المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سُنن النّسائى شرح سنن النسائي المسمَّى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعه الفقير إلى - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ٢٩

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح

سُنن النّسائى

شرح سنن النسائي

المسمَّى

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعه الفقير إلى مولاه الغتي القدير

محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الأيتوبي الوَلَّوي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا اللَّه عنه وعن والديه آمين

الجزء الثامن والعشرون

دار آل بروم للنشر والتوزيع

ص: 1

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1424هـ - 2003م

دار آل بروم للنشر والتوزيع

المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم

ص ب: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوّال 055541026)

ص: 2

شرح سنن النسائي

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

‌29 - (بَابُ خِيَارِ الأَمَةِ)

3474 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ: إِحْدَى السُّنَنِ أَنَّهَا أُعْتِقَتْ، فَخُيِّرَتْ فِي زَوْجِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ، مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً فِيهَا لَحْمٌ؟» ، فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن سلمة) بن أبي فاطمة المراديّ الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.

2 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن الْعُتَقيّ، أبو عبد اللَّه المصريّ الفقيه، صاحب مالك، ثقة، من كبار [10] 19/ 20.

3 -

(مالك) بن أنس الإمام الحجة الفقيه المدنيّ [7] 7/ 7.

4 -

(ربيعة) بن أبي عبد الرحمن فَرُّوخ التيميّ مولاهم، أبو عثمان المدنيّ المعروف بربيعة الرأي، ثقة فقيه، مشهور، قال ابن سعد: كانوا يتّقونه لموضع الرأي [5] 36/ 729. والباقيان تقدّما في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فمصريان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بجرّ "زوج" بدلاً عن "عائشة"، ويجوز قطعه إلى الرفع والنصب، أنها (قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ) بفتح الموحّدة، بوزن فَعِيلة، مشتقّةٌ من البَرِير، وهو ثمر الأراك. وقيل: فَعِيلةٌ، من البرّ، بمعنى مفعولة،

ص: 5

كمبرورة، أو بمعنى فاعلة، كرحيمة. هكذا وجّهه القرطبيّ. والأول أولى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم غيّر اسم جُويرية، وكان اسمها برّة، وقال:"لا تزكّوا أنفسكم"، فلو كانت بَرِيرة من البرّ لشاركتها في ذلك. وكانت بريرةُ مولاةً لقوم من الأنصار. وقيل: لآل عُتبة بن أبي لهب. وقيل: لبني هلال. وقيل: لآل أبي أحمد بن جحش. قال الحافظ: وفي هذا القول نظرٌ، فإن زوجها هو الذي كان مولى أبي أحمد بن جحش. والقول الثاني خطأٌ، فإن مولى عُتبة سأل عائشة عن حكم المسألة، فذكرت له قصّة بريرة. أخرجه ابن سعد، وأصله عند البخاريّ، فاشترتها عائشة، فأعتقتها، وكانت تخدم عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - قبل أن تشتريها، وتعتقها. وعاشت إلى خلافة معاوية. وتفرّست في عبد الملك بن مروان أنه يلي الخلافة، فبشّرته بذلك، وروى هو ذلك عنها، فقد ذكر أبو عمر ابن عبد البرّ من طريق عبد الخالق بن زيد بن واقد، عن أبيه: عبد الملك بن مروان، قال: كنت أُجالس بَرِيرة بالمدينة، فكانت تقول لي: يا عبد الملك، إني أرى فيك خصالاً، وإنك لخليقٌ أن تلي هذا الأمر، فإني وليته، فاحذر الدماء، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الرجل لَيُدفَع عن باب الجنّة بعد أن ينظر إليه بملء مِحْجَمة، من دم يريقه من مسلم بغير حقّ". أفاده في "الإصابة"، و"الفتح"

(1)

.

وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر

(2)

: وقيل: إنها نَبَطيةٌ -بفتح النون، والموحّدة. وقيل: إنها قِبْطِيّةٌ -بكسر القاف، وسكون الموحّدة. وقيل: إن اسم أبيها صفوان، وإنّ له صحبةً. واختُلف في مواليها، ففي رواية أُسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم، عن عائشة: أنّ بَريرة كانت لناس من الأنصار.

وكذا عند النسائيّ من رواية سماك، عن عبد الرحمن. ووقع في بعض الشروح: لآل أبي لَهَب، وهو وَهَمٌ من قائله، انتقل وهمه من أيمن أحد رواة قصّة بَريرة، عن عائشة إلى بَرِيرة. وقيل: لآل بني هلال. أخرجه الترمذيّ، من رواية جرير، عن هشام بن عروة انتهى

(3)

.

