عامر بن سعد) البجليّ، مقبول [3] 50/ 1933.
5 -
(قَرَظَةَ بْنِ كَعْب) -بفتح القاف، والراء- ابن ثعلبة بن عمرو بن كعب بن الإطنابة الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو عمرو، حليف بني عبد الأشهل، وشهد أحدًا، وما بعدها، وهو أحد العشرة الذين وَجَّهَهم عمر إلى الكوفة من الأنصار، وعلى يده كان فتحُ الرّيّ، وولّاه عليّ الكوفة، وتُوفّي بها في ولايته، وقيل: في إمرة المغيرة بن شعبة. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطّاب. وعنه الشعبيّ، وعامر بن سعد البَجَليّ. انفرد به المصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط، وعند ابن ماجه حديث عمر رضي الله عنه: "إنكم تَقدَمُون على قوم القرآن في صدورهم
…
" الحديث.
6 -
(أبو مسعود الأنصاريّ) عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاريّ البدريّ الصحابيّ
الشهير، مات قبل الأربعين، وقيل: بعدها، تقدّم في 6/ 494. واللَّه تعالى أعلم
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير قرظة بن كعب، فقد تفرّد به المصنّف وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عامِرِ بْنِ سَعْدٍ) البَجَليّ، أنه (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى قَرَظَةَ) -بفتحات- (ابن كَعْب) الأنصاريّ الخزرجيّ (وَأَبِي مَسْعُودِ الأنْصَارِيِّ) عقبة بن عمرو الأنصاريّ البدريّ رضي الله عنه (فِي عُرْس) تقدّم أنه اسم للإملاك، والبناء، أو للطعام المصنوع له (وإِذَا) هي "إذا" الفُجائية، أي ففاجأني وجود (جَوَار) جمع جارية، وهي الإماء، وفي نسخة:"جواري" بإثبات الياء، والأول هو الموافق للقاعدة؛ لأن الياء تحذف لالتقائها مع التنوين.
وأصل الجارية هي السفينة، سمّيت به لجريها في البحر، ثم سميت به الأمة؛ على التشبيه بها؛ لجريها مُستسخَرَةٌ في أَشْغال مواليها، والأصل فيها الشّابّةُ؛ لخفّتها، ثم توسّعوا حتى سَمُّوا كلّ أمة جاريةً، وإن كانت عجوزًا لا تقدر على السعي؛ تسميةً بما كانت عليه. أفاده الفيّوميّ
(1)
(يُغَنِّينَ) جملة في محلّ رفع صفة لـ" جوار"، وتقدّم قريبًا معنى الغِناء (فَقُلْتُ: أَنْتُمَا صَاحِبَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، يُفْعَلُ هَذَا عِنْدَكُمْ)
(1)
"المصباح المنير" 1/ 98.
بتقدير الاستفهام، أي أيُفعل هذا الفعل بحضوركم، إنما قال ذلك، على سبيل الاستغراب، والتعجب؛ لظنّه غِناء الجواري من المنكرات، وأن مقامَهُما يَجِلّ عن إقرار مثل ذلك (فَقالَا) وفي بعض النسخ:"فقال" بالإفراد، أي قال كلّ واحد منهما (اجْلِسْ إِنْ شِئتَ، فاسْمَعْ مَعَنَا، وَإِنْ شِئْتَ اذْهَبْ، قَدْ رُخِّصَ لَنَا فِي اللَّهْوِ عِنْدَ العُرْسِ) - بضمّتين، أو بضمّ، فسكون- تقدّم معناه قريبًا. حاصل جوابهما أن هذا ليس من الغناء المحرم، بل هو رُخّص في مثل هذه المناسبة، حيث يُطلب إشهار النكاح، وإعلانه؛ تمييزًا بينه، وبين السّفاح، فلا ينبغي أن تنكر علينا، بل إن أعجبك، فاجلس معنا، واستمع، وإلا فاذهب حيث شئت.
وهذا الحديث، وأمثاله يُبيّن المراد من الصوت الوارد عند النكاح. واللَّه تعالى أعلم
بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث قَرَظة بن كعب، وأبي مسعود - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا حديث حسنٌ.
(المسألة الثانية): في حكم الغناء عند العُرْس:
أخرج البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
5163 -
حدثنا الفضل بن يعقوب، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا إسرائيل، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنها زَفَّت امرأةً إلى رجل من الأنصار، فقال نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم:"يا عائشة، ما كان معكم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللَّهو".
قال في "الفتح": في رواية شريك: فقال: "فهل بعثتم معها جاريةً، تضرب بالدفّ،
وتُغنّي؟ "، قلت: تقول: ماذا؟ قال: تقول:
أتيناكُم أتيناكُمْ
…
فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ
وَلَوْلا الذَّهَبُ الأَحْمَـ
…
ـرُ ما حَلَّتْ بِوَادِيكُمْ
وَلَوْلا الحِنطَةُ السَّمرا
…
ءُ ما سَمِنَت عَذَارِيكُمْ
قال: وللطبرانيّ من حديث السائب بن يزيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل له: أترخّص في هذا؟ قال: "نعم، إنه نكاح لا سفاح، أشيدوا النكاح". وفي حديث عبد اللَّه بن الزبير عند أحمد، وصححه ابن حبان، والحاكم:"أعلنوا النكاح"، زاد الترمذيّ، وابن ماجه من حديث عائشة:"واضربوا عليه بالدّفّ"، وسنده ضعيف. ولأحمد، والترمذيّ، والنسائيّ من حديث محمد بن حاطب:"فصل ما بين الحلال والحرام الضرب بالدفّ". واستدلّ
بقوله: "واضربوا" على أن ذلك لا يختصّ بالنساء، لكنه ضعيف، والأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء، فلا يلتحق بهنّ الرجال؛ لعموم النهي عن التشبّه بهنّ انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن ما دلّ عليه حديث الباب، وهو جواز الغناء في العرس، وجواز استماع الرجال إليه هو الحقّ؛ وقد ثبت تخصيص بعض الحالات بجواز الغناء فيها:
منها: العرس، وأدلتها الأحاديث المذكورة آنفًا.
(ومنها): قدوم الغائب؛ لما أخرجه أحمد، في "مسنده"، والترمذيّ، واللفظ له، من طريق عبد اللَّه بن بريدة، قال: سمعت بريدة، يقول: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول اللَّه، إني كنت نذرت إن ردك اللَّه سالما، أن أضرب بين يديك بالدفّ، وأتغنّى، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن كنت نذرت فاضربي، وإلا فلا"، فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر، وهي تضرب، ثم دخل علي، وهي تضرب، ثم دخل عثمان، وهي تضرب، ثم دخل عمر، فألقت الدفّ تحت اسْتِهَا، ثم قعدت عليه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان، ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسا، وهي تضرب، فدخل أبو بكر، وهي تضرب، ثم دخل علي، وهي تضرب، ثم دخل عثمان، وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر، ألقت الدفّ". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب، من حديث بريدة، وفي الباب عن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة.
قال الشوكانيّ
(2)
: وقد استدلّ المصنّف -يعني صاحب "المتنقى" - بحديث الباب على جواز ما دلّ عليه الحديث عند القدوم من الغيبة، والقائلون بالتحريم يخصّون مثل ذلك من عموم الأدلّة الدّالة على المنع. وأما المجوّزون، فيستدلّون به على مطلق الجواز لما سلف، وقد دلّت الأدلّة على أنه لا نذر في معصية اللَّه، فالإذن منه صلى الله عليه وسلم لهذه المرأة بالضرب يدلّ على أن ما فعلته ليس بمعصية في مثل ذلك الموطن، وفي بعض ألفاظ الحديث أنه قال لها:"أوف بنذرك".
(ومنها): ما ورد في الأعياد؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل أبو بكر، وعندي جاريتان، من جواري الأنصار، تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان، في بيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟، وذلك في يوم عيد، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"يا أبا بكر، إن لكلّ قوم عيدا، وهذا عيدنا". متّفقٌ
(1)
"فتح" 10/ 282 - 283.
(2)
راجع "نيل الأوطار" 8/ 110.
عليه، وتقدّم للمصنّف في "كتاب العيدين" برقم -1593.
والحاصل أن ما ورد في هذه النصوص مخصوص من تحريم الغناء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنبب ".
…
81 - (جَهَازُ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الجهاز" -بفتح الجيم، كما قرأ به السبعة في قوله تعالى:{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} الآية [يوسف: 70]، والكسر لغة قليلة: وهو أُهْبة المرأة، وما تحتاج إليه عند زفافها إلى زوجها.
وقال في "اللسان": جَهاز العروس والميت -بالفتح-، وجِهازهما -بالكسر-: ما يحتاجان إليه، وكذلك جهاز المسافر يُفتح، ويكسر. قال: وتجهيز المغازي تحميله، وإعداد ما يَحتاج إليه في غزوه، ومنه تجهيز العروس، وتجهيز الميت. وجهّزتُ القوم تجهيزًا: إذا تكلّفت لهم بجهازهم للسفر. وقال الليث: وسمعت أهل البصرة يُخطّئون الجهاز بالكسر. قال الأزهريّ: والقرّاء كلهم على فتح الجيم في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} [يوسف: 59]. قال: والجِهاز بالكسر لغة رديئةٌ، قال عمر بن عبد العزيز [من البسيط]:
تَجَهَّزِي بِجِهازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ
…
يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثًا
(1)
وكان الأولى للمصنّف أن يعبّر بلفظ "تجهيز الرجل ابنته"، فيكون من إضافة المصدر إلى فاعله، ونصب مفعوله؛ لأن "الجهاز" -كما عرفت- الشيءُ الذي تُجهّز به المرأة، وليس مصدرًا، حتى يرفع الفاعل، وينصب المفعول، فتأمّل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3385 -
(أَخْبَرَنَا نُصَيْرُ بْنُ الْفَرَجِ
(2)
، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ زَائِدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ:"جَهَّزَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ، فِي خَمِيلٍ، وَقِرْبَةٍ، وَوِسَادَةٍ، حَشْوُهَا إِذْخِرٌ").
(1)
راجع "لسان العرب" 5/ 325.
(2)
"نُصَير" بضمّ النون مصغرًا، و"الفَرَج" بفتحتين.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(نُصير بن الفرج) الأسلميّ، أبو حمزة الثَّغْريّ
(1)
خادم أبي معاوية [11] 120/ 169 من أفراد المصنّف، وأبي داود.
2 -
(أبو أسامة) حماد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت، ربّما دلّس، من كبار [9] 44/ 52.
3 -
(زائدة) بن قُدامة، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقة ثبت سنّيّ [7] 74/ 91.
4 -
(عطاء بن السائب) أبو محمد، أو أبو السائب الثقفيّ الكوفيّ، صدوق اختلط
[5]
152/ 243.
5 -
(أبوه) السائب بن مالك، أو ابن يزيد الكوفيّ، ثقة [2] 62/ 1305.
6 -
(عليّ) بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه - 74/ 91 واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، وعطاء، وإن كان ممن اختلط لكن زائدة ممن روى عنه قبل اختلاطه. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَليٍّ رضي الله عنه) أنه (قَالَ: "جَهَّزَ) بتشديد الهاء: أي هيّأ لها ما تحتاج إليه عند دخولها على زوجها (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ) الزَّهْراء، بنته صلى الله عليه وسلم، أم الحسنين، سيّدة نساء الجنة إلا مريم عليها السلام، تزوّجها عليّ رضي الله عنه في السنة الثانية من الهجرة، وماتت - رضي اللَّه تعالى عنها - بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، وقد جاوزت العشرين بقليل (فِي خَمِيل) -بفتح الخاء المعجمة، بوزن كريم-: هي القطيفة، وهي كلّ ثوب، له خَمْلٌ
(2)
، من أيّ شيء كان (وَقِرْبَةٍ) -بكسر القاف، وسكون الراء- قال الفيّوميّ: الْقِرْبة بالكسر معروفة، والجمع قِرَب، مثلُ سِدْره وسِدَر انتهى. وقال في "اللسان": والقِرْبة من الأساقي، قال ابن سيده: القِرْبة: الْوَطْبُ من اللَّبَن، وقد تكون للماء. وقيل: هي
(1)
"الأسلميّ" بفتح الهمزة، والمهملة، وتخفيف اللام. و"الثَّغْريّ" -بفتح المثلّثة، وسكون المعجمة-: نسبة إلى الثغر، وهو الموضع القريب من الكفّار، يرابط به المسلمون. أفاده في "الأنساب" 1/ 507 و"اللباب" 1/ 240.
(2)
"الخمل" وزان فلس: الْهُدْبُ. اهـ "مصباح".
الْمَخْروزة من جانب واحد، والجمع في أدنى العدد قِرْبات -بسكون الراء-، وقِرِبات- بكسرها- وقِرَبات -بفتحها-، وفي الكثرة قِرَبٌ انتهى (وَوِسادَةٍ) -بكسر الواو-: الْمِخَدَّةُ، جمعها وِسَادات، ووَسائد. والْوِسَاد بغير هاء كلُّ ما يُتوسّد به من قُمَاش، وتُراب، وغير ذلك، والجمع وُسُدٌ، مثلُ كتاب وكُتُبٍ. ويقال: الوساد لغةٌ في الوسادة. قاله الفيّوميّ (حَشْوُها) بفتح الحاء المهملة، وسكون الشين المعجمة: اسم للشيء الذي تُملأ به الوسادة، قال في "اللسان": حَشا الوسادة، والفراش، وغيرهما يَحْشُوها حَشْوًا: ملأها، واسم ذلك الشيء الْحَشوُ على لفظ المصدر انتهى. (إِذْخِرٌ) - بكسر الهمزة، وسكون الذال المعجمة، وكسر الخاء المعجمة، آخره راء-: نباتٌ معروفٌ، ذكيّ الريح، وإذا جفّ ابيضَّ. قاله الفيّوميّ. وفي "اللسان": حَشيشةٌ طيّبة الرائحة، يُسقّف بها البيوت فوق الخشب، وهمزتها زائدة انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحَيحٌ، قال الحاكم في "مستدركه"
(1)
: صحيح الإسناد، وقال الذهبيّ في "تلخيصه": صحيح، وهو كما قالا.
[فإن قلت]: في سنده عطاء بن السائب، وهو مختلطٌ، فكيف يصحّ؟.
[قلت]: عطاء ليس ممن ضُعّف على الإطلاق، بل في رواية من روى عنه بعد الاختلاط، وأما من طريق من روى عنه قبله، فهو صحيح الحديث، وزائدة بن قُدامة ممن روى عنه قبل الاختلاط، فقد قال الطبراني -كما في "تهذيب التهذيب" 3/ 105 - ثقة اختلط في آخر عمره، فما روى عنه المتقدّمون فهو صحيح، مثل سفيان، وشعبة، وزُهير، وزائدة انتهى.
والحاصل أن حديث عليّ رضي الله عنه هذا صحيح. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-81/ 3385 - وفي "الكبرى" 91/ 5573. وأخرجه (ق) في "الزهد" 4152 (أحمد) في "مسند العشرة" 644 و 717 و 855. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعيّة تجهيز الرجل. بنته
بما
(1)
راجع "المستدرك" 2/ 185 وهامشه "تلخيص الذهبيّ".
تحتاج إليه، مما تيسر له. (ومنها): ما كان عليه صلى الله عليه وسلم أيضًا، من العناية ببناته، والقيام بتربيتهنّ، وتزويجهنّ، وتجهيزهنّ لأزواجهنّ بما جرت به العادة، حتى تكون الألفة والمحبة بين الزوجين دائمة؛ لأن الرجل إذا لم يكن للزوجة جهاز ربما يتبرّم، ويتثاقل منها، ولا يحسن عشرتها، ولا يريد أن تطول صحبتها له. (ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا، والاكتفاء بالقليل منها، ولو شاء لكانت الجبال له فضة وذهبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
82 - (الْفُرُشُ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الفُرُش" -بضمّتين- جمع فِراش -بكسر الفاء، وتخفيف الراء-: البساط، قال الفيّوميّ: فَرَشتثُ البِسَاطَ وغيره فَرْشًا، من باب قتل، وفي لغة من باب ضرب: بستطه، وافترشه هو، وهو الفِراش بالكسر، فِعالٌ بمعني مفعول، مثل كتاب، بمعنى مكتوب، وجمعه فُرُشٌ، مثلُ كتاب وكُتُبٍ، وهو فَرْشٌ أيضًا، تسميةً بالمصدر. انتهى واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3386 -
(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ، يَقُولُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فِرَاشٌ لِلرَّجُلِ، وَفِرَاشٌ لأَهْلِهِ، وَالثَّالِثُ لِلضَّيْفِ، وَالرَّابِعُ لِلشَّيْطَانِ»).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
9 -
(يونس بن عبد الأعلى) الصدفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقة، من صغار [10] 1/ 442.
2 -
(ابن وهب) عبد اللَّه المصري، ثقة ثبت عابد [9] 9/ 9.
3 -
(أبو هانئ الْخَولانيّ
(1)
هو حُميد بن هانئ المصريّ، لا بأس به [5] 48/ 1284.
4 -
(أبو عبد الرحمن الحبُليّ)
(2)
-بضمّ المهملة، والموحّدة-: هو عبد اللَّه بن يزيد
(1)
"الخولاني" بفتح المعجمة، وسكون الواو: نسبة إلى خَوْلان قبيلة نزلت الشام. اهـ "لب اللباب" 1/ 302.
(2)
"الْحُبُليّ" -بضم الحاء المهملة، والباء الموحّدة-: نسبة إلى بني الْحُبُلَى حيّ من اليمن. اهـ "لُبُّ اللباب" 1/ 235.
الْمَعافري المصريّ، ثقة [3] 60/ 1303.
5 -
(جابر بن عبد اللَّه) - رضي اللَّه تعالى عنهما - 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين، غير الصحابي، فمدني. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد المكثرين السبعة، روى (1540) من الأحاديث. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) الأنصاريّ السَّلَميّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فِراشٌ لِلرَّجُلِ) مبتدأ وخبر، وسوّغ الابتداء بالنكرة التقسيم، أو"فراش فاعل لفعل محذوف، أي يجوز فراش. يعني أنه يجوز أن يتخذ الرجل لنفسه فراشًا ينام عليه وحده، إذا احتاج إليه (وَفِراشٌ لِأَهْلِهِ) إعرابه كسابقه أنه يجوز أن يتخذ الإنسان فراشًا لأهله تنام عليه وحدها، إن احتاجت إليه (والثَّالِثُ لِلضَّيْفِ) مبتدأ وخبر، و"الضيف" بفتح، فسكون: معروف، يطلق بلفظ واحد على الواحد وغيره؛ لأنه مصدرٌ في الأصل، من ضافه ضَيْفًا، من باب باع: إذا نزل عنده، وتجوز المطابقة، فيقال: ضَيْفَةٌ، وأضيافٌ، وضِيفَانٌ، وأضفته، وضَيَّفته: إذا أنزلته، وقَرَيْتُهُ، والاسم الضِّيَافة. قال ثعلب: ضِفْتُهُ: إذا نزلتَ به، وأنت ضَيْفٌ عنده، وأضفته بالألف: إذا أنزلته عندك ضيفًا، وأضفته إضافةً: إذا لجأ إليك من خوف، فأجرتَهُ، واستضافني، فأضفته: استجارني، فأجرته، وتضيّفني، فضيّفتُهُ: إذا طلب الْقِرَى، فقرَيْتَهُ، أو استجارَك، فمنعته ممن يطلبه، وأضافه إلى الشيء إضافةً: ضمّهُ إليه، وأماله. قاله الفيّوميّ.
(وَالرَّابعُ لِلشَّيْطَانِ") مبتدأ وخبرٌ أيضًا، يعني أن الفراش الرابع للشيطان، يبيت عليه
حيث لا ينتفع به أحدٌ، ولأنه لا يُتّخذ للحاجة، وإنما هو للافتخار الذي هو مما يحمل
عليه الشيطان، ويرضى به.
والظاهر أنّ المراد منه اتخاذ ما لا حاجة إليه، لا بخصوص كونه رابعًا، وإنما خصّه بالذكر نظرًا للغالب، حيث إنه أقلّ ما يكون زائدًا على الحاجة. واللَّه تعالى أعلم.
قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: فيه دليلٌ على جواز اتخاذ الإنسان من الفرش، والآلة ما يَحتاج إليه، ويترفّه به.
وهذا الحديث إنما جاء مبيّنًا ما يجوز للإنسان أن يتوسّع فيه، ويترفّه من الفراش؛
لأنّ الأفضل أن يكون له فراش يختصّ به، ولامرأته فراشٌ، فقد كان صلى الله عليه وسلم لم يكن له إلا فراشٌ واحد في بيت عائشة، وكان فراشها ينامان عليه في الليل، ويجلسان عليه بالنهار. وأما فراش الضيف، فيتعيّن للمضيف إعداده له؛ لأنه من باب إكرامه، والقيام بحقّه؛ ولأنه لا يتأتّى له شرعًا الاضطجاع، ولا النوم مع المضيف، وأهله على فراش واحدٍ.
ومقصود هذا الحديث أن الرجل إذا أراد أن يتوسّع في الفرش، فغايته ثلاثٌ، والرابع لا يحتاج إليه، فهو من باب السَّرَف. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه الله تعالى- ببعض تَصَرُّف
(1)
.
وقال النوويّ: قال العلماء: معناه أن ما زاد على الحاجة، فاتخاذه إنما للمباهاة، والاختيال، والالتهاء بزينة الدنيا، وما كان بهذه الصفة فهو مذمومٌ، وكلّ مذموم يُضاف إلى الشيطان؛ لأنه يرتضيه، ويوسوس به، وُيحسّنه، ويُساعد عليه. وقيل: إنه على ظاهره، وأنه إذا كان لغير حاجة كان للشيطان عليه مَبِيتٌ، ومَقِيلٌ، كما أنه يحصل له المبيت بالبيت الذي لا يَذكُر الله تعالى صاحبه عند دخوله عِشَاءً.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا القول الثاني هو الأرجح عندي؛ لأنه إذا أمكن حمل النصّ على ظاهره، فهو الأولى، ولا حاجة إلى العدول عنه، على أنه لا تنافي بين المعنيين؛ لأن الشيطان كما أنه يبيت عليه، فهو الذي حمله على اتخاذه. والله تعالى أعلم.
قال: وأما تعديد الفراش للزوج والزوجة، فلا بأس به؛ لأنه قد يحتاج كلّ واحد منهما إلى فراش عند المرض، ونحوه، وغير ذلك.
واستدلّ بعضهم بهذا على أنه لا يلزمه النوم مع امرأته، وأن له الانفراد عنها بفراش. والاستدلال به في هذا ضعيف؛ لأن المراد بهذا وقت الحاجة كالمرض، وغيره كما ذكرنا، وإن كان النوم مع الزوجة ليس واجبًا، لكنه بدليل آخر، والصواب في النوم مع الزوجة أنه لم يكن لواحد منهما عذرٌ في الانفراد، فاجتماعهما في فراش واحد أفضل، وهو ظاهر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي واظب عليه مع مواظبته صلى الله عليه وسلم على قيام الليل، فينام معها، فإذا أراد القيام لوظيفته قام، وتركها، فيجمع بين وظيفته، وقضاء حقّها المندوب، وعِشْرتها بالمعروف، لا سيّما إن عُرف من حالها حرصها على هذا، ثم إنه لا يلزم من النوم معها الجماع. والله أعلم انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"المفهم" 5/ 404 - 405.
(2)
"شرح مسلم" 14/ 285 - 286.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا- 82/ 3386 - وفي "الكبرى" 92/ 5573. وأخرجه (م) في "اللباس" 2084 (د) في "اللباس" 4142 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 11370 و 14066. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعيّة اتخاذ الإنسان الفُرُشَ بقدر حاجته. (ومنها): أن ما زاد على الحاجة فإنه للشيطان، فلا ينبغي اتخاذه. (ومنها): ما قال القرطبيّ: فقه الحديث: ترك الإكثار من الآلات والأمور المباحة، والترفّه بها، وأن يقتصر على حاجته، ونسبة الرابع إلى الشيطان، لكن لا يدلّ على تحريم اتخاذه، وإنما هذا من باب قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان يستحلّ الطعام الذي لا يُذكر اسم اللَّه عليه، والبيت الذي لا يُذكر اللَّه فيه"
(1)
، ولا يدلّ ذلك على التحريم لذلك الطعام. انتهى
(2)
. (ومنها): بيان تسلّط الشيطان عليّ بني آدم، بحيث إنه لا يترك عملًا من أعماله إلا ويشاركه فيه، حتى يوقعه في المخالفة، فينبغي التنبّه لذلك، والحذر منه، والبعد عما يؤدّي إلى إرضائه، وقد قال اللَّه تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} الآية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
83 - (الأَنْمَاطُ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- بقوله: "باب الأنماط، ونحوها للنساء". قال في "الفتح" أي من الكلل، والأستار، والفرش، وما في معناه. قال: ولعلّ المصنّف أشار به إلى ما أخرجه مسلم من حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت: "خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غزواته، فأخذتُ نمطًا، فنشرته على
(1)
راوه أحمد 5/ 383. ومسلم في "صحيحه" رقم 2017.
(2)
"المفهم" 5/ 404 - 405.
الباب، فلما قدم، فرأى النمط عرفتُ الكراهة في وجهه، فجذبه، حتى هتكه، فقال: إن اللَّه لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين، قال: فقطعت منه وسادتين، فلم يَعِب ذلك عليّ". فيؤخذ منه أن الأنماط لا يكره اتخاذها لذاتها، بل لما يُصنع بها انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب
3387 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تَزَوَّجْتَ؟» ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «هَلِ اتَّخَذْتُمْ أَنْمَاطًا؟» ، قُلْتُ: وَأَنَّى لَنَا أَنْمَاطٌ؟ ، قَالَ: «إِنَّهَا سَتَكُونُ»).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(سفيان) بن عيينة المكي الإمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.
3 -
(ابن المنكدر) هو محمد بن المنكدر بن عبد اللَّه بن الْهُدير التيمي المدنيّ، ثقة
فاضل [3] 103/ 138.
4 -
(جابر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام الصحابي ابن الصحابي - رضي اللَّه تعالى عنهما - 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (176) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه بغلاني، وسفيان مكيّ، والباقيان مدنيان. (ومنها): أن فيه جابرًا من المكثرين السبعة روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ جَابِر) بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ "، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (هَلِ اتَّخَذتُمْ أَنْمَاطًا؟) بفتح الهمزة: جمع نَمَط - بفتح النون والميم: وهو ظهارة الفراش. وقيل: ظهر الفراش، وُيطلق أيضًا على بساط لطيف، له خَملٌ، يُجعل على الْهَوْدجِ، وقد يُجعل سترًا، ومنه حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - عند مسلم: "فأخذت نَمَطًا، فسترته على الباب
…
" الحديث، والمراد في حديث جابر رضي الله عنه هو النوع الأول. قاله النوويّ
(2)
.
(1)
" "فتح" 10/ 281 "كتاب النكاح".
(2)
"شرح مسلم" 14/ 284 - 285.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ: "الأنماط" جمع نَمَطٍ، قال الخليل: هو ظِهَارة الفرش. وقال ابن دُريد: هو ما يُستر به الْهَوْدج، وهو في حديث عائشة ثوبٌ سترت به سَهْوتها، وهو القِرام أيضًا، كما جاء في حديث عائشة، وقد يكون من حرير وغيره، وقد يُسمّى نُمرةً في بعض طرق حديث عائشة، وقد عبّر عنه بالستر في حديثها، وهذا كلّه على أنها أسماء لمسمّى واحد انتهى
(1)
.
(قُلْتُ: وَأنَّى لَنَا أَنْمَاطٌ؟)" أَنّى" بفتح الهمزة، وتشديد النون: استفهام عن الجهة، تقول: أَنّى يكون هذا: أي من أيّ وجه وطريق
(2)
يوجد لنا أنماط؟. وقال القرطبيّ: قوله: "أنى لنا أنماطٌ؟ " استبعادٌ لذلك، ومعناه: من أين يكون لنا أنماطٌ؟ " انتهى.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّهَا سَتَكُونُ") وفي رواية مسلم: "أما إنها ستكون"، و"تكون" هنا تامّة، أي ستحصل، وتوجد الأنماط فيما يأتي من الزمان. زاد في رواية مسلم من طريق سفيان، عن محمد بن المنكدر:"قال جابرٌ: وعند امرأتي نَمَطٌ، فأنا أقول: نَحِّيه عنّي، وتقول: قد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون، فأدعها". ومعنى، "نحِّيه": أي أخرجيه من بيتي.
قال القرطبيّ: وقول جابر لامرأته: "نحّيه عنّي" فإنما كان ذلك كراهة له، مخافة التّرفّه في الدنيا، والميل إليها، لا لأنه حريرٌ؛ إذ ليس في الحديث ما يدلّ عليه، واستدلالها عليه بقوله صلى الله عليه وسلم:"أما إنها ستكون" هو استدلالٌ بتقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم على اتخاذ الأنماط؛ لأنه لَمّا أخبر بأنها ستكون، ولم ينه عن اتخاذها، دلّ ذلك على جواز الاتخاذ انتهى
(3)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-83/ 3387 - وفي "الكبرى" 93/ 5575. وأخرجه (خ) في "المناقب" 3631 و"النكاح" 5161 (م) في "اللباس" 2083 (د) في "اللباس" 4145 (ت) في "الأدب" 2774 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 13718. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 4/ 403.
(2)
انظر "المصباح المنير" 1/ 28.
(3)
"المفهم" 5/ 403 - 404."كتاب اللباس".
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواز استعمال الأنماط، ومحلّ الاستدلال قوله صلى الله عليه وسلم:"إنها ستكون" حيث أخبر بأن الأنماط ستكون لهم؛ لأنه لو لم يحلّ اتخاذها لبيّن لهم ذلك.
وتعقّب هذا الاستدلال في "الفتح" بأن الإخبار بأن الشيء سيكون لا يقتضي إباحته، إلا إن استَدلّ المستدلّ به على التقرير، فيقول: أخبر الشارع بأنه سيكون، ولم يَنْهَ عنه، فكأنه أقرّه، وقد وقع قريبٌ؛ من هذا في حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه في خروج الظعينة من الْحِيرَة إلى مكة بغير خَفِير، فاستدلّ به بعض الناس على جواز سفر المرأة بغير محرم. وفيه من البحث ما ذُكِر انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي بين القضيّتين فرقٌ، فإن قضية الظعينة قد قامت نصوص كثيرة بعدم جواز سفر المرأة بغير محرم، نصًّا، لا يرتاب فيه أحدٌ، وأما قضيّة الأنماط، فليس هناك نصّ يدلّ صراحة على تحريم اتخاذها، فتبصّر.
والحاصل أن الاستدلال بتقريره صلى الله عليه وسلم لجابر حينما قال له: "إنها ستكون لكم" دليلٌ واضح على جواز اتخاذها. واللَّه تعالى أعلم.
(ومنها): أن فيه معجزةً ظاهرةً بإخباره صلى الله عليه وسلم بما سيقع بعده من الفتوحات التي نالتها أمته، وقد وقعت على طبق إخباره صلى الله عليه وسلم. (ومنها): التورّع من الترفّه بملاذّ الدنيا. (ومنها): فضل جابر - رضي اللَّه تعالى عنه -، حيث كان يأمر امرأته بإبعاد الأنماط من بيته، خوفًا أن يدخل تحت قوله تعالى:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} الآية [الأحقاف: 20]، فإن الآية، وإن سيقت لبيان حال الكفّار، إلا أن من صفات المؤمن الخوف من اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
84 - (الْهَدِيّةُ لِمَنْ عَرَّسَ)
أي هذا باب ذكر استحباب الهديّة للعَرُوس صبيحة بنائه بأهله، كما يدلّ عليه رواية مسلم، ففي رواية له من حديث أنس رضي الله عنه: "أصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عروسًا بزينب بنت
(1)
"فتح" 7/ 339 - 340.
جحش، قال: وكان تزوّجها بالمدينة، فدعا الناس للطعام بعد ارتفاع النهار
…
"
الحديث.
و"الهديّة" بفتح الهاء، وكسر الدال المهملة، وتشديد الياء التحتانيّة، بوزن غَنِيّة-: ما أُتحف به، جمعه هَدايَا، وَهَداوَى، وتكسر الواو، وهَداوٍ، وأهدى الهَدِيّةَ، وهَدَّها. قاله في "القاموس".
وقال الفيّوميّ: أهديت للرجل كذا بالألف: بعثت به إليه إكرامًا، فهو هَدِيّةٌ بالتثقيل، لا غير. انتهى.
وقد تقدّم أن الأولى للمصنّف التعبير بـ"أعرس" بالألف، لا بعرّس بتشديد الراء؛ لأن الدخول بالزوجة يقال له: الإعراس بالألف، وأما التعريس، فهو بمعنى نزول آخر الليل، ولا يناسب هنا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3388 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ -وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ- عَنِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ، قَالَ: وَصَنَعَتْ أُمِّى أُمُّ سُلَيْمٍ، حَيْسًا، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: إِنَّ أُمِّي تُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَتَقُولُ لَكَ: إِنَّ هَذَا لَكَ مِنَّا قَلِيلٌ، قَالَ: "ضَعْهُ"، ثُمَّ قَالَ: "اذْهَبْ، فَادْعُ فُلَانًا، وَفُلَانًا، وَمَنْ لَقِيتَ، وَسَمَّى رِجَالاً"، فَدَعَوْتُ مَنْ سَمَّى، وَمَنْ لَقِيتُهُ، قُلْتُ لأَنَسٍ: عِدَّةُ كَمْ كَانُوا؟ ، قَالَ -يَعْنِي زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لِيَتَحَلَّقْ عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ، فَلْيَأْكُلْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ» ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ، وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ، قَالَ لِي: «يَا أَنَسُ ارْفَعْ» ، فَرَفَعْتُ، فَمَا أَدْرِي حِينَ رَفَعْتُ كَانَ أَكْثَرَ، أَمْ حِينَ وَضَعْتُ؟).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد المذكور في الباب الماضي.
2 -
(جعفر بن سليمان) الضُّبَعيّ البصريّ، صدوق زاهد، لكنه يتشيّع [8] 14/ 14.
3 -
(الجعد أبو عثمان) ابن دينار اليشكريّ -بتحتانيّة مفتوحة، بعدها معجمةٌ ساكنة، وكاف مضمومة- الصيرفيّ البصريّ، صاحب الحُلِيّ -بضمّ المهملة- ثقة [4].
قال ابن معين: ثقة. وقال النسائيّ: لا بأس به. وقال ابن حبّان في "الثقات": يخطئ. ووثقه أبو داود في "سؤالات الآجرّيّ"، والترمذيّ في "جامعه". روى له الجماعة، سوى ابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.
4 -
(أنس بن مالك) - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (177) من رباعيات
الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فبغلانيّ (ومنها): أن فيه أنس بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة مات سنة (2) أو (93) وقد جاوز مائة سنة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي زينب بنت جحش - رضي اللَّه تعالى عنها -، وفي رواية لمسلم من طريق معمر، عن عبد الرزّاق: "لما تزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم زينب أهدت له أم سَليم حيسًا
…
" الحديث، وكان زواجها سنة ثلاث، وقيل: سنة خمس، وكانت قبله عند زيد بن حارثة، وهي التي نزل فيها:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية [الأحزاب: 37]، وكانت أول من مات من نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ، قَالَ: وَصَنَعَتْ أُمِّي أُمُّ سُلَيْم) بنت مِلْحان - رضي اللَّه تعالى - عنها، يقال: اسمها سهلة، وقيل: غير ذلك (حَيْسًا) بفتح الحاء المهملة، وسكون التحتانيّة: تمرٌ يُنزع نواه، ويدق مع أقط، وُيعجنان بالسمن، ثم يُدلك باليد حتى يبقى كالثريد، وربّما جُعل معه سويقٌ، وهو مصدرٌ في الأصل، يقال: حاس الرجل حَيْسًا، من باب باع: إذا اتّخذ ذلك. قاله الفيّوميّ. وقد تقدّم البحث عنه بأتمّ من هذا.
[تنبيه]: قد استشكل القاضي عياض ما وقع في هذا الحديث من أن الوليمة بزينب بنت جحش كانت من الحيس الذي أهدته أم سُليم، بأن المشهور أنه صلى الله عليه وسلم أولم عليها بالخبز واللحم، ولم يقع في القصّة تكثير ذلك الطعام، وإنما فيه:"أشبع المسلمين خبرًا ولحمًا"، وذكر في حديث الباب أن أنسًا قال:"فقال لي: ادع رجالًا، سمّاهم، وادع من لقيت، وأنه أدخلهم، ووضع صلى الله عليه وسلم يده على تلك الحيسة، وتكلّم بما شاء اللَّه، ثم جعل يدعو عشرة عشرة، حتى تصدّعوا كلهم عنها"، يعني تفرّقوا. قال عياضٌ: هذا وَهَمٌ من راويه، وتركيب قصّة على أخرى.
وتعقّبه القرطبيّ بأنه لا مانع من الجمع بين الروايتين، والأولى أن يقال: لا وهَمَ في ذلك، فلعلّ الذين دُعوا إلى الخبز واللحم، فأكلوا حتى شبعوا، وذهبوا، ولم يرجعوا، ولمّا بقي النفر الذين يتحدَّثون جاء أنس بالحيسة، فأُمر بأن يدعو ناسًا آخرين، ومن لقي، فدخلوا، فأكلوا أيضًا حتى شبعوا، واستمرّ أولئك النفر يتحدّثون.
قال الحافظ: وهو جمعٌ لا بأس به. وأولى منه أن يقال: إن حضور الحيسة صادف حضور الخبز واللحم، فأكلوا كلهم من كلّ ذلك.
وعجبتُ من إنكار عياض وقوع تكثير الطعام في قصّة الخبز واللحم، مع أن أنسًا
يقول: إنه أولم عليها بشاة، ويقول: إنه أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا، وما الذي يكون قدرُ الشاة حتى يُشبع المسلمين جميعًا، وهم يومئذ نحو الألف، لولا البركة التي حصلت من جملة أياته صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-، وهو حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم
(1)
.
(قَالَ: فَذَهَبَتْ بِهِ) أي بذلك الحَيْس (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي بعد أن أمرته أمه بذلك، ففي رواية مسلم:"فجعلته في تَوْرِ، فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تُقرئك السلام، وتقول: إن هذا لك منّا قليل، يا رسول اللَّه"(فَقُلْتُ: إِنَّ أُمِّي تُقرِئُكَ السَّلَامَ) بضمّ المثنّاة الفوقانيّة، من الإقراء رباعيًّا، قال الفيّوميّ: وقرأتُ على زيد السلامَ أقرؤه عليه قِراءةً، وإذا أمرتَ منه قلتَ: اقْرَأْ عليه السلام. قال الأصمعيّ: وتعديته بنفسه خطأٌ، فلا يقال: اقرَأْه السلامَ؛ لأنه بمعنى اتلُ عليه. وحكى ابن القطّاع أنه يتعدّى بنفسه رباعيًّا، فيقال: فلانٌ يُقْرِئك السلامَ انتهى. وفي "القاموس": وقَرَأ عليه السلام: أبلغه، كأقرأه، أو لا يُقال: أَقْرَأَهُ إلا إذا كان مكتوبًا انتهى.
(وَتَقُولُ لَكَ: إِنَّ هَذَا لَكَ مِنَّا قَلِيلٌ) إنما قالت هذا اعتذارًا إليه صلى الله عليه وسلم، نظرًا إلى ما يستحقّه من الإكرام (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (ضَعْهُ) أمر بوضعه على الأرض، والأصل اوْضَعْهُ، من وَضَعَ الشيءَ يَضَعُهُ، من باب نَفَعَ: إذا تركه، حُذفت واوه حملًا على المضارع، وهمزة الوصل؛ لعدم الحاجة إليها، حيث تحرّك ما بعدها (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (اذْهَبْ، فادْعُ فُلانًا، وَفُلَانًا) وفي رواية مسلم: "فادع لي فلانًا، وفلانًا، وفلانًا"(وَمَنْ لَقِيتَ) بفتح اللام، وكسر القاف، أي وادع من لقيت من الصحابة رضي الله عنهم. وفي رواية لمسلم:"اذهب فادع لي من لقيتَ من المسلمين"(وَسَمَّى رِجالًا) أي سمّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجالا معيّنين بأسمائهم، فأجملهم أنس، إما اختصارًا، أو نسيانًا (فَدَعَوْتُ مَنْ سَمَّى، وَمَنْ لَقِيتُهُ، قُلْتُ: لِأَنسٍ) القائل هو الجعد أبو عثمان (عِدَّةَ كَمْ كَانُوا؟) بنصب "عدّة" على الخبريّة لـ"كان" مقدّمًا وجوبًا؛ لإضافته إلى الاستفهام. ولفظ مسلم: "عددَكم كانوا"(قَالَ -يعني زُهَاءَ ثَلَاثَمِائَةٍ) وفي رواية مسلم: "قال: زُهاء ثلاثمائة" بدون لفظة "يعني". و"الزُّهَاءُ" بضمّ الزاي، وفتح الهاء، وبالمدّ: أي قدر ثلاثمائة. قال الفيّوميّ: زُهاءٌ في العدد، وزانُ غراب، يقال: هم زُهاء ألف: أي قدر ألف، وزُهاءُ مائة: أي قدرها، قال الشاعر: كَأَنَّمَا زُهاؤُهُمْ لِمَنْ جَهَرْ
(1)
"فتح" 10/ 284 - 285 "كتاب النكاح".
ويقال: كم زُهاؤهم: أي كم قدرهم. قاله الأزهريّ، والجوهريّ، وابنُ وَلَّاد، وجماعةٌ. وقال الفارابيّ أيضًا: هم زُهاء مائة بالضمّ والكسر، فقول الناس: هو زُهاءٌ على مائة ليس بعربيّ انتهى.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:) وفي رواية مسلم: "وقال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عتيلى: "يا أنس هات التَّوْرَ"، قال؛ فدخدوا حتى امتلأت الصُّفَّةُ، والحجرةُ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ("لِيَتَحَلَّقْ عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ) أي ليصر كلّ عشرة منكم حلقة (فَلْيَأْكُلْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِمّا يَلِيهِ") وهذا من آداب الأكل (فَأكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، فَخَرَجَتْ طائِفَةٌ، وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ) لتحلّ مكان الطائفة التي خرجت. زاد في رواية مسلم: "فجعلوا يدخلون عليه، فيأكلون، ويخرجون، ووضع النبيّ صلى الله عليه وسلم يده على الطعام، فدعا فيه، وقال فيه ما شاء اللَّه أن يقول، ولم أَدَعْ أحدًا لقيته إلا دعوته، فأكلوا حتى شبعوا، وخرجوا
…
" (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِي: "يا أَنَسُ ارْفَعْ") أي ارفع التور الذي فيه الطعام؛ لانتهاء الحاجة إليه، بفراغ جميع من حضر من الأكل منه (فَرَفَعْتُ، فَمَا أَدْرِي حِينَ رَفَعْتُ كَانَ أكَثَرَ، أَمْ حِينَ وَضَعْتُ؟:::) هذه الرواية مختصرةٌ، وقد ساقها مسلم في "صحيحه" بالسند الذي أخرج منه المصنّف، فزاد ما نصّه: "قال: وجلس طوائف منهم يتحدثون، في بيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس، وزوجته مُوَلِّيَةٌ وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسلم على نسائه، ثم رجع، فلما رأوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قد رجع، ظنوا أنهم قد ثقدوا عليه، قال فابتدروا الباب، فخرجوا كلهم، وجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى أرخى الستر، ودخل وأنا جالس في الحجرة، فلم يَلْبَثْ إلا يسيرا، حتى خرج علي، وأُنزلت هذه الآية، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقرأهن على الناس:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} إلى آخر الآية [الأحزاب: 53].
قال الجعد: قال أنس بن مالك: أنا أحدث الناس عهدا بهذه الآيات، وحُجِبن نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم".
وفي رواية من طريق أبي مِجْلَز، عن أنس بن مالك، قال: لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم، فطَعِمُوا، ثم جلسوا يتحدثون، قال: فأخذ كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام من القوم.
زاد عاصم، وابن عبد الأعلى في حديثهما: قال: فقعد ثلاثة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا، فانطلقوا، قال: فجئت، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم -
أنهم قد انطلقوا، قال: فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، قال: وأنزل اللَّه عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} ، إلى قوله:{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم، وعلّقه البخاريّ.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-84/ 3387 وفي 26/ 3253 - وفي "الكبرى" 37/ 5399 و 53400 و 5401 و"التفسير" 11416 و 11417 و 11418 و 114120. وأخرجه (خ) في "التفسير" 4793 و"النكاح" 5171 و"الاستئذان" 6238 (م) في "النكاح" 1428 (د) في "الأطعمة" 3743 (ت) في "التفسير" 2218 و 3219 (ق) في "النكاح" 1908. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان استحباب الإهداء لمن تزوّج، إدخالًا للسرور في قلبه، وقياما عنه ببعض الكُلَف؛ لكونه مشغولًا بأمر الزواج، وهو نحو ما يُستحبّ من الإهداء لأهل الميت. (ومنها)؛ الاعتذار عن الهدية إذا كانت قليلة، وقول الإنسان نحو قول أم سُليم - رضي اللَّه تعالى عنها -:"هذا لك قليل". (ومنها): كون الوليمة بعد البناء، وهو الغالب، وقد تقدم بيانه. (ومنها): تعيين مرسل الهديّة باسمه، وليس ذلك من الرياء. (ومنها): استحباب بعث السلام، وإن كان المبعوث إليه أفضل من الباعث. (ومنها): استحباب حمل السلام، وإبلاغه إلى من كان غائبًا. (ومنها): استحباب الدعوة العامّة، من غير تعيين، كأن يقول: ادع من لقيت، قال القرطبيّ: وقد قال بعض علمائنا: إنه إذا لم يتعيّن المدعوّ لم تجب عليه الإجابة انتهى
(2)
. (ومنها): ما ظهر فيه من دلائل النبوّة، حيث دعى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الطعام القليل بالبركة، فكفى هذا العدد الكثير من الصحابة رضي الله عنهم. (ومنها): أن من آداب
(1)
راجع "صحيح مسلم" بشرح النووي 9/ 229 - 234.
(2)
"المفهم" 4/ 150.
الآكلين إذ كثر عددهم أن يَجتمعوا على القصة الواحدة عشرة. (ومنها): أيضًا الأكل مما يلي الإنسان، وهذا إذا كان الطعام نوعًا واحدًا، أما إذا كان أنواعًا، فله أن يأكل ما تشتهية نفس الآكل، من غير حرج. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3389 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْوَزِيرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: آخَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ، فَآخَى بَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: إِنَّ لِي مَالاً، فَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَانِ، وَلِي امْرَأَتَانِ، فَانْظُرْ أَيُّهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ، فَأَنَا أُطَلِّقُهَا، فَإِذَا حَلَّتْ فَتَزَوَّجْهَا، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي، أَيْ عَلَى السُّوقِ، فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى رَجَعَ بِسَمْنٍ وَأَقِطٍ، قَدْ أَفْضَلَهُ، قَالَ: وَرَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيَّ أَثَرَ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: «مَهْيَمْ؟» ، فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أحمد بن يحيى بن الوزير) التُّجيبيّ المصريّ، ثقة [11] 42/ 2690 من أفراد المصنف، وأبي داود.
2 -
(سعيد بن كثير بن عُفير) الأنصاريّ مولاهم المصريّ، صدوق [10] 3/ 3098.
3 -
(سليمان بلال) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقة [8] 30/ 558.
4 -
(يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5] 22/ 23.
5 -
(حميد الطويل) ابن أبي حميد، أبو عبيدة البصريّ، ثقة يدلس [5] 87/ 108.
6 -
(أنس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح غير شيخه، كما سبق آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فمصريان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وهو من رواية الأقران، فإن كلا منهما من الطبقة الخامسة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّهُ سَمِعَهُ) أي سمع حميدٌ أنس بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - (يَقُولُ: آخَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ قُرَيْش) يعني المهاجرين (والأَنصارِ، فآخَى بَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ) بن عمرو بن أبي زُهير بن مالك بن امرئ القيس ابن مالك الأغرّ بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاريّ الخزرجيّ، أحد نُقَباء الأنصار، استُشهد رضي الله عنه بأحد (وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه (فَقالَ لَهُ سَعْدٌ، إِنَّ لِي مالًا) أي كثيرًا، فالتنوين للتكثير، وفي رواية إسماعيل بن جعفر:"لقد علمت الأنصار أني من أكثرها مالًا"، وفي حديث عبد الرحمن:"إني أكثر الأنصار مالًا"(فَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرانِ) أي نصفان (وَلِي امْرَأَتَانِ) قال الحافظ: لم أقف على اسم امرأتي سعد بن الربيع، إلا أن ابن سعد ذكر أنه كان له من الولد أمّ سعد، واسمها جميلة، وأمها عمرة بنت حزم، وتزوّج زيد بن ثابت أم سعد، فولدت له ابنه خارجة، فيؤخذ من هذا تسمية إحدى امرأتي سعد. وأخرج الطبرانيّ في "التفسير" قصّة مجيء امرأة سعد بن الربيع بابنتي سعد، لما استُشهد، فقالت: إن عمّهما أخذ ميراثهما، فنزلت آية المواريث، وسمّاها إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" بسند له مرسل عمرةَ بنت حزم انتهى
(1)
(فانْظُرْ أَيُّهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ) يجوز في "أيّهما" وجهان من الإعراب: أحدهما: أن تكون "أيّ" استفهاميّةً، مرفوعة بالابتداء، وهي مضافة إلى ضمير التثنية، و"أحبّ" خبرها، والجملة في محلّ نصب معلّقة عنها "انظر". والوجه الثاني: أن تكون موصولة بمعنى "التي"، مفعول "انظر"، و"أحبّ" خبر مبتدإ محذوف أي هي، والجملة صلة لـ"أيهما"
(2)
(فَأَنَا أُطَلِّقُهَا، فَإِذَا حَلَّتْ) أي حلّ نكاحها بانقضاء عدّتها (فَتَزَوَّجْهَا، قَالَ) عبد الرحمن بن عوف (بارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمالِكَ) وفي رواية: "لا حاجة لي في ذلك، هل من سُوق، فيه تجارةٌ؟ قال: سوق بني قَيْنُقاع"(دُلُّونِي، أَيْ) تفسيريّة، والظاهر أنها من بعض الرواة، حيث لم يحفظ قوله (عَلَى السُّوقِ) وفي رواية البخاريّ:"دُلّوني على السوق" من غير "أَيْ"، زاد في رواية:"فدلّوه"(فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى رَجَعَ بِسَمْنٍ وَأَقِطٍ) وفي رواية البخاريّ: "فخرج إلى السوق، فباع، واشترى، فأصاب شيئًا من أقط وسمنٍ (قَدْ أَفْضَلَهُ) أي ربح كلًّا من السمن، والأقط. وأما قوله (قَالَ: وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيَّ أَثَرَ صُفْرَةٍ، فَقَالَ:
(1)
"فتح"10/ 291.
(2)
راجع "حاشية الجمل على تفسير الجلالين" 3/ 5 عند قوله تعالى: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
"مَهْيَم؟ "، فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقالَ:"أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" فقد تقدّم شرحه مستوفًى في -67/ 3352 - وكذا بيان مسائله، فراجعه تستفد.
والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
[تنبيه]: وقع في النسخة "الهندية" تقديم "كتاب عشرة النساء" إلى هذا الموضع، خلاف النسخة المصريّة، فإنها أخّرته إلى ما بعد "كتاب المزارعة"، فرأيت أن ما في النسخة الهندية أولى بالمناسبة لـ"كتاب النكاح"، فتبعتها في تقديمه؛ لذلك، فتنبّه. وقد كتب قبله في هذه النسخة: ما نصّه: آخر "كتاب النكاح"، "بسم اللَّه الرحمن الرحيم".
…
26 - (كِتَابُ عِشْرَةِ النِّساءِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "العِشْرَة" -بكسر العين المهملة، وسكون الشين المعجمة-: اسمٌ من المعاشرة، والتعاشُرِ، وهي المخالطة. قاله الفيّوميّ. وقال ابن منظور:"العِشْرةُ": المخالطةُ، عاشرته مُعاشرةً، واعتشروا، وتعاشروا: تخالطوا، قال طَرَفَة [من الرمل]:
وَلَئِنْ شَطَّتْ نَوَاهَا مَرَّةً
…
لَعَلَى عَهْدِ حَبِيبٍ مُعْتَشِرْ
جعل الحبيب جمعًا كالخليط والفريق، وعَشِيرة الرجل بنو أبيه الأَدْنَوْنَ. وقيل: هم القبيلة، والجمع عَشائر. قال أبو عليّ: قال أبو الحسن: ولم يُجمع جمع السلامة. قال ابن شُميل: العَشِيرةُ العامّةُ مثلُ بني تميم، وبني عمرو بن تميم، والعَشِير القبيلة، والعَشِيرُ المعاشر، والعَشيرُ القَريب، والصديق، والجمع عُشَراء، وعَشِيرةُ المرأة زوجها؛ لأنه يُعاشرها، وتُعاشره، كالصديق، والمصادق، قال ساعدةُ بن جؤية [من الطويل]:
رَأَتْهُ عَلَى يَأْسٍ وَقَدْ شَابَ رَأْسُها
…
وَحِينَ تَصَدَّى لِلْهَوانِ عَشِيرُها
أراد: لإهانتها، وهي عَشيرته، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فإني رأيتكنّ أكثر أهل النار"، فقلن: وبم يا رسول اللَّه؟ قال: "تكثرن اللعن، وتَكفُرنَ العَشِيرَ"
(1)
. العَشِيرُ الزوج. وقوله تعالى: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} : أي لبئس المعاشر انتهى كلام ابن منظور
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(1)
متّفقٌ عليه.
(2)
"لسان العرب" 4/ 574.
1 - (بابُ حُبِّ النِّساءِ)
3990 -
حَدَّثَنِي الشَّيْخُ الإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ، قَالَ:(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى الْقُومَسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلاَّمٌ، أَبُو الْمُنْذِرِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القائل: "حدّثني الشيخ الإمام أبو عبد الرحمن النسائيّ" هو تلميذه، والظاهر أنه الحافظ أبو بكر ابن السُّنّيّ -رحمه اللَّه تعالى-؛ لأنه المشهور برواية "المجتبى".
ورجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الحسين بن عيسى القُومسيّ) أبو عليّ البسطاميّ، نزيل نيسابور، صدوقٌ، صاحب حديث [10] 69/ 86.
[تنبيه]: قوله: "القُومَسِيُّ" بضمّ القاف وسكون الواو، وفتح الميم: نسبة إلى قُومَس
بلدة من بِسطام إلى سِمْنَان. أفاده في "لب اللباب" جـ2 ص192.
2 -
(عفّان بن مسلم) أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، قال ابن المدينيّ: كان إذا شكّ في حرف من الحديث تركه. وربّما وَهِم. وقال ابن معين: أنكرناه في صفر سنة (219) ومات بعدها بيسير، من كبار [10] 21/ 427.
3 -
(سلّام) بن سليمان المزنيّ، أبو المنذر القارئ النحويّ البصريّ، نزيل الكوفة، صدوقٌ يَهِم [7].
قال البخاريّ: ويقال عن حماد بن سلمة: سلام أبو المنذر أحفظ لحديث عاصم من حماد بن زيد. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: لا بأس به. وقال ابن الجنيد: سألت ابن معين، أثقةٌ هو؟ قال: لا. وقال ابن أبي حاتم: صدوقٌ صالح الحديث. وقال الآجريّ، عن أبي داود: ليس به بأسٌ، أُنكر عليه حديث داود عن عامر في القراءة. وقال في موضع آخر: لم يكن أحدٌ أشدّ على القدريّة منه، كان نصر بن عليّ يُنكر عليه شيئًا من الحروف. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان يُخطىء، وليس هذا بسلّام الطويل، ذاك ضعيفٌ، وهذا صدوقٌ. وقال الساجيّ: صدوقٌ يِهم، ليس بمتقن في الحديث. قال ابن معين: يُحتَمل لصدقه. وقال غيره: قرأ على عاصم، وأبي عمرو، وهو شيخ يعقوب في القراءة. ذكر بعض القرّاء أنه مات سنة (171).
تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.
4 -
(ثابت) بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة عابد [4] 45/ 53.
5 -
(أنس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير سلّام، فتفرّد به المصنف، والترمذيّ. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، كما سبق بيانه في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَنَس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حُبِّبَ) بالبناء للمفعول (إِلَيَّ مِنَ الدُّنيَا: النِّسَاءُ، والطِّيبُ) قال السنديّ: قيل: إنما حُبّب إليه النساء لينقلن عنه ما لا يطّلع عليه الرجال من أحواله، وُيستحيا من ذكره. وقيل: حُبّب إليه زيادة في الابتلاء في حقّه حتى لا يلهو بما حُبّب إليه من النساء عما كُلّف به من أداء الرسالة، فيكون ذلك أكثر لمشاقّه، وأعظم لأجره. وقيل: غير ذلك. وأما الطيب، فكأنه يحبّه لكونه يناجي الملائكة، وهم يُحبّون الطيب، وأيضًا هذه المحبّة تنشأ من اعتدال المزاج، وكمال الخلقة، وهو صلى الله عليه وسلم أشدّ اعتدالاً من حيث المزاج، وأكمل خلقة
(1)
.
وقال السيوطيّ: قال بعضهم: في هذا قولان:
[أحدهما]: أنه زيادة في الابتلاء والتكليف حتى لا يلهو بما حُبّب إليه من النساء عما كُلِّف من أداء الرسالة، فيكون ذلك أكثر لمشاقّه، وأعظم لأجره.
و [الثاني]: لتكون خلواته مع ما يُشاهدها من نسائه، فيزول عنه ما يرميه به المشركون من أنه ساحرٌ، أو شاعر فيكون تحبيبهنّ إليه على وجه اللطف به، وعلى القول الأول على وجه الابتلاء، وعلى القولين، فهو له فضيلة. وقال التستريّ في "شرح الأربعين""من" في هذا الحديث بمعنى "في"؛ لأن هذه من الدين، لا من الدنيا، وإن كانت فيها، والإضافة في رواية "دنياكم" للإيذان بأن لا علاقة له بها.
وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى وفائه صلى الله عليه وسلم بأصلي الدين: وهما التعظيم لأمر اللَّه، والشفقة على خلق اللَّه، وهما كمالا قوّتيه النظريّة، والعلميّة، فإن كمال الأولى بمعرفة
(1)
"شرح السنديّ" 7/ 61.
اللَّه، والتعظيم دليل عليها؛ لأنه لا يتحقّق بدونها، والصلاة لكونها مناجاة اللَّه تعالى على ما قال صلى الله عليه وسلم المصلّي يناجي ربّه نتيجة التعظيم على ما يلوح من أركانها، ووظائفها، وكمال الثانية في الشفقة، وحسن المعاملة مع الخلق، وأولى الخلق بالشفقة بالنسبة إلى كلّ واحد من الناس نفسه وبدنه، كما قال صلى الله عليه وسلم:"ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول"، والطيب أخصّ الذات بالنفس، ومباشرة النساء ألذّ الأشياء بالنسبة إلى البدن مع ما يتضمّن من حفظ الصحّة، وبقاء النسل المستمرّ لنظام الوجود، ثم إن معاملة النساء أصعب من معاملة الرجال لأنهنّ أرقّ دينًا، وأضعف عقلًا، وأضيق خُلُقًا، كما قال صلى الله عليه وسلم:"ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكنّ"، فهو صلى الله عليه وسلم أحسن معاملتهنّ بحيث عوتب بقوله تعالى:{تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} ، وكان صدور ذلك منه طبعًا، لا تكلّفًا، كما يفعل الرجل ما يُحبّه من الأفعال، فإذا كانت معاملته معهنّ هذا، فما ظنّك بمعاملته مع الرجال الذين هم أكمل عقلًا، وأمثلُ دينًا، وأحسنُ خُلُقًا.
وقوله (وَجُعِلَ) بالبناء للمجهول، وفي الرواية التالية:"وجُعِلت"(قُرَّةُ عَيْنِي) -بضمّ القاف، وتشديد الراء- مصدر قَرَّت العينُ تَقِرّ، من بابي ضرب، وتَعِب قُرَّةً، وقُرُورًا: إذا بَرَدَت سُرُورًا. أفاده الفيّوميّ. وقال ابن منظور: واختلفوا في اشتقاق قَرَّتْ عينُهُ، فقال بعضهم: معناه بَرَدَت، وانقطع بكاؤها، واستحرارها بالدمع، فإن للسرور دمعةً باردة، وللحزن دمعة حارّةٌ. وقيل: هو من القَرَار: أي رأت ما كانت متشوّفة إليه، فقرّت، ونامت. وقيل: أقرّ اللَّه عينك: أي بلّغك أُمنيّتك حتى ترضى نفسُك، وتسكُن عينك، فلا تستشرف إلى غيره. وقيل: أقرّ اللَّه عينك: أي صادفتَ ما يُرضيك، فتقرَّ عينك من النظر إلى غيره. ورضي أبو العبّاس هذا القول، واختاره. وقال أبو طالب: أقرّ اللَّه عينه: أنام اللَّه عينه، والمعنى صادف سُرورًا يُذهب سَهَرَهُ، فينامَ، وأنشد:
أَقَرَّ بِهِ مُوالِيكَ الْعُيُونَا
أي نامت عيونهم لَمّا ظَفِرُوا بما أرادوا انتهى كلام ابن منظور باختصار
(1)
.
(فِي الصَّلَاةِ) فيه إشارة إلى أنّ تلك المحبّة غير مانعة عن كمال المناجاة مع الربّ تبارك وتعالى، بل هو مع تلك المحبّة منقطع إليه تعالى، حتى إنه بمناجاته تقَرّ عيناه، وليس له قريرة العين فيما سواه، فمحبّته الحقيقيّة ليست إلا لخالقه تبارك وتعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم:"ولو كنت متخذا خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن صاحبكم خليل اللَّه" رواه أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، وهو متّفقٌ عليه بنحوه.
والظاهر أن المراد بالصلاة هي الصلاة المعهودة، ذات الركوع والسجود. وذكر
(1)
"لسان العرب" 5/ 86 - 87.
السنديّ احتمال أن يكون المراد في صلاة اللَّه تعالى عليّ، أو في أمر اللَّه تعالى الخلق بالصلاة عليّ
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في هذا الاحتمال بعدٌ لا يخفى، فالمعنى الأول هو الصواب، ويشهد لذلك ما أخرجه أحمد، وأبو داود بسند صحيح، عن عبد اللَّه بن محمد ابن الحنفية، قال: دخلت مع أبي، على صِهْر لنا من الأنصار، فحضرت الصلاة، فقال: يا جارية ائتيني بوضوء، لعلي أصلي، فأستريح، فرآنا أنكرنا ذاك عليه، فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "قم، يا بلال، فأرحنا بالصلاة". واللَّه تعالى أعلم.
وقال الحافظ السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وقوله: "وجعلت قرّة عيني في الصلاة" إشارة إلى أنّ كمال القوّة النظريّة أهمّ عنده، وأشرف في نفس الأمر، وأما تأخيره، فللتدريج التعليميّ من الأدنى إلى الأعلى، وقدّم الطيب على النساء؛ لتقدّم حظّ النفس على حظّ البدن في الشرف.
وقال الحكيم الترمذيّ في "نوادر الأصول": الأنبياء زيدوا في النكاح لفضل نبوّتهم، وذلك أن النور إذا امتلأ منه الصدر، ففاض في العروق التذّت النفس، والعروق، فأثار الشهوة، وقوّاها.
وروى سعيد بن المسيّب أن النبيين - عليهم الصلاة والسلام - يُفضّلون بالجماع على الناس. وروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعطيتُ قوّة أربعين رجلًا في البطش والنكاح، وأعطي المؤمن قوّة عشرة"
(2)
، فهو بالنبوّة، والمؤمن بإيمانه، والكافر له شهوة الطبيعة فقط.
قال: وأما الطيب، فإنه يزكّي الفؤاد، وأصل الطيب إنما خرج من الجنّة، تزوّج
(3)
(1)
"شرح السنديّ" 7/ 62.
(2)
في "صحيح البخاريّ" رقم-268 - عن أنس رضي الله عنه، قال: كنا نتحدّث أنه أُعطي قوة ثلاثين". قال في "الفتح": ووقع في رواية الإسماعيليّ من طريق أبي موسى، عن معاذ بن هشام: "أربعين" بدل "ثلاثين"، وهي شاذّةٌ من هذا الوجه، لكن في مراسيل طاوس مثل ذلك، وزاد "في الجماع". وفي صفة الجنّة لأبي نعيم من طريق مجاهد مثله، وزاد: "من رجال الجنّة". ومن حديث عبد اللَّه بن عمرو رفعه: "أعطيت قوّة أربعين في البطش والجماع". وعند أحمد، والنسائيّ، وصححه الحاكم من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، رفعه: "إن الرجل من أهل الجنة ليُعطَى قوّة مائة في الأكل والشرب والجماع والشهوة". فعلى هذا يكون حساب قوّة نبينا صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف انتهى ما في "الفتح" 1/ 502 - 503. "كتاب الغسل".
(3)
هكذا النسخة "تزوّج" بالجيم، ولعله بالدال المهملة، فليُحرّر.
آدم منها بورقة تَسَتَّر بها، فتُركت عليه. وروى أحمد، والترمذيّ من حديث أبي أيوب رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أربعٌ من سنن المرسلين: التعطّر، والحياء، والنكاح، والسواك"
(1)
.
وقال الشيخ تقيّ الدين السبكيّ -رحمه اللَّه تعالى-: السرّ في إباحة نكاح أكثر من أربع لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن اللَّه تعالى أراد نقل بواطن الشريعة، وظواهرها، وما يُستحيا من ذكره، وما لا يُستحيا منه، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أشدّ الناس حياء، فجعل اللَّه تعالى نسوة ينقلن من الشرع ما يرينه من أفعاله، ويسمعنه من أقواله التي قد يستحيي من الإفصاح بها بحضرة الرجال؛ ليتكمّل نقل الشريعة، وكثر عدد النساء؛ ليكثر الناقلون لهذا النوع، ومنهنّ عُرف مسائل الغسل، والحيض، والعدة، ونحوها. قال: ولم يكن ذلك لشهوة منه في النكاح، ولا كان يحبّ الوطء للذّة البشريّة، معاذ اللَّه، وإنما حُبّب إليه النساء لنقلهنّ عنه ما يَستَحيِي هو من الإمعان في التلفّظ به، فأحبّهنّ لما فيه من الإعانة على نقل الشريعة في هذه الأبواب. وأيضًا فقد نقلن ما لم ينقله غيرهنّ، مما رأينه في منامه، وحالة خلوته، من الآيات البيّنات على نبوّته، ومن جِدِّه، واجتهاده في العبادة، ومن أمور يشهد كلّ ذي لبّ أنها لا تكون إلا لنبيّ، وما كان يشاهدها غيرهنّ، فحصل بذلك خيرٌ عظيمٌ.
وقال الموفّق عبد اللطيف البغداديّ: لَمّا كانت الصلاة جامعةً لفضائل الدنيا والآخرة، خصّها بزيادة صفة، وقدّم الطيب
(2)
لإصلاحه النفس، وثَنّى بالنساء؛ لإماطة أذى النفس بهنّ، وثلّث بالصلاة؛ لأنها تحصل حينئذ صافيةً عن الشوائب، خالصةً عن الشواغل. انتهى كلام السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(3)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا-1/ 3390 و 3391 - وفي
(1)
حديث ضعيف؛ لأن في سنده الحجاج بن أرطأة، كثير التدليس عن "الضعفاء" وقد عنعنه، وفيه أيضًا أبو الشمال مجهول.
(2)
لعله وجد رواية تقدّم ذكر الطيب على ذكر النساء، وإلا ففي رواية المصنّف تقديم النساء على الطيب.
(3)
"زهر الربى" 7/ 61 - 65.
"الكبرى" 1/ 8887 و 8888. وأخرجه أحمد في "مسند المكثرين" 11884 و 12644 و 13623. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعيّة حبّ النساء، وأنه لا ينافي مقام النبوّة. (ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من قوّة محبّته للَّه عز وجل حيث لم يؤثر فيه حبّه للنّساء، بل ازداد به القرب من اللَّه تعالى والزلفى. (ومنها): أنه يدلّ على أن محبّته صلى الله عليه وسلم للنساء والطيب ليس من جنس المحبّة المجرّدة الشهويّة، كسائر عامة الناس، بل لكونه طريقًا لنشر الشريعة التي لا تُنقل من طرق الرجال، بل من طرق الأزواج اللاتي يلازمنه في نومه، ويقظته، وأكله وشربه، وسائر أحواله التي يكون عليها من حين يدخل بيته إلى أن يخرج منه. (ومنها): بيان أن محبّة النساء، وسائر ملاذّ الدنيا إذا لم يؤدّ إلى الإخلال بأداء حقوق العبوديّة لا يكون نقصًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3991 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عليّ بن مسلم" بن سعيد الطُوسيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ [10].
قال النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في، "الثقات". وقال الدارقطنيّ: ثقة. وُلد سنة (160) ومات في جمادى الآخرة سنة (253). تفرّد به البخاريّ، وأبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديث الباب فقط.
و"سيار" بن حاتم الْعَنَزيّ
(1)
أبو سلمة البصريّ، صدوقٌ له أوهام، من كبار [9]. قال أبو داود، عن القواريريّ: لم يكن له عقل، قلت: يُتّهم بالكذب؟ قال: لا. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان جمّاعًا للرقائق. وقال أبو أحمد الحاكم: في حديثه بعض المناكير. وقال العقيلي: أحاديثه مناكير، ضعّفه ابن المدينيّ. وقال الأزديّ: عنده مناكير. قال عليّ بن مسلم: مات سنة (200) أو (199). تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.
و"جعفر" بن سليمان الضُّبَعِيّ، أبو سليمان البصريّ، صدوق زاهد، لكنّه كان يتشيّع
(1)
بفتح العين المهملة والنون، ثم زاي.
[8]
14/ 14.
والحديث صحيح، سبق شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3992 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ،، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: "لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ، أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بَعْدَ النِّسَاءِ مِنَ الْخَيْلِ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث ضعيفٌ، لعنعنة قتادة، حيث إنه مدلّس، وسعيد مختلط، أخرجه المصنّف هنا - 1/ 3392 وفي "كتاب الخيل"، "باب حبّ الخيل" 2/ 3591 - وفي "الكبرى" 1/ 8889.
وقوله: "لم يكن شيء أحبّ الخ" قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: لعلّ ترك ذكرها في حديث "حُبّب إليّ من دنياكم: النساء، والطيب"؛ لعدّها من الدين؛ لكونها آلة الجهاد. واللَّه تعالى أعلم انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن يعكر عليه أنه ذكر هناك الصلاة، وهي من الدين قطعًا، فتأمّل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
2 - (مَيْلُ الرَّجُلِ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ دُونَ بَعْضٍ)
3993 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، يَمِيلُ لإِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ»).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفيّ البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.
(1)
"شرح السنديّ" 6/ 218.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهديّ العنبريّ البصريّ، ثقة ثبت إمام [9] 42/ 49.
3 -
(همام) بن يحيى العَوْذيّ البصريّ، ثقة ربما وهم [7] 5/ 465.
4 -
(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري، ثقة ثبت يدلس [4] 30/ 34.
5 -
(النضر بن أنس) أنس بن مالك الأنصاريّ، أبو مالك البصريّ، أبو مالك البصريّ، ثقة [3].
قال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الآجريّ، عن أبي داود: كان فيمن خرج إلى الجماجم. وذكر الطبريّ أنه كان فيمن خرج مع زيد بن المهلّب أيام خروجه على يزيد بن عبد الملك. وقال ابن سعد: كان ثقة، له أحاديث، ومات قبل الحسن. يعني البصري. وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقة. مات سنة بضع ومائة. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث.
6 -
(بشير بن نَهِيك) -بفتح النون، وكسر الهاء- أبو الشعثاء البصريّ، ثقة [3] 141/ 1107.
7 -
(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: قتادة، عن النضر، عن بشير. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ) الظاهر أن الحكم غير مقصور على امرأتين، بل هو اقتصار على الأدنى، فمن له ثلاث، أو أربع كان كذلك. قاله السنديّ (يَمِيلُ لِإِحداهُمَا عَلَى الْأُخْرَى) أي ميلًا فعليًّا، فإنه المنهيّ عنه، فلا يؤاخذ بالميل القلبيّ، إذا سوّى بينهما بي فعل القَسْم؛ لقوله عز وجل:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} الآية [النساء: 129]. قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبّة، والجماع، والحظّ من القلب، فوصف اللَّه تعالى حالة البشر، وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: "اللَّهم إن هذه قسمتي
فيما أملك، فلا تلُمني فيما تملك، ولا أملك"
(1)
، ثم نهى، فقال:{فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} قال مجاهد: لا تتعمّدوا الإساءة، بل الزموا التسويةَ في القَسْم والنفقة؛ لأن هذا مما يُستطاع. انتهى
(2)
(جَاءَ يَوْمَ القِيامَةِ، أَحَدُ شِقَّيهِ مَائِلٌ) الشّقّ -بالكسر-: النصف، ومنه قولهم: المال بيني وبينك شِقّين: أي نصفين. قاله الطيبيّ
(3)
.
أي يجيء يوم القيامة غير مستوي الطرفين، بل يكون أحدهما كالراجح وزنًا، كما كان في الدنيا غير مستوي الطرفين بالنظر إلى المرأتين، بل كان يرجّح إحداهما على الأخرى
(4)
.
وفي رواية الترمذيّ: "وشِقّه ساقط". قال في "تحفة الأحوذيّ" أي نصفه مائل. قيل: بحيث يراه أهل العرصات ليكون هذا زيادةٌ في التعذيب، وهذا الحكم غير مقصور على امرأتين، فإنه لو كانت ثلاث، أو أربع كان السقوط ثابتًا، واحتمل أن يكون نصفه ساقطًا، وإن لزم الواحدة، وترك الثلاث، أو كانت ثلاثة أرباعة ساقطة، وعلى هذا فاعتبر. ثم إن كانت الزوجتان إحداهما حرّة، والأخرى أمةً، فللحرّة الثلثان من القسم، وللأمة الثلث، بذلك ورد الأثر، قضى به أبو بكر وعليّ - رضي اللَّه تعالى عنهما -. كذا في "المرقاة"
(5)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا- 2/ 3393 - وفي "الكبرى" 2/ 8890. وأخرجه (د) في "النكاح" 2133 (ت) في "النكاح" 1141 (ق) في "النكاح" 1969 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 8363 و 9740 (الدارمي) في "النكاح" 2206. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض، وهو التحريم؛ للوعيد المذكور في هذا الحديث. (ومنها):
(1)
سيأتي الكلام عليه قريبًا.
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 407. "تفسير سورة النساء".
(3)
"شرح الطيبيّ على المشكاة" 6/ 304 - 305.
(4)
"شرح السنديّ" 7/ 63.
(5)
"تحفة الأحوذيّ" 4/ 295.
وجوب القسم بين الزوجات. (ومنها): اعتناء الشارع بإبعاد ما من شأنه أن يُحدث الشحناء والبغضاء بين الأمة، فحرّم التفرقة بين الزوجات؛ لأن ذلك يورث الشقاق بين الرجل وأهل بيته، بل يتعدّى ذلك إلى أهاليهما، فيجب الابتعاد عنه. (ومنها) الحثّ على مكارم الأخلاق، من التسوية بين من أوجب الشارع ذلك لهم، فلا يجوز الميل إلى أحد الجانبين إلا إذا كان ذلك مشروعًا، كان تكون إحدى الزوجات أمةً، فلا يجب التسوية بينها وبين الحرّة في القسم، بل لها نصف ما للحرّة من الأيام. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال أبو العباس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ما حاصله: لم يُختلف في حقّ غير النبيّ صلى الله عليه وسلم ممن له زوجات أن العدل عليه واجب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان
…
" الحديث. ولقوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} الآية [النساء: 129].
قال: فأما كيفيّة القَسْم، فلا خلاف في أن عليه أن يفرد كلّ واحدة بليلتها، وكذلك قول عامّة العلماء في النهار. وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الليل، دون النهار، ولا يدخل لإحداهما في يوم الأخرى وليلتها، لغير حاجة، واختُلف في دخوله لحاجة وضرورةٍ، فالأكثرون على جوازه، مالك وغيره. وفي كتاب ابن حبيب منعه. ويعدل بينهنّ في النفقة، والكسوة، إذا كنّ معتدلات الحال، ولا يلزم ذلك في المختلفات المناصب، وأجاز مالك أن يفضّل إحداهما في الكسوة على غير جهة الميل.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله القرطبيّ من عدم لزوم العدل في المختلفات المناصب، ونقله عن مالك -رحمه اللَّه تعالى- من التفضيل في الكسوة يحتاج إلى دليل يخصّصه من عموم أدلّة وجوب العدل في القسم، فتأمّل. واللَّه تعالى أعلم.