(ثَلَاثُ سُنَنٍ) وفي رواية هشام بن عروة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه التالية:"ثلاث قضيات". وفي حديث ابن عبّاس عند أحمد، وأبي داود: "قضَى فيها

(1)

"الإصابة" 12/ 157. "الفتح" 5/ 499. "كتاب المكاتب".

(2)

"الفتح" 10/ 508 "كتاب الطلاق".

(3)

"الفتح"10/ 508 "كتاب الطلاق".

ص: 6

النبيّ صلى الله عليه وسلم أربع قضيّات"، فذكر نحو حديث عائشة، وزاد: "وأمرها أن تعتدّ عدّة الحرّة". أخرجه الدارقطنيّ. وهذه الزيادة لم تقع في حديث عائشة، فلذلك اقتصرت على ثلاث، لكن أخرج ابن ماجه من طريق الثوريّ، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: "أُمرت بَريرة أن تعتدّ بثلاث حِيَض". وهذا مثلُ حديث ابن عباس في قوله: "تعتدّ عدّة الحرّة"، ويُخالف ما وقع في رواية أُخرى عن ابن عباس: "تعتدّ بحيضة". وسيأتي البحث في عدّة المختلعة، وأن من قال: الخلع فسخٌ، قال: تعتدّ بحيضة، وهنا ليس اختيار العتيقة نفسها طلاقًا، فكان القياس أن تعتدّ بحيضة، لكن الحديث الذي أخرجه ابن ماجه على شرط الشيخين، بل هو في أعلى درجات الصحّة. وقد أخرج أبو يعلى، والبيهقيّ من طريق أبي معشر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل عدّة بريرة عدّة المطلّقة"، وهو شاهدٌ قويّ؛ لأن أبا معشر، وإن كان فيه ضعفٌ، لكن يصلح في المتابعات. وأخرج ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة، عن عثمان، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وآخرين: "أنّ الأمة إذا أُعتقت تحت العبد، فطلاقها طلاق عبد، وعدّتها عدّة حرّة".

وقد صنّف العلماء في قصّة بريرة تصانيف، وإنّ بعضهم أوصلها إلى أربعمائة فائدة، ولا يُخالف ذلك قول عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"ثلاث سُنن"؛ لأن مراد عائشة ما وقع من الأحكام فيها مقصودًا خاصّةً، لكن لمّا كان كلّ حكم منها يشتمل على تقعيد قاعدة يَستنبط العالم الفطن منها فوائد جمّة وقع التكثير من هذه الحيثيّة، وانضمّ إلى ذلك ما وقع في سياق القصّة غير مقصود، فإن في ذلك أيضًا فوائد تؤخذ بطريق التنصيص، أو الاستنباط، أو اقتصر على الثلاث، أو الأربع؛ لكونها أظهر ما فيها، وما عداها إنما يؤخذ بطريق الاستنباط، أو لأنها أهمّ، والحاجة إليها أمسّ.

قال القاضي عياضٌ: معنى "ثلاث"، أو "أربع" أنها شرعت في قصّتها، وما يظهر فيها مما سوى ذلك، فكان قد عُلم من غير قصّتها. وهذا أولى من قول من قال: ليس في كلام عائشة حصرٌ، ومفهوم العدد ليس بحجّة، وما أشبه ذلك من الاعتذارات التي لا تدفع سؤال ما الحكمة في الاقتصار على ذلك؟. قاله في "الفتح"

(1)

.

(1)

"فتح" 10/ 508 - 509.

ص: 7

(إِحْدَى السُّنَنِ أَنَّهَا أُعْتِقَتْ) بضمّ أوله، مبنيًّا للمفعول (فَخُيِّرَتْ فِي زَوْجِهَا) ببناء الفعل للمفعول أيضًا. وفي رواية الأسود عن عائشة الآتية في الباب التالي:"فدعاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فخيرها من زوجها، قال: لو أعطاني كذا وكذا ما أقمتُ عنده، فاختارت نفسها". وفي رواية عند البخاريّ: "فخُيّرت بين أن تبقى تحت زوجها، أو تُفارقه". و"تقرّ" بفتح القاف، وتشديد الراء: أي تدوم. وفي رواية للدارقطنيّ من طريق أبان بن صالح، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: "اذهبي فقد عَتَقَ بُضْعُك".

(وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ") هذه هي السنّة الثانية. وفي الرواية التالية: "فإنما الولاء لمن أعتق"، ويُستفاد منه أن كلمة "إنما" تفيد الحصر، وإلا لما لزم من إثبات الولاء للمعتق نفيه عن غيره، وهو أريد من الخبر، ويؤخذ منه أنه لا ولاء للإنسان على أحد بغير العتق، فينتفي من أسلم على يد أحد، وأنه لا ولاء للملتقط؛ خلافًا لإسحاق، ولا لمن حالف إنسانًا، خلافًا لطائفة من السلف، وبه قال أبو حنيفة. ويؤخذ من عمومه أن الحربيّ لو أَعتق عبدًا، ثم أسلما أنه يستمرّ ولاؤه، وبه قال الشافعيّ، وقال ابن عبد البرّ: إنه قياس قول مالك، ووافق على ذلك أبو يوسف، وخالف أصحابه، فإنهم قالوا: العتيق في هذه الصورة له أن يتولّى من يشاء

(1)

.

(وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية البخاريّ: "بيت عائشة"(وَالْبُرْمَةُ) الواو للحال، وهو بضمّ الموحّدة، وسكون الراء: القِدْرُ، جمعه بُرَم، مثلُ غرفة وغُرَف، وبِرَام، ككِتاب (تَفُورُ بِلَحْمٍ) وهو لحم شاة؛ لرواية عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "تُصُدّق على مولاتي بشاة من الَصدقة

"، فما وقع في بعض الشروح أنه كان لحم بقر فيه نظر؛ لأن أولى ما يفسّر به المبهم ما وقع في الروايات الأخرى. أفاده في "الفتح" (فَقُرِّبَ) بالبناء للمفعول (إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ من أُدُمِ الْبَيْتِ) الأول بضمّ، فسكون، مفرد، ويجمع على اَدام، كقُفْل وأقفال، والثاني بضمّتين، جمع إدام، ككتاب وكُتُب، ويجوز تسكين داله للتخفيف: وهو ما يُؤتدم به مائعًا كان، أو جامدًا.

وقال السنديّ: في "المجمع": "الأُدْمُ" ككُتْبٍ في كُتُبٍ. فظاهره أنه بالضمّتين جمع، نعم يجوز السكون في كلّ ما كان بضمّتين، وعلى هذا فالظاهر أن الأول بضمّ، فسكون

(1)

"فتح" 10/ 559 - 510. "كتاب الطلاق".

ص: 8

مفردٌ، والثاني بضمّتين جمعٌ، ومعنى "أدم البيت" الأدم التي توجد في البيوت غالبًا، كالخلّ، والعسل، والتمر انتهى

(1)

.

(فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَمْ أَرَ بُرْمَة فِيهَا لَحْمٌ؟ "، فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، ذَلِكَ لَحْمْ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ) وفي رواية الأسود، عن عائشة الآتية في الباب التالي: "وأُتي بلحم، فقيل: إن هذا مما تُصُدّق به على بريرة

". قال في "الفتح": ويُجمع بين الروايتين بأنه لَمّا سأل عنه أُتي به، وقيل له ذلك. ووقع في رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة عند البخاريّ في "الهبة": "فأُهدي لها لحم، فقيل: هذا تُصدّق به على بَرِيرة"، فإن كان الضمير لبريرة، فكأنه أطلق على الصدقة عليها هديّة لها، وإن كان لعائشة فلأن بَريرة لما تصدّقوا عليها باللحم أهدت منه لعائشة. ويؤيّده ما وقع في رواية أسامة بن زيد، عن القاسم عند أحمد، وابن ماجه: "ودخل عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والْمِرْجل يَفور بلحم، فقال: من أين لك هذا؟ قلت: أهدته لنا بريرة، وتُصُدّق به عليها". وعند أحمد، ومسلم من طريق أبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: "وكان الناس يتصدّقون عليها، فتُهدي لنا". انتهى (فَقَالَ: رَسُولُ اللْهِ صلى الله عليه وسلم: "هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ") زاد في رواية أبي معاوية المذكورة: "فكلوه". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه في "كتاب الزكاة" - "إذا تحوّلت الصّدقة"، وبقي هنا بيان فوائده، وما ترجم له المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في مسألتين، فنقول:

(المسألة الأولى): في فوائده، وليس المراد فوائد هذا السياق فحسبُ، بل ما اشتمل عليه قصّة بريرة - رضي اللَّه تعالى عنها -، بجميع رواياته المختلفة، سواء كان عند المصنّف، أو في "الصحيحين"، أو في غيرهما، كما أشرنا إلى معظمها في الشرح جمعناها في محلّ واحدٍ حتّى تتكامل الاستفادة:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعيّة الخيار للأمة، إذا أُعتقت، وسيأتي بيان اختلاف المذاهب، وأدلّتها، وترجيح الراجح منها في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى.