قال: فأما الحبّ والبغض، فخارجان عن الكسب، فلا يتأتى العدل فيهما، وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم:"فلا تلُمني فيما تملك، ولا أملك"
(1)
. وعند أبي داود: "يعني القلب"، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} الآية. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
.
وقال أبو عبد اللَّه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ولا يُسقط حقّ الزوجة مرضها، ولا حيضها، ويلزمه المقام عندها في يومها وليلتها، وعليه أن يعدل في مرضه، كما يفعل في صحّته، إلا أن يعجز عن الحركة، فيقيم حيث غلب عليه المرض، فإذا صحّ استأنف
(1)
سيأتي الكلام عليه قريبًا.
(2)
"المفهم" 4/ 204 - 206.
القَسْمَ، والإماء والحرائر، والكتابيّات، والمسلمات في ذلك سواء. قال عبد الملك: للحرّة ليلتان، وللأمة ليلة. وأما السراري فلا قسم بينهنّ وبين الحرائر، ولا حظّ لهن فيه انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3994 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ، ثُمَّ يَعْدِلُ، ثُمَّ يَقُولُ:«اللَّهُمَّ هَذَا فِعْلِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا أَمْلِكُ» .
أَرْسَلَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْماعِيلَ بْنِ إِبراهِيمَ) المعروف أبوه بابن عُليّة البصريّ، نزيل دمشق، وقاضيها، ثقة [11] 22/ 489.
2 -
(يزيد) بن هارون بن زاذان السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقة ثبت متقن عابد [9] 153/ 244.
3 -
(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد، من كبار [8] 181/ 288.
4 -
(أيوب) بن أبي تيمة كيسان، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت فقيه [5] 42/ 48.
5 -
(أبو قلابة) عبد اللَّه بن زيد بن عمرو الجرميّ البصريّ، ثقة فاضل، كثير الإرسال، فيه نصب يسير [3] 103/ 322.
6 -
(عبد اللَّه بن يزيد) العجليّ البصريّ رضيع عائشة البصريّ، ثقة [3] 78/ 1992.
7 -
(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، وشيخه، وإن نزل الشام، إلا أنه بصريّ الأصل. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: أيوب، وأبو قلابة، وعبد اللَّه بن يزيد. (ومنها): أن فيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عائِشَةَ) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 14/ 217. "تفسير سورة الأحزاب".
يَقْسِمُ بَيْنَ نِسائِهِ) بفتح حرف المضارعة، يقال: قسمته قَسْمًا، من باب ضرب: إذا فَرَزْته أجزاءً، فانقسم، والموضعُ مَقْسِمٌ، مثلُ مَسْجِدٍ، والفاعل قاسمٌ، وقسّامٌ مبالغةٌ، والاسم القِسمُ بالكسرِ، ويُطلق على الحِصّة، والنصيبِ، فيقال: هذا قِسْمي، والجمع أَقسَامٌ، مثلُ حِمْل وأحمالٍ، واقتسموا المال بينهم، والاسم القِسْمَةُ، وأُطلقت على النصيب أيضًا، وجمعها قِسَمٌ، مثلُ سِدرةٍ وسِدَرٍ، وتجب القِسْمَةُ بين النساء، وقِسْمةٌ عادلةٌ، أي اقتسامٌ، أو قَسْمٌ. قاله الفيّوميّ. ويُستفاد منه أن القَسْم بالفتح، بلا هاء مصدرٌ، والقسمة بالهاء بكسر القاف اسم مصدر، والقسم بالكسر النصيب والحظ. فتنبّه.
(ثُمَّ يَعْدِلُ) بكسر الدال المهملة، من باب ضرب: أي يُسوّي بينهنّ في القسم (ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ هَذَا فِعْلي فِيمَا أَمْلِكُ) أي فيما يستطيع القيام به، من التسوية في المبيت، والكلام، والطعام، واللباس، ونحوها (فَلَا تَلُمْنِي) بضم اللام، أي لا تعاتبني، ولا تؤاخذني. قال الفيّوميّ: لامهُ لَوْمًا، من باب قال: إذا عَذَلَه، فهو ملوم، والفاعل لائمٌ، والجمع لُوَّمٌ، مثلُ راكع ورُكّع، وألامه بالألف لغةٌ، فهو مُلامٌ، والفاعل مُليمٌ، والاسم الْمَلامةُ، والجمع مَلاوِمُ، واللائمةُ مثلُ الْمَلامة، وألام الرجلُ إِلامةً: فعل ما يَستحقّ عليه اللوم. قاله الفيّوميّ (فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا أَمْلِكُ) أي من زيادة المحبّة والميل القلبيّ. قال ابن الهمام: ظاهره أن ما عداه مما هو داخلٌ تحت ملكه، وقدرته يجب التسوية فيه، ومنه عدد الوطآت، والقُبْلات، والتسوية فيهما غير لازمة إجماعا انتهى
(1)
.
وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: فإن قلت: بمثله لا يؤاخذ، ولا يلام غيره صلى الله عليه وسلم، فضلًا عن أن يلام هو، إذ لا تكليف بمثله، فما معنى هذا الدعاء؟.
قلت: لعله مبنيّ على جواز التكليف بمثله، وإن رُفع التكليف تفضّلاً منه تعالى، فينبغي للإنسان أن يتضرّع في حضرته تعالى؛ ليُديم هذا الإحسان، أو المقصود إظهار افتقار العبوديّة، وفي مثله لا التفات إلى مثل هذه الأبحاث. واللَّه تعالى أعلم انتهى
(2)
. وقوله: "أرسله حماد بن زيد" أشار به إلى إعلال رواية حماد بن سلمة هذه بأن حماد بن زيد خالفه في وصلها، فرواها مرسلة، وغرضه بهذا تضعيف هذه الرواية، لكن سيأتي تصحيحه إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
(1)
راجع تحفة الأحوذيّ 4/ 294.
(2)
"شرح السنديّ" 7/ 64/ 65.
حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وقد أشار المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- إلى ضعفه بقوله:"أرسله حماد بن زيد"، وأراد بذلك إعلاله بالإرسال، يعني أن حماد بن زيد خالف حماد بن سلمة فأرسله، وهو مقدّم عليه في أيّوب، فتكون روايته غير محفوظة، وكذا أعلّه الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "جامعه"، فقال -بعد أن أخرج رواية حماد بن سلمة موصولةً-: ما نصّه: ورواه حماد بن زيد، وغير واحد عن أيوب، عن أبي قلابة، مرسلًا: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَقْسم، وهذا أصحّ من حديث حماد بن سلمة انتهى
(1)
. وكذا أعلّه الدارقطنيّ.
وأورده ابن أبي حاتم في "العلل" 1/ 425 - من طريق حماد بن سلمة، ثم قال: فسمعت أبا زرعة يقول: لا أعلم أحدًا تابع حمادًا على هذا. -يعني على وصله-. وأيّده ابن أبي حاتم بقوله: قلت: روى ابن عُليّة، عن أيوب، عن أبي قلابة: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه
…
الحديث مرسلٌ انتهى. والحاصل أنهم أعلّوه بالإرسال، فيكون المرسل هو المحفوظ.
[قلت]: إنما صَحَّ وإن كان الأرجح إرساله لأن له شواهدَ يعتضدُ بها، والمرسل إذا اعتضد يُقبَلُ، فمن شواهده حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه أبو داود، فقال في "سننه":
2135 -
حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن أبي الزناد- عن شام ابن عروة، عن أبيه، قال: قالت عائشة: يا ابن أختي، كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لا يُفَضِّلُ بعضنا على بعض في القسم، من مكثه عندنا، وكان قَلَّ يوم، إلا وهو يطوف علينا جميعًا، فيدنو من كل امرأة، من غير مَسِيسٍ، حتى يبلغ إلى التي هو يومها، فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة- حين أَسَنَّت، وفَرَقَتْ أن يفارقها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا رسول اللَّه، يومي لعائشة، فقَبِلَ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -منها، قالت: نقول: في ذلك، أنزل اللَّه تعالى، وفي أشباهها -أراه قال-:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} الآية. وهذا إسناد حسنٌ، وأخرجه الحاكم 2/ 186 - وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبيّ.
ومنها: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان معه تسع نسوة، فكان يقسم لثمان، وواحدة لم يكن يقسم لها. متفق عليه، وقد سبق للمصنف في أول "كتاب النكاح". فهذان الحديثان يشهدان للجُزْءِ الأول منه
(2)
.
والحاصل أن الحديث وإن رُجِّح إرساله، لكنه صحيح بشواهده. فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"الجامع" للإمام الترمذيّ 4/ 294 بنسخة "تحفة الأحوذيّ".
(2)
وأما الجزي الأخير فهو باق على إرساله، فتبصّر.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا- 2/ 3394 - وفي "الكبرى" 2/ 8891. وأخرجه (د) في "النكاح" 2134 (ت) في "النكاح" 1140 (ق) في "النكاح" 1971 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 24587 (الدارمي) 2207. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم ميل الرجل إلى بعض زوجاته أكثر من بعض، وذلك أنه لا يجوز، ووجه الدلالة من الحديث، من حيث إنه صلى الله عليه وسلم، كان يَعدل، ويقول:"اللَّهم إن هذا فعلي فيما أملك الخ"، فإنه يدلّ على أن الميل فيما يقدر عليه الإنسان لا يجوز، وإنما يجوز له فيما لا يقدر عليه بأن كان ميلا قلبيًّا. (ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من حسن المعاملة لأزواجه، فلا يفضل بعضهنّ على بعض، فيما يستطيع من ذلك. (ومنها): تواضعه صلى الله عليه وسلم لربّه، وتضرعه إليه بالدعاء بعدم المؤاخذه بالميل القلبيّ، وإن كان ذلك مما عفا اللَّه عنه، كما أشار إليه بقوله:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} الآية. (ومنها): أنه استدلّ بهذا الحديث من قال بوجوب القسم على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسنحقّقه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وجوب القسم بين الزوجات على النبيّ صلى الله عليه وسلم:
قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ما حاصله: وهل كان القسم منه صلى الله عليه وسلم على جهة الوجوب، كما هو على غيره بالاتفاق، أو هو مندوبٌ إلى ذلك، لكنّه أخذ نفسه بذلك، رغبةً في تحصيل الثواب، وتطييبًا لقلوبهنّ، وتحسينًا للعِشْرة على مقتضى خُلُقه الكريم، ولِيُقْتَدَى به في ذلك؟ قولان لأهل العلم، مستند القول بالوجوب التمسّك بعموم القاعدة الكليّة في وجوب العدل بينهنّ، وبقوله:"اللَّهمّ هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك، ولا أملك" -يعني الحبّ والبغض. ومُستند نفيه قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51]. ولم يُختَلف في حقّ غير النبيّ صلى الله عليه وسلم ممن له زوجات أن العدل واجبٌ عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان، فلم يعدل
…
" الحديث. ولقوله تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} الآية [النساء: 129] انتهى
(1)
.
(1)
"المفهم" 4/ 203 - 204.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن الأرجح قول من قال بعدم وجوب القسم عليه صلى الله عليه وسلم، لوضوح دلالة الآية المذكورة في ذلك، وإنما كان يَقسم من عنده إيثارًا لمكارم الأخلاق، وحسن العشرة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أُنيب".
…
3 - (حُبُّ الرّجُلِ بَعْضَ نِسَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الفرق بين هذه الترجمة والتي قبلها أن تلك لبيان ما لا يجوز من الميل والجور في القسم بأن يعامل إحدى نسائه بما لا يعامل به غيرها من اللباس، والمآكل، والمشارب، وغيرها، وهذه لبيان ما يجوز من الميل القلبيّ الذي لا يستطيع الإنسان أن يفعله بين زوجاته بالسويّة، فإنه مغتفَرٌ، بنصّ قوله تعالى:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} الآية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3995 -
(أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ مَعِي فِي مِرْطِي، فَأَذِنَ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ، يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، وَأَنَا سَاكِتَةٌ، فَقَالَ: لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «أَيْ بُنَيَّةُ، أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَنْ أُحِبُّ؟» ، قَالَتْ: بَلَى، قَالَ:«فَأَحِبِّي هَذِهِ» ، فَقَامَتْ فَاطِمَةُ، حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَجَعَتْ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَتْهُنَّ بِالَّذِي قَالَتْ: وَالَّذِي قَالَ لَهَا، فَقُلْنَ لَهَا: مَا نَرَاكِ أَغْنَيْتِ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ، فَارْجِعِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُولِي لَهُ: إِنَّ أَزْوَاجَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ، فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، قَالَتْ فَاطِمَةُ: لَا وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَدًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي، مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنْزِلَةِ، عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ، خَيْرًا فِي الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ، وَأَتْقَى لِلَّهِ عز وجل، وَأَصْدَقَ حَدِيثًا، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ، وَأَعْظَمَ صَدَقَةً، وَأَشَدَّ ابْتِذَالاً
لِنَفْسِهَا فِي الْعَمَلِ، الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ، وَتَقَرَّبُ بِهِ، مَا عَدَا سَوْرَةً مِنْ حِدَّةٍ، كَانَتْ فِيهَا، تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرْطِهَا، عَلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا، فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي، يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، وَوَقَعَتْ بِي، فَاسْتَطَالَتْ، وَأَنَا أَرْقُبُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَرْقُبُ طَرْفَهُ، هَلْ أَذِنَ لِي فِيهَا، فَلَمْ تَبْرَحْ زَيْنَبُ، حَتَّى عَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ، فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا، لَمْ أَنْشَبْهَا بِشَيْءٍ، حَتَّى أَنْحَيْتُ عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ» ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عبيد اللَّه بن سعد بن إبراهيم بن سعد) أبو الفضل البغداديّ، قاضي أصبهان، ثقة [11] 17/ 480.
2 -
(عمّه) هو يعقوب بن إبراهيم الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار [9] 196/ 314.
3 -
(أبوه) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8] 196/ 314.
4 -
(صالح) بن كيسان الغفاريّ أبو محمد المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيه [4] 196/ 314.
5 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت الشهير المدنيّ، رأس [4] 1/ 1.
6 -
(محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام) بن المغيرة بن عبد اللَّه بن مخزوم المخزوميّ المدنيّ، أخو أبي بكر، ثقة [3].
روى عن عائشة. وعنه الزهريّ. قال ابن سعد: كان ثقة، قليل الحديث. وقال النسائيّ: ثقة. وذكره مسلم في الطبقة الأولى من المدنيين. وقال الأزديّ في "الضعفاء": محمد بن عبد الرحمن بن الحارث، قال ابن معين: ليس حديثه بشيء
(1)
. علّق عنه البخاريّ، وأخرج له مسلم، والمصنّف وله عندهما حديث الباب فقط.
7 -
(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال
(1)
معنى كلام ابن معين هذا: أنه لم يرو حديثًا كثيرًا؛ لأن ابن معين أكثر ما يطلق هذه العبارة على قلّة المرويّ. فتنبّه.
الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم، عن بعض: صالح، وابن شهاب، ومحمد بن عبد الرحمن. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ (قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ) المخزوميّ (أَنَّ عاَئِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (قَالَتْ: أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاطِمَةَ بنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وسبب الإرسال هو ما أخرجه الشيخان، وغيرهما
(1)
، واللفظ للبخاريّ، من طريق حماد بن زيد، عن هشام، عن أبيه، قال: كان الناس يَتَحَرَّون بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة، فقلن: يا أم سلمة، واللَّه إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير، كما تريده عائشة، فمري رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أن يأمر الناس أن يُهدُوا إليه، حيث ما كان، أو حيث ما دار، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فأعرض عني، فلما عاد إليّ ذكرت له ذاك، فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له، فقال:"يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنه واللَّه ما نزل عليَّ الوحيُ، وأنا في لِحَاف امرأة منكن غيرها".
وأخرج أيضًا من طريق سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، أن نساء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كُنّ حزبين، فحزب فيه عائشة، وحفصة، وصفية، وسودة، والحزب الآخر أم سلمة، وسائر نساء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون قد علموا حب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عائشة، فإذا كانت عند أحدهم هدية، يريد أن يهديها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أخرها حتى إذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، في بيت عائشة، بعث صاحب الهدية بها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، فكلم حزب أم سلمة، فقلن لها: كلمي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يكلم الناس، فيقول: من أراد أن يهدي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هدية، فليهده إليه، حيث كان، من بيوت نسائه، فكلمته أم سلمة بما قلن، فلم يقل لها شيئًا، فسألنها، فقالت: ما قال لي شيئا، فقلن لها: فكلميه، قالت فكَلَّمَتْهُ حين دار إليها أيضا، فلم يقل لها شيئا، فسألنها، فقالت: ما قال لي شيئا، فقلن لها: كلميه حتى يكلمك، فدار إليها فكلمته، فقال لها:"لا تؤذيني في عائشة، فإن الوحي لم يأتني، وأنا في ثوب امرأة، إلا عائشة"، قالت: فقالت: أتوب إلى اللَّه من أذاك يا رسول اللَّه، ثم إنهن دعون فاطمة، بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأرسلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، تقول: إن نساءك
(1)
سيأتي للمصنف بعد خمسة أحاديث، وأخرجه الترمذيّ برقم 3879.
ينشدنك اللَّه العدل في بنت أبي بكر
…
" الحديث.
(فاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ) أي طلبت الإذن بالدخول عليه صلى الله عليه وسلم (وَهُوَ مُضْطَجِعٌ) اسم فاعل من الاضطجاع، افتعال من الضَّجْعِ، يقال: ضَجَعتُ ضَجْعًا، من باب نفع، وضُجُوعًا: وَضَعْتُ جنبي بالأرض، وأضْجعتُ بالألف لغةٌ. قاله الفيّوميّ. والجملة في محلّ نصب على الحال، أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم واضع جنبه على الأرض "مَعِي فِي مِرْطِي) بكسر الميم، وسكون الراء: كساء من صوفٍ، أو خَزٍّ، يُؤتزرُ به، وتَتَلَفَّع المرأة به، والجمع مُرُوط، مثلُ حِمْلٍ وحُمُول. قاله الفيّوميّ.
قال أبو العباس القرطبيّ: وفي دخول فاطمة، وزينب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو مع عائشة في مِرْطها، دليلٌ على جواز مثل ذلك، إذ ليس فيه كشف عورة، ولا ما يُستقبح على من فَعَل ذلك مع خاصّته، وأهله انتهى
(1)
.
قال الحافظ وليّ الدين: قد تبيّن برواية مسلم، والنسائيّ من طريق محمد بن عبد الرحمن، عن عائشة أن كلًّا منهما لم يدخل إلا بعد استئذان، فلو كره صلى الله عليه وسلم دخولهما على تلك الحالة لحجبهما، أو تغير عن حالته التي كان عليها.
[فإن قلت]: فقد روى النسائيّ
(2)
، وابن ماجه من رواية البَهِيّ، عن عروة، عن عائشة، قالت: ما علمت حتى دخلت عليّ زينب بغير إذن، وهي غضبى، ثم قالت: يا رسول اللَّه أحسبك، إذا قَلَبَتْ بُنَيّةُ أبي بكر ذُرَيْعَتَيها، ثم أقبلت عليّ، فأعرضت عنها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دونك فانتصري، فأقبلت عليها، حتى رأيتها، وقد يبس ريقها في فيها، ما ترد عليّ شيئا، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه.
[قلت]: الظاهر أن هذه واقعة أخرى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث المذكور حديث صحيح، وهذا الذي قاله وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-، من حمل هذه القصّة على أنها واقعة أخرى حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم.
(فَأَذِنَ لَهَا، فَقالَت: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ، يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحافَةَ) قال النوويّ: معناه يسألنك التسوية في محبّة القلب، وكان صلى الله عليه وسلم يُسوّي بينهنّ في الأفعال، والمبيت، ونحوه، وأما محبّة القلب فكان يحب عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - أكثر منهنّ، وأجمع المسلمون على أن محبّتهنّ لا تكليف فيها. ولا يلزمه التسوية فيها؛ لأنه لا قدرة لأحد عليها إلا اللَّه سبحانه وتعالى، وإنما أمر بالعدل في الأفعال.
(1)
"المفهم" 6/ 324.
(2)
أي في "الكبرى" 5/ 290 رقم 8914 و 8915 و8916.
وقد اختلف أصحابنا، وغيرهم من العلماء في أنه صلى الله عليه وسلم، هل كان يلزمه القسم بينهنّ في الدوام، والمساواة في ذلك، كما يلزم غيره، أم لا يلزمه، بل يفعل ما يشاء، من إيثار وحرمان؟
(1)
. فالمراد بالحديث طلب المساواة في محبّة القلب، لا العدل في الأفعال، فإنه كان حاصلًا قطعًا، ولهذا كان يُطاف به صلى الله عليه وسلم في مرضه عليهنّ حتى ضَعُف، فاستأذنهنّ في أن يُمَرَّض في بيت عائشة، فأَذِنَّ له انتهى
(2)
.
وقال أبو العبَّاس القرطبيّ: طلب أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم منه العدل بينهنّ، وبين عائشة - رضي اللَّه تعالى عنهن - ليس على معنى أنه جار عليهنّ، فمنعهن حقًّا هو لهنّ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم منزَّهٌ عن ذلك، ولأنه لم يكن العدل بينهنّ واجبًا عليه، لكن صدر ذلك منهنّ بمقتضى الْغَيْرة والحرص على أن يكون لهن مثلُ ما كان لعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من إهداء الناس له، إذا كان في بيوتهنّ، فكأنهنّ أردن أن يأمر من أراد أن يُهدي له شيئًا ألا يتحرّى يوم عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، ولذلك قال:"وكان الناس يتحرّون بهداياهم يوم عائشة".
ويحتمل أن يقال: إنهنّ طلبن منه أن يُسوّي بينهنّ في الحبّ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"ألست تحُبّين من أُحبّ؟ " قالت: بلى، قال:"فأَحِبِّي هذه"، وكلا الأمرين لا يجب العدل فيه بين النساء، أما الهديّة فلا تُطلب من المهدي، فلا يتعيّن لها وقتٌ، وأما الحبّ، فغير داخل تحت قدرة الإنسان، ولا كسبه. انتهى
(3)
.
وقال الحافظ وليّ الدين: مقتضى القصة التي سُقناها من عند البخاريّ أن الذي طلبنه منه مساواتهنّ لعائشة في الإهداء للنبيّ صلى الله عليه وسلم في بيوتهنّ، وقد صرّحت له أم سلمة بذلك مرارًا قبل حضور فاطمة، وزينب، ولم يصدُر ذلك منهنّ عن اعتدال، وهذا الكلام فيه تعريضٌ بطلب الهديّة، واستدعائها، وذلك ينافي كماله صلى الله عليه وسلم أن يقوله على سبيل العموم، أما قوله ذلك لواحد بعينه على سبيل الانبساط إليه، وتكريمه فلا مانع منه، بل آحاد ذوي المودّات يمتنع من مثل ذلك، ولعلّ قوله صلى الله عليه وسلم في جواب أم سلمة:"لا تؤذيني في عائشة، فإن الوحي لم يأتني، وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة"، إشارة إلى أن تقليب قلوب الناس للإهداء في نوبة عائشة أمرٌ سماويٌّ، لا حِيلة لي فيه، ولا صنع بدليل اختصاصها بنزول الوحي عليّ، وأنا في ثوبها، دون غيرها من أمهات المؤمنين، فلا يمكنني قَطْعُ ذلك، ولا آمْرُ الناس بخلافه انتهى كلام وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-
(4)
.
(1)
قال الجامع: تقدّم قريبًا ترجح عدم الوجوب، فتنبّه.
(2)
"شرح مسلم" 16/ 201 "كتاب فضائل الصحابة".
(3)
"المفهم" 6/ 324 - 325. "باب فضائل عائشة".
(4)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 51 - 52.
(وَأَنا سَاكِتَةٌ) جملة في محلّ نصب على الحال (فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيْ بُنَيَّةُ)"أَيْ" حرف نداء للقريب (أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَنْ أُحِبُّ؟ "، قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: "فَأَحِبِّي هَذِهِ") يريد عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - (فَقَامَتْ فَاطِمَةُ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ من رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَجَعَتْ إِلَى أَزوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،فَأَخبَرَتُهُنَّ بِالَّذِي قَالَتْ) أي بما قالته فاطمة للنبيّ صلى الله عليه وسلم من قولها: إن أزواجك أرسلنني إليك الخ" (وَالَّذِي قَالَ لَهَا) أي الجواب الذي ردّه عليها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ألست تحُبّين الخ" (فَقُلْنَ لَهَا: مَا نَرَاكِ أَغْنَيْتِ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ) أي لم تنفعينا بقضاء حاجتنا (فَارْجِعِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي مرّةً أخرى (فَقُولِي لَهُ: إِنَّ أَزْوَاجَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ) -بفتح أوله، وضمّ الشين المعجمة-: أي يسألنك، كما تقدّم قريبًا، يقال: نَشَدتُ فلاتًا: إذا قلت له: نشدتك اللَّه، أي سألتك اللَّهَ، كأنك ذكّرته إياه. وفي رواية: "يناشدنك اللَّه العدل" أي يسألنك باللَّه العدل (في ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ) أبو قُحافة: هو والد أبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وفي نسبتها إلى جدها، وإن كان صحيحًا سائغًا، إلا أن فيه نوع غَضَّ منها؛ لنقص رتبته بالنسبة إلى أبيها الصدّيق، لا سيّما إن كان ذلك قبل إسلام أبي قُحافة - رضي اللَّه تعالى عنهم -. قاله وليّ الدين
(1)
(قَالَتْ فَاطِمَةُ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (لَا وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَدًا)"لا" الثانية مؤكّدة للأولى، كُرّرت للفصل بينها وبين الفعل بالقسم (قَالَتْ عَائِشَةُ) - رضي اللَّه تعالى - عنها (فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي) أي تطاولني، وترافعني، وهو مأخوذٌ من السّمُوّ، وهو العلوّ والرفعة. تعني أنها كانت تتعاطى أن يكون لها من الْحُظوة والمنزلة عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مثلُ ما كان لعائشة عنده. وقيل: إنه مأخوذٌ من قولهم: سامه حظّه خسفٌ، أي كلّفه ما يَشُقّ عليه، ويُذلّه. وفيه بُعْدٌ من جهة اللسان والمعنى. قاله أبو العباس القرطبيّ
(2)
(من أَزْوَاج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي المنزِلَةِ، عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ أَرَ امْرَأَة قَطُّ، خَيْرًا فِي الدِّين مِنْ زَيْنَبَ، وَأَتْقَى للَّهِ عز وجل، وَأَصْدَقَ حَدِيثًا، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمْ، وَأَعْظَمَ صَدَقَة، وَأَشَدَّ ابْتِذَالاً لِنَفْسِهَا فِي الْعَمَلِ) الابتذال مصدر ابتذل، من البِذْلة، وهي الامتهان بالعمل والخِدْمة،
(الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ، وَتَقَرَّبُ بِهِ) بحذف إحدى التاءين من الفعلين، أي تتصدّق به على الفقراء والمساكين، وتتقرّب به إلى اللَّه تعالى، فكانت زينب - رضي اللَّه تعالى عنها - تعمل بيديها عمل النساء، من الغزل، والنسج، وغير ذلك، مما جرت به عادة النساء بعمله،
(1)
"طرح" 7/ 51.
(2)
"المفهم" 6/ 325.
والكسب به، فتتصدّق بذلك، وتَصِل به ذوي رحمها، وهي التي كانت أطولهنّ يدًا بالعمل والصدقة، وهي التي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم عنها:"أسرعكنّ لحاقًا بي أطولكنّ يدًا"، فقد أخرج الشيخان، والمصنّف
(1)
واللفظ للبخاريّ، عن عائشة رضي الله عنها، أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: أينا أسرع بك لحوقا؟، قال:"أطولكن يدا"، فأخذوا قصبة يذرعونها، فكانت سودة أطولهن يدا، فعلمنا بعدُ أنما كانت طول يدها الصدقة، وكانت أسرعنا لحوقا به، وكانت تحب الصدقة.
وفيه فضيلة ظاهرةٌ لعائشة وزينب - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أما زينب، فلما اتّصفت به من هذه الخصال الحميدة، وأما عائشة، فلأنه لم يمنعها ما كان بينهما من وصفها بما تعرفه منها (مَا عَدَا) هي من صيغ الاستثناء، وهي مع "ما" فعل ينصب ما بعده، وبدونها حرف يَخفِضُ بعده على المشهور في الحالتين، ومثلها "خلا"، و"حاشا" لكنها لا تصحب "ما"، كما أشار إلى ذلك ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:
وَاسْتَثنِ نَاصِبّا بـ "لَيْسَ" و "خَلَا"
…
وَبِـ "عَدَا" وَبِـ "يَكُونُ" بَعْدَ "لَا"
وَاجْرُرْ بِسَابِقَيْ "يَكُونُ" إِنْ تُرِدْ
…
وَبَعْدَ "مَا" انْصِبْ وَانْجرَارٌ قَدْ يَرِدْ
فَحَيْثُ جَرَّا فَهُمَا حَرْفَانِ
…
كَمَا هُمَا إِنْ نَصَبَا فِعْلَانِ
وَكـ "خَلَا""حَاشَا" وَلَا تَصْحَبُ "مَا"
…
وَقِيلَ "حَاشَ" و"حَشَا" فَاحْفَظْهُمَا
(سَوْرَة) -بفتح السين المهملة، وإسكان الواو، وبعدها راء، ثم هاء-: هو الثَّوَرَان،
وعَجَلَة الغضب، ومنه سَوْرة الشراب، وهي قوْته، وحدّته، أي يعتريها ما يعتري الشاربَ من الشراب. وهو منصوب على الاستثناء، كما قدمناه، ويجوز جرّه على قلّة. وقوله (مِنْ حِدَّةِ) بيان للسورة، وهو بكسر الحاء، وتشديد الدال المهملتين-: الغضب (كَانَتْ فِيهَا) جملة في محلّ جرّ صفة لـ "حِدّة". قال القرطبيّ: ويُروى هذا الحرف: "ما عدا سَوْرة حَدِّ" -بفتح الحاء، من غير تاء تأنيث: أي سرعة غضب. انتهى.
قال النووي: ومعنى الكلام أنها كانت كاملة الأوصاف، إلا أن فيها شدّة خُلُق، وسُرْعة غضب، تسرع منها.
قال القرطبيّ: ولأجل هذه الحدّة وقعت بعائشة، واستطالت عليها، أي أكثرت عليها من القول والعتب، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - ساكتةٌ تنتظر الإذن من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الانتصار، فلما علمت أنه لا يكره ذلك من قرائن أحواله انتصرت لنفسها، فجاوبتها، وردّت عليها قولها حتى أفحمتها، وكانت زينب لما بدأتها بالعتب واللوم،
(1)
تقدّم للمصنّف في "الزكاة" رقم 2541.
كأنها ظالمةٌ، فجاز لعائشة أن تنتصر؛ لقوله تعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] انتهى.
(تُسْرعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ) -بفتح الفاء، وسكون الياء، بعدها همزة-: المرة من الفيء، وهو الرجوع. تعني أن زينب، وإن كان فيها سُرعة غضب، إلا أنها تسرع الرجوع من ذلك، ولا تصرّ عليه.
قال النوويّ: وقد سخف صاحب "التحرير" في هذا الحديث تصحيفًا قبيحًا جدًّا، فقال:"ما عدا سودة" وجعلها سودة بنت زمعة. وهذا من الغلط الفاحش، نبّهت عليه؛ لئلاّ يُغترّ به انتهى
(1)
.
(فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرْطِهَا) تقدّم ضبطه قريبًا (عَلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَتْ دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا، فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ:: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي، يسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، وَوَقَعَتْ بِي) أي سَبَّتني على عادة الضرّات، قال القرطبيّ: هو مأخوذ من الوقيعة التي هي معركة الحرب. وقيل: هو مأخودٌ من الوقع، وهو ألم الرِّجْل من المشي، ومنه قولهم: كلّ الحذا يَحتذي الحافي الْوَقِعُ -بكسر القاف انتهى (فَاسْتَطَالَتْ) أي أكثرت عليّ من القول، والْعَتْب (وَأَنَا أَرْقُبُ) -بضمّ القاف- من باب نصر: أي أنتظر، وأراعي (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَرْقُبُ طَرْفَهُ) -بسكون الراء-: أي عينه (هَلْ أَذِنَ لِي فِيهَا) أي في الانتصار منها (فَلَمْ تَبْرَحْ زَيْنَبُ) -بفتح الراء- من باب تَعِب: أي لم تزل من مكانها، ولم ترجع إلى بيتها (حَتَّى عَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ) أي من قرائن أحواله صلى الله عليه وسلم. قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: اعلم أنه ليس فيه دليلٌ على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة، ولا أشار بعينه، وغيرها، بل لا يحلّ اعتقاد ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم يحرُمُ عليه خائنة الأعين، وإنما فيه أنها انتصرت لنفسها، فلم يَنهها انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله النوويّ من أنه لا يحلّ اعتقاد ذلك يعكر عليه ما تقدّم من رواية المصنّف في "الكبرى"، وابن ماجه في "سننه" بإسناد صحيح، من أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"دونك، فانتصري"، فالذي يظهر أن هذا ليس من خائنة الأعين، بل هو من نصر المظلوم، فلا يحرم عليه صلى الله عليه وسلم، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"شرح مسلم" 16/ 202.
(2)
"شرح مسلم" 16/ 203 "كتاب فضائل الصحابة".
(فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا) أي سببتها؛ جزاء لسبّها (لَمْ أَنْشَبْهَا بِشَيْءٍ) وفي رواية مسلم: "لم أنشبها": أي لم أُمهلها، ولم أتلبّث حتى أوقعت بها، وأصله من نَشِبَ بالشيء، أو في الشيء: إذا تعلّق به، واحتبس فيه، أو بسببه (حَتَّى أَنْحَيْتُ عَلَيْهَا) بالنون، والحاء المهملة، بعدها مثنّاةٌ تحتيّةٌ: أي قصدتها، واعتمدتها بالمعارضة، والمشهور بالثاء المثلّثة، والخاء المعجمة، والنون: أي قمعتها، وقهرتها، أو بالغت في جوابها، وأفحمتها.
وقال القرطبيّ: كذا الرواية بالنون، والحاء المهملة، والياء المثنّاة من تحتها، ومعناه: إني أصبت منها بالذمّ ما يؤلمها، فكأنها أصابت منها مَقْتلاً. وفي "الصحاح": أنحيت على حَلْقه بالسكّين: أي عَرَضت، وحينئذ يرجع معنى هذه الرواية لمعنى الرواية الأخرى التي هي "أثخنتها" أي أثقلتها بجراح الكَلِم، وهو مأخوذ من قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} الآية [سورة محمد صلى الله عليه وسلم: 4]، أي أثقلتموهم بالجراح، أو أكثرتم فيهم القتل انتهى
(1)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ") أي إنها شريفة عاقلةٌ، عارفةٌ كأبيها، ففيه إشارة إلى كمال فهمها، ومتانة عقلها، حيث صبرت إلى أن أثبتت أن التعدّي من جانب الخصم، ثم أجابت بجواب إلزام.
وكأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن أبا بكر كان عالمًا بمناقب مُضَر، ومثالبها، فلا يُستغرب من بنته أن تتلقى ذلك منه، كما قال الشاعر:
بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِيٌّ فِي الْكَرَمْ
…
وَمَنْ يُشَابِهْ أَبَهُ فَمَا ظَلَمْ
وقال القرطبيّ: قوله: "إنها ابنة أبي بكر" تنبيهٌ على أصلها الكريم الذي نشأت عنه، واكتسبت الجزالة والبلاغة، والفضيلة منه، وطيبُ الفروع بطيب عروقها، وغذاؤها من عروقها، كما قال [من الكامل]:
طِيبُ الْفُرُوعِ مِنَ الأُصُولِ وَلَمْ يُرَى
…
فَرْعٌ يَطِيبُ وَأَصْلُهُ الزَّقُّومُ
ففيه مدح عائشة، وأبيها - رضي اللَّه تعالى عنهما - انتهى
(2)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"المفهم" 6/ 326 - 327.
(2)
"المفهم" 6/ 327.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-3/ 3395 و 3396 و 3397 - وفي "الكبرى" 3/ 8892 و 8893 و 8894. وأخرجه (خ) ففي "الهبة" 2581 (م) في "فضائل الصحابة" 2442 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 24054 و 24648. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواز حبّ الرجل بعض زوجاته أكثر من بعض، لكن بشرط أن لا يميل بسببه عن العدل في القسم إلى الجور. (ومنها): تنافس الضرائر، وتغايرهنّ على الرجل، وأن الرجل يسعه السكوت إذا تقاولن، ولا يميل مع بعض على بعض. (ومنها): أن فيه منقبة ظاهرة لعائشة، وأنه لا حرج على المرء في إيثار بعض نسائه بالتُّحَف، وإنما اللازم العدل في المبيت، والنفقة، ونحو ذلك من الأمور اللازمة. كذا قرّره ابن بطّال عن المهلّب. وتعقّبه ابن المنيّر بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، وإنما فعله الذين أهدوا له، وهم باختيارهم في ذلك، وإنما لم يمنعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس من كمال الأخلاق أن يتعرّض الرجل إلى الناس بمثل ذلك؛ لما فيه من التعرّض لطلب الهديّة، وأيضًا فالذي يهُدي لأجل عائشة كأنه مَلَّك الهديّة بشرط، والتمليك يتبع فيه تحجير المالك، مع أن الذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يُشَرّكهنّ في ذلك، وإنما وقعت المنافسة لكون العطيّة تصل إليهنّ من بيت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنهنّ -. (ومنها): قصد الناس بالهدايا أوقات المسرّة، ومواضعها؛ ليزيد ذلك في سُرور المُهْدَى إليه. (ومنها): جواز التشكّي، والتوسّل في ذلك. (ومنها): ما كان عليه أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مهابته، والحياء منه، حتى راسلنه بأعزّ الناس عنده فاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها -. (ومنها): سرعة فهمهنّ، ورجوعهنّ إلى الحقّ، والتوقّف عنه. (ومنها): إدلال زينب بنت جحش على النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكونها كانت بنت عمّته، كانت أمها أُمَيمة -بالتصغير- بنت عبد المطّلب. (ومنها): أنه يجوز للمرأة أن تتصدّق مما تكسبه في بيت زوجها، من غير أمره. (ومنها): ما قاله الداوديّ: وفيه عذر النبيّ صلى الله عليه وسلم لزينب. قال ابن التين: ولا أدري من أين أخذه؟. قال الحافظ: كأنه أخذه من مخاطبتها النبيّ صلى الله عليه وسلم اطلب العدل مع علمها بأنه أعدل الناس، لكن غلبت عليها المغيرة، فلم يؤاخذها النبيّ صلى الله عليه وسلم بإطلاق ذلك. وإنما خصّ زينب بالذكر لأن فاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها - كانت حاملة رسالة خاصّة، بخلاف زينب، فإنها شريكتهنّ في ذلك، بل رأسهنّ؛ لأنها هي التي تولّت إرسال فاطمة أوّلا، ثم سارت بنفسها
(1)
. (ومنها): أنه استُدلّ به على أن القسم كان واجبًا عليه، كذا قيل، ولكن
(1)
راجع "الفتح" 5/ 520 - 523. "كتاب الهبة".
تقدّم أن الأصحّ أنه ليس واجبًا عليه، بل يقسم من عند نفسه كرمًا وفضلاً. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3996 -
(أَخْبَرَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ:
…
فَذَكَرَتْ نَحْوَهُ، وَقَالَتْ: أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ، فَاسْتَأْذَنَتْ، فَأَذِنَ لَهَا، فَدَخَلَتْ، فَقَالَتْ:: نَحْوَهُ.
خَالَفَهُمَا مَعْمَرٌ رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ،، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ،)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمران بن بكّار": هو الكَلاعيّ الْبَرّاد الحمصيّ المؤذّن، ثقة [11] 17/ 1541.
و"أبو اليمان": هو الحكم بن نافع البهرانيّ الحمصيّ، ثقة ثبت [10] 14/ 2132.
و"شُعيب": هو ابن أبي حمزة الحمصيّ ثقة ثبت عابدٌ [7] 69/ 85.
وقوله: (خَالَفَهُمَا) الضمير لصالح بن كيسان، وشعيب بن أبي حمزة (مَعْمَرٌ) بن راشد البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت من كبار [7] 10/ 10 (رَوَاة عَنِ الزُّهرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ،) يعني أن معمر بن راشد خالف صالحًا، وشعيبًا في روايته لهذا الحديث، حيث روياه عن الزهريّ، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، ورواه هو عنه، عن عروة، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، ثم أورد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- رواية معمر التي خالفهما فيها، فقال:
3997 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ النَّيْسَابُورِيُّ، الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتِ: اجْتَمَعْنَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلْنَ فَاطِمَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَ لَهَا: إِنَّ نِسَاءَكَ -وَذَكَرَ كَلِمَةً- مَعْنَاهَا: يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ، فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، قَالَتْ: فَدَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مَعَ عَائِشَةَ، فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ نِسَاءَكَ أَرْسَلْنَنِي، وَهُنَّ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «أَتُحِبِّينِي؟» ، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ:«فَأَحِبِّيهَا» ، قَالَتْ: فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ، فَأَخْبَرَتْهُنَّ مَا قَالَ، فَقُلْنَ لَهَا: إِنَّكِ لَمْ تَصْنَعِي شَيْئًا، فَارْجِعِي إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبَدًا، وَكَانَتِ ابْنَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَقًّا، فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: أَزْوَاجُكَ أَرْسَلْنَنِي، وَهُنَّ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ، فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيَّ تَشْتِمُنِي، فَجَعَلْتُ أُرَاقِبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْظُرُ طَرْفَهُ، هَلْ يَأْذَنُ لِي مِنْ أَنْ أَنْتَصِرَ مِنْهَا، قَالَتْ: فَشَتَمَتْنِي، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ، أَنْ أَنْتَصِرَ مِنْهَا، فَاسْتَقْبَلْتُهَا، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ أَفْحَمْتُهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ» ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمْ أَرَ امْرَأَةً خَيْرًا، وَلَا أَكْثَرَ صَدَقَةً، وَلَا أَوْصَلَ لِلرَّحِمِ، وَأَبْذَلَ لِنَفْسِهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ، يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ زَيْنَبَ، مَا عَدَا
سَوْرَةً مِنْ حِدَّةٍ، كَانَتْ فِيهَا، تُوشِكُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ الَّذِي قَبْلَهُ).
وقال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح و"عبد الرزّاق": هو ابن همّام الصنعانيّ الثقة الحجة [9].
وقولها: "اجتمعن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم " كذا في رواية المصنّف، وأحمد بإثبات النون، وهي لغة لبعض العرب، وتسمّى لغة "أكلوني البراغيث"، ولغة جمهور العرب عدم إلحاقها مع الفاعل الظاهر، كما أشار ابن مالك في "الخلاصة" إلى هذا بقوله:
وَجَرِّدِ الْفِعْلَ إِذَا مَا أُسْنِدَا
…
لاثنَينِ أَوْ جَمْعِ كَـ "فَازَ الشُّهَدَا"
وَقَدْ يُقَالُ "سَعِدَا" وَ"سَعِدُوا"
…
وَالْفِعْلُ لِلظَّاهِرِ بَعْدُ مُسْنَدُ
قال الحافظ وليّ الدين: قد تبّين بالرواية التي سقناها من عند البخاريّ أن المراد من أمهات المؤمنين من عدا حفصة، وصفيّة، وسودة انتهى
(1)
.
وقولها: "وكانت ابنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حقًّا" أي إنها كانت مخلّقة بأخلاقه صلى الله عليه وسلم الكريمة، وخصاله الحميدة، وآدابه السنيّة على أتمّ وجه، وآكده، فلذلك ما راجعته في القضيّة، بل رجعت إليهنّ، وأعلمتهنّ أنها غير موافقة لهنّ فيما طلبنه، وحلفت على أن لا تراجعه في ذلك أبداً.
وقولها: "ينشدنك العدل" بفتح أوله، وضمّ الشين المعجمة: أي يسألنك، كما في الرواية المتقدّمة، يقال: نشدت فلانا، من باب نصر: إذا قلت له: نشدتك اللَّه، أي سألتك اللَّه، كأنك ذكّرته إياه.
وقولها: "تشتمني" بكسر التاء، من باب ضرب. وقولها:"طرفه" بفتح الطاء المهملة، وسكون الراء: أي بصره.
وقولها: "أن أفحمتها" بالفاء، والحاء المهملة: أي أسكتُّها، يقال: أفحمه: إذا أسكته في خصومة، أو غيرها
(2)
.
وقولها: "وأبذل لنفسها في كلّ شيء، يتقرّب به إلى اللَّه عز وجل" هو بالذال المعجمة، ثم إنه يحتمل أن يكون من البذل، وهو العطاء، وأن يكون من البِذْلة، وهو الامتهان بالعمل والخدمة
(3)
.
وقوله: "توشك منها الفيئة" بضمّ أوله، وبكسر الشين المعجمة - و"الفيأة" بالنصب
(1)
"طرح التثريب" 7/ 51.
(2)
"طرح التثريب" 7/ 53.
(3)
"طرح التثريب" 7/ 54.
على المفعوليّة: أي تُسرع الرجوع من تلك السَّوْرة.
ومعنى الكلام أنها وصفتها بأنها كاملة الأوصاف، إلا أن فيها شدّة خلق، وسُرعة غضب، ترجع عنها سريعًا، ولا تُصرّ عليها، فهي سريعة الغضب، سريعة الرضا، فتلك بتلك.
وقوله: "هذا خطأ الخ" يعني أن رواية معمر عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، خطأٌ، والصواب رواية صالح، وشُعيب، عن الزهريّ، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -.
وإنما رجّح المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- روايتهما على روايته، لاتفاقهما، وقد وافقهما يونس بن يزيد عند مسلم، فاتفاق الثلاثة يدلّ على وهَم معمر.
وما قاله المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا قاله غيره من الحفّاظ أيضًا، فقال في "الفتح": قال الذهليّ، والدارقطنيّ، وغيرهما: المحفوظ من حديث الزهريّ: "عن محمد بن عبد الرحمن، عن عائشة". انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3998 -
(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ -يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضَّلِ- قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إسماعيل بن مسعود) الجحدريّ، أبو مسعود المصريّ، ثقة [10] 42/ 47.
2 -
(بشر بن المفضل) بن لاحق، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت عابد [8] 66/ 82.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت البصريّ [7] 47/ 24.
4 -
(عمرو بن مرّة) بن عبد اللَّه بن طارق الجمدي المرادي، أبو عبد اللَّه الكوفي الأعمى، ثقة عابد رمي بالإجاء [5] 171/ 265.
5 -
(مرّة) بن شَرَاحيل الْهَمْدانيّ، أبو إسماعيل الكوفيّ، وهو الذي يقال له: مُرّة الطيب، ثقة عابد [2] 1/ 451.
[تنبيه]: جميع نسخ "المجتبى" التي بين يديّ وقع فيها سقط في هذا السند، ففيها:"عن عمرو بن مرّة، عن أبي موسى"، وهو خطأ فاحش، فالصواب ما في "الكبرى":"عن عمرو بن مرّة، عن مُرّة"، وهو الذي في "تحفة الأشراف": 6/ 431، فتنبّه. واللَّه
(1)
"فتح" 5/ 224 "كتاب الهبة".
تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: مرّة هذا ليس هو والد عمرو بن مرّة الراوي عنه، فإن والد عمرو هو مرّة بن عبد اللَّه بن طارق الْجَمَليّ الكوفيّ، وليست له رواية في الكتب الستّة، وقد ترجمه البخاريّ في "التاريخ الكبير" 8/ 6، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 8/ 366، وأما مرّة هذا، فإنه من رجال الكتب الستّة.
وإنما نبّهتُ عليه لأني رأيت العلامة أحمد شاكر -رحمه اللَّه تعالى- قد أخطأ في تعليقه على "ألفية السيوطي" في المصطلح، تبعًا لشارحها الترميسيّ، فقال:"عن عمرو بن مرّة، عن أبيه مرّة"، وكذا قال في كتابه الآخر "الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث"، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
6 -
(أبو مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس بن سُليم بن حضار الأشعريّ الصحابيّ الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 3/ 3. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح غير شيخه فإنه من أفراده. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، ونصفه الثاني بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ) -بفتح الثاء المثلّثة، وكسر الراء-: فَعِيل بمعنى مفعول، ويقال أيضًا: مَثْرُود، يقال: ثَرَدتُ الخُبْزَ ثَرْدًا، من باب قَتَلَ، وهو أن تَفُتَّه، ثمّ تَبُلَّهُ بمَرَقٍ، والاسمُ الثُّرْدَةُ -بالضمّ-. أفاده الفيّوميّ. وفي "الفتح":"الثريد": معروفٌ، وهو أن يُثرد الخبز بمرق اللحم، وقد يكون معه. اللحم، ومن أمثالهم:"الثريد أحد اللحمين"، وربّما كان أنفع، وأقوى من نفس اللحم النضيج إذا ثُرّد بمرقته انتهى
(1)
. وقال في موضع آخر: قوله: "كفضل الثريد" زاد معمر من وجه آخر: "مُرَثَّدٍ باللحم"، وهو اسم الثريد الكامل، وعليه قول الشاعر [من الوافر]:
إِذَا مَا الْخُبْزُ تَأْدِمُهُ
(2)
بِلَحْمٍ
…
فَذَاكَ وَأَمَانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ
(3)
(1)
"فتح" 10/ 691. "كتاب الأطعمة".
(2)
من باب ضرب، أي تخلطه.
(3)
"فتح" 7/ 480 "كتاب فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم -
(عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) أي كما أنه أفضل طعام العرب؛ لأنه مع اللحم جامعٌ بين اللذّة، والقوّة، وسهولة التنَاول، وققة المؤنة في الْمَضْغِ، كذلك إنها جامعة لحسن الخلق، وحلاوة المنطق، وحسن المعاشرة، ونحو ذلك.
وقال ابن الأثير: قيل: لم يُرد عين الثريد، وإنما أراد الطعام المتّخذ من اللحم والثريد مغا؛ لأن الثريد لا يكون إلا من لحم غالبًا، والعرب قلّما تجد طَبيخًا، ولا سيّما بلحم. ويقال:"الثريد أحد اللحمين"، بل اللّذة والقوّة إذا كان اللحم نضيجًا في المرق أكثر مما يكون في نفس اللحم انتهى
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ: وإنما كان الثريد أفضل الأطعمة؛ ليسارة مؤنته، وسُهولة إساغته، وعظيم بركته، ولأنه كان أجلّ أطعمتهم، وألذّها بالنسبة إليهم، ولعوائدهم، وأما غيرهم فقد يكون غير الثريد عنده أطيب وأفضل، وذلك بحسب العوائد في الأطعمة. انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب،
وهوالمستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي موسى الأشعريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-3/ 3398 - وفي (الكبرى) 3/ 8895. وأخرجه (خ) في "أحاديث الأنبياء" 3411 (م) في "فضائل الصحابة" 2431 (ت) في "الأطعمة" 1834 (ق) في "الأطعمة" 3280 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 19029 و 19169. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): حديث أبي موسى الأشعريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا اختصره المصنّف، وقد ساقه الشيخان بتمامه، ولفظ البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-:
حدثنا يحيى بن جعفر، حدثنا وكيع، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مرة الهمداني، عن أبي موسى رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية، امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام".
قال أبو العباس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: الكمال هو التناهي والتمام، ويقال في
(1)
"النهاية" 1/ 209.
(2)
"المفهم" 6/ 332.
ماضيه: كَمَلَ -بفتح الميم، وضمّها- ويكمُلُ في مضارعه -بالضمّ-
(1)
وكمال كلّ شيء بحسبه، والكمال المطلق إنما هو للَّه تعالى خاصّةً، ولا شكّ أن أكمل نوع الإنسان الأنبياء، ثم تليهم الأولياء، ويعني بهم الصّدّيقين، والشهداء، والصالحين. وإذا تقرّر هذا فقد قيل: إن الكمال المذكور في الحديث -يعني به النبوّة، فيلزم أن تكون مريم، وآسية نبيّين، وقد قيل بذلك. والصحيح أن مريم نبيّةٌ؛ لأن اللَّه تعالى أوحى إليها بواسطة الملك، كما اْوحى إلى سائر النبيين. وأما آسية، فلم يرد ما يدلّ على نبوّتها دلالةً واضحةً، بل على صدّيقيّتها، وفضيلتها، فلو صحّت لها نبوّتها لما كان في الحديث إشكال، فإنه يكون معناه: أن الأنبياء في الرجال كثير، وليس في النساء نبيٌّ إلا هاتين المرأتين، ومن عداهما من فُضَلاء النساء صدّيقات، لا نبيّات، وحينئذ يصحّ أن تكونا أفضل نساء العالمين.
والأولى أن يقال: إن الكمال المذكور في الحديث ليس مقصورًا على كمال الأنبياء، بل يندرج معه كمال الأولياء، فيكون معنى الحديث: إن نوعي الكمال وُجد في الرجال كثيرًا، ولم يوجد في النساء المتقدّمات على زمانه صلى الله عليه وسلم أكمل من هاتين المرأتين، ولم يتعرض النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لأحد من نساء زمانه، إلا لعائشة خاصّةً، فإنه فضّلها على سائر النساء، وُيستثنى منهنّ الأربع المذكورات في الأحاديث المتقدّمة، وهنّ: مريم بنت عمران، وخديجة، وفاطمة، وآسية، فإنهنّ أفضل من عائشة بدليل الأحاديث المتقدّمة في باب خديجة، وبهذا يصحّ الجمع، ويرتفع التعارض، إن شاء اللَّه تعالى انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "ولم يكمل من النساء إلا آسية الخ" استُدلّ بهذا الحصر على أنهما نبيّتان؛ لأن أكمل نوع الإنسان الأنبياء، ثم الأولياء، والصدّيقون، والشهداء، فلو كانتا غير نبيّين للزم ألا يكون في النساء وليّةٌ، ولا صدّيقة، ولا شهيدةٌ، والواقع أن هذه الصفات في كثير منهنّ موجودة، فكأنه قال: ولن يُنبّأ من النساء إلا فلانة، وفلانة، ولو قال: لم تثبت صفة الصدّيقيّة، أو الولاية، أو الشهادة إلا لفلانة، وفلانة لم يصحّ؛ لوجود ذلك في غيرهنّ، إلا أن يكون المراد في الحديث كمال غير الأنبياء، فلا يتمّ الدليل على ذلك لأجل ذلك. واللَّه أعلم. وعلى هذا فالمراد مَن تقدّم زمانه صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرض لأحد من نساء زمانه إلا لعائشة، وليس فيه تصريحٌ بأفضلية عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - على غيرها؛ لأن فضل الثريد على غيره من الطعام إنما هو لما فيه من تيسير
(1)
وذكر في "المصباح" أنه من باب قَرُبَ، وضَرَبَ، وتَعِبَ، لكن باب تعب أردؤها. انتهى.
(2)
"المفهم" 6/ 331 - 332.
المؤنة، وسهولة الإساغة، وكان أجلّ أطعمتهم يومئذ، وكلُّ هذه الخصال لا تستلزم ثبوت الأفضليّة له من كلّ جهة، فقد يكون مفضولاً بالنسبة لغيره من جهات أخرى.
وقد ورد في هذا الحديث من الزيادة بعد قوله: "ومريم ابنة عمران": "وخديجة بنت خُويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم". أخرجه الطبرانيّ عن يوسف بن يعقوب القاضي، عن عمرو بن مرزوق، عن شعبة بالسند المذكور هنا. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" في ترجمة عمرو بن مُرّة أحد رواته عند الطبرانيّ بهذا الإسناد. وأخرجه الثعلبيّ في "تفسيره" من طريق عمرو بن مرزوق به. وقد ورد من طريق صحيح ما يقتضي أفضليّة خديجة، وفاطمة على غيرهما، وذلك في حديث عليّ صلى الله عليه وسلم بلفظ:"وخير نسائها خديجة"، وجاء في طريق أخرى ما يقتضي أفضليّة خديجة وفاطمة، وذلك فيما أخرجه ابن حبّان، وأحمد، وأبو يعلى، والطبرانيّ، وأبو داود في "كتاب الزهد"، والحاكم، كلهم من طريق موسى بن عقبة، عن كُريب، عن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خُويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، ومريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون"، وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في "الأوسط" للطبرانيّ، ولأحمد في حديث أبي سعيد، رفعه:"فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، إلا ما كان من مريم بنت عمران"، وإسناده حسن، وإن ثبت ففيه حجة لمن قال: إن آسية امرأة فرعون ليست نبيّة.
قال: وقال القرطبيّ: الصحيح أن مريم نبيّةٌ؛ لأن اللَّه تعالى أوحى إليها بواسطة الملك، وأما آسية فلم يرد ما يدلّ على نبوّتها. وقال الكرمانيّ: لا يلزم من لفظة الكمال ثبوت نبوّتها؛ لأنه يُطلق لتمام الشيء، وتناهيه في بابه، فالمراد بلوغها النهاية في جميع الفضائل التي للنساء، قال: وقد نقل الإجماع على عدم نبوّة النساء. كذا قال، وقد نقل عن الأشعريّ أن من النساء من نُبّىء، وهنّ ستّ: حوّاء، وسارة، وأم موسى، وهاجر، وآسية، ومريم، والضابط عنده أن من جاءه الملك عن اللَّه بحكم من أمر، أو نهي، أو بإعلام مما سيأتي فهو نبيّ، وقد ثبت مجيء الملك لهؤلاء بأمور شتّى من ذلك، من عند اللَّه عز وجل، ووقع التصريح بالإيحاء لبعضهنّ في القرآن.
وذكر ابن حزم في "الملل والنحل" أن هذه المسألة لم يحدث التنازع فيها إلا في عصره بقرطبة، وحكى عنهم أقوالاً ثالثها الوقف، قال: وحجة المانعين قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا} الآية. قال: وهذا لا حجة فيه، فإن أحدًا لم يدّع فيهنّ الرسالة، وإنما الكلام في النبوّة فقط، قال: وأصرح ما ورد في ذلك قصّة مريم، وفي قصّة أمّ موسى ما يدلّ على ثبوت ذلك لها، من مبادرتها بإلقاء ولدها في البحر
بمجرّد الوِحي إليها بذلك، قال: وقد قال اللَّه تعالى بعد ذكر مريم، والأنبياء بعدها:{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} ، فدخلت في عمومه. واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي مما تقدّم من الأدلّة أن القول بنبوّة مريم، وأم موسى هو الأقرب إلى الصواب، وأما غيرهما فليس فيه دليلٌ واضح، فلا ينبغي القول به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3999 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ،، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.
و"ابن أبي ذئب": هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث المدنيّ.
و"الحارث بن عبد الرحمن": هو القرشيّ العامريّ، خال ابن أبي ذئب.
والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
3400 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَاذَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ عَائِشَةَ،، قَالَتْ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا أَتَانِي الْوَحْيُ، فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ إِلاَّ هِيَ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.
و"أبو بكر بن إسحاق": هو محمد بن إسحاق الصاغانيّ، نزيد بغداد. و"شاذان": هو الأسود بن عامر الشاميّ، نزيل بغداد، وشاذان لقبه. وشرح الحديث يأتي في الذي بعده. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3401 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ رُمَيْثَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَلَّمْنَهَا أَنْ تُكَلِّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، وَتَقُولُ لَهُ: إِنَّا نُحِبُّ الْخَيْرَ كَمَا تُحِبُّ عَائِشَةَ، فَكَلَّمَتْهُ، فَلَمْ يُجِبْهَا، فَلَمَّا دَارَ عَلَيْهَا كَلَّمَتْهُ أَيْضًا، فَلَمْ يُجِبْهَا، وَقُلْنَ: مَا رَدَّ عَلَيْكِ؟ ، قَالَتْ: لَمْ يُجِبْنِي، قُلْنَ: لَا تَدَعِيهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْكِ، أَوْ تَنْظُرِينَ مَا يَقُولُ؟ ، فَلَمَّا دَارَ عَلَيْهَا كَلَّمَتْهُ، فَقَالَ: «لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ الْوَحْيُ، وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ، إِلاَّ
(1)
"فتح" 110 - 111. "كتاب أحاديث الأنبياء".
فِي لِحَافِ عَائِشَةَ».
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَانِ الْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ، عَنْ عَبْدَةَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن آدم) بن سليمان الجهنيّ المصّيصيّ، صدوق [10] 93/ 115.
2 -
(عبدة) بن سُليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقة ثبت، من صغار [8] 7/ 339.
3 -
(هشام) بن عروة بن الزبير الأسديّ، ثقة فقيه ربما دلّس [5] 49/ 61.
4 -
(عوف بن الحارث) بن الطفيل بن سخبرة -بفتح المهملة، وسكون المعجمة بعدها موحّدة مفتوحة- الأزديّ، مقبول [3] 51/ 855.
5 -
(رُميثة) بنت الحارث بن الطُّفيل بن سَخْبَرَة الأزديّة، أُخت عوف الراوي عنها، أمّ عبد اللَّه بن محمد بن أبي عَتِيق، رضيع عائشة، مقبولة [4].
روت عن أم سلمة حديث الباب. وعنها أخوها عوف بن الحارث. ذكرها ابن حبّان في "الثقات". تفرّد بها المصنّف، روى دها حديث الباب فقط. واللَّه تعالى أعلم.
6 -
(أم سلمة) هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عُمَر بن المغيرة بن مخزم المخزومية، أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 123/ 183. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح غير رُمَيِثة كما مرّ آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمصَّيصِيّ، وعبدة، فكوفيّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أُميّة، أمّ المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) والمراد من نسائه صلى الله عليه وسلم هنّ حزب أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنهنّ -، فقد تقدّم أنهنّ كنّ حزبين: أحدهما: حزب عائشة، وحفصة، وصفيّة، وسَوْدة. والثاني: حزب أم سلمة، وزينب بنت جحش الأسديّة، وأم حبيبة الأمويّة، وجويرية بنت الحارث، وميمونة بنت الحارث - رضي اللَّه تعالى عنهنّ -، دون زينب بنت خُزيمة أم المساكين، فإنها ماتت قبل
أن يتزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم أم سلمة، وأسكن أتم سلمة بيتها لَمّا دخل بها، فالذين كلّمن أم سلمة هنّ صواحباتها، لا كلّ أزواجه صلى الله عليه وسلم، كما رواه ابن سعد من طريق رُميثة المذكورة، عن
أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت: كلّمني صواحبي، وهنّ
…
فذكرتهنّ (كَلَّمْنَهَا أَنْ تُكَلِّمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ النَّاس) يحتمل فتح "أنّ" على تقدير حرف التعليل، أي إنما كلموها بما ذُكر؛ لأن الناس كانوا الخ. ويحتمل كسرها على أن تكون الجملة تعليلة (كانُوا يَتَحَرَّوْنَ بَهدَايَاهُمْ يَومَ عَائِشَةَ) لما يرون من حبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إياها أكثر من حبّه غيرها، ففي رواية البخاريّ: "وكان الناس قد علموا حبّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عائشة، فإذا كانت عند أحدهم هديّةٌ يُريد أن يُهديها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخّرها، حتى إذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة بعث صاحب الهديّة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، فكلّم حزب أم سلمة، فقلن لها: كلّمي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُكلّم الناس، فيقول: من أراد أن يُهدي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هديّةً، فليُهدها حيث كان من بيوته
…
".
ولا يخفى أن ما طلبنه مما لا يليق بصاحب المروءة ذكره في مجالس الناس، فطلبنهنّ منه صلى الله عليه وسلم أن يذكر للناس مثل هذا إما لعدم تفطّنهنّ لما فيهنّ من شدّة الغيرة، أو هو كناية عن التسوية بينهنّ في المحبّة بألطف وجه؛ لأن منشأ تحرّي الناس زيادة المحبّة لعائشة، فعند التسوية بينهنّ في المحبّة يرتفع التحرّي من الناس، فكأنه إذا ساوى بينهنّ في المحبّة فقد أمرهم بعدم التحريّ. واللَّه تعالى أعلم
(1)
(وَتَقُولُ لَهُ: إِنَّا نُحِبُّ الْخَيْرَ) والمراد ما يُهدى إليه صلى الله عليه وسلم من أصحابه (كَمَا تُحَبُّ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (فَكَلَّمَتْهُ) أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - (فَلَمْ يُجِبْهَا) بضمّ أوله، من الإجابة، أي لم يردّ صلى الله عليه وسلم عليها جوابًا، وفي رواية البخاريّ:"فلم يقل لها شيئًا". ولعله صلى الله عليه وسلم ترك الجواب، رجاءَ أن تفهم من إعراضه عن إجابتها، أنه لا يحبّ أن يُكلَّم في شأن عائشة - رضي اللَّه تعالى - عنها (فَلَمَّا دَارَ عَلَيْهَا كَلَّمَتْهُ أَيضًا، فَلَمْ يُجِبْهَا، وَقُلْنَ: مَا رَدَّ عَلَيْكِ؟)"ما" استفهاميّةٌ، أي أيَّ شيء ردّ صلى الله عليه وسلم على سؤالك؟ (قَالَتْ: لَمْ يُجِبْنِي، قُلنَ: لَا تَدَعِيهِ) بفتح الدال: أي لا تتركيه من المراجعة في هذه القضية (حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْكِ) أي جوابَا مناسبًا لأغراضهنّ، وذلك أن يوافق على أن يكلّم الناس في شأن الهديّة، فيقول: من كان عنده هديّة يريد أن يُهديها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فليُهدها حيث كان من بيوت أزواجه، ولا يخصّ بين عائشة - رضي اللَّه تعالى عنهنّ - (أَوْ تَنْظُرِينَ مَا يَقُولُ؟) أي من الأعذار التي تمنعه من أن يقول للناس ما ذُكر (فَلَمَّا دَارَ عَلَيْهَا كلَّمَتْهُ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا تُؤذِينِي فِي عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ) الفاء للتعليل، أي لأنه (لَمْ يَنزِلْ عَلَيَّ الْوَحْيُ، وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ) الجملة في محلّ نصب على الحال، و"اللحاف" بكسر اللام، بعدها حاء مهملة: كلُّ ثوب يُتَغَطّى به، والجمع لُحُف
(1)
راجع "شرح السنديّ".
بضمّتين، مثلُ كتاب وكُتُب. واِلْمِلْحَفَة بالكسر: هي الْمُلاءَةُ التي تَلْتَحِف بها المرأة. أفاده الفيّومّي (إِلاَّ فِي لِحَافِ عَائِشَةَ) زاد في رواية البخاريّ: "قالت -يعني أم سلمة-: أتوب إلى اللَّه من أذاك يا رسول اللَّه".
قيل: الحكمة في اختصاص عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - بذلك لمكان أبيها صلى الله عليه وسلم، حيث كان لا يفارق النبيّ صلى الله عليه وسلم في أغلب أحواله، فسَرَى سرّه لابنته، مع ما كان لها من مزيد حبّه صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنها كانت تبالغ في تنظيف ثيابها التي تنام فيها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، والعلم عند اللَّه تعالى. أفاده في "الفتح"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه، لكنه من حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، كما تقدّم للمصنّف مختصرًا في الذي قبله، وأما من حديث أم سلمة فمن أفراد المصنّف، وهو صحيح من حديثهما، كما سيشير إليه المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، قريبًا.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-3/ 3400 من حديث عائشة، و 3401 و 2340 - من حديث أم سلمة، وفي "الكبرى" 3/ 8897 و 8898 و 8899. وأخرجه (خ) في "الهبة" 2581 و"الفضائل" 3775 (م) في "فضائل الصحابة" 2441 (ت) في "المناقب" 3879 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 25973. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواز حبّ الرجل بعض نسائه أكثر من بعض. (ومنها): أن فيه منقبةً عظيمة لعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، حيث إنها تميزّت عن سائر أمهات المؤمنين بنزول الوحي على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو في لحافها، وكفى بهذا شرفًا وفخرًا لها - رضي اللَّه تعالى عنها -، وفيه أن محبّته صلى الله عليه وسلم لها متابعة لعظم منزلتها عند اللَّه تعالى.
(ومنها): أنه استدلّ به من قال: إن عائشة أفضل من خديجة - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وليس ذلك بلازم؛ لأمرين:
(1)
"فتح" 7/ 481. "كتاب فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم".
[أحدهما]: احتمال أن لا يكون أراد إدخال خديجة في هذا، وأن المراد بقوله:"منكنّ" المخاطبة، وهي أم سلمة، ومن أرسلها، أو من كان موجودًا حينئذ من النساء. [والثاني]: على تقدير إرادة الدخول، فلا يلزم من ثبوت الخصوصيّةِ بشيءٍ من الفضائل، ثبوت الفضل المطلق، كحديث:"أقرؤكم أُبيّ، وأفرضكم زيد"، ونحو ذلك. (ومنها): أن فيه بيان ورع أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وتقواها، حيث قالت:"أتوب إلى اللَّه من أذاك يا رسول اللَّه"، ولم تتمادى على المخاصمة على مقتضى غيرتها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: قال في "الفتح": قال السبكيّ الكبير: الذي ندين اللَّه به أن فاطمة أفضل،
ثم خديجة، ثم عائشة، والخلاف شهير، ولكن الحقّ أحقّ أن يُتّبع. وقال ابن تيميّة: جهات الفضل بين خديجة وعائشة متقاربة. وكأنّه رأى التوقّف. وقال ابن القيّم: إن أريد بالتفضيل كثرة الثواب عند اللَّه، فذاك أمرٌ لا يُطّلَع عليه، فإن عمل القلوب أفضل من عمل الجوارح، وإن أريد كثرة العلم، فعائشة، لا مَحَالَةَ، وإن أريد شرف
(1)
، ففاطمة، لا محالة، وهي فضيلة، لا يُشاركها فيها غير أخواتها، وإن أريد شرف السيادة، فقد ثبت النصّ لفاطمة وحدها.
قال الحافظ: امتازت فاطمة عن أخواتها بأنهنّ متن في حياته، فكُنّ في صحيفته، ومات هو في حياتها، فكان في صحيفتها، قال: وكنت أقول ذلك استنباطًا إلى أن وجدته منصوصًا، قال أبو جعفر الطبريّ في تفسير آل عمران، من التفسير الكبير، من طريق فاطمة بنت الحسين بن عليّ، أن جدّتها فاطمة قال: دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا، وأنا عند عائشة، فناجاني، فبكيت، ثم ناجاني، فضحكت، فسألتني عائشة عن ذلك، فقلت: فقد علمت أأخبرك بسرّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فتركتني، فلما توفّي سألت، فقلت: ناجاني
…
فذكر الحديث في معارضة جبريل له بالقرآن مرّتين، وأنه قال:"أحسب أني ميّتٌ في عامي هذا، وأنه لم تُرزأ امرأةٌ من نساء العالمين مثل ما رزئت، فلا تكوني دون امرأة منهنّ صبرًا، فبكيتُ، فقال: "أنت سيدة نساء أهل الجنّة، إلا مريم"، فضحكت. قال الحافظ: وأصل الحديث في "الصحيح" دون هذه الزيادة.
قال: وأما ما امتازت به عائشة من فضل العلم، فإن لخديجة ما يقابله، وهي أول من أجاب إلى الإسلام، ودعا إليه، وأعان على ثبوته بالنفس والمال، والتوجّه التامّ، فلها مثل أجر من جاء بعدها، ولا يقدر قدر ذلك إلا اللَّه. وقيل: انعقد الإجماع على أفضليّة
(1)
هكذا نسخة "الفتح"، والظاهر أنه سقط منه المضاف إليه، وأصله:"شرف النسب"، واللَّه أعلم.
فاطمة، وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله (قَالَ: أَبو عَبْد الرَّحْمَنِ: هَذَانِ الْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ، عَنْ عَبْدَةَ) الظاهر أن هذا محلّه بعد الحديث التالي، كما هو صنيعه في "الكبرى" 5/ 284 - ، والمعنى أن رواية عبدة بن سليمان لهذا الحديث بالطريقين المذكررين صحيحة، فيكون هشام بن عروة رواه عن عوف بن الحارث، عن رُميثة، عن أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -. وعن أبيه، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فكلا الطريقين صحيحان. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3402 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ،، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وقع في بعض النسخ: "حدثنا هاشم بن عبد اللَّه"، وهو غلطٌ فاحش، والصواب ما في بعض النسخ:"هشام، عن أبيه"، وفي بعضها، وهو الذي في "الكبرى":"حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه"، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
ورجال الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3403 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هُدَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا مَعَهُ، فَقُمْتُ، فَأَجَفْتُ الْبَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَلَمَّا رُفِّهَ عَنْهُ، قَالَ لِي:«يَا عَائِشَةُ، إِنَّ جِبْرِيلَ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ» ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وقع أيضًا في هذا السند خطأ فاحش، ونصّه:"عن هاشم"، والصواب ما في بعض النسخ، و"الكبرى"، ولفظه:"عن هشام"، وهو هشام بن عروة الذي روى عنه عبدة في الأسانيد السابقة. فتبّه.
و"صالح بن ربيعة بن هُدير" التيميّ المدنيّ، مقبول [4].
روى عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وعنه هشام بن عروة. ذكره ابن حبان في "الثقات"، تفرّد به المصنّف، وله عنده هذا الحديث فقط. واللَّه تعالى أعلم.
وقولها: "فأجفتُ الباب" من الإجافة، وهو الرّدّ، يقال: أجَفْتُ البابَ: أي رددته، قال الشاعر [من الطويل]:
(1)
"فتح" 7/ 477 - 481.
فَجِئْنَا مِنَ الْبَابِ الْمُجَافِ تَوَاتُرًا
…
وَإنْ تَقْعُدَا بِالْخَلْفِ فَالْخَلْفُ أَوْسَعُ
وفي حديث الحجّ أنه دخل البيت، وأجاف البابَ: أي ردّه عليه. وفي الحديث: "أَجِيفوا أبوابكم". أفاده في "اللسان".
والظاهر أنها أجافت الباب بينها وبينه؛ لئلا تَشغَله عن الوحي الذي نزل عليه. واللَّه تعالى أعلم.
وقولها: "فلمّا رُفَّهَ عنه" بالبناء للمفعول،: أي أُزيح، وأُزيل عنه الضِّيقُ والتعَبُ.
قاله في "النهاية". يقال: رَفَّهَ نفسَهُ بالتشديد: إذا أراحها. قاله في "المصباح". وتمام شرح الحديث يأتي قريبًا.
والحديث ضعيفٌ لأن في سنده صالح بن ربيعة بن هُدير، فإنه لم يرو عنه غير هشام بن عروة، فهو مجهول العين، وهو بهذا السند من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-3/ 3403 - وفي "الكبرى" 3/ 8900. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3404 -
(أَخْبَرَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لَهَا: «إِنَّ جِبْرِيلَ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ» ، قَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، تَرَى مَا لَا نَرَى).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(نوح بن حبيب) القُومَسِي أبي محمد الْبَذَشِيِّ، ثقة سُنّيّ [10] 79/ 1010.
والباقون تقدّموا قريبًا، وكذا لطائف الإسناد. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عُرْوَةَ) سيأتي قريبًا أن المحفوظ رواية الزهريّ، عن أبي سلمة، عن عائشة، فإن معمرًا قد خالف جماعة من أصحاب الزهريّ، فتُرجّح روايتهم على روايته (عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لَهَا: "إِنَّ جِبْرِيلَ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ") وفي نسخة: "يُقرئك السلامَ"، فعلى الأول فهو بفتح حرف المضارعة، وعلى الثاني، فهو بضمّها، يقال: قرأتُ على زيد السلام أقرَؤه قراءةً، وإذا أمرتَ منه قلتَ: اقرَأْ عليه السلام، وتعديته بنفسه على هذا خطأ، فلا يقال: اقرأْهُ السلامَ، ويقال: أقرأته السلام، أُقرِئُهُ إقراءً، فتعدّيه بنفسه، ولا تقول: أقرأت عليه السلام
(1)
.
(1)
راجع "المصباح المنير" في مادة "قرأ".
والحاصل أنه إذا عدّيته بـ "على"، فتحت حرف المضارعة منه، وإذا عدّيته بنفسه ضممته، فلا يُجمع بين الضمّ وحرف الجرّ، فتنبّه.
(قَالَتْ) عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - (وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ) كذا في هذه الرواية بزيادة: "ورحمة اللَّه وبركاته"، وكذا هو عند البخاريّ، من طريق يونس، عن الزهريّ، وفي أكثر الروايات زيادة:"ورحمة اللَّه" فقط، قال وليّ الدين: والأخذ بالزيادة واجب، وهذا غاية السلام، وقد جاء في حديث:"انتهاء السلام إلى البركة". انتهى
(1)
.
قال القرطبيّ: هذا حجة لمن اختار أن يكون ردّ السلام هكذا، وإليه ذهب ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنها - (تَرَى مَا لَا نَرَى) أي إنك يا رسول اللَّه ترى جبريل عليه السلام، وتسمع كلامه، ونحن لا نراه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه بالسند التالي، من رواية أبي سلمة، عنها، وأما من رواية عروة عنها، فغير محفوظ، كما سيأتي توضيحه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-3/ 3404 و3405 - وفي "الكبرى" 3/ 8901 و 8952 و"المناقب" 78/ 8383. وأخرجه (خ) في "بدء الخلق" 3217 و"المناقب" 3768 و"الأدب" 6201 و"الاستئذان" 6249 و 6253 (م) في "فضائل الصحابة" 2447 (د) في "الأدب" 5232 (ت) في "المناقب" 3881 (ق) في "الأدب" 3696 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23760 و23941 و 24553 و 24647 و 25352 (الدارمي) في "الاستئذان" 2638. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو حب الرجل بعض نسائه أكثر من بعض، ووجه الاستدلال منه أنه صلى الله عليه وسلم إنما كان حبه لعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -؛ لأجل فضيلتها، ومناقبها الكثيرة، ومنها سلام جبريل عليه السلام عليها، فإن هذا منقبة
(1)
"طرح التثريب" 8/ 108.
عظيمة لها، تسحقّ أن يحتسبها أكثر من غيرها. قال الحافظ وليّ الدين: لكن منقبة خديجة - رضي اللَّه تعالى عنها - في ذلك أعظم، وهي سلام اللَّه تعالى عليها، والمشهور تفضيل خديجة على عائشة - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وهو الصحيح انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أشار بسلام اللَّه تعالى إلى ما أخرجه الشيخان، واللفظ للبخاريّ من طريق أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، هذه خديجة، قد أتت معها إناء، فيه إدام، أو طعام، أو شراب، فإذا هي أتتك، فاقرأ عليها السلام من ربها، ومني، وبشرها ببيت في الجنة، من قصب، لا صخب فيه، ولا نصب". قال السهيليّ: استدلّ بهذه القصّة أبو بكر بن أبي داود على أن خديجة أفضل من عائشة؛ لأن عائشة سلّم عليها جبريل من قبل نفسه، وخديجة أبلغها السلام من ربّها. قال الحافظ: ومن صريح ما جاء في تفضيل خديجة ما أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وصححه الحاكم من حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى - عنهما، رفعه:"أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خُويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ". قال السبكي الكبير كما تقدّم: لعائشة من الفضائل ما لا يحصى، ولكن الذي نختاره، وندين اللَّه به أن فاطمة أفضل، ثم خديجة، ثم عائشة. انتهى
(2)
.
وقد استنبط بعضهم من هذا الحديث فضل خديجة
(ومنها): استحباب بعث السلام، قال وليّ الدين: قال أصحابنا -يعني الشافعيّة-: ويجب على الرسول تبليغه، فإنه أمانة، ويجب أداء الأمانة. وينبغي أن يقال: إنما يجب عليه ذلك إذا التزم، وقال للمرسل: إني تحمّلت ذلك، وسأبلغه له، فإن لم يلتزم ذلك لم يجب عليه تبليغه، كمن أودع وديعةً، فلم يقبلها. انتهى.
(ومنها): بعث الأجنبيّ السلام إلى الأجنبيّة الصالحة، إذا لم يخف ترتّب مفسدة، وبوب عليه البخاريّ في "صحيحه":"باب تسليم الرجال على النساء". وأخرج الترمذيّ، وحسّنه من حديث أسماء بنت يزيد، قال:"مرّ علينا النبيّ صلى الله عليه وسلم في نسوة، فسلّم علينا"، وله شاهد من حديث جابر عند أحمد. وثبت في "صحيح مسلم" حديث أمّ هانئ:"أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يغتسل، فسلّمت عليه". وأما ما أخرجه أبو نعيم في "عمل اليوم والليلة" من حديث واثلة، مرفوعًا:"يسلّم الرجال على النساء، ولا يسلّم النساء على الرجال"، فسنده واهٍ
(3)
.
(1)
"طرح التثريب" 8/ 107 - 108.
(2)
"فتح" 7/ 519.
(3)
راجع "الفتح" 12/ 198 - 199. "كتاب الاستئذان".
(ومنها): أن الذي يبلغه سلام غيره عليه يرده، قال وليّ الدين: قال أصحابنا: وهذا الردّ واجب على الفور، وكذا لو بلغه سلام في ورقة من غائب لزمه أن يردّ عليه السلام باللفظ على الفور إذا قرأه انتهى.
(ومنها): أنه ذكر النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- أنه يستحبّ أن يردّ على المبلّغ أيضًا، فيقول: وعليه، وعليك السلام، ورحمة اللَّه. وبركاته، قال وليّ الدين: ويشهد لما ذكره ما رواه النسائيّ، وصاحبه ابن السنّيّ، كلاهما في "عمل اليوم والليلة" أن رجلاً من بني تميم أبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أبيه السلام، فقال:"وعليك، وعلى أبيك السلام". لكن ما ذكره النوويّ فيه تقديم الردّ على الغائب، والذي في هذا الحديث تقديم الرّدّ على الحاضر. ولم يقع في حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - الردّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي هو مبلّغ السلام عن جبريل عليه السلام، وذلك يدلّ على أنه غير واجب. وقد يقال: الواقع في حديث عائشة إبلاغ السلام عن حاضر، إلا أنه غائبٌ عن العين، ولهذا قالت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"ترى ما نرى"، بخلاف قضيّة التميميّ، فإنه إبلاغ سلام عن غائب. وقد يقال: لا أثر لذلك في ردّ السلام على المبلغ، وتركه انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "من بني تميم" الذي في "عمل اليوم والليلة" للمصنّف برقم 373 - بتحقيق الدكتور فاروق حمادة "رجل من بني نمير، عن أبيه، عن جدّه". والحديث ضعيف لجهالة الرجل المذكور. واللَّه تعالى أعلم.
(ومنها): استحباب أن يأتي في الرّدّ بالواو، فيقول في جواب الحاضر:"وعليكم السلام"، وفي جواب الغائب:"و- عليه السلام"، كما وقع في هذا الحديث.
(ومنها): استحباب الزيادة في ردّ السلام. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3405 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ، هَذَا جِبْرِيلُ، وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ
…
». مِثْلَهُ، سَوَاءٌ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا الصَّوَابُ، وَالَّذِي قَبْلَهُ خَطَأٌ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو ثقة حافظ.
و"الحكم بن نافع": هو أبو اليمان الحمصيّ. و"شُعيب": هو ابن أبي حمزة الحمصيّ. وقوله: "يا عائشة"، وفي نسخة:"يا عائش" بحذف الهاء، على الترخيم، كما قال
(1)
"طرح التثريب" 8/ 108.
في "الخلاصة":
تَرْخِيمًا احْذِفْ آخِرَ الْمُنَادَى
…
كَيَـ "يَا سُعَا" فِيمَنْ دَعَا "سُعَادَا"
وقوله: "مثله" يحتمل الرفع خبر لمحذوف، أي متن الحديث مثل المتن الماضي.
ويحتمل نصبه، على الحال، أي حال كونه الحديث الماضي. وقوله:"سواء" مؤكّد لـ "مثله"، لإعرابه كإعرابه.
وقوله: "هذا الصواب، والذي قبله خطأ" يعني أن كون الحديث من رواية أبي سلمة، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هو الصواب، وأما كونه من رواية عروة، عنها فخطأٌ، وقد بيّن وجه الخطإ المصنّف في "عمل اليوم والليلة"، فقال بعد أن ساق بسند معمر، عن الزهريّ، عن عروة المتقدِّم: ما نصّه: خالفه ابن المبارك، ثم ساقه من طريق ابن المبارك، عن الزهريّ، عن أبي سلمة
…
، ثم قال: وهذا الصواب؛ لمتابعة شعيب، وابن مسافر إياه على ذلك انتهى.
وقال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: ما نصّه: رواه النسائيّ عن نوح بن حبيب، عن عبد الرزّاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، وقال: هذا خطأ، وأشار بذلك إلى أنه خطأ من جهة الإسناد لذكر عروة فيه، وإنما المعروف من حديث الزهريّ روايته له عن أبي سلمة، عن عائشة، اتفق الشيخان، والنسائيّ على إخراجه كذلك، من طريق شعيب بن أبي حمزة، وأخرجه البخاريّ، والترمذيّ، والنسائيّ من طريق معمر، وأخرجه البخاريّ من طريق يونس بن يزيد، وأخرجه النسائيّ من طريق عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، كلهم عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن عائشة، وهو معروف من حديث أبي سلمة من غير طريق الزهريّ، رواه الأئمة الستّة، خلا النسائيّ، من طريق الشعبيّ، عن أبي سلمة، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - انتهى كلام وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن المحفوظ في هذا الحديث كونه عن أبي سلمة، عن عائشة، لاتفاق هؤلاء الحفّاظ: شعيب بن أبي حمزة، ويونس بن يزيد الأيليّ، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر على ذلك، مع أنه روي عن الشعبيّ، عن أبي سلمة، فعُلم أن رواية معمر غير محفوظة، على أنه اختُلف عليه فيه، فقد رواه عبد اللَّه بن المبارك عنه، كرواية الجماعة
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"طرح التثريبب" 8/ 107.
(2)
أخرجه البخاري في "كتاب الاستئذان" من "صحيحه" برقم (6249).
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
4 - (بَابُ
(1)
الْغَيْرَةِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الغَيْرَةُ" بفتح الغين المعجمة، وسكون الياء التحتيّة، بعدها راءٌ: مصدر غار الرجل على امرأته، والمرأة على زوجها يَغار، من باب تَعِبَ غَيْرًا، وغَيْرَةً بالفتح، وغَارًا. قال ابن السكّيت: ولا يقال: غِيرًا وغيرةً بالكسر. فالرجل غيورٌ، والمرأة غيورٌ أيضًا، وغيرَى، وجمع غَيُور غُيُرٌ، مثلُ رسول ورُسُلٍ، وجمع غَيْرَان، وغَيْرَى غيارى، بالضمّ والفتح. قاله الفيّومّي.
وقال القاضي عياض، وغيره: هى مشتقة من تغيّر القلب، وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشدّ ما يكون ذلك بين الزوجين انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3406 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ
(3)
، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَرْسَلَتْ أُخْرَى، بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتْ يَدَ الرَّسُولِ، فَسَقَطَتِ الْقَصْعَةُ، فَانْكَسَرَتْ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكِسْرَتَيْنِ، فَضَمَّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الأُخْرَى، فَجَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ، وَيَقُولُ:«غَارَتْ أُمُّكُمْ، كُلُوا» ، فَأَكَلُوا، فَأَمْسَكَ، حَتَّى جَاءَتْ بِقَصْعَتِهَا الَّتِي فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الرَّسُولِ، وَتَرَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْهَا).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(محمد بن المثنى) أبو موسى الْعَنَزي البصريّ، ثقة ثبت [10] 64/ 80.
2 -
(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.
3 -
(حميد) بن حميد الطويل، أبو عبيدة البصريّ، ثقة يدلس [5] 87/ 108.
4 -
(أنس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
سقط من بعض النسخ لفظ (باب).
(2)
راجع "الفتح"10/ 401 "كتاب النكاح".
(3)
وفي نسخة: "قال: قال أنسٌ".
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى- وهو (178) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): مسلسل بالبصريين. (ومنها): شيخه هو أحد مشايخ الأئمة الستّة من دون واسطة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه (قال: كَانَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤمِنِينَ) وفي رواية الترمذيّ، من طريق سفيان الثوريّ، عن حميد، عن أنس: "أهدت بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم طعامًا في قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها
…
" الحديث، وأخرجه أحمد عن ابن أبي عديّ، ويزيد بن هارون، عن حميد به، وقال: أظنّها عائشة. قال الطيبيّ: إنما أُبهمت عائشة تفخيمًا لشأنها، وأنه مما لا يخفى، ولا يلتبس أنها هي؛ لأن الهدايا إنما كانت تُهدى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيتها انتهى
(1)
(فَأَرْسَلَتْ أُخْرَى) أي أرسلت امرأة أخرى، من أمهات المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنهنّ، زاد في رواية البخاريّ:"مع خادم"، قال في "الفتح": لم أقف على اسم الخادم، وأما المرسلة فهي زينب بنت جحش، ذكره ابن حزم في "المحلّى" من طريق الليث بن سعد، عن جرير بن حازم، عن حميد: سمعت أنس بن مالك أن زينب بنت جحش، أهدت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في بيت عائشة، ويومها جَفْنَةً من حَيْسٍ". واستفدنا منه معرفة الطعام المذكور. ووقع قريبٌ من ذلك لعائشة مع أمّ سلمة - رضي اللَّه تعالى عنهما -، كما سيأتي للمصنّف في الرواية التالية من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي المتوكّل
…
وأخرجه الدارقطنيّ من طريق عمران بن خالد، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه، قال: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة معه بعض أصحابه، ينتظرون طعامًا، فسبقتها- قال عمران: أكثر ظنّي أنها حفصة - بصفحة، فيها ثريدٌ، فوضعتها، فخرجت عائشة- وذلك قبل أن يحتجبن- فضربتها بها، فانكسرت
…
" الحديث.
قال الحافظ: ولم يصب عمران في ظنّه أنها حفصة، بل هي أم سلمة، كما تقدّم. نعم وقعت القصّة لحفصة أيضًا، وذلك فيما رواه ابن أبي شيبة، وابن ماجه من طريق رجل من بني سواءة، غير مسمّى، عن عائشة، قالت:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، فصنعتُ له طعامًا، وصنعت له حفصة طعامًا، فسبقتني، فقلت للجارية: انطلقي، فأكفئي قصعتها، فأكفأتها، فانكسرت، وانتشر الطعام، فجمعه على النطع، فأكلوا، ثم بعث بقصعتي إلى حفصة، فقال: "خذوا ظرفًا مكان ظرفكم". وبقيّة رجاله ثقات، وهي قصّة أخرى، بلا
(1)
راجع "الفتح" 5/ 420. "كتاب المظالم".
ريب؛ لأن في هذه القصّة أن الجارية هي التي كسرت الصحفة، وفي الذي تقدّم أن عائشة نفسها هي التي كسرتها. وروى أبو داود، والنسائيّ، من طريق جَسْرَة -بفتح الجيم، وسكون المهملة- عن عائشة، قالت:"ما رأيت صانعةً طعامًا مثل صفيّة، أهدت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إناءً، فيه طعام، فما ملكتُ نفسي أن كسرته، فقلت: يا رسول اللَّه، ما كفّارته؟ قال: "إناء كإناء، وطعامٌ كطعام". وإسناده حسن. ولأحمد، وأبي داود، عنها: "فلما رأيت الجارية أخذتني رعدة"، فهذه قصّةٌ أخرى أيضًا.
وتحرّر من ذلك أن المراد بمن أُبهم في حديث الباب هي زينب يخطيء الحديث من مخرجه، وهو حميد، عن أنس، وما عدا ذلك، فقصص أخرى، لا يليق بمن يُحقّق أن يقول في مثل هذا: قيل: المرسلة فلانة، وقيل: فلانة الخ، من غير تحرير انتهى كلام الحافظ، وهو كلام نفيسٌ. واللَّه تعالى أعلم.
(بِقَصْعَةٍ) بفتح القاف: إناء من خشب. وعند البخاريّ في "النكاح" في رواية ابن علية "بصحفة"، وهي قصعة مبسوطة، وتكون من غير الخشب (فِيهَا طَعَامٌ) تقدّم قريبًا، أنه كان حيسًا (فَضَرَبَتْ يَدَ الرَّسُولِ، فَسَقَطَتِ الْقَصْعَةُ، فَانْكَسَرَتْ) زاد أحمد: "نصفين"، وفي رواية أم سلمة الآتية بعد هذا:"فجاءت عائشة، ومعها فهرٌ، ففلقت به الصحفة"، وفي رواية ابن عليّة:"فضربت التي في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة، فانفلقت". والفَلْق بالسكون الشّقّ. ودلّت الرواية الأخرى على أنها انشقّت، ثم انفصلت (فَأَخَذَ النَّبِيُّ الْكِسْرَتَيْنِ) وفي نسخة:"الكَسْرَين"(فَضَمَّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الأُخْرَى، فَجَعَلَ يَجمَعُ فِيهَا الطْعَامَ، وَيَقُولُ) صلى الله عليه وسلم (غَارَتْ أُمُّكُمْ) أي إنما حملها على هذا الاعتداء غيرتها على ضرّتها. قال الطيبيّ: وإنما وُصفت المرسلة بأنها أم المؤمنين إيذانًا بسبب المغيرة التي صدرت من عائشة، وإشارة إلى غيرة الأخرى، حيث أهدت إلى بيت ضرّتها. وقوله: غارت أمكم" اعتذارٌ منه صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يُحمل صنيعُها على ما يُذمّ، بل يُجْرَى على عادة الضرائر من المغيرة، فإنها مركّبةٌ في النفس بحيث لا يقدر على دفعها. قاله في "الفتح". وقال في موضع آخر: الخطاب في قوله: "أمكم" لمن حضر، والمراد بالأمّ هي التي كسرت الصحفةَ، وهي من أمهات المؤمنين، كما تقدّم بيانه. وأغرب الداوديّ، فقال: المراد بقوله: "أمّكم" سارة، وكأنّ معنى الكلام عنده، لا تتعجّبوا مما وقع من هذه من الغيرة، فقد غارت قبل ذلك أمّكم حتى أخرج إبراهيمُ ولده إسماعيل، وهو طفل مع أمه إلى واد غير ذي زرع، وهذا، وإن كان له بعض توجيه، لكن المراد خلافه، وأن المراد كاسرة الصحفة، وعلى هذا حمله جميع مَنْ شرح هذا الحديث، وقالوا: فيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيراء بما يصدر منها لأنها في تلك الحالة يكون
عقلها محجوبًا بشدّة الغضب الذي أثارته الغيرة.
وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به، عن عائشة، مرفوعًا:"أن الغيراء لا تُبصر أسفل الوادي من أعلاه". قاله في قصّة. وعن ابن مسعود رفعه: "إن اللَّه كتب الغيرة على نساء، فمن صبر منهنّ، كان لها أجر شهيد". أخرجه البزّار، وأشار إلى صحّته، ورجاله ثقات، لكن اختلف في عبيد بن الصبّاح منهم. وفي إطلاق الداوديّ على سارة أنها أم المخاطبين نظر أيضًا، فإنهم إن كانوا من بني إسماعيل، فأمّهم هاجر، لا سارة، ويبعد أن يكونوا من بني إسرائيل حتى يصحّ أن أمهم سارة انتهى
(1)
.
(كُلُوا، فَأَكَلُوا، فَأَمْسَكَ) أي أمسك صلى الله عليه وسلم القَصْعَةَ المكسورة (حَتَّى جَاءَتْ) الكاسرة (بِقَصْعَتِهَا الَّتِي فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الرَّسُولِ) أي إلى رسول المرأة التي أرسلت بالطعام (وَتَرَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْها) زاد في رواية الثوريّ: "إناءٌ كإناء، وطعامٌ كطعام". وقال ابن العربيّ: وكأنه إنما لم يؤدّب الكاسرة، ولو بالكلام لما وقع منها من التعدّي؛ لما فهم من أن التي أهدت أرادت بذلك أذى التي هو في بيتها، والمظاهرة عليها، فاقتصر على تغريمها للقصعة. قال: وإنما لم يُغرّمها الطعام؛ لأنه كان مُهْدًى، فإتلافهم له قبولٌ، أو في حكم القبول. قال الحافظ: وغفل -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- عما ورد في الطريق الأخرى. انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: يعني قوله صلى الله عليه وسلم: "إناء كإناء، وطعامٌ كطعام" المذكور، فإنه صريحٌ في كونه صلى الله عليه وسلم غرّمها الإناء، والطعام. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-4/ 3406 - وفي "الكبرى" 4/ 8903. وأخرجه (خ) في "المظالم والغصب" 2481 و"النكاح" 5225 (د) في "البيوع" 3567 (ق) في "الأحكام" 2334 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 11616 و13361 (الدارمي) في "البيوع" 2598. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"فتح"10/ 407. "كتاب النكاح".
(2)
"فتح" 5/ 422. "كتاب المظالم".
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم الغيرة، وأنها لا ينقص من دين المرأة شيئًا، حيث عذر النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - بسببها، وإنما ألزمها ضمان ما جنته. (ومنها): سعة أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنصافه، وتحمّله ما يحدث من أزواجه بسبب الغيرة. (ومنها): مشروعية الضمان بالمثل في كسر القصعة، ونحوها، وسيأتي ما قاله أهل العلم في ذلك، في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال ابن بطال: احتجّ الشافعيّ، والكوفيّون فيمن استهلك عروضًا، أو حيوانًا، فعليه مثل ما استهلك، قالوا: ولا يُقضى بالقيمة إلا عند عدم المثل. وذهب مالكْ إلى القيمة مطلقًا، وعنه في رواية كالأوّل، وعنه ما صنعه الآدميّ فالمثل، وأما الحيوان فالقيمة، وعنه ما كان مكيلاً، أو موزونًا فالقيمة، وإلا فالمثل، وهو المشهور عندهم. قال الحافظ: وأما ما أطلقه عن الشافعيّ ففيه نظرٌ، وإنما يُحكم في الشيء بمثله إذا كان متشابه الأجزاء، وأما القصعة فهي من المقوّمات لاختلاف أجزائها. والجواب ما حكاه البيهقيّ بأن القصعتين كانتا للنبيّ صلى الله عليه وسلم في بيتي زوجتيه، فعاقب الكاسرة بجعل القصعة المكسورة في بيتها، وجعل الصحفة الصحيحة في بيت صاحبتها، ولم يكن هناك تضمين. ويحتمل على تقدير أن تكون القصعتان لهما أنه رأى ذلك سدادًا بينهما، فرضيتا بذلك. ويحتمل أن يكون ذلك في الزمان الذي كانت العقوبة فيه بالمال، فعاقب الكاسرة بإعطاء قصعتها للأخرى.
قال الحافظ: وُيبعد هذا التصريح بقوله: "إناءٌ كإناء". وأما التوجيه الأول فيعكُرُ عليه قوله في الرواية التي ذكرها ابن أبي حاتم: "من كسر شيئًا، فهو له، وعليه مثله"، زاد في رواية الدارقطنيّ:"فصارت قضيّة"، وذلك يقتضي أن يكون حكمًا عامًّا لكلّ من وقع له مثلُ ذلك، ويبقى دعوى من اعتذر عن القول به بأنها واقعة عينٍ، لا عموم فيها.
لكن محلّ ذلك ما إذا أفسد المكسور، فاما إذا كان الكسر خفيفًا، يمكن إصلاحه، فعلى الجاني أرشه. قال: وأما مسألة الطعام، فهي محتملةٌ لأن يكون ذلك من باب المعونة، والإصلاح، دون بتّ الحكم بوجوب المثل فيه؛ لأنه ليس له مثلٌ معلوم، وفي طرق الحديث ما يدلّ على ذلك، وأن الطعامين كانا مختلفين. واللَّه أعلم انتهى
(1)
.
(1)
"فتح" 5/ 421 - 422.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن قول من قال بتضمين الحيوان، والعروض بالمثل هو الأولى؛ لظاهر حديث الباب، وأما دعوى أنها واقعة عين، فمما لا دليل عليه، وليس هذا مما يُستغرب، فقد ثبت الضمان بالمثل في الشرع في كثير من الإتلافات، كجزاء الصيد، وغيره. فتفطّن. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: احتجّ الحنفيّة بهذا الحديث لقولهم: إذا تغيّرت العين المغصوبة بفعل الغاصب، حتى زال اسمها، وعظم منافعها، زال ملك المغصوب عنها، وملكها الغاصب، وضَمِنَها. وفي الاستدلال بهذا الحديث نظرٌ لا يخفى. قاله في "الفتح"
(1)
.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
3407 -
(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا، يَعْنِي أَتَتْ بِطَعَامٍ، فِي صَحْفَةٍ لَهَا، إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، فَجَاءَتْ عَائِشَةُ، مُتَّزِرَةً بِكِسَاءٍ، وَمَعَهَا فِهْرٌ، فَفَلَقَتْ بِهِ الصَّحْفَةَ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ فِلْقَتَي الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: «كُلُوا، غَارَتْ أُمُّكُمْ» ، مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَحْفَةَ عَائِشَةَ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَأَعْطَى صَحْفَةَ أُمِّ سَلَمَةَ عَائِشَةَ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الربيع بن سليمان": هو الجيزيّ الأعرج. ويحتمل أن يكون الربيع بن سليمان المراديّ المؤذّن، فكلاهما يروي عنه المصنّف، ويرويان عن أسد بن موسى، وكلاهما مصريّان ثقتان. و"أسد بن موسى": هو الأمويّ المعروف بـ "أسد السنّة"، وثّقه المصنّف، وغيره. و"ثابت": هو البنانيّ البصريّ. و"أبو المتوكّل": هو عليّ بن داود، ويقال: دُؤاد الناجيّ البصريّ. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "أنها يعني أتت بطعام" أتي بـ "يعني" إشارةً إلى أنه شكّ في هذه اللفظة، هل هي أتت، أو جاءت، أو نحو ذلك، ولم يظهر لي من أتي بالعناية. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "بصحفة" -بفتح الصاد، وسكون الحاء المهملتين-: إناءٌ كالقَصْعة، والجمع صِحَافٌ، مثلُ كَلْبة وكِلابٍ، وقال الزمخشريّ: الصَّحْفة قَصْعَةٌ مستطيلة. أفاده الفيّوميّ.
وقولها: "ومعها فِهْرٌ" في "القاموس": الْفِهْرُ -بالكسر-: الحجرُ قدر ما يُدقّ به الجوز، أو ما يملأ الكفّ، ويؤنّث، والجمع أفهار، وفُهُور انتهى.
وقولها: "ففلقت" بفتح الفاء، والسلام، من باب ضرب: أي شَقَّت. وقولها: "بين
(1)
"فتح" 5/ 422 "كتاب المظالم".
فِلقتي الصحفة" بكسر الفاء، وسكون اللام تثنية فِلْقةٍ: وهي القِطعة، وزنًا ومعنًى. وقد تقدّم تمام الشرح، وبيان فوائده في الذي قبله.
والحديث صحيح، تفرد به المصنّف، فأخرجه هنا-4/ 3407 - وفي "الكبرى" 4/ 8904. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3408 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ فُلَيْتٍ، عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دِجَاجَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ صَانِعَةَ طَعَامٍ، مِثْلَ صَفِيَّةَ، أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِنَاءً فِيهِ طَعَامٌ، فَمَا مَلَكْتُ نَفْسِي، أَنْ كَسَرْتُهُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ كَفَّارَتِهِ؟ فَقَالَ: «إِنَاءٌ كَإِنَاءٍ، وَطَعَامٌ كَطَعَامٍ»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن المثنى) العنزي البصري، ثقة حافظ [10] 64/ 80.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهديّ البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 42/ 49.
3 -
(سفيان) بن الثوريّ الإمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.
4 -
(فُلَيتٌ) - بضمّ الفاء، آخره تاء مثناة فوقيّةٌ، مصغّرًا: هو أفلت بن خَليفة العامريّ، ويقال: الذّهليّ، ويقال: الْهُذليّ، أبو حَسَّان الكوفيّ، صدوق [5].
روى عن جَسْرة بنت دجاجة، ودُهيمة بنت حسّان. وعنه الثوريّ، وأبو بكر بن عيّاش، وعبد الواحد بن زياد. قال أحمد: ما أرى به بأسًا. وقال أبو حاتم: شيخٌ. وقال الدارقطنيّ: صالح. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وصحح ابن خُزيمة حديثه عن جَسْرة: "لا أحلّ المسجد لجنب، ولا حائض". وحسّنه ابن القطّان. وقال الخطّابيّ في "شرح السنن": ضعّفوا هذا الحديث، وقالوا: راويه مجهول. وقال ابن حزم: أفلت غير مشهور، ولا معروف بالثقة، وحديثه باطلٌ. وقال البغويّ في "شرح السنّة": ضَعّف أحمد هذا الحديث؛ لأن راويه أفلت، وهو مجهول. تفرّد به أبو داود، والمصنّف، وله عنده هذا الحديث، وحديث عائشة -56/ 5520 - في "كتاب الاستعاذة": "اللهم رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل
…
".
5 -
(جَسْرَة) بنت دجاجة العامريّة الكوفيّة، وثقها العجليّ، وابن حبّان، ويقال: إن لها إدراكًا [3] 79/ 1010.
6 -
(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أنه مسلسل
بالكوفيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فبصريان، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فمدنية. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّّة، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ صَانِعَةَ طَعَامٍ، مِثْلَ صَفيَّةَ) بنت حييّ أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِنَاءً فِيهِ طَعَامٌ، فَمَا مَلَكْتُ نَفْسِي أَنْ كَسَرْتُهُ "أن" مصدريّة، والفعل في تأويل المصدر مجرور بـ "من" محذوفةً قياسًا، أي لم أملك نفسي، ولم أَضْبِطها من كسر ذلك الإناء، من شدّة المغيرة (فَسَأَلْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ كَفَّارَتهِ؟) أي فندمت على ما فعلت، فسألته صلى الله عليه وسلم عما يزيل ذلك الذنب (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَاءٌ كإِنَاءٍ، وَطَعَامٌ كَطَعَامٍ) يعني أن الذي يُكفّر مثل هذا الذنب هو ضمان مثله، فيُضمن الإناء لإناء مثله، وُيضَمنُ الطعام بطعام مثله، ففيه إثبات ضمان الأشياء القيمية بمثلها، إذا كان لها مثل، وهو الأصحّ، كما بينته قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا حديثٌ حسنٌ، وفُليتٌ، قد روى عنه الثوريّ، وأبو بكر بن عيّاش، وعبد الواحد بن زياد، وقد قوّاه من قدّمنا ذكرهم قريبًا، وجَسْرة، روى عنها فُليتٌ، وقُدامة بن عبد اللَّه العامريّ، ومَخدوج الذُّهليّ، وعمر بن عُمير بن مَخدوج، ووثقها العجليّ، وابن حبّان، وذكرها أبو نُعيم في "الصحابة". وقال البخاريّ: عند جسرة عجائب، فقال أبو الحسن ابن القطّان: هذا القول لا يكفي لمن يُسقط ما روت، كأنه يعرّض بابن حزم؛ لأنه زعم أن حديثها باطلٌ.
والحاصل أن هذا الحديث لا ينقص عن درجة الحسن، كما تقدّم في كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-4/ 3408 - وفي "الكبرى" 4/ 8905. وأخرجه (د) في "البيوع"
3568 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 24628 و 25834. واللَّه تعالى أعلم
بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3409 -
(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، تَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلاً، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ، أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ ، فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ: ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:«لَا بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً، عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ» ، فَنَزَلَتْ:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ، {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} ، لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} لِقَوْلِهِ:«بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً» ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الْحَسَنُ بنُ مُحَمد الزَّعْفَرانِيُّ) أبو عليّ البغداديّ، صاحب الشافعيّ، وقد شاركه في الطبقة الثانية من شيوخه، ثقة [10] 21/ 427.
2 -
(حجّاج) بن محمد الأعور المصّيصيّ، ترمذي الأصل، نزيل بغداد، ثم المصّيصة، ثقة ثبت، لكنه اختلط في آخره لما قدم بغداد [9] 28/ 32.
3 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، لكنه يدلس ويرسل [6] 28/ 32.
4 -
(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشي مولاهم، أبو محمد المكي، ثقة فقيه فاضل، كثير الإرسال [3] 112/ 154.
5 -
(عُبيد بن عُمير) بن قتادة الليثيّ، أبو عاصم المكّيّ، كان قاصّ أهل مكّة، أجمعوا على توثيقه [2] 12/ 416.
6 -
(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، فبغداديّ، وحجاج، فمصّيصيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ) الليثيّ التابعيّ الكبير (يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - (تَزْعُمُ) أي تقول، وأهل الحجاز يُطلقون الزعم على مطلق القول. قاله في "الفتح"(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) الأسديّة، أم المؤمنين، وبنت عمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أُميمة بنت عبد المطّلب (فَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلاً، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ) كذا هنا بالصاد المهملة، من التواصي، وفي رواية
هشام: "فتواطيت" بالطاء، من التواطىء، وأصله "تواطأت" بالهمزة، فسَهّلت، فصارت ياء (أَنَّ أَيَّتَنَا) -بفتح الهمزة، وتشديد الياء- هي أيٌّ دخلت عليها تاء التأنيث، وأضيفت إلى ضمير المتكلّم. وفي رواية:"أيَّتناما"، و"ما" زائدة (دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟) وفي رواية هشام بتقديم "أكلت مغافير"، وتأخير "إني لأجد"، و"أكلت" استفهام بتقدير أداة الاستفهام.
و"المغافير" -بالغين المعجمة، والفاء، وبإثبات التحتانيّة، بعد الفاء، وكذا هو في جميع نسخ البخاريّ، ووقع في بعض النسخ عند مسلم في بعض المواضع من الحديث بحذفها، قال عياضٌ: والصواب إثباتها؛ لأنها عِوَضٌ من الواو التي في المفرد، وإنما حُذفت في ضرورة الشعر انتهى.
ومراده بالمفرد أن المغافير جمع مُغفُور -بضمّ أوله- ويقال: بثاء مثلّثة بدل الفاء، حكاه أبو حنيفة الدِّينوريّ في النبات. قال ابن قُتيبة: ليس في الكلام "مُفْعُولٌ" -بضمّ أوله- إلا "مُغفُورٌ"، و"مُغزولٌ" -بالغين المعجمة- من أسماء الكَمْأة، و"مُنْخُورٌ" - بالخاء المعجمة- من أسماء الأنف، و"مُغْلُوقٌ" -بالغين المعجمة- واحد المَغَاليق، قال: وإ المُغْفُور" صمغٌ حُلْوٌ، له رائحة كريهة. وذكر البخاريّ أن المُغفور شبيهٌ بالصمغ يكون في الرِّمْث -بكسر الراء، وسكون الميم، بعدها مثلّثةٌ- وهو من الشجر التي ترعاها الإبل، وهو من الحَمْض
(1)
، وفي الصمغ المذكور حلاوةٌ، يقال: أغفر الرِّمثُ: إذا ظهر ذلك فيه. وذكر أبو زيد الأنصاريّ أن الْمُغفورَ يكون أيضًا في الْعُشَر -بضمّ المهملة، وفتح المعجمة- وفي الثُّمَام، والسَّلَم، والطَّلْح، واختُلف في ميم مغفور، فقيل: زائدة، وهو قول الفرّاء، وعند الجمهور أنها من أصل الكلمة، ويقال له أيضًا: مِغْفارٌ -بكسر أوّله- ومغفرٌ -بضمّ أوله، وبفتحه، وبكسره- عن الكسائيّ، والفاء مفتوحةٌ في الجميع. وقال عياضٌ: زعم المهلّب أن رائحة المغافير، والْعُرْفُط حسنةٌ، وهو خلاف ما يقتضيه الحديث، وخلاف ما قاله أهل اللغة انتهى. قال الحافظ: ولعلّ المهلّب قال: "خبيثة" -بمعجمة، ثم موحّدة، ثم تحتانيّة، ثم مثلّثة-، فتصحّفت، أو استند إلى ما نُقل عن الخليل، وقد نسبه ابن بطّال إلى "العين" أن الْعُرْفُط شجر العضاه، والعِضَاه كلّ شجر له شوكٌ، وإذا استيك به كانت له رائحة حسنة، تشبه رائحة طيب النبيذ انتهى. وعلى هذا فيكون ريح عيدان العرفُط طيّبًا، وريح الصمغ الذي يسيل منه غير طيبة، ولا منافاة في ذلك، ولا تصحيف. وقد حكى القرطبيّ في "المفهم" أن
(1)
"الحَمْضُ" -بفتح، فسكون-: من النبت ما كان فيه مُلُوحةٌ. قاله في "المصباح".
رائحة ورق العرفط طيّبة، فإذا رعته الإبل، خَبُثَت رائحته. وهذا طريق آخر في الجمع حسنٌ جدًّا. انتهى
(1)
.
(فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا) قال الحافظ: لم أقف على تعيينها، وأظنّها حفصة (فَقَالَتْ:: ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:"لَا" نافية، ردّ لقولها، أي لم آكل مغافير (بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً) وفي رواية هشام: إلا ولكنّي كنت أشرب عسلاً" (عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشِ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ") وفي رواية هشام: "وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدًا"، وبهذه الزيادة تظهر مناسبة قوله (فَنَزَلَتْ:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ) قال عياضٌ: حُذفت هذه الزيادة من رواية حجاج بن محمد، فصار النظم مشكلاً، فزال الإشكال برواية هشام بن يوسف. واستدلّ القرطبيّ وغيره بقوله:"حلفت" على أن الكفّارة التي أُشير إليها في قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} هي عن اليمين التي أشار إليها بقوله: "حلفتُ"، فتكون الكفّارة لأجل اليمين، لا لمجرّد التحريم. قال الحافظ: وهو استدلالٌ قويّ لمن يقول: إن التحريم لغوٌ، لا كفّارة فيه بمجرّده. وحمل بعضهم قوله:"حلفت" على التحريم، ولا يخفى بُعده. واللَّه تعالى أعلم {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} ) أي تلا إلى هذا الموضع (لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ) أي الخطاب لهما، قال في "الفتح": ووقع في رواية غير أبي ذرّ: "فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} - إلى قوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ}، وهذا أوضح من رواية أبي ذرّ انتهى {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا}، لِقَولِهِ: "بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً) هذا من تمام الحديث، والمراد به أن هذه الآية نزلت لأجل قوله صلى الله عليه وسلم:"بل شرِبتُ عسلاً"، والنكتة فيه أن هذه الآية داخلة في الآيات الماضية؛ لأنها قبل قوله:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} .
[تنبيه]: أخرج الشيخان قصّة شرب النبيّ صلى الله عليه وسلم العسل بوجه آخر، وهذا لفظ البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-:
حدثنا فروة بن أبي الْمَغْرَاء، حدثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يحب العسل والْحَلْوَاء، وكان إذا انصرف من العصر، دخل على نسائه، فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصة بنت عمر، فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، فغِرْت، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها، عُكَّةً من عسل، فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أَمَا واللَّه، لنحتالنّ له، فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منكِ، فإذا دنا منك، فقولي: أكلتَ مغافير، فإنه
(1)
"فتح" 10/ 474 "كتاب الطلاق".
سيقول لكِ: لا، فقولي له: ما هذه الريح التي أجد منكَ؟، فإنه سيقول لكِ: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جَرَسَتْ نحلُهُ العُرْفُطَ
(1)
، وسأقول ذلك، وقولي: أنت يا صفيّة ذاك، قالت: تقول سودة: فواللَّه ما هو، إلا أن قام على الباب، فأردت أن أباديه بما أمرتني به، فَرَقًا منكِ، فلما دنا منها، قالت له سودة: يا رسول اللَّه أكلت مغافير، قال:"لا"، قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟، قال:"سقتني حفصة شربة عسل"، فقالت: جَرَيسَتْ نحله العُرْفُط، فلما دار إليّ، قلت له: نحو ذلك، فلما دار إلى صفية، قالت له: مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة، قالت: يا رسول اللَّه، ألا أسقيك منه، قال:"لا حاجة دي فيه"، قالت: تقول سودة: واللَّه فقد حرمناه، قلت لها: اسكتي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-4/ 3409 و"الطلاق" 17/ 3449 و "الأيمان والنذور" 20/ 3823 - وفي "الكبرى" 4/ 8906 و"الطلاق" 18/ 5614 و"الأيمان والنذور" 20/ 4737 و"التفسير"11608. وأخرجه (خ) في "التفسير" 4912 و"الطلاق" 5268 (م) في "الطلاق" 1474 (د) في "الأشربة" 3714 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 25324. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(2)
:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما جُبلت عليه النساء من الغيرة، وأن الغيراء تُعذر فيما يقع منها من الاحتيال فيما يدفع عنها ترفع ضرّتها عليها بأيّ وجه كان، وقد ترجم عليه البخاريّ في "صحيحه" في "كتاب الحيل" "باب ما يكره من احتيال المرأة من الزوج والضرائر". (ومنها): أن فيه الأخذ بالحزم في الأمور، وترك ما يشتبه الأمر فيه من المباح، خشية من الوقوع في المحذور. (ومنها): أن فيه ما يشهد بعلوّ مرتبة عائشة عند النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى كانت ضرّتها تهابها، وتطيعها في كلّ شيء
(1)
أي رعت نحله العُرْفط، وهو الشجر الذي صمغه المغافير.
(2)
ليس المراد فوائد خصوص الرواية التي ساقها المصنّف، بل ما يعمّ ما أوردته في الشرح من رواية الشيخين، وغيرهما، فتبّه.
تأمرها به، حتى في مثل هذا الأمر مع الزوج الذي هو أرفع الناس قدرًا. (ومنها): أن فيه إشارة إلى ورع سودة - رضي اللَّه تعالى عنها - لما ظهر منها من التندّم على ما فعلت؛ لأنها وافقت أوّلاً على دفع ترفّع حفصة عليهنّ بمزيد الجلوس عندها بسبب العسل، ورأت أن التوصّل إلى بلوغ المراد من ذلك لحسم مادّة شرب العسل الذي هو سبب الإقامة، لكن أنكرت بعد ذلك أنه يترتب عليه منع النبيّ صلى الله عليه وسلم من أمر كان يشتهيه، وهو شرب العسل، مع ما تقدّم من اعتراف عائشة الآمرة لها بذلك في صدر الحديث، فأخذت سودة تتعجّب مما وقع منهنّ في ذلك، ولم تجسر على التصريح بالإنكار، ولا راجعت عائشة بعد ذلك لما قالت لها:"اسكتي"، بل أطاعتها، وسكتت؛ لما تقدّم من اعتذارها في أنها كانت تهابها، وإنما كانت تهابها؛ لما تعلم من مزيد حبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لها أكثر منهنّ، فخشيت إذا خالفتها أن تُغضبها، وإذا أغضبتها لا تأمن أن تغيّر عليها خاطر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا تحتمل ذلك، فهذا معنى خوفها منها. (ومنها): أن عماد القسم الليلُ، وأن النهار يجوز الاجتماع فيه بالجميع، لكن بشرط أن لا تقع منه المجامعة إلا مع التي هو في نوبتها. (ومنها): أن فيه استعمال الكنايات فيما يُستحيا من ذكره، لقولها في الحديث:"فيدنو منهنّ"، والمراد فيقبّل، ونحو ذلك، ويحقّق ذلك قول عائشة لسودة:"وإذا دخل عليك، فإنه سيدنو منك، فقدلي له: إني أجد كذا"، وهذا إنما يتحقّق بقرب الفم من الأنف، ولا سيّما إذا لم تكن الرائحة طافحة
(1)
، بل المقام يقتضي أن الرائحة لم تكن طافحة؛ لأنها لو كانت طافحة لكانت بحيث يدركها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولأنكر عليها عدم وجودها منه، فلما أقرّ على ذلك دلّ على ما قرّرناه أنها لو قدّر وجودها لكانت خفيّة، وإذا كانت خفيّة لم تدرك بمجرّد المجالسة، والمحادثة من غير قرب الفم من الأنف. قاله في "الفتح"
(2)
.
(ومنها): جواز فعل ما حَلَفَ عليه الإنسان أن لا يفعله، وتجب عليه الكفّارة فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): اختلفت الروايات في المرأة التي شرب النبيّ صلى الله عليه وسلم عندها العسل، والذي في "الصحيحين" حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، أورداه من طريقين:"أحدهما": طريق عُبيد بن عُمير، عنها، وهو الذي أخرجه النسائيّ هنا، وفيه أن شرب العسل عند زينب بنت جحش. و"الثاني": طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وفيه أن شرب العسل كان عند حفصة بنت عمر. وأخرج ابن مردويه من طريق
(1)
أي ساطعة قويّة، يقال: فطحت الريح القطنةَ: سطعت بها. "ق".
(2)
"فتح" 10/ 478. "كتاب الطلاق".
ابن أبي مُليكة، عن ابن عبّاس أن شرب العسل كان عند سودة، وأن عائشة وحفصة هما اللتان تواطأتا على وفق ما في رواية عُبيد بن عمير، وإن اختلفا في صاحبة العسل.
قال الحافظ: وطريق الجمع بين هذا الاختلاف الحمل على التعدّد، فلا يمتنع تعدّد السبب للأمر الواحد، فإن جُنح إلى الترجيح، فرواية عبيد بن عمير أثبت؛ لموافقة ابن عباس لها على أن المتظاهرتين حفصة وعائشة، وجزم بذلك عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فلو كانت حفصة صاحبة العسل لم تُقرن في التظاهر بعائشة، لكن يمكن تعدّد القصّة في شرب العسل، وتحريمه، واختصاص النزول بالقصّة التي فيها أن عائشة وحفصة هما المتظاهرتان، ويمكن أن تكون القصّة التي وقع فيها شرب العسل عند حفصة كانت سابقةً، ويؤيّد هذا الحمل أنه لم يقع في طريق هشام بن عروة التي فيها أن شرب العسل كان عند حفصة تعرّضٌ للآية، ولا لذكر سبب النزول، والراجح أيضًا أن صاحبة العسل زينب، لا سودة؛ لأن طريق عبيد بن عمير أثبت من طريق ابن أبي مليكة بكثير، ولا جائز أن تتّحد بطريق هشام بن عروة؛ لأن فيها أن سودة كانت ممن وافق عائشة على قولها:"أجد منك ريح مغافير"، ويرجّحه أيضًا ما تقدّم عن عائشة "أن نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم كنّ حزبين: أنا وسودة، وحفصة، وصفيّة، في حزب، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، والباقيات في حزب"، فهذا يرّجح أن زينب هي صاحبة العسل، ولهذا غارت عائشة منها؛ لكونها من غير حزبها. واللَّه أعلم.
وهذا أولى من جزم الداوديّ بأن تسمية التي شرب عندها العسل حفصة غلطٌ، وإنما هي صفيّة بنت حييّ، أو زينب بنت جحش. وممن جنح إلى الترجيح عياضٌ، ومنه تلقّف القرطبيّ، وكذا نقله النوويّ عن عياض، وأقرّه، فقال عياضٌ: رواية عبيد بن عمير أولى؛ لموافقتها ظاهر كتاب اللَّه؛ لأن فيه: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} ، فهما ثنتان، لا أكثر، ولحديث ابن عباس عن عمر، قال: فكان الأسماء انقلبت على راوي الرواية الأخرى. وتعقّب الكرمانيّ مقالة عياض، فأجاد، فقال: متى جوّزنا هذا ارتفع الوثوق بأكثر الروايات. وقال القرطبيّ: الرواية التي فيها أن المتظاهرتين عائشة، وسودة، وصفيّة، ليست بصحيحة؛ لأنها مخالفة للتلاوة؛ لمجيئها بلفظ خطاب الاثنين، ولو كانت كذلك لجاءت بخطاب جماعة المؤنّث، ثم نقل عن الأصيليّ وغيره أن رواية عبيد بن عمير أصحّ وأولى، وما المانع أن تكون قصّة حفصة سابقة، فلما قيل له: ما قيل: ترك الشرب من غير تصريح بتحريم، ولم ينزل في ذلك شيء، ثم لما شرب في بيت زينب، تظاهرت عائشة، وحفصة على ذلك القول، فحرم حينئذ العسل، فنزلت الآية، قال: وأما ذكر سودة مع الجزم بالتثنية فيمن تظاهر منهنّ، فباعتبار أنها كانت كالتابعة
لعائشة، ولهذا وهبت يومها لها، فإن كان ذلك قبل الهبة، فلا اعتراض بدخوله عليها، وإن كان بعدها فلا يمتنع هبتها يومها لعائشة أن يتردّد إلى سودة.
قال الحافظ: لا حاجة إلى الاعتذار عن ذلك، فإن ذكر سودة إنما جاء في قصّة شرب العسل عند حفصة، ولا تثنية فيه، ولا نزول الآية، على ما تقدّم من الجمع الذي ذكره، وأما قصّة العسل عند زينب بنت جحش، فقد صرّح فيه بأن عائشة قالت:"توطأت أنا وحفصة"، فهو مطابقٌ لما جزم به عمر رضي الله عنه من أن المتظاهرتين عائشة وحفصةُ، وموافق لظاهر الآية. واللَّه أعلم.
قال: ووجدت لقصّة شرب العسل عند حفصة شاهدًا في "تفسير ابن مردويه" من طريق يزيد بن رُومان، عن ابن عباس، ورواته لا بأس بهم، ووقع في "تفسير السدّيّ" أن شرب العسل كان عند أم سلمة، أخرجه الطبريّ، وغيره، وهو مرجوحٌ، لإرساله، وشذوذه. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا تحريرٌ حسنٌ جدًّا، وحاصله أن طريق الجمع يحمل الروايات على تعدد الواقعة، أولى، فإن سُلك مسلك الترجيح، فرواية عبيد بن عمير التي ساقها المصنّف، وفيها أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش، وأن المتظاهرتين هما عائشة وحفصة، أرجح؛ لموافقة حديث ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
3410 -
(أَخْبَرَنِي
(2)
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، حَرَمِيٌّ، هُوَ لَقَبُهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، حَتَّى حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ، إِلَى آخِرِ الآيَةِ [التحريم: 1]).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ) البغدادي، نزيل طرسوس، صدوق [11] 54/ 1753، من أفراد المصنف.
[تنبيه]: قوله: "حَرَميّ هو لقبه" سقط من بعض النسخ، ومعناه أن لقب إبراهيم بن
يونس حَرَميّ -بمهملتين مفتوحتين- بلفظ النسبة إلى الحَرَم. واللَّه تعالى أعلم.
2 -
(أبوه) يونس بن محمد بن مسلم البغداديّ، أبو محمد المؤدب، ثقة ثبت، من
(1)
"فتح" 10/ 472 - 473. "كتاب الطلاق".
(2)
وفي نسخة: "أخبرنا".
صغار [9] 15/ 1632.
3 -
(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بآخره، من كبار [8] 181/ 2881.
4 -
(ثابت) بن أسلم البناني، أبو محمد البصري، ثقة عابد [4] 45/ 53.
5 -
(أنس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، وأبيه، فبغداديان. (ومنها): أن فيه من هو أثبت الناس في شيخه، وهو حماد في ثابت، وأطول الناس ملازمة لشيخه، وهو ثابت، فإنه لزم أنسًا أربعين سنة، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة - رضي اللَّه تعالى - عنهم بالبصرة، مات سنة (2) أو (93)، وقد جاوز مائة سنة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَنَسٍ) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا) هي مارية القبطيّة - رضي اللَّه تعالى عنها -، أم ولد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إبراهيم رضي الله عنه، ذكر ابن سعد من طريق عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، قال: بعث المُقَوقِس صاحب الإسكندرية إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سنة سبع من الهجرة بمارية، وأختها سيرين، وألف مثقال ذهبًا، وعشرين ثوبًا ليّنًا، وبغلته الدُّلْدُل، وحماره عُفير، ويقال: يعفور، ومع ذلك خصيّ يقال له: مأبور، شيخ كبير، كان أخا مارية، وبعث بذلك كلّه مع حاطب بن أبي بلتعة، فعرض حاطب بن أبي بلتعة على مارية الإسلام، ورغّبها فيه، فأسلمت، وأسلمت أختها، وأقام الخصيّ على دينه، حتى أسلم بالمدينة بعدُ في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكانت مارية بيضاء جميلةٌ، فأنزلها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في العالية في المال الذي صار يقال له: مَشْربة أم إبراهيم، وكان يختلف إليها هناك، وكان يطؤها بملك اليمين، وضرب عليها مع ذلك الحجاب، فحملت منه، ووضعت هنالك في ذي الحجة سنة ثمان. ومن طريق عمرة، عن عائشة، قالت: ما عزّت عليّ امرأةٌ إلا دون ما عزّت عليّ مارية، وذلك أنها كانت جميلةٌ جَعْدَةً، فأُعجب بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان أنزلها أول ما قُدم بها في بيت لحارثة بن النعمان، فكانت جارتنا، فكان عامّة الليل والنهار عندها، حتى فزعنا لها، فجزعت، فحوّلها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك
أشدّ علينا. وقال الواقديّ: حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: كان أبو بكر يُنفق على مارية حتى مات، ثم عمر، حتى توفّيت في خلافته. قال الواقديّ: ماتت في المحرم سنة ستّ عشرة، فكان عمر يحشُر الناس لشهودها، وصلّى عليها، ودفنها بالبقيع. وقال ابن منده: ماتت مارية - رضي اللَّه تعالى عنها - بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بخمس سنين. قاله في "الإصابة"
(1)
.
(فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (حَتَّى حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ) يعني أنهما لغيرتهما. على مارية حيث أحبّها النبيّ صلى الله عليه وسلم حاولتا على أن يحرّمها على نفسه، ففعل ذلك (فَأَنْزَلَ اللَّه عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ، إِلَى آخِرِ الآيَةِ) هذا صريح في أن سبب نزول هذه الآية قصّة الجارية، وما تقدّم يدلّ على أن سببه شرب العسل، وسيأتي قريبًا وجه الجمع بينهما، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، أخرجه هنا-4/ 3410 - وفي "الكبرى" 4/ 8907 وفي "التفسير"11607. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): اختُلف في الذي حرّمه النبيّ صلى الله عليه وسلم على نفسه، وعوتب عليه:
ففي حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - الماضي أَنَّ سببه شربه العسل عند زينب بنت جحش، وفي آخره:"ولن أعود له، وقد حلفت". وفي حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أن سببه الجارية، وفي رواية سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى مسروق، قال:"حلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لحفصة، لا يقرب أمته، وقال: هي حرامٌ، فنزلت الكفّارة ليمينه، وأُمر أن لا يحرّم ما أحلّ اللَّه". وأخرج الضياء في "المختارة" من مسند الهيثم بن كليب، ثم من طريق جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لحفصة: "لا تخبري أحدًا أن أمّ إبراهيم عليّ حرام"، قال: فلم يقربها حتى أخبرت عائشة، فأنزل اللَّه:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . وأخرج الطبرانيّ في "عشرة النساء"، وابن مردويه من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: "دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمارية بيت
(1)
راجع "الاصابة" 13/ 125 - 126.
حفصة، فجاءت، فوجدتها معه، فقالت: يا رسول اللَّه، في بيتي تفعل هذا معي، دون نسائك
…
"، فذكر نحوه. قال الحافظ: وهذه الطرق يقوّي بعضها بعضًا، فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معًا انتهى
(1)
.
وقال في موضع آخر بعد ذكر الاختلاف المذكور: ووقع في رواية يزيد رومان، عن عائشة عند ابن مردويه ما يجمع القولين، وفيه:"أن حفصة أهديت لها عُكّة فيها عسلٌ، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها حبسته حتى تُلعقه، أو تسقيه منها، فقالت عائشة لجارية عندها حبشيّة، يقال لها: خضراء: إذا دخل على حفصة، فانظري ما يصنع؟، فأخبرتها الجاربة بشأن العسل، فأرسلت إلى صواحبها، فقالت: إذا دخل عليكنّ، فقلن: إنا نجد منك ريح مغافير، فقال: هو عسل، واللَّه لا أطعمه أبدًا، فلما كان يوم حفصة استأذنته أن تأتي أباها، فأذن لها، فذهبت، فأرسل إلى جاريته مارية، فأدخلها بيت حفصة، قالت حفصة: فرجعت، فوجدت الباب مغلقًا، فخرج، ووجهه يقطر، وحفصة تبكي، فعاتبته، فقال: أُشهدك أنها حرام، انظري لا تخبري بهذا امرأةً، وهي عندكِ أمانة، فلما خرج قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة، فقالت: ألا أبشّرك إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد حرم أمته، فنزلت". وعند ابن سعد من طريق شعبة، مولى ابن عبّاس، عنه، "خرجت حفصة من بيتها يوم عائشة، فدخل رسول اللَّه بجاريته القبطيّة بيت حفصة، فجاءت، فرقبته حتى خرجت الجارية، فقالت له: أما إني قد رأيتُ ما صنعتَ، قال: "فاكتمي عليّ، وهي حرام، فانطلقت حفصة إلى عائشة، فأخبرتها، فقالت له عائشة: أما يومي، فتعرس فيه بالقبطيّة، ويسلم لنسائك سائر أيّامهنّ، فنزلت الآية".
وجاء في ذلك ذكر قول ثالث، أخرجه ابن مردويه، من طريق الضحّاك، عن ابن عبّاس، قال:، دخلت حفصة على النبيّ صلى الله عليه وسلم بيتها، فوجدت معه مارية، فقال: لا تُخبري عائشة، حتى أبشّرك ببشارة، إن أباك يلي هذا الأمر بعد أبي بكر إذا أنا متّ، فذهبت إلى عائشة، فأخبرتها، فقالت له عائشة ذلك، والتمست منه أن يحرّم مارية، فحرّمها، ثم جاء إلى حفصة، فقال: أمرتك ألا تُخبري عائشة، فأخبرتها، فعاتبها على ذلك، ولم يعاتبها على أمر الخلافة، فلهذا قال اللَّه تعالى:{عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} ، وأخرج الطبرانيّ في "الأوسط"، وفي "عشرة النساء" عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه بتمامه، وفي كلّ منهما ضعف انتهى
(2)
.
(1)
"فتح" 9/ 655 "كتاب التفسير".
(2)
"فتح" 10/ 362 "كتاب النكاح".
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تلخّص مما ذُكر أن الآية نزلت في القضيّتين: قضيّة شرب العسل، وقضيّة الجارية، فإنه لا مانع من تعدّد سبب النزول، كما هو معروف في موضعه من كتب التفسير. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3411 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى -هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ- عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتِ: الْتَمَسْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَدْخَلْتُ يَدِي فى شَعْرِهِ، فَقَالَ: «قَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ؟» ، فَقُلْتُ: أَمَا لَكَ شَيْطَانٌ؟ ، فَقَالَ: «بَلَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَ»).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد الإمام المصريّ، ثقة ثبت [7] 31/ 35.
3 -
(يحيى بن سعيد الأنصاري) أبو سعيد القاضي المدني، ثقة ثبت [5] 22/ 23.
4 -
(عُبَادَةُ بنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) الأنصاريّ، أبو الصامت المدنيّ، ويقال له: عبد اللَّه أيضًا، ثقةٌ [4].
رَوَى عن أبيه، وجده، وأبي اليسر كعب بن عمرو، وعائشة، وجابر بن عبد اللَّه، وأبي سعيد الخدريّ، والرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ، وغيرهم.
وروى عنه عبيد اللَّه بن عمر، وابن عجلان، وابن إسحاق، ويزيد بن الهاد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو حَزْرَةَ يعقوب بن مجاهد، والوليد بن كثير، وسيار أبو الحكم، وعلي بن زيد بن جُدعان، وغيرهم. قال أبو زرعة، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كنيته أبو الوليد. روى له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، هذا الحديث، و3525 حديث "لا عدّة عليك إلا أن تكوني حديث عهد به
…
" الحديث، وفي "كتاب البيعة" 4151 حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (بايعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة
…
" الحديث، كرّره خمس مرّات.
5 -
(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه فبَغْلّانيٌّ، والليث فمصريّ، (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) الأنصاريّ (أَنَّ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (قَالَتِ: الْتَمَسْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي طلبته، وفي رواية مسلم من طريق يزيد بن عبد اللَّه بن قسيط، أنّ عروة حدّثه، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، خرج من عندها ليلا، قالت فغِرْتُ عليه، فجاء، فرأى ما أصنع، فقال:"مالك يا عائشة؟، أغرت؟ " فقلت: وما لي، لا يَغارُ مثلي على مثلك؟
…
" (فَأَدْخَلْتُ يَدِي فِي شَعْرِهِ) أي لتتجسّس، هل جامع بعض نسائه، فاغتسل، أم لا؟ (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (قَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ؟) بتقدير أداة الاستفهام، أي أقد جاءك شيطانك، فأوقع عليك أني ذهبت إلى بعض أزواجي، فأنت لذلك متحيّرةٌ، مفتّشةٌ عنّي؟ (فَقُلْتُ: أَمَا لَكَ شَيْطَانٌ؟) وفي رواية مسلم المذكورة: "قالت يا رسول اللَّه، أو معي شيطان؟، قال:"نعم"، قلت: ومع كل إنسان؟، قال:"نعم"، قلت: ومعك يا رسول اللَّه قال: "نعم"، ولكن ربي أعانني عليه: حتى أسلم".
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (بَلَى) أي لي شيطان (وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَ) قال أبو البقاء في "إعرابه": يُروى بالفتح، لأنه فعل ماض، قال: فأسلمَ شيطاني، أي انقاد لأمر اللَّه تعالى، وبالرفع: أي فأنا أسلمُ منه، وهو فعلٌ مستقبلٌ يحكى به الحال. قاله السيوطيّ
(1)
.
وقال السنديّ: "فأسلمَ" على صيغة الماضي، فصار مسلمًا، فلا يدلّني على سوء لذلك، وإسلام الشيطان غير عزيز، فلا يُنكر، على أنه من باب خرق العادة، فلا يرد. أو على صيغة المضارع، من سَلِمَ -بكسر اللام-: أي فأنا سالمٌ من شرّه. انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الرفع أولى، لما في "مسند أحمد" بإسناد صحيح، من طريق سالم بن أبي الجعد، عن أبيه، عن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد، إلا وقد وُكّل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة"، قالوا: وإياك يا رسول اللَّه؟، قال:"وإياي، ولكن اللَّه أعانني عليه، فلا يأمرني إلا بحق".
فهذه الرواية تبيّن أن قوله: "أسلم" من السلامة، لا من الإسلام، فتعيّن حمله على حديث ابن مسعود هذا، والمعنى أن اللَّه سبحانه وتعالى أعان نبيّه صلى الله عليه وسلم على كيد شيطانه، فلا يستطيعه، أن يأمره إلا بخير، بخلاف غيره من الناس، فإنهم لا يَسْلَمون من شره.
(1)
"زهر الربى" 7/ 72.
(2)
"شرح السنديّ" 7/ 72 - 74.
واللَّه ئعالى أعلم.
وأخرج أحمد أيضًا من طريق قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليس منكم من أحد، إلا وقد وكل به قرينه من الشياطين، قالوا: وأنت يا رسول اللَّه؟، قال: "نعم، ولكن اللَّه أعانني عليه، فأسلمُ".
وأخرج أيضًا من طريق مجالد بن سعيد، عن الشعبيّ، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: قال لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تلجوا على الْمُغِيبات، فإن الشيطان يجري من أحدكم، مجرى الدم"، قلنا: ومنك يا رسول اللَّه؟، قال:"ومني، ولكن اللَّه أعانني عليه، فأسلمُ". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-4/ 3411 - وفي "الكبرى" 4/ 8908. وأخرجه (م) في "صفة القيامة، والجنّة والنار" 2815 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 24324. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان غيرة النساء، وأنها لا تضرّ بها، إلا إذا تعدّت الحدود بسببها. (ومنها): أن الغيرة سببها إغراء الشيطان، وتسلّطه على المرأة، وحمله لها على أن تتخيّل غير الواقع واقعًا، فتعادي بسببه زوجها، أو ضرّتها. (ومنها): كرامة النبيّ صلى الله عليه وسلم على ربّه، وعنايته به، حيث سلّمة من أذى الشيطان، فلا يأمره إلا بخير. (ومنها): شدّة تسلّط الشياطين على عموم بني آدم، طالحيهم، وصالحيهم، فلا ينجو عنهم إلا من توكّل على اللَّه تعالى، فيحفظه من كيدهم، كما قال تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3412 -
(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِقْسَمِيُّ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَتَجَسَّسْتُهُ، فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ، أَوْ سَاجِدٌ، يَقُولُ:
«سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ» ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي
(1)
، إِنَّكَ لَفِي شَأْنٍ، وَإِنِّي لَفِي شَأْنٍ آخَرَ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدّم هذا الحديث سندًا، ومتنًا في "كتاب الصلاة" 162/ 1131 - .
و"حجاج": هو ابن محمد الأعور. و"عطاء": هو ابن أبي رباح.
وقولها: (فتجسّسته": قال ابن الأثير: التجسّس بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشرّ، والجاسوس صاحب سرّ الشرّ، والناموس صاحب سرّ الخير. وقيل: التجسّس بالجيم أن يطلبه لغيره، وبالحاء أن يطلبه لنفسه. وقيل: بالجيم البحث عن العورات، وبالحاء الاستماع. وقيل: معناهما واحدٌ في تطلّب معرفة الأخبار انتهى
(2)
.
وقولها: "بأبي وأمي" متعلّق بمحذوف، أي أَفْدِيك بأبي وأمّي، أو أنت مَفْدِيٌّ بأبي وأمّي.
وقولها: "إنك لفي شأن الخ" تعني أنها كانت اتهمته بأنه ذهب إلى بعض أزواجه، فإذا هو يتهجّد، ويناجي ربّه سبحانه وتعالى.
والحديث أخرجه مسلم، ودلالته على الترجمة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3413 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتِ: افْتَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَتَجَسَّسْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ، أَوْ سَاجِدٌ، يَقُولُ:«سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ» ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي
(3)
، إِنَّكَ لَفِي شَأْنٍ، وَإِنِّي لَفِي آخَرَ
(4)
").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسحاق بن منصور": هو الكوسج. و"ابن أبي مليكة": هو عبد اللَّه بن عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه ابن أبي مليكة زُهير بن عبد اللَّه بن جدعان المكيّ الثقة الثبت.
وقولها: "افتقدت" مبالغة في فقدت، يقال: فقدته فَقْدًا، من باب ضرب، وفِقْدانًا: عَدِمته، فهو مفقود، وفَقِيدٌ، وافتقدته مثله، وتفقّدته: طلبته عند غيبته. قاله الفيّومّي.
(1)
وفي نسخة: "بأبي أنت وأمّي".
(2)
"النهاية" 1/ 272.
(3)
وفي نسخة: "بأبي أنت وأمّي".
(4)
وفي نسخة: "لفي شأن آخر".
والحديث أخرجه مسلم، كما سبق الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم
بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3414 -
(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، تَقُولُ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنِّي، قُلْنَا: بَلَى، قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي، انْقَلَبَ، فَوَضَعَ نَعْلَيْهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَبَسَطَ إِزَارَهُ عَلَى فِرَاشِهِ، وَلَمْ يَلْبَثْ إِلاَّ رَيْثَمَا ظَنَّ أَنِّي قَدْ رَقَدْتُ، ثُمَّ انْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، ثُمَّ فَتَحَ الْبَابَ رُوَيْدًا، وَخَرَجَ
(1)
وَأَجَافَهُ رُوَيْدًا، وَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، فَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي، وَانْطَلَقْتُ فِي إِثْرِهِ، حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ انْحَرَفَ، وَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ، وَسَبَقْتُهُ، فَدَخَلْتُ، وَلَيْسَ إِلاَّ أَنِ اضْطَجَعْتُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ:«مَا لَكِ، يَا عَائِشُ رَابِيَةً؟» ، قَالَ سُلَيْمَانُ: حَسِبْتُهُ قَالَ: "حَشْيَا"، قَالَ: لَتُخْبِرِنِّي
(2)
، أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، قَالَ: «أَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ
(3)
أَمَامِي؟» ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: - فَلَهَدَنِي لَهْدَةً فِي صَدْرِي، أَوْجَعَتْنِي، قَالَ:«أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ» ، قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ، فَقَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ عز وجل، قَالَ:«نَعَمْ، قَالَ: "فَإِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أَتَانِي، حِينَ رَأَيْتِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ، وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، فَنَادَانِي، فَأَخْفَى مِنْكِ، فَأَجَبْتُهُ، وَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ، وَظَنَنْتُ أَنَّكِ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ، فَأَسْتَغْفِرَ لَهُمْ» .
خَالَفَهُ حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "كتاب الجنائز" 103/ 2037 - "الاستغفار للمؤمنين" رواه عن يوسف بن سعيد السند التالي. و"سليمان بن داود" شيخه هنا هو الْمَهريّ، أبو الربيع المصريّ، ابن أخي رشدين بن سعد.
و"عبد اللَّه بن كثير" بن المطّلب بن أبي وَدَاعة الحارث بن صُبيرة بن سُعيد بن سعد
بن سَهْم بن عمرو بن هُصَيص بن كعب بن لؤيّ بن غالب السَّهْمِي، مقبول [6].
ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات بعد سنة عشرين ومائة. تفرّد به مسلم،
(1)
وفي نسخة: "فخرج".
(2)
وفي نسخة: "لتخبرين".
(3)
وفي نسخة: "رأيته".
والمصنّف، له عندهما حديث الباب فقط.
و"محمد بن قيس" بن المطّلب بن عبد مناف المطّلبيّ، يقال: له رؤية، ثقة [2] 103/ 2037.
وقوله: "لما كانت ليلتي الخ" أي لما جاءت ليلة من الليالي التي يكون صلى الله عليه وسلم فيها عندي، فـ "كان " تامّة. وقولها:"انقلب" أي رجع إلى بيته من صلاة العشاء.
وقولها: "ريثما ظنّ" بفتح الراء، وسكون الياء، بعدها مثلّثةٌ: أي قدر ما ظنّ.
وقولها: "رُويدًا" أي مترفّقًا متمهّلاً لئلا يوقظها. وقولها: "وأجافه رويدًا" أي أغلق الباب بلطف ورفق. وقولها: "تقنعتُ إزاري" كذا في الأصول من غير باء الجرّ، وكأنه بمعنى "لبستُ إزاري" فلذا عدّاه بنفسه.
وقولها: "فهرول" أي أسرع في مشيه. وقولها: "فأحضر" بالحاء المهملة، والضاد المعجمة: أي زاد في الإسراع. وقولها: "وليس إلا أن اضطجعت" أي ليس شيء بعد دخولي البيتَ إلا الاضطجاعَ، فالمؤول بالمصدر خبر "ليس"، واسمها محذوف، كما قدّرناه، أو المؤول اسمها، وخبرها محذوف، أي واقعًا منّي. وقوله:"يا عائشُ" بالضمّ، أو بالفتح على الترخيم، وفي نسخة:"يا عائشة". وقوله: "حيشا" بفتح الحاء المهملة، وسكون الياء مقصورًا: أي مرتفعة النفَس، متواترته، وهو منصوب على الحال. وقوله:"رابية" أي مرتفعة البطن. وقوله: "لتخبرنّي الخ" بفتح اللام، وتشديد النون مضارع للواحدة المخاطبة من الإخبار بالكسر، فتكسر الراء هنا، وتفتح في الثاني.
وقوله: "السواد" أي الشخص. وقولها: "فلهدني لهدة" بالهاء، والدال المهملة: أي دفعني، وضربني بجُمْع كفّه. وفي نسخة:"فلهزني لَهْزةً" بالزاي بدل الدال، وهما بمعنى واحد. وأما ما وقع في بعضها "لهذني" بالذال المعجمة فتصحيف. فتنبّه.
وقوله: "أن يحيف اللَّه الخ" من حاف يَحيف حيفًا، من باب باع: إذا جار وظلم، أي يظلمك الرسول صلى الله عليه وسلم بدخوله في نوبتك على غيرك من زوجاته، وذكر اللَّه تعالى للتعظيم، والدلالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يفعل شيئًا من مثل هذا إلا بإذن منه تعالى، ولو كان منه جَوْرٌ لكان بإذن اللَّه تعالى له فيه، وهذا غير ممكن. واستدلّ به من قال: إن القسم كان واجبًا عليه، إذ لا يكون تركه جَوْرًا إلا إذا كان واجبًا عليه، فتركه، وقد تقدّم تمام البحث في ذلك، وأن الأرجح عدم الوجوب، فلا تغفل. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (خَالَفَهُ) الضمير لابن وهب (حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ بْنِ قَيْسٍ) يعني أن حجاج بن محمد الأعور خالف ابن وهب
في سند هذا الحديث، في شيخ ابن جريج، والظاهر أن المصنّف يرجّح رواية حجاج على رواية ابن وهب؛ لأن حجاجًا أثبت في ابن جريج من ابن وهب، وغيره، وقد نقل هذا عن النسائيّ الحافظُ أبو الحجاج المزّيّ في "تحفة الأشراف" 12/ 300 - فقال: قال النسائيّ: وحجّاج في ابن جُريج أثبت عندنا من ابن وهب انتهى. والحافظ في ترجمة عبد اللَّه بن كثير من "تهذيب التهذيب" 2/ 407. وقال الحافظ أيضًا في "النكت الظراف" 12/ 299 - : وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه" عن يوسف كما قال النسائيّ، وقال بعده: قال أحمد بن حنبل: ابن وهب، عن ابن جريج فيه شيء. انتهى.
والحديث أخرجه مسلم في "صحيحه"، عن هارون بن سعيد الأيليّ، عن ابن وهب، عن ابن جريج، عن عبد اللَّه بن كثير بن المطّلب، عن محمد بن مخرمة به. قال مسلم: أخبرني من سمع الحجاج الأعور -واللفظ له- قال: نا ابن جريج، قال: أخبرني عبد اللَّه -رجل من قريش- عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطّلب به.
والحاصل أن متن الحديث صحيح، لا تضرّه المخالفة المذكورة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ثم أورد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- رواية حجاج بن محمد، فقال:
3415 -
حَدَّثَنَا
(1)
يُوسُفُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مُسْلَّمٍ الْمِصِّيصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ
(2)
، أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تُحَدِّثُ، قَالَتْ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي، وَعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ ، قُلْنَا بَلَى، قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي هُوَ عِنْدِي -تَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، انْقَلَبَ، فَوَضَعَ نَعْلَيْهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ، إِلاَّ رَيْثَمَا ظَنَّ أَنِّي قَدْ رَقَدْتُ، ثُمَّ انْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، ثُمَّ فَتَحَ الْبَابَ رُوَيْدًا، وَخَرَجَ وَأَجَافَهُ رُوَيْدًا، وَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي، فَانْطَلَقْتُ فِي إِثْرِهِ، حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ انْحَرَفَ، فَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ، فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ
(3)
، فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ، فَأَحْضَرْتُ، وَسَبَقْتُهُ
(4)
، فَدَخَلْتُ، فَلَيْسَ إِلاَّ أَنِ
(5)
اضْطَجَعْتُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ:"مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ حَشْيَا رَابِيَةً؟ "، قَالَتْ: لَا، قَالَ: «لَتُخْبِرِنِّي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي
(1)
وفي نسخة: "أخبرنا"، وفي أخرى:"أخبرني".
(2)
وفي نسخة: "أن عبد اللَّه بن أبي مليكة أخبرني".
(3)
وفي نسخة: "وأسرعت، وهرول" بالواو.
(4)
وفي نسخة: "فسبقته".
(5)
وفي نسخة: "إلا أنه".
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»
(1)
، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، قَالَ:«فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُهُ أَمَامِي؟» ، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي، لَهْدَةً
(2)
أَوْجَعَتْنِي، ثُمَّ قَالَ: «أَظَنَنْتِ
(3)
أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟» ، قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ، فَقَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ، قَالَ:«نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أَتَانِي، حِينَ رَأَيْتِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ، وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، فَنَادَانِي فَأَخْفَى مِنْكِ، فَأَجَبْتُهُ، فَأَخْفَيْتُ مِنْكِ، فَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ، فَأَسْتَغْفِرَ لَهُمْ» ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ثم أشار إلى طريق آخر للحديث، فقال:(عَاصِمْ، عَنْ عَبدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَلَى غَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ).
يعني أن حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا رواه عاصم بن عبيد اللَّه على غير اللفظ المذكور، كما بَيَّن ذلك بقوله:
3416 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَقَدْتُهُ مِنَ اللَّيْلِ
…
وَسَاقَ الْحَدِيثَ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "شريك": هو ابن عبد اللَّه النخعي. و"عاصم" بن عُبيد اللَّه بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العدويّ المدنيّ، ضعيف [4].
قال عفّان: سمعت شعبة يقول: كان عاصم لو قيل له: مَنْ بني مسجد البصرة؟ لقال: فلان، عن فلان، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه بناه. وقال أحمد: كان ابن عيينة يقول: كان الأشياخ يتّقون حديث عاصم. وقال ابن المدينيّ: سمعت عبد الرحمن ينكر حديثه أشدّ الإنكار. وقال ابن معين: ضعيفٌ. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، ولا يُحتجّ به. وقال يعقوب بن شيبة: قد حمل الناس عنه، وفي أحاديثه ضعف، وله أحاديث مناكير. وقال ابن نمير: عبد اللَّه بن عَقِيل يُختلَف عليه في الأسانيد، وعاصم منكر الحديث في الأصل، وهو مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم: منكر الحديث، مضطرب الحديث. ليس له حديث يُعتمد عليه، وما أقربه من ابن عَقِيل. وقال البخاريّ: منكر الحديث. وقال ابن خراش، وغير واحد: ضعيف. وقال ابن خُزيمة: لستُ أحتجّ به لسوء حفظه. وقال الدارقطنيّ: مديني يُترك، وهو مُغَفَّلٌ. وقال العجليّ: لا بأس به. وقال ابن
(1)
وفي نسخة: "أو ليخبرني اللَّه اللطيف الخبير".