(1)

"شرح السنديّ" 6/ 162.

ص: 9

2 -

(ومنها): جواز المكاتبة بالسنّة، تقريرًا لحكم الكتاب.

3 -

(ومنها): ما رواه ابن أبي شيبة في "الأوائل" بسند صحيح أنها أول كتابة كانت في الإسلام. لكن يردّ عليه قصّة سلمان الفارسيّ رضي الله عنه. ويمكن أن يُجمع بأن أوليته في الرجال، وأوّليّة بريرة في النساء. وقد قيل: إن أول مكاتب في الإسلام أبو أميّة عبد عمر. وادّعى الرويانيّ أن الكتابة لم تكن تُعرف في الجاهليّة. وخولف.

4 -

(ومنها): أنه يؤخذ من مشروعيّة نجوم الكتابة البيع إلى أجل، والاستقراض، ونحو ذلك.

5 -

(ومنها): أن فيه إلحاق الإماء بالعبيد؛ لأن الآية ظاهرة في الذكور.

6 -

(ومنها): جواز كتابة أحد الزوجين الرقيقين، ويُلحق به جواز بيع أحدهما دون الآخر.

7 -

(ومنها): جواز كتابة من لا مال له، ولا حرفة. كذا قيل. وفيه نظر؛ لأنه لا يلزم من طلبها من عائشة الإعانة على حالها أن يكون لا مال لها، ولا حرفة.

8 -

(ومنها): جواز بيع المكاتب إذا رضي، ولم يعجّز نفسه إذا وقع التراضي بذلك. وحمله من منع على أنها عجّزت نفسها قبل البيع. ولكن يحتاج إلى دليل. وقيل: إنما وقع البيع على نجوم الكتابة. وهو بعيدٌ جدًّا.

9 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن المكاتب عبدٌ ما بقي عليه شيء، فيتفرّع منه إجراء أحكام الرّقيق كلّها في النكاح، والجنايات، والحدود، وغيرها.

10 -

(ومنها): أن من أدّى أكثر نجومه لا يَعتق تغليبًا لحكم الأكثر، وأن من أدّى من النجوم بقدر قيمته يَعتق، وأن من أذى بعض نجومه لم يَعتق منه بقدر ما أدّى؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أذِنَ في شراء بريرة من غير استفصال.

11 -

(ومنها): أن فيه جواز بيع المكاتب، والرقيق بشرط العتق.

12 -

(ومنها): أن بيع الأمة المزوّجة، وعتقها ليس طلاقًا، ولا فسخًا؛ لثبوت التخيير، فلو طلّقت بذلك واحدةً لكان لزوجها الرجعة، ولم يتوقف على إذنها، أو ثلاثًا لم يقل لها:"لو راجعته"؛ لأنها ما كانت تحلّ له، إلا بعد زوج آخر.

13 -

(ومنها): أن بيعها لا يُبيح لمشتريها وطأها؛ لأن تخييرها يدلّ على بقاء عُلقة العصمة.

14 -

(ومنها): أن سيد المكاتب لا يمنعه من الاكتساب، وأن اكتسابه من حين الكتابة يكون له.

15 -

(ومنها): جواز سؤال المكاتب من يُعينه على بعض نجومه، وإن لم تحلّ، وأن

ص: 10

ذلك لا يقتضي تعجيزه.

16 -

(ومنها): جواز سؤال ما لا يضطرّ السائل إليه في الحال.

17 -

(ومنها): جواز الاستعانة بالمرأة المتزوّجة.

18 -

(ومنها): جواز تصرّف المرأة في مالها بغير إذن زوجها.

19 -

(ومنها): جواز بذل مالها في طلب الأجر، حتى في الشراء بالزيادة على ثمن المثل، بقصد التقرّب بالعتق.

20 -

(ومنها): جواز شراء من يكون مطلق التصرّف السلعةَ بأكثر من ثمنها؛ لأن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - بذلت نقدًا ما جعلوه نسيئةً في تسع سنين؛ لحصول الرغبة في النقد أكثر من النسيئة.

21 -

(ومنها): جواز السؤال في الجملة لمن يتوقع الاحتياج إليه، فتحمل الأخبار الواردة في الزجر عن السؤال على الأولويّة.

22 -

(ومنها): جواز سعي المرقوق في فكاك رقبته، ولو كان بسؤال من يشتري ليُعتق، وإن أضرّ ذلك بسيده؛ لتشوّف