(2)
وفي نسخة: "فلهزني في صدري لهزة".
(3)
وفي نسخة: "قال لي: ظننت".
عديّ: قد روى عنه ثقات الناس، واحتملوه، وهو مع ضعفه يُكتب حديثه. وقال البزار: في حديثه لين. وقال ابن حبّان: كان سيّء الحفظ، كثير الوهم، فاحشَ الغلط، فتُرك من أجل كثرة خطئه. وقال الساجيّ: مضطرب الحديث. مات في أول خلافة بني العبّاس، سنة (132). روى له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، وأبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف حديث الباب فقط.
و"عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة" العدويّ، حليف بني عديّ العَنَزِيُّ، أبو محمد المدنيّ، وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولأبيه صحبةٌ مشهورةٌ، وقال أبو زرعة: مدنيّ أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ثقة. وقال أبو حاتم: رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم لما دخل على أمه، وهو صغير. وقال العجليّ: مدنيٌّ تابعيٌّ ثقة، من كبار التابعين. وقال الواقديّ: ثقة، قليل الحديث. مات سنة بضع وثمانين، وقيل: سنة (85) وقيل: سنة (90). روى له الجماعة، وله عند المصنّف هذا الحديث، وحديث -5/ 4046 باب "ذكر ما يحلّ به دم المسلم".
وقوله: "وساق الحديث": الضمير لعاصم، يعني أنه ساق الحديث بتمامه، وقد ساقه أحمد في "مسنده" رقم -23954 - وابن ماجه في "سننه" رقم -1546 - واللفظ لأحمد، من طريق شريك، عن عاصم بن عبيد اللَّه، عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة، عن عائشة، قالت: فقدته من الليل، فإذا هو بالبقيع، فقال:"سلام عليكم، دار قوم مؤمنين، وأنتم لنا فرط، وإنا بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم"، تعني النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رواية عاصم هذه ضعيفة؛ لضعف عاصم بن عبيد اللَّه بن عاصم بن عمر بن الخطاب، فقد اتفق الجمهور على ضعفه، ولا سيما وقد خالف الحفّاظ، وشريك أيضًا -وهو النخعيّ- متكلّم فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
27 - (كِتَابُ الطَّلَاقِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الطّلاقُ" اسم مصدر لطَلّق" -بتشديد اللام-. قال في "الفتح": "الطّلاق" في اللغة حلّ الوثاق، مشتقٌ من الإطلاق، وهو الإرسال والترك، وفلان طَلْقُ اليد: أي كثير البذل. وفي الشرع: حلُّ عُقْدة التزويج فقط، وهو موافقٌ لبعض
أفراد مدلوله اللغويّ. قال إمام الحرمين: هو لفظٌ جاهليّ، ورد الشرع بتقريره. وطلقت المرأة -بفتح الطاء، وضمّ اللام، وبفتحها أيضًا، وهو أفصح، وطُلِّقَت أيضًا بضمّ أوله، وكسر اللام الثقيلة، فإن خفّفت فهو خاصّ بالولادة، والمضارعُ فيهما بضمّ اللام، والمصدر في الولادة طَلْقًا، ساكنة اللام، فهي طالقٌ فيهما. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ: طلّق الرجل امرأته تطليقًا، فهو مُطَلِّقٌ، فإن كثر تطليقه للنساء، قيل: مِطْلِيق، ومِطلَاقٌ -بكسر الميم، وسكون الطاء المهملة- وطَلَقَتْ هي تَطْلُقُ، من باب قَتَلَ، وفي لغة من باب قَرُبَ، فهي طالقٌ بغير هاء. قال الأزهريّ: وكلّهم يقولون: طالقٌ بغير هاء، قال: وأما قول الأعشى [من الطويل]:
أَيَا جَارَتَا بينِي فَإِنّكِ طَالِقَهْ
…
كَذَاكِ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ
فقال الليث: أرَاد طالقةٌ غدًا، وإنما اجترأ عليه لأنه يقال: طَلَقَتْ، فَحَمَلَ النعتَ على الفعل. وقال ابن فارس أيضًا: امرأةٌ طالقٌ، طَلَّقَها زوجها، وطالقةٌ غدًا، فصرّح بالفرق؛ لأن الصفة غير واقعة. وقال ابن الأنباريّ: إذا كان النعت منفردًا به الأنثى دون الذّكر لم تدخله الهاء، نحو "طالق"، و"طامث"، و"حائض"؛ لأنه لا يَحتاج إلى فارق؛ لاختصاص الأنثى به. وقال الجوهريّ: يقال: طالقٌ، وطالقةٌ، وأنشد بيت الأعشى. وأُجيب عنه بجوابين: أحدهما ما تقدّم. والثاني: أن الهاء لضرورة التصريح، على أنه معارَضٌ بما رواه ابن الأنباريّ، عن الأصمعيّ، قال: أنشد أعرابيٌّ من شِقِّ اليمامة البيتَ: "فَإِنَّكِ طَالِقٌ"، من غير تصريع، فتسقط الحجّةُ به. قال البصريّون: إنما حُذفت العلامة لأنه أُريد النسب، والمعنى: امرأةٌ ذات طلاق، وذات حيضٍ، أي هي موصوفةٌ بذلك حقيقةً، ولم يُجروه على الفعل. وُيحكَى عن سيبويه أن هذه نعوتٌ مذكّرةٌ وُصِف بهنّ الإناثُ، كما يُوصف المذكّرُ بالصفة المؤنّثةِ، نحو عَلّامةٍ، ونَسّابةٍ، وهو سماعيّ. انتهى كلام الفيّوميّ ببعض تصرّف
(2)
.
وقال ابن منظور: طلاقُ المرأة: بينونتُها عن زوجها، وامرأةٌ طالقٌ من نسوةٍ طُلَّقٍ، وطالقةٌ من نسوة طَوَالِق، وطَلَّقَ الرجلُ امرأتَهُ، وطَلَقَتْ هي -بالفتح- تَطْلُقُ طَلَاقًا، وطَلُقَتْ -بالضم- والضمّ أكثر عند ثعلب، وأنكره الأخفش، طلاقًا، وأطلقها بَعْلُها، وطَلَّقَها، ورجلٌ مِطلاقٌ ومِطليقٌ وطِلِّيقٌ -بكسر أول الكلّ- وطُلَقَةٌ، كَهُمَزَةٍ: كثير التطليق للنساء انتهى ببعض تصرّف
(3)
.
وقال الإمام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: الطلاق مشروع، والأصل في مشروعيّته الكتاب، والسنّة، والإجماع، أما الكتاب فقول اللَّه تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
(1)
"فتح" 10/ 435.
(2)
راجع "المصباح المنير" 2/ 376. مادّة طلق.
(3)
راجع "لسان العرب" 10/ 226 مادّة طلق.
بِإِحْسَانٍ} الآية [البقرة: 229]. وقال تعالى: {أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} الآية [الطلاق: 1]. وأما السنّة فما روى ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - أنه طلّق امرأته، وهي حائضٌ، فسأل عمرُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟
…
الحديث الآتي في الباب التالي.
قال: في آي وأخبارٍ سوى هذين كثير. وأجمع الناس على جواز الطلاق، والعبرة دالّة على جوازه؛ فإنه ربّما فَسَدت الحال بين الزوجين، فيصير بقاء النكاح مَفسدةً مَحْضَةً، وضررًا مجرّدًا بإلزام الزوج النفقةَ والسكنى، وحبس المرأة، مع سوء العشرة، والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك شرع ما يُزيلُ النكاح؛ لتزول المفسدةُ الحاصلة منه. انتهى كلام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
[تنبيه]: قال في "الفتح": ثم الطلاق قد يكون حرامًا، أو مكروهًا، أو واجبًا، أو مندوبًا، أو جائزًا، أما الأول ففيما إذا كان بدعيًّا، وله صورٌ. وأما الثاني: ففيما إذا وقع بغير سبب مع استقامة الحال. وأما الثالث: ففي صور، منها الشقاق، إذا رأى الحكمان. وأما الرابع: ففيما إذا كانت غير عفيفة. وأما الخامس، فنفاه النوويّ، وصوّره غيره بما كان لا يريدها، ولا تطيب نفسه أن يتحمّل مؤنتها من غير حصول الاستمتاع، فقد صرّح الإمام أن الطلاق في هذه الصورة لا يكره. انتهى
(2)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
1 - (بَابُ وَقْتِ الطَّلَاقِ لِلْعِدَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عز وجل أَنْ تُطَلَّقَ
(3)
لَهَا
(4)
النِّسَاءُ)
3417 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ السَّرَخْسِيُّ
(5)
، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَاسْتَفْتَى عُمَرُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ: «مُرْ عَبْدَ اللَّهِ، فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يَدَعْهَا، حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا هَذِهِ، ثُمَّ تَحِيضَ
(1)
"المغنى" 10/ 323.
(2)
"فتح" 10/ 435.
(3)
وفي نسخة: "أن يُطلّق" بالياء.
(4)
وفي نسخة: "بها".
(5)
"السَّرَخْسِيّ" بفتحتين، وسكون المعجمة، ومهملة: نسبة إلى سَرَخْس، مدينة بخُرَاسان. قاله في "لبّ اللباب" 2/ 15.
حَيْضَةً أُخْرَى، فَإِذَا طَهُرَتْ، فَإِنْ شَاءَ، فَلْيُفَارِقْهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا، وَإِنْ شَاءَ فَلْيُمْسِكْهَا، فَإِنَّهَا الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عز وجل أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ السَّرْخَسِيُّ) نزيل نيسابور، أبو قدامة، ثقة ثبت [10] 15/ 15.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ) أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت إمام [9] 4/ 4.
3 -
(عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقة ثبت [5] 15/ 15.
4 -
(نافع) مولى ابن عمر المدني، ثقة ثبت [3] 12/ 12.
5 -
(عبد اللَّه) بن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فسرخسي، ثم نيسابوري، ويحيى، فبصري. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من المكثرين السبعة، روى (2630) وأحد العبادلة الأربعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنها - (أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأْتَهُ) وفي رواية: "أن ابن عمر طلّق امرأة له"، وفي رواية:"طلّقتُ امرأتي". قال في "الفتح": قال النوويّ: في "تهذيبه": اسمها آمنة بنت غفار. قاله ابن باطيش، ونقله عن النوويّ جماعة ممن بعده منهم الذهبيّ في "تجريد الصحابة"، لكن قال في "مبهماته"، فكأنه أراد "مبهمات التهذيب"، وأوردها الذهبيّ في آمنة بالمدّ، وكسر الميم، ثم نون، وأبوها غفار، ضبطه ابن يقظة
(1)
-بكسر المعجمة، وتخفيف الفاء- قال الحافظ: ولكنّي رأيت مستند ابن باطيش في أحاديث قتيبة جمعِ سعيد العيار بسند فيه ابن لَهِيعة أن ابن عمر طلّق امرأته آمنة بنت عمّار. كذا رأيتها في بعض الأصول بمهملة مفتوحة، ثم ميم ثقيلة، والأول أولى، وأقوى من ذلك ما رأيته في مسند أحمد قال: "حدّثنا يونس، حدثنا الليث، عن نافع أن عبد اللَّه طلّق امرأته، وهي حائض، فقال عمر: يا رسول اللَّه إن عبد اللَّه طلّق امرأته النَّوَارِ، فأمره أن يُراجعها
…
" الحديث، وهذا الإسناد على شرط الشيخين، ويونس
(1)
هكذا نسخة "الفتح"، ولْيُنْظَرْ هل هو ابن نقطة؟ واللَّه تعالى أعلم.
شيخ أحمد هو ابن محمد المؤدّب من رجالهما، وقد أخرجه الشيخان عن قتيبة، عن الليث، ولكن لم تُسَمّ عندهما، ويمكن الجمع بأن يكون اسمها آمنة، ولقبها النوارِ انتهى
(1)
.
(وَهِيَ حَائِضٌ) وفي رواية: "أنه طلق امرأته، وهي في دمها حائضٌ"، وعند البيهقيّ:"أنه طلّق امرأته في حيضها". زاد في الرواية التالية من طريق مالك، عن نافع:"في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية أبي الزبير الآتية بعد حديثين:"على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". قال في "الفتح": واْكثر الرواة لم يذكروا ذلك؛ استغناءً بما في الخبر أن عمر سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فاستلزم أن ذلك وقع في عهده.
وزاد الليث، عن نافع:"تطليقةً واحدةً"، أخرجه مسلم، وقال في آخره:" جوّد الليث في قوله: "تطليقة واحدة" اهـ، وكذا وقع عند مسلم من طريق محمد بن سيرين قال: "مكثتُ عشرين سنة يُحدّثني من لا أتّهم أن ابن عمر طلّق امرأته ثلاثًا، وهي حائضٌ، فأمره أن يراجعها، فكنتُ لا أتّهمهم، ولا أعرف وجه الحديث، حتى لقيت أبا غلّاب يونس بن جُبير، وكان ذا ثبت، فحدّثني أنه سأل ابن عمر، فحدّثه أنه طلّق امرأته تطليقة، وهي حائضٌ"، وأخرجه الدارقطنيّ، والبيهقيّ من طريق الشعبيّ، قال: طلّق ابن عمر امرأته، وهي حائضٌ واحدةً"، ومن طريق عطاء الخراسانيّ، عن الحسن، عن ابن عمر أنه "طلّق امرأته تطليقة، وهي حائضٌ". قاله في "الفتح".
(فَاسْتَفْتَى عُمَرُ) أي طلب بَيَانَ الحكم، يقال: أفتى العالمُ: إذا بيّن الحكمَ، والفَتْوَى بفتح الفاء، والواو، بينهما تاء مثنّاةٌ سَاكنةٌ، والفُتْيا بضمّ الفاء، وسكون التاء، وفتح الياء، مقصورًا: اسم مصدر لـ "أفتى"، والجمع الفَتَاوِي، بكسر الواو على الأصل، ويجوز فتحها؛ للتخفيف
(2)
(رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بنصب "رسولَ" مفعول "استفتى". وفي الرواية التالية: "فسأل عمر بن الخطّاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك". وفي رواية سالم، عن ابن عمر" - 1/ 3392 - :"قال: طلّقت امرأتي في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذَكَرَ ذلك عمر لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فتغيّظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك"، وفي رواية يونس بن جبير، عن ابن عمر 76/ 3556 - :"فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم عمرُ، فذكر له ذلك". قال في "الفتح" بعد ذكر رواية سالم: ما نصّه: ولم أر هذه الزيادة في رواية غير سالم، وهو أجلّ مَن روى الحديث عن ابن عمر، وفيه إشعارٌ بأن الطلاق في الحيض كان تقدّم النهي عنه، وإلا لم يقع التغيّظ على أمر لم يسبق النهي عنه. ولا يعكُرُ على ذلك مبادرة عمر بالسؤال عن
(1)
"فتح" 10/ 436 - 437. "كتاب الطلاق".
(2)
راجع "المصباح المنير" 2/ 462. مادة "فتى".
ذلك؛ لاحتمال أن يكون عرَفَ حكم الطلاق في الحيض، وأنه منهيّ عنه، ولم يَعرِف ماذا يَصنَع من وقع له ذلك؟. قال ابن العربيّ: سؤال عمر رضي الله عنه محتملٌ لأن يكون أنهم لم يروا قبلها مثلها، فسأل ليعلم، ويحتمل أن يكون لَمّا رأى في القرآن قوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، وقوله:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} أراد أن يعلم أن هذا قرء، أم لا؟، ويحتمل أن يكون سمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم النهي، فجاء ليسأل عن الحكم بعد ذلك. وقال ابن دقيق العيد: وتغيُّظُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إِمّا لأن المعنى الذي يقتضي المنع كان ظاهرًا، فكان مقتضى الحال التثبّتَ في ذلك، أو لأنه كان مقتضى مشاورة النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا عزم عليه انتهى
(1)
.
(فَقَالَ) هذا تفسير وبيان لسؤال عمر رضي الله عنه (إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ) بن عمر (طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ) أي فماذا عليه؟ (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مُرْ عَبْدَ اللَّهِ)"مُر" -بضمّ الميم، وسكون الراء-: فعل أمر من أَمَر يأمُرُ، من باب نصر ينصُرُ، وأصله اؤمر، فحذفت فاء الكلمة شذوذًا، لكثرة الاستعمال، وهمزة الوصل؛ استغناء، فصار "مُر"، بضمّ، فسكون، وإليه أشار ابن مالك في "لاميّته" حيث قال:
وَشَذَّ بِالْحَذْفِ "مُرْ" و"كُلْ" وَفَشَا
…
و"امُرْ" وَمُسْتَنْدَرٌ تَتْمِيمُ "خُذْ" و"كُلَا"
(فَلْيُرَاجِعْهَا) فيه أن المراجعة واجبة؛ لأمره صلى الله عليه وسلم بالمراجعة، وهو القول الراجح، وسيأتي تحقيق الخلاف فيه قريبًا
…
، إن شاء اللَّه تعالى (ثُمَّ يَدَعْهَا) -بفتح حرف المضارعة، والدال المهملة: أي يتركها، ولا يمسّها. وفي الرواية التالية:"ثم ليمسكها": أي يستمرّ بها في عصمته (حَتَّى تَطْهُرَ) بضمّ الهاء لا غيرُ (مِنْ حَيْضَتِهَا هَذِهِ) أي التي وقع فيها الطلاق (ثُمَّ تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، فَإِذَا طَهُرَتْ) بفتح الهاء، من باب قتل، ويجوز ضمّها في لغة، من باب قَرُب (فَإنْ شَاءَ، فَلْيُفَارِقْهَا قَبْلَ أنْ يُجَامِعَهَا) وعند مسلم من طريق محمد بن عبد الرحمن، عن سالم بلفظ:"مره، فليراجعها، ثم ليطلّقها طاهرًا، أو حاملاً"، قال الشافعيّ: غير نافع إنما روى: "حتى تطهر من الحيضة التي طلّق فيها، ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلّق"، رواه يونس بن جبير، وأنس بن سيرين، وسالم. قال الحافظ: وهو كما قال، لكن رواية الزهريّ، عن سالم موافقةٌ لرواية نافع، وقد نبّه على ذلك أبو داود، والزيادة من الثقة مقبولةٌ، ولا سيّما إذا كان حافظًا انتهى
(2)
.
(1)
"فتح" 10/ 437 - 438.
(2)
"فتح" 10/ 439.
(وَإِنْ شَاءَ فَلْيُمْسِكْهَا) أي يستمرّ على إمساكها (فَإنَّهَا الْعِدَّةُ) الضمير للحالة التي هي حالة الطهر، أي إن حالة الطهر هي عين العدّة (الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عز وجل) أي أَذِنَ (أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ) وهذا بيان لمراد الآية، وهي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، وصرّح معمر في روايته، عن أيوب، عن نافع بأن الكلام عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية الزبير عند مسلم، قال ابن عمر: "وقرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية. واستدلّ به من ذهب إلى أن الأقراء والأطهار للأمر بطلاقها في الطهر، وقوله:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي وقت ابتداء عدّتهنّ، وقد جعل للمطلّقة تربّص ثلاثة قروء، فلما نهى عن الطلاق في الحيض، وقال: إن الطلاق في الطهر هو الطلاق المأذون فيه عُلم أن الأقراء الأطهار. قاله ابن عبد البرّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-3390 و 3391 و 3392 و 3393 و 3/ 3397 و 3398 و 3399 و 3340 و 3341 و 76/ 3556 و 3557 و 3558 و 3559 و 3560 - وفي "الكبرى" 44/ 5582 و 5583 و 5584 و 5585 و 3/ 5589 و 4/ 5590 و 5591 و 5592 و 5593. وأخرجه (خ) في "التفسير" 4908 و"الطلاق" 5252 و 5253 و 5258 و 5332 و 5333 و"الأحكام" 7160 (م) في "الطلاق" 1471 (د) في "الطلاق" 2179
و2182 (ت) في "الطلاق" 1175 و 1176 (ق) في "الطلاق" 20119 و 2022 و 2523 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4486 و 4774 و5005 و5100 و 5142 و 5206 و 5277 و 5299 و5410 و5465 و5480 و5500 و 5758 و6025 و 6084 و 6293 (الموطأ) في "الطلاق" 1220 (الدارمي) في "الطلاق" 2262 و 2263. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان وقت الطلاق للعدّة اللَّه أمر اللَّه تعالى أن تطلّق لها النساء، حيث قال تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} الآية، وهو أن يطلّقها في طهر لم يُجامعها فيه. (ومنها): تحريم طلاق الحائض. (ومنها): تحريم طلاق المرأة في طهر جامعها فيه، وبه قال الجمهور، وقال المالكيّة: لا يحرم، وفي رواية
كالجمهور، ورجحها الفاكهانيّ؛ لكونه شرط في الإذن في الطلاق عدم الميسيس، والمعلّق بشرط معدوم عند عدمه، وهذا هو الحقّ. (ومنها): أن الزوج يستقلّ بالرجعة، دون الوليّ، ورضا المرأة؛ لأنه جعل ذلك إليه، دون غيره، وهو كقوله تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} . (ومنها): أن الأب يقوم عن ابنه البالغ الرشيد في الأمور التي تقع له مما يَحتَشِم الابن من ذِكْره، ويتلقى عنه ما لعلّه يلحقه من العتاب على فعله شفقةً منه، وبرًّا. (ومنها): أن طلاق الطاهرة لا يُكره؛ لأنه أنكر إيقاعه في الحيض، لا في غيره؛ ولقوله في آخر الحديث:"فإن شاء أمسك، وإن شاء طلّق". (ومنها): أن الحامل لا تحيض؛ لقوله في طريق سالم المتقدّمة: "ثم لْيُطلّقها طاهرًا، أو حاملاً"، فحرّم الطلاق في زمن الحيض، وأباحه في زمن الحمل، فدلّ على أنهما لا يجتمعان. وأجاب من قال: تحيض الحامل بأن حيض الحامل لما لم يكن له تأثير في تطويل العدّة، ولا تخفيفها لأنها بوضع الحمل، أباح الشارع طلاقها حاملاً مطلقًا، وأما غير الحامل ففرق بين الحائض والطاهر؛ لأن الحيض يؤثر في العدّة، فالفرق بين الحامل وغيرها إنما هو بسبب الحمل، لا بسبب الحيض، ولا الطهر. (ومنها): أن الأقراء في العدّة هي الأطهار، وسيأتي تحقيق ذلك، في محلّه إن شاء اللَّه تعالى.
(ومنها): أنه تمسّك بالزيادة التي في رواية سالم المتقدّمة: "ثم ليطلقها طاهرًا، أو حاملاً" من استثنى من تحريم الطلاق في طهر جامعها فيه ما إذا ظهر الحمل، فإنه لا يحرم، والحكمة فيه أنه إذا ظهر الحمل فقد أقدم على ذلك على بصيرة، فلا يندم على الطلاق، وأيضًا فإن زمن الحمل زمن الرغبة في الوطء، فإقدامه على الطلاق فيه يدلّ على رغبته عنها. ومحك ذلك أن يكون الحمل من المطلِّق، فلو كان من غيره بأن نكح حاملاً من زنا، ووطئها، ثم طلّقها، أو وُطئت منكوحته بشبهة، ثم حملت منه، فطلّقها زوجها، فإن الطلاق يكون بدعيًّا؛ لأن عدّة الطلاق تقع بعد وضع الحمل، والنقاء من النفاس، فلا تُشرع عقب الطلاق في العدّة، كما في الحامل منه. قاله في "الفتح"
(1)
. (ومنها): أن بعض أهل العلم قال في قوله: "ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلّق" دليلٌ على أن من قال لزوجته، وهي حائضٌ: إذا طهرتِ، فأنت طالقٌ لا يكون مطلّقًا للسنّة؛ لأن المطلّق للسنّة هو الذي يكون مخيّرًا عند وقوع طلاقه بين إيقاع الطلاق وتركه، ومن سبق منه هذا القول في وقت الحيض زائلٌ عنه الخيار في وقت الطهر. ذكره الخطابيّ في "المعالم"
(2)
.
(1)
10/ 440 - 441.
(2)
"معالم السنن" 3/ 94.
(ومنها): أنه استُدِلّ بقوله: "قبل أن يمسّ" على أن الطلاق في طهر جامعها فيه حرام، وبه صرّح الجمهور، فلو طلّق هل يُجبر على الرجعة كما يُجبر عليها إذا طلّقها، وهي حائضٌ؟ طرده بعض المالكيّة فيهما، والمشهور عنهم إجباره في الحائض، دون الطاهر، وقالوا فيما إذا طلّقها، وهي حائض: يُجبر على الرجعة، فإن امتنع أدّبه الحاكم، فإن أصرّ ارتجع عليه، وهل يجوز له وطؤها بذلك؟ روايتان لهم، أصحّهما الجواز، وعن داود يجبر على الرجعة إذا طلّقها حائضًا، ولا يُجبر إذا طلّقها نفساء، وهو جمود. ذكره في "الفتح"
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في قوله: "مره فليُراجعها" قال الشيخ ابن دقيق العيد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: يتعلّق به مسألة أصوليّة، وهي أن الأمر بالأمر بالشيء، هل هو أمرٌ بذلك الشيء، أم لا؟، فإنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر:"مُره"، فأمره بان يأمره.
قال في "الفتح": هذه المسألة ذكرها ابن الحاجب، قال: الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرًا بذلك الشيء، لنا لو كان لكان مُر عبدك بكذا تعدّيًا، ولكان يُناقض قولك للعبد: لا تفعل. قالوا: فُهم ذلك من أمر اللَّه تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن قول الملك لوزيره: قل لفلان: افعل. قلنا: للعلم بأنه مبلّغٌ.
قال الحافظ: والحاصل أن النفي إنما هو حيث تجرّد الأمر، وأما إذا وُجدت قرينة تدلّ على أن الأمر الأول أمر المأمور الأول أن يبلّغ المأمور الثاني فلا، وينبغي أن ينزّل كلام الفريقين على هذا التفصيل، فيرتفع الخلاف. ومنهم من فرق بين الأمرين، فقال: إن كان الأمر الأول بحيث يسوغ له الحكم على المأمور الثاني، فهو آمرٌ له، وإلا فلا، وهذا قويّ، وهو مستفاد من الدليل الذي استدلّ به ابن الحاجب على النفي؛ لأنه لا يكون متعدّيًا إلا إذا أمر من لا حكم له عليه؛ لئلا يصير متصرّفًا في ملك غيره بغير إذنه، والشارع حاكمٌ على الآمر والمأمور، فوجد فيه سلطان التكليف على الفريقين، ومنه قوله تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} الآية، فإن كلّ أحد يفهم منه أمر اللَّه لأهل بيته بالصلاة، ومثله حديث الباب، فإن عمر رضي الله عنه إنما استفتى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليمتثل ما يأمره به، ويُلزم ابنه به، فمن مثّل بهذا الحديث لهذه المسألة فهو غالطٌ؛ فإن القرينة واضحةٌ في أن عمر في هذه الكائنة كان مأمورًا بالتبليغ، ولهذا وقع في رواية أيوب، عن نافع:"فأمره أن يراجعها"، وفي رواية أنس ابن سيرين، ويونس بن جُبير، وطاوس، عن ابن عمر، وفي رواية الزهريّ، عن سالم:"فليُراجعها"، وفي رواية لمسلم:
(1)
10/ 441.
"فراجعها عبد اللَّه كما أمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية أبي الزبير، عن ابن عمر:"ليراجعها"، وفي رواية الليث، عن نافع، عن ابن عمر:"فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا".
وقد اقتضى كلام سليم الرازيّ في "التقريب" أنه يجب على الثاني الفعل جزمًا، وإنما الخلاف في تسميته آمرًا، فرجع الخلاف عنده لفظيًّا.
وقال الفخر الرازيّ في "المحصول": الحقّ أن اللَّه تعالى إذا قال لزيد: أوجبتُ على عمرو كذا، وقال لعمرو: كلّ ما أوجب عليك زيدٌ، فهو واجبٌ عليك، كان الأمر بالأمر أمرًا بالشيء انتهى.
قال الحافظ: وهذا يمكن أن يؤخذ منه التفرقة بين الأمر الصادر من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومن غيره، فمهما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحدًا أن يأمر به غيره وجب لأن اللَّه تعالى أوجب طاعته، وهو أوجب طاعة أميره، كما ثبت في "الصحيح":"من أطاعني، فقد أطاع اللَّه، ومن أطاع أميري فقد أطاعني"، وأما غيره ممن بعده فلا، وفيهم تظهر صورة التعدّي التي أشار إليها ابن الحاجب.
وقال ابن دقيق العيد: لا ينبغي أن يتردّد في اقتضاء ذلك الطلب، وإنما ينبغي أن ينظر في أن لوازم صيغة الأمر هل هي لوازم صيغة الأمر بالأمر أو لا؟ بمعنى أنهما يستويان في الدلالة على الطلب من وجه واحد أو لا. قال الحافظ: وهو حسنٌ، فإن أصل المسألة التي انبنى عليها هذا الخلاف حديث:"مروا أولادكم بالصلاة لسبع"، فإن الأولاد ليسوا بمكلّفين، فلا يتّجه عليهم الوجوب، وإنما الطلب متوجّه على أوليائهم أن يُعَلِّموهم ذلك، فهو مطلوب من الأولاد بهذه الطريق، وليس مساويًا للأمر الأول، وهذا إنما عرض من أمر خارج، وهو امتناع توجه الأمر على غير المكلّف، وهو بخلاف الفصّة التي في حديث الباب.
والحاصل أن الخطاب إذا تونجه لمكلّف أن يأمر مكلّفًا آخر بفعل شيء كان المكلّف الأول مبلّغًا محضًا، والثاني مأمور من قبل الشارع، وهذا كقوله لمالك بن الحويرث، وأصحابه:"ومروهم بصلاة كذا في حين كذا"، وقوله لرسول ابنته صلى الله عليه وسلم:"مرها، فلتصبر، ولتحتسب"، ونظائره كثيرة، فإذا أمر الأول الثاني بذلك، فلم يمتثله كان عاصيًا، وإن توجّه الخطاب من الشارع لمكلّف أن يأمر غير مكلّف، أو توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمران يأمر من لا أمر للأول عليه لم يكن الأمر بالأمر بالشيء أمرًا بالشيء، فالصورة الأولى هي التي نشأ عنها الاختلاف، وهو أمر أولياء الصبيان أن يأمروا الصبيان، والصورة الثانية هي يتصوّر فيها أن يكون الأمر متعدّيًا بأمر
للأول أن يأمر الثاني، فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة، واللَّه المستعان، قاله في "الفتح" وهو تحقيق حسن
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: "فليُراجعها"، هل هو للوجوب، أم للاستحباب؟:
ذهب إلى القول بالاستحباب الأئمة: أبو حنيفة، والشافعيّ، وأحمد في المشهور عنه، وحكاه النوويّ عن سائر الكوفيين، وفقهاء المحدّثين.
وذهب مالك، وأصحابه إلى أنه للوجوب، يجبر على المراجعة ما بقي من العدّة شيء. وقال أشهب: ما لم تطهر من الثانية، فإن أبى أجبره الحاكم، فإن أبى ارتجع الحاكم عليه، وله وطؤها بذلك على الأصحّ. قال الحافظ وليّ الدين: وما تقدّم عن أبي حنيفة من الاستحباب هو المشهور في كتب الخلاف، وممن حكاه عنه النوويّ، لكن حكاه صاحب "الهداية" عن بعض المشايخ، ثم قال: والأصحّ أنه واجبٌ؛ عملاً بحقيقة الأمر، ورفعًا للمعصية بالقدر الممكن برفع أثره، وهو العدّة، ودفعًا لضرر تطويل العدّة انتهى. وقال داود الظاهريّ يُجبر على الرجعة إذا طلّقها حائضَا، ولا يُجبر إذا طلّقها نفساء. وذكر إمام الحرمين أن المراجعة، وإن كانت مستحبّةً، فلا ينتهي الأمر فيه إلى أن نقول: ترك المراجعة مكروه. قال النوويّ في "الروضة": وينبغي أن يقال بالكراهة؛ للحديث الصحيح الوارد فيها، ولدفع الإيذاء. وحكى ابن عبد البرّ خلافًا في سبب الأمر بالرجعة، قيل: عقوبةٌ له، وقيل: دفع للضرر عنها بتطويل العدّة عليها. فلو ادعت المرأة أنه طلّقها في الحيض، وقال الزوج: في طهر، فقال سحنون: القول قولها، ويجبر على الرجعة، والأصحّ أن القول قوله. قاله في "طرح التثريب"
(2)
.
وقال في "الفتح": والحجة لمن قال بالوجوب ورود الأمر بها، ولأن الطلاق لما كان محرّمًا في الحيض كانت استدامة النكاح فيه واجبة. فلو تمادى الذي طلّق في الحيض حتى طهرت قال مالكٌ، وأكثر أصحابه: يُجبر على الرجعة أيضًا. وقال أشهب منهم: إذا طهرت انتهى الأمر بالمراجعة. واتفقوا على أنها إذا انقضت عدّتها أن لا رجعة، وأنه لو طلّق في طهر قد مسّها فيه لا يؤمر بمراجعتها. كذا نقله ابن بطّال وغيره، لكن الخلاف فيه ثابتٌ، قد حكاه الحناطيّ من الشافعيّة وجهًا. واتفقوا على أنه لو طلّق قبل الدخول، وهي حائضٌ لم يؤمر بالمراجعة، إلا ما نقل عن زفر، فطرد الباب انتهى
(3)
.
(1)
"فتح" 10/ 438 - 439.
(2)
7/ 87.
(3)
"فتح" 10/ 439.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي القولُ بوجوب الرجعة على من طلّق امرأته في حيضها هو الأرجح؛ لظهور حجته؛ لأن الأمر للوجوب إلا لصارف؛ وليس هنا صارف يُعتدّ به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): ذكر العلماء في الحكمة في تأخير الطلاق إلى طهر بعد الطهر الذي يلي ذلك الحيض الذي وقع في الطلاق أمورًا:
[أحدها]: ما قاله الشافعيّ: يحتمل أن يكون أراد بذلك أن يستبرئها بعد الحيضة التي طلّقها فيها يطهر تامّ، ثم حيض تامّ؛ ليكون تطليقها، وهي تعلم عدّتها، إما بحمل، أو بحيض، أو ليكون تطليقها بعد علمه بالحمل، وهو غير جاهل بما صنع، إذ يرغب، فيُمسك للحمل، أو ليكون إن كانت سألت الطلاق غير حامل أن تكفّ عنه.
[الثاني]: أن الطهر الذي يلي الحيض الذي طلّقها كقرء واحد، فلو طلّقها فيه لكان كمن طلّق في الحيض، وهو ممتنعٌ من الطلاق في الحيض، فلزم أن يتأخّر إلى الطهر الثاني.
[الثالث]: أن لا تصير الرجعة لغرض الطلاق، فوجب أن يمسكها زمانًا يحلّ له فيه طلاقها، وإنما أمسكها؛ لتظهر فائدة الرجعة.
[الرابع]: أنه عقوبةٌ له، وتوبةٌ من معصيته باستدراك ما جناه، وعبّر عنه بعضهم بأنه معاملة بنقيض مقصوده، فإنه عجل ما حقّه أن يتأخر قبل وقته، فمنع منه في وقته، وصار كمستعجل الإرث يقتل مورثه.
[الخامس]: أنه نهي عن طلاقها في الطهر، ليطول مقامه معها، فقد يجامعها، فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها، فيمسكها. قال أبو العبّاس القرطبيّ: وهذا أشبهها، وأحسنها
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): اختلفوا في جواز تطليقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطلاق والرجعة، وفيه للشافعيّة وجهان، أصحّهما المنع، وبه قطع المتولّي، وهو الذي يقتضيه ظاهر الزيادة التي في الحديث، وعبارة الغزاليّ في "الوسيط"، وتبعه مجلي: هل يجوز أن يطلّق في هذا الطهر؟ وجهان. وكلام المالكيّة يقتضي أن التأخير مستحبّ. وقال ابن تيميّة في "المحرّر": ولا يُطلّقها في الطهر المتعقّب له، فإنه بدعةٌ، وعنه -أي عن أحمد- جواز ذلك. وفي كتب الحنفيّة عن أبي حنيفة الجواز، وعن أبي يوسف ومحمد المنع. ووجه الجواز أن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت
(1)
راجع "طرح التثريب" 7/ 90 - 91. و"فتح" 10/ 440.
زال موجب التحريم، فجاز طلاقها في هذا الطهر، كما يجوز في الطهر الذي بعده، وكما يجوز طلاقها في الطهر إن لم يتقدّم طلاق في الحيض.
ومن حجج المانعين أنه لو طلّقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلّقها، وهذا عكس مقصود الرجعة، فإنها شُرعت لإيواء المرأة، ولهذا سماها إمساكًا، فأمره أن يمسكها في ذلك الطهر، وأن لا يطلّق فيه حتى تحيض حيضةً أخرى، ثم تطهر؛ لتكون الرجعة للإمساك، لا للطلاق، ويؤيّد ذلك أن الشارع أكّد هذا المعنى حيث أمر بأن يمسكها في الطهر الذي يلي الحيض الذي طلّقها فيه؛ لقوله في رواية عبد الحميد بن جعفر:"مره أن يراجعها، فإذا طهرت أمسكها، حتى إذا طهرت أخرى، فإن شاء طلّقها، وإن شاء أمسكها"، فإذا كان قد أمره بأن يمسكها في ذلك الطهر، فكيف يُبيح له أن يطلّقها فيه؟، وقد ثبت النهي عن الطلاق في طهر جامعها فيه. ذكره في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر من الأدلّة أن الأرجح قول من قال بمنع الطلاق في الطهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطلاق؛ لمخالفته الأمر وإمساكها في ذلك الطهر بنصّ قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا طهرت أمسكها حتى إذا طهرت أخرى الخ". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): اختلف الفقهاء في المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "طاهرًا" هل المراد به انقطاع الدم، أو التطهّر بالغسل؟ على قولين، وهما روايتان عن أحمد، والراجح الثاني؛ لما يأتي للمصنّف من طريق معتمر بن سليمان، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع في هذه القصّة، قال:"مُرْ عبد اللَّه، فليراجعها، فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى، فلا يمسّها حتى يطلّقها، وإن شاء أن يمسكها، فليمسكها"، وهذا مفسّر لقوله:"فإذا طهرت"، فليحمل عليه.
قال في "الفتح": ويتفرع من هذا أن العدّة هل تنقضي بانقطاع الدم، وترتفع الرجعة، أو لا بُدّ من الاغتسال؟ فيه خلاف أيضًا.
والحاصل أن الأحكام المرتّبة على الحيض نوعان: الأول يزول بانقطاع الدم، كصحّة الغسل، والصوم، وترتّب الصلاة في الذّمّة. والثاني: لا يزول إلا بالغسل، كصحّة الصلاة، والطواف، وجواز اللبث في المسجد، فهل يكون الطلاق من النوع الأول، أو من الثاني؟. انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن الطلاق من النوع الثاني؛ لرواية المصنّف المذكورة في ذلك، فإنها صريحة في اشتراط الاغتسال، فلا يجوز أن يطلّقها
(1)
10/ 440.
(2)
"فتح" 10/ 441
إلا بعد اغتسالها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): في قوله: "فإنها العدّة التي أمر اللَّه عز وجل أن تطلّق لها النساء"، هذا إشارة إلى قوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} الآية. قال الجرجانيّ: اللام بمعنى "في"، كما في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} الآية، أي في أول الحشر، فقوله:{لِعِدَّتِهِنَّ} أي في الزمان الذي يصلح لعدّتهن، وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع، وفي الطهر مأذون فيه، ففيه دليل على أن القرء هو الطهر. ذكره القرطبيّ
(1)
.
وقال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: استُدلّ به على أن الأقراء هي الأطهار؛ لأن اللَّه تعالى لم يأمر بطلاقهنّ في الحيض، بل حرّمه، وبهذا قال مالكٌ، والشافعيّ. وقال أبو حنيفة، وأحمد: هي الحيض. وأجاب بعضهم عن هذا الحديث بأن الإشارة في قوله: "فتلك العدّة" إلى الحيضة. وهو مردود؛ لأن الطلاق في الحيض غير مأمور به، بل هو محرّم، وإنما الإشارة إلى الحالة المذكورة، وهي حالة الطهر، أو إلى العدّة. وقال الذاهبون إلى أنها الحيض: من قال بالأطهار جعلها قرءين وبعض الثالث، وظاهر القرآن أنها ثلاثة، ونحن نشترط ثلاث حِيَض كوامل، فهي أقرب إلى موافقة القرآن، ولهذا صار الزهريّ مع قوله: إن الأقراء هي الأطهار إلى أنه لا تنقضي العدّة إلا بثلاثة أطهار كاملة، ولا تنقضي بطهرين وبعضِ الثالث، وهذا مذهب انفرد به، وقال غيره: لو طلّقها، وقد بقي من الطهر لحظة يسيرةٌ، حُسبت قُرءًا، ويكفيها طهران. وأجابوا عن هذا الاعتراض بأن الشيئين وبعض الثالث يُطلق عليها اسهل الجمع، قال اللَّه تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، ومدّته شهران وبعض الثالث، وقال تعالى:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} والمراد: وبعض الثاني انتهى كلام وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بأن الأقراء هي الأطهار هو الأرجح؛ لأن الأرجح في اللام في قوله: "لعدّتهنّ" كونها بمعنى: "في"، فظهر به أن وقت العدّة هو الطهر؛ لأنه الوقت الذي أمر اللَّه تطليق النساء فيه، وسيأتي تحقيق ذلك في محله، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3418 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا، حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ،
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 152 - 153.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 93.
وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عز وجل أَنْ تُطَلَّقَ
(1)
لَهَا النِّسَاءُ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح. وأنهم مدنّيون، غير شيخه، وشيخ شيخه، فمصريّان. والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3419 -
(أَخْبَرَنِي كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ، قَالَ: سُئِلَ الزُّهْرِيُّ، كَيْفَ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ؟ ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَالَ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي، فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: «لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا، حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً، وَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَذَاكَ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ، كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل» ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَرَاجَعْتُهَا، وَحَسِبْتُ لَهَا التَّطْلِيقَةَ الَّتِي طَلَّقْتُهَا).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو حمصيّ، ثقة.
و"محمد بن حرب": الأبرش الخولانيّ الحمصيّ الثقة. و"الزبيديُّ": هو محمد بن الوليد، أبو الْهُذيل الحمصيّ الثقة الثبت.
وقوله: "فتغيّظ" يدلة على حرمة الطلاق. وقوله: "حتى تحيض حيضةً" أي ثانيةً غير هذه التي وقع فيها الطلاق، وتطهر منها، وبه يحصل موافقة هذه الرواية للروايتين السابقتين. وقوله:"وحسبت" بالبناء للمفعول، والتاء للتأنيث. ويحتمل بناؤه للفاعل، والتاء للمتكلّم، والأول أقرب.
والحديث متفق عليه، كما سبق البحث عنه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3420 -
(أَخْبَرَنِي
(2)
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ حَجَّاجٍ، قَالَ: قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ، يَسْأَلُ ابْنَ عُمَرَ وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ، كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ، طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟
(3)
فَقَالَ لَهُ: طَلَّقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لِيُرَاجِعْهَا» ، فَرَدَّهَا عَلَيَّ، قَالَ:«إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ، أَوْ لِيُمْسِكْ» ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَقَالَ
(4)
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا
(1)
وفي نسخة: "أن يُطلّق" بالياء التحتيّة.
(2)
وفي نسخة: "أخبرنا".
(3)
وفي نسخة: "وهي حائض".
(4)
وفي نسخة: "فقرأ".
النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن إسماعيل بن إبراهيم": هو المعروف أبوه بابن عليّة، وهو قاضي دمشق، ثقة [11] 22/ 489 من أفراد المصنّف. و"عبد اللَّه بن محمد بن تميم": أبو حُميد المصّيصيّ، ثقة [11] 319/ 200 من أفراد المصنّف أيضًا. والباقون كلهم رجال الصحيح. و"حجاج": هو ابن محمد الأعور المصّيصيّ. وقوله: "عبد الرحمن بن أيمن"، ويقال: مولى أيمن المخزوميّ، مولاهم المكيّ، لا بأس به [3] له ذكر عند المصنّف، ومسلم، وأبي داود في هذا الإسناد بلا رواية. وقوله:"وأبو الزبير يسمع" فيه التفات، إذ الظاهر أن يقول: وأنا أسمع. وقوله: "طلّق عبد اللَّه بن عمر الخ" فيه التفات أيضًا، إذ الظاهر أن يقول: طلّقتُ.
وقوله: "فردّها عليّ" يعني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ردّ تلك المرأة على ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -.
وقوله: "إذا طهرت فليُطلّق" ظاهر هذه الرواية أنه يطلّق إذا طهرت من الحيضة الأولى التي وقع فيها الطلاق، فتكون مخالفةً للروايات المتقدّمة، وغيرها، فالأولى أن تُحمل على موافقة تلك الرويات، فيُحمل الطهر على الطهر من الحيضة الثانية، لا الأولى.
وقوله: "فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبيّ الخ" قال أبو العباس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا تصريح برفع هذه القراءة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، غير أنها شاذّة عن المصحف، ومنقولة آحادًا، فلا تكون قرآنًا، لكنها خبر مرفوعٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم صحيحٌ، فهي حجةٌ واضحةٌ لمن يقول بأن الأقراء هي الأطهار، كما تقدّم، وهي قراءة ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم. وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:"لقبل طهرهن"، قال جماعة من العلماء: وهي محمولة على التفسير، لا التلاوة انتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
وقوله: "في قُبُل عدّتهنّ": قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: هو -بضم القاف، والباء- أي في وقتٍ تَستقبل فيه العدّةَ، وتَشرع فيها، وهذا يدلّ على أن الأقراء هي الأطهار، وأنها إذا طُلّقت في الطهر شرعت في الحال في الأقراء؛ لأن المأمور به إنما هو في الطهر؛ لأنها إذا طُلّقت في الحيض لا يُحسب ذلك الحيض قرءًا بالإجماع، فلا تَستقبل فيه العدّة، وإنما تَستقبلها إذا طُلّقت في الطهر. قاله النوويّ
(2)
.
وقال السيوطيّ: "في قبل عدّتهنّ" أي إقبالها، وأولها، وحين يمكن الدخول فيها،
(1)
"المفهم" 4/ 233.
(2)
"شرح مسلم" 10/ 309 - 310.
والشروع، وذلك حال الطهر، يقال: كان ذلك في قُبُل الشتاء: أي إقباله. انتهى
(1)
.
وقال السنديّ: ما حاصله: هذا الذي قاله السيوطيّ على وفق مذهبه، وأما على مذهب من يقول بأن القرء هو الحيض، فمعنى "في قبل عدّتهنّ" أي إقبالها، فإنها بالطهر صارت مقبلة للحيض، وصار الحيض مقبلاً عليها انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح ما قاله السيوطيّ؛ لأن أحاديث الباب ظاهرة فيه. والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3421 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يُحَدِّثُهُ
(3)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: "قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، و"الحكم": هو ابن عُتيبة.
و"مجاهد": هو ابن جَبْر. وشرح الحديث تقدّم في الذي قبله، وهو موقوفٌ صحيح، تفرّد به المصنّف، لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا-1/ 3394 - وفي "الكبرى" 1/ 5586. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
2 - (بَابُ طَلَاقِ السُّنَّةِ)
3422 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: طَلَاقُ
(1)
"زهر الربى" 6/ 137 - 141.
(2)
"شرح السنديّ" 6/ 137 - 1310.
(3)
وفي نسخة: "يحدّث".
السُّنَّةِ تَطْلِيقَةٌ، وَهِيَ طَاهِرٌ فِي غَيْرِ جِمَاعٍ، فَإِذَا حَاضَتْ، وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ، طَلَّقَهَا أُخْرَى، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَيْضَةٍ، قَالَ الأَعْمَشُ: سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن يحيى بن أيوب) بن إبراهيم الثقفيّ، أبو يحيى المروزيّ القصريّ المعلم، ثقة حافظ [10] 162/ 254.
2 -
(حفص بن غياث) بن طلق بن معاوية النخعي، أبو عمر الكوفي القاضي، ثقة فقيه، تغير حفظه قليلاً في الآخر [8] 86/ 105.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مهران الكاهلي مولاهم، أبو محمد الكوفي، ثقة ثبت، لكنه يدلس [5] 17/ 18.
4 -
(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه الهمدانيّ السبيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد، يدلس واختلط بآخره [3] 38/ 42.
5 -
(أبو الأحوص) عوف بن مالك بن نَضْلَة الْجُشميّ الكوفيّ ثقة [3] 50/ 849.
6 -
(عبد اللَّه) بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - 35/ 39. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير شيخ المصنّف، فقد تفرّد به هو والترمذيّ. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فمروزي. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، وأبو إسحاق، وأبو الأحوص. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنهُ قَالَ: طَلَاقُ السُّنَّةِ) قال السنديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: بمعنى أن السنّة قد وردت بإباحتها لمن احتاج إليها، لا بمعنى أنها من الأفعال المسنونة التي يكون الفاعل مأجورًا بإتيانها. نعم إذا كفّ المرء نفسه من غيره عند الحاجة، وآثر هذا النوع من الطلاق؛ لكونه مباحًا، فله أجره على ذلك، لا على نفس الطلاق، فلا يَرِدُ أنها كيف تكون سنّةً، وهي من أبغض المباحات، كما جاء به الحديث. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث الذي أشار إليه السنديّ: هو ما أخرجه أبو داود في "سننه" عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، مرفوعًا: "أبغض الحلال إلى اللَّه
الطلاق". لكنه ضعيف مرفوعًا؛ والصحيح أنه مرسلٌ
(1)
. واللَّه تعالى أعلم.
(تَطْلِيقَةٌ) أي واحدةٌ، وفي الرواية التالية:"أن يطلَقها الخ"(وَهِيَ طَاهِرٌ) أي ليس بها حيض (في) وفي نسخة: "من"(غَيْرِ جِمَاعٍ) أي من غير أن يجامعها في ذلك الطهر (فَإِذَا حَاضَتْ، وَطَهُرَت طَلَّقَهَا أُخْرَى) أي تطليقة ثانية (فَإذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ، طَلَّقَهَا أُخرَى) أي تطليقة ثالثةَ (ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَيْضَةٍ) هذا تصريحٌ في أن العدّة تكون بالحيض، لا بالطهر، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد، وخالفهم المالكيّة، والشافعية، وهو الأرجح، وسيأتي تحقيق ذلك في محلّه، إن شاء اللَّه تعالى (قَالَ الأَعْمَشُ) سليمان بن مهران الإمام المشهور، الراوي عن أبي إسحاق في هذا السند (سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ) يعني ابن يزيد النخعيّ الإمام الفقيه المشهور (فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ) أي فذكر مثل ما ذكره أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه رضي الله عنه. ويحتمل أنه قال مثل ما قال ابن مسعود رضي الله عنه، أي أفتى بمثل ذلك، فيكون من قوله، لا من روايته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ابن مسعود رضي الله عنه صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-2/ 3395 و 3396 - وفي "الكبرى" 2/ 5587 و 5588. وأخرجه (ق) في "الطلاق " 2020 و2021. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): يُستفاد من أثر ابن مسعود رضي الله عنه هذا أن الطلاق ينقسم إلى قسمين: سنيّ، وبدعيّ، وقد بيّن القسمين ابن قدامة -عند قول الخِرَقيّ:"وطلاق السنّة أن يطلّقها طاهرًا من غير جماع واحدةٌ، ثم يدعها حتى تنقضي عدّتها" -:
فقال: ما حاصله: معنى طلاق السنّة الطلاقُ الذي وافق أمر اللَّه تعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في الآية، والخبرين المذكورين -يعني خبر ابن عمر المذكور في الباب الماضي- وهو الطلاق في طهر لم يُصبها فيه، ثم يتركها حتى تنقضي عدّتها، ولا خلاف في أنه إذا طلّقها في طهر لم يُصبها فيه، ثم تركها حتى تنقضي عدّتها أنه مصيبٌ للسنّة، مطلّق للعدة التي أمر اللَّه تعالى بها. قاله ابن عبد البرّ، وابنُ المنذر. وقال ابن مسعود: طلاق السنّة أن يطلّقها من غير جماع، وقال في قوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قال: طاهرًا
(1)
"شرح السنديّ" 6/ 140.
من غير جماع، ونحوه عن ابن عبّاس. وفي حديث ابن عمر الذي رويناه:"لِيَتْرُكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ، فتلك العدّة التي أمر أن تُطلّق لها النساء".
فأما قوله: "ثم يدعها حتى تنقضي عدّتها" فمعناه أنه لا يُتبعها طلاقًا آخر قبل انقضاء عدّتها، ولو طلقها ثلاثًا في ثلاثة أطهار، كان حكم ذلك حكم جمع الثلاث في طهر واحد. قال أحمد: طلاق السنّة واحدةٌ، ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حِيَض، وكذلك قال مالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأبو عُبيد. وقال أبو حنيفة، والثوريّ: السنّة أن يطلّقها ثلاثًا في كلّ قرء تطليقة، وهو قول سائر الكوفيين، واحتجوا بحديث ابن عمر، حين قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"راجعها، ثم أمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر"، قالوا: وإنما أمره بإمساكها في هذا الطهر؛ لأنه لم يفصل بينه وبين الطلاق طهرٌ كاملٌ، فإذا مضى، ومضت الحيضة التي بعده أمره بطلاقها. وقوله في حديثه الآخر:"والسنّة أن يستقبل الطهر، فيُطلّق لكلّ قرء"
(1)
. ثم ذكر حديث ابن مسعود المذكور في الباب. ثم قال: ولنا ما روي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: لا يطلّقٌ أحد للسنّة، فيندم. رواه الأثرم. وهذا إنما يحصل في حقّ من لم يُطلّق ثلاثًا. وقال ابن سيرين: إن عليًّا رضي الله عنه قال: لو أن الناس أخذوا بما أمر اللَّه من الطلاق ما يُتبع رجلٌ نفسَهُ امرأةً أبدًا، يطلّقها تطليقةً، ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثةً، فمتى شاء راجعها. رواه النجاد بإسناده. وروى ابن عبد البرّ بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: طلاق السنة أن يطلّقها، وهي طاهر، ثم يدعها حتى تنقضي عدّتها، أو يراجعها إن شاء.
فأما حديث ابن عمر الأول، فلا حجة لهم فيه، لأنه ليس فيه جمع الثلاث، وأما حديثه الآخر، فيحتمل أن يكون ذلك بعد ارتجاعها، ومتى ارتجع بعد الطلقة، ثم طلّقها، كان للسنّة على كلّ حال حتى قد قال أبو حنيفة: لو أمسكها لشهوة، ثم والى بين الثلاث كان مصيبا للسنّة؛ لأنه يكون مرتجعًا لها. والمعنى فيه أنه إذا ارتجعها سقط حكم الطلقة الأولى، فصارت كأنها لم توجد، ولا غنى به عن الطلقة الأخرى إذا احتاج إلى فراق امرأته، بخلاف ما إذا لم يرتجعها، فإنه مستغن عنها؛ لإفضائها إلى مقصوده من إبانتها، فافترقا؛ ولأن ما ذكروه إرداف طلاق من غير ارتجاع، فلم يكن للسنّة، كجمع الثلاث في طهر واحد، وتحريم المرأة لا يزول إلا بزوج، وإصابة من غير حاجة، فلم يكن للسنة، كجمع الثلاث.
(1)
راجع ما كتبه الشيخ الألبانيّ في "إرواء الغليل" 7/ 106 - 108.
وأما الطلاق البدعيّ، فهو أن يطلق حائضًا، أو في طهر أصابها فيه، فإذا فعل ذلك أثم، ووقع الطلاق في قول عامة أهل العلم، قال ابن المنذر، وابن عبد البرّ: لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال. وحكاه أبو نصر عن ابن عليّة، وهشام بن الحكم، والشيعة، قالوا: لا يقع طلاقه؛ لأن اللَّه تعالى أمر به في قُبُل العدّة، فإذا طلّق في غيره لم يقع، كالوكيل إذا أوقعه في زمن أمرَهُ موكّلُهُ بإيقاعه في غيره. ولنا حديث ابن عمر أنه طلّق امرأته، وهي حائض، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يراجعها. وفي رواية الدارقطنيّ، قال: فقلت: يا رسول اللَّه، أفرأيت لو أني طلّقتها ثلاثًا، أكان يحلّ لي أن أراجعها؟ قال: لا، كانت تبيّن منك، وتكون معصية"
(1)
وقال نافعٌ: وكان عبد اللَّه طلّقها تطليقة، فحُسبت من طلاقه، وراجعها كما أمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. ومن رواية يونس بن جُبير، عن ابن عمر، قال: قلت لابن عمر: أفتُعتدّ عليه، أو تُحتسب عليه؟ قال: نعم، أرأيت إن عجز، واستحمق، وكلّها أحاديث صحاح، ولأنه طلاقٌ من مكلّف في محلّ الطلاق، فوقع، كطلاق الحامل، ولأنه ليس بقربة، فيعتبر لوقوعه موافقة السنّة، بل هو إزالة عصمة، وقطع ملك، فإيقاعه في زمن البدعة أولى، تغليظًا عليه، وعقوبة له، أما غير الزوج، فلا يملك الطلاق، والزوج يملكه بملكه محلّه. انتهى كلام ابن قدامة -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- ببعض تصرّف
(2)
وهو تحقيق نفيس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3423 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا، فِي غَيْرِ جِمَاعٍ").
(1)
رواه الدارقطنيّ في "سننه" 4/ 31 وفي إسناده شعيب بن رُزيق ضعيفٌ، ومعلى بن منصور، قال عبد الحقّ في "أحكامه": رماه أحمد بالكذب، وعطاء الخراساني مختلف فيه، وقد تفرّد بزيادات لا يُتابع عليها. هكذا قال في "التعليق المغني على الدارقطني" 4/ 31/ 32.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وفيما ذكره نظر، أما شعيب بن رزيق قال عنه في "ت": صدوق يخطئ، فهذا يدلّ على أن ضعفه ليس متّفقًا عليه، وردّ أيضًا ما نسب إلى أحمد من تكذيبه معلى بن منصور، فقال: معلي بن منصور الرازي، أبو يعلى بغدادي ثقة سني فقيه، طُلب للقضاء فامتنع، أخطأ من زعم أن أحمد رماه بالكذب. وأما عطاء الخراساني، فقال فيه: صدوق يهم كثيرًا، ويرسل، ويدلس. فعلى هذا فعلة الحديث هو عطاء، كما اقتصر عليه البيهقيّ، فمخالفته للحفاظ، مع أنه يدلّس يضعّف الحديث، والحاصل أن الحديث ضعيف. فافهم.
قد قدمنا قريبًا أن الحديث ضعيف بسبب عطاء الخراسانيّ؛ لأنه مدلس، وقد خالف فيه الحفاظ بهذه الزيادة.
(2)
"المغني" 10/ 325 - 328.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا كلهم رجال الصحيح، و"يحيى": هو القطّان. و"سفيان": هو الثوريّ. والحديث صحيح، سبق الكلام عليه قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
3 - (بَابُ مَا يَفْعَلُ إِذَا طَلَّقَ تَطْلِيقَةً، وَهِيَ حَائِضٌ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "ما" يحتمل أن تكون موصولة، بمعنى "الذي"، و"يفعل" بالبناء للفاعل، والعائد محذوف، أي يفعله. ويحتمل أن تكون استفهاميّة مفعولاً مقدّمًا لـ "يفعل"، أي أيَّ شيء يفعل الرجل إذا طلّق امرأته الحائض تطليقة واحدة، أو تطليقتين، وإنما قيّده بتطليقة موافقةً لما في حديث الباب، وأما إذا طلّق ثلاثًا، فإنها تبيّن منه عند الجمهور، وإن كان الأصحّ أنها لا تبيّن، إن كان بلفظ واحد، على ما سيأتي تحقيقه، إن شاء اللَّه تعالى.
وجواب السؤال واضح من الحديث في قوله: "فليُراجعها"، يعني أنه يجب عليه مراجعتها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3424 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ،، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ تَطْلِيقَةً، فَانْطَلَقَ عُمَرُ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَقَالَ: لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مُرْ عَبْدَ اللَّهِ، فَلْيُرَاجِعْهَا، فَإِذَا اغْتَسَلَتْ فَلْيَتْرُكْهَا، حَتَّى تَحِيضَ، فَإِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ حَيْضَتِهَا الأُخْرَى، فَلَا يَمَسَّهَا حَتَّى يُطَلِّقَهَا، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكَهَا فَلْيُمْسِكْهَا، فَإِنَّهَا الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عز وجل، أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح.
والحديث متّفقٌ عليه، تقدّم شرحه، وبيان مسائله في -1/ 3390 - ، ودلالته على الترجمة واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3425 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَوْلَى طَلْحَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ
امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«مُرْهُ، فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا، وَهِيَ طَاهِرٌ، أَوْ حَامِلٌ» ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ترجم المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- على هذا الحديث في "الكبرى" -3/ 343 - "باب طلاق الحامل"، وكان الأولى أن يضعه في "المجتبى" أيضًا. واللَّه تعالى أعلم.
ورجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"سفيان": هو الثوريّ. و"محمد بن عبد الرحمن، مولى طلحة": هو القرشيّ الكوفيّ الثقة.
والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
4 - (بَابُ الطَّلَاقِ لِغَيْرِ الْعِدَّةِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن غرض المصنّف بهذه الترجمة بيان حكم الطلاق الواقع في الحيض، وهو غير وقت العدّة؛ إذ العدّة تكون في الطهر، وحكمه بين في الحديث المذكور في الباب، وهو وجوب رجعتها. واللام في "لغير" بمعنى "في"، وهو على حذف مضاف، أي في غير وقت العدّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3426 -
(أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: (أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى طَلَّقَهَا، وَهِيَ طَاهِرٌ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة. و"زياد بن أيوب": هو المعروف بدلّويه". و"أبو بشر": هو جعفر بن أبي وَحْشِية إياس البصريّ الثبت. والحديث صحيح، تقدّم البحث فيه مستوفًى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
5 - (الطَّلَاقُ لِغَيْرِ الْعِدَّةِ، وَمَا يُحْتَسَبُ مِنْهُ عَلَى الْمُطَلِّقِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذه الترجمة ترجيح قول من قال: إن الطلاق في الحيض واقعٌ، ومعتدٌّ به، وهو ما رجّحه الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- أيضًا، حيث قال في "صحيحه":"بابٌ إذا طُلِّقَت الحائضُ تَعتدُّ بتلك التطليقة"، ثم أورد حديث الباب من رواية أنس بن سيرين، عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "طلّق ابن عمر امرأته، وهي حائض
…
" الحديث. ومن رواية سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: "حُسبت عليّ بتطليقة". وسيأتي بيان أقوال أهل العلم في المسألة الآتية قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.
وقوله: "وما يُحتسب منه" ببناء الفعل للمفعول، ولفظ "الكبرى":"وما يُحسَبُ منه". وقوله: "المطَلِّقِ" بصيغة اسم الفاعل. واللَّه تعالى أعلم.
3427 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ؟ ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ؟ ، فَإِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ عِدَّتَهَا، فَقُلْتُ لَهُ: فَيَعْتَدُّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ؟ ، فَقَالَ: مَهْ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ، وَاسْتَحْمَقَ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة.
و"حمّاد": هو ابن زيد. و"أيوب": هو السختيانيّ. و"محمد": هو ابن سيرين. وقوله: "هل تعرف عبد اللَّه بن عمر؟ " إنما قال له ذلك -مع أنه يعرفه، وهو الذي يُخاطبه- ليقرّره على اتباع السنّة، وعلى القبول من ناقلها، وأنه يلزم العامّة الاقتداء بمشاهير العلماء، فقرّره على ما يلزمه من ذلك، لا أنه ظنّ أنه لا يعرفه. قاله في "الفتح"
(1)
.
وقوله: "فيعتدّ بتلك التطليقة" بتقدير الاستفهام، أي أفيعتدّ الخ، والفعل مبنيّ للفاعل، والفاعل ضمير الرجل، أي أيعتدّ ذلك الرجل الذي طلّق امرأته، وهي حائض بتلك التطليقة؟. وفي لفظ البخاريّ:"فهل عَدَّ ذلك طلاقًا؟ "، وعلى هذا فالضمير لابن عمر.
(1)
"فتح" 10/ 453.
وقوله: "فقال: مَهْ" قال النوويّ: يحتمل أن يكون للكفّ والزجر عن هذا القول، أي لا تشكّ في وقوع الطلاق، واجزم بوقوعه. وقال القاضي: المراد بـ "مه""ما"، فيكون استفهامًا، أي فما يكون إن لم أحتسب بها. ومعناه لا يكون إلا الاحتساب بها، فأُبدل من الألف هاء، كما قالوا في "مهما": إن أصلها "ما ما"، أي: أيّ شيء؟. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": أصله: "فما"، وهو استفهام فيه اكتفاء، أي فما يكون، إن لم تحُتَسَب. ويحتمل أن تكون الهاء أصليّة، وهي كلمة تُقال للزجر: أي كُفّ عن هذا الكلام، فإنه لا بدّ من وقوع الطلاق بذلك. قال ابن عبد البرّ: قول ابن عمر: "فمه" معناه: فأيّ شيء يكون إذا لم يعتدّ بها، إنكارًا لقول السائل:"أيعتدّ بها؟ "، فكأنه قال: وهل من ذلك بُدٌّ.
وقوله: "أرأيت إن عجز، واستحمق"، قال النوويّ: معناه أفيرتفع عنه الطلاق، وإن عجز، واستحمق؟ وهو استفهام إنكار، وتقديره: نعم تُحسَب، ولا يمتنع احتسابها لعجزه وحماقته. قال القاضي: أي إن عجز عن الرجعة، وفعل فعل الأحمق، والقائل لهذا الكلام هو ابن عمر، صاحب القصّة، وأعاد الضمير بلفظ الغيبة، وقد بينه بعد هذه في رواية أنس بن سيرين، قال: قلت: يعني لابن عمر: فاعتددت بتلك التطليقة التي طلَّقتَ، وهي حائض؟، قال: ما لي لا أعتدّ بها؟، وإن كنتُ عجزتُ، واستحمقتُ. وجاء في غير مسلم أن ابن عمر قال: أرأيت إن كان ابن عمر عجز، واستحمق، فما يمنعه أن يكون طلاقًا انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": أي إن عجز عن فرضٍ، فلم يُقمه، أو استحمق، فلم يأت به، أيكون ذلك عذرًا له؟.
وقال الخطّابيّ: في الكلام حذفٌ، أي أرأيت إن عجز، واستحمق أَيُسقِطُ عنه الطلاقَ حُمقُهُ، أو يُبطلُهُ عجزه؟، وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه. وقال الكرمانيّ: يحتمل أن تكون "إن" نافية بمعنى "ما"، أي لم يعجز ابن عمر، ولا استحمق؛ لأنه ليس بطفل، ولا مجنون، قال: وإن كانت الرواية بفتح ألف "أن" فمعناه أظهر، والتاء من "استحمق" مفتوحة. قاله ابن الخشّاب، وقال: المعنى فَعَل فعلاً يُصَيِّرُهُ أحمق عاجزًا، فيسقط عنه حكم الطلاق عجزه، أو حمقه، والسين والتاء فيه إشارةٌ إلى أنه تكلّف الحمق بما فعله من تطليق امرأته، وهي حائض. وقد وقع في بعض الأصول بضمّ التاء، مبنيًّا للمجهول، أي أن الناس استحمقوه بما فعل، وهو موجّهٌ. وقال المهلّب:
(1)
"شرح مسلم" 10/ 309.
(2)
"شرح مسلم" 10/ 308 - 309.
معنى قوله: "إن عجز، واستحمق" يعني عجز في المراجعة التي أُمر بها عن إيقاع الطلاق، أو فقد عقله، فلم تمكن منه الرجعة، أتبقى المرأة معلّقةً، لا ذات بعلٍ، ولا مطلّقة؟، وقد نهى اللَّه عن ذلك، فلا بُد أن تحَتَسِبَ بتلك التطليقة التي أوقعها على غير وجهها، كما أنه لو عجز عن فرض آخر للَّه، فلم يُقمه، واستحمق، فلم يأت به ما كان يُعذر بذلك، ويسقط عنه. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام شرحه، وبيان مسائله في -1/ 3390 - ، فلم يبق إلا بيان ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، فلنبيّنه، ولنقُل:
[مسألة]: قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها، فلو طلّقها أثم، ووقع طلاقه، ويؤمر بالرجعة؛ لحديث ابن عمر المذكور في الباب. وشذّ بعض أهل الظاهر، فقال: لا يقع طلاقه؛ لأنه غير مأذون له فيه، فأشبه طلاق الأجنبيّة، والصواب الأول، وبه قال العلماء كافّةً، ودليلهم أمره بمراجعتها، ولو لم يقع لم تكن رجعة.
[فإن قيل]: المراد بالرجعة الرجعة اللغوية، وهي الرّدّ إلى حالها الأول، لا أنه تحسب عليه طلقةٌ.
[قلنا]: هذا غلطٌ لوجهين: [أحدهما]: أن حمل اللفظ على الحقيقة الشرعيّة يُقدّم على حمله على الحقيقة اللغويّة، كما تقرّر في أصول الفقه. [الثاني]: أن ابن عمر صرّح في روايات مسلم وغيره بأنه حسبها عليه طلقة. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قال النوويّ: شذّ بعض أهل الظاهر، فقال: إذا طلّق الحائض لم يقع الطلاق لأنه غير مأذون فيه، فأشبه طلاق الأجنبيّة. وحكاه الخطّابيّ عن الخوارج والروافض. وقال ابن عبد البرّ: لا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال -يعني الآن. قال: وروي مثله عن بعض التابعين، وهو شذوذ، وحكاه ابن العربيّ وغيره عن ابن عُليّة -يعني إبراهيم بن إسماعيل ابن عليّة الذي قال الشافعيّ في حقّه: إبراهيم ضالٌّ، جلس في باب الضوالّ يُضلّ الناس. وكان بمصر، وله مسائل ينفرد بها، وكان من فقهاء المعتزلة. وقد غلط من ظنّ أن المنقول عنه المسائل الشاذّة أبوه، وحاشاه، فإنه من كبار أهل السنّة. وكان النوويّ أراد ببعض الظاهريّة ابنَ حزم، فإنه ممن جرّد القول بذلك، وانتصر له، وبالغ، وأجاب عن أمر ابن عمر بالمراجعة بأن ابن عمر كان اجتنبها، فأمره أن يُعيدها إليه على ما كانت عليه من المعاشرة، فحمل المراجعة على
(1)
"فتح" 10/ 443.
(2)
"شرح مسلم" 10/ 302 - 303.
معناها اللغويّ. وتُعُقّب بأن الحمل على الحقيقة الشرعيّة مقدّمٌ على اللغويّة اتفاقًا. وأجاب عن قول ابن عمر: "حسبت عليّ بتطليقة" بأنه لم يُصرّح بمن حسبها عليه، ولا حجة في أحد دون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وتُعُقّب بأن مثل قول الصحابيّ:"أمرنا في عهد رسول اللَّه بكذا"، فإنه ينصرف إلى من له الأمر حينئذ، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم، كذا قال بعض الشرّاح. قال الحافظ: وعندي أنه لا ينبغي أن يجيء فيه الخلاف الذي في قول الصحابيّ: أمرنا بكذا، فإن ذلك محلّه حيث يكون اطلاع النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك ليس صريحًا، وليس كذلك في قصّة ابن عمر هذه، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الآمر بالمراجعة، وهو المرشد لابن عمر فيما يَفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك، وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حُسبت عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذي حسبها غير النبيّ صلى الله عليه وسلم بعيدًا جدًّا مع احتفاف القرائن في هذه القصّة بذلك، وكيف يتخيّل أن ابن عمر يفعل في القصّة شيئًا برأيه، وهو ينقل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تغيّظ من صنيعه، كيف لم يشاوره فيما يفعل في القصّة المذكورة. وقد أخرج ابن وهب في "مسنده" عن ابن أبي ذئب أن نافعًا أخبره:"أن ابن عمر طلّق امرأته، وهي حائض، فسأل عمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: مره، فليُراجعها، ثم يُمسكها حتى تطهر"، قال ابن أبي ذئب في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وهي واحدة" قال ابن أبي ذئب: وحدّثني حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع سالمًا يُحدّث، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك. وأخرجه الدارقطنيّ من طريق يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، وابن إسحاق جميعًا، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"هي واحدة"، وهذا نصٌّ في موضع الخلاف، فيجب المصير إليه.
وأورده بعض العلماء على ابن حزم، فأجابه بأن قوله:"هي واحدة" لعله ليس من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فألزمه بأنه نقض أصله لأن الأصل لا يدفع بالاحتمال. وعند الدارقطنيّ في رواية شعبة، عن أنس بن سيرين، عن ابن عمر في القصّة:"فقال عمر: يا رسول اللَّه، أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال: نعم". ورجاله إلى شعبة ثقات. وعنده من طريق سعيد بن عبد الرحمن الْجُمَحيّ، عن عُبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رجلاً قال: إني طلّقت امرأتي البتّةَ، وهي حائضٌ، فقال: عصيت ربّك، وفارقت امرأتك، قال: فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر أن يراجعها بطلاق بقي له، وأنت لم تُبق ما ترتجع به امرأتك". وفي هذا السياق ردٌّ على من حمل الرجعة في قصّة ابن عمر على المعنى اللغويّ. وقد وافق ابنَ حزم على ذلك من المتأخّرين ابنُ تيميّةَ، وله كلام طويلٌ في تقرير ذلك، والانتصار له، وأعظم ما احتجّوا به ما وقع في رواية أبي الزبير، عن ابن عمر عند مسلم، وأبي داود، والنسائيّ، وفيه: فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليُراجعها،
فردّها، وقال: إذا طهرت فليُطلّق، أو يمسك"، لفظ مسلم، وللنسائيّ، وأبي داود: "فردّها عليّ"، زاد أبو داود: "ولم يرها شيئًا"، وإسناده على شرط الصحيح، فإن مسلمًا أخرجه من رواية حجاج بن محمد، عن ابن جريج، وساقه على لفظه، ثم أخرجه من رواية أبي عاصم، عنه، وقال: نحو هذه القصّة، ثم أخرجه من رواية عبد الرزّاق، عن ابن جريج، قال: مثل حديث حجاج، وفيه بعض الزيادة، فأشار إلى هذه الزيادة، ولعلّه طوى ذكرها عمدًا. وقد أخرج أحمد الحديث عن رَوح بن عُبادة، عن ابن جريج، فذكرها، فلا يتخيّل انفراد عبد الرزّاق بها. قال أبو داود: روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة، وأحاديثهم كلّها على خلاف ما قال أبو الزبير. وقال ابن عبد البرّ: قوله: "ولم يرها شيئًا" منكرٌ، لم يقله غير أبي الزبير، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بمن هو أثبت منه، ولو صحّ فمعناه عندي -واللَّه أعلم-: ولم يرها شيئًا مستقيمًا؛ لكونها لم تقع على السنّة. وقال الخطّابيّ: قال أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثًا منكرًا من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه: ولم يرها شيئًا تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئًا جائزًا في السنّة، ماضيًا في الاختيار، وإن كان لازمًا له مع الكراهة.
ونقل البيهقيّ في "المعرفة" عن الشافعيّ أنه ذكر رواية أبي الزبير، فقال: نافعٌ أثبتُ من أبي الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا، وقد وافق نافعًا غيره من أهل الثبت، قال: وبسط الشافعيّ القول في ذلك، وحمل قوله:"لم يرها شيئًا" على أنه لم يعدّها شيئًا صوابًا غير خطإ، بل يؤمر صاحبه أن لا يقيم عليه؛ لأنه أمره بالمراجعة، ولو كان طلّقها طاهرًا لم يؤمر بذلك، فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله، أو أخطأ في جوابه: لم يصنع شيئًا، أي لم يصنع شيئًا صوابًا.
قال ابن عبد البرّ: واحتجّ بعض من ذهب إلى أن الطلاق لا يقع بما روي عن الشعبيّ، قال: إذا طلّق الرجل امرأته، وهي حائضٌ لم يعتدّ بها في قول ابن عمر. قال ابن عبد البرّ: وليس معناه ما ذهب إليه، وإنما معناه: لم تعتدّ المرأة بتلك الحيضة في العدّة، كما روي ذلك عنه منصوصَا أنه قال: يقع عليها الطلاق، ولا تعتدّ بتلك الحيضة انتهى.
وقد روى عبد الوهّاب الثقفيّ، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر نحوًا مما نقله ابن عبد البرّ، عن الشعبيّ، أخرجه ابن حزم بإسناد صحيح، والجواب عنه مثله. وروى سعيد بن منصور من طريق عبد اللَّه بن مالك، عن عمر أنه طلّق امرأته، وهي حائض، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ليس ذلك بشيء"، وهذه متابعات لأبي الزبير، إلا أنها قابلة للتأويل، وهو أولى من إلغاء الصريح في قول ابن عمر: إنها تحتسب عليه
بتطليقة. وهذا الجمع الذي ذكره ابن عبد البرّ وغيره يتعيّن، وهو أولى من تغليط بعض الثقات. وأما قول ابن عمر:"إنها حُسبت عليه بتطليقة"، فإنه وإن لم يُصرّح برفع ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن فيه تسليم أن ابن عمر قال: إنها حُسبت عليه، فكيف يجتمع مع هذا قوله: إنه لم يعتدّ بها، أو لم يرها شيئًا على المعنى الذي ذهب إليه المخالفون؟ لأنه إن جُعِل الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم لزم منه أن ابن عمر خالف ما حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه القصّة بخصوصها؛ لأنه قال: إنها حُسبت عليه بتطليقة، فيكون من حسبها عليه خالف كونه لم يرها شيئًا، وكيف يُظنّ به ذلك، مع اهتمامه، واهتمام أبيه بسؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليفعل ما يأمره به؟. وإن جُعل الضمير في "لم يعتدّ بها"، أو "لم يرها" لابن عمر لزم منه التناقض في القصّة الواحدة، فيفتقر إلى الترجيح، ولا شكّ أن الأخذ بما رواه الأكثر، والأحفظ أولى من مقابله عند تعذّر الجمع عند الجمهور. واللَّه أعلم.
واحتجّ ابن القيّم لترجيح ما ذهب إليه شيخه بأقيسة، ترجع إلى مسألة أن النهي يقتضي الفساد، فقال: الطلاق ينقسم إلى حلال وحرام، فالقياس أن حرامه باطلٌ، كالنكاح، وسائر العقود، وأيضًا فكما أن النهي يقتضي التحريم، فكذلك يقتضي الفساد، وأيضًا فهو طلاقٌ مَنَعَ منه الشرع، فأفاد منه عدم جواز إيقاعه، فكذلك يفيد عدم نفوذه، وإلا لم يكن للمنع فائدة؛ لأن الزوج لو وكّل رجلاً أن يطلّق امرأته على وجه، فطلّقها على غير الوجه المأذون فيه لم ينفذ، فكذلك لم يأذن الشارع للمكلّف في الطلاق إلا إذا كان مباحًا، فإذا طلّق طلاقًا محرّمًا لم يصحّ. وأيضًا فكلّ ما حرّمه اللَّه من العقود مطلوب الإعدام، فالحكم ببطلان ما حرّمه أقرب إلى تحصيل هذا المطلوب من تصحيحه" ومعلومٌ أن الحلال المأذون فيه ليس كالحرام الممنوع منه، ثم أطال من هذا الجنس بمعارضات كثيرة، لا تنهض مع التنصيص على صريح الأمر بالرجعة، فإنها فرع وقوع الطلاق على تصريح صاحب القصّة بانها حسبت عليه تطليقةٌ، والقياس في معارضة النصّ فاسد الاعتبار. واللَّه أعلم.
وقد عورض بقياس أحسن من قياسه، فقال ابن عبد البرّ: ليس الطلاق من أعمال البرّ التي يُتقرّب بها، وإنما هو إزالة عصمة فيها حقّ آدميّ، فكيفما أوقعه وقع، سواء أُجر في ذلك، أم أثم، ولو لزم المطيع، ولم يلزم العاصي لكان العاصي أخفّ حالاً من
المطيع.
ثم قال ابن القيّم: لم يَرِد التصريح بأن ابن عمر احتسب بتلك التطليقة إلا في رواية سعيد بن جبير عنه، عند البخاريّ، وليس فيها تصريحٌ بالرفع، قال: فانفراد سعيد بن جبير بذلك كانفراد أبي الزبير بقوله: "لم يرها شيئًا"، فإما أن يتساقطا، وإما أن ترجّحوا
رواية أبي الزبير؛ لتصريحها بالرفع، وتُحمل رواية سعيد بن جبير على أن أباه هو الذي حسبها عليه بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ألزم الناس فيه بالطلاق الثلاث، بعد أن كانوا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يحتسب عليهم به ثلاثًا، إذا كان بلفظ واحد.
قال الحافظ: وغفل رحمه الله عما ثبت في "صحيح مسلم" من رواية أنس بن سيرين على وفاق ما روى سعيد بن جبير، وفي سياقه ما يُشعر بأنه إنما راجعها في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولفظه:"سألت ابن عمر عن امرأته التي طلّق، فقال: طلّقتها، وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "مره فليراجعها، فإذا طهرت، فليُطلّقها لطهرها، قال: فراجعتها، ثم طلّقتها لطهرها، قلت: فاعتددت بتلك التطليقة، وهي حائض؟ فقال: ما لي لا أعتدّ بها، وإن كنت عجزت، واستحمقت". وعند مسلم أيضًا من طريق ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، عن سالم في حديث الباب: "وكان عبد اللَّه بن عمر طلّقها تطليقة، فحسبت من طلاقها، فراجعها كما أمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، وله من رواية الزبيديّ، عن ابن شهاب "قال ابن عمر: فراجعتها، وحسبت لها التطليقة التي طلّقتها"، وعند الشافعيّ عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج "أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه، هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم".
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فقد أجاد الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في هذا التحرير والتقرير الذي ساقه في هذه المسألة، من الروايات المختلفة فيها، والتوفيق بينها بما ساقه من أقوال أهل العلم، فتبيّن بذلك أن الحقّ ما ذهب إليه الجمهور من وقوع الطلاق في حالة الحيض، مع كونه مخالفًا للسنّة.
ولقد أجاد البحث الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه اللَّه تعالى في كتابه "إرواء الغليل" حيث استوفى معظم الروايات المختلفة لحديث ابن عمر هذا، وتكلّم عليها بكلام مفصّل نفيس جدًّا، ثم قال في آخر بحثه:
فإذا نظر المتأمل في طرق هذين القسمين، وفي ألفاظهما تبيّن له بوضوح لا غُموض فيه أرجحية القسم الأول -يعني الاعتداد بتلك التطليقة- على الآخر -يعني عدم الاعتداد بها- وذلك لوجهين:
(الأول): كثرة الطرق، فإنها ستة: ثلاث منها مرفوعة، وثلاث أخرى موقوفة، واثنان من الثلاث الأولى صحيحةٌ، والأخرى ضعيفة. وأما القسم الآخر، فكلّ طرقه ثلاث: اثنان منها صحيحة أيضًا، والأخرى ضعيفة، فتقابلت المرفوعات في القسمين قوّةً وضعفًا، وبقي في القسم الأول الموقوفات الثلاث فضلة، يترجّح بها على القسم الآخر، لا سيّما وهي في حكم المرفوع؛ لأن معناها أن عبد اللَّه بن عمر عمل بما في
المرفوع، فلا شكّ أن ذلك مما يعطي المرفوع قوّةَ على قوّة كما هو ظاهر.
(والوجه الآخر): قوّة دلالة القسم الأول على المراد دلالة صريحةً لا تقبل التأويل، بخلاف القسم الآخر، فهو ممكن التأويل بمثل قول الإمام الشافعيّ:"ولم يرها شيئًا" أي صوابًا، وليس نصًّا في أنه لم يرها طلاقًا، بخلاف القسم الأول، فهو نصّ في أنه رآها طلاقًا، فوجب تقديمه على القسم الآخر، وقد اعترف ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- بهذا، ولكنه شكّ في صحّة المرفوع من هذا القسم، فقال: وأما قوله في حديث ابن وهب، عن ابن أبي ذئب في آخره:"وهي واحدة" فلعمر اللَّه، لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما قدّمنا عليها شيئًا، ولصرنا إليها بأول وهلة، ولكن لا ندري أقالها ابن وهب من عنده، أم ابن أبي ذئب، أو نافع، فلا يجوز أن يضاف إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
ما لا يُتيقّن أنه من كلامه، ويشهد به عليه، ونرتّب عليه الأحكام، ويقال: هذا من عند اللَّه بالوهم والاحتمال.
قال الشيخ الألباني: وفي هذا الكلام صواب وخطأ.
أما الصواب هو اعترافه يكون هذه اللفظة نصًّا في المسألة يجب التسليم بها، والمصير إليها لو صحّت.
وأما الخطأ فهو تشككه في صحتها، وردّه لها بدعوى أنه لا يدري أقالها ابن وهب من عنده
…
وهذا شيء عجيب من مثله؛ لأن من المتّفق عليه بين العلماء أن الأصل قبول رواية الثقة كما رواها، وأنه لا يجوز ردّها بالاحتمالات والتشكيك، وأن طريق المعرفة هو التصديق بخبر الثقة، ألا ترى أنه يمكن للمخالف لابن القيّم أن يردّ حديثه "فردّها عليّ، ولم يرها شيئًا" بمثل الشكّ الذي أورده هو على حديث ابن وهب بالطعن في أبي الزبير، ونحو ذلك من الشكوك، وقد فعل ذلك بعض المتقدمين كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك، وكلّ ذلك مخالفٌ للنهج العلميّ المجرد عن الانتصار لشيىء سوى الحقّ.
على أن ابن وهب لم يتفرّد بإخراج الحديث، بل تابعه الطيالسيّ، كما تقدّم، فقال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه طلّق امرأته، وهي حائضٌ، فأتى عمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فجعله واحدة". وتابعه أيضًا يزيد بن هارون، نا ابن أبي ذئب به. أخرجه الدارقطنيّ من طريق محمد بن إشكاب، وهو ثقة من شيوخ البخاريّ،- وكذا بقية الرجال ثقات- نا يزيد بن هارون. وتابع ابنَ أبي ذئب ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: واحدة". أخرجه الدارقطنيّ أيضًا، عن عياش ابن محمد، وهو ثقة، نا أبو عاصم، عن ابن جريج، وهو إسناد صحيح، إن كان ابن
جريج سمعه من نافع. وتابع نافعًا الشعبيّ بلفط أنه صلى الله عليه وسلم قال: ثم يحتسب بالتطليقة التي طلّق أول مرّة، وهو صحيح السند، كما تقدّم.
وكلّ هذه الرويات مما لم يقف عليها ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-، وظني أنه لو وقف عليها لتبدّد الشكّ الذي أبداه في رواية ابن وهب، ولصار إلى القول بما دلّ عليه الحديث من الاعتداد بطلاق الحائض. انتهى كلام الشيخ الألباني باختصار
(1)
. وهو تحقيقٌ مهتم، ونفيس جدًّا.
وخلاصة القول في المسألة أن الصحيح قول الجمهور الذين قالوا: إن طلاق الحائض يقع، دوان كان حرامًا؛ لوضوح أدلّته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
3428 -
(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ: أَتَعْرِفُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ؟ فَإِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَسْأَلُهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ عِدَّتَهَا، قُلْتُ: لَهُ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، أَيَعْتَدُّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ، فَقَالَ: مَهْ، وَإِنْ عَجَزَ، وَاسْتَحْمَقَ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
و"يعقوب بن إبراهيم": هو الدورقيّ، أبو يوسف البغداديّ الحافظ. و"يونس" هو ابن عُبيد بن دينار العبديّ البصريّ. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
6 - (الثَّلَاثُ الْمَجْمُوعَةُ، وَمَا فِيهِ مِنَ التَّغْلِيظِ)
3429 -
(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ، قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، ثَلَاثَ
(1)
"إرواء الغليل" 7/ 133 - 135.
تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ غَضْبَانًا، ثُمَّ قَالَ:«أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» ، حَتَّى قَامَ رَجُلٌ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا أَقْتُلُهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سليمان بن داود) أبو الربيع المهريّ، ابن أخي رِشْدِين سعد المصريّ، ثقة [11] 63/ 79.
2 -
(ابن وهب) عبد اللَّه، أبو محمد المصريّ، ثقة حافظ عابد [9] /9/ 9.
3 -
(مخرمة) بن بكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ، أبو المِسْور المدنيّ، صدوق، [7]
28/ 438.
4 -
(أبوه) بكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ المدنيّ، نزيل مصر، ثقة [5] 135/ 211.
5 -
(محمود بن لَبيد) الأوسيّ الأشهليّ، أبو نعيم المدنيّ، صحابيّ صغير، جلّ روايته عن الصحابة، مات سنة (96) وقيل:(7)، وله (99) سنة، وتقدّمت ترجمته في 28/ 548. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، وشيخ شيخه، فمصريّان. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن محمود بن لَبيد - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه (قال: أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول (عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتِ جَمِيعًا) أي مجموعةً مرّة واحدةً (فَقَامَ غَضْبَانًا) هكذا النسخ منصرفًا، وحقه أن يمنع من الصرف؛ للوصفيّة وزيادة الألف والنون، مع أن مؤنّثه لا يختم بالتاء، فلا يقال: غضبانة، بل يقال: غَضْبَى، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
وَزَائِدَا فَعْلَانَ فِي وَصْفٍ سَلِمْ
…
مِنْ أَنَّ يُرَى بِتَاءِ تَأْنِيثٍ خُتِمْ
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ) يحتمل أن يكون الفعل مبنيًّا للفاعل، والفاعل ضمير الرجل المطلّق، ويحتملَ أن يكون مبنيًّا للمفعول (وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُركُمْ) جملة في محلّ نصب على الحال. والمراد من كتاب اللَّه قوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} إلى قوله: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} ، فإن معناه: التطليق الشرعيّ تطليقةٌ بعد تطليقة، على التفريق، دون الجمع، والإرسال مرّة واحدةً، ولم يرد بالمرّتين التثنية، ومثله قوله
تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} ، أي كرّة بعد كرّة، لا كرّتين اثنين. ومعنى قوله:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} تخيير لهم بعد أن عَلَّمَهُم كيف يُطَلِّقون بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة، والقيام بواجبهنّ، وبين أن يُسَرِّحوهنّ السَّرَاح الجميل الذي علّمهم. والحكمة في التفريق، دون الجمع ما بُيّنت في قوله تعالى:{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} أي قد يقلب اللَّه تعالى قلب الزوج بعد الطلاق من بغضها إلى محبّتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة إمضاء الطلاق إلى الندم عليه، فيراجعها. أفاده الطيبيّ
(1)
.
وقوله: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} أي بالجمع بين الثلاث، والزيادة عليها، فكلاهما لعبٌ، واستهزاءٌ، والجدّ والعزيمة أن يُطلّق واحدةً، وإن أراد الثلاث ينبغي أن يفرّق. قاله السنديّ
(2)
.
(حَتَّى قَامَ رَجُلٌ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَقْتُلُهُ) أي لأن اللعب بكتاب اللَّه كفر، ولم يرد أن المقصود الزجر والتوبيخ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث محمود بن لبيد - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا ضعيف؟ لعلّتين:
(أحدهما): كون مخرمة لم يسمع من أبيه، وإنما يحدّث من كتابه، فقد صرّح بذلك أحمد، وابن معين، وابن المدينيّ، وابن حبّان. انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب"
(3)
، وغيره.
وقد تفرّد بهذا الحديث، قال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "الكبرى": لا أعلم أحدًا روى هذا الحديث غير مخرمة انتهى
(4)
.
(الثاني): أن محمود بن لَبيد لم يسمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما وُلد في عهده صلى الله عليه وسلم. انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب"
(5)
أيضًا.
وقال الحافظ في "الفتح": الحديث أخرجه النسائيّ، ورجاله ثقات، لكن محمود ابن لبيد وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضهم في
(1)
راجع "شرح الطيبيّ على المشكاة" 6/ 332 - 333.
(2)
"شرح السنديّ" 6/ 142 - 143.
(3)
"تهذيب التهذيب" 4/ 39 - 40.
(4)
راجع "السنن الكبرى" للمصنّف 3/ 349 رقم 5594.
(5)
"تهذيب التهذيب" 4/ 37.
الصحابة؛ فلأجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في "مسنده"، وأخرج له عدّة أحاديث، ليس فيها شيء صرّح فيه بالسماع. قال: ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدّة أحاديث، وقد قيل: لم يسمع من أبيه انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
****
7 - (بَابُ الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ)
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على جواز إيقاع الطلاق الثلاث مجموعة بلفظ واحد.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: محلّ استدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- من حديث سهل بن سعد - رضي اللَّه تعالى عنهما - في قصّة المتلاعنين، قوله:"فطلّقها ثلاثًا، قبل أن يأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، ووجه الاستدلال منه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سمع طلاق الرجل ثلاثًا بلفظ واحد، فلم ينكر ذلك عليه، فدلّ على جواز إيقاع الثلاث.
وتُعُقّب هذا بأن المفارقة في الملاعنة إنما هي بنفس اللعان، فلم يُصادف تطليقه إياها ثلاثًا موقعًا.
وأجيب بأن الاحتجاج به من كون النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُنكر عليه إيقاع الثلاث مجموعة، فلو كان ممنوعًا لأنكره عليه، وإن وقعت الفرقة بنفس اللعان. أفاده في "الفتح"
(2)
.
وأما استدلاله بحديث فاطمة بنت قيس - رضي اللَّه تعالى عنها - ففيه نظرٌ لا يخفى؛ لأن الصحيح أن المراد بثلاث تطليقات آخر الطلقات الثلاث، لا أنه طلّقها ثلاثًا مجموعة، بدليل الروايات الأخرى التي تبيّن أنه إنما طلّقها طلقة واحدة، بقيت لها من ثلاث تطليقات، كما سبق تحقيق ذلك في -8/ 3223 - "تزويج المولى العربيّة"، فقد ساقه المصنّف هناك، وفيه: "وأرسل إليها بتطديقة، هي بقيّة طلاقها
…
" الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه مهم]: اعلم أن غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا الباب إجازة الطلقات الثلاث المجموعة، وأنها واقعة، وقد ترجم الإمام البخاريّ لذلك في "صحيحه"،
(1)
"فتح" 10/ 455.
(2)
راجع "الفتح" 10/ 461.
بقوله: "باب من أجاز طلاق الثلاث؛ لقول اللَّه تعالى: "الطلاق مرّتان، فإمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان".
فقال في "الفتح": وفي الترجمة إشارة إلى أن من السلف من لم يُجز وقوع الطلاق الثلاث، فيحتمل أن يكون مراده بالمنع من كره البينونة الكبرى، وهي بإيقاع الثلاث أعمّ من أن تكون مجموعة، أو مفرّقة، ويمكن أن يُتَمَسَّكَ له بحديث:"أبغض الحلال إلى اللَّه الطلاق"
(1)
، وقد تقدّم في أوائل الطلاق. وأخرج سعيد بن منصور، عن أنس:"أن عمر كان إذا أُتي برجل طلّق امرأته ثلاثًا أوجع ظهره"، وسنده صحيح. ويحتمل أن يكون مراده بعدم الجواز من قال: لا يقع الطلاق إذا أوقعها مجموعة للنهي عنه، وهو قول الشيعة، وبعض أهل الظاهر، وطرد بعضهم ذلك في كلّ طلاق منهيّ، كطلاق الحائض، وهو شذوذٌ. وذهب كثير منهم إلى وقوعه مع منع جوازه، واحتجّ له بعضهم بحديث محمود بن لبيد
…
يعني الحديث المذكور في الباب الماضي، ثم قال بعد أن ذكر أن فيه انقطاعًا: وعلى تقدير صحة حديث محمود، فليس فيه بيان أنه هل أمضى عليه الثلاث مع إنكاره عليه إيقاعها مجموعة، أو لا؟، فأقلّ أحواله أن يدلّ على تحريم ذلك، وإن لزم، وقد تقدّم في
الكلام على حديث ابن عمر في طلاق الحائض: أنه قال لمن طلّق ثلاثًا مجموعة: "عصيت ربّك، وبانت منك امرأتك"، وله ألفاظ أخرى، نحو هذه عند عبد الرزاق وغيره. وأخرج أبو داود بسند صحيح من طريق مجاهد، قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجلٌ، فقال: إنه طلّق امرأته ثلاثًا، فسكت حتى ظننت أنه سيردّها إليه، فقال: ينطلق أحدكم، فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عبّاس، إن اللَّه قال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} ، وإنك لم تتّق اللَّه، فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربّك، وبانت منك امرأتك". وأخرج أبو داود له متابعات، عن ابن عبّاس بنحوه.
ومن القائلين بالتحريم واللزوم من قال: إذا طلّق ثلاثًا مجموعة وقعت واحدةً، وهو قول محمد بن إسحاق، صاحب "المغازي"، واحتجّ بما رواه عن داود الحُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طلّق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله النبيّ صلى الله عليه وسلم "كيف طلّقتها؟ " قال: ثلاثًا في مجلس واحد، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما تلك واحدة، فارتَجِعْهَا إن شئت"، فارتَجًعَها. وأخرجه أحمد، وأبو يعلى، وصححه من طريق محمد بن إسحاق.
وهذا الحديث نصّ في المسألة، لا يقبل التأويل الذي في غيره من الروايات الآتي ذكرها.
(1)
تقدّم أنه حديث ضعيف.
وقد أجابوا عنه بأربعة أشياء:
(أحدها): أن محمد بن إسحاق، وشيخه مختلفٌ فيهما. وأجيب بأنهم احتجّوا في عدّة من الأحكام بمثل هذا الإسناد، كحديث:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ردّ على أبي العاص بن الربيع زينب ابنته بالنكاح الأول"، وليس كلّ مختلف فيه مردودًا.
(الثاني): معارضته بفتوى ابن عبّاس بوقوع الثلاث، كما تقدّم من رواية مجاهد وغيره، فلا يُظنّ بابن عبّاس أنه كان عنده هذا الحكم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم يفتي بخلافه، إلا بمرجّح ظهر له، وراوي الخبر أخبر من غيره بما روى.
وأجيب بأن الاعتبار برواية الراوي، لا برأيه؛ لما يطرأ رأيه من احتمال النسيان وغير ذلك. وأما كونه تمسّك بمرجّح، فلم ينحصر في المرفوع؛ لاحتمال التمسّك بتخصيص، أو تقييد، أو تأويل، وليس قول مجتهد حجةٌ على مجتهد آخر.
(الثالث): أن أبا داود رجّح أن ركانة إنما طلّق امرأته البتّة، كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة، وهو تعليلٌ قويّ؛ لجواز أن يكون بعض رواته حمل البتّة على الثلاث، فقال: طلّقها ثلاثًا، فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عبّاس.
(الرابع): أنه مذهب شاذّ، فلا يُعمل به. وأجيب بأنه نُقل عن عليّ، وابن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير مثله، نقل ذلك ابن مغيث في "كتاب الوثائق" له، وعزاه لمحمد بن وضّاح. ونقل الغنويّ ذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة، كمحمد بن بقيّ بن مَخْلَد، ومحمد بن عبد السلام الْخُشَنيّ، وغيرهما، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس، كعطاء، وطاوس، وعمرو بن دينار. ويُتعجّب من ابن التين حيث جزم بأن لزوم الثلاث لا اختلاف فيه، وإنما الاختلاف في التحريم، مع ثبوت
الاختلاف كما ترى.
ويقوّي حديث ابن إسحاق المذكور ما أخرجه مسلم من طريق عبد الرزّاق، عن معمر، عن عبد اللَّه بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال:"كان الطلاق على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدةً، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم"، ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تجُعل واحدة على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وثلاثًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم"، ومن طريق حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس: "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واحدةً؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر
تتابع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم". وهذه الطريقة الأخيرة أخرجها أبو داود، ولكن لم يسمّ إبراهيم بن ميسرة، وقال بدله: "عن غير واحد"، ولفظ المتن: "أما علمت أن الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة
…
" الحديث.
فتمسّك بهذا السياق من أعلّ الحديث، وقال: إنما قال ابن عباس ذلك في غير المدخول بها. وهذا أحد الأجوبة عن هذا الحديث، وهي متعدّدة، وهو الذي رجّحه النسائيّ، حيث بوّب الباب التالي، فقال:"باب طلاق الثلاث المتفرّقة قبل الدخول بالزوجة"، وهو جواب إسحاق بن راهويه، وجماعة، وبه جزم زكريا الساجيّ من الشافعيّة، ووجّهوه بأن غير المدخول بها تَبِينُ إذا قال لها زوجها: أنت طالق، فإذا قال: ثلاثًا لغا العدد؛ لوقوعه بعد البينونة.
وتعقّبه القرطبيّ بأن قوله: أنت طالق ثلاثًا كلام متّصلٌ غير منفصل، فكيفَ يصحّ جعله كلمتين، وتُعطى كلّ كلمة حكمًا؟. وقال النوويّ: أنت طالقٌ معناه أنت ذات الطلاق، وهذا اللفظ يصحّ تفسيره بالواحدة، وبالثلاث، وغير ذلك.
(الجواب الثاني): دعوى شذوذ رواية طاوس، وهي طريقة البيهقيّ، فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاث، ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظنّ بابن عباس أنه يحفظ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، ويفتي بخلافه، فيتعيّن المصير إلى الترجيح، والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم. وقال ابن العربيّ: هذا حديث مختلف في صحته، فكيف يقدّم على الإجماع؟ قال: ويعارضه حديث محمود بن لبيد -يعني الذي أخرجه النسائيّ في الباب الماضي- فإن فيه التصريح بأن الرجل طلّق ثلاثًا مجموعة، ولم يرده النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل أمضاه، كذا قال، وليس في سياق الخبر تعرّض لإمضاء ذلك، ولا لردّه.
(الجواب الثالث): دعوى النسخ، فنقل البيهقيّ عن الشافعيّ أنه قال: يشبه أن يكون ابن عباس علم شيئًا نسخ ذلك، قال البيهقيّ: وُيقوّيه ما أخرجه أبو داود من طريق يزيد النحويّ، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان الرجل إذا طلّق امرأته فهو أحقّ برجعتها، وإن طلّقها ثلاثًا، فنُسِخَ ذلك.
وقد أنكر المازريّ ادّعاء النسخ، فقال: زعم بعضهم أن هذا الحكم منسوخٌ، وهو غلط، فإن عمر لا يَنسخ، ولو نَسَخ -وحاشاه- لبادر الصحابة إلى إنكاره، وإن أراد القائل أنه نُسخ في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا يمتنع، لكن يخرج عن ظاهر الحديث؛ لأنه لو كان كذلك لم يجز للراوي أن يخبر ببقاء الحكم في خلافة أبي بكر، وبعض خلافة عمر.
[فإن قيل]: فقد
(1)
يُجمِعُ الصحابة، ويقبل منهم ذلك. [قلنا]: إنما يقبل ذلك؛ لأنه يُستَدلّ بإجماعهم على ناسخ، وأما أنهم يَنسخون من تلقاء أنفسهم، فمعاذ اللَّه؛ لأنه إجماعْ على الخطإ، وهم معصومون عن ذلك.
[فإن قيل]: فلعلّ النسخ إنما ظهر في زمن عمر رضي الله عنه. [قلنا]: هذا أيضًا غلطٌ؛ لأنه يكون قد حصل الإجماع على الخطإ في زمن أبي بكر، وليس انقراض العصر شرطًا في صّحة الإجماع على الراجح.
قال الحافظ: نقل النوويّ هذا الفصل في "شرح مسلم"، وأقرّه، وهو متَعَقَّبٌ في مواضع:[أحدها]: أن الذي ادّعى نسخ الحكم لم يقُل: إن عمر هو الذي نَسَخَ حتى يلزم منه ما ذُكِرَ، وإنما قال: ما تقدّم يشبه أن يكون علم شيئًا من ذلك نسخ، أي اطّلع على ناسخ للحكم الذي رواه مرفوعًا، ولذلك أفتى بخلافه. وقد سَلَّم المازريّ في أثناء كلامه أن إجماعهم يدلّ على ناسخ، وهذا هو مراد من ادّعى النسخ.
[الثاني]: إنكاره الخروج عن الظاهر عجيبٌ، فإن الذي يُحاول الجمع بالتأويل يرتكب خلاف الظاهر حتمًا. [الثالث]: أن تغليطه من قال: المراد ظهور النسخ عجيبٌ أيضًا؛ لأن المراد بظهوره انتشاره، وكلام ابن عباس أنه كان يُفعل في زمن أبي بكر محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ، فلا يلزم ما ذُكر من إجماعهم على الخطإ. وما أشار إليه من مسألة انقراض العصر لا يجيء هنا؛ لأن عصر الصحابة لم ينقرض في زمن أبي بكر، بل ولا عمر؛ فإن المراد بالعصر الطبقة من المجتهدين، وهم في زمن أبي بكر وعمر، بل وبعدهما طبقة واحدة.
[الجواب الرابع]: دعوى الاضطراب، قال القرطبيّ في "المفهم": وقع فيه مع الاختلاف على ابن عباس الاضطراب في لفظه، وظاهر سياقه يقتضي النقل عن جميعهم وأن معظمهم كانوا يرون ذلك، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم، وينتشر، فكيف ينفرد به واحد عن واحد؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقّف عن العمل بظاهره، إن لم يقتض القطع ببطلانه.
[الجواب الخامس]: دعوى أنه ورد في صورة خاصّة، فقال ابن سُريج وغيره: يُشبه أن يكون ورد في تكرير اللفظ، كأن يقول: أنت طالقٌ، أنت طالقٌ، أنت طالقٌ، وكانوا أوّلاً على سلامة صدورهم يُقبل منهم أنهم أرادوا التأكيد، فلما كثُر الناس في زمن عمر، وكثُر فيهم الخداع، ونحوه، مما يمنع قبول من ادّعى التأكيد حمل عمرُ اللفظ على
(1)
هكذا النسخة، ولعل الصواب:"فكيف"؟، فليحرّر.
ظاهر التكرار، فأمضاه عليهم.
وهذا الجواب ارتضاه القرطبيّ، وقوّاه بقول عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، وكذا قال النوويّ: إن هذا أصحّ الأجوبة.
[الجواب السادس]: تأويل قوله: "واحدة"، وهو أن معنى قوله:"كان الثلاث واحدةً" أن الناس في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يُطلقون واحدةً، فلما كان زمن عمر كانوا يُطلّقون ثلاثًا، ومُحَصَّله أن المعنى أن الطلاق الموقع في عهد عمر ثلاثًا، كان يوقع قبل ذلك واحدةً؛ لأنهم كانوا لا يستعملون الثلاث أصلاً، أو كانوا يستعملونها نادرًا، وأما في عصر عمر، فكثُر استعمالهم لها، ومعنى قوله: فأمضاه عليهم، وأجازه، وغير ذلك أنه صنع فيه من الحكم بإيقاع الطلاق ما كان يصنع قبله. ورجّح هذا التأويل ابن العربيّ، ونسبه إلى أبي زرعة الرازيّ، وكذا أورده البيهقيّ بإسناده الصحيح إلى أبي زرعة أنه قال: معنى هذا الحديث عندي أن ما تطلّقون أنتم ثلاثًا، كانوا يطلّقون واحدةً. قال النوويّ: وعلى هذا فيكون الخبر وقع عن اختلاف عادة الناس خاصّة، لا عن تغيّر الحكم في الواحدة. فاللَّه أعلم.
[الجواب السابع]: دعوى وقفه، فقال بعضهم: ليس في هذا السياق أن ذلك كان يبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيُقرّه، والحجّة إنما هو في تقريره. وتُعُقّب بأن قول الصحابيّ: "كنا نفعل كذا في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حكم الرفع على الراجح؛ حملاً على أنه اطّلع على ذلك، فأقرّه؛ لتوفّر دواعيهم على السؤال عن جليل الأحكام وحقيرها.
[الجواب الثامن]: حمل قوله: "ثلاثًا" على أن المراد بها لفظ البتّة، كما تقدّم في حديث ركانة سواءً، وهو من رواية ابن عباس أيضًا، قال الحافظ: وهو قويّ، ويؤيّده إدخال البخاريّ في هذا الباب الآثار التي فيها البتّة، والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما، وأن البتّة إذا أطلقت حمل على الثلاث إلا إن أراد المطلق واحدة، فيقبل، فكأن بعض رواته حمل لفظ البتّة على الثلاث لاشتهار التسوية بينهما، فرواها بلفظ الثلاث، وإنما المراد لفظ البتّة، وكانوا في العصر الأول يقبلون ممن قال: أردت بالبتة الواحدة، فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم.
قال القرطبيّ: وحجة الجمهور في اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدًّا، وهو أن المطلقة ثلاثًا، لا تحلّ للمطلّق حتى تنكح زوجًا غيره، ولا فرق بين مجموعها، ومفرّقها لغة وشرعًا، وما يتخيّل من الفرق صوريّ ألغاه الشرع اتفاقًا في النكاح، والعتق، والأقارير، فلو قال الوليّ: أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد كما لو قال:
أنكحتك هذه، وهذه، وهذه، وكذا في العتق، والإقرار، وغير ذلك من الأحكام، واحتجّ من قال: إن الثلاث إذا وقعت مجموعة حملت على الواحدة بأن من قال: أحلف باللَّه ثلاثًا، لا يعد حلفه إلا يمينًا واحدة، فليكن المطلّق مثله. وتُعُقّب باختلاف الصيغتين، فإن المطلق ينشىء طلاق امرأته، وقد جعل أمد طلاقها ثلاثًا، فإذا قال: أنت طالق ثلاثًا، فكأنه قال: أنت طالق جميع الطلاق، وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه، فافترقا.
قال الحافظ: وفي الجملة، فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني قول جابر: إنها كانت تفعل في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها، فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة، وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدًا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دلّ إجماعهم على وجود ناسخ، وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق. واللَّه أعلم.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وبعد هذا كلّه، فالذي يظهر لي أن من ذهب إلى أن الطلاق الثلاث بكلمة واحدة يُحتسب طلقة واحدةً هو الصواب؛ لثلاثة أمور:
[أحدهما]: صحّة حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - المذكور، في الباب التالي، فإنه صريح في المسألة.
[الثاني]: حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال:
حدثنا سعد بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: طلّق رُكانة بن عبد يزيد، أخو المطّلب امرأته ثلاثا، في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كيف طلقتها؟ "، قال: طلقتها ثلاثا، قال: فقال: "في مجلس واحد؟ "، قال: نعم، قال:"فإنما تلك واحدة، فارجعها إن شئت"، قال: فرجعها، فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر.
فهذا الحديث رجاله ثقات، إلا أن في رواية داود بن الحصين، عن عكرمة كلامًا، لكن يؤيّده حديث ابن عبّاس السابق، فهذا الحديث نصّ في المسألة، لا يقبل التأويل، كما اعترف به الحافظ في كلامه السابق، وقد أجاب الحافظ عن الاعتراض التي أوردت عليه فيما تقدّم من كلامه، إلا اعتراضًا واحدًا، وهو ترجيح أبي داود لرواية "طلّق امرأته البتّة"، فإنه قواه.
فنقول في الجواب عنه: إن هذه الرواية التي فيها "البتّة" ضعيفة، فقد أخرجه أبو داود، والترمذيّ، من طريق جرير بن حازم، عن الزبير بن سعيد، عن عبد اللَّه بن عليّ بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده، أنه طلق امرأته البتة، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما أردت؟ "، قال: واحدة، قال:"آللَّه؟ "، قال: آللَّه، قال:"هو على ما أردت".
قال الترمذيّ بعد أن أخرجه: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسألت محمدًا -يعني البخاريّ- عن هذا الحديث، فقال فيه اضطراب انتهى. وفي إسناده الزبير بن سعيد الهاشميّ، فقد ضعّفه غير واحد. وقال عبد الحقّ الإشبيليّ في سنده: كلهم ضعيف، والزبير أضعفهم.
[الثالث]: أن أقوى ما استند إليه الجمهور هو دعوى الإجماع، كما ادعاه الحافظ، فيما سبق من كلامه، وهي دعوى غير صحيحة، فقد تقدّم في كلامه السابق ما يردّ عليه، حيث كان الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم والتابعين قائمًا مشهورًا، كما ذكر أنه منقول عن عليّ، وابن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وأصحاب ابن عباس، كعطاء، وطاوس، وعمرو بن دينار، وجماعة من مشايخ قرطبة، فأين الإجماع المزعوم؟ حتى يكون حجة ملزمة.
قال العلامة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- في "إعلام الموقّعين": وهذا خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والصحابة كلهم معه في عصره، وثلاث سنين من عصر عمر رضي الله عنه على هذا المذهب، فلو عدّهم العادّ بأسمائهم واحدًا بعد واحد لوجد أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة، إما بفتوى، وإما بإقرار عليها، ولو فرض فيهم من لم يكن يرى ذلك، فإنه لم يكن منكرًا للفتوى به، بل كانوا ما بين مُفتٍ، ومُقرّ بفتيا، وساكت غير منكر، وهذا حال كلّ صحابيّ من عهد الصدّيق صلى الله عليه وسلم إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، وهم يزيدون على الألف قطعًا، كما ذكر يونس بن بُكير، عن ابن إسحاق، وكلّ صحابيّ من لدن خلافة الصدّيق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، كان على أن الثلاث واحدة، فتوى، أو إقرار، أو سكوت، ولهذا ادّعى بعض أهل العلم أن هذا الإجماع قديم، ولم تجتمع الأمة -وللَّه الحمد- على خلافه، بل لم يزل فيهم من يُفتي به قرنًا بعد قرن، وإلى يومنا هذا، فأفتى به حبر الأمة عبد اللَّه بن عباس، وأفتى أيضًا بالثلاث، أفتى بهذا وبهذا، وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوّام، وعبد الرحمن بن عوف، حكاه عنهما ابن وضّاح، وعن عليّ، وابن مسعود روايتان، كما عن ابن عباس. وأما التابعون، فأفتى به عكرمة، وأفتى به طاوس. وأما تابعوا التابعين، فأفتى به محمد بن
إسحاق، حكاه الإمام أحمد، وغيره عنه، وأفتى به خلاس بن عمرو، والحارث العكليّ. وأما أتباع تابعي التابعين، فأفتى به داود بن عليّ، وأكثر أصحابه، حكاه عنهم ابن المغلس، وابن حزم، وغيرهما، وأفتى به بعض أصحاب مالك، حكاه التلمسانيّ في "شرح التفريع" لابن حلاب قولاً لبعض المالكيّة، وأفتى به بعض الحنفيّة، حكاه أبو بكر الرازيّ عن محمد بن مقاتل، وأفتى به بعض أصحاب أحمد، حكاه شيخ الإسلام ابن تيميّة عنه، قال: وكان الجد يفتي به أحيانًا انتهى كلام ابن القيّم في "إعلام الموقعين" 3/ 45 - 47.
وقال في "زاد المعاد" في معرض الردّ على أدلّة الجمهور: وأما تلك المسالك التي سلكتموها في حديث أبي الصهباء، فلا يصحّ شيء منها.
أما المسلك الأول، وهو انفراد مسلم بروايته، وإعراض البخاريّ عنه، فتلك شَكَاةٌ ظاهر عنه عارها، وما ضرّ ذلك الحديث انفراد مسلم به شيئًا، ثم هل تقبلون أنتم، أو أحد كمثل هذا في كلّ حديث ينفرد به مسلم عن البخاريّ، وهل قال البخاريّ قطّ: إن كلّ حديث لم أدخله في كتابي فهو باطلٌ، أو ليس بحجة، أو ضعيفٌ، وكم قد احتجّ البخاريّ بأحاديث خارج "الصحيح"، ليس لها ذكرٌ في "صحيحه"، وكم صحّح من حديث خارج عن "صحيحه"، فأما مخالفة سائر الروايات له عن ابن عباس، فلا ريب أن عن ابن عباس روايتين صحيحتين بلا شكّ: إحداهما توافق هذا الحديث، والأخرى تخالفه، فان أسقطنا رواية برواية سلم الحديث على أنه بحمد اللَّه سالم، ولو اتفقت الروايات عنه على مخالفته، فله أسوة أمثاله، وليس بأول حديث خالفه راويه، فنسألكم هل الأخذ بما رواه الصحابيّ عندكم، أو بما رآه؟، فإن قلتم: الأخذ بروايته، وهو قول جمهوركم، بل جمهور الأمة على هذا، كفيتمونا مؤونة الجواب. وإن قلتم: الأخذ برأيه، أريناكم من تناقضكم ما لا حيلة لكم في دفعه، ولا سيّما عن ابن عبّاس؛ فإنه روى حديث بَرِيرة، وتخميرها، ولم يكن بيعها طلاقًا، ورأى خلافه، وأن بيع الأمة طلاقها، فأخذتم، وأصبتم بروايته، وتركتم رأيه، فهلّا فعلتم ذلك فيما نحن فيه، وقلتم: الرواية معصومة، وقول الصحابيّ غير معصوم، ومخالفته لما رواه يحتمل احتمالات عديدة، من نسيان، أو تأويل، أو اعتقاد مُعارض راجح في ظنّه، أو اعتقاد أنه منسوخ، أو مخصوص، أو غير ذلك من الاحتمالات، فكيف يسوغ ترك روايته مع قيام هذه الاحتمالات؟ وهل هذا إلا ترك معلوم لمظنون، بل مجهول؟. قالوا: وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه حديثَ التسبيع من ولوغ الكلب، وأفتى بخلافه، فأخذتم بروايته، وتركتم فتواه. ولو تتبّعنا ما أخذتم فيه برواية الصحابيّ، دون فتواه لطال.
قالوا: وأما دعواكم نسخ الحديث، فموقوفةٌ على ثبوت معارض، مقاوم، متراخٍ، فأين هذا؟.
وأما حديث عكرمة، عن ابن عباس في نسخ المراجعة بعد الطلاق الثلاث، فلو صحّ، لم يكن فيه حجة، فإنه إنما فيه أن الرجل كان يطلّق امرأته، ويراجعها بغير عدد، فنُسخ ذلك، وقُصر على ثلاث، فيها تنقطع الرجعة، فأين في ذلك الإلزام بالثلاث بفم واحد، ثم كيف يستمرّ المنسوخ على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، ولا تعلم به الأمة، وهو من أهمّ الأمور المتعلقة بحلّ الفروج، ثم كيف يقول عمر: إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناةٌ، وهل للأمة أناة في المنسوخ بوجه ما؟، ثم كيف يُعارض الحديث الصحيح بهذا الذي فيه عليّ بن الحسين بن واقد، وضعفه معلوم.
وأما حملكم الحديث على قول المطلّق: أنت طالقٌ، أنت طالقٌ، أنت طالقٌ، ومقصوده التأكيد بما بعد الأول، فسياق الحديث من أوله إلى آخره يردّه، فإن هذا الذي أولتم الحديثَ عليه، لا يتغيّر بوفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا يختلف على عهده، وعهد خلفائه، وهلمّ جرًّا إلى آخر الدهر، ومن ينويه في قصد التأكيد، لا يفرّق بين بَرّ وفاجر، وصادق وكاذب، بل يردّه إلى نيته، وكذلك من لا يقبله في الحكم لا يقبله مطلقًا، برًّا كان، أو فاجرًا.
وأيضًا فإن قوله: "إن الناس قد استعجلوا، وتتايعوا في شيء كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم"، إخبار من عمر بأن الناس قد استعجلوا ما جعل اللَّه في فسحة منه، وشَرَعَه متراخيًا بعضه عن بعض رحمةً بهم، ورفقًا، وأناةً لهم؛ لئلا يندم مطلّقٌ، فيذهب حبيبه من يديه من أول وهلة، فيعزّ عليه تداركه، فجعل له أناةً، ومهلةً، يستعتبه فيها، ويرضيه، ويزول ما أحدثه العتب الداعي إلى الفراق، وُيراجع كلٌّ منهما الذي عليه بالمعروف، فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه أناةٌ ومهلةٌ، وأوقعوه بفم واحد، فرأى عمر رضي الله عنه أنه يلزمهم ما التزموه عقوبةً لهم، فإذا عَلِم المطلّق أن زوجته، وسكنه تحرم عليه من أول مرّة بجمعه الثلاث كفّ عنها، ورجع إلى الطلاق المشروع المأذون فيه، وكان هذا من تأديب عمر لرعيّته لما أكثروا من الطلاق الثلاث، كما سيأتي مزيد تقريره عند الاعتذار عن عمر رضي الله عنه في إلزامه بالثلاث، هذا وجه الحديث الذي لا وجه له غيره، فأين هذا من تأويلكم المستكره المستبعد الذي لا توافقه ألفاظ الحديث، بل تنبو عنه، وتنافره.
وأما قول من قال: إن معناه كان وقوع الطلاق الثلاث الآن على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -
واحدةً، فإن حقيقة هذا التأويل: كان الناس على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُطلّقون واحدةً، وعلى عهد عمر صاروا يطلّقون ثلاثًا، والتأويل إذا وصل إلى هذا الحدّ، كان من باب الإلغاز والتحريف، لا من باب بيان المراد، ولا يصحّ ذلك بوجه ما، فإن الناس ما زالوا يُطلّقون واحدة، وثلاثًا، وقد طلّق رجالٌ نساءهم على عهد رسول صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، فمنهم من ردّها إلى واحدة، كما في حديث عكرمة، عن ابن عباس، ومنهم من أنكر عليه، وغضب، وجعله متلاعبًا بكتاب اللَّه، ولم يُعرف ما حكم به عليهم، وفيهم من أقرّه لتأكيد التحريم الذي أوجبه اللعان، ومنهم من ألزمه بالثلاث؛ لكون ما أتى به من الطلاق آخر الثلاث، فلا يصحّ أن يقال: إن الناس ما زالوا يُطلّقون واحدةً إلى أثناء خلافة عمر، فطلَّقوا ثلاثًا، ولا يصحّ أن يقال: إنهم قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناةٌ، فنمضيه عديهم، ولا يلائم هذا الكلام الفرق بين عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبين عهده بوجه ما، فإنه ماض منكم على عهده، وبعد عهده.
ثم إن في بعض ألفاظ الحديث الصحيحة: "ألم تعلم أنه من طلّق ثلاثًا جُعلت واحدةً على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". وفي لفظ: "أما علمت أن الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدةً على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، فقال ابن عبّاس: بلى كان الرجل إذا طلّق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدةً على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر، قد ما رأى الناسَ -يعني عمر- قد تتابعوا فيها، قال: أجيزوهنّ عليهم". هذا لفظ الحديث، وهو بأصحّ إسناد
(1)
، وهو لايحتمل ما ذكرتم من التأويل بوجه ما، ولكن هذا كله عمل من جعل الأدلّة تبعا للمذهب، فاعتقد، ثم استدلّ، وأما من جعل المذهب تبعًا للدليل، واستدلّ، ثم اعتقد، لم يمكنه هذا العمل.
وأما قول من قال: ليس في الحديث بيان أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان هو الذي يجعل ذلك، ولا أنه علم به، وأقرّه عليه، فجوابه أن يقال سبحانك هذا بهتان عظيمٌ أن يستمرّ هذا الجعل الحرام المتضمّن لتغيير شرع اللَّه ودينه، وإباحة الفرج لمن هو عليه حرامٌ، وتحريمه على من هو عليه حلالٌ على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأصحابه خير الخلق، وهم يفعلونه، ولا يعلمونه، ولا يعلمه هو، والوحي ينزل عليه، وهو يقرّهم عليه، فهبْ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمه، وكان الصحابة يعلمونه، ويبدّلون دينه وشرعه، واللَّه يعلم ذلك، ولا يوحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يُعلمه به، ثم يتوفّى اللَّه رسوله صلى الله عليه وسلم، والأمر
(1)
قلت: التقييد بقبل الدخول لا يصحّ، فإنه أخرجه أبو داود، وقال في إسناده: عن أيوب، عن غير واحد، فشيوخ أيوب مجهولون. فتنبّه.
على ذلك، فيستمرّ هذا الضلال العظيم، والخطأ المبين عندكم مدّة خلافة الصدّيق كلّها، يُعمل به، ولا يُغيَّر إلى أن فارق الصّدّيق الدنيا، واستمرّ الخطأ، والضلال المركب صدرًا من خلافة عمر، حتى رأى بعد ذلك برأيه أن يُلزم الناس بالصواب، فهل في الجهل بالصحابة، وما كانوا عليه في عهد نبيّهم صلى الله عليه وسلم، وخلفائه أقبح من هذا، وتاللَّه لو كان جعل الثلاث واحدةً خطأً محضًا، لكان أسهل من هذا الخطأ الذي ارتكبتموه، والتأويل الذي تأوّلتموه، ولو تركتم المسألة بهيئتها، لكان أقوى لشأنها من هذه الأدلة والأجوبة.
قالوا: وليس التحاكم في هذه المسألة إلى مقلّد متعصّب، ولا هيّاب للجمهور، ولا مستوحش من التفرّد إذا كان الصواب في جانبه، وإنما التحاكم فيها إلى راسخ في العلم، قد طال فيه باعه، ورحُب بنيله ذراعه، وفرّق بين الشبهة والدليل، وتلقَّى الأحكام من نفس مشكاة الرسول، وعرف المراتب، وقام فيها بالواجب، وباشر قلبه أسرار الشريعة، وحِكَمَها الباهرة، وما تضمّنته من المصالح الباطنة والظاهرة، وخاض في مثل هذه المضايق لُججها، واستوفى من الجانبين حُججها، واللَّه المستعان، وعليه التكلان.
قالوا: وأما قولكم: إذا اختلفت علينا الأحاديث، نظرنا فيما عليه الصحابة رضي الله عنهم، فنعم واللَّه، وحَيَّهلَا ببرك الإسلام، وعصابة الإيمان.
فَلَا تَطَلّبْ لِيَ الأَعْوَاضَ بَعْدَهُمُ
…
فَإِنَّ قَلْبِيَ لَا يَرْضَى بِغَيْرِهِمُ
ولكن لا يليق بكم أن تدعونا إلى شيء، وتكونوا أول نافر عنه، ومخالف له، فقد توفّي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أكثر من مائة ألف عين كلّهم قد رآه، وسمع منه، فهل صحّ لكم عن هؤلاء كلهم، أو عشرهم، أو عشر عشرهم، أو عشر عشر عشرهم القول بلزوم الثلاث بفم واحدة؟ هذا ولو جهدتم كلّ الجهد لم تُطيقوا نقله عن عشرين نفسًا منهم أبدًا، مع اختلاف عنهم في ذلك، فقد صحّ عن ابن عباس القولان، وصحّ عن ابن مسعود القول باللزوم، وصحّ عنه التوقّف، ولو كاثرناكم بالصحابة الذين كان الثلاث على عهدهم واحدة، لكانوا أضعاف من نُقل عنه خلاف ذلك، ونحن نكاثركم بكلّ صحابيّ مات إلى صدر من خلافة عمر، ويكفينا مقدّمهم، وخيرهم، وأفضلهم، ومن كان معه من الصحابة على عهده، بل لو شئنا لقلنا، ولصدقنا: إن هذا كان إجماعًا قديمًا، لم يَختلف فيه على عهد الصّدّيق اثنان، ولكن لم ينقرض عصر المجمعين حتى حدث الاختلاف، فلم يستقرّ الإجماع الأول، حتى صار الصحابة على قولين، واستمرّ الخلاف بين الأمة في ذلك إلى اليوم.
ثم نقول: لم يخالف عمر إجماع من تقدمه، بل رأى إلزامهم بالثلاث عقوبة لهم لما علموا أنه حرام، وتتابعوا فيه، ولا ريب أن هذا سائغٌ للأئمة أن يُلزموا الناس بما ضيّقوا به على أنفسهم، ولم يَقبلوا فيه رخصة اللَّه عز وجل، وتسهيله، بل اختاروا الشدّة والعسر، فكيف بأمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وكمال نظره للأمة، وتأديبه لهم، ولكن العقوبة تختلف باختلاف الأزمنة والأشخاص، والتمكن من العلم بتحريم الفعل المعاقب عليه، وخفائه، وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لم يقل لهم: إن هذا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإنما هو رأيٌ رآه مصلحة للأمة، يكفّهم بها عن التسارع إلى إيقاع الثلاث، ولهذا قال:"فلو أمضيناه عليهم"، وفي لفظ آخر:"فأجيزوهنّ عليهم". أفلا يُرى أن هذا رأيٌ رآه للمصلحة، لا إخبارٌ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولما علم رضي الله عنه أن تلك الأناة، والرخصة نعمة من اللَّه على المطلّق، ورحمةٌ به، وإحسان إليه، وأنه قابلها بضدّها، ولم يقبل رخصة اللَّه، وما جعله له من الأناة عاقبه بأن حال بينه وبينها، وألزمه ما ألزمه من الشدّة والاستعجال، وهذا موافقٌ لقواعد الشريعة، بل هو موافقٌ لحكمة اللَّه في خلقه قدرًا وشرعًا، فإن الناس إذا تعدّوا حدوده، ولم يقفوا عندها، ضيّق عليهم ما جعله لمن اتقاه من المخرج، وقد أشار إلى هذا المعنى بعينه من قال من الصحابة للمطلّق ثلاثًا: إنك لو اتقيت اللَّه، لجعل لك مخرجًا، كما قاله ابن مسعود، وابن عباس، فهذا نظير أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة، لا أنه صلى الله عليه وسلم غيّر أحكام اللَّه، وجعل حلالها حرامًا، فهذا غاية التوفيق بين النصوص، وفعل أمير المؤمنين، ومن معه، وأنتم لم يمكنكم ذلك إلا بإلغاء أحد الجانبين، فهذا نهاية أقدام الفريقين في هذا المقام الضنك، والمعترك الصعب، وباللَّه تعالى التوفيق
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وبالجملة فينبغي لمن أراد تحقيق هذه المسألة مراجعة ما كتبه العلاّمة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- في "زاد المعاد" 5/ 247 - 271، و"إعلام الموقّعين" 3/ 30 - 40 - و"إغاثة اللَّهفان" ص 153 - 183. وكذا كلام شيخه شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه اللَّه تعالى- في "مجموع الفتاوى" 33/ 7 - 9 و 98/ 33.
والحاصل أن الحقّ أنَّ من قال لزوجته أنت طالق ثلاثًا بكلمة واحدة تُحتسب عليه طلقة واحدة، لا ثلاث تطليقات. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
3430 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ، جَاءَ إِلَى عَاصِمِ
(1)
راجع "زاد المعاد" 5/ 264 - 271
بْنِ عَدِيٍّ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ يَا عَاصِمُ، لَوْ أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيَقْتُلُهُ فَيَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ، رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ؟ فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ، وَعَابَهَا، حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ، مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ، جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ، فَقَالَ: يَا عَاصِمُ، مَاذَا قَالَ: لَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتَ
(1)
عَنْهَا، فَقَالَ: عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي، حَتَّى أَسْأَلَ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ، حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسَطَ النَّاسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ رَجُلاً، وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ نَزَلَ فِيكَ، وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَائْتِ بِهَا» ، قَالَ: سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا فَرَغَ عُوَيْمِرٌ، قَالَ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وسيأتي شرحه مستوفًى في أبواب اللعان، إن شاء اللَّه تعالى، وقد بينت أوّل الباب محلّ استدلال المصنّف منه، ووجه استدلاله به.
و"ابن القاسم": هو عبد الرحمن الْعُتَقيّ الفقيه المصريّ، صاحب مالك. و"مالك": هو ابن أنس إمام دار الهجرة.
وقوله: "فيقتلونه" أي المسلمون قصاصًا إن لم يأت بالشهود، وإن كان له ذلك عذرًا فيما بينه وبين اللَّه تعالى عند بعضهم، لكن لا يصدّق بمجرّد الدعوى في القضاء.
وقوله: "فكره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، كأنه صلى الله عليه وسلم ما اطّلع على وقوع الواقعة، فرأى البحث عن مثله قبل الوقوع من فضول العلم، مع أنه يُخلّ في البحث عن الضروريّ.
وقوله: "فتقتلونه" الخطاب للمسلمين، أو للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والجمع للتعظيم.
وقوله: "كذبتُ عليها إن أمسكتها" أي مقتضى ما جرى من اللعان أن لا أمسكها، إن كنت صادقًا فيما قلت، فإن أمسكتها، فكأني كنت كاذبًا فيما قلت، فلا يليق الإمساك.
والخلاف في أن اللعان هل يقع به التفريق، أم لا بدّ من حكم الحاكم، سيأتي في موضعه إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3431 -
(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ
(1)
وفي نسخة: "سألنه".
الأَحْمَسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، قَالَتْ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ
(1)
صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: أَنَا بِنْتُ آلِ خَالِدٍ، وَإِنَّ زَوْجِي فُلَانًا، أَرْسَلَ إِلَيَّ بِطَلَاقِي، وَإِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَهُ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى، فَأَبَوْا عَلَيَّ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ قَدْ
(2)
أَرْسَلَ إِلَيْهَا بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِلْمَرْأَةِ، إِذَا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ» ).
قال الجامع عفا اللَّه تعالى. عنه: "أحمد بن يحيى": هو أبو جعفر الأوديّ الكوفيّ العابد الثقة [11] 38/ 1274 من أفراد المصنّف. و"أبو نعيم": هو الفضل بن دكين.
و"سعيد بن يزيد البجلي، ثم الأحمسيّ" الكوفيّ، صدوق [7].
روى عن الشعبيّ. وعنه بكر بن بكّار، ووكيعٌ، وأبو نعيم. قال أبو حاتم: شيخٌ يُروى عنه. وقال الدوريّ: سمعت يحيى بن يزيد يروي عنه وكيع كوفيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرّد به المصنّف بحديث الباب.
والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله في -8/ 3222 - فراجعه هناك تستفد.
وقولها: "أنا بنت آل خالد"، أرادت به جدها، فإنها فاطمة بنت قيس بن خالد القرشية الفهريّة.
وقوله: "وإن زوجي فلانًا": هو أبو عمرو بن حفص المخزوميّ، كما سيأتي في الرواية الثالثة.
ومحلّ الشاهد هنا قوله: "أرسل إليها بثلاث تطليقات"، لكن تقدّم أن الصواب أنه أرسل إليها بآخر طلقات ثلاث، لا بالثلاث المجموعة، كما بُيّن في الروايات الأخرى، فلا يتمّ به الاستدلال لغرض المصنّف، وهو جواز جمع الطلقات الثلاث دفعة واحدة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3432 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لَيْسَ لَهَا سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةٌ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ. و"سلمة": هو ابن كُهيل.
والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه في الذي قبله.
(1)
وفي نسخة: "رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".
(2)
سقطت لفظة "قد" من بعض النسخ.
ومحل الاستدلال منه قوله: "المطلّقة ثلاثًا الخ"؛ ووجهه أنه يعمّ تطليقها ثلاثًا مجموعة، ومفرّقة، فيفيد جواز جمع الطلاق الثلاث، لكن الحقّ أن هذه الرواية مختصرة، من رواياتها الأخرى المطوّلة؛ لأنها قصّة واحدة، وقد تقدّم أنه ليس فيها جمع الثلاث، وإنما فيها إيقاعها متفرّقة، فلا يتمّ الاستدلال به لغرض المصنّف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3433 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو -وَهُوَ الأَوْزَاعِيُّ- قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ الْمَخْزُومِيَّ، طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَانْطَلَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ، طَلَّقَ فَاطِمَةَ ثَلَاثًا، فَهَلْ لَهَا نَفَقَةٌ؟ فَقَالَ: «لَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ، وَلَا سُكْنَى»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "بقية": هو ابن الوليد. و"يحيى": هو ابن أبي كثير. و"أبو سلمة": هو ابن عبد الرحمن بن عوف.
وقوله: "فانطلق خالد بن الوليد الخ"، إنما ذهب خالد رضي الله عنه في قضيّتها؛ لكونه من عشيرتها. واللَّه تعالى أعلم.
والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
8 - (بَابُ طَلَاقِ الثَّلَاثِ الْمُتَفَرِّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذه الترجمة تقييد حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - الذي أورده هنا، فإنه بإطلاقه يشمل المدخول بها وغير المدخول بها، فأراد أن يُبَيّن أن المراد به غير المدخول بها، وذلك لأنه وقع تقييده بها في بعض الطرق، فقد رواه أبو داود، في "سننه"، من طريق أبي النعمان -محمد بن الفضل عارم- عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن غير واحد، عن طاوس، أن
رجلاً يقال له: أبو الصَّهْباء، كان كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أن الرجل، كان إذا طلّق امرأته ثلاثا، قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدة، على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر؟، قال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلّق امرأته ثلاثا، قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدة، على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر، فلما رأى الناس، قد تتابعوا فيها، قال: أجيزوهن عليهم.
لكن هذه الرواية ضعيفة؛ لجهالة شيوخ أيوب، فلا تصلح لهذا التأويل الذي أراده المصنّف، فليُتأمّل.
وقال السنديّ في "شرحه": لما كان الجمهور من السلف والخلف على وقوع الثلاث دفعة، وقد جاء في حديث رُكانة -بضمّ الراء- أنه طلّق امرأته البتّة، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما أردت إلا واحدة"، فقال: ما أردت إلا واحدة، فهذا يدلّ على أنه لو أراد الثلاث لوقعت، وإلا لم يكن لتحليفه معنى، وهذا الحديث بظاهره يدلّ على عدم وقوع الثلاث دفعةً، بل تقع واحدةً، أشار المصنّف في الترجمة إلى تأويله بأن يُحمل الثلاث في الحديث على الثلاث المتفرّقة لغير المدخول بها، وإذا طلّق غير المدخول بها ثلاثًا متفرّقة تقع الأولى، وتلغو الثانية والثالثة؛ لعدم مصادفتهما المحلّ، فهذا معنى كون الثلاث تُردّ إلى الواحدة، وعلى هذا المعنى اندفع الإشكال عن الجمهور، وحصل التوفيق بين هذا الحديث، وبين ما يقتضي وقوع الثلاث من الأدلّة، وهذا محمل دقيقٌ لهذا الحديث، إلا أنه لا يوافق ما جاء في هذا الحديث أنّ عمر رضي الله عنه بعد ذلك أمضى الثلاث، إذ هو ما أمضى الثلاث المتفرّقة لغير المدخول بها، بل أمضى الثلاث دفعة للمدخول بها، وغير المدخول بها، فليُتأمّل، فالوجه في الجواب أنه منسوخ، وقد قرّرناه في "حاشية مسلم"، و"حاشية أبي داود". واللَّه تعالى أعلم انتهى كلام السنديّ
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد عرفت فيما سبق أن دعوى النسخ غير صحيحة، إذ لا دليل عليه.
والحاصل أن تأويل المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- لحديث الباب بما ذكره في هذه الترجمة فيه نظرٌ لا يخفى، فالحقّ أن الحديث على ظاهره، فإذا طلّق الرجل امرأته المدخول بها ثلاثًا مجموعة تُحتسب واحدةً. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3434 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ
(1)
"شرح السنديّ" 6/ 145 - 146.
جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ، جَاءَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَلَمْ تَعْلَمْ، أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ رضي الله عنهما، تُرَدُّ إِلَى الْوَاحِدَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ).
رجال هذا السند: ستة:
1 -
(أبو داود سليمان بن سيف) بن يحيى بن درهم الطائي مولاهم الحرّاني، ثقة حافظ [10] 103/ 136 من أفراد المصنف.
2 -
(أبو عاصم) الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني النبيل البصريّ، ثقة ثبت [9] 19/ 424.
3 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ المكي، ثقة فقيه فاضل، يدلس ويرسل [6] 28/ 32.
4 -
(ابن طاوس) عبد اللَّه، أبو محمد اليمانيّ ثقة فاضل عابد [6] 119/ 514.
5 -
(أبوه) طاوس بن كيسان اليمانيّ، أبو عبد الرحمن الحميري مولاهم الفارسيّ، يقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبه، ثقة فقيه فاضل [3] 27/ 31.
6 -
(ابن عباس) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. (ومنها): أن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَن) عبد اللَّه (بْنِ طَاوُسِ، عَنْ أَبِيهِ) طاوس بن كيسان (أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ) هو صُهيب البكريّ البصريّ، أو المدنيّ، مولىَ ابن عبّاس وثقة أبو زرعة، والعجلي، وذكره ابن حبّان في "الثقات". وضعفه النسائي، وله ذكر في هذا الباب، وليست له رواية (جَاءَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسِ، أَلَمْ تَعْلَمْ، أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا من خِلَافَةِ عُمَرَ رضي الله عنهما، تُرَدُّ إِلَى الوَاحِدَةِ؟) أي تُجعل في حكم طلقة واحدة، يحلّ للمطلّق أن يراجع امرأته بعدها (قَالَ) ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - (نَعَمْ) وفي رواية لمسلم عن ابن عباس، قال: "كان الطلاق على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث
واحدة، فقال عمر بن الخطّاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم". وقوله:"أناة" -بفتح الهمزة، أي مهلة، وبقيّة استمتاع لانتظار المراجعة. قاله النوويّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-3434 - وفي "الكبرى" 9/ 5599. وأخرجه (م) في "الطلاق" 1472 (د) في "الطلاق" 2199 و2200، وتقدّم ما يتعلّق به من المسائل قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
9 - (الطَّلَاقُ لِلَّتِي تَنْكِحُ زَوْجًا، ثُمَّ لَا يَدْخُلُ بِهَا)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف بهذا بيان حكم المرأة المطلّقة ثلاثًا، إذا تزوّجت، ثم طلّقها الزوج الثاني قبل الدخول بها، هل يحلّها هذا الطلاق لزوجها الأول، أم لا؟، والجواب لا يُحلّها؛ لأن الشرط في ذلك أن يقع هذا الطلاق بعد أن يجامعها الزوج الثاني.
ودلالة حديث الباب على الترجمة ظاهرة، وقد تقدّم أن استدلّ المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- به في "كتاب النكاح" -43/ 3284 - على "النكاح الذي تحلّ به المطلّقة ثلاثًا لمطلّقها"، ووجه اختلاف الترجمتين أن النظر هناك إلى النكاح، وهنا إلى الطلاق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3435 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ،
فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَدَخَلَ بِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُوَاقِعَهَا، أَتَحِلُّ لِلأَوَّلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا حَتَّى يَذُوقَ الآخَرُ عُسَيْلَتَهَا، وَتَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ» ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة. وهو مسلسلٌ بالكوفيين، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم، عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم بن يزيد النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعيّ.
والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم في -43/ 3284 - "النكاح الذي تحلّ به المطلّقة ثلاثًا لمطلّقها"، وتقدّم هناك شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله.
وقوله: "عن رجل طلّق امرأته" أي ثلاثًا. وقوله: "فدخل بها" أي خلا بها، سمّى الخلوة دخولاً، وليس المراد بالدخول الجماع، كما يبيّنه قوله:"ثم طلّقها قبل أن يواقعها".
وقوله: "حتى يذوق الآخر" المراد به غير الأول، لا خصوص هذا الذي طلّقها، فلو
تزوّجت بعد هذا غيره، فجامعها، ثم طلّقها حلّت للأول.
وقوله: "عُسيلتها" تصغير عسل، وإنما أنّثه؛ لأن العسل يؤنّث، ويذكّر، وقيل: على إرادة اللذّة، والمراد لذّة الجماع، لا لذة إنزال الماء، فإن التصغير يقتضي الاكتفاء بالقليل، فلا يشترط الإنزال، كما تقدّم بحثه في الباب المذكور. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3436 -
(أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَكَحْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، وَاللَّهِ مَا مَعَهُ إِلاَّ مِثْلَ هَذِهِ الْهُدْبَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ ، لَا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو ثقة. والثلاثة الأولون مصريّون، والباقون مدنّيون، غير أيوب، فمكيٌّ.
و"الليث": هو ابن سعد إمام أهل مصر. و"أيّوب بن موسى": هو أبو موسى الأمويّ المكيّ الثقة.
وقوله: "ابن الزبير" بفتح الزاي، وكسر الباء الموحّدة.
وقولها: "الهُدْبة" -بضمّ الهاء، وسكون الدال المهملة، جمعه هُدب -بضم، فسكون، وبضمّتين-: خَمْلُ الثوب. أفاده في "القاموس". وفي "زهر الربى": بضم
الهاء، وإسكان الدال: طرفه الذي يُنسج انتهى.
وقوله: "لا" أي لا يجوز أن ترجعي إلى رفاعة. وقوله: "حتى يذوق" أي الآخر، لا بخصوص كونه عبد الرحمن بن الزَّبِير، فإنه لا يشترط ذلك، بل لو تزوّجت بعده غيره، فجامعها، ثم طلّقها حلّت لرفاعة.
والحديث متّفقٌ عليه، ومضى القول فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
10 - (طَلَاقُ الْبَتَّةِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر صنيع المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أنه المراد من قولها: "فطلّقني البتّة" أنه طلّقها بلفظ "البتّة"، فيدل على أن من طلّق بلفظ البتّة للمدخول بها يُحمَل على الثلاث، كما هو المنقول عن الإمام مالك، -رحمه اللَّه تعالى-، لكن تقدّم أن هذه الرواية محمولة على الروايات الأخرى المصرّحة، فقد جاء في "الصحيحين"، وغيرهما بلفظ: "إنها كانت عند رفاعة، فطلّقها آخر ثلاث تطليقات
…
"، فيكون معنى "البتّة" هنا أنه بَتَّ طلاقها، وقطعها عن حكم الرجعة، بتطليقها الطلقة الأخيرة، وهي الثالثة، فلا يدلّ على غرضه، فليُتأمّل.
والحاصل أن الأصحّ في معنى قولها: "فطلّقني البتّة" أنه أبانها البينونة الكبرى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3437 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ، إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ تَحْتَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ، فَطَلَّقَنِي الْبَتَّةَ، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، وَأَنَّهُ وَاللَّهِ، يَا رَسُولَ اللهِ مَا مَعَهُ، إِلاَّ مِثْلَ هَذِهِ الْهُدْبَةِ، وَأَخَذَتْ هُدْبَةً، مِنْ جِلْبَابِهَا، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بِالْبَابِ، فَلَمْ يُأْذَنْ لَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَا تَسْمَعُ هَذِهِ، تَجْهَرُ بِمَا تَجْهَرُ بِهِ، عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ، لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا
غير مرّة. والنصف الأول منهم بصريون، والثاني مدنيون، وشيخه، أحد المشايخ التسعة الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة.
وقوله: "من جلبابها" -بكسر الجيم، وسكون اللام، وموحّدتين، بينهما ألف، كسِرْداب، وبكسرتين، وتشديد الموحّدة، كسِنِمَّار-: القميصُ، وثوبٌ واسعٌ للمرأة، دون الْمِلْحَفة، أو ما تُغطّي به ثيابها، من فوقُ، كالْمِلْحَفَة، أو هو الخمار. قاله في "القاموس".
وقوله: "وخالد بن سعيد بالباب، فدم يؤذن له": أي بالدخول على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يعني أنه رضي الله عنه كان استأذن، فبينما هو ينتظر الإذن قبل أن يؤذن له سمع كلامها بما يُستحيى من ذكره عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلم يملك نفسه، فنادى أبا رضي الله عنه، وطلب منه أن ينكر عليها ذلك. وفي رواية للبخاريّ في "كتاب اللباس": قال: فسمع خالد بن سعيد قولها، وهو بالباب، فقال: يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فواللَّه ما يزيد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على التبسّم".
قال في "الفتح": وفيه ما كان الصحابة رضي الله عنهم عليه من سلوك الأدب بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنكارهم على من خالف ذلك بفعله، أو قوله؛ لقول خالد بن سعيد لأبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وهو جالسٌ:"ألا تنهى هذه؟ "، وإنما قال خالد ذلك؛ لأنه كان خارج الْحُجْرة، فاحتمل عنده أن يكون هناك ما يمنعه من مباشرة نهيها بنفسه، فأمر به أبا بكر رضي الله عنه؛ لكونه جالسًا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، مشاهدًا لصورة الحال، ولذلك لما رأى أبو بكر النبيّ صلى الله عليه وسلم يتبسّم عند مقالتها لم يزجرها، وتبسّمه صلى الله عليه وسلم كان تعجّبًا منها، إما لتصريحها بما يَستحي النساء من التصريح به غالبًا، وإما لضعف عقل النساء؟ لكون الحامل لها على ذلك شدّة بغضها للزَّوْج الثاني، ومحبّتها الرجوع إلى الزوج الأول، وُيستفاد منه وقوع ذلك انتهى
(1)
.
وخالد بن سعيد هذا هو خالد بن سعيد بن العاصي بن أميّة بن عبدشمس الأمويّ، أبو سعيد، أمه أم خالد بنت حُبَاب الثقفيّة، من السابقين الأولين. قيل: كان رابعًا، أو خامسًا، وكان سبب إسلامه رؤيا رآها أنه على شِعب نار، فأراد أبوه أن يرميه فيها، فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أخذ بحُجْزته، فأصبح، فأتى أبا بكر، فقال: أتّبع محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإنه رسول اللَّه، فجاء، فأسلم، فبلغ أباه، فعاقبه، ومنعه القوت، ومنع إخوته من كلامه، فتعب حتى خرج بعد ذلك إلى الحبشة، فكان ممن هاجر إلى أرض الحبشة، ووُلد له هناك
(1)
"فتح" 10/ 584 - 585. "كتاب الطلاق". رقم الحديث -37/ 5317 - .
بنته أم خالد. واستعمله النبيّ صلى الله عليه وسلم على صدقات بني مَذْحِج، وأمّره أبو بكر - رضي اللَّه تعالى عنهما - على مشارف الشام في الرّدّة، استُشهد يوم مَرْج الصُّفَّر
(1)
، وقيل: يوم أجنادين
(2)
.
وقوله: "تجهر بما تجهر به الخ" كره سعيد رضي الله عنه الجهر بمثل ذلك في حضرته صلى الله عليه وسلم؛ تعظيمًا لشأنه صلى الله عليه وسلم، وتحقيرًا لتلك المقالة البعيدة عن أهل الحياء.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
11 - (أَمْرُكِ بِيَدِكِ)
3438 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَيُّوبَ: هَلْ عَلِمْتَ أَحَدًا قَالَ: فِي أَمْرِكِ بِيَدِكِ: أَنَّهَا ثَلَاثٌ، غَيْرَ الْحَسَنِ؟ ، فَقَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ غَفْرًا، إِلاَّ مَا حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، عَنْ كَثِيرٍ، مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«ثَلَاثٌ» ، فَلَقِيتُ كَثِيرًا، فَسَأَلْتُهُ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى قَتَادَةَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: نَسِيَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَليٌّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ) بن نصر بن عليّ الْجَهْضميّ، أبو الحسن البصري الصغير
(3)
الحافظ، ثقة حافظ [11]
رَوَى عن وهب بن جرير بن حازم، وأبي داود الطيالسي، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وسهل بن حماد أبي عتاب الدلال، ومحمد بن عباد الهنائي، وأبي بكر الحنفي، وعبد اللَّه بن يزيد المقري، وسليمان بن حرب، وأبي عاصم، وطائفة. ورَوَى
(1)
بضمّ الصاد المهملة، وفتح الفاء المشدّدة موضع بالشام.
(2)
راجع "الإصابة" ج3/ 58 - 60.
(3)
إنما قيل له: الصغير للفرق بينه وبين جدّه علي بن نصر بن علي الجهضمي البصريّ، ثقة، من كبار [9] من رجال الجماعة.
عنه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وأبو عَمْرو المستملي، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والبخاري في غير "الجامع"، وعمر بن محمد البجيري، وأحمد بن يحيى بن زهير، وغيرهم.
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وسألته عنه، فوثقه، وأطنب في ذكره، والثناء عليه. وقال أبو زرعة: أرجو أن يكون خلفا. وقال صالح بن محمد: ثقة صدوق. وقال الترمذي: كان حافظا صاحب حديث. وقال النسائي: نصر بن علي الجهضمي، وابنه علي ثقتان، وذكرهما ابن حبان في "الثقات"، وقال هو والنسائي وغيرهما: مات سنة خمسين ومائتين، زاد البخاريّ في "تاريخه": في شعبان. أخرج له الجماعة إلا البخاريّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
2 -
(سليمان بن حرب) الأزديّ الواشحيّ، أبو أيوب البصريّ، القاضي بمكة، ثقة إمام حافظ [9] 181/ 288.
3 -
(حماد بن زيد) بن درهم الجهضميّ أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت فقيه [8] 3/ 3.
4 -
(أيوب) بن أبي تميمة السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت فقيه عابد [5] 42/ 48.
5 -
(قتادة) بن دعامة السدوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقة ثبت يدلّس [4] 30/ 34.
6 -
(كثير) بن أبي كثير البصريّ، مولى عبد الرحمن بن سمرة، ثقة
(1)
[3].
روى عن مولاه، وابن عباس، وأبي هريرة، وابن المسيّب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبي عياض، وأرسل عن عمر. وروى عنه محمد بن سيرين، ومنصور ابن المعتمر، وأيوب السختيانيّ، وعبد اللَّه بن القاسم، وقتادة.
قال العجليّ: تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكره ابن الجوزيّ في الصحابة. وزعم عبد الحقّ تبعًا لابن حزم أنه مجهول، فتعقّبَ ذلك عليه ابن القطّان بتوثيق العجليّ. وذكره العقيليّ في "الضعفاء"، وما قال فيه شيئًا. روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه في "التفسير"، وله عند المصنّف هذا الحديث فقط.
7 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة فقيه [3] 1/ 1.
(1)
في "التقريب": مقبول، لكن الظاهر أنه ثقة؛ لأنه روى عن جماعة، وروى عنه جماعة، وفيهم من قيل فيه: إنه لا يروي إلا عن ثقة، وهو منصور، ووثّقه العجليّ، وابن حبّان، ولم يذكر من ضعّفه سببا لتضعيفه، فتأمّل.
8 -
(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من ثمانيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير كثير، كما سبق آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى أبي سلمة. (ومنها): أن فيه أربعة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: أيوب، عن قتادة، عن كثير، عن أبي سلمة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن حماد بن زيد، أنه قال (قُلْتُ: لِأَيُّوبَ) السختيانيّ (هَلْ عَلِمْتَ أَحَدًا) أي من أهل العلم (قَالَ فِي أَمْرِكِ بيَدِكِ) أي في قول الرجل لامرأته، مريدًا تفويض الطلاق إليها: أمرك بيدك، أي جعَلت أمر طلاقك بتصرّفك، فإن شئت، نفذّيه، وإن شئت اتركيه (إِنَّهَا ثَلَاثٌ) أي إن التطليقات التي تطلّق المرأة نفسها بناء على ذلك التفويض، تقع ثلاث تطليقات، بحيث لا يملك الزوج مراجعتها (غَيْرَ الْحَسَنِ؟) منصوب على الاستثناء، أي إلا الحسن بن أبي الحسن الأنصاريّ مولاهم البصريّ، الإمام الفقيه الثبت الحجة مات سنة (110هـ) وقد قارب التسعين -رحمه اللَّه تعالى- (فَقَالَ) أيّوب (لَا) أي لا أعلم أحدًا قال ذلك (ثُمَّ قَالَ) أيوب (اللَّهُمَّ غَفْرًا) -بفتح الغين المعجمة، وسكون الفاء- مصدر غَفَرَ، نُصب على أنه مفعول لفعل مقدّر، أي اغفِرْ لي، أو أسألك، ونحو ذلك، وإنما طلب المغفرة، وإن كان ثبت حديث: "رُفع عن أمتي الخطأ
…
"، نظرًا إلى منشئه، وهو العَجَلَة المذمومة، فقد كان الأولى له أن يتأنّى في الجواب حتى يتذكر الحديث الذي ذكره له. وفي النسخة "الهنديّة": "عَفْوًا" بدل "غَفْرًا"، وإعرابه كإعرابه.
(إِلَّا مَا حَدَّثَنِي قَتَادَةُ) بن دعامة (عَنْ كَثِيرٍ) بن أبي كثير (مَوْلَى) عبد الرحمن (بْنِ سَمُرَةَ) بن حبيب بن عبد شمس العبشميّ، أَبي سعيد الصحابيّ، من مسلمة الفتح، يقال: كان اسمه عبد كلال، افتتح سجستان، ثم سكن البصرة، ومات رضي الله عنه بها سنة (50هـ) أو بعدها، وتقدّم في 2/ 1460 (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ:"ثَلَاثٌ") خبر لمقدّر، أي الواقع ثلاث طلقات، أو فاعل لمقدّر، أي يقع ثلاثٌ.
وقد استدلّ بهذا من قال: إن من قال لامرأته: أمرك بيدك كان ذلك ثلاثًا،
وسيأتي تحقيق القول في ذلك في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى. قال أيوب -رحمه اللَّه تعالى- (فَلَقِيتُ كَثِيرًا) أي شيخ قتادة (فَسَأَلْتُهُ) أي عن هذا الحديث (فَلَمْ يَعْرِفْهُ) أي لم يعرف هذا الحديث، ولا تحديثه به لقتادة، ففي رواية أبي داود:"قال أيوب: فقدم علينا كثيرٌ، فسألته، فقال: ما حدّثت بهذا قطّ"(فَرَجَعْتُ إِلَى قَتَادَةَ، فَأَخْبَرْتُهُ) بإنكار شيخه كثير الحديثَ (فَقَالَ) قتادة (نَسِيَ) وفي رواية أبي داود: "فذكرته لقتادة، فقال: بلى، ولكنّه نسي". يعني أن الشيخ نسي تحديثه به لقتادة، بعد أن حدّثه به، ومسألة نسيان الشيخ لحديثه يأتي الكلام عليها في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صححوه موقوفًا على أبي هريرة، وتكلّموا في رفعه، فقال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-:"هَذَا حَدِيثْ مُنْكَرٌ". وقال الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن رواه عن شيخ المصنّف بسنده: ما نصّه: هذا حديث غريبٌ، لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، وسألت محمدًا -يعني البخاريّ- عن هذا الحديث؟ فقال: أخبرنا سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد بهذا، وإنما هو عن اأبي هريرة موقوفًا، ولم يَعرِف حديث أبي هريرة مرفوعًا. وكان عليّ بن نصر حافظًا، صاحب حديث انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أنه صحيح مرفوعًا؛ لأن سليمان بن حرب، ثقة حافظ، فتفرّده برفعه لا يضره، فيكون زيادة ثقة، وقد أشار إلى صحّته الحافظ أبو الحسن ابن القطّان الفاسيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "كتابه الوهم والإيهام"، انظر كلامه ج5/ ص390 رقم الحديث 2558.
وأما تضعيف ابن حزم، وعبد الحقّ الإشبيليّ له بجهالة كثير مولى سمرة، فمردود عليهما بأنه معروف، روى عنه جماعة، وفيهم من قيل فيه: إنه لا يروي إلا عن الثقات، وهو منصور بن المعتمر، ووثقه العجليّ، وابن حبّان، ولم يضعّفه أحد بحجة، كما أشار إليه الحافظ في "تهذيب التهذيب"، وكذا أشار ابن القطان إلى الردّ عليهما، في
(1)
"الجامع للترمذيّ" 4/ 346 بنسخة "تحفة الأحوذيّ".
كتابه المذكور، وكذا تضعيف من ضعّفه بنسيان كثير أيضًا، لا يُلتفت إليه، كما أشار إلى ردّه الحافظ ابن القطّان أيضًا في كتابه المذكور.
والحاصل أن الظاهر صحّة الحديث مرفوعًا، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-11/ 3438 - وفي "الكبرى" -12/ 5603. وأخرجه (د) في "الطلاق" 2204 (ت) في "الطلاق" 1178. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم فيمن قال لامرأته: أمرك بيدك:
قال الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "جامعه": وقد اختلف أهل العلم في "أمرك بيدك"، فقال بعض أهل العلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، منهم: عمر بن الخطّاب، وعبد اللَّه بن مسعود: هي واحدة، وهو قول غير واحد من أهل العلم، من التابعين، ومن بعدهم. وقال عثمان بن عفّان، وزيد بن ثابت: القضاء ما قضت. وقال ابن عمر: إذا جعل أمرها بيدها، وطلّقت نفسها ثلاثًا، وأنكر الزوج، وقال: لم أجعل أمرها بيدها إلا واحدة، استُحلف الزوج، وكان القول قوله، مع يمنه. وذهب سفيان، وأهل الكوفة إلى قول عمر، وعبد اللَّه. وأما مالك بن أنس، فقال: القضاء ما قضت، وهو قول أحمد. وأما إسحاق، فذهب إلى قول عمر رضي الله عنه. انتهى كلام الترمذيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قول عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - أعدل الأقوال عندي، وحاصله أن القول قول الزوج مع يمينه، فإذا طلّقت ثلاثًا، ونواه الزوج، كان ثلاثًا، وإن أنكر ذلك، وقال: لم أجعل أمرها بيدها إلا بواحدة، فالقول قوله مع يمينه، وذلك لأن الزوج هو الذي جعل الشارع له الطلاق، ولا حقّ للمرأة فيه، وإنما غاية ما في قوله:"أمرك بيدك" توكيلها في أن تطلّق نفسها، فيكون القول في ذلك قول الموكّل في الكمّ والكيف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في نسيان الشيخ الحديث بعد ما حدّث به: إذا روى ثقة عن ثقة حديثًا، ثم نفاه الشيخ، فالمختار عند المتأخّرين أنه إن كان جازمًا بنفيه، بأن قال: ما رويته، أو كَذّب عليّ، ونحوه وجب ردّه لتعارض قولهما،
(1)
"الجامع" 4/ 347. بنسخة "تحفة الأحوذيّ".
مع أن الجاحد هو الأصل، ولكن لا يقدح ذلك في باقي روايات الراوي عنه، ولا يثبت به جرحه؛ لأنه أيضًا مكذّب لشيخه في نفيه لذلك، وليس قبول جرح كلّ منهما أولى من الآخر، فتساقطا، فإن عاد الأصل، وحدّث به، أو حدّث فرعٌ آخر عنه، ولم يُكذّبه، فهو مقبول، صرّح به القاضي أبو بكر، والخطيب، وغيرهما. ومقابل المختار في الأول عدم ردّ الماورديّ، واختاره السمعانيّ، وعزاه الشاشيّ للشافعيّ، وحكى الهنديّ الإجماع عليه، وجزم الماورديّ، والرويانيّ بأن ذلك لا يقدح في صحّة الحديث، إلا أنه لا يجوز للفرع أن يرويه عن الأصل، فحصل ثلاثة أقوال. وثمّ قول رابع: أنهما يتعارضان، ويرجّح أحدهما بطريقه، وصار إليه إمام الحرمين. فإن قال الأصل: لا أعرفه، أو لا أذكره، أو نحوه، مما يقتض جواز نسيانه، لم يَقدح فيه. ذكره في "تقريب النواوي"، مع شرحه "تدريب الراوي"
(1)
. وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفية الحديث"، حيث قال:
وَمَنْ نَفَى مَا عَنْهُ يُرْوَى فَالأَصَحُّ
…
إِسْقَاطُهُ لَكِنْ بِفَرْعٍ مَا قَدَحْ
أَوْ قَالَ: لَا أَذْكُرُهُ وَنَحْوَ ذَا
…
كَأَنْ نَسِي فَصَحَّحُوا أَنْ يُؤْخَذَا
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الراجح عندي في المسأدة الأولى عدم ردّ مرويه، كما اختاره السمعانيّ، وغيره، وهو الذي اختاره السيوطيّ في "الكوكب الساطع" في الأصول، حيث قال:
الْمُرتَضَى كَمَا رَأَى السَّمْعَانِي
…
وَصَاحِبُ الْحَاوِي مَعَ الرُّيَانِي
وَخَالَفَ الأَكْثَرُ أَنَّ الأَصْلَا
…
إِنْ كَذّبَ الْفَرْعَ وَرَدَّ النَّقْلَا
لَا يَسْقُطُ الَّذِي رَوَى وَمِنْ هُنَا
…
لَوْ شَهِدَا شَهَادَةً لَمْ يُهنَا
أَوْ شَكَّ أَوْ ظَنَّ وَفَرْعُهُ يَقُولُ
…
جَزْمًا وَلَا جَرْحَ فَأَوْلَى بِالْقَبُولْ
وَوَافَقَ الأَكَثَرُ ثُمَّ الأُولَى
…
إِنْ عَادَ لِلإِقْرَارِ خُذْ قَبُولَا
راجع "الكوكب الساطع" بشرحي عليه ص282 - 283. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
(1)
"تدريب الراوي على تقريب النواوي" 1/ 334 - 335.
12 - (بَابُ إِحْلَالِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاَثًا، وَالنِّكَاحِ الَّذِي يُحِلُّهَا بِهِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الترجمة بمعنى الترجمة السابقة في -43/ 3284 - حيث قال هناك:، (النكاح الذي تَحِلُّ به المطلّقة ثلاثًا لمطلّقها"، والحديث الأول هنا هو الحديث الذي أورده هناك سندًا ومتنًا، فكان الأولى له عدم تكراره، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3439 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا
(1)
سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ، إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ:: إِنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي، فَأَبَتَّ طَلَاقِي، وَإِنِّي تَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، وَمَا مَعَهُ إِلاَّ مِثْلَ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ «لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ، لَا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم آنفًا أن الحديث سبق في -43/ 3284 - وَسَبَقَ هناك شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله، فراجعه تستفد.
و"سفيان": هو ابن عُيينة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3440 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي
(2)
عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلاً طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا، فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَتَحِلُّ لِلأَوَّلِ، فَقَالَ:«لَا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا، كَمَا ذَاقَ الأَوَّلُ» ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يحيى": هو ابن سعيد القطّان. و"عبيد اللَّه": هو ابن عمر العمريّ. و"القاسم": هو ابن محمد بن أبي بكر الصدّيق. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(1)
وفي نسخة: "أخبرنا"، وفي أخرى:"حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "حدثنا".
3441 -
(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا
(1)
هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ الْغُمَيْصَاءَ، أَوِ الرُّمَيْصَاءَ، أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، تَشْتَكِي زَوْجَهَا، أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَلْبَثْ
(2)
أَنْ جَاءَ زَوْجُهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هِيَ كَاذِبَةٌ، وَهُوَ يَصِلُ إِلَيْهَا، وَلَكِنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا الأَوَّلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ ذَلِكَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عليّ بن حُجر) السعديّ المروزيّ، ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 13،
2 -
(هُشيم) بن بَشِير السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقة ثبت كثير الإرسال والإرسال الخفيّ [7] 88/ 109.
3 -
(يحيى بن أبي إسحاق) الحضرميّ مولاهم البصريّ النحويّ، صدوق ربما أخطأ
[5]
1/ 1438.
[تنبيه]: وقع في النسخة المصريّة: "أنبأنا يحيى عن أبي إسحاق، بتصحيف "ابن" إلى "عن"، وهو تصحيف فاحش. فتنبّه.
4 -
(سليمان بن يسار) الهلاليّ مولاهم المدنيّ، ثقة فقيه فاضل، من كبار [3] 22/ 156.
5 -
(عبيد اللَّه -مصغّرًا- ابن العبّاس) بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ، أبو محمد المدنيّ، أمه أم الفضل. رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه حديث الْعُسلية، وعن أبيه العبّاس. وعنه ابنه عبد اللَّه، وسليمان بن يسار، وعطاء بن أبي رباح، ومحمد بن سرين. قال ابن سعد: كان أصغر سنًّا من عبد اللَّه بسنة، وقد رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسمع منه، وكان سخيًّا جوادًا، وكان تاجرًا، ومات بالمدينة. قال محمد بن عمر: بَقِيَ إلى أيام يزيد بن معاوية. وقال البخاريّ، ويعقوب بن سفيان: مات زَمَنَ معاوية. وذكره البخاريّ في "الأوسط" في فصل: من مات بين الستّين إلى السبعين. وقال يعقوب بن شيبة: يُعدّ في آخر الطبقة الذين رأوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يحفظوا عنه شيئًا، وكان سخيًّا جَوَادًا، استعمله عليّ على اليمن، وحجّ بالناس سنة (36)، وسنة (37)، ومات بالمدينة سنة (87)، فكأنه عاش بضعًا وثمانين سنة. وكذا أرّخه أبو عبيد، وأبو حسّان الزياديّ، وقال خليفة: مات سنة (58). وقال الزبير: حدّثني عبد اللَّه بن إبراهيم الْجُمَحِيّ، عن أبيه، قال: دخل أعرابي دار العبّاس، وفي جانبها عبد اللَّه بن عباس، لا يرجع في شيء،
(1)
وفي نسخة: "أخبرنا"، وفي أخرى:"حدثنا".
(2)
وفي نسخة: "فلم يلبث" بالياء التحتانيّة.
يُسأل عنه، وفي الجانب الآخر عُبيد اللَّه يُطعم كلّ من دخل، فقال الأعرابيّ: كلُّ من أراد الدنيا والآخرة، فعليه بدار العبّاس. وقال ابن حبّان، وابن عبد البرّ: له صحبة. وقال أبو حاتم الرازيّ: حديثه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلٌ، ليست له صحبة. وقد ذكره الدارقطنيّ في كتاب "الإخوة" أنه كان أصغر من أخيه عبد اللَّه بسنة. قال الحافظ: فعدى هذا يكون عمره حين مات النبيّ صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة على الصحيح، وروى عليّ بن عبد العزيز في "مسنده" بسند رجاله ثقات، عن عبيد اللَّه أنه كان رَدِيف النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر قصّة. تفرّد به المصنّف بحديث الباب فقط.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: يتبيّن مما سبق أن الأصحّ إثبات الصحبة له. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: وقع في جميع نسخ "المجتبى"، و"الكبرى" التي بين يديّ:"عبد اللَّه بن عبّاس، مكبّرًا، وهو تصحيفٌ عجيب، تواردت عليه النسخ، والصواب الأول، كما أورد الحافظ أبو الحجّاج المزيّ -رحمه اللَّه تعالى- حديثه هذا في ترجمة "عبيد اللَّه بن عباس بن عبد المطّلب، أبي محمد الهاشميّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وليس له عنده سوى هذا الحديث عند المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-.
[تنبيه آخر]: نبه الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الفتح" جـ10 صـ583 على أن هذا التصحيف وقع عند شيخه الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ"، وبناء على ذلك تعقّب على ابن عساكر، والمزّيّ أنهما لم يذكرا هذا الحديث في "الأطراف". ولا تعقّب عليهما، فإنهما ذكراه في "مسند عبيد اللَّه" بالتصغير، وهو الصواب. وقد اختُلف في سماعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلا أنه وُلد في عصره، فذكر لذلك في الصحابة. انتهى كلام الحافظ
(1)
. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير الصحابيّ، كما مرّ آنفًا. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن صحابيه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا هذا الحديث عند المصنّف فقط. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ الْغُمَيْصَاءَ، أَوِ الرُّمَيْصَاءَ) بضم،
(1)
"فتح"10/ 583.
ففتح، ومدّ فيهما، زوج عمرو بن حَزْم، أخرج أبو نعيم من طريق حمّاد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن عمرو بن حزم طلّق الْغُمَيصاء، فنكحها رجلٌ، فطلّقها قبل أن يمسّها، فأتت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، تسأله أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال:"لا حتى يذوق الآخر من عُسيلتها"
…
الحديث. قال أبو موسى المدينيّ: هي غير أم سُليم.
وأرود ابن منده حديث ابن عباس هذا في ترجمة أم سليم. قال ابن الأثير: والصواب مع أبي موسى. يعني أن الصواب أن صاحبة القصّة في حديث الباب غير أم سليم والدة أنس - رضي اللَّه تعالى عنهم -.
(أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، تَشْتَكِي) وفي رواية أحمد: "تشكو"(زَوْجَهَا) وقوله (أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا) في تأويل المصدر مجرور بحرف مقدّر، أي في كونه لا يصل إليها، وهو كناية عن عدم جماعها، وإنما كنت عنه لكونه مما يُستحيى عن ذكره، ولا سيّما في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَلَمْ يَلْبَثْ) من باب تَعِب، وجاء في مصدره السكون للتخفيف، واللَّبْثة بالفتح المرّة، وبالكسر الهيئة والنوع، والاسم اللُّبْثُ بالضمّ، واللَّبَاثُ بالفتح. قاله الفيّومّي.
ثم هو بالياء التحتانيّة، والضمير للزوج: أي لم يتأخّر، وفي نسخة:"فلم تلبث" بالمثئاة الفوقيّة، والأول أوضح. وفي رواية أحمد: "فما كان إلا يسيرًا، حتى جاء زوجها
…
". وقوله (أَنْ جَاءَ زَوْجُهَا) في تأويل المصدر فاعل "يلبث"، على الأول، أي لم يتأخّر مجيء زوجها عن مجيئها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
(فَقَالَ) الزوج (يَا رَسُولَ اللهِ، هِيَ كَاذِبَةٌ) أي في دعوى عدم الوصول إليها (وَهُوَ يَصِلُ إِلَيْهَا) فيه التفات، إذ الظاهر أن يقول: وأنا أصل إليها، يعني أنه يُجامعها (وَلَكِنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا الأَوَّلِ) أي لمحبّتها له أكثر منه (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَيْسَ ذَلِكِ) وفي رواية أحمد: "ليس لك ذلك"، والإشارة إلى رجوعها إلى زوجها الأول، أي لا يجوز الرجوع إليه بعد طلاق هذا الزوج لك (حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ) أي حتى يجامعك، وفي رواية أحمد المذكورة: "حتى يذوق عُسيلتكِ رجلٌ غيرُه".
والمراد به الجماع، لا إنزال المنيّ؛ فقد ثبت عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنه -، مرفوعًا:"العسيلة الجماع"
(1)
، فلا يشترط في التحليل، عند الجمهور، وما نُقل عن بعض السلف من اشترط ذلك، فمردودٌ، كما سبق البحث عنه مستوفًى في -43/ 3284. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه
(1)
راوه أحمد في "مسنده" 6/ 62، وأبو نعيم في "الحلية" 9/ 226. راجع "الإرواء" 7/ 163 - 164 للشيخ الألبانيّ، فإنه قال: والحدبث صحيح المعنى.
التكلان.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث عبيد اللَّه بن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف، أخرجه هنا-12/ 3441 - وفي "الكبرى" 13/ 5606. وأخرجه (أحمد) في "مسند بني هاشم" 1840. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3442 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ رَزِيرٍ
(1)
، يُحَدِّثُ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِي الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ يُطَلِّقُهَا، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا رَجُلٌ آخَرُ، فَيُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَتَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا الأَوَّلِ، قَالَ:«لَا، حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ» ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير:
1 -
(سَلْم بن زَرِير) هكذا هو في نسخ "المجتبى"، و"الكبرى":"سَلْم بن زرير""سلم" -بفتح السين المهملة، وسكون اللام، و"زرير" بزاي مفتوحة، وراءين بينهما ياء، وهو تصحيف
(2)
، والصواب في رواية شعبة سالم بن رزين
(3)
، وفي رواية الثوري، "رزين بن سليمان"، كما في الرواية التالية، انظر "تحفة الأشراف" 5/ 343 - 344 و 432 - 433. ورواية الثوري سيأتي أنها الصحيحة. قال في "التقريب": رزين بن سليمان الأحمريّ، ومنهم من قلبه، وقيل: سالم بن رزين مجهول [3].
وقال في "تهذيب الكمال" 9/ 187 - 189: رزين بن سليمان الأحمريّ، عن عبد اللَّه ابن عمر "في الرجل يُطَلِّقُ امرأته ثلاثًا، فيتزوّجها الرجل"
…
الحديث، وعنه علقمة بن مرثد، قاله وكيع بن الجرّاح، عن سفيان الثوريّ، عن علقمة، وتابعه يحيى بن يعلَى المحاربيّ، عن أبيه، عن غيلان بن جامع، عن علقمة بن مرثد، وقال غندر عن شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سالم رزين، عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر، عن سعيد بن المسيّب، عن ابن عمر. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: هذه الزيادة التي زاد غندر، عن شعبة في الإسناد ليست بمحفوظة. قال: وسمعت أبا زرعة يقول: الثوريّ أحفظ. وأما الثوريّ فيروي عن علقمة بن مرثد، رواه وكيع عنه مرّة عن رزين بن
(1)
سيأتي قريبًا أن الصواب "سالم بن رزين".
(2)
أما سلم بن زَرير بفتح الزاي، وراءين بينهما ياء، فهو أبو بشر العطاريّ البصريّ، ثقة من السادسة من رجال البخاريّ، ومسلم، والنسائيّ، فتنبّه.
(3)
تقديم الراء، بعدها زاي مكسورة، بعدا ياء مثناة تحتانيّة، وآخره نون.
سليمان، ومرة عن سليمان بن رزين، عن ابن عمر. ورواه أبو أحمد الزبيريّ، وحسين ابن حفص، ومحمد بن كثير، والفريابيّ، عن الثوريّ، عن سليمان بن رزين، عن ابن عمر. وقال البخاريّ: قال محمد بن كثير، وأبو أحمد الزبيريّ، عن سفيان، عن سليمان بن رزين. وقال وكيع مرّة: عن سليمان بن رزين الأحمريّ، ثم قال: رزين بن سليمان، قال البخاريّ: ولا تقوم الحجّة بسالم بن رزين، ولا برزين؛ لأنه لا يُدرى سماعه من سالم، ولا من ابن عمر انتهى
(1)
. وهو من أفراد المصنّف، وله عنده حديث الباب فقط.
وشرح الحديث واضحٌ. وهو حديث ضعيفٌ؛ لجهالة سالم بن رزين، أو رَزِين بن سليمان، أو سليمان بن رزين، كما سبق عن البخاريّ آنفًا، وهو من أفراد المصنّف، أخرجه هنا-12/ 3442 - وفي "الكبرى" 13/ 5607. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3443 -
(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ رَزِينِ بْنِ سُلَيْمَانَ الأَحْمَرِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ، يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَيَتَزَوَّجُهَا الرَّجُلُ، فَيُغْلِقُ الْبَابَ، وَيُرْخِى السِّتْرَ، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا؟ ، قَالَ: «لَا تَحِلُّ لِلأَوَّلِ، حَتَّى يُجَامِعَهَا الآخَرُ». قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ).
قال الجامع عفا اللَّهَ تعالى عنه: رجال هَذا الإسناد رجال الصحيح، غير رَزين بن سليمان، فإنه من أفراد المصنّف، وهو مجهول، كما تقدّم في الذي قبله. و"سفيان": هو الثوريّ.
وقوله: "الرجل""أل" في الموضعين للجنس. وقوله:، "فيُغلق" بضمّ الياء، من الإغلاق. وقوله:"ويرخي الستر" بضمّ الياء أيضًا، والإرخاء، وهو الإسبال، و"الستر" بكسر السين، وسكون التاء: الشيء الساتر، جمعه سُتُور بضمتين. والمراد به الخلوة، يعني أن ذلك الرجل الثاني خلا بتلك المرأة، ثم طلّقها قبل أن يجامعها.
وقوله: "قَالَ أَبو عَبْد الرحْمَنِ: هَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ" يعني أن هذا الإسناد، وهو رواية سفيان الثوريّ، عن علقمة بن مرثد، عن رزين بن سليمان الأحمريّ، عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أحقّ أن يكون صوابًا من الإسناد الأول الذي قبله، عن شعبة، عن علقمة، عن سالم بن زين، عن سالم بن عبد اللَّه، عن ابن المسيّب، عن ابن عمر
(1)
راجع "التاريخ الكبير" للبخاريّ 4/ 13 رقم الترجمة (1801).
- رضي اللَّه تعالى عنهما -.
وقد وافق المصنّف على ترجيح رواية الثوري على رواية شعبة أبو حاتم، وأبو زرعة، فقال أبو حاتم: وهذه الزيادة
(1)
ليست بمحفوظة. وقال أبو زرعة: الثوريّ أحفظ. وقال المزّي في "تحفة الأشراف" 5/ 344: زعم أبو القاسم -يعني ابن عساكر- أن هذه الرواية -يعني رواية الثوريّ- وَهَمٌ، وليس كذلك، فإن جماعة رووه عن سفيان هكذا، وهو أحفظ من شعبة، وتابعه غيلان بن جامع، عن علقمة بن مَرْثَد. انتهى. وقال الحافظ في "الفتح": ما نصّه: قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لِتَحِلّ للأول، إلا سعيد بن المسيّب، ثم ساق بسنده الصحيح، عنه قال: يقول الناس: لا تحلّ للأوّل حتى يُجامعها الثاني، وأنا أقول: إذا تزوّجها تزويجًا صحيحًا، لا يُريد بذلك إحلالها للأول، فلا بأس أن يتزوّجها الأوّل. وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور. وفيه تعقّبٌ على من استبعد صحّته عن سعيد. قال ابن المنذر: وهذا القول لا نَعلَم أحدًا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، ولعلّه لم يبلغه الحديث، فأخذ بظاهر القرآن. قال الحافظ: سياق كلامه يُشعر بذلك، وفيه دلالة على ضعف الخبر الوارد في ذلك، وهو ما أخرجه النسائيّ من رواية شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سالم بن رزين، عن سالم بن عبد اللَّه، عن سعيد بن المسيّب، عن ابن عمر، رفعه في الرجل تكون له المرأة
…
الحديث. قال: وقد أخرجه النسائيّ أيضًا من رواية سفيان الثوريّ، عن علقمة بن مرثد، فقال: عن رزين بن سليمان الأحمريّ، عن ابن عمر نحوه. قال النسائيّ: هذا أولى بالصواب. وإنما قال ذلك؛ لأن الثوريّ أتقن، وأحفظ من شعبة، وروايته أولى بالصواب من وجهين:
[أحدهما]: أن شيخ علقمة شيخِهما هو رزين بن سليمان، كما قال الثوريّ، لا سالم ابن رزين، كما قال شعبة، فقد رواه جماعة عن علقمة كذلك، منهم غيلان بن جامع أحد الثقات.
[ثانيهما]: أن الحديث لو كان عند سعيد بن المسيّب عن ابن عمر، مرفوعًا ما نسبه إلى مقالة الناس الذين خالفهم انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما تقدّم أن رواية الثوريّ: "عن علقمة، عن
(1)
أراد بالزيادة زيادة شعبة بين سالم بن رزين وبين ابن عمر سالم بن عبد اللَّه، وسعيد بن المسيّب، فيقول أبو حاتم: إن الصواب رواية الثوريّ عن رزين بن سليمان، عن ابن عمر. واللَّه تعالى أعلم.
(2)
"فتح"10/ 585 - 586.
رَزِين بن سليمان، عن ابن عمر" هي المحفوظة؛ لما ذُكر آنفًا، وأن حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - ضعيف؛ لجهالة سالم بن رزين، أو رزين بن سليمان، وأن تصويب المصنّف لرواية الثوريّ إنما هو لمجرّد كون اسم شيخ علقمة رزينَ بنَ سليمان، لا سالم بن رزين، كما قال شعبة؛ لمخالفته ما رواه الثوريّ، وغيلان بن جامع، وليس لتصحيح الحديث، فليُتفطّن. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
13 - (بَابُ إِحْلَالِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاَثًا، وَمَا فِيهِ مِنَ التَّغْلِيظِ)
3444 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ هُزَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، الْوَاشِمَةَ، وَالْمُوتَشِمَةَ، وَالْوَاصِلَةَ، وَالْمَوْصُولَةَ، وَآكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَالْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائيّ، ثقة حافظ [11] 108/ 147.
2 -
(أبو نعيم) الفضل بن دُكين التيميّ مولاهم الأحول الكوفيّ، ثقة ثبت [9] 11/ 516.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ الإمام الثبت الحجة [7] 33/ 37.
4 -
(أبو قيس) عبد الرحمن بن ثروان الأوديّ الكوفيّ، صدوق ربّما خالف [6] 97/ 125.
5 -
(هُزَيل) -مصغّرًا- ابن شُرَحبيل الأوديّ الكوفيّ، ثقة، مخضرم [2] 97/ 125.
6 -
(عبد اللَّه) بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - 39/ 35. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه أيضًا، فإنه نسائيّ. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَبدِ اللَّهِ) بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، الْوَاشِمَةَ) فاعلة من الوشم، وهو أن يُغْرَزَ الجلد بإبرة، ثم يُحْشَى بكُحْل، أو نِيلٍ، فَيَزْرَقَّ أَثَرُهُ، أو يَخْضَرَّ. قاله ابن الأثير
(1)
(وَالْمُوتَشِمَةَ) هي التي يُفعل بها ذلك، وهي راضيةٌ. وفي نسخة:"والمتوشّمة" من التفعّل، وفي أخرى:"والمؤتشمة" بالهمز، والظاهر أنه تصحيف (وَالْوَاصِلَةَ) هي التي تصل الشعر بشيء آخر، سواء كان لنفسها، أو لغيرها. وأخرج مسلم من حديث جابر رضي الله عنه:"زجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها شيئًا". وبهذا أخذ الجمهور في منع وصل الشعر بشيء آخر، سواء كان شعرًا أم لا. وذهب الليث، ونقله أبو عبيد عن كثير من الفقهاء أن الممتنع من ذلك وصل الشعر
بالشعر، وأما بغير الشعر من خرقة وغيرها، فلا يدخل في النهي، والأول أصحّ؛ لحديث جابر رضي الله عنه المذكور، وسيأتي تمام البحث في ذلك في محله من "كتاب الزينة، إن شاء اللَّه تعالى (وَالْمَوْصُولَةَ) هي التي يُفعَل بها ذلك عن رضاها. وفي نسخة: و"الْمُوصَلَة"، من أوصله رباعيًّا (وَآكِلَ الرِّبَا) أي آخذ الربا، سواء أكله بعد ذلك، أو لا، وإنما خصّ الأكل؛ لأنه أعظم أنواع الانتفاع، كما قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الآية (وَمُوكِلَهُ) بالهمز، ودونه: أي معطيه لمن يأخذه، وإن لم يأكل منه؛ نظرًا إلى أن الأكل هو الأغلب، أو الأعظم كما تقدّم (وَالْمُحَلِّلَ) اسم فاعل من التحليل، ويجوز أن يكون من الإحلال (وَالْمُحَلَّلَ لَهُ) اسم مفعول من التحليل، ويجوز أيضًا أن يكون من الإحلال. قال ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى-: "لعن اللَّه المحَلِّلَ، والمحلَّلَ له"، وفي رواية: "الْمُحِلَّ، والْمُحَلَّ له". قال: وفي هذه اللفظة ثلاث لغات: حَلَّلتُ، وأحلَّلتُ، وحَلَلْتُ، يقال: حَلَّلَ، فهو مُحَلِّلٌ، ومُحَلَّل له، وأحلّ، فهو مُحِلٌّ، ومُحَلٌّ له، وحَلَلْتُ، فأنا حالٌّ، وهو محلولٌ له. قال: والمعنى في الجميع: هو أن يطلّق الرجل امرأته ثلاثًا، فيتزوّجها رجلٌ آخر على شَرِيطة أن يطلّقها بعد وطئها؛ لتحِلَّ لزوجها الأول. وقيل: سمي مُحَلِّلاً بقصده إلى التحليل، كما يُسمَّى مُشتريًا إذا قصد الشراء. انتهى باختصار
(2)
.
وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: "والْمُحِلُّ، والمُحَلّل له"
(3)
، الأول من الإحلال،
(1)
"النهاية" 5/ 189.
(2)
"النهاية"1/ 431.
(3)
هكذا نسخة شرح السنديّ، ولعله وقع له لفظ الأول "الْمُحلّ"، من الإحلال، ولفظ الثاني: =
والثاني من التحليل، وهما بمعنى واحد؛ ولذا روي "الْمُحِلُّ والْمُحَلُّ له، بلام واحدة مشددة، و"الْمُحَلِّلُ والمُحَلَّل له" بلامين، أولاهما مشدّدةٌ، ثم المُحَلَّلُ من تزوّج مطلّقة الغير ثلاثًا؛ لتحلّ له، والمُحلَّلُ له هو المطلِّقُ، والجمهور على أن النكاح بنية التحليل باطلٌ؛ لأن اللعن يقتضي النهي، والحرمةُ في باب النكاح تقتضي عدم الصحّة. وأجاب من يقول بصحّته أن اللعن قد يكون لخسّة الفعل، فلعلّ اللعن لأنه هَتْكُ مروءةٍ، وقلّة حَمِيّةٍ، وخِسّة نفس، أما بالنسبة إلى المحلَّل له فظاهرٌ، وأما المحلِّلُ فإنه كالتيس يُعير نفسه بالوطء لغرض الغير، وتسميته مُحلّلاً يؤيّد القول بصحّته، ومن لا يقول بها يقول: إنه قصد التحليل، وإن كانت لا تحلّ انتهى كلام السنديّ
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور من البطلان هو الحقّ، وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-13/ 3444 وفي "الكبرى" 14/ 5609. وأخرجه (ت) ف 112 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4272. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تغليظ الوعيد على من قصد بنكاح امرأة تحليلها لغيره، وهو يدلّ على تحريم ذلك، وبطلان النكاح، كما سيأتي تحقيقه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): تحريم الْوَشْم، وهو غرزُ الإبرة، أو نحوها في العضو حتى يَسيل الدم، ثم يُحشَى بنورة، أو غيرها، فيخضرّ، وهو حرام على الفاعلة، والمفعول بها إذا كانت راضية، وسيأتي تحقيق ذلك في محلّه من "كتاب الزينة"، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): تحريم وصل الشعر بغيره، والجمهور على تحريمه، سواء كان بشعر، أو بشيء آخر، وسيأتي تحقيقه في الكتاب المذكور، إن شاء
= "المُحَلَّل له" من التحليل، كما صرح به، والذي في النسخ التي عندي أن اللفظين من التحليل، فليُحرَّر.
(1)
"شرح السندي" 6/ 150.
اللَّه تعالى. (ومنها): تحريم أكل الربا، وإعطاؤه، وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه، من "كتاب البيوع"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم التحليل:
قال الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن أخرج الحديث: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، منهم عمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، وعبد اللَّه بن عمرو، وغيرهم، وهو قول الفقهاء من التابعين، وبه يقول سفيان الثوريّ، وابن المبارك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وسمعت الجارود يذكر عن وكيع أنه قال بهذا، وقال: ينبغي أن يرمَى بهذا الباب من قول أصحاب الرأي
(1)
، قال وكيع: وقال سفيان: إذا تزوّج المرأة ليُحللها، ثم بدا له أن يمسكها، فلا يحلّ له أن يمسكها حتى يتزوّجها بنكاح جديد. انتهى كلام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
.
وقال الحافظ في "التلخيص": استدلّوا بهذا الحديث على بطلان النكاح، إذا اشتَرَطَ الزوجُ إذا نكحها بانت منه، أو شرط أنه يطلّقها، أو نحو ذلك، وحملوا الحديث على ذلك، ولا شكّ أن إطلاقه يشمل هذه الصورة، وغيرهلالكن روى الحاكم، والطبرانيّ في "الأوسط" عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إليه رجلٌ، فسأله عن رجل طلّق امرأته ثلاثًا، فتزوّجها أخ له عن غير مؤامرة؛ ليحلّها لأخيه، هل تحلّ للأول؟ قال: لا، إلا بنكاح رغبة، كنّا نعُدّ هذا سِفَاحًا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال: وقال ابن حزم: ليس الحديث على عمومه في كلّ محلّل، إذ لو كان كذلك لدخل فيه كلّ واهب، وبائع، ومزوّج، فصح أنه أراد به بعض المحلّلين، وهو من أحلّ حرامًا لغيره بلا حجّة، فتعيّن أن يكون ذلك فيمن شرط ذلك؛ لأنهم لم يختلفوا في أن الزوج إذا لم ينو تحليلها للأول، ونوته هي أنها لا تدخل في اللعن، فدلّ على أن المعتبر الشرط. واللَّه أعلم انتهى كلام الحافظ
(3)
. وقال العلامة ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: نكاح المحلّل حرام باطلٌ في قول عامّة أهل العلم، منهم الحسن، والنخعيّ، وقتادة، ومالكٌ، والليث، والثوريّ، وابن
(1)
قال العلامة المباركفوريّ -رحمه اللَّه تعالى-: [تنبيه]: قول الإمام وكيع هذا يدلّ دلالة ظاهرة على أنه لم يكن حنفيًّا مقلّدًا للإمام أبي حنيفة، فبطل قول صاحب "العرف الشذيّ": إن وكيعًا كان حنفيًّا مقلّدًا لأبي حنيفة انتهى. "تحفة الأحوذيّ" 4/ 266.
(2)
"جامع الترمذيّ" 4/ 264 - 266. بنسخة "تحفة الأحوذيّ".
(3)
"التلخيص الحبير" 3/ 349 - 351.
المبارك، والشافعيّ، وسواء قال: زوّجتكها إلى أن تطأها، أو شرط أنه إذا أحلّها، فلا نكاح بينهما، أو أنه إذا أحلّها للأول طلّقها. وحكي عن أبي حنيفة أنه يصحّ النكاح، ويبطل الشرط. وقال الشافعيّ في الصورتين الأوليين: لا يصحّ، وفي الثانية على قولين.
ولنا ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن اللَّه المحلّل، والمحلّل له". رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذيّ، وقال: حديث حسنٌ صحيحٌ. والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، منهم: عمر بن الخطّاب، وعثمان، وعبد اللَّه بن عمر. وهو قول الفقهاء من التابعين. وروي ذلك عن عليّ، وابن مسعود، وابن عباس. وقال ابن مسعود: المحلّل والمحلّل له ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. وروى ابن ماجه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ " قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: هو المحلّل، لعن اللَّه المحلّل، والمحلّل له"
(1)
. وروى الأثرم بإسناده عن قبيصة بن جابر، قال: سمعت عمر، وهو يخطب الناس، وهو يقول:"واللَّه لا أوتى بمحلّ، ولا محلّل له إلا رجمتهما"
(2)
. ولأنه نكاح إلى مدّة، أو فيه ما يمنع بقاءه، فأشبه نكاح المتعة.
قال: فإن شرط عليه التحليل قبل العقد، ولم يذكره في العقد، ونواه في العقد، أو نوى التحليل من غير شرط، فالنكاح باطلٌ أيضًا. قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الرجل يتزوّج المرأة، وفي نفسه أن يُحلّلها لزوجها الأول، ولم تعلم المرأة بذلك؟ قال: هو محلّل، إذا أراد بذلك الإحلال، فهو ملعون، وهذا ظاهر قول الصحابة رضي الله عنهم. وروى نافع، عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - أن رجلاً قال له: امرأة تزوّجتها، أحلّها لزوجها لم يأمرني، ولم يعلم؟ قال: لا، إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكها، وإن كرهتها فارقها، قال: وإن كنّا نعُدّه على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سفاحًا، وقال: لا يزالان زانيين، وإن مكثا عشرين سنة، إذا علم أنه يريد أن يُحلّها
(3)
. وهذا قول عثمان بن عفّان رضي الله عنه. وجاء رجل إلى ابن عباس، فقال له: إن عمي طلّق امرأته
(1)
أخرجه ابن ماجه رقم (1936) والحاكم 2/ 199، والبيهقيّ 7/ 258، وسنده حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ. وفي الباب عن ابن عباس عند ابن ماجه (1934) وفي سنده زمعة بن صالح، وهو ضعيف. وعن جابر عند الترمذيّ (1119) وفي سنده مجالد بن سعيد، وهو ضعيف، لكن يشهد لهذين الحديثين حديثُ الباب، وحديثُ عقبة، فيصحّان. واللَّه تعالى أعلم.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنّفه" بسند رجال ثقات بلفظ: "لا أوتى بمحلّل، ولا بمحلّلة إلا رجمتهما".
(3)
راوه الحاكم 2/ 199 بنحوه، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ.
ثلاثًا، أيحلّها له رجلٌ؟ قال: من يُخادع اللَّه يَخدعه. وهذا قول الحسن، والنخعيّ، والشعبيّ، وقتادة، وبكر المزنيّ، والليث، وما لك، والثوريّ، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة، والشافعيّ: العقد صحيح. وذكر القاضي في صحّته وجهًا مثل قولهما؛ لأنه خلا عن شرط يفسده، فأشبه ما لو نوى طلاقها لغير الإحلال، أو ما لو نوت المرأة ذلك، ولأن العقد إنما يبطل بما شُرط، لا بما قُصد بدليل ما لو اشترى عبدًا بشرط أن يبيعه، لم يصحّ، ولو ثوى ذلك، لم يبطل، ولأنه روي عن عمر صلى الله عليه وسلم ما يدلّ على إجازته، فروى أبو حفص بإسناده، عن محمد بن سيرين، قال: قدم مكة رجلٌ، ومعه إخوةٌ له صغارٌ، وعليه إزارٌ، من بين يديه رقعة، ومن خلفه رقعة، فسأل عمر، فلم يُعطه شيئًا، فبينما هو كذلك إذ نزغ الشيطان بين رجل، من قريش، وبين امرأته، فطلّقها، فقال لها: هل لك تُعطي ذا الرقعتين شيئًا، ويُحلّك لي؟ قالت: نعم إن شئت، فأخبره بذلك، قال: نعم، فتزوّجها، ودخل بها، فلما أصبحت أدخلت إخوته الدارَ، فجاء القرشيّ يحوم حول الدار، ويقول: يا ويله، غُلبت على امرأتي، فأتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، غُلبت على امرأتي، قال: من غلَبك؟ قال: ذو الرقعتين، قال: أرسلوا إليه، فلما جاء الرسول، قالت له المرأة: كيف موضعك من قومك؟ قال: ليس بموضعي بأس، قالت: إن أمير المؤمنين يقول لك: طَلِّق امرأتك، فقل: لا، واللَّه لا أطلّقها، فإنه لا يُكرهك، وألبسته حلّةً، فلما رآه عمر من بعيد قال: الحمد للَّه الذي رزق ذا الرقعتين، فدخل عليه، فقال: أتطلّق امرأتك؟ قال: لا، واللَّه لا أطلّقها، قال عمر: لو طلّقتها لأوجعت رأسك بالسوط. ورواه سعيد، عن هشيم، عن يونس بن عُبيد، عن ابن سيرين نحوًا من هذا، وقال من أهل المدينة، وهذا قد تقدّم فيه الشرط على العقد، ولم ير به عمر بأسًا
(1)
.
ولنا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لعن اللَّه المحلّل، والمحلّل له"، وقول من سمّينا من الصحابة، ولا مخالف لهم، فيكون إجماعًا، ولأنه قصد به التحليل، فلم يصحّ، كما لو شرطه. أما حديث ذي الرقعتين، فقال أحمد: ليس له إسناده. يعني أن ابن سيرين لم يذكر إسناده إلى عمر. وقال أبو عبيد: هو مرسلٌ، فأين هو من الذين سمعوه يَخْطُبُ به على المنبر:"لا أوتى بمحلّل، ولا محلّل له، إلا رجمتهما". ولأنه ليس فيه أن ذا الرقعتين قصد التحليل، ولا نواه، وإذا كان كذلك لم يتناول محلّ النزاع انتهى كلام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
.
(1)
رواه سعيد بن منصور في "سننه" 2/ 50 - 51. وعبد الرزاق في "مصنفه" 6/ 267.
(2)
"المغني" 10/ 49 - 53.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجح عندي في هذه المسألة هو الذي ذهب إليه الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى-، من بطلان نكاح التحديل مطلقًا، سواء اقترن الشرط بالعقد لفظًا، أم لم يقترن؛ لإطلاق النصّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
14 - (بَابُ مُوَاجَهَةِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ بِالطَّلَاقِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا الإشارة إلى إثبات مشروعيّة الطلاق، وأنه لا يمنع عند الحاجة.
وقد ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بقوله: "باب من طلّق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق؟ ".
فقال الحافظ في "الفتح": كذا للجميع حذف ابن بطّال من الترجمة قوله: "من طلّق"، فكأنه لم يظهر له وجهه، وأظنّ المصنّف قصد إثبات مشروعيّة جواز الطلاق، وحمل حديث:"أبغض الحلال إلى اللَّه الطلاق" على ما إذا وقع من غير سبب، وهو حديث أخرجه أبو داود، وغيره، وأُعلّ بالإرسال، وأما المواجهة، فأشار إلى أنها خلاف الأولى؛ لأن ترك المواجهة أرفق، وألطف، إلا إن احتيج إلى ذكر ذلك. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3445 -
(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنِ الَّتِي اسْتَعَاذَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ الْكِلَابِيَّةَ، لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الْحُسَينُ بْنُ حُرَيْثٍ) الخزاعيّ مولاهم، أبو عمار المروزيّ، ثقة [10] 44/ 52.
(1)
"فتح" 10/ 448.
2 -
(الْوَلِيِدُ بْنُ مُسْلِم) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس المدمشقيّ، ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية [8] 5/ 454.
3 -
(الأوزاعيّ) عبد الرحمن بن عمرو، أبو عمرو الدمشقيّ، ثقة فاضل حجة [7] 45/ 56.
4 -
(الزهريّ) محمد بن مسلم المدنيّ الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.
5 -
(عروة) بن الزبير بن العوام المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه عروةَ أحد الفقهاء السبعة. (ومنها): أن فيها عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن الأوزاعيّ -رحمه اللَّه تعالى- أنه (قال: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ) -رحمه اللَّه تعالى- (عَنِ الَّتِي استَعَاذَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) وفي رواية البخاريّ: "أيُّ أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم استعاذت منه؟، (فَقَالَ) الزهريّ (أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ) بن الزبير (عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّ الْكِلَابيَّةَ) هكذا عند المصنّف، وسيأتي أن الصواب "الكندية". وهي أُميمة بنت النعماَن بن شراحيل، وقيل: أسماء بنت النعمان بن شَرَاحيل بن الأسود بن الجَوْنِ الكنديّة.
وفي رواية البخاريّ: "أن ابنة الْجَوْن
(1)
لَمّا أُدخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ودنا منها قالت: أعوذ باللَّه منك
…
". قال في "الفتح": قوله "ابنة الجون" زاد في نسخة الصغانيّ "الكلبية"، وهو بعيد على ما سأبيّنه. ووقع في "كتاب الصحابة" لأبي نعيم من طريق عُبيد بن القاسم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن عمرة بنت الجون تعوّذت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أدخلت عليه، قال: لقد عُذتِ بمعاذ
…
" الحديث. وعُبيد متروك. والصحيح أن اسمها أميمة بنت النعمان بن شراحيل، كما في حديث أبي أُسيد، وقال مرّة: أُميمة بنت شَراحيل، فنُسبت لجدّها. وقيل: اسمها أسماء. وروى ابن سعد عن الواقديّ عن ابن أخي الزهريّ، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة،
(1)
بفتح الجيم، وسكون الواو، آخرن نون. اهـ "عمدة القاري" 17/ 7.
قالت: "تزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم الكلابيّة
…
"، فذكر مثل حديث الباب. وقوله: "الكلابيّة" غلطٌ، وإنما هي "الكنديّة"، فكأنما الكلمة تصحّفت. نعم للكلابيّة قصّة أخرى، ذكرها ابن سعد أيضًا بهذا السند إلى الزهريّ، وقال: فاطمة بنت الضّحّاك بن سفيان، فاستعاذت منه، فطلّقها، فكانت تلقط البعر، وتقول: أنا الشقيّة، قال: وتُوفّيت سنة ستّين. ومن طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه: "أن الكنديّة لَمَا وقع التخيير اختارت قومها، ففارقها، فكانت تقول: أنا الشَقيّة". ومن طريق سعيد بن أبي هند أنها استعاذت منه، فأعاذها. ومن طريق الكلبيّ: اسمها العالية بنت ظبيان بن عمرو. وحكى ابن سعد أيضًا أن اسمها عمرة بنت يزيد بن عُبيد. وقيل: بنت يزيد بن الْجَوْن. وأشار ابن سعد إلى أنها واحدة، اختُلف في اسمها، والصحيح أن التي استتعاذت منه هي الْجَوْنية. وروى ابن سعد من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، قال: لم تستعذ منه امرأةٌ غيرها. قال الحافظ: وهو الذي يغلب على الظنّ؛ لأن ذلك إنما وقع للمستعيذة بالخديعة المذكورة، فيبعد أن تُخدع أخرى بعدها بمثل ما خُدعت به بعد شيوع الخبر بذلك. قال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج الْجَونيّة، واختلفوا في سبب فراقه، فقال قتادة: لَمّا دخل عليها دعاها، فقالت: تعال أنت، فطلّقها. وقيل: كان بها وَضَحٌ، كالعامريّة، قال: وزعم بعضهم أنها قالت: أعوذ باللَّه منك، فقال: قد عُذتِ بمعاذ، وقد أعاذك اللَّه منّي، فطلّقها. قال: وهذا باطلٌ، إنما قال له هذا امرأة من بني العنبر، وكانت جميلةً، فخاف نساؤه أن تغلبهنّ عليه، فقلن لها: إنه يُعجبه أن يقال له: نعوذ باللَّه منك، ففعلت، فطلّقها. قال الحافظ: كذا قال، وما أدري لم حَكَم ببطلان ذلك مع كثرة الروايات الواردة فيه، وثبوته في حديث عائشة في "صحيح البخاريّ"، وسيأتي مزيد لذلك في الحديث الذي بعده. قال: والقول الذي نسبه لقتادة، ذكر مثله أبو سعيد النيسابوريّ عن شرقيّ بن قطاميّ. انتهى ما في "الفتح".
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث الذي أشار إليه الحافظ بقوله: في الحديث الذي بعده هو ما أخرجه الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بعد حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - المذكور في الباب، فقال:
حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد الرحمن بن غَسِيل، عن حمزة بن أبي أُسَيد، عن أبي أسيد، رضي الله عنه، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى انطلقنا إلى حائط، يقال له الشَّوْط، حتى انتهينا إلى حائطين، فجلسنا بينهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اجلسوا ههنا"، ودخل وقد أُتِي بالْجَوْنِيّة، فأُنزلت في بيتٍ، في نخلٍ، في بيتٍ، أُمَيمَةُ بنتُ النعمان بن
شراحيل، ومعها دايَتُها
(1)
، حاضنة لها، فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"هبي نفسك لي"، قالت: وهل تهب الملِكَة نفسها للسُّوقة
(2)
، قال، فأهوى بيده
(3)
، يضع يده عليها؛ لتسكن، فقالت: أعوذ باللَّه منك، فقال:"قد عُذتِ بمعاذ"، ثم خرج علينا، فقال: "يا أبا أسيد، اكسُهَا رازِقيَّتَينِ
(4)
، وألحقها بأهلها".
قال في "الفتح": قوله: "فأنزلت في بيت الخ" هو بالتنوين و"أُميمة" بالرفع إما بدلاً عن الجونيّة، وإما عطف بيان.
قال ابن المنيّر: قولها: "وهل تهب الملكة الخ" هذا من بقيّة ما كان فيها من الجاهليّة، والسُّوقة عندهم من ليس ملكًا كائنًا من كان، فكأنها استبعدت أن يتزوّج الملكة من ليس بملك، وكان صلى الله عليه وسلم قد خُيّر أن يكون ملكًا نبيًّا، فاختار أن يكون عبدًا نبيًّا تواضعًا منه صلى الله عليه وسلم لربّه. ولم يؤاخذها النبيّ صلى الله عليه وسلم بكلامها معذرة لها لقرب عهدها بجاهليّتها. وقال غيره: يحتمل أنها لم تعرفه صلى الله عليه وسلم، فخاطبته بذلك. قال الحافظ: وسياق القصّة من مجموع طرقها يأبى هذا الاحتمال. نعم سيأتي في أواخر الأشربة من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: ذَكَر النبيّ صلى الله عليه وسلم امرأةً من العرب، فأمر أبا أُسيد الساعديّ أن يُرسل إليها، فقدمت، فنزلت في أُجُم بني ساعدة، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى جاء بها، فدخل عليها، فإذا امرأة منَكّسة رأسها، فلما كلّمها قالت: أعوذ باللَّه منك، قال:"لقد أعذتك منّي"، فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ هذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك، قالت: كنت أشقى من ذلك. فإن كانت القصّة واحدةً، فلا يكون قوله في حديث الباب:"ألحقها بأهلها"، ولا قوله في حديث عائشة:"الحقي بأهلك" تطليقًا لها، ويتعيّن أنها لم تعرفه. وإن كانت القصّة متعدّدة، ولا مانع من ذلك، فلعلّ هذه
(1)
البداية: الظئر المرضعة.
(2)
السوقة بالضمّ الرعيّة للواحد والجمع.
(3)
قال في "الفتح": قوله: "فأهوى بيده" أي أمالها إليها، ووقع في رواية ابن سعد:"فأهوى إليها ليقبلها، وكان إذا اختلى النساء أقعى، وقبّل"، وفي رواية لابن سعد:"فدخل عليها داخل من النساء، وكانت من أجمل النساء، فقالت: إنك من الملوك، فإن كنت تريدين أن تحظي عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءك، فاستعيذي منه". ووقع عنده عن هشام بن محمد، عن عبد الرحمن ابن الغسيل بإسناد حديث الباب:"أن عائشة وحفصة دخلتا عليها أوّل ما قدمت، فمشطتاها، وخضبتاها، وقالت لها إحداهما: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم يُعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول: أعوذ باللَّه منك". انتهى.
قال الجامع: قصّة خديعة عائشة وحفصة رضي الله عنهما يحتاج إلى النظر في سنده، واللَّه تعالى أعلم.
(4)
براء، ثم زاي، ثم قاف بالتثنية صفة موصوف محذوف للعلم به، والرازقيّة ثياب من كتان بيض طوال. وقيل: في داخل بياضها زرقة، والرازقيّ الصَّفِيق.
المرأة هي الكلابيّة التي وقع فيها الاضطراب. وقد ذكر ابن سعد بسند فيه العرْزميّ الضعيف، عن ابن عمر، قال: "كان في نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم سنا بنت سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب، قال: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث أبا أُسيد الساعديّ يخطب عليه امرأة من بني عامر يقال لها: عمرة بنت يزيد بن عبيد بن رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر. قال ابن سعد: اختُلِف علينا اسم الكلابية، فقيل: فاطمة بنت الضحّاك بن سفيان. وقيل: عمرة بنت يزيد بن عبيد. وقيل: العالية بنت ظبيان بن عمرو بن عوف، فقال بعضهم: هي واحدة، اختُلف في اسمها. وقال بعضهم: بل كنّ جمعًا، ولكن لكلّ واحدة منهنّ قصّة غير قصّة صاحبتها، ثم ترجم الْجَونية، فقال: أسماء بنت النعمان. ثم أخرج من طريق عبد الواحد بن أبي عون، قال: قدم النعمان بن أبي الجون الكنديّ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مسلمًا، فقال: يا رسول اللَّه ألا أزوّجك أجمل أيّم في العرب، كانت تحت ابن عمّ لها، فتُوفّي، وقد رغبت فيك؟ قال: نعم، قال: فابعث من يحملها إليك، فبعث معه أبا أسيد الساعديّ، قال أبو أسيد: فأقمت ثلاثة أيام، ثم تحملت معي في مِحَفّة، فأقبلت بها حتى قدمت المدينة، فأنزلتها في بني ساعدة، ووجّهت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو في بني عمرو بن عوف، فأخبرته
…
" الحديث. قال ابن أبي عون: وكان ذلك في ربيع الأول سنة تسع. ثم أخرج من طريق أخرى عن عمر بن الحكم، عن أبي أُسيد، قال: "بعثني رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الجونيّة، فحمدتها حتى نزلت بها في أُطُم بني ساعدة، ثم جئت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فخرج يمشي على رجليه حتى جاءها
…
" الحديث. ومن طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، قال: اسم الجونيّة أسماء بنت النعمان ابن أبي الجون، قيل: لها: استعيذي منه، فإنه أحظى لك عنده، وخُدِعت لما رؤي من جمالها، وذكر لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من حملها على ما قالت، فقال: "إنّهنّ صواحب يوسف، وكيدهن".
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: فهذه تتنزّل قصّتها على حديث أبي حازم، عن سهل بن سعد. وأما القصّة التي في حديث الباب من رواية عائشة، فيمكن أن تنزّل على هذه أيضًا، فإنه ليس فيها إلا الاستعاذة، والقصة التي في حديث أبي أُسيد فيها أشياء مغايرة لهذه القصّة، فيقوى التعدّد، ويقوى أن التي في حديث أبي أُسيد اسمها أُميمة، والتي في حديث سهل اسمها أسماء. واللَّه أعلم. وأُميمة كان عقد عليها، ثم فارقها، وهذه لم يعقد عليها، بل جاء ليخطبها فقط انتهى كلام الحافظ
(1)
.
(1)
"فتح" 10/ 448 - 451.
(لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَت: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ عُذْتِ) بضمّ العين، من عاذ يعوذ، من باب قال: أي اعتصمت، والتجأت (بِعَظِيمٍ) أي بمُعتَصَم عظيم، وهو اللَّه عز وجل. وفي حديث أبي أُسيد:"قد عُذت بمَعاذ" وهو بفتح الميم،: ما يُستعاذ به، أو اسم مكان العوذ. وفي رواية ابن سعد: فِقال بكمّه على وجهه، وقال:"عُذت معاذًا"، ثلاث مرّات. وفي أخرى له: فقال: "أَمِنَ عائذُ اللَّه"(الْحَقِي بِأَهْلِكِ) بفتح الحاء المهملة، أمر من لَحِق يَلْحَق لَحْقًا، ولحَاقًا، بكسر العين في الماضي، وفتحها في المضارع، فالهمزة فيه همزة وصل، بخلافها في حديث أبي أُسيد الماضي، بلفظ:"وأَلْحِقها بأهلها"، فإنها همزة قطع؛ لأنها أمر من أُلْحَقَ رباعيّا.
ثم إن قوله: "الحَقي بأهلك" كناية عن طلاقها، وهذا محلّ الشاهد للترجمة، حيث واجهها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالطلاق، فدلّ على أن مواجهة الرجل امرأته بالطلاق جائز. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-14/ 3445 - وفي "الكبرى" 15/ 5610. وأخرجه (خ) في "الطلاق" 5254 (ق) في "الطلاق" 2050. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواز مواجهة الرجل زوجته بالطلاق، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وأما حديث:"أبغض الحلال إلى اللَّه الطلاق"، وهو حديث مختلف في وصله، وإرساله، والصحيح أنه مرسل، فإن صحّ فمحمول على ما إذا لم يوجد هناك حاجة لطلاقها، بل طلّقها بدون سبب، (ومنها): أن من قال لامرأته: الحقي باهلك، وأراد به الطلاق طُلّقت، وأما إذا لم يُرد به الطلاق، فلا؛ لحديث كعب بن مالك رضي الله عنه الآتي بعد ثلاثة أبواب، إن شاء اللَّه تعالى، فإنه قال لها:"الحقي بأهلك، فكوني فيهم، حتى يقضي اللَّه عز وجل في هذا الأمر"، فلم يعدّ ذلك طلاقًا، وسيأتي اختلاف العلماء فيمن قال لامرأته: الحقي بأهلك هناك، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
15 - (بَابُ إِرْسالِ الرَّجُلِ إِلَى زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا بيان مشروعيّة إرسال الزوج إلى امرأته بطلاقها؛ لحديث فاطمة بنت قيس - رضي اللَّه تعالى عنها - المذكور في الباب، كما أنه بين في الباب الماضي جواز مواجهته لها به، لقصّة الْجَوْنيّة، فلا فرق في جوازه، ووقوعه بين مخاطبتها به مواجهةً، وبين إرساله به إليها من بعيد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3446 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي الْجَهْمِ، قَالَ: سَمِعْتُ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ، تَقُولُ: أَرْسَلَ إِلَيَّ زَوْجِي بِطَلَاقِي، فَشَدَدْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«كَمْ طَلَّقَكِ؟» ، فَقُلْتُ: ثَلَاثًا، قَالَ: «لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ، وَاعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ عَمِّكِ، ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، تُلْقِينَ ثِيَابَكِ عِنْدَهُ، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُكِ، فَآذِنِينِي
…
». مُخْتَصَرٌ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ. و"أبو بكر بن أبي الْجَهْم": هو ابن عبد اللَّه بن أبي الجهم العدويّ، نُسب لجدّه، ثقة [4] 17/ 1533.
وقولها: "ثلاثًا" أي طلّقني ثلاث تطليقات، وقد تقدّم أن المراد آخر ثلاث تطليقات، لا أنه طلّقها ثلاثًا بكلمة واحدة؛ لما بينته الروايات الأخرى، فتنبّه.
وقوله: "مختصرٌ" بالرفع خبر لمحذوف، أي هو مختصر، ووقع في بعض النسخ مختصرًا بالنصب على الحال. يعني أن هذا الحديث مختصر من حديث فاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها - المطوّل، وقد تقدّم بيانه في "كتاب النكاح" برقم -/ 8/ 3222 - " تزويج المولى العربيّة"
والحديث صحيح، تقدّم للمصنّف بالرقم المذكور، وتقدّم هناك شرحه، وبيان مسائله، فراجه هناك تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3447 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ تَمِيمٍ، مَوْلَى فَاطِمَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ نَحْوَهُ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "منصور": هو ابن المعتمر. و"مجاهد": هو ابن جبر.
و"تميم مولى فاطمة" بنت قيس، أبو سلمة الفِهْريّ الكوفيّ، مقبول [3].
روى عن فاطمة قصّة طلاقها، وروى عنه مجاهد. تفرّد به المصنّف بحديث الباب فقط. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
16 - (بَابُ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ} [التحريم: 1]
3448 -
(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَوْصِلِيُّ
(1)
، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنِّي جَعَلْتُ امْرَأَتِي عَلَيَّ حَرَامًا، قَالَ: كَذَبْتَ، لَيْسَتْ عَلَيْكَ بِحَرَامٍ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} عَلَيْكَ أَغْلَظُ الْكَفَّارَةِ، عِتْقُ رَقَبَةٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَليٍّ الْمَوْصِليُّ) الأسديّ، صدوقٌ [11] 19/ 1655.
2 -
(مخلد) بن يزيد القرشيّ الحرّانيّ، صدوق، له أوهام، من كبار [9] 141/ 222.
3 -
(سفيان) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة، من رءوس [7] 33/ 37.
4 -
(سالم) بن عجلان الأفطس الأمويّ مولاهم، مولى محمد بن مروان، أبو محمد الْجَزَريّ الحرّانيّ، يقال: إنه من سبي كابُل، ثقة رمي بالإرجاء [6].
قال أحمد: ثقة، وهو أثبت من خُصيف. وقال ابن معين: صالح. وقال أبو حاتم: صدوق، وكان مرجئًا نقيّ الحديث. وقال العجليّ: جزريّ ثقة. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، قتله عبد اللَّه بن عليّ بِحَرّان سنة
(1)
بفتح الميم، وسكون الواو، وكسر الصاد المهملة: نسبة إلى الْمَوْصِل مدينة بالجزيرة. اهـ "لبّ اللباب" 2/ 280.
(132)
. وقال السعديّ: كان يُخاصم في الإرجاء داعية، وهو متماسك. وقال الحاكم، عن الدارقطنيّ: ثقة، يُجمع حديثه. وقال العجليّ: كان صالحًا. وقال ابن حبّان: كان ممن يرى الإرجاء، ويقلب الأخبار، ويتفرّد بالمعضلات عن الثقات، اتّهم بأمر سوء، فقُتل صبرًا. أخرج له البخاريّ، وأبو داود، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند البخاريّ حديثان، وعند المصنّف حديث الباب فقط.
5 -
(سعيد بن جبير) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 28/ 436.
6 -
(ابن عباس) عبد اللَّه البحر الحبر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (قَالَ) الظاهر أن الضمير لسعيد، لا لابن عباس؛ لأنه يلزم فيه الالتفات (أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنِّي جَعَلْتُ امْرَأَتِي عَلَيَّ حَرَامًا، قَالَ) ابن عباس (كَذَبْتَ) أي لأن التحريم والتحليل ليس إلا للَّه تعالى، فما حرّمه، فهو الحرام، وما أحلّه فهو الحلال، ولا يجوز لأحد أن يتولّى ذلك، فقد نهى اللَّه تعالى ذلك، فقال في محكم التنبزيل:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} الآية [النحل: 116]، (لَيْسَتْ عَلَيْكَ بِحَرَامٍ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]) هذا بظاهره يدلّ أن هذه الآية نزلت في تحريم المرأة، كما جاء أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّم جاريته مارية رضي اللَّه تعالى عنها، فنزلت، والحديث الآتي في الباب التالي يدلّ على أنها نزلت في شربه صلى الله عليه وسلم العسل عند زينب بنت جحش - رضي اللَّه تعالى عنها -، وقد تقدّم في "كتاب عشرة النساء" تحقيق ذلك، وأن الأصحّ أن الآية نزلت في الأمرين جميعًا، فراجعه تزدد علمًا (عَلَيْكَ أَغْلَظُ الكَفَّارَةِ) قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: لعلّه أُغلظ في ذلك لينزجز الناس، ويرتدعوا عن ذلك، وإلا فظاهر الآية يقتضي كفّارة اليمين، فقد قال اللَّه تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، فيُتأمّل انتهى
(1)
.
(1)
"شرح السندي" 6/ 151.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ليس المراد من قول ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أنه يتعيّن عليه عتق الرقبة، بل ذلك من الحكم بالنظر لحال الرجل، حيث رآه موسرًا، فأراد أن يغلّظ عليه، زجرًا له، لا لتعيّنه عليه، قال الحافظ في "الفتح": كأنه أشار عليه بالرقبة لأنه عرف أنه موسرٌ، فأراد أن يكفّر بالأغلظ، من كفّارة اليمين، لا أنه يتعيّن عليه عتق الرقبة، ويدلّ عليه ما تقدّم عنه من التصريح بكفّارة اليمين انتهى.
وأشار بقوله: "ما تقدّم عنه" إلى ما أخرجه البخاريّ في "كتاب التفسير" عن سعيد بن جبير، عنه قال:"في الحرام يُكفّر". ووقع في رواية ابن السكن: "يمينٌ تُكفّر"، ووقع في بعض حديث ابن عباس، عن عمر:"فعاتبه اللَّه في ذلك، وجعل له كفّارة يمين".
(عِتْقُ رَقَبَةٍ) بالرفع بدل من "أغلظُ"، أو خبر لمبتدإ محذوف، أي هو عتق رقبة، ويحتمل النصب، أي أعني عتق رقبة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-16/ 3448 - وفي "الكبرى" 17/ 5613. وأخرجه (خ) في "التفسير" 4911 (م) في "الطلاق" 1473 (ق) في "الطلاق" 2073.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم فيمن قال لامرأته: أنت عليّ حرام:
قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تفسيره": اختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته: "أنت عليّ حرام" على ثمانية عشر قولاً:
(أحدها): لا شيء عليه. وبه قال الشعبيّ، ومسروق، وربيعة، وأبو سلمة، وأصبغ، وهو عندهم كتحريم الماء والطعام، قال اللَّه تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية. والزوجة من الطيّبات، ومما أحلّ اللَّه. وقال تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا} الآية. وما لم يُحرّمه اللَّه فليس لأحد أن يُحرّمه، ولا يصير بتحريمه حرامًا، ولم يثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحلّ اللَّه: هو عليّ حرام، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدّمت منه، وهو قوله:"واللَّه لا أقربها بعد اليوم"، فقيل له:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ، أي لم تمتنع منه بسبب اليمين؟، يعني أقدِمْ عليه، وكفّر.
(وثانيها): أنها يمين يُكفّرها. قاله أبو بكر الصّدّيق، وعمر بن الخطّاب، وعبد اللَّه
بن مسعود، وابن عباس، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنهم -، والأوزاعيّ، وهو مقتضى الآية. قال سعيد بن جبير، عنِ ابن عبّاس: إذا حرّم الرجل عليه امرأته، فإنما هي يمين يُكفّرها. وقال ابن عبّاس:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، يعني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان حرّم جاريته، فقال اللَّه تعالى:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} الآية. فكفّر عن يمينه، وصيّر الحرام يمينًا. أخرجه الدراقطنيّ.
(وثالثها): أنها تجب فيها كفّارة، وليست بيمين. قاله ابن مسعود، وابن عبّاس أيضًا في إحدى روايتيه، والشافعيّ في أحد قوليه، وفي هذا القول نظر، والآية تردّه على ما يأتي.
(ورابعها): هي ظهار، ففيها كفّارة الظهار. قاله عثمان، وأحمد بن حنبل، وإسحاق.
(وخامسها): أنه إن نوى الظهار، وهو ينوي أنها محرّمة كتحريم ظهر أمه، كان ظهارًا، وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق، تحريمًا مطلقًا، وجبت كفّارة يمين، وإن لم ينو شيئًا، فعليه كفّارة يمين. قاله الشافعيّ.
(وسادسها): أنها طلقةٌ رجعيّةٌ. قاله عمر بن الخطاب، والزهريّ، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وابن الماجشون.
(وسابعها): أنها طلقة بائنةٌ. قاله حمّاد بن أبي سليمان، وزيد بن ثابت، ورواه خُوَيز مَنْدَاد عن مالك.
(وثامنها): أنها ثلاث تطليقات. قاله عليّ بن أبي طالب، وزيد بن ثابت أيضًا، وأبو هريرة رضي الله عنهم.
(وتاسعها): هي في المدخول بها ثلاث، ويُنَوَّى في غير المخول بها، قاله الحسن، وعليّ بن زيد، والحكم، وهو مشهور مذهب مالك.
(وعاشرها): هي ثلاث، ولا يُنوَّى بحال، ولا في محلّ، وإن لم يدخل بها. قاله عبد الملك في المبسوط، وبه قال ابن أبي ليلى.
(وحادي عشرها): هي في التي لم يدخل بها واحدة، وفي التي دخل بها ثلاثٌ. قاله أبو مصعب، ومحمد بن عبد الحكم.
(وثاني عشرها): أنه إن نوى الطلاق، أو الظهار كان ما نوى، فإن نوى الطلاق، فواحدةٌ بائنةٌ، إلا أن ينوي ثلاثًا، فإن نوى ثنتين فواحدة، فإن لم ينو شيئًا كانت يمينًا، وكان الرجل موليًا من امرأته. قاله أبو حنيفة وأصحابه، وبمثله قال زُفر، إلا أنه قال:
نوى اثنتين ألزمناه.
(وثالث عشرها): أنه لا تنفعه نيّة الظهار، وإنما يكون طلاقًا. قاله ابن قاسم.
(ورابع عشرها): قال يحيى بن عمر: يكون طلاقًا، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفّارة الظهار.
(وخامس عشرها): إن نوى الطلاق فما أراد من أعداده، وإن نوى واحدةً، فهي رجعيةٌ. وهو قول الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-، وروي مثله عن أبي بكر، وعمر، وغيرهم من الصحابة، والتابعين.
(وسادس عشرها): إن نوى ثلاثًا فثلاثًا، وإن نوى واحدة فواحدة، وإن نوى يمينًا فهي يمين، وإن لم ينو شيئًا فلا شيء عليه. وهو قول سفيان، وبمثله قال الأوزاعيّ، وأبو ثور، إلا أنهما قالا: إن لم ينو شيئًا فهي واحدةٌ.
(وسابع عشرها): له نيّته، ولا يكون أقلّ من واحدة. قاله ابن شهاب. وإن لم ينو شيئًا لم يكن شيء. قاله ابن العربيّ. ورأيت لسعيد بن جبير، وهو:
(ثامن عشرها): أن عليه عتق رقبة، وإن لم يجعلها ظهارًا. ولست أعلم لها وجهًا، ولا يبعد
(1)
في المقالات عندي.
قال القرطبيّ: قال علماؤنا: سبب الاختلاف في هذا الباب أنه ليس في كتاب اللَّه، ولا في سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نصّ، ولا ظاهرٌ يُعتمد عليه في هذه المسألة، فتجاذبها العلماء لذلك.
فمن تمسّك بالبراءة الأصليّة، فقال: لا حكم، فلا يلزم بها شيء. وأما من قال: إنها يمين، فقال: سماها اللَّه يمينًا. وأما من قال: تجب فيها كفّارة، وليست بيمين، فبناه على أحد أمرين: أحدهما: أنه ظنّ أن اللَّه تعالى أوجب الكفّارة فيها، وإن لم تكن يمينًا، والثاني: أن معنى اليمين عنده التحريم، فوقدت الكفّارة على المعنى. وأما من قال: إنها طلقة رجعيّةٌ، فإنه حمل اللفظ على أقلّ وجوهه، والرجعيّة محرّمة الوطء كذلك، فيُحمل اللفظ عليه. وهذا يلزم مالكًا؛ لقوله: إن الرجعيّة محرّمة الوطء. وكذلك وجه من قال: إنها ثلاث، فحمله على أكبر معناه، وهو الطلاق الثلاث. وأما من قال: إنه ظهار؛ فلأنه أقلّ درجات التحريم، فإنه تحريم، لا يرفع النكاح. وأما من قال: إنه طلقةٌ بائنةٌ، فعوّل على أن الطلاق الرجعيّ لا يُحرّم المطلّقةَ، وأن الطلاق البائن يحرّمها. وأما قول يحيى بن عمر، فإنه احتاط بأن جعله طلاقًا، فلما ارتجعها احتاط بأن
(1)
هكذا النسخة "ولا يبعد"، والظاهر أن الصواب "ولا يُعَدُّ"، فليتأمل. واللَّه تعالى أعلم.
ألزمه الكفّارةَ.
قال ابن العربيّ
(1)
: وهذا لا يصحّ؛ لأنه جمع بين المتضادّين، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاقٌ في معنى لفظ واحد، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصحّ اجتماعه في الدليل.
وأما من قال: إنه يُنَوَّى في التي لم يدخل بها؛ فلأن الواحدة تُبينها، وتحرّمها شرعًا إجماعًا، وكذلك قال من ليم يَحْكُمْ باعتبار نيّته: إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع، فيكفي أخذًا بالأقلّ المتَّفَق عليه. وأما من قال: إنه ثلاث فيهما، فلأنه أخذ بالحكم الأعظم، فإنه لو صرّح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها، ومن الواجب أن يكون المعنى مثله، وهو التحريم.
وهذا كلّه في الزوجة، وأما في الأمة فلا يلزم فيها شيء من ذلك، إلا أن ينوي به العتق عند مالك. وذهب عامّة العلماء إلى أن عليه كفّارة يمين. قال ابن العربيّ: والصحيح أنها طلقة واحدة؛ لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقلّه، وهو الواحدة إلا أن يعدّده، كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقلّه إلا أن يقيّده بالأكثر، مثل أن يقول: أنت عليّ حرام إلا بعد زوج، فهذا نصّ على المراد. انتهى كلام القرطبيّ
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أقرب الأقوال القول الثاني، وهو أنه يمين يكفّرها؛ لأنه مقتضى الآية، كما أشار إليه ترجمان القرآن عبد اللَّه بن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، كما بينه الحديث الذي أورده المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في هذا الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
17 - (تَأْوِيلُ هَذِهِ الآيَةِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ)
3449 -
(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ،
(1)
سقطت من نسخة القرطبيّ لفظة "قال"، والظاهر أنها من النسّاخ، واللَّه تعالى أعلم.
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 180 - 184 "تفسير سورة التحريم".
وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلاً، فَتَوَاصَيْتُ وَحَفْصَةَ، أَيَّتُنَا مَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ: ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:"بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ" وَقَالَ: "لَنْ أَعُودَ لَهُ"، فَنَزَلَ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ، {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} لِقَوْلِهِ:«بَلْ شَرِبْتُ عَسَلَا» ، كُلُّهُ فِي حَدِيثِ عَطَاءٍ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم سندًا، ومتنًا في "كتاب عشرة النساء" - "باب الْغَيْرَةِ"، رواه هناك عن شيخه الحسن بن محمد الزعفرانيّ، عن حجّاج به، وتقدّم شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله، فراجعه تستفد.
ودلالته لما ترجم له هنا واضحة، حيث إنه يدلّ على أن الآية نزلت بسبب قصّة شربه صلى الله عليه وسلم العسل عند أم المؤمنين زينب - رضي اللَّه تعالى عنها -، وقد تقدّم في الباب الماضي أن الأصحّ أنها نزلت فيها، وفي قصّة مارية - رضي اللَّه تعالى عنها -، ولا مانع من تعدّد سبب آية واحدة.
وحجاج: هو ابن محمد الأعور. و"عطاء": هو ابن أبي رباح.
وقولها: "فتواصيت": أي توافقتُ. وقولها: "وحفصة" قال السنديّ: بالنصب أقرب، أي مع حفصة حتى لا يلزم العطف على الضمير المرفوع بلا تأكيد، ولا فصل
انتهى.
يعني أن العطف على الضمير المرفوع بلا فاصل ضعيف، كما قال في "الخلاصة":
وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ
أَوْ فَاصِلٍ مَا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ
…
فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ
وقوله: "ما دخل""ما" زائدة، وسقطت من بعض النسخ. وقوله:"مغافر" هو شيء حُلْوٌ، له ريحٌ كَرِيهةٌ، وكان صلى الله عليه وسلم لا يُحبّ الرائحة الكريهة، فلذلك ثقل عليه ما قالتا، وعزم على عدم العود. وقد تقدّم الكلام على ضبطه ومعناه مستوفًى في "كتاب عشرة النساء"، وللَّه الحمد والمنّة.
وقوله: "على إحديهما" هكذا النسخ بالياء التحتانيّة، والقاعدة في مثل هذا أن يكون بالألف؛ لأن "إحدى" مقصور، والمقصور لا تُقلب ألفه ياء عند إضافته إلى الضمير، بل يبقى على حاله، وإنما تقلب ألف "على"، و"إلى"، "لَدَى"، فيقال: عليه، وإليه، ولديه.
ويحتمل أن يكون مما كُتب على صورة الإمالة، فتكون قراءته بالألف. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "كلّه في حديث عطاء" يعني أن هذا الحديث كلّه مذكور في حديث عطاء بن أبي رباح، عن عُبيد بن عُمير. ولم يظهر لي فائدة تنصيصه على هذا، فاللَّه تعالى أعلم.
وعبارة "الكبرى": "هذا الكلام كلّه في حديث عطاء. قال أبو عبد الرحمن: هذا الحديث إسناده جيّد، غاية صحيحٌ، حديث عائشة هذا في العسل انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
18 - (بَابُ الْحَقِي بِأَهْلِكِ)
3449 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّىِّ بْنِ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ، حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَالَ فِيهِ: إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِينِي، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
…
ح وَأَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ، حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ
…
وَسَاقَ قِصَّتَهُ، وَقَالَ: إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَأْتِي، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ، فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا، أَمْ مَاذَا؟ قَالَ: لَا، بَلِ اعْتَزِلْهَا، فَلَا تَقْرَبْهَا، فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَكُونِي عِنْدَهُمْ، حَتَّى يَقْضِىَ اللَّهُ عز وجل فِي هَذَا الأَمْرِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم للمصنّف في "كتاب الصلاة" - "الرخصة في الجلوس فيه -أي المسجد- والخروج منه بغير صلاة"، وهو حديث طويلٌ جدًّا، وقد ساقه الشيخان بطوله في "صحيحيهما"، وقد أوردته في شرحي هذا في الباب المذكور، وأورده المصنّف في عدّة أبواب مقطّعًا حسبما يريد الاحتجاج به في الأحكام المختلفة، فقد أورده هنا مستدلاًّ على أن قول الرجل لامرأته:
(1)
راجع "السنن الكبرى" للبيهقيّ 3/ 356 رقم 5614.
الحقي بأهلك" لا يكون طلاقًا إلا إذا نوى الطلاق، كما سبق في الباب الماضي، وسأبّين أقوال أهل العلم فيه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.
و"محمد بن حاتم بن نُعيم": هو المروزيّ، ثقة [12] 1/ 397 من أفراد المصنّف. و"سليمان ابن داود": هو المَهْريّ، أبو الربيع المصريّ، ابن أخي رِشْدين بن سعد، ثقة [11] 79/ 36 من أفراد المصنّف وأبي داود. و"محمد بن مكيّ بن عيسى": هو المروزيّ، مقبول [10] 66/ 1800 من أفراد المصنّف، وأبي داود أيضًا. والباقون كلهم رجال الصحيح، و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك. و"يونس": هو ابن يزيد الأيليّ. و"عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك" الأنصاريّ السلميّ، أبو الخطّاب المدنيّ، ثقة [3].
روى عن أبيه، وجدّه، وعمّه عُبيد اللَّه، وأبي هريرة، وجابر، وسلمة بن الأكوع على خلاف فيه. وعنه الزهريّ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. قيل: إنه كان أعلم قومه، وأوعاهم. وقال النسائيّ: ثقة. وقال خليفة بن خيّاط: مات في خلافة هشام بن عبد الملك. ووقع في "صحيح البخاريّ" في "الجهاد" تصريحه بالسماع من جدّه. وقال الذهليّ في "العلل": ما أظنّه سمع من جدّه شيئًا. وقال الدارقطنيّ: روايته عن جدّه مرسل. وقال أبو العبّاس الطَّرْقيّ: إنما روى عن جدّه أحرفًا في الحديث، ولم يمكّنه بطوله، فاستثبته من أبيه. روى له الجماعة، سوى مسلم، والترمذيّ.
[تنبيه]: (اعلم): أن الزهريّ -رحمه اللَّه تعالى- روى هذا الحديث عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك، عن جدّه كعب، كما في السند الأول، فقد صرّح بسماعه من عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب، عن كعب، وهي الرواية التي أخرجها البخاريّ في "كتاب الجهاد" - (2948)"باب من أراد غزوًا، فورّى بغيرها"، قال:
وحدثني أحمد بن محمد، أخبرنا عبد اللَّه، أخبرنا يونس، عن الزهريّ، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك، قال: سمعت كعب بن مالك، رضي الله عنه، يقول
…
" الحديث.
قال الحافظ في "الفتح": نعم توقّف الدارقطنيّ في هذه الرواية التي وقع فيها التصريح بسماع عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك من جدّه.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أحمد بن محمد شيخ البخاريّ هو السمسار المروزيّ، المعروف بمردويه، وهو ثقة حافظ، ولم ينفرد بهذه الرواية، فقد تابعه محمد بن مكيّ بن عيسى عند المصنّف هنا، فلا يُرتاب في سماع عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب، من جدّه كعب، فيحتمل أنه سمعه منه، فثبّته أبوه، فكان في أكثر أحواله يرويه
عن أبيه، عن جدّه، وربما رواه عن جدّه، كما أشار إليه الحافظ في "هدي الساري" ص 381.
والحاصل أن السند من الطريقين ثابتٌ صحيح. واللَّه تعالى أعلم.
ورواه الزهريّ أيضًا عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن كعب، كما في السند الثاني، والروايتين اللتين بعد هذا، وهذه هي الرواية المشهورة عن عبد الرحمن.
ورواه أيضًا عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعبُ بن مالك، عن عمّه عُبيد اللَّه بن كعب، عن كعب، كما في الرواية الرابعة، وهي التي أخرجها البخاريّ في "الجهاد" أيضًا -3088 - لكن قرنه بأبيه.
وعن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه كعب، كما في رواية معمر، عن الزهريّ الآتية آخر الباب 3453 - وهي التي أخرجها البخاريّ في "الجهاد أيضًا" -2950 - .
وعن عبد اللَّه بن كعب بن مالك، عن أبيه، كما في الرواية الآتي في "كتاب الأيمان والنذور" -36/ 3850 - .
قال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-: يُشبه أن يكون الزهريّ سمع هذا الحديث من عبد اللَّه بن كعب، ومن عبد الرحمن، عنه في هذا الحديث الطويل، توبةِ كعبٍ انتهى
(1)
.
والحاصل أن طرق حديث الزهريّ -رحمه اللَّه تعالى- كلها صحيحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
وقوله: "حين تخلّف" متعلّقٌ بـ "حَدِيثَهُ" أي يُحدّث ما وقع له حين التخلُّف.
وقوله: "فلا تقربها" بفتح الراء، وضمها، من بابي تعب، وقتل، قال الفيّوميّ: وقربتُ الأمرَ أَقرَبه، من باب تعب، وفي لغة من باب قتل قِرْبانًا بالكسر: فَعَلتُهُ، أو دانيته، ومن الأول قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} الآية، ومن الثاني:"لا تَقْرَب الحِمَى": أي لا تدنُ منه انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم بيان المسائل المتعلقة بهذا الحديث في "كتاب الصلاة"، كما أسلفته قريبًا، وإنما أتكلّم هنا فيما ترجم له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وهو بيان حكم قول الرجل لامراْته:"الحقي بأهلك"، فأقول:
(1)
راجع "المجتبى" 7/ 22 رقم الحديث (3823) ترقيم أبي غُدَّة.
[مسألة]: إذا قال الرجل لزوجته: "الحقي بأهلك"، ولا يريد طلاقها بذلك، فلا شيء عليه؛ لحديث كعب بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - المذكور في الباب، وأما إذا قال لها ذلك، مريدًا به الطلاق، فقد اختلف فيه أهل العلم:
قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: اختلفوا في قوله: "الحقي بأهلك"، وشبهه من كنايات الطلاق، فقالت طائفة: يُنَوَّى
(1)
في ذلك، فإن أراد طلاقًا كان طلاقًا، وإن لم يُرده لم يلزمه شيء. هذا قول الثوريّ، وأبي حنيفة، قالا: إذا نوى واحدةً، أو ثلاثًا، فهو ما نوى، وإن نوى ثنتين فهي واحدة. وقال مالك: إن أراد به الطلاق فهو ما نوى، واحدة، أو ثنتين، أو ثلاثًا، وإن لم يرد شيئًا، فليس بشيء. وقال الحسن، والشعبيّ: إذا قال: الحقي بأهلك، أو لا سبيل لي عليك، أو الطريق لك واسعٌ، إن نوى طلاقًا، فهي واحدة، وإلا فليس بشيء. ذكره العلامة العينيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "عمدته"
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما قاله الإمام مالك -رحمه اللَّه تعالى- أقرب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3450 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَبَلَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: -وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ- يُحَدِّثُ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِلَى صَاحِبَيَّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْتَزِلُوا نِسَاءَكُمْ، فَقُلْتُ لِلرَّسُولِ: أُطَلِّقُ امْرَأَتِي، أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ تَعْتَزِلُهَا، فَلَا تَقْرَبْهَا، فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَكُونِي فِيهِمْ، فَلَحِقَتْ بِهِمْ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن جَبَلَة": هو الرافقيّ، خراسانيّ الأصل، صدوق [11] 190/ 167 من أفراد المصنّف.
و"محمد بن يحيى بن محمد": الحرّانيّ الكلبيّ، لقبه لؤلؤ، ثقة، صاحب حديث [11] 4/ 40 من أفراد المصنّف.
و"محمد بن موسى بن أعين" الجزريّ، أبو يحيى الحرّانيّ، صدوق، من كبار [10] 4/ 403 من رجال البخاريّ، والمصنّف.
و"موسى بن أعين": هو القرشيّ مولاهم، أبو سعيد الجزريّ، ثقة عابد [8] 11/ 415.
(1)
الظاهر أنه بالبناء للمفعول، وتشديد الواو: أي يُسأل عن نيته.
(2)
"عمدة القاري" 17/ 8. "كتاب الطلاق".
و"إسحاق بن راشد": هو أبو سليمان الجزريّ، ثقة في حديثه عن الزهريّ بعض الوهم [7] 39/ 2192.
وقوله: "وهو أحد الثلاثة الخ": هم هلال بن أمية الواقفيّ، ومُرارة بن الربيع الْعَمْريّ، وكعب بن مالك رضي الله عنهم.
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3451 -
(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ
(1)
، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبًا، يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ، حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَالَ فِيهِ: إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِينِي، وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ، فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا، أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ ، قَالَ: بَلِ اعْتَزِلْهَا، وَلَا تَقْرَبْهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، وَكُونِي عِنْدَهُمْ، حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عز وجل فِي هَذَا الأَمْرِ. خَالَفَهُمْ مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يوسف بن سعيد": هو الْمِصِّيصيّ، ثقة حافظ [11] 131/ 198 من أفراد المصنّف.
و"حجّاج": هو ابن محمد الأعور. والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: "خَالَفَهُمْ مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ" يعني أن معقل بن عبيد اللَّه خالف يونس بن يزيد، وإسحاق بن راشد، وعُقيل بن خالد في إسناد هذا الحديث، فجعله عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب، عن عمه، عبيد اللَّه بن كعب، وهم جعلوه عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن كعب، لكن هذه المخالفة لا تضرّ بصحّة الحديث، ولذا أخرجه أصحاب الصحاح من الطريقين. ثم أورد طريق معقل بن عبيد اللَّه التي أشار إليها بقوله:
3452 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْدَانَ بْنِ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَمِّهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي كَعْبًا يُحَدِّثُ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِلَى صَاحِبَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْتَزِلُوا نِسَاءَكُمْ، فَقُلْتُ: لِلرَّسُولِ: أُطَلِّقُ
(1)
وفي نسخة: "عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك".
امْرَأَتِي، أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ ، قَالَ: لَا، بَلْ تَعْتَزِلُهَا، وَلَا تَقْرَبْهَا، فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَكُونِي فِيهِمْ، حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عز وجل، فَلَحِقَتْ بِهِمْ، خَالَفَهُ مَعْمَرٌ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن معدان بن عيسى": هو الْحَرَّانيّ، ثقة [2] 16/ 649 من أفراد المصنّف.
و"الحسن بن أعين": هو الحسن بن محمد بن أعين -نسب لجدّه- أبو عليّ الحرّانيّ، ولد أخي موسى بن أعين الماضي قبل حديث، صدوقٌ [9] 16/ 649.
و"مَعْقِل": هو ابن عُبيد اللَّه، أبو عبد اللَّه العبْسيّ، مولاهم الْجَزَريّ، صدوقٌ يُخطىء [8] 38/ 940.
وقوله: "إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
…
" يحتمل كسر همزة "إنّ" على أن المعنى أسل إلينا هذا الكلام، ويحتمل فتحها على أن يكون المصدر المؤول مفعولاً به لقوله: "أرسل".
والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: "خالفه معمر" يعني أنه خالف معمرُ بن راشد مَعقِلَ بنَ عُبيد اللَّه في إسناد هذا الحديث، وذلك لأنه جعله عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه كعب رضي الله عنه. ثم ذكر رواية معمر التي أشار إليها بقوله:
3453 -
(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -وَهُوَ ابْنُ ثَوْرٍ- عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ فِي حَدِيثِهِ: إِذَا رَسُولٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَدْ أَتَانِي، فَقَالَ: اعْتَزِلِ امْرَأَتَكَ، فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ لَا تَقْرَبْهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ: الْحَقِي بِأَهْلِكِ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عبد الأعلى": هو الصنعانيّ البصريّ.
و"محمد بن ثور": هو أبو عبد اللَّه الصنعانيّ العابد الثقة [9] 102/ 2035.
و"معمر": هو ابن راشد الصنعاني الحجة الثبت المشهور. و"عبد الرحمن بن كعب بن مالك": هو الأنصاريّ، أبو الخطاب المدنيّ، ثقة، من كبار التابعين، ويقال: ولد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، مات في خلافة سليمان بن عبد الملك 38/ 731.
وقد تقدم أن هذه الاختلافات على الزهريّ لا تضرّ بصحة الحديث، فقد أخرج معظم هذه الطرق الشيخان، في "صحيحيهما". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
19 - (بَابُ طَلَاقِ الْعَبْدِ)
3454 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُعَتِّبٍ، أَنَّ أَبَا حَسَنٍ، مَوْلَى بَنِي نَوْفَلٍ أَخْبَرَهُ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَامْرَأَتِي، مَمْلُوكَيْنِ، فَطَلَّقْتُهَا تَطْلِيقَتَيْنِ، ثُمَّ أُعْتِقْنَا جَمِيعًا، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنْ رَاجَعْتَهَا كَانَتْ عِنْدَكَ عَلَى وَاحِدَةٍ، قَضَى بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. خَالَفَهُ مَعْمَرٌ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلاّس، أبو حفص البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.
3 -
(عليّ بن المبارك) الْهُنَائيّ البصريّ، ثقة، كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان: أحدهما: سماع، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، من كبار [7] 28/ 1411.
4 -
(يحيى) بن أبي كثير الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقة ثبت، لكنه يدلّس ويرسل [5] 23/ 24.
5 -
(عمر بن مُعَتِّب) -بمهملة مثنّاة مكسورة، ثقيلة، ويقال: ابن أبي مُعَتِّب المدنيّ، ضعيف [6].
روى عن أبي الحسن مولى بني نوفل. وعنه يحيى بن أبي كثير. قال الميمونيّ: قال لنا أحمد: أما أبو الحسن فمعروف، ولكن لا أعرف عمر. وقال مسلم، عن أحمد: روى عنه محمد بن أبي يحيى، قيل له: أثقة هو؟ قال: لا أدري. وقال ابن المدينيّ: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: لا أعرفه. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وقال ابن عديّ: قليل الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكره العقيليّ في "الضعفاء".
روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عندهم حديث الباب فقط.
6 -
(أبو الحسن مولى بني نوفل) ثقة
(1)
[4].
روى عنه الزهريّ، وعمر بن مُعَتِّب، ويزيد بن عبد اللَّه بن قُسيط. قال أبو داود: قد
(1)
وفي "التقريب": مقبول من الرابعة، والظاهر أنه تصحيف من الناسخ، أو سهو من المصنّف، فإنه متّفقٌ على توثيقه. فتفطّن.
روى عنه الزهريّ، وكان من الفقهاء، وأهل الصلاح، وأبو الحسن هذا معروفٌ، وليس العمل على ما روى. وقال الزهريّ في بعض رواياته عنه: أبو الحسن مولى عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل. وكذا نسبه أبو حاتم الرازيّ، وقال: ثقة. وقال أبو زرعة: مدنيّ ثقة. وقال ابن عبد البرّ: اتفقوا على أنه ثقة. روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه.
7 -
(ابن عباس) - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غيرَ عُمَرَ، وأبي الحسن، كما مرّ آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى عليّ ابن المبارك، والباقون مدنيون، ويحيى بن أبي كثير، وإن كان يماميًا إلا أنه سكن المدينة عشر سنين يطلب العلم. (ومنها): أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عُمَرَ بْنِ مُعَتِّبٍ) بصيغة اسم الفاعل المضغف (أَنَّ أَبَا حَسَنٍ) هذا هو الصواب، فما يأتي في السند التالي من قوله:"عن الحسن" غلطٌ سيأتي التنبيه عليه هناك (مَوْلَى بَنِي نَوْفَلٍ) وقد سبق أنه قيل: مولى عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل (أَخْبَرَهُ، قَالَ) هذا تفسير لـ "أخبره"(كُنْتُ أَنَا وَامْرَأَتِي، مَمْلُوكَينِ، فَطَلَّقْتُهَا تَطْلِيقَتَيْنِ، ثُمَّ أُعْتِقْنَا) بالبناء للمفعول (جَمِيعًا، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسِ) وفي الرواية التالية: "سُئل ابن عبّاس عن عبد طلّق امرأته تطليقتين، ثم عَتَقا، أيتزوّجها؟ ". وفي رواية أبي داود: "أنه استفتى ابن عباس في مملوك كانت تحته مملوكة، فطلّقها تطليقتين، ثم عَتَقَا بعد ذلك، هل يصلح له أن يخطبها؟ قال: نعم". (فَقَالَ: إِنْ رَاجَعْتَهَا) ظاهر هذه الرواية أنه يجوز له أن يراجعها، والرواية التالية تدلّ على أن له أن ينكحها نكاحًا جديدًا، فبينهما تعارض، إلا أن يحمل قوله:"إن راجعتها" على معنى: إن تزوّجتها بنكاح جديد (كَانَتْ عِنْدَكَ عَلَى وَاحِدَةٍ) قال السنديّ: ظاهره أن العبد إذا أُعتق يملك ثلاث طلقات، وإن صار حرًّا بعد طلقتين، فله الرجوع بعدهما؛ لبقاء الثالث الحاصل بالعتق، لكن العمل على خلافه، فيمكن أن يقال: إن هذا كان حين كانت الطلقات الثلاث واحدةً، كما رواه ابن عبّاس، فالطلقتان للعبد حينئذ كانتا واحدةً، وهذا أمر قد تقرّر أنه منسوخٌ الآن، فلا إشكال انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد عرفت أن دعوى النسخ غير صحيحة، وأن
الصواب أن الحديث يُعمل به، فلا مانع من العمل بمقتضاه في الطلقتين للعبد. واللَّه تعالى أعلم.
وقال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: لم يذهب إلى هذا أحدٌ من العلماء فيما أعلم، وفي إسناده مقال، ومذهب عامة الفقهاء أن المملوكة إذا كانت تحت مملوك، فطلّقها تطليقتين أنها لا تصلح له إلا بعد زوجٍ انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: دعواه أنه لم يقل به أحد إنما هو بحسب علمه، وإلا فسيأتي في المسألة الثالثة من قال به من السلف، ثم إنك قد عرفت أنه إن كانت التطلقتان بكلمة واحدة، فهي كتطليق الحرّ ثلاثًا بكلمة، وقد تقدّم أنها تعتبر طلقة واحدة، فلا تغفُل.
(قَضَى بذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي حكم بجواز نكاحه لها بعد الطلقتين، إذا أُعتقا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا ضعيف؛ لأن في سنده عمر بن مُعتّبٍ، وهو ضعيف. واللهَ تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-19/ 3454 و3455 - وفي "الكبرى" 20/ 5620 و5621. وأخرجه (د) في "الطلاق" 2187 (ق) في "الطلاق" 2082. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم فيما إذا طلّق العبد زوجته ثنتين، ثم عَتَقَ:
قال الإمام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: إذا طلّق العبد زوجته اثنتين، ثم عَتَقَ لم تحلّ له زوجته حتى تنكح زوجًا غيره؛ لأنها حَرُمت عليه بالطلاق تحريمًا لا يحلّ إلا بزوج، وإصابة، ولم يوجد ذلك، فلا يزول التحريم. وهذا ظاهر المذهب. وقد روي عن أحمد أنه يَحِلّ له أن يتزوّجها، وتبقى عنده على واحدة، وذكر حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -يعني حديث الباب- وقال: لا أدري شيئًا يدفعه، وغير واحد يقول به: أبو سلمة، وجابرٌ، وسعيد بن المسيّب. ورواه الإمام أحمد في "المسند"، وأكثر الروايات عن أحمد الأول، وقال: حديث عثمان، وزيد في تحريمها عليه جيّد، وحديث ابن عباس يرويه عُمر بن معتّب
(1)
، ولا أعرفه. وقد قال ابن المبارك: من أبو
(1)
وقع في "المغني""عمرو بن مُغيث"، وهو تصحيف، والصواب ما هنا
الحسن هذا؟ لقد تحمّل صخرة عظيمة، منكرًا لهذا الحديث، قال أحمد: أما أبو حسن
فهو عندي معروف، ولكن لا أعرف عمر بن معتّب.
قال أبو بكر: إن صحّ الحديث فالعمل عليه، وإن لم يصحّ فالعمل على حديث عثمان وزيد، وبه أقول انتهى
(1)
.
قال العلاّمة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: وحديث عثمان وزيد الذي أشار إليه هو ما رواه الأثرم في "سننه" عن سليمان بن يسارة "أن نُفيعًا، مكاتب أم سلمة طلّق امرأته حرّة بتطليقتين، فسأل عثمان وزيد بن ثابت عن ذلك؟ فقالا: حَرُمت عليك" انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أنه إن كان الطلقتان بكلمة واحدة، فكالطلاق الثلاث من الحرّ، وقد سبق أنها تعتبر طلقة واحدة، وإن لم تكن بكلمة واحدة، فالمذهب الأول هو الأرجح؛ لأنه حينما طلّقها طلّقها طلاقًا تحرم به الرجعة، فلا يُرفع هذا التحريم بعتقه، ولو صحّ حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - لقلنا به، لكنه لم يصحّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم، هل الطلاق يعتبر بالرجال، أم بالنساء؟:
قال العلامة ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: إن الطلاق معتبر بالرجال، فإن كان الزوج حرًّا، فطلاقه ثلاث، حرّة كانت الزوجة أو أمةً، وإن كان عبدًا، فطلاقه اثنتان حرّة كانت زوجته أو أمة، فإذا طلّق اثنتين حَرُمت عليه، حتى تنكح زوجًا غيره. روي ذلك عن عمر، وعثمان، وزيد، وابن عبّاس. وبه قال سعيد بن المسيّب، ومالكٌ، والشافعيّ، وإسحاق، وابن المنذر. وقال ابن عمر: أيهما رَقَّ نقص الطلاق برقّه، فطلاق العبد اثنتان، وإن كان تحته حرّة، وطلاق الأمة اثنتان، وإن كان زوجها حرًّا. وروي عن عليّ، وابن مسعود، أن الطلاق معتبرٌ بالنساء، فطلاق الأمة اثنتان، حرًّا كان الزوج أو عبدًا، وطلاق الحرّة ثلاث، حرًّا كان زوجها، أو عبدًا. وبه قال الحسن، وابن سيرين، وعكرمة، وعَبيدة، ومسروق، والزهريّ، والحكم، وحمّاد، والثوريّ، وأبو حنيفة؛ لما روت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"طلاق الأمة تطليقتان، وقرؤها حيضتان". رواه أبو داود، وابن ماجه. ولأن المرأة محلّ للطلاق، فيُعتبر بها كالعدّة. ولنا أن اللَّه تعالى خاطب الرجال بالطلاق، فكان حكمه معتبرًا بهم، ولأن الطلاق خالص حقّ الزوج، وهو مما يختلف بالرقّ والحريّة، فكان اختلافه به كعَدَد المنكوحات. وحديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قال أبو داود: راويه مظاهر بن أسلم، وهو منكر الحديث. وقد أخرجه الدارقطنيّ في "سننه" عن عائشة - رضي اللَّه
(1)
"المغني" 10/ 535 - 536.
(2)
"تهذيب السنن" 6/ 256 بنسخة "عون المعبود".
تعالى عنها، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "طلاق العبد اثنتان، فلا تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره، وقرء الأمة حيضتان، وتتزوّج الحرّة على الأمة، ولا تتزوّج الأمة على الحرّة"
(1)
. وهذا نصّ. ولأن الحرّ يملك أن يتزوّج أربعًا، فملك طلقات ثلاثًا، كما لو كان تحته حرّةٌ، ولا خلاف في أن الحرّ الذي زوجته حرّةٌ طلاقه ثلاث، وأن العبد الذي تحته أمة طلاقه اثنتان، وإنما الخلاف فيما إذا كان أحد الزوجين حرًّا، والآخر رقيقًا انتهى كلام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن ما ذهب إليه الأولون من أن اعتبار الطلاق بالرجال هو الأقرب؛ لإسناد الشارع الطلاق إليهم حينما خاطبهم في غير ما آية، كقوله تعالى:{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} الآية، ولأنه خالص حقّ الرجل، لا حقّ للمرأة فيه، فاعتباره به أولى، وأما حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - المذكور، فإنه ضعيف؛ لضعف مُظاهر بن أسلم، فلا يصلح دليلاً للفريقين، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وقوله: (خالفه معمر) يعني أن معمر بن راشد خالف عليّ بن المبارك في رواية هذا الحديث، حيث قال:"عن الحسن مولى بني نوفل"، وهو وهَمٌ، والصواب "عن أبي الحسن"، كما في رواية عليّ بن المبارك، لكن سيأتي قريبًا أن هذا الوهم ليس من معمر، فليُتنبّه. ثم ساق رواية معمر بقوله:
3455 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُعَتِّبٍ، عَنِ الْحَسَنِ، مَوْلَى بَنِي نَوْفَلٍ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدٍ، طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ، ثُمَّ عُتِقَا، أَيَتَزَوَّجُهَا؟ ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: عَمَّنْ؟ ، قَالَ: أَفْتَى بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ لِمَعْمَرٍ: الْحَسَنُ هَذَا مَنْ هُوَ؟ لَقَدْ حَمَلَ صَخْرَةً عَظِيمَةً).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بيان مخالفة معمر لعلي بن المبارك حيث قال: "عن الحسن مولى بني نوفل"، والصواب "عن أبي الحسن مولى بني نوفل" كما قال علي بن المبارك، لكن نسبة الوهم إلى معمر محل نظر، قال الحافظ أبو الحجّاج المزيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف": ما نصّه: ونسبة الوَهم في ذلك إلى معمر، أو عبد الرزاق غير مستقيم؛ فإن أحمد بن حنبل، ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه، وغير واحد قد رووه عن عبد الرزّاق، عن معمر، فقالوا:"عن أبي الحسن" على الصواب، وإنما وقع عند النسائيّ وحده "عن الحسن"، فالسهو في
(1)
حديث ضعيف في سنده مظاهر المذكور، وهو ضعيف.
(2)
"المغني" 10/ 533 - 534.
ذلك إما من النسائيّ، وإما من شيخه محمد بن رافع. واللَّه أعلم انتهى
(1)
.
والحاصل أن رواية معمر كرواية عليّ بن المبارك "عن أبي الحسن"، فإشارة المصنف إلى وهمه ليس كما ينبغي، بل الوهم من غيره، إما منه، وإما من شيخه محمد ابن رافع. فليُتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "ثم عَتَقَا" بفتح العين المهملة، والمثنّاة الفوقيّة، مبنيًّا للفاعل، فما وقع في نسخ "المجتبى"، و"الكبرى" من ضبطه بالقلم بضمّ العين، مبنيًّا للمفعول غلطٌ؛ لأن عَتَق فعل لازم، فلا يُبنى للمفعول، وأما قوله في الرواية السابقة:"فأُعتِقا" فإنه بالبناء للمفعول، لا غيرُ؛ لأنه رباعيّ متعدّ.
قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: عَتَقَ العبدُ عَتقًا، من باب ضرب، وعَتَاقًا، وعَتَاقَةً- بفتح الأوائل، والعِتْقُ بالكسر اسم منه، فهو عاتقٌ، ويَتعدّى بالهمزة، فيُقال: أَعتقتُهُ فهو مُعتَقٌ على قياس الباب، ولا يتعدّى بنفسه، فلا يُقال: عَتَقْتُهُ، ولهذا قال في "البارع": لا يُقال: عُتِقَ العبدُ، وهو ثلاثي مبنيّ للمفعول، ولا أَعْتَقَ هو بالألف، مبنيًّا للفاعل، بل الثلاثي لازمٌ، والرباعيّ متعدّ، ولا يجوز عبدٌ معتوقٌ؛ لأن مجيء مفعول من أفعلتُ شاذٌّ، مسموعٌ، لا يُقاس عليه، وهو عَتِيقٌ فَعِيلٌ بمعنى مفعول، وجمعه عُتَقاء، مثلُ كَرَماء، وربّما جاء عِتَاقٌ، مثلُ كِرام، وأمةٌ عَتِيقٌ أيضًا بغير هاء، وربّما ثبتت، فقيل: عَتِيقةٌ، وجمعُها عَتَائق انتهى كلام الفيّوميّ
(2)
.
وقوله: "عمّن؟ " استفهام، أي عن أي شخص أخذت هذا؟، أعن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو عن غيره؟.
وقوله: "لقد حمل صخرة عظيمة" أراد بذلك إنكار ما جاء به من هذا الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
20 - (بَابٌ مَتَى يَقَعُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: يحتمل أن يكون "باب" منوّنًا، أي هذا بابٌ يُذكر فيه متى يقع طلاق الصبيّ، ويحتمل أن يكون مضافًا إلى ما بعده؛ لقصده لفظه. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"تحفة الأشراف" 5/ 274.
(2)
"المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" 2/ 392.
[فائدة]: قال في "الفتح" عند قول البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-: "باب بلوغ الصبيان، وشهادتهم"، وقول اللَّه تعالى:{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} الآية. [النور: 59]:
ظاهر الترجمة مع سياق الآية أن الولد يُطلق عليه صبيٌّ، وطفلٌ إلى أن يبلغ، وهو كذلك، وأما ما ذكره بعض أهل اللغة، وجزم به غير واحد أن الولد يقال له: جَنِينٌ حتى يوضع، ثم صبيّ حتى يفطم، ثم غلام إلى سبع، ثم يافع إلى عشر، ثم حزوّرٌ
(1)
إلى خمس عشرة، ثم قُمُدٌّ
(2)
إلى خمس وعشرين، ثم عنطنطٌ
(3)
إلى ثلاثين، ثم ممل إلى أربعين، ثم كهلٌ إلى خمسين، ثم شيخ إلى ثمانين، ثم هِمّ
(4)
إذا زاد، فلا يُمنع إطلاق شيء من ذلك على غيره مما يُقاربه تجوّزًا انتهى
(5)
.
وقد نظمت ما ذُكر بقولي:
اعْلَمْ هَدَاكَ اللَّهُ أَنَّ الْوَلَدَا
…
دَعَوْهُ بِالْجَنِينِ حَتَّى يُولَدَا
ثُمَّ صَبِيًّا لِلْفِطَامِ يُدْعَى
…
ثُمَّ إِلَى سَبْعٍ غُلَامًا يُرْعَى
وَيَافِعٌ لِعَشرَةٍ حَزَوَّرُ
…
لِخَمْسَ عَشْرَةَ أَتَاكَ الْخَبَرُ
وَقُمُدٌ لِلْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ ثُمّ
…
عَنَطْنَطٌ إِلَى ثَلَاِثينَ يُؤَمُّ
ثُمَّ لِأَرْبَعِينَ قُلْ مُمِلُّ
…
ثَم إِلَى خَمْسِينَ قَالُوا كَهْلُ
إلَى ثَمانِينَ بِشَيْخٍ يُدْعَى
…
ثُمَّ إذَا زَادَ بهِمٍّ يُرْعَى
أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ في الْفَتْحِ كَذَا
…
فَاحْفَظْ حَمَاكَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ أَذَى
واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3456 -
(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبْنَاءُ قُرَيْظَةَ، أَنَّهُمْ عُرِضُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ قُرَيْظَةَ، فَمَنْ كَانَ مُحْتَلِمًا، أَوْ نَبَتَتْ عَانَتُهُ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَلِمًا، أَوْ لَمْ تَنْبُتْ عَانَتُهُ تُرِكَ).
(1)
"الحَزَوَّر بفتح الحاء، والزاي، وتشديد الواو، كعَمَلَّسٍ: الغلام القويّ، والرجل القويّ، والضعيف، ضدّ. اهـ "ق".
(2)
رجل قُمُدّ بضمتين، وتشديد الدال، كعُتُلّ، وقُمُدٌ بتخفيفها، وقُمَاد، كغُرَاب: شديدٌ، أو غليظ اهـ "ق".
(3)
"العَنَطنَطُ، كسَمَعْمَع: الطويل. اهـ "ق".
(4)
"الْهِمّ" والهِمّةُ بكسرهما: الشيخ الفاني. اهـ "ق".
(5)
"فتح" 5/ 613. "كتاب الشهادات".
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(الربيع بن سليمان) أبو محمد الأعرج المصريّ الجيريّ، ثقة [11] 122/ 173 من أفراد المصنّف، وأبي داود.
2 -
(أسد بن موسى) المعروف بأسد السنّة الأمويّ المصريّ، صدوق يُغرب، وفيه نصب [9] 41/ 3176.
3 -
(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد [8] 181/ 288.
4 -
(أبو جعفر الخطميّ) -بفتح الخاء المعجمة، وسكون الطاء المهملة-: هو عُمير
بن يزيد المدنيّ، نزيل البصرة، صدوق [6] 16/ 16.
5 -
(عمارة بن خُزيمة) بن ثابت: هو الأنصاريّ الأوسيّ، أبو عبد اللَّه، أو أبو محمد المدنيّ، ثقة [3] 16/ 16.
6 -
(كثير بن السائب) المدنيّ، مقبول [4] ووهم من جعله صحاببًّا، وفرّق ابن حبّان في "الثقات" بين الراوي عن أنس، والراوي عن محمود بن لبيد. قال الحافظ في "التقريب": والذي يظهر أنهما واحد، وهو الذي روى عنه عمارة بن خُزيمة انتهى. وفي "تهذيب التهذيب": روى عن عمارة بن خزيمة بن ثابت. ذكره ابن أبي حاتم هكذا -يعني لم يزد عنه راويًا آخر- ثم قال: كثير بن السائب المدنيّ روى عن محمود بن لبيد، وعنه هشام بن عروة، ومحمد بن إسحاق. وقال ابن حبّان في "الثقات": كثير بن السائب، عن أنس، وعنه محمد بن عمرو بن علقمة، فاللَّه أعلم هل الجميع لرجل واحد، أو لاثنين، أو لثلاثة. قلت: جعل ابن حبّان في "الثقات" الراوي عن محمود بن لبيد مع الذي روى عنه عمارة بن خزيمة واحدًا، وفرّق بينه وبين الراوي عن أنس، واستروح الذهبيّ، فقال: تابعيّ حجازيّ، تفرّد عنه عمارة بن خزيمة، لا يُتحقّق من ذا؟، كذا قال. انتهى المقصود من "تهذيب التهذيب"
(1)
. تفرّد به المصنّف بحديث الباب فقط.
7 -
(ابنا قريظة) لم يسمّيا، ولا تضرّ جهالتهما؛ لأنهما صحابيّان، وهم عدول بإجماع من يُعتدّ به. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ كَثِيرِ بْنِ السَّائِبِ) أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنَا قُرَيْظَةَ) هكذا في نسخ "المجتبى"، و"الكبرى""ابنا قريظة" بَلفظ التثنية، والذي في "تحفة الأشراف" 11/ 200 بلفظ "أبناء
(1)
"تهذيب التهذيب" 3/ 459.
قريظة" بلفظ الجمع، وعبارة "تهذيب التهذيب" 3/ 459
(1)
: كثير بن السائب حجازيّ، روى عن أبناء قُريظة، كذا وقع في النسائيّ، والذي عند ابن أبي حاتم: عن ابني قريظة أنهم عُرضوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم قريظة. يعني بلفظ التثنية.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لعلّ نسخة "المجتبى" التي وقعت عند صاحبي "التحفة"، و"التهذيب" هكذا، وإلا فالنسخ التي بين يديّ، وكذا "الكبرى" كلها بلفظ التثنية، اللَّهمّ إلا أن يُدّعَى أن قوله:"ابنا" صحّفه النسّاخ من لفظ "أبناء"، فجعلوا الهمزة الأولى همزة وصل، وأسقطوا التي في الآخر، فاللَّه تعالى أعلم.
(أَنَّهُمْ عُرِضُوا) بالبناء للمفعول، من عرضتُ الشيء عرضًا، من باب ضرب: إذا أظهرته، وأبرزته، أو من عَرَضتُ الجندَ إذا أمْرَرْتَهم، ونظرتَ إليهم لتعرفهم
(2)
. وهذا الثاني أقرب (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ قُرَيْظَةَ) الجارّ، والظرف متعلقان بـ "عُرضوا". و"قُريظة" تصغير قَرَظة، سمّي بها القبيلة، وهم إخوة بني النضير، وهم حيّان من اليهود، كانوا بالمدينة، فأما قُريظة، فقُتلت مُقاتلتهم، وسُبيت ذَراريّهم؛ لنقضهم العهد، وأما بنو النضير، فأُجلُوا إلى الشام، ويقال: إنهم دخلوا في العرب مع بقائهم على أنسابهم. قاله الفيّوميّ.
و"يوم قُريظة" هي الغزوة المعروفة، وسببها هو ما وقع من بني قريظة من نقض عهده صلى الله عليه وسلم، وممالأتهم لقريش، وغطفان عليه، فتوجّه إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الأحزاب لسبع بقين من ذي القعدة، وخرج إليهم في ثلاثة آلاف، وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرسًا.
وقد أخرج البخاريّ من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لَمّا رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح، واغتسل أتاه جبريل عليه السلام، فقال: قد وضعت السلاح، واللَّه ما وضعناه، فاخرُج إليهم، قال:"فإلى أين؟، قال: ها هنا"، وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم.
وأخرج أيضًا عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت، أُصِيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش، يقال له حِبَّان بن الْعَرِقَة، وهو حِبّان بن قيس، من بني معيص بن عامر بن لؤي، رماه في الأَكْحَل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم له خيمة في المسجد؛ ليعوده من قريب، فلما رجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الخندق، وضع السلاح، واغتسل، فأتاه جبريل عليه السلام، وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال: "قد وضعت
(1)
وكذا هو في عبارة "تهذيب الكمال" 24/ 117 لكنه باختصار.
(2)
راجع "المصباح المنير" 2/ 402 - 402.
السلاح، واللَّه ما وضعته، اخرج إليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة"، فأتاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على حكمه، فَرَدَّ الحكم إلى سعد، قال: فإني أحكم فيهم أن تُقتَلَ المقاتلةُ، وأن تُسبَى النساءُ والذرية، وأن تُقسم أموالهم
…
" الحديث.
(فَمَنْ) شرطية، أو موصولة، مبتدأ (كَانَ مُحْتَلِمًا) اسم فاعل من احتلم، يقال: حَلَمَ الصبي، من باب قتل، واحتَلَم: أدرك، وبلغ مبالغ الرجال، فهو حالمٌ، ومحتلمٌ. أفاده الفيّوميّ (أَوْ نَبَتَتْ عَانَتُهُ) قال الفيّوميّ: العانة في تقدير فَعَلَة -بفتح العين- وفيها اختلاف قولٍ، فقال الأزهريّ، وجماعة: هي مَنبِتُ الشَّعر فوق قُبُل المرأة، وذَكَر الرجل، والشَّعْرُ الثابت عليه، يقال له: الإسْبُ
(1)
، والشِّعْرَةُ
(2)
. وقال ابن فارس في موضع: هي الإسْبُ. وقال الجوهريّ: هي شَعْرُ الرَّكَبِ
(3)
. وقال ابن السِّكِّيت، وابن الأعرابيّ: استعان، واستعدّ: حَلَقَ عانته. وعلى هذا فالعانةُ الشَّعْرُ النابت. وقوله صلى الله عليه وسلم: في قصّة بني قُريظة: "من كان له عانةٌ فاقتلوه" ظاهرهُ دليلٌ لهذا القول، وصاحب القول الأول يقول: الأصل من كان له شعرُ عانةٍ، فحُذِف للعلم به انتهى كلام الفيّوميّ (قُتِلَ) بالبناء للمفعول جواب "من"، أو خبر المبتدإ (وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَلِمًا، أَوْ لَمْ تَنْبُتْ) بفتح أوله، وضم الموحّدة، من نبت ثلاثيًّا (عَانَتُهُ تُرِكَ) بالبناء للمفعول جواب "من"، أو خبر المبتدإ. وهذا محلّ الترجمة، فقد استدلّ به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- على أن الصبيّ لا يقع طلاقه إلا إذا بلغ، وهو الراجح من أقوال أهل العلم، ووجه ذلك أن غير البالغ لا عبرة بكفره، فلو كفر لا يُقتل، والكفر أشدّ، فيكون عدم وقع طلاقه من باب أولى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
(1)
"الإسب" -بكسر، فسكون- وِزان حِمْل: شعر الاست. اهـ "المصباح".
(2)
"الشِّعْرة" بكسر، فسكون - وزان سِدْرة: شَعْرُ الرَّكَب للنساء خاصة. وقيل: الشعْرُ النابت على عانة الرجل، ورَكَب المرأة، وعلى ما وراءهما. أفاده في "المصباح".
(3)
"الرَّكَبُ" بفتحتين قال ابن السّكيت: هو مَنبِتُ العانة. وعن الخليل: هو للرجل خاصّة. وقال الفرّاء: للرجل وا لمرأة، وأنشد:
لَا يُقنِعُ الْجَارِيةَ الْخِضَابُ
…
وَلَا الْوَشَاحَانِ وَلَا الْجِلْبَابُ
مِن دُونِ أَنْ تَلْتَقِيَ الأَرْكَابُ
…
وَيقْعُدَ الأَيْرُ لَهُ لُعَابُ
وقال الأزهريّ: الركب من أسماء الفرج، وهو مذكّرٌ، ويقال: للمرأة والرجل أيضًا. قاله في "المصباح".
حديث- ابنا قريظة - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح بما بعده.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-20/ 3456 وفي "كتاب قطع السارق" 3457 و 17/ 5008 - وفي "الكبرى" 21/ 5622 و 5623 وفي "كتاب قطع السارق" 28/ 7474. وأخرجه (د) في "الحدود" 4454 (ت) في "السير" 1584 (ق) في "الحدود" 2542 (أحمد) في "مسند الكوفيين" و18299 و18928 و"مسند الأنصار" 22152 (الدارمي) في "السير" 2464. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان وقت وقوع طلاق الصبي، وذلك إذا بلغ، إما بالاحتلام، أو بنبت عانته، وهذا هو الراجح، وسيأتي اختلاف العلماء في ذلك في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): بيان ما يبلغ به الصبيّ، وهو إما الاحتلام، أو الإنبات، وسيأتي تمام البحث في ذلك في موضعه من "كتاب قطع السارق " - "حدّ البلوغ، وذكر السنّ الذي إذا بلغها الرجل والمرأة، أُقيم عليهما الحدّ"، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): عدم مؤاخذة الصبيّ بما يصدر منه، من كفر، وموجب حدّ، وقصاص، ونحو ذلك. (ومنها): أن الكفّار إذا نقضوا العهد حُوربوا، وقوتلوا، وتُسبى ذراريّهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في طلاق الصبيّ:
قال في "الفتح": اختُلف في إيقاع طلاق الصبيّ، فعن ابن المسيّب، والحسن يلزمه إذا عقلَ، ومَيّزَ، وحدّه عند أحمد أن يُطيق الصيام، ويُحصي الصلاة. وعند عطاء إذا بلغ اثنتي عشرة سنة. وعن مالك رواية إذا ناهز الاحتلام انتهى
(1)
.
وقال العلامة ابن قُدامة في "المغني": أما الصبيّ الذي لا يَعقل، فلا خلاف في أنه لا طلاق له، وأما الذي يَعقل الطلاق، ويعلم أن زوجته تَبين به، وتحرُم عليه، فأكثر الروايات عن أحمد أن طلاقه يقع، اختارها أبو بكر، والْخِرَقيّ، وابن حامد. وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيّب، وعطاء، والحسن، والشعبيّ، وإسحاق. وروى طالب، عن أحمد: لا يجوز طلاقه حتى يحتلم. وهو قول النخعيّ، والزهريّ، ومالكِ، وحمّاد، والثوريّ، وأبي عُبيد. وذكر أبو عُبيد أنه قول أهل العراق، وأهل الحجاز. وروي نحوُ ذلك عن ابن عبّاس؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "رُفع القلم عن الصبيّ حتى
(1)
"فتح" 10/ 493.
يَحتلم". ولأنه غير مكلّف، فلم يقع طلاقه، كالمجنون. ووجه الأولى قوله عليه السلام: "الطلاق لمن أخذ بالساق"، وقوله: "كلّ طلاق جائزٌ إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله". وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: "اكتُمُوا الصبيان النكاح"، فيُفهم منه أن فائدته أن لا يُطلّقوا؛ ولأنه طلاقٌ من عاقل، صادَفَ محلَّ الطلاق، فوقع كطلاق البالغ انتهى كلام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن مذهب القائلين بعدم وقوع طلاق الصبيّ حتى يبلغ -كما هو ظاهر مذهب المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هو الحقّ؛ لحديث الباب؛ لأنه إذا لم يؤاخذ بالكفر، فعدم أخذه بالطلاق أولى، ولحديث عائشة - رضي اللَّه تعالى - عنها -، مرفوعًا:"رُفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُفيق". وهو حديث صحيح سيأتي للمصنّف بنحوه في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى. وأما حديث "إنما الطلاق لمن أخذ بالساق" فإنه وإن حسّنه بعضهم بمجموع طرقه
(2)
ضعيف؛ لضعف سنده، واضطرابه، فإنه من رواية ابن لَهِيعة، وهو ضعيفٌ لاختلاطه بعد احتراق كتبه، وقد اختُلف عليه في إسناده، وعلى تقدير صحّته، فإنه محمول على أنه لا يُطلّق المرأة غير زوجها، كالسيّد لا يجوز أن يُطلّق امرأة عبده، كما هو سبب الحديث. وأما حديث:"كلّ طلاق جائزٌ إلا طلاق المعتوه، والمغلوب على عقله"، فإنه ضعيف جدًّا، كما قال الحافظ في "الفتح" 9/ 345.
وقال الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى-1/ 224 - بعد إخراجه: هذا حديثٌ غريبٌ، لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عطاء بن عجلان، وهو ضعيف، ذاهب الحديث انتهى.
والحاصل أن الأرجح أن طلاق الصبيّ لا يقع حتى يبلغ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3457 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: "كُنْتُ يَوْمَ حُكْمِ سَعْدٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ غُلَامًا، فَشَكُّوا فِيَّ فَلَمْ يَجِدُونِي أَنْبَتُّ، فَاسْتُبْقِيتُ، فَهَا أَنَا ذَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن منصور": هو الجَوَّاز المكيّ. و"سفيان": هو ابن عُيينة. و"عبد الملك بن عُمير": هو الفرسيّ القبطيّ الكوفيّ.
والسند من رباعيّات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أعلى الأسانيد له، كما نبّهتُ عليه غير مرّة، وهذا هو (178).
وقوله: "يوم حكم سعد" يحتمل أن يكون "حُكْم" بلفظ المصدر، مضافًا إلى
(1)
"المغني، 10/ 348 - 349.
(2)
راجع "إرواء الغليل" للشيخ الألبانيّ 7/ 108 - 110.
"سعد"، ومضافًا إليه "يوم"، ويحتمل أن يكون بصيغة الفعل الماضي المضعّف المبنيّ للمفعول، و"سعدٌ"، نائب فاعله، و"يوم" مضاف إلى الجملة الفعليّة.
وقوله: "أثبت" بالبناء للفاعل، من الإنبات، والمراد أن شعر عانته لم يَنبُتْ وقوله:"فاستُبقيت" بالبناء للمفعول، أي تُرِكتُ، ولم أُقتَل. وقوله:"ها أنا ذا""ها" هي حرف تنبيه دخلت على الضمير. وقوله: "بين أظهركم": أي بينكم، فـ"أظهر" مقحَمٌ، وهو جمع ظهر. والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث عنه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3458 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْهُ، وَعَرَضَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عبيد اللَّه بن سعيد) بن يحيى اليشكريّ، أبو قُدَامة السَّرَخْسيّ، نزيل نيسابور، ثقة مأمون، سنّيّ [10] 15/ 15.
2 -
(يحيى) بن سعيد بن فَرُّوخ التميميّ، أبو سعيد القطّان المصريّ، ثقة متقنٌ حافظٌ، إمام، قدوة، من كبار [9] 4/ 4.
3 -
(عبيد اللَّه) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [5] 15/ 15.
4 -
(نافع) العدويّ، مولى ابن عمر، أبو عبد اللَّه المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 12/ 12.
5 -
(ابن عمر) بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فسرخسي، ثم نيسابوريّ، ويحيى، فبصريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن عبيد اللَّه من أثبت الناس في نافع، والقاسم بن محمد، بل قدّمه أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقدمه ابن معين في القاسم عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - على الزهريّ عن عروة عنها، وأنَّ نافعًا من أثبت الناس في ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، بل قدّمه بعضهم على سالم فيه. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم، عَرَضَهُ) من باب ضرب: عَرَضتُ الجندَ: إذا أمرَرْتَهم، ونظرت إليهم؛ لتعرفهم. قاله الفيّوميّ (يَوْمَ أُحُدٍ) أي يوم وقعة أحد، وهو -بضمّتين-: جبل بقرب مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم، من جهة الشام، كانت به الوقعة، في أوائل شوّال سنة ثلاث من الهجرة، وهو مذكّر، فينصرف، وقيل: يجوز تأنيثه على توهّم البقعة، فيُمنع من الصرف، وليس بالقويّ. أفاده الفيّوميّ (وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةَ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول (فَلَمْ يُجِزْهُ) بضمّ أوّله، من الإجازة، يقال: جاز العقدُ وغيره: نَفَذَ، ومضى على الصحّة، وأَجزتُ العقدَ: جعلته جائزًا نافذًا. يعني أنه لم يجعله في ديوان المقاتلين.
وفي رواية البخاريّ: "فلم يُجزني"، وفيه التفات. وفي رواية لمسلم:"عرضني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أحد في القتال، فلم يُجزني". وفي رواية: "فاستصغرني". وفي "صحيح ابن حبّان": "فلم يُجزني، ولم يَرَني بلغت"(وَعَرَضَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ) قال في "القاموس": الخندق كجَعْفَر: حَفِيرٌ حولَ أَسْوَار الْمُدُن، مُعرَّبُ كَنْدَه انتهى. أي يوم غزوة الخندق، وسيأتي الاختلاف في وقتها قريبًا (وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَهُ) قال في "الفتح": ولم تختلف الرواة عن عبيد اللَّه بن عمر في ذلك، وهو الاقتصار على ذكر أُحُدٍ والخندق. وكذا أخرجه ابن حبّان من طريق مالك، عن نافع. وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" عن يزيد بن هارون، عن أبي معشر، عن نافع، عن ابن عمر، فزاد فيه ذكر بدرٍ، ولفظه: "عُرِضت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ، وأنا ابن ثلاث عشرة، فردّني، وعُرِضتُ عليه يوم أحد
…
" الحديث، قال ابن سعد: قال يزيد بن هارون: ينبغي أن يكون في الخندق ابن ستّ عشرة سنة انتهى. وهو أقدم من نعرفه استشكل قول ابن عمر هذا، وإنما بناه على قول ابن إسحاق، وأكثر أهل السير أن الخندق كانت في سنة خمس من الهجرة، وإن اختلفوا في تعيين شهرها. واتّفقوا على أن أُحُدًا كانت في شوّال سنة ثلاث، وإذا كان كذلك جاء ما قال يزيد: إنه يكون حينئذ ابن ستّ عشرة سنة، لكن البخاريّ جنح إلى قول موسى بن عقبة في "المغازي": إن الخندقَ كانت في شوّال سنة أربع. وقد روى يعقوب بن سفيان في: تاريخه"، ومن طريقه البيهقيّ، عن عروة نحو قول موسى بن عقبة. وعن مالك الجزم بذلك، وعلى هذا لا إشكال، لكن اتّفق أهل المغازي على أن المشركين لَمّا توجّهوا في أُحُد نادوا المسلمين: موعدكم العام المقبل بدر، وأنه صلى الله عليه وسلم خرج إليها من السنة المقبلة في شوّال، فلم يَجِد بها أحدًا، وهذه هي التي تُسمّى "بدر الموعد"، ولم يقع بها قتالٌ، فتعيّن ما قال ابن إسحاق: إن
الخندق كانت في سنة خمس، فيحتاج حينئذ إلى الجواب عن الإشكال. وقد أجاب عنه البيهقيّ وغيره بأن قول ابن عمر:"عُرضت يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة" أي دخلت فيها، وأن قوله:"عُرضتُ يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة" أي تجاوزتها، فألغى الكسر في الأولى، وجبره في الثانية، وهو شائعٌ مسموعٌ في كلامهم، وبه يرتفع الإشكال المذكور، وهو أولى من الترجيح. واللَّه أعلم.
[تنبيهان]: (الأول): زعم ابن التين أنه ورد في بعض الروايات أن عرض ابن عمر كان ببدر، فلم يُجزه، ثم بأحد، فأجازه. قال: وفي رواية عُرض يوم أحد، وهو ابن ثلاث عشرة، فلم يُجزه، وعُرض يوم الخندق، وهو ابن أربع عشرة سنةً، فأجازه. قال الحافظ: ولا وجود لذلك، وإنما وُجد ما أشرف إليه عن ابن سعد، أخرجه البيهقيّ من وجه آخر، عن أبي معشر، وأبو معشر مع ضعفه لا يُخالف ما زاده من ذكر بدر ما رواه الثقات، بل يوافقهم.
(الثاني): زعم ابن ناصر أنه وقع في "الجمع" للحُميديّ هنا "يوم الفتح" بدل يوم الخندق، قال ابن ناصر
(1)
: والسابق إلى ذلك أبو مسعود
(2)
، أو خلف، فتبعه شيخنا
(3)
، ولم يتدبّره، والصواب "يوم الخندق" في جميع الروايات، وتلقّى ذلك ابن الجوزيّ عن ابن ناصر، وبالغ في التشنيع على من وهم في ذلك، وكان الأولى ترك ذلك، فإن الغلط لا يَسلَم منه كثيرًا أحدٌ. انتهى
(4)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-20/ 3458 - وفي "الكبرى" 21/ 5624. وأخرجه (خ) في "الشهادات" 2664 و"المغازي" 4097 (م) في "الإمارة" 1868 (د) في "الخراج" 2957 و"الحدود" 4406 (ت) في "الأحكام" 1361 و"الجهاد" 1711 (ق) في "الحدود" 2543 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4647. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
هو أبو الفضل ابن ناصر السلاميّ. قاله العينيّ "عمدة" 13/ 241.
(2)
وقع في نسخة "الفتح" 5/ 12 "ابن مسعود"، والصواب ما هنا، كما في "عمدة القاري" 13/ 241.
(3)
يعني الحميديّ.
(4)
"فتح" 5/ 611 - 612. "كتاب الشهادات".
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان أن طلاق الصبيّ لا يقع حتى يبلغ، وبلوغه، إما بالاحتلام، أو بالإنبات، كما سبق في الحديث الماضي، أو ببلوغ السنّ، وهو خمس عشرة سنة، كما في حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا. (ومنها): أن الإمام يستعرض من يخرج معه للقتال قبل أن تقع الحرب، فمن وجده أهلاً استصحبه، وإلا ردّه، وقد وقع ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم في بدر، وأُحُد، وغيرهما. وعند المالكيّة والحنفيّة لا تتوقّف الإجازة للقتال على البلوغ، بل للإمام أن يُجيز من الصبيان من فيه قوّة ونَجْدَةٌ، فرُبّ مُراهقٍ أقوى من بالغ، وحديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى - عنهما هذا حجةٌ عليهما، ولا سيّما وقد ثبتت زيادة:"فلم يُجزني، ولم يرني بلغتُ"، وهي صحيحة، كما سيأتي قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): وقع في "الصحيحين" في آخر هذا الحديث: ما نصّه: قال نافعٌ: "فقدِمتُ على عمر بن عبد العزيز، وهو خليفة، فحدّثته الحديثَ، فقال: إن هذا لحدٌّ بين الصغير والكبير، وكتب إلى عُمّاله أن يَفرِضُوا لمن بلغ خمس عشرة سنة"، زاد مسلم في روايته:"ومن كان دون ذلك، فاجعلوه في العيال". وقوله: "أن يَفرِضوا" أي يُقدّروا لهم رزقًا في ديوان الجند، وكانوا يفرّقون بين المقاتلة وغيرهم في العطاء، وهو الرزق الذي يُجمع في بيت المال، ويفرّق على مستحقّيه.
واستدلّ بقصّة ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - على أن من استكمل خمس عشرة سنة أُجريت عليه أحكام البالغين، وإن لم يحتلم، فيكلّف بالعبادات، وإقامة الحدود، ويَستحقّ سهم الغنيمة، وُيقتل إن كان حربيًّا، ويُفكّ عنه الحجر، إن أُونس رُشده، وغير ذلك من الأحكام. وقد عمل بذلك عمر بن عبد العزيز، وأقرّه عليه راويه نافع.
وأجاب الطحاويّ، وابن القصّار، وغيرهما، ممن لم يأخذ به بأن الإجازة المذكورة جاء التصريح بانها كانت في القتال، وذلك يتعلّق بالقوّة والجلَد. وأجاب بعض المالكيّة بأنها واقعة عين، فلا عموم لها، ويَحتمل أن يكون صادف أنه كان عند تلك السنّ قد احتلم، فلذلك أجازه. وتجاسر بعضهم، فقال: إنما ردّه لضعفه، لا لسنّه، وإنما أجازه لقوّته، لا لبلوغه. ويردّ على ذلك ما أخرجه عبد الرزّاق، عن ابن جريج، ورواه أبو عوانة، وابن حبّان في "صحيحيهما" من وجه آخر، عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع، فذكر هذا الحديث بلفظ: "عُرضتُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فلم يُجزني، ولم يرني بلغتُ
…
" الحديث، وهي زيادة صحيحة، لا مَطعَنَ فيها؛ لجلالة ابن جريج، وتقدّمه على غيره في حديث نافع، وقد صرّح فيها بالتحديث، فانتفى ما يُخشى من تدليسه،
وقد نصّ فيها لفظ ابن عمر بقوله: "ولم يرني بلغت"، وابن عمر أعلم بما روى من غيره، ولا سيّما في قصّة تتعلّق به. قاله في "الفتح"
(1)
.
والحاصل أن المذهب الراجح القول بأن من بلغ خمس عشرة سنة، أُجْرِيَتْ عليه أحكامُ البالغين؛ لكونه منهم.
وسيأتي مزيد بسط في هذه المسألة في محلّه من "كتاب قطع السارق"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
21 - (بَابُ مَنْ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ مِنَ الأَزْوَاجِ)
3459 -
(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يَفِيقَ»).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يعقوب بن إبراهيم) بن كثير بن أفلح العبديّ مولاهم، أبو سعيد الدَّوْرَقِيُّ البغداديّ، ثقة [10] 21/ 22.
2 -
(عبد الرحمن بن مهديّ) بن حسّان العنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث [9] 42/ 49.
3 -
(حماد بن سلمة) المذكور في الباب الماضي.
4 -
(حمّاد) بن أبي سُليمان مسلم الأشعريّ مولاهم، أبو إسماعيل الكوفيّ، فقيه صدوق، له أوهام [5] 190/ 1165.
5 -
(إبراهيم) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ الفقيه، ثقة يرسل كثيرًا [5] 29/ 33.
(1)
"فتح" 5/ 612 - 613. "كتاب الشهادات".
6 -
(الأسود) بن يزيد النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، مخضرم ثقة مكثر [2] 29/ 33.
7 -
(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد المشايخ التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة. (ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وكلهم كوفيّون: حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، وهو خال لإبراهيم. (ومنها): أن فيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: رُفِعَ الْقَلَمُ) ببناء الفعل للمفعول، قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: هو كناية عن عدم كتابة الآثام عليهم في هذه الأحوال، وهو لا ينافي ثبوت بعض الأحكام الدنيويّة، والأخرويّة لهم في هذه الأحوال، كضمان المتلفات، وغيره، فلذلك من فاتته صلاة في النوم، فصلّى، ففعله قضاءً عند كثير من الفقهاء، مع أن القضاء مسبوقٌ بوجوب الصلاة، فلا بدّ لهم من القول بالوجوب حالة النوم، ولهذا كان الصحيحُ أن الصبيّ يُثاب على الصلاة، وغيرها، من الأعمال. فهذا الحديث كحديث "رُفع عن أمتي الخطأ"، مع أن القاتل خطأً تجب عليه الكفّارة، وعلى عاقلته الدية، وعلى هذا ففي دلالة الحديث على عدم وقوع طلاق هؤلاء بحثٌ. انتهى
(1)
.
وقال في "التلخيص الحبير": الرفع مجازٌ عن عدم التكليف لأنه يُكتب لهم فعل الخير. قاله ابن حبّان انتهى
(2)
.
قال الشوكانيّ: وهذا في الصبي ظاهر. وأما في المجنون فلا يتّصف أفعاله بخير، ولا شرّ، إذ لا قصد له، والموجود منه من صور الأفعال، لا حكم له شرعًا. وأما في النائم ففيه بُعد؛ لأن قصده منتف أيضًا، فلا حكم لما صدر منه من الأفعال حال نومه. وللناس كلام في تكليف الصبيّ بجميع الأحكام، أو ببعضها ليس هذا محلّ بسطه، وكذلك النائم انتهى
(3)
.
(1)
"شرح السنديّ" 6/ 156.
(2)
"التلخيص الحبير" 1/ 184.
(3)
"نيل الأوطار" 2/ 24. "كتاب الصلاة".
ونقل السيوطيّ في "مرقاة الصعود شرح سنن أبي داود" عن السبكيّ -رحمهما اللَّه تعالى-، أنه قال: رفع القلم هل هو حقيقة، أو مجازٌ فيه احتمالان:
[أحدهما]: وهو المنقول المشهور أنه مجازٌ، لم يُرد فيه حقيقة الرفع، وإنما هو كنايةٌ عن عدم التكليف، ووجه الكناية فيه أن التكليف يلزم منه الكتابة، كقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ، وغير ذلك، ويلزم من الكتابة القلم؛ لأنه آلةٌ لها، فالقلم لازم للتكليف، وانتفاء اللازم يدلّ على انتفاء الملزوم، فلذلك كنى بنفي القلم عن نفي الكتابة، وهي من أحسن الكنايات، وأَتَى بلفظ الرفع إشعارًا بأن التكليف لازم لبني آدم، إلا هؤلاء الثلاثة، وأن صفة الوضع أمرٌ ثابتٌ للقلم، لا ينفكّ عن غير الثلاثة موضوعًا عليه حتّى يُرفع، ولو لم يوضع، أو لم يكتب على ثلاثة لم يكن به إشعارٌ بذلك، وأنه في الأصل متّصفٌ بوضع، وجريان على كلّ مخلوق من العاملين، فهذه فائدة جليلة، فاستَعمَل الرفعَ في موضع عدم الوضع بطريق المجاز، واستعمل عدم وضع القلم في موضع عدم الكتابة بطريق المجاز، وعدمُ الكتابة مجاز في عدم التكليف، والوضع الذي أشعر به لفظ الرفع مجاز أيضًا بالنسبة إلى هؤلاء الثلاثة، إذ لم يتقدّم في حقهم إلا بطريق القوّة، لا بطريق الفعل.
[والثاني]: أن يراد حقيقة القلم الذي ورد به الحديث: "أول ما خلق اللَّه القلم، فقال له: اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة"، فأفعال العباد كلّها حسنها وسيّئها جرى به ذلك القلم، وكتبه حقيقةً، فثواب الطاعات، وعقاب السيّئات كتبه حقيقة، وقد خلقه اللَّه لذلك، وأمره بكتبه، وصار موضوعًا على اللوح المحفوظ ليكتب ذلك فيه، جاريًا إلى يوم القيامة، وقد كتب ذلك، وفرغ منه، وحُفظ، وفعل الصبيّ، والمجنون، والنائم لا أثر فيه، فلا يكتب القلم إثمه، ولا التكليف به، فحكمُ اللَّه بأن القلم لا يكتبه من بين كلّ الأشياء رفيع للقلم الموضوع للكتابة، والرفع فعله تعالى، فالرفع في نفسه حقيقةٌ، والقلم حقيقة، والمجاز في شيء واحد، وهو أن القلم لم يكن موضوعًا على هؤلاء الثلاثة، إلا بالقوّة، والتهيّءِ لأن يكتب ما صدر منهم، فسمّي منعه من ذلك رفعًا، فمن هذا الوجه يشارك هذا الاحتمالُ للاحتمال الأول، ويفارقه فيما قبله، واللَّه تعالى أعلم، وعلمه أحكم انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني هو الصواب، والأول تكلّف بارد، وتعسّف بعيد؛ فالنصوص مهما أمكن حملها على الحقيقة، لا تُحمل على المجاز،
(1)
هكذا ذكره السيوطيّ في "مرقاة الصعود شرح سنن أبي داود" نقلته من هامش النسخة الهندية لسنن أبي داود ص 604.
فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بتقليد ذوي الاعتساف. واللَّه الهادي إلى سواء السبيل.
(عَنْ ثَلَاثٍ) أي ثلاث أنفس، وفي نسخة، وهو الذي في "الكبرى":"عن ثلاثة" بالتاء، فيقدّر تمييزه مذكّرًا، أي ثلاثة أصناف من الناس (عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيقِظَ) غاية مستقبلة، والفعل المغيّا بها ماضٍ، والماضي لا يجوز أن تكون غايته مستقبلة. وجوابه أن تقديره: رُفع القلم عن النائم، فلا يزال مرفوعًا حتى يستيقظ، أو فهو مرتفعٌ حتى يستيقظ
(1)
(وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ) بفتح الموحّدة، يقال: كَبِرَ الصبيّ وغيره يَكْبَرُ، من باب تَعِبَ مَكْبِرًا، مثلُ مسجِدٍ، وكِبَرًا، وِزانُ عِنَبً، فهو كبير، وجمعه كِبَارٌ، والأُنثى كبيرةٌ. وكَبُر الشيءُ كُبْرًا، من باب قَرُبَ: عَظُمَ، فهو كَبيرٌ أيضًا. قاله الفيّوميّ. والمناسب هنا الأول. وفي رواية:"وعن الصبيّ حتى يَحتلم".
(وَعَنِ الْمَجنُونِ) وفي رواية: "وعن المُبْتَلَى حتى يبرأ"، وفي رواية:"وعن المعتوه"، وكلُّها متقاربُ المعنى (حَتَّى يَعْقِلَ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، وفتحه، أي إلى أن يرجع إليه تدبّره، وفهمه للأمور، يقال: عَقَلتُ الشيءَ عَقلاً، من باب ضرب: تدبّرتُهُ، وعَقِلَ يَعْقَلُ، من باب تَعِبَ لغةٌ، ثم أُطلق العقلُ الذي هو المصدر على الحِجَا واللُّبّ، ولهذا قال بعض الناس: العقل غريزة يتهيّأُ بها الإنسان إلى فهم الخطاب، فالرجل عاقلٌ، والجمعُ عُقَّالٌ، مثلُ كافر وكُفَّار، وربّما قيل: عُقلاء، وامرأةٌ عاقلٌ، وعاقلةٌ، كما يقال فيها: بالغٌ، وبالغةٌ، والجمع عَوَاقلُ، وعاقلاتٌ. قاله الفيّوميّ (أَوْ) للشكّ من الراوي (يُفِيقَ) بضمّ أوله، يقال: أفاق المجنون إفاقةً: رجع إليه عقله، وأفاق السكران إفاقةً، والأصل أفاق من سُكْره كما استيقظ من نومه، قاله الفيّوميّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-21/ 3459 - وفي "الكبرى" 22/ 5625. وأخرجه (د) في "الحدود" 4398 (ق) في "الطلاق" 2041 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 24173 و 24182 (الدارمي) في "الحدود" 2296 (ابن حبّان) 1496 (ابن الجارود في المنتقى) ص 77
(1)
ذكر هذا في هامش "سنن أبي داود" في النسخة الهنديّة في "كتاب الحدود - "باب في "المجنون يسرق، أو يُصيب حدًّا".
(الحاكم) 2/ 59، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبيّ، وهو كما قالا، وحمّاد بن أبي سليمان، وإن كان فيه كلام من قبل حفظه، فهو يسير، لا يُسقط حديثه عن رتبة الاحتجاج به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: حديث الباب مرويّ عن عائشة، وعليّ بن أبي طالب، وأبي قتادة الأنصاريّ رضي الله عنه.
أما حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فقد ذكرنا من خرّجه آنفًا.
وأما حديث عليّ رضي الله عنه فله عنه طرقٌ: [منها]: عن أبي ظبيان، عن ابن عبّاس، قال:"قال: أُتي عمرُ بمجنونة، قد زنت، فاستشار فيها أناسا، فأمَر بها عمر أن تُرجَمَ، فَمُرّ بها على علي بن أبي طالب رضوان اللَّه عليه، فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم، قال: فقال: ارجعوا بها، ثم أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين، أما علمت، أن القلم قد رُفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يَبْرَأَ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل، قال: بلى، قال: فما بال هذه ترجم؟ قال: لا شيء، قال: فأَرْسِلْها، قال فارسلها، قال: فجعل يُكَبِّر".
وفي رواية: قال: أَوَ ما تذكر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يُفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم"، قال: صدقت، قال: فخَلَّى عنها. رواه أبو داود 4399 - 4401، وابن خزيمة في "صحيحه" 1003 وابن حبّان 1497 والحاكم 2/ 59 والدارقطنيّ 347 وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ، وهو كما قالا، ولا يضرّه وقف من وقفه، لأن من رفعه ثقة، والرفع زيادة، فيجب قبولها، ولأن رواية الوقف في مثل هذا في حكم الرفع؛ لقول عليّ لعمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: أما علمتَ؟ وقول عمر: بلى، فإنه دليل على أن الحديث معروف عندهما واللَّه تعالى أعلم.
وأما حديث أبي قتادة رضي الله عنه، فلفظه: أنه كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، فأدلج، فتقطع الناس عنه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنه رُفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستقيظ، وعن المعتوه حتى يصحّ، وعن الصبيّ حتى يحتلم". أخرجه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد. وردّه الذهبيّ بأن فيه عكرمة بن إبراهيم، وقد ضعّفوه. وفي الباب عن أبي هريرة، وثوبان، وابن عباس، وغير واحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن لا تخلو أسانيدها من مقال، وقد أوردها الهيثميّ في "المجمع" 6/ 251 وأورد الزيلعيّ بعضها في "نصب الراية" 4/ 164 - 165
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع ما كتبه الشيخ الألبانيّ حفظه اللَّه في "إرواء الغليل" 2/ 4 - 7، فقد حقّق البحث في هذا الحديث.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان من لا يقع طلاقه من الأزواج، وهم هؤلاء المذكورون في هذا الحديث. (ومنها): بيان عدم تكليف الصبيّ، والمجنون، والنائم ما داموا متّصفين بتلك الأوصاف. (ومنها): عِظَمُ رأفة اللَّه سبحانه وتعالى بعباده، حيث لم يكلّف من ليس له صلاحية لأداء ما كُلّف به، مثل هؤلاء الثلاثة، {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} . واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في مذاهب العلماء في طلاق من زال عقله:
قال العلامة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: أجمع أهل العلم على أن الزائل العقل بغير سُكر، أو ما في معناه لا يقع طلاقه، كذلك قال عثمان، وعليّ، وسعيد بن المسيّب، والحسن، والنخعيّ، والشعبيّ، وأبو قلابة، وقتادة، والزهريّ، ويحيى الأنصاريّ، ومالك، والثوريّ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي. وأجمعوا على أن الرجل إذا طلّق في حال نومه فلا طلاق له؛ لحديث: "رُفع القلم عن ثلاثة
…
" الحديث؛ ولأنه قولٌ يُزيل الملك، فاعتُبر له العقل، كالبيع، وسواء زال عقله لجنون، أو إغماء، أو نوم، أو شُرب دواء، أو إكراه على شرب خمر، أو شرب ما يُزيل عقله شربُهُ، ولا يَعلَم أنه مزيلٌ للعقل، فكلّ هذا يمنع وقوع الطلاق، رواية واحدة، ولا نَعلم فيه خلافًا.
فأما إن شرب الْبَنْجَ ونحوه مما يُزيل عقلَهُ، عالمًا به، متلاعبًا، فحكمه حكم السكران في طلاقه، وبهذا قال أصحاب الشافعيّ، وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يقع طلاقه؛ لأنه لا يلتذّ بشربها، ولنا أنه زال عقله بمعصية، فأشبه السكران.
وأما السكران ففيه روايتان:
[إحداهما]: يقع طلاقه، اختارها أبو بكر الخلّال، والقاضي، وهو مذهب سعيد بن المسيّب، وعطاء، ومجا هد، والحسن، وابن سيرين، والشعبيّ، والنخعيّ، وميمون بن مهران، والحكم، ومالك، والثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ في أحد قوليه، وابن شُبْرُمة، وأبي حنيفة، وصاحبيه، وسليمان بن حرب؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"كلّ الطلاق جائزٌ، إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله". رواه الترمذيّ، وقال: لا نعرفه إلا من حديث عطاء بن عجلان، وهو ذاهب الحديث. ومثل هذا عن عليّ، ومعاوية، وابن عباس رضي الله عنهم.
[والثانية]: أنه لا يقع طلاقه، واختارها أبو بكر عبد العزيز، وهو قول عثمان رضي الله عنه، ومذهب عمر بن عبد العزيز، والقاسم، وطاوس، وربيعة، ويحيى الأنصاريّ، والليث، والعنبريّ، وإسحاق، وأبي ثور، والمزنيّ. قال ابن المنذر: هذا ثابتٌ عن عثمان، ولا
نعلم أحدًا من الصحابة خالفه. وقال أحمد: حديث عثمان أرفع شيء فيه، وهو أصحّ -يعني من حديث عليّ، وحديث الأعمش منصور، لا يرفعه إلى عليّ؛ ولأنه زائل العقل، فأشبه المجنون والنائم، ولأنه مفقود الإرادة، فأشبه المكره؛ ولأن العقل شرط التكليف؛ إذ هو عبارةٌ عن الخطاب بأمر، أو نهي، ولا يتوجّه ذلك إلى من لا يفهمه، ولا فرق بين زوال الشرط بمعصية، أو غيرها؛ بدليل أن من كسَرَ ساقيه جاز له أن يصلّي قاعدًا، ولو ضَرَبت المرأة بطنها، فنُفست، سقطت عنها الصلاة، ولو ضَرَب رأسه فجُنّ، سقط عنه التكليف، وحديث أبي هريرة لا يثبت انتهى كلام ابن قدامة باختصار
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المذهب الثاني هو الراجح عندي؛ لوضوح أدلّته. قال العلاّمة الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى- منتصرًا القولَ بعدم الوقوع: إن السكران الذي لا يعقل لا حكم لطلاقه؛ لعدم المناط الذي تدور عليه الأحكام، وقد عيّن الشارع عقوبته، فليس لنا أن نتجاوزها برأينا، ونقول: يقع طلاقه عقوبةً له، فيُجمَعَ له بين عقوبتين انتهى
(2)
. وهو تحقيق نفيس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
22 - (بَابُ مَنْ طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ)
3460 -
(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ
(3)
، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى، تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي، كُلَّ شَيْءٍ، حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ، أَوْ تَعْمَلْ» ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إبراهيم بن الحسن) بن الْهَيْثَم الْخَثعَميّ، أبو إسحاق الْمِصِّيصيّ الْمِقْسَميّ، ثقة
(1)
"المغني" 10/ 345 - 348.
(2)
"نيل الأوطار" 6/ 250.
(3)
بتشديد اللام.
[11]
51/ 64.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ) بن ناصح الهاشميّ مولاهم، أبو القاسم البغداديّ، ثم الطَّرَسُوسيّ، وقد يُنسب لجدّه، لا بأس به [11] 172/ 1141.
3 -
(حجاج بن محمد) الأعور، أبو محمد الترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثم المصّيصة، ثقة ثبت، لكنه اختلط بآخره لما قدِمَ بغداد [9] 28/ 32.
4 -
(ابن جريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، نُسب لجدّه، وله كنيتان اشتهر بهما، أبو خالد، وأبو الوليد، الأمويّ مولاهم، المكيّ، ثقة فقيه فاضل، لكنه يدلّس ويرسل [6] 28/ 32.
5 -
(عطاء) بن أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة فقيه فاضل، لكنه كثير الإرسال [3] 112/ 154.
6 -
(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخية، فقد تفرد بهما هو وأبو داود. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ) يعني ابن محمد بن سلّام شيخه الثاني في هذا السند (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) يعني أن عبد الرحمن بن محمد ابن سلّام قال في روايته: "عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، بدل قول إبراهيم بن الحسن:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، فاختلفا في موضعين:
[أحدهما]: في لفظ "أنّ"، و"عن".
[الثاني]: في لفظة "النبيّ"، و"رسول اللَّه"، وهذا من احتياطات المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وورعه، حيث يُراعي اختلاف ألفاظ الشيوخ، وإن لَم يكن الاختلاف مما يضرّ؛ إلا أن الاحتياط أولى. والمسألتان قد اختلف فيهما أهل الحديث، فإلى المسألة الأولى أشار الحافظ السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "ألفية المصطلح"، بقوله:
وَمَنْ رَوَى بِـ "عَنْ" و"أَنَّ" فَاحْكُمِ
…
بِوَصْلِهِ إِنِ اللِّقَاءُ يُعْلَم
وَلَمْ يَكُنْ مُدَلِّسَا وَقِيلَ لَا
…
وَقِيلَ "أَنَّ" اقْطَعْ وَأَمَّا "عَنْ" صِلَا
وَمُسْلِمٌ يَشرُطْ تَعَاصُرًا فَقَطْ
…
وَبَعْضُهُمْ طُولَ صَحَابَةِ شَرَطْ
وَبَعْضُهُمْ عِرْفَانَهُ بِالأَخْذِ عَنْ
…
وَاستُعْمِلَا إِجَازَةً فِي ذَا الزَّمَنْ
وإلى المسألة الثانية أشار بقوله:
وَجَازَ أَنْ يُبْدَلَ بِـ "النَّبِيِّ"
…
"رَسُولُهُ" وَالْعَكْسُ فِي الْقَوِيِّ
(قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى، تجَاوَزَ عَنْ أُمَّتي، كُلَّ شَيْءٍ، حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا) وفي نسخة: "نفسها" بالإفراد. قاله في "الفتح": بالنصب للأكثر، وبالرفع لبعضهم. وقال النوويّ في "شرح مسلم": ضبط العلماء "أنفسها" بالنصب، والرفع، وهما ظاهران، إلا أن النصب أظهر، وأشهر. قال القاضي عياض:"أنفسها" بالنصب، ويدلّ عليه قوله: "إن أحدنا يُحدّث نفسه
…
"، قال: قال الطحاويّ: وأهل اللغة يقولون: "أنفسُها" بالرفع، يريدون بغير اختيارها، كقوله تعالى:{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} واللَّه أعلم
(1)
. وقال السنديّ: قوله: "حدّثت به أنفسها" يحتمل الرفع على الفاعليّة، والنصب على المفعوليّة، والثاني أظهر معنىً، والأول يُجعل كنايةً عما لم تحدّث به ألسنتهم انتهى
(2)
.
(مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ) بحذف إحدى التاءين، وأصله "تتكلّم"، فحُذفت منه إحدى التاءين، كقوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} ، و {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} (أَوْ تَعْمَلْ) قال الكرمانيّ: فيه أن الوجود الذهنيّ لا أثر له، وإنما الاعتبار بالوجود القوليّ في القوليّات، والعمليّ في العمليّات، وقد احتجّ به من لا يرى المؤاخذة بما وقع في النفس، ولو عزم عليه. وانفصل من قال: يؤاخذ بالعزم بأنه نوع من العمل -يعني عمل القلب. قال الحافظ: وظاهر الحديث أن المراد بالعمل عمل الجوارح؛ لأن المفهوم من لفظ: "ما لم يعمل" يُشعر بأن كلّ شيء في الصدر لا يؤاخذ به، سواء توطّن به، أم لم يتوطّن.
وقال السنديّ: وقوله: "ما لم تكلّم به، أو تعمل" صريحٌ في أنه مغفور ما دام لم يتعلّق به قولٌ، أو فعل، فقولهم: إذا صار عزمًا يؤاخذ به مخالفٌ لذلك قطعًا. ثم حاصل الحديث أن العبد لا يؤاخذ بحديث النفس قبل التكلّم به، والعمل به، وهذا لا ينافي ثبوت الثواب على حديث النفس أصلاً، فمن قال: إنه معارض بحديث: "من همّ بحسنة، فلم يعملها، كُتبت له حسنة"، فقد وَهِم.
بقي الكلام في اعتقاد الكفر، ونحوه. والجواب أنه ليس من حديث النفس، بل هو مندرجٌ في العمل، وعملُ كلّ شيء على حسبه، ونقول: الكلام فيما يتعلّق به تكلّمٌ، أو عملٌ، بقرينة "ما لم يتكلّم الخ"، وهذا ليس منهما، وإنما هو من أفعال القلب،
(1)
"شرح مسلم" 2/ 147. "كتاب الإيمان".
(2)
"شرح السنديّ" 6/ 157.
وعقائده، لا كلام فيه، فليتأمّل واللَّه تعالى أعلم انتهى
(1)
. وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-22/ 3460 و3461 و 3462 - وفي "الكبرى" 23/ 5626 و 5627 و 5628. وأخرجه (خ) في "العتق" 2528 و"الطلاق" 5269 و"الأيمان والنذور" 6664 (م) في "الإيمان" 127 (د) في "الطلاق" 2206 (ت) في "الطلاق" 1183 (ق) في "الطلاق" 2040 (أحمد) "باقي مسند المكثرين" 8864 و 9214 و 9786 و 9878 و9990. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان أن من طلّق زوجته في نفسه لا يقع طلاقها. (ومنها): أن فيه بيانَ عظيم قدر الأمة المحمّدية؛ لأجل نبيّها صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: "تجاوز لي". (ومنِها): أن هذا خصوصيّة لهذه الأمة، لا يُشاركها فيه غيرها من الأمم، بل صرّح بعضهم بأنه كان الناسي كالعامد في الإثم، وأن ذلك من الإصر الذي كان على من قبلنا، ويؤيّده ما أخرجه مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "لَمّا نزلت: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} اشتدّ ذلك على الصحابة
…
"، فذكر الحديث في شكواهم ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم لهم: "تريدون أن تقولوا مثل ما قاله أهل الكتاب: سمعنا، وعصينا، بل قولوا: سمعنا، وأطعنا، فقالوها، فنزلت:{آمَنَ الرَّسُولُ} إلى آخر السورة"، وفيه في قوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: نعم. وأخرجه من حديث ابن عبّاس بنحوه، وفيه: "قال: قد فعلت"
(2)
. (ومنها): أنه حجة في أن الموسوس لا يقع طلاقه، والمعتوه، والمجنون أولى منه بذلك. (ومنها): أن الطحاويّ احتجّ بهذا الحديث للجمهور فيمن قال لامرأته: أنت طالقٌ، ونوى في نفسه ثلاثًا أنه لا يقع إلا واحدةً، -خلافًا للشافعيّ، ومن وافقه- قال: لأن الخبر دلّ
(1)
"شرح السنديّ" 6/ 157 - 158.
(2)
"فتح" 13/ 404 - 405 "كتاب الأيمان والنذور".
على أنه لا يجوز وقوع الطلاق بنيّة، لا لفظ معها. وتُعُقّب بأنه لفظ بالطلاق، ونوى الفرقة التامّة، فهي نيّةٌ صحبها لفظٌ. (ومنها): أن الطحاويّ احتجّ به أيضًا لمن قال فيمن قال لامرأته: يا فلانة، ونوى بذلك طلاقها إنها لا تطلّق، خلافًا لمالك وغيره؛ لأن الطلاق لا يقع بالنيّة، دون اللفظ، ولم يأت بصيغة، لا صريحة، ولا كناية. (ومنها): أنه استُدلّ به على أن من كتب الطلاق طلّقت امرأته؛ لأنه عزم بقلبه، وعمل بكتابته، وهو قول الجمهور، وشرط مالكٌ فيه الإشهاد على ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال في "الفتح" نقلاً عن المازريّ: ذهب ابن الباقلّانيّ -يعني ومن تبعه- إلى أن من عزم على المعصية بقلبه، ووَطّن عليها نفسه أنه يأثم، وحمل الأحاديث الواردة في العفو عمن همّ بسيّئة، ولم يعملها على الخاطر الذي يمرّ بالقلب، ولا يستقرّ.
قال المازريّ: وخالفه كثير من الفقهاء، والمحدّثين، والمتكلّمين، ونقل عن نصّ الشافعيّ، ويؤيّده قوله في حديث أبي هريرة فيما أخرجه مسلم، من طريق همّام عنه بلفظ:"فأنا أغفرها له ما لم يعملها"، فإن الظاهر أن المراد بالعمل هنا عمل الجارحة بالمعصية المهموم بها.
وتعقّبه عياض بأن عامّة السلف، وأهل العلم على ما قال ابن الباقلاّنيّ؛ لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب، لكتهم قالوا: إن العزم على السيّئة يُكتب سيّئةً مجرّدة، لا السيّئة التي همّ أن يعملها، كمن يأمر بتحصيل معصية، ثم لا يفعلها بعد حصولها، فإنه يأثم بالأمر المذكور، لا بالمعصية.
ومما يدلّ على ذلك حديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"، قيل: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال:"إنه كان حريصًا على قتل صاحبه". والذي يظهر أنه من هذا الجنس، وهو أنه يُعاقب على عزمه بمقدار ما يستحقّه، ولا يُعاقب عقاب من باشر القتل حسًّا.
وهنا قسم آخر، وهو من فعل المعصية، ولم يتب منها، ثمّ همّ أن يعود إليها، فإنه يعاقب على الإصرار، كما جزم به ابن المبارك، وغيره في تفسير قوله تعالى:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، ويؤيّده أن الإصرار معصيةٌ اتفاقًا، فمن عزم على المعصية، وصمّم عليها كتبت عليه سيّئةً، فإذا عملها كُتبت عليه معصيةً ثانيةً. قال النوويّ: وهذا ظاهرٌ حسنٌ، لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على عزم القلب المستقرّ، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ}
الآية، وقوله:{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} ، وغير ذلك.
وقال ابن الجوزيّ: إذا حدّث نفسه بالمعصية لم يؤاخذ، فإن عزم، وصمّم زاد على حديث النفس، وهو من عمل القلب، قال: والدليل على التفريق بين الهمّ والعزم أن من كان في الصلاة، فوقع في خاطره أن يقطعها لم تنقطع، فإن صمّم على قطعها بطلت. وأجيب عن القول الأول بأن المؤاخذة على أعمال القلوب المستقلّة بالمعصية، لا تستلزم المؤاخذة على عمل القلب بقصد معصية الجارحة، إذا لم يعمل المقصود؛ للفرق بين ما هو بالقصد، وبين ما هو بالوسيلة.
وقسم بعضهم ما يقع في النفس أقسامًا يظهر منها الجواب عن الثاني، أضعفها أن يخطُر له، ثم يذهب في الحال، وهذا من الوسوسة، وهو معفوّ عنه، وهو دون التردّد. وفوقه أن يتردّد فيه، فيهتم به، ثم ينفر عنه، فيتركه، ثم يهمّ به، ثم يترك كذلك، ولا يستمرّ على قصده، وهذا هو التردّد، فيُعفى عنه أيضًا. وفوقه أن يميل إليه، ولا ينفر منه، بل يُصمّم على فعله، فهذا هو العزم، وهو منتهى الهمّ، وهو على قسمين:
[القسم الأول]: أن يكون من أعمال القلوب صِرْفًا، كالشكّ في الوحدانيّة، أو النبوّة، أو البعث، فهذا كفرٌ، ويُعاقب عليه جزمًا. ودونه المعصية التي لا تَصِلُ إلى الكفر، كمن يُحبّ ما يُبغض اللَّه، وُيبغض ما يُحبّ اللَّه، ويُحبّ للمسلم الأذى بغير موجب لذلك، فهذا يأثم. ويلتحق به الكبر، والعجب، والبغي، والمكر، والحسد، وفي بعض هذا خلاف، فعن الحسن البصريّ أن سوء الظنّ بالمسلم، وحسده معفوّ عنه، وحملوه على ما يقع في النفس، مما لا يقدر على دفعه. لكن من يقع له ذلك مأمورٌ بمجاهدته النفس على تركه.
[القسم الثاني]: أن يكون من أعمال الجوارح، كالزنا، والسرقة، فهو الذي وقع به النزاع، فذهبت طائفة إلى عدم المؤاخذة بذلك أصلاً. ونُقل عن نصّ الشافعيّ، ويؤيّده ما وقع في حديث خُريم بن فاتك
(1)
، فإنه حيث ذكر الهمّ بالحسنة قال: "علم اللَّه أنه
(1)
هو ما أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بإسناد صحيح، ولفظه:
18556 -
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن، عن الرُّكَين بن الرَّبيع، عن أبيه، عن عمه، فلان بن عميلة، عن خريم بن فاتك الأسدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الناس أربعة، والأعمال ستة، فالناس موسع عليه في الدنيا والآخرة، وموسع له في الدنيا، مقتور عليه في الآخرة، ومقتور عليه في الدنيا، موسع عليه في الآخرة، وشقي في الدنيا والآخرة، والأعمال موجبتان، ومثل بمثل، وعشرة أضعاف، وسبع مائة ضعف، فالموجبتان، من مات مسلما مؤمنا، لا يشرك باللَّه شيئًا، فوجبت له الجنة، ومن مات كافرا، وجبت له النار، ومن هم بحسنة فلم يعملها، فعلم اللَّه أنه قد أشعرها قلبه، وحرص عليها، كُتبت له حسنة، ومن هم بسيئة، لم تكتب عليه، ومن عملها كتبت واحدة، ولم تضاعف عليه، ومن عمل حسنة، كانت له بعشر أمثالها، =
أشعرها قلبه، وحرص عليها"، وحيث ذكر الهمّ بالسيئة لم يقيّد بشيء، بل قال فيه: "ومن همّ بسيئة لم تُكتب عليه"، والمقام مقام الفضل، فلا يليق التحجير فيه.
وذهب كثير من العلماء إلى المؤاخذة بالعزم المصمّم، وسأل ابن المبارك سفيان الثوريّ: أيؤاخذ العبد بما يهمّ به؟ قال: إذا جزم بذلك. واستدلّ كثير منهم بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ، وحملوا حديث أبي هريرة المذكور في الباب على الخطرات، كما تقدّم.
ثم افترق هؤلاء، فقالت طائفةٌ: يُعاقب عليه صاحبه في الدنيا خاصّةً، بنحو الهمّ والغمّ. وقالت طائفة: بل يُعاقب عليه يوم القيامة، لكن بالعتاب، لا بالعذاب. وهذا قول ابن جُريج، والربيع بن أنس، وطائفة، ونُسب ذلك إلى ابن عبّاس أيضًا. واستدلّوا بحديث النجوى
(1)
، واستثنى جماعة ممن ذهب إلى عدم مؤاخذة من وقع منه الهمّ بالمعصية ما يقع في الحرم المكيّ، ولو لم يُصمّم؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ذكره السدّيّ في "تفسيره" عن مرّة، عن ابن مسعود رضي الله عنه. وأخرجه أحمد من طريقه، مرفوعًا. ومنهم من رجّحه موقوفًا. ويؤيّد ذلك أن الحرم يجب اعتقاد تعظيمه، فمن همّ بالمعصية فيه، خالف الواجب بانتهاك حرمته.
وتُعُقّب هذا البحثُ بأن تعظيم اللَّه آكد من تعظيم الحرم، ومع ذلك فمن همّ بمعصيته لا يؤاخذه، فكيف يؤاخذه بما دونه؟.
ويمكن أن يُجاب عن هذا بأن انتهاك حرمة الحرم بالمعصية تستلزم انتهاك حرمة اللَّه؛ لأن تعظيم الحرم من تعظيم اللَّه، فصارت المعصية في الحرم أشدّ من المعصية في غيره، وإن اشترك الجميع في ترك تعظيم اللَّه تعالى.
نعم من همّ بالمعصية، قاصدًا الاستخفاف بالحرم عصى، ومن همّ بمعصية اللَّه، قاصدًا الاستخفاف باللَّه كفر، وإنما المعفوّ عنه من همّ بمعصية، ذاهلاً عن قصد الاستخفاف. قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا تفصيلٌ جيدٌ جدًّا، ينبغي أن يُستحضر عند شرح حديث: "لا يزني الزاني، وهو مؤمن
…
".
= ومن أنفق نفقة في سبيل اللَّه، كانت له بسبع مائة ضعف".
وعمّ الركين اسمه يُسير بن عميلة، وهو ثقة.
(1)
هو ما أخرجه البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "كتاب الأدب" من "صحيحه"، ولفظه: 6070 - حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، أن رجلا سأل ابن عمر، كيف سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول في النجوى؟ قال:"يدنو أحدكم من ربه، حتى يضع كنفه عليه، فيقول: عملتَ كذا وكذا؟، فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا؟، فيقول: نعم، فيُقَرَّره، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، فأنا أغفرها لك اليوم".
وقال السبكيّ الكبير -رحمه اللَّه تعالى-: الهاجس لا يؤاخذ به إجماعًا، والخاطر، وهو جريان ذلك الهاجس، وحديث النفس لا يؤاخذ بهما؛ للحديث المشار إليه، والهمّ، وهو قصد فعل المعصية مع التردّد لا يؤاخذ به؛ لحديث الباب، والعزم، وهو قوّة ذلك القصد، أو الجزم به، ورفع التردّد، قال المحقّقون: يؤاخذ به، وقال بعضهم: لا، واحتجّ بقول أهل اللغة: همّ بالشيء: عزم عليه، وهذا لا يكفي، قال: ومن أدلّة الأول حديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما
…
" وفيه: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه"، فعلّل بالحرص. واحتجّ بعضهم بأعمال القلوب، ولا حجة معه؛ لأنها على قسمين: [أحدهما]: لا يتعلّق بفعل خارجيّ، وليس البحث فيه. [والثاني]: يتعلّق بالمقتتلين، عزم كلّ منهما على قتل صاحبه، واقترن بعزمه فعل بعض ما عزم عليه، وهو شهر السلاح، وإشارته به إلى الآخر، فهذا الفعل يؤاخذ به، سواء حصل القتل، أم لا انتهى. قال الحافظ: ولا يلزم من قوله: "فالقاتل والمقتول في النار" أن يكونا في درجة واحدة من العذاب بالاتفاق.
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا التفصيل الذي ذكره السبكيّ -رحمه اللَّه تعالى- هو خلاصة ما تقدّم من أقوال المحققين، وهو تفصيلٌ حسنٌ جدًّا، وبه تجتمع الأدلّة المختلفة في هذا الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3461 -
(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل، تَجَاوَزَ لأُمَّتِي، مَا وَسْوَسَتْ بِهِ، وَحَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَتَكَلَّمْ
(2)
بِهِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، و"عبيد اللَّه بن سعيد": هو المذكور قبل باب، و"ابن إدريس": هو عبد اللَّه الأوديّ الكوفيّ. و"مِسْعَر": هو ابن كدام الهلاليّ الكوفيّ. و"زُرارة بن أوفى": هو العامريّ الْحَرَشيّ، أبو حاجب البصريّ، الثقة العابد، قاضي البصرة، مات وهو ساجد، سنة (93)[3] 27/ 917.
وقوله: "عن أبي هريرة" قال الحافظ: لم أقف على التصريح بسماع زُرارة لهذا الحديث من أبي هريرة، لكنه لم يوصف بالتدليس، فيُحمل على السماع. وذكر الإسماعيليّ أن الفرات بن خالد أدخل بين زُرارة، وبين أبي هريرة في هذا الإسناد رجلاً
(1)
"فتح" 13/ 124 - 127.
(2)
وفي نسخة: "أو تكلّم".
من بني عامر، وهو خطأٌ، فإن زاررة من بني عامر، فكأنه كان فيه "عن زرارة، رجلٍ من بني عامر، فظته آخر أُبهم، وليس كذلك انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق شرحه، وبيان ما يتعلّق به من المسائل في الحديث الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3462 -
(أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لأُمَّتِي، عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَكَلَّمْ، أَوْ تَعْمَلْ بِهِ»).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، غير شيخه، "موسى بن عبد الرحمن" الكنديّ المسروقيّ، أبي عيسى الكوفيّ، فقد تفرّد به هو والترمذيّ، وابن ماجه، وهو ثقة، من كبار [11] 74/ 91.
و"حسين الجعفيّ": هو ابن عليّ المقرئ الكوفيّ العابد. و"زائدة": هو ابن قُدامة. و"شيبان": هو ابن عبد الرحمن النحويّ. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
23 - (الطَّلَاقُ بِالإِشَارَةِ الْمَفْهُومَةِ)
3463 -
(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، جَارٌ فَارِسِيٌّ، طَيِّبُ الْمَرَقَةِ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ذَاتَ يَوْمٍ، وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَنْ تَعَالَ، وَأَوْمَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَائِشَةَ، أَيْ وَهَذِهِ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ الآخَرُ هَكَذَا بِيَدِهِ، أَنْ لَا، مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أبو بكر بن نافع) هو محمد بن أحمد بن نافع العبديّ البصريّ، ثقة، من صغار [10] 27/ 813.
(1)
"فتح" 13/ 404 "كتاب الأيمان والنذور".
2 -
(بهز) بن أسد العَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقة ثبت [9] 24/ 28.
3 -
(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، من كبار [8] 181/ 288.
4 -
(ثابت) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة عابد [4] 45/ 53.
5 -
(أنس) بن مالك الصحابيّ الخادم الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت، وثابت ألزم الناس لأنس رضي الله عنه لزمه أربعين سنة. (ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر الصحابة موتًا بالبصرة، مات سنة (92) أو (39)، وهو من المعمرين، فقد جَاوَزَ عُمْرُهُ مائة سنة. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عَنْ أَنَسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: كانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، جَارٌ فَارِسِيٌّ) أي منسوب إلى فارس البلد المعروف. قال ابن منظور: وفارس: بلد ذو جِيل، والنسب إليه فارسيّ، والجمع فُرْس، قال ابن مُقْبِل:
طَافَتْ بِهِ الْفُرْسُ حَتَّى بَدَّ نَاهِضُهَا
(1)
(طَيِّبُ الْمَرَقَةِ) من إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها. قال ابن منظور: الْمَرَقُ: الذي يُؤتَدَم به: معروفٌ، واحدته مَرَقَةٌ، والمرَقَةُ أخصُّ منه. وقال السنديّ: قوله: "طيب المرقة" أي أصلَحَهَا، وطَبَخَها جيّدًا، أو هو صيغة الصفة انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله السندي يقتضي أن "طَيَّبَ" فعل ماضٍ، فاعله ضمير الفارسي، و"المرقةَ" مفعوله، وهذا إن صحّت الرواية به، وإلا فما قدّمته أقرب، وأشبه. وفي رواية مسلم من طريق يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة: "أن جارًا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فارسيًّا، كان طَيِّبَ المرق، فصنع لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يدعوه
…
" (فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ذَاتَ يَوْمِ) يومًا من الأيّام، فـ "ذات" مقحمة (وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ) جملةٌ في محلّ نصب على الحال (فأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ) أي أشار ذلك الفارسي (أَنْ تَعَالَ) "أن"
(1)
"لسان العرب" 6/ 163.
مصدريّة، أي بأن تعال، وقال السنديّ:"أن" تفسيريّة، يريد أن يدعوه إلى المرقة (وَأَوْمَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَائِشَةَ، أَيْ وَهَذِهِ) أي ادعني وهذه، وإلا لا أقبل دعوتك، ولعلّ الوقت ما كان يُساعد الانفراد بذلك، فكره انفراده عنها بذلك، فعلّق قبول الدّعوة بالاجتماع، فإن رضيَ الداعي بذلك دعاهما، وإلا تركهما، ومقصود المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أن الإشارة المفهومة تُستعمل في المفاسد، والطلاقُ من جملتها، فيصحّ استعمالها فيه. قاله السنديّ
(1)
. (فَأَؤمَأَ إِلَيْهِ الآخَرُ) يعني الفارسيّ (هَكَذَا بيَدِهِ، أَنْ لَا)"أن" مخفّفةٌ من الثيقلة، ومدخول "لا" أي أنها لا تأتي معك (مَرَّتَينِ، أَوْ ثَلاثًا) أي قال هذا القول مرّتين، أو ثلاث مرّات. وفي رواية مسلم المذكورة:"فقال: وهذه، لعائشة، فقال: لا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا"، فعاد يدعوه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وهذه"، قال: لا، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا" ثم عاد يدعوه، فقال رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم: "وهذه"، قال: نعم في الثالثة، فقاما يتدافعان، حتى أتيا منزله".
قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "فقاما يتدافعان" معناه: يمشي كلّ واحد منهما في إثر صاحبه. قالوا: ولعلّ الفارسيّ إنما لم يدع عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - أوّلَا لكون الطعام كان قليلاً، فأراد توفيره على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام النوويّ
(2)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وامتناع الفارسيّ من الإذن لعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - أولى ما قيل فيه: أنه إنما كان صنع من الطعام ما يكفي النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده؛ للذي رأى عليه من الجوع، فكانه رأى أن مشاركة النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك يُجحف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. وامتناع النبيّ صلى الله عليه وسلم من إجابة الفارسيّ عند امتناعه من إذن عائشة إنما كان -واللَّه أعلم- لأن عائشة كان بها من الجوع مثل الذي كان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فكره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستأثر عليها بالأكل دونها، وهذا تقتضيه مكارم الأخلاق، وخصوصًا مع أهل بيت الرجل، ولذلك قال بعض الشعراء
(3)
:
وَشِبْعُ الْفَتَى لُؤْمٌ إِذَا جَاعَ صَاحِبُهْ
وقد نبه مالكٌ -رحمه اللَّه تعالى- على هذا المعنى حين سُئل عن الرجل يدعو الرجل يُكرمه؟ قال: إذا أراد فليبعث بذلك إليه يأكله مع أهله انتهى كلام القرطبيّ
(4)
. واللَّه
(1)
"شرح السندي" 6/ 158.
(2)
"شرح مسلم" 13/ 210.
(3)
هو بشر بن المغيرة بن المهلّب بن أبي صُفْرة، وهو عجز بيتٍ من الطويل، وصدره: وَكُلّهُمُ قَدْ نَالَ شِبْعًا لِبَطْنِهِ
(4)
"المفهم" 5/ 354. "كتاب الأطعمة".
تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-23/ 3463 - وفي "الكبرى" 24/ 5629. وأخرجه (م) في "الأشربة" 20227 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 13457 (الدارمي) في "الأطعمة" 2067. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان وقوع الطلاق بالإشارة المفهومة، ووجه الاستدلال بالحديث أن الإشارة المفهومة تستعمل في المقاصد؛ لأن الفارسيّ دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم للطعام بالإشارة، ففهمها صلى الله عليه وسلم، وبنى على ذلك، أن طلب منه الإذن لعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وراجعه في ذلك حتى أذن لها، فمضيا إلى بيته بناء على ذلك، فدلّ على أن الإشارة تقوم مقام العبارة إذا كانت مفهومة. (ومنها): جواز أكل المرق، والطيبات، قال اللَّه تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ
مِنَ الرِّزْقِ} الآية. (ومنها): أن في امتناع النبيّ صلى الله عليه وسلم من إجابة دعوة الفارسيّ، إلا أن يأذن لعائشة دليلٌ على أنه لا تجب إجابة الدعوة في مثل ذلك؛ فيكون من مسقطات وجوب إجابة الدعوة. قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: ما معناه: هذا محمول على أنه كان هناك عذز يمنع وجوب إجابة الدعوة، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم مخيّرًا بين إجابته، وتركها، فاختار أحد الجائزين، وهو تركها، إلا أن يأذن لعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -؛ لما كان بها من الجوع، أو نحوه، فكره صلى الله عليه وسلم الاختصاص بالطعام دونها، وهذا من جميل المعاشرة، وحقوق المصاحبة، وآداب المجالسة، فلما أذن لها اختار النبيّ صلى الله عليه وسلم الجائز الآخر؛ لتجدّد المصلحة، وهو حصول ما كان يريده، من إكرام جليسه، وإيفاء حقّ معاشره، ومواساته فيما يحصل. انتهى كلام النوويّ
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي في قوله: "على أنه كان هناك عذر يمنع الخ" نظر، إذ الظاهر من سياق الحديث أن المانع من الإجابة هو عدم سماح الفارسيّ لعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - في مصاحبته صلى الله عليه وسلم في أكل الطعام، لا أمر آخر، فيُستفاد منه أن
(1)
"شرح مسلم" 13/ 208 - 209.
المدعو إذا كانت زوجته، أو من عليه نفقته محتاجين إلى الطعام، فله أن يمتنع من الإجابة، إلا أن يؤذن لهم، فيكون هذا عذرًا من الأعذار التي تسقط وجوب إجابة الدعوة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في مذاهب العلماء في الإشارة بالطلاق:
قال العلاّمة ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: من لا يقدر على الكلام، كالأخرس إذا طلّق بالإشارة، طُلّقت زوجته، وبهذا قال مالكٌ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم؛ وذلك لأنه لا طريق له إلى الطلاق إلا بالإشارة، فقامت إشارته مقام الكلام من غيره فيه، كالنكاح. فاما القادر، فلا يصحّ طلاقه بالإشارة، كما لا يصحّ نكاحه بها انتهى
(1)
.
وقال الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه": "باب الإشارة في الطلاق،
والأمور"، ثم أرود عدّة أحاديث معلّقةً، وموصولةً، استدلالاً على ما ترجم به. فقال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى أن الإشارة إذا كانت مفهمةً تتنزّل منزلة النطق، وخالف الحنفيّة في بعض ذلك، ولعلّ البخاريّ ردّ عليهم بهذه الأحاديث التي جعل فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم الإشارة قائمة مقام النطق، وإذا جازت الإشارة في أحكام مختلفة في الديانة، فهي لمن لا يمكنه النطق أجوز. وقال ابن المنيّر: أراد البخاريّ أن الإشارة بالطلاق وغيره من الأخرس وغيره التي يُفهم منها الأصل، والعدد نافذٌ كاللفظ انتهى.
وقال الحافظ: وقد اختلف العلماء في الإشارة المفهمة، فأما في حقوق اللَّه، فقالوا: يكفي ولو من القادر على النطق، وأما في حقوق الآدميين، كالعقود، والإقرار، والوصيّة، ونحو ذلك، فاختلف العلماء فيمن اعتُقل لسانه، ثالثها عن أبي حنيفة: إن كان مأيوسًا من نطقه، وعن بعض الحنابلة: إن اتّصل بالموت، ورجّحه الطحاويّ. وعن الأوزاعيّ: إن سبقه كلام. ونُقل عن مكحول: إن قال: فلان حرّ، ثم أُصمت، فقيل له: وفلان؟ فأوما صحّ. وأما القادر على النطق، فلا تقوم إشارته مقام نطقه عند الأكثرين، واختُلف هل يقوم مقام النيّة، كما لو طلّق امرأته، فقيل له: كم طلّقتَ؟ فأشار بإصبعه. انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن القول بوقوع الطلاق بالإشارة المفهمة مطلقًا، سواء كان من الأخرس، أو من القادر على النطق، هو الأصحّ، كما هو مذهب الإمام البخاريّ، والمصنّف، وبعض أهل العلم؛ لوضوح أدلّته، فقد ساق الإمام
(1)
"المغني" 10/ 502.
(2)
"فتح" 10/ 549. "كتاب الطلاق".
البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- أحاديث كثيرة اعتبر الشارع فيها الإشارة كالنطق، ودلالتها على ما قلنا واضحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
24 - (بَابُ الْكَلَامِ إِذَا قُصِدَ بِهِ فِيمَا يَحْتَمِلُ مَعْنَاهُ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "باب" مضاف إلى "الكلام"، ويحتمل أن يكون
منؤنَا، و"الكلام" مرفوعٌ با لابتداء، وخبره جملة الشرط، وجوابه.
وفي نسخة: "لما يحتمل" باللام بدل "في". وفي "الكبرى": "لما يحتمله"، والظاهر أن الجارّ هنا زائد، و"ما" في محلّ رفع نائب فاعل "قُصد"، وجواب "إذا" محذوف؛ لدلالة المقام عليه، أي فهو على نيّة المتكلّم.
وغرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أن كنايات الطلاق يقع بها الطلاق، إذا نواه المتكلّم، وذلك كقوله:"الحقي بأهلك"، كما سبق الكلام عليه، و"خليّة"، و"بريّة"، و"بتّةٌ"، و"بتلةٌ"، ونحوها، ومحلّ الاستدلال من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:"ولكلّ امرئ ما نوى"؛ لأنه عامّ يدخل فيه الطلاق، فإذا تكلّم بلفظ محتملٍ للطلاق، وأراده به وقع. وبمعنى ترجمة المصنّف ترجمة الإمام البخاريّ -رحمهما اللَّه تعالى- في "صحيحه"، حيث قال:"باب" إذا قال: فارقتُك، أو سرّحتك، أو الخليّة، أو البريّة، أو عُني به الطلاق، فهو على نيّته، وقولى اللَّه عز وجل:{وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} ، وقال:{وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} ، وقال تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، وقال:{أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ، وقالت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: قد علم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه".
قال في "الفتح": هكذا بت المصنّف الحكم في هذه المسألة، فاقتضى أن لا صريح عنده إلا لفظ الطلاق، أو ما تصرّف منه، وهو قولى الشافعيّ في القديم، ونصّ في الجديد على أن الصريح لفظ الطلاق، والفراق، والسراح؛ لورود ذلك في القرآن بمعنى الطلاق. وحجة القديم أنه ورد في القرآن لفظ الفراق والسراح لغير الطلاق، بخلاف
الطلاق، فإنه لم يرد إلا للطلاق. وقد رجّح جاعة القديم، كالطبريّ في "العدّة"، والمحامليّ، وغيرهما، وهو قول الحنفيّة، واختاره القاضي عبد الوهّاب من المالكيّة، وحكى الدارميّ عن ابن خير أن من لم يعرف إلا الطلاق، فهو صريحٌ في حقّه فقط، وهو تفصيلٌ قويّ، ونحوه للرويانيّ، فإنه قال: لو قال عربيّ: فارقتك، ولم يعرف أنها صريحة لا يكون صريحًا في حقّه. واتفقوا على أن لفظ الطلاق، وما تصرّف منه صريح، لكن أخرج أبو عبيد في "غريب الحديث" من طريق عبد اللَّه بن شهاب الخولانيّ، عن عمر صلى الله عليه وسلم، أنه رُفع إليه رجلٌ قالت له امرأته: شبّهني، فقال: كأنّك ظبيةٌ، قالت: لا، قال: كأنك حمامةٌ، قالت: لا أرضى حتى تقول: أنت خليّةٌ طالقٌ، فقالها، فقال له عمر: خذ بيدها، فهي امرأتك. قال أبو عبيد: قوله: "خليّةٌ طالقٌ"، أي ناقةٌ كانت معقولةً، ثم أطلقت من عقالها، وخُلّي عنها، فتُسمّى خليّةً؛ لأنها خُلّيت عن العقال، وطالقٌ لأنها طلّقت منه، فأراد الرجل أنها تشبه الناقة، ولم يقصد الطلاق بمعنى الفراق أصلاً، فأسقط عنه عمرُ الطلاقَ. قال أبو عُبيد: وهذا أصلٌ لكلّ من تكلّم بشيء من ألفاظ الطلاق، ولم يرد الفراق، بل أراد غيره، فالقول قوله فيه فيما بينه وبين اللَّه تعالى انتهى.
وإلى هذا ذهب الجمهور، لكن المشكل من قصّة عمر كونه رُفع إليه، وهو حاكم، فإن كان أجراه مجرى الفتيا، ولم يكن هناك حكم، فيوافق، وإلا فهو من النوادر. وقد نقل الخطّابيّ الإجماع على خلافه، لكن أثبت غيره الخلاف، وعزاه لداود، وفي البويطيّ ما يقتضيه. وحكاه الرويانيّ، ولكن أوله الجمهور، وشرطوا قصد لفظ الطلاق لمعنى الطلاق ليخرج العجميّ مثلاً، إذا لقّن كلمة الطلاق، فقالها، وهو لا يعرف معناها، أو العربيّ بالعكس، وشرطوا مع النطق بلفظ الطلاق تعمّد ذلك؛ احترازًا عما سبق به اللسان، والاختيار؛ ليخرج المكره، لكن إن أكره فقالها مع القصد إلى الطلاق وقع في الأصحّ انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور من أن من تكلم بألفاظ الطلاق، من غير إرادة الفراق، بل لمعنى آخر لا يلزمه الطلاق هو الحقّ، كما في قصّة عمر رضي الله عنه؛ لحديث النيّة المذكور في الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3464 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
(1)
"فتح" 10/ 464 - 465 "كتاب الطلاق"
مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رضي الله عنه، وَفِي حَدِيثِ الْحَارِثِ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم للمصنّف - رحمه اللَّه تعالى - سندًا ومتنًا في "الطهارة" -60/ 75 - "باب النيّة في الوضوء" وتقدم شرحه هناك مستوفًى، وذكرت فيه ثمانيةً وأربعين مسألةً، وأذكر هنا ما ترجم له المصنّف، وهو بيان كنايات الطلاق، فأقول:
(مسألة): في اختلاف أهل العلم في حكم كنايات الطلاق:
قال الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى-: إذا قال لها: أنت خليّةٌ، أو أنت بريّةٌ، أو أنت بائنٌ، أو حبلُكِ على غاربكِ، أو الحقي بأهلكِ، فهو عندي ثلاثٌ، ولكنّي أكره أن أُفتي به، سواء دخل بها، أو لم يدخل.
قال ابن قدامة: أكثر الروايات عن أبي عبد اللَّه كراهية الفُتْيا في هذه الكنايات، مع ميله إلى أنها ثلاث. وحكى أبو موسى في "الإرشاد" عنه روايتين: إحداهما أنها ثلاث. والثانية: يُرجع إلى ما نواه، اختارها أبو الخطّاب، وهو مذهب الشافعيّ، قال: يُرجع إلى ما نواه، فإن لم ينو شيئًا وقعت واحدةً، ونحوه قول النخعيّ، إلا أنه قال: تقع طلقةٌ بائنةٌ؛ لأن لفظه يقتضي البينونة، ولا يقتضي عددًا. وروى حنبلٌ عن أحمد ما يدلّ على هذا.
وقال الثوريّ، وأصحاب الرأي: إن نوى ثلاثًا، فثلاثٌ، وإن نوى اثنتين، أو واحدة وقعت واحدةً، ولا يقع اثنتان.
ثم قال ابن قُدامة: ووجه أنها ثلاثٌ أنه قول أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فروي عن عليّ، وابن عمر، وزيد بن ثابت أنها ثلاث. قال أحمد في الخليّة، والبريّة، والبتّة: قول عليّ، وابن عمر قول صحيح ثلاثًا. وقال عليّ، والحسن، والزهريّ في البائن: إنها ثلاث. وروى النجّاد بإسناده، عن نافع: أن رجلاً جاء إلى عاصم، وابن الزبير، فقال: إن ظِئري هذا طلّق امرأته البتّة قبل أن يدخل بها، فهل تجدان رخصةً؟ فقالا: لا، ولكنّا تركنا ابن عبّاس، وأبا هريرة عند عائشة، فسلهم، ثم ارجع إلينا، فأَخبِرنا، فسألهم، فقال أبو هريرة: لا تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره. وقال ابن عبّاس: هي ثلاث. وذكر عن عائشة متابعتهما. وروى النجّاد بإسناده أن عمر رضي الله عنه جعل البتّة واحدة، ثم جعلها بعدُ ثلاث تطليقات. وهذه أقوال علماء الصحابة، ولم يُعرف لهم
مخالفٌ في عصرهم، فكان إجماعًا. انتهى كلام ابن قدامة باختصار
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- من أنه يُرجع إلى نيّته هو الأرجح؛ كما هو ظاهر مذهب المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-؛ لحديث الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: قال ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: الطلاق الواقع بالكنايات رجعيّ، ما لم يقع الثلاث في ظاهر المذهب، وهو قول الشافعيّ. وقال أبو حنيفة: كلها بوائن، إلا اعتدّي، واستبرئي رحمك، وأنت واحدةٌ؛ لأنها تقتضي البينونة، فتقع البينونة، كقوله: أنت طالق ثلاثًا. ولنا أنه طلاقٌ صادف مدخولاً بها، من غير عِوَضٍ، ولا استيفاء عدد، فوجب أن يكون رجعيًّا، كصريح الطلاق، وما سلّموه من الكنايات، وقولهم: إنها تقتضي البينونة، قلنا: فينبغي أن تبين بثلاث؛ لأن المدخول بها لا تبين إلا بثلاث، أو عوض انتهى
(2)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بأن الطلاق الواقع بألفاظ الكنايات رجعي هو الأرجح عندي؛ لوضوح متمسكه كما أوضحه ابن قدامة رحمه الله في كلامه السابق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
25 - (بَابُ الإِبَانَةِ، وَالإِفْصَاحِ بِالْكَلِمَةِ الْمَلْفُوظِ بهِا، إِذَا قُصِدَ بِهَا لِمَا لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَاهَا، لَمْ تُوجِبْ شَيئًا، وَلَمْ تُثْبِتْ حُكْمًا)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "باب" مضاف إلى ما بعده، أو منوّنٌ، وما بعده مبتدأ، خبره جملة الشرط والجواب. والسلام في قوله:"لما لا يحتمل الخ" زائدة، و"ما" نائب فاعل "قُصد". و"يُثبت" بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإثبات.
وغرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أنّ الألفاظ التي لا تحتمل الطلاق، كقوله: اقعدي،
(1)
"المغني" 10/ 363 - 365.
(2)
"المغني" 10/ 370.
وقومي، وكلي، واشربي، ونحو ذلك، لا يقع بها الطلاق، وإن نواه المتكلّم؛ لحديث الباب، وسيأتي وجه الاستدلال به، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3465 -
(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ، مِمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ، مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قَالَ: «انْظُرُوا كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ، وَلَعْنَهُمْ، إِنَّهُمْ يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا، وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ»).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عمران بن بكار) بن راشد الكلاعيّ الْبَرّاد الحمصيّ المؤذّن، ثقة [11] 17/ 1541 من أفراد المصنّف.
2 -
(عليّ بن عياش) الأَلْهَانيّ الحمصيّ، ثقة ثبت [9] 123/ 182.
3 -
(شعيب) بن أبي حمزة دينار الأمويّ مولاهم، أبو بِشْر الحمصيّ، ثقة عابد، قال ابن معين: أثبت الناس في الزهريّ [7] 69/ 85.
4 -
(أبو الزناد) عبد اللَّه بن ذكوان القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة فقيه [5] 7/ 7.
5 -
(عبد الرحمن) بن هُرْمُز الأعرج، مولى ربيعة بن الحارث، أبو داود المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 7/ 7.
6 -
(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير شيخه، كما مرّ آنفًا. (ومنها): أن النصف الأول منه حمصيّون، والباقون مدنيّون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ: أبو الزناد، عن الأعرج، (ومنها): أن عبد اللَّه بن ذكوان ممن اشتهر بلقب بصورة الكنية، فإن أبا الزناد لقبه، وكنيته أبو عبد الرحمن، كما سبق آنفًا، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
عن شعيب بن أبي حمزة، أنه (قال: حَدَّثَني أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان (مِمَّا حدثهُ) أي من جملة الحديث الذي حدثه به (عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن هُرْمُزَ (الأَعْرَجُ، مِمَّا ذَكَرَ) بالبناء للفاعل، أي من الحديث الذي ذكر عبد الرحمن (أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يُحَدِّثُ) به (عَنْ
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) أي أبو هريرة رضي الله عنه (قَالَ) أي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (انْظُرُوا كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي) وفي رواية البخاريّ من طريق سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد: "ألا تعجبون، كيف يصرف اللَّه عنّي
…
وفي رواية البخاريّ في "التاريخ" من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه: "يا عباد اللَّه انظروا
…
". وله من طريق محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة بلفظ: "أَلَمْ تروا كيف
…
" والباقي سواء (شَتْمَ قُرَيْشِ، وَلَعْنَهُمْ) المراد به كُفَّارهم، حيث يصفونه بذلك، فكانت العوراء، زوجة أبي لهب لعنهم اللَّه تعالى جميعًا تقول:
مُذَمَّمًا قَلَيْنَا وَدِينَهُ
…
أَبَيْنَا وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قلت أنا ردًّا على كلامها البذيّ الوقِح:
مُحَمَّدًا أَحْبَبْنَا وَدِينَهُ
…
أَعْلَيْنَا وأَمْرَهُ أَمْضَيْنَا
(إِنَّهُمْ يَشْتِمُونَ مُدَمَّمَا) بدل محمد (وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمَا) قال في "الفتح": كان الكفّار من قريش من شدّة كراهتهم في النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا يسمّونه باسمه الدّالّ على المدح، فيَعدِلون إلى ضدّه، فيقولون: مُذَمَّم، وإذا ذكرهوه بسوء قالوا: فعل اللَّه بمذمّم، ومذمّم ليس هو اسمه، ولا يُعرف به، فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفًا إلى غيره انتهى
(1)
(وَأَنَا مُحَمَّد) صلى الله عليه وسلم أي أنا محمد اسمًا ووصفًا، فلا يمكن اسم المذَمَّم لي، ولا إطلاقه عليّ، وإرادتي به بوجه من الوجوه، فلا يعود الشتم واللعن إليّ أصلاً، بل رجع إليهم؛ لأنهم يصدُقُ عليهم مسمّى هذا الاسم وصفًا. وظهر بهذا أن اللفظ إذا قُصد به معنىً، لا يحتمله، لا يَثبت له الحكم المسوق له الكلام، وهذا هو غرض المصنّف بترجمته، واستدلاله عليها بهذا الحديث واضح، لا لبس فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه البخاريّ.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-25/ 3465 - وفي "الكبرى" 26/ 5631. وأخرجه (خ) في "المناقب" 3533 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7287 و 8607. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"فتح" 7/ 250 "كتاب المناقب".
(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم من تكلّم بكلام منافٍ لمعنى الطلاق، وقصد به الطلاق لا يقع، كمن قال لامرأته: كلي، وقصد به طلاقها لا تطلق؛ لأن الأكل لا يصلح أن يُفسّر به الطلاق بوجه من الوجوه، كما أن مذممًا لا يُمكن أن يفسّر بمحمد صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه. وسيأتي مزيد بسط في ذلك في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): ما قاله ابن التين -رحمه اللَّه تعالى-: استدلّ به من أسقط حدّ القذف بالتعريض، وهم الأكثرون؛ خلافًا لمالك. وأجاب بأنه لم يقع في الحديث أنه لا شيء عليهم في ذلك، بل الواقع أنهم عوقبوا على ذلك بالقتل وغيره انتهى. قال في "الفتح": والتحقيق أنه لا حجة في ذلك إثباتًا، ولا نفيًا انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال العلاّمة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: فأما ما لا يُشبه الطلاق، ولا يدلّ على الفراق، كقوله: اقعدي، وقومي، وكلي، واشربي، واقرُبي، وأطعميني، واسقيني، وبارك اللَّه عليك، وغفر اللَّه لك، وما أحسنك، وأشباه ذلك، فليس بكناية، ولا تطلّق به، وإن نوى؛ لأن اللفظ لا يحتمل الطلاق، فلو وقع الطلاق به، لوقع بمجرّد النيّة، وقد ذكرنا أنه لا يقع بها، وبهذا قال أبو حنيفة، واختلف أصحاب الشافعيّ في قوله: كلي، واشربي، فقال بعضهم كقولنا، وقال بعضهم: هو كناية؛ لأنه يحتمل: كلي ألم الطلاق، واشربي كأس الفراق، فوقع به. انتهى كلام ابن قدامة باختصار
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بعدم وقوع الطلاق بمثل هذه الكنايات هو الحقّ، كما استنبطه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- من حديث الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".
…
26 - (بَابُ التَّوْقِيتِ فِي الْخِيَارِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أراد أن الخيار لا توقيت فيه، فإذا خيّرها تختار متى شاءت، فلا يتقيّد بالمجلس، وبهذا قال الحسن البصريّ، والزهريّ، وغيرهما، واختاره ابن المنذر؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة - رضي اللَّه
(1)
"المغني" 10/ 370 "كتاب الطلاق".
تعالى عنها: "فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك"، فإنه مدّ لها الخيار إلى
وقت استئذانها أبويها، ولم يقيده بالمجلس، وسيأتي تحقيق اختلاف العلماء في ذلك في
المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3466 -
(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، وَمُوسَى بْنُ عُلَيٍّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ، بَدَأَ بِي، فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ، أَنْ لَا تُعَجِّلِي، حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، قَالَتْ: قَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ، لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِّي بِفِرَاقِهِ، قَالَتْ: ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} إِلَى قَوْلِهِ {جَمِيلاً} ، فَقُلْتُ أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ عز وجل، وَرَسُولَهُ، وَالدَّارَ الآخِرَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مِثْلَ مَا فَعَلْتُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، حِينَ قَالَ: لَهُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَاخْتَرْنَهُ طَلَاقًا، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُنَّ اخْتَرْنَهُ).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وهو مسلسل بالمصريين إلى ابن شهاب، ومنه مدنيّون، و"عُليّ" والد موسى -بضم العين المهملة، بصيغة التصغير- وكان يَغضب منه، وبفتحها مكبّرًا.
وقولها: "بدأ بي": قال النوويّ: إنما بدأ بها لفضيلتها. وقال وليّ الدين: وإن صحّ أنها السبب في نزول الآية، فلعلّ البداءة بها لذلك انتهى
(1)
.
وقولها: "أن أبوَيَّ" هكذا في النسخة الهنديّة، وهو الموافق للقواعد؛ لأن المثنّى يُجرّ، وُينصب، بالياء، فإذا أضيف إلى ياء المتكلّم تدغم ياؤه في ياء المتكلّم، ووقع في النسخ المطبوعة بلفظ "أن أبواي" بالألف، ويحتمل أن يكون له وجه صحيح، وهو أن يُخرّج على لغة من يُلزم المثنّى الألف في الأحوال كلها.
[فائدة]: ذكر ابن مالك -رحمه اللَّه تعالى- قاعدة ما يُضاف إلى ياء المتكلم في "الخلاصة"، فقال:
آخِرَ مَا اُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ إِذَا
…
لَمْ يَكُ مُعْتَلاً كَرَامٍ وَقَذَى
أَوْ يَكُ كَابْنَيْنِ وَزَيدِينَ فَذِي
…
جَمِيعُهَا الْيَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِي
وَتُدْغَمُ الْيَا فِيهِ وَالْوَاوُ وَإِنْ .. مَا قَبْلَ وَاوِ ضُمّ فَاكْسِرْهُ يَهُنْ
وَأَلِفًا سَلِّمْ وَفِي الْمَقْصُورِ
…
عَنْ هُذَيْلٍ انْقِلَابَهُا يَاءً حَسَنْ
(1)
"طرح التثريب" 7/ 103.
وقولها: "من أجل أنّهنّ اخترنه" قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: يشير بذلك إلى أنهنّ لو لم يكنّ اخترنه كان ما قال طلاقًا، وهو خلاف ما يفيده ظاهر الآية، فإنه يُفيد أن الاختيار للدنيا ليس طلاقًا، وإنما إذا اخترن الدنيا، ينبغي له صلى الله عليه وسلم أن يُطلّقهنّ، ولهذا قال أهل التحقيق: إن هذا الاختيار خارج عن محلّ النزاع، فلا يتمّ به الاستدلال على مسائل الاختيار، فليُتأمّل انتهى. وسيأتي تحقيق أقوال أهل العلم في المسألة قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم في "كتاب النكاح" -2/ 3202 - باب "ما افترض اللَّه عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وحرّمه على خلقه؛ ليزيده إن شاء اللَّه قربةً إليه"، وقد استوفيت شرحه وبيان المسائل المتعلّقة به هناك، وبقي هنا البحث المتعلّق بالتخيير، وفيه مسائل:
(المسألة الأولى): ذهب جمهور أهل العلم من الصحابة، والتابعين، وفقهاء الأمصار على أن من خيّر امرأته، فاختارته، لا يقع عليه بذلك طلاق، واختلفوا فيما إذا اختارت نفسها، هل يقع طلقة واحدة رجعيّةً، أو بائنًا، أو يقع ثلاثًا؟. وحكى الترمذيّ عن عليّ رضي الله عنه: إن اختارت نفسها فواحدةٌ بائنةٌ، وإن اختارت زوجها فواحدةٌ رجعيّةٌ. وعن زيد ابن ثابت رضي الله عنه: إن اختارت نفسها فثلاثٌ، وإن اختارت زوجها فواحدة بائنة. وعن عمر، وابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنهما -: إن اختارت نفسها فواحدةٌ بائنةٌ، وعنهما رجعيّةٌ، وإن اختارت زوجها فلا شيء.
ويؤيّد قول الجمهور من حيث المعنى: أن التخيير ترديدٌ بين شيئين، فلو كان اختيارها لزوجها طلاقًا لاتّحدا، فدلّ على أن اختيارها لنفسها بمعنى الفراق، واختيارها لزوجها بمعنى البقاء في العصمة. وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق زاذان، قال: كنّا جلوسًا عند عليّ صلى الله عليه وسلم، فسُئل عن الخيار؟ فقال: سألني عنه عمر؟ فقلت: إن اختارت نفسها فواحدةٌ بائنٌ، وإن اختارت زوجها فواحدةٌ رجعيّةٌ. قال: ليس كما قلت، إن اختارت زوجها فلا شيء، قال: فلم أجد بُدًّا من متابعته، فلما وليت رجعت إلى ما كنت أعرف. قال عليّ: وأرسل عمر إلى زيد بن ثابت، فقال
…
فذكر مثل ما حكاه عنه الترمذيّ. وأخرج ابن أبي شيبة من طرق عن عليّ رضي الله عنه نظير ما حكاه عنه زاذان من اختياره.
وأخذ مالك بقول زيد بن ثابت، واحتجّ بعض أتباعه لكونها إذا اختارت نفسها تقع ثلاثًا بأن معنى الخيار بت أحد الأمرين، إما الأخذ، وإما الترك، فلو قلنا: إذا اختارت نفسها يكون طلقة رجعيّة لم يعمل بمقتضى اللفظ؛ لأنها تكون بعدُ في أسر الزوج،
وتكون كمن خُيِّرَ فاختار غيرهما.
وأخذ أبو حنيفة بقول عمر، وابن مسعود فيما إذا اختارت نفسها، فواحدةٌ بائنةٌ، ولا يرد عليه الإيراد السابق.
وقال الشافعيّ: التخيير كناية، فإذا خيّر الزوج امرأته، وأراد بذلك تخييرها بين أن تطلّق منه، وبين أن تستمرّ في عصمته، فاختارت نفسها، وأرادت بذلك الطلاق طلّقت، فلو قالت: لم أرد باختيار نفسي الطلاق صُدّقت.
قال الحافظ: ويؤخذ من هذا أنه لو وقع التصريح في التخيير بالتطليق أن الطلاق يقع جزمًا، نبّه على ذلك شيخنا الحافظ أبو الفضل العراقيّ في "شرح الترمذيّ". ونبّه صاحب "الهداية" من الحنفيّة على اشتراط ذكر النفس في التخيير، فلو قال مثلاً: اختاري، فقالت: اخترتُ لم يكن تخييرًا بين الطلاق وعدمه، وهو ظاهر، لكن محلّه الإطلاق، فلو قصد ذلك بهذا اللفظ ساغ. وقال صاحب "الهدإية" أيضًا: إن قال: اختاري ينوي به الطلاق، فلها أن تطلّق نفسها، ويقع بائنا، فلو لم ينو فهو باطلٌ. وكذا لو قال: اختاري، فقالت: اخترتُ، فلو نوى، فقالت: اخترت نفسي وقعت طلقةٌ رجعيّة. انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الأرجح ما قاله عمر، وابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وهو أنها إن اختارت زوجها، فلا شيء، وإن اختارت نفسها فهي طلقة واحدة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب وسيأتي وَجه الاستدلال في المسألة التالية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): قال الخطّابيّ: يؤخذ من قول عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "فاخترناه، فلم يكن ذلك طلاقًا" أنها لو اختارت نفسها لكان ذلك طلاقًا. ووافقه القرطبيّ في "المفهم"، فقال: في الحديث أن المخيّرة إذا اختارت نفسها أن نفس ذلك الاختيار يكون طلاقًا من غير احتياج إلى نطق بلفظ يدلّ على الطلاق، قال: وهو مقتبسٌ من مفهوم قول عائشة المذكور.
قال الحافظ: لكن ظاهر الآية أن ذلك بمجرّده لا يكون طلاقًا، بل لا بدّ من إنشاء الزوج الطلاق؛ لأن فيها:{فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} الآية، أي بعد الاختيار، ودلالة المنطوق مقدّمةٌ على دلالة المفهوم. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أنه لا تخالف بين الدلالتين؛ إذ التسريح المراد به أن يخلي سبيلها، ولا يتعرض لها بعد اختيار نفسها؛ لكونه طلاقًا، لا أنه يحتاج إلى أن يطلقها، فلا يخالف مفهومُ حديث عائشة منطوق الآية. فَتَأَمَّلْ. واللَّه تعالى أعلم
(1)
"فتح" 10462 - 464. "كتاب الطلاق".
بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): اختلفوا في التخيير، هل هو بمعنى التمليك، أو بمعنى التوكيل؟ وللشافعي فيه قولان: المصحّح عند أصحابه أنه تمليكٌ، وهو قول المالكيّة بشرط مبادرتها له حتى لو أخّرت بقدر ما ينقطع القبول عن الإيجاب في العقد، ثم طلّقت لم يقع. وفي وجه لا يضرّ التأخير ما داما في المجلس، وبه جزم ابن القاصّ، وهو الذي رجّحه المالكيّة، والحنفيّة، وهو قول الثوريّ، والليث، والأوزاعيّ. وقال ابن المنذر: الراجح أنه لا يتقيّد، ولا يشترط فيه الفور، بل متى طلّقت نفذ، وهو قول الحسن، والزهريّ، وبه قال أبو عبيد، ومحمد بن نصر، من الشافعيّة، والطحاويّ من الحنفيّة. وتمسّكوا بحديث الباب، حيث وقع فيه: "إني ذاكرٌ لك أمرًا، فلا تعجلي حتى تستأمري أبويك
…
" الحديث، فإنه ظاهرٌ في أنه فسّح لها إذ أخبرها أن لا تختار شيئًا حتى تستأذن أبويها، ثم تفعل ما يشيران به عليها، وذلك يقتضي عدم اشتراط الفور في جواب التخيير.
قال الحافظ: ويمكن أن يقال: يشترط الفور، أو ما داما في المجلس عند الإطلاق، فأما لو صرّح الزوج بالفسحة في تأخيره بسبب يقتضي ذلك، فيتراخى، وهذا الذي وقع في قصّة عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، ولا يلزم من ذلك أن يكون كلّ خيار كذلك. انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ذكره الحافظ من الإمكان فيه نظر لا يخفى، بل الظاهر ما قاله الحسن، والزهريّ، وأبو عبيد، والطحاويّ، واختاره ابن المنذر --رحمهم اللَّه تعالى--، من عدم التقييد في التخيير، كما هو ظاهر حديث الباب، فليُتأمّل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3467 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بَدَأَ بِي، فَقَالَ:«يَا عَائِشَةُ، إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تُعَجِّلِي، حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» ، قَالَتْ: قَدْ عَلِمَ وَاللَّهِ، أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا، لِيَأْمُرَانِّي بِفِرَاقِهِ، فَقَرَأَ عَلَيَّ:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} ، فَقُلْتُ: أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ، وَالأَوَّلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ).
قال الجامع عفا اللَّهَ تعالى عنه: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير "محمد بن
(1)
"فتح" 10/ 463 - 464. "كتاب الطلاق".
ثور" الصنعانيّ، فإنه من أفراده هو، وأبي داود، وهو ثقة عابد [9] 102/ 2045.
وقوله: "قال أبو عبد الرحمن الخ" غرضه بهذا أن رواية معمر هذه عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة غير محفوظة، وإنما المحفوظ ما رواه غيره عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عنها، كما هي الرواية السابقة.
وعبارة "الكبرى": وحديث يونس، وموسى بن عُليّ الذي قبله أولى بالصواب.
وهذا الكلام نقله الحافظ المزّيّ في "تحفة الأشراف" -12/ 87 - قال: وقال النسائيّ: هذا خطأٌ، لا نعلم أحدًا من الرواة تابع معمرًا على هذه الرواية، فقد رواه موسى بن أعين، عن معمر، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن عائشة، ومحمد بن ثور ثقةٌ انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، من تفرّد معمر، فيه نظر، فقد تابعه عليه جعفر بن بُرقان، كما قال الحافظ في "الفتح"، وعبارته: وتابع معمرًا على عروة جعفر بن برقان، ولعلّ الحديث كان عند الزهريّ عنهما جميعًا، فحدّث به تارة عن هذا، وتارةً عن هذا، وإلى هذا مال الترمذيّ انتهى
(1)
.
والحاصل أن الذي يظهر أن الطريقين محفوظتان، فيكون الحديث صحيحًا بالطريقين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه
أنيب".
…
27 - (بَابٌ فِي الْمُخَيَّرَةِ، تَخْتَارُ زَوْجَهَا)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا أن المرأة التي خيرها زوجها بين البقاء معه، وبين مفارقته، إذا اختارت زوجها، لا يقع عليها شيء من الطلاق؛ لحديث الباب.
قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: فيه أن من خيّر زوجته، فاختارته لم يكن ذلك طلاقًا، ولم تقع به فُرقةٌ، وقد صرّحت بذلك عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - بقولها:
(1)
"فتح" 9/ 478 "كتاب التفسير".
"خيّرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلم يعدّه طلاقًا". وفي لفظ: "فلم يكن طلاقًا". وفي لفظ: "فلم يعُدّه علينا شيئًا". وفي لفظ: "أفكان طلاقًا؟ "، وكلّ هذه الألفاظ في الصحيح، من رواية مسروق عنها. وبه قال جمهور العلماء، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، وهو مذهب الأئمّة الأربعة. وممن قال به عمر، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وابن عبّاس، وغيرهم. ووراء ذلك قولان شاذّان:
[أحدهما]: أنه يقع بذلك طلقةٌ رجعيّة، وهو محكي عن عليّ رضي الله عنه.
[والثاني]: أنه تقع به طلقة بائنة. وهو محكيّ عن زيد بن ثابت انتهى كلام وليّ الدين باختصار
(1)
. وقد تقدّم في الباب الماضي تمام البحث في هذه المسألة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3468 -
(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، - هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ- عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "خَيَّرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَرْنَاهُ، فَهَلْ كَانَ طَلَاقًا").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.
و"عمرو بن عليّ": هو الفلاّس. و"يحيى بن سعيد": هو القطّان. و"إسماعيل": هو ابن أبي خالد. و"عامر": هو ابن شراحيل الشعبيّ.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3469 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، قَالَ: قَالَ: الشَّعْبِيُّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "قَدْ خَيَّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"خالد": هو ابن الحارث. و"عاصم": هو ابن سليمان الأحول. والسند مسلسلٌ بالبصريين إلى عاصم. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق القول فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3470 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ صُدْرَانَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْعَثُ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ- عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ،
(1)
"طرح التثريب" 7/ 103 - 104.
قَالَتْ: "قَدْ خَيَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه "محمد بن إبراهيم بن صُدْران" أبي جعفر الأزديّ السَّلَميّ المؤذِّن البصريّ، فقد تفرد به هو وأبو داود، والترمذيّ. و"أشعث بن عبد الملك": هو الْحُمْرانيّ، أبو هانيّ البصريّ.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3471 -
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "قَدْ خَيَّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، أَفَكَانَ طَلَاقًا").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، و"خالد": هو ابن الحارث المذكور في السند السابق، و"سليمان": هو سليمان بن مِهْران الأعمش. و"أبو الضحى": هو مسلم بن صُبيح. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
3472 -
(أَخْبَرَنِي
(1)
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الضَّعِيفُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:"خَيَّرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَرْنَاهُ، فَلَمْ يَعُدَّهَا عَلَيْنَا شَيْئًا").
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه "عبد اللَّه بن محمد الضعيف" أبي محمد الطرسوسيّ، فقد تفرّد به هو، وأبو داود، وقيل له:"الضعيف"؛ لأنه كان كثير العبادة. وقيل: لكونه نَحِيفًا. وقيل: لشدّة إتقانه، فهو من أسماء الأضداد. وهو ثقة [10] 43/ 2222. و"أبو معاية": هو محمد بن خازم الضرير الكوفيّ. و"مسلم": هو أبو الضُّحَى المذكور في السند الماضي.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
وفي نسخة: "أخبرنا".
28 - (خِيَارُ الْمَمْلُوكَيْنِ يَعْتِقَانِ)
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "يعتقان" يحتمل أن يكون بضمّ أوله مبنيًا للمفعول، من أُعتق الرباعيّ، ويحتمل أن يكون بفتح أوله، وكسر ثالثه، من عتق الثلاثيّ، من باب ضرب، والجملة في محلّ جرّ صفة للمملوكين.
ثم إن ظاهر عبارته يقتضي أنه يرى ثبوت الخيار لكلّ من الزوجين، أما ثبوت الخيار للزوجة فواضح، وأما ثبوته للزوج فغير واضح، إذ في حالة اختياره عدم بقاء زوجته لا ينفسخ النكاح كما ينفسخ إذا اختارت هي نفسها، بل لابدّ من طلاقها، فليُتَأَمَّل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
3473 -
(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَوْهَبٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَانَ لِعَائِشَةَ غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ، قَالَتْ: فَأَرَدْتُ أَنْ أُعْتِقَهُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «ابْدَئِي بِالْغُلَامِ، قَبْلَ الْجَارِيَةِ»).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ المعروف بـ "ابن راهويه"، أبو يعقوب المروزيّ، ثقة ثبت حجة [10] 2/ 2.
2 -
(حماد بن مسعدة) التميميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقة [9] 97/ 1040.
3 -
(ابن موهب) -بفتح الهاء- هو: عبيد اللَّه بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن موهَب القرشيّ التيميّ المدنيّ، ويقال: عبد اللَّه، حسن الحديث
(1)
[7].
روى عن عمّه عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، والقاسم بن محمد، وعليّ بن الحسين، ومحمد بن كعب الْقُرظيّ، وشريك بن أبي نَمِر، وشَهْر بن حوشب، وغيرهم. وعنه الثوريّ، وابن المبارك، ووكيعٌ، وعيسى بن يونس، وأبو أحمد الزبيريّ، وحمّاد بن مسعدة، وابن أبي فُديك، وأبو نُبَاتة، وأبو عليّ الحنفيّ، والقعنبيّ، وآخرون.
قال إسحاق بن منصور، عن يحيى: ثقة. وقال الدوريّ، عن يحيى: ضعيف. وقال أبو حاتم: صالح. وقال يعقوب بن شيبة: عبيد اللَّه بن موهب، عن القاسم، فيه ضعف. وقال البخاريّ في "التاريخ"الأوسط": كان ابن عُيينة يُضعّفه. وقال العجليّ:
(1)
عبارة "التقريب": "ليس بالقويّ"، قلت: هذه عبارة النسائيّ، وقد روى عنه جماعة، ووثقه غير واحد، كما ستراه في ترجمته، فتعبيري أولى، وهي عبارة ابن عديّ. واللَّه تعالى أعلم.
ثقة. وقال النسائيّ: ليس بذاك القويّ. وقال ابن عديّ: حسن الحديث، يكتب حديثه. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: يكنى أبا محمد، مات سنة (154) وهو ابن ثمانين سنةً، وكان قليل الحديث.
روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عند المصنّف، وأبي داود حديث الباب فقط، وله عند ابن ماجه حديث آخر أيضًا.
4 -
(القاسم بن محمد) بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، التيميّ، أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، ثقة ثبت، قال أيوب: ما رأيت أفضل منه، من كبار [3] 120/ 166.
5 -
(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير ابن موهب، كما مرّ آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمروزيّ، وحماد بن مسعدة، فبصريّ. (ومنها): أن فيه القاسم بن محمد من الفقهاء السبعة. (ومنها): أن فيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث
4 -
(عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّد) بن أبي بكر الصدّيق، أنه (قَالَ: كَانَ لِعَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ) ولفظ أبي داود من طريق عبيد اللَّه بن عبد المجيد، عن ابن موهب: "أنها أرادت أن تُعتق مملوكين لها، زوج
…
" قال في "عون المعبود": أي هما زوجٌ، أي رجلٌ، وامرأةٌ؛ لأن الزوج في الأصل يُطلق على شيئين، بينهما ازدواج، وقد يطلق على فرد منهما.
وقال الطيبيّ: قوله: "لها زوجٌ": في إعرابه إشكالٌ، إلا أن يقدّر: أحدهما زوجٌ للآخر، أو بينهما ازدواجٌ. وفي أكثر نسخ "المصابيح"، وفي "شرح السنّة":"لها زوجين" وهو صفة و"مملوكين"، والضمير في "لها" لعائشة، ويجوز أن يكون الضمير للجارية؛ لما يُفهم من قوله:"مملوكين" في هذا السياق، فحينئذ يجوز أن يكون "زوج" مبتدأ، والجارّ والمجرور خبره، وأن يكون فاعله؛ لاعتماده على الموصوف، ويؤيّده ما وقع في بعض نسخ المصابيح:"مملوكة لها زوج" انتهى كلام الطيبيّ ببعض تغيير
(1)
.
(1)
"شرح المشكاة" 6/ 286.
(قَالَتْ) عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - (فَأَرَدْتُ أَنْ أُعْتِقَهُمَا) بضم الهمزة، من الإعتاف رباعيًّا (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (ابْدَئِي بِالْغُلَامِ، قَبْلَ الْجَارَيةِ) أي أعتقي العبد قبل الأمة.
قال الطيبيّ: معناه: كان لعائشة عبد وأمة، وكانت الأمة زوجته، وأرادت أن تُعتقهما، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم بعتق أيّهما أبتدىء؟ فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تبتدىء بعتق الزوج؛ لأنها لو أعتقت أوّلاً الزوجة لانفسخ النكاح، ولو أعتقت أوّلاً الزوج لا ينفسخ، والإعتاق على وجه يُبقي النكاح أولى انتهى
(1)
.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "لانفسخ النكاح" فيه نظر، إذ لا ينفسخ بمجرّد العتق، وإنما إذا اختارت نفسها، فالأولى أن يقيّده بقوله: إن اختارت نفسها. واللَّه تعالى أعلم.
وقال الخطّابيّ: وفي هذا دلالةٌ على أن الخيار بالعتق إنما يكون للأمة، إذا كانت تحت عبد، ولو كان لها خيارٌ إذا كانت تحت حرّ، لم يكن لتقديم الزوج عليها معنىً، ولا فيه فائدة انتهى
(2)
.
وقال السنديّ: قيل: أمرها بذلك؛ لئلا تختار الزوجة نفسها، إن بدأت بإعتاقها. قلت: وهذا لا يمنع إعتاقهما معًا، فيمكن أن يقال: بدأ بالرجل؛ لشرفه. انتهى
(3)
.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا حسنٌ، ولا يضرّه الكلام في ابن موهب؛ فإنه قد روى عنه جماعة، ووثّقه جماعة، وتضعيف من ضعّفه غير مفسّرٍ، فلا ينزل حديثه عن درجة الحسن، كما وصفه بذلك ابن عديّ -رحمه اللَّه تعالى- في كلامه السابق، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-28/ 3473 - وفي "الكبرى" 29/ 5639. وأخرجه (د) في "الطلاق" 2237 (ق) في "الأحكام" 2532. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"شرح المشكاة" 6/ 286.
(2)
"معالم السنن" 3/ 149. بنسخة "مختصر المنذريّ".
(3)
"شرح السنديّ" 6/ 161 - 162.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(منها): ثبوت الخيار للأمة إذا أعتقت، ووجه الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمر عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - أن تعبدًا بعتق العبد قبل الأمة؛ لئلا تختار نفسها، فينفسخ النكاح، فيدلّ على أن لها الخيار لو أعتقت قبله، وسيأتي في الباب التالي تحقيق أقوال أهل العلم في هذه المسألة، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): استحباب البداءة بالرجل لمن أراد أن يُعتق الزوجين من عبيده؛ للمعنى المذكور. (ومنها): جواز تصرّف المرأة لمالها بدون استئذان زوجها؛ لأن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - ما استئذنت النبيّ صلى الله عليه وسلم في العتق، وإنما سألته بأيهما تبدأ؟. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإثيُوبي الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، - عفا اللَّه تعالى عنه - وعن والديه ومشايخه آمين:
قد انتهيت من كتابة الجزء الثامن والعشرين من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى-، المسمى "ذخيرةَ العُقْبَى في شرح المجتبى"، أو "غاية المنى في شرح المجتبى".
وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، في مكة المكرمة زادها اللَّه تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني من خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأعْظِمْ به تكريمًا.
وأخر دعوانا {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". "السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة اللَّه، وبركاته".
ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء التاسع والعشرون مفتتحًا بالباب 29 "باب خيار الأمة" الحديث رقم 3474.
"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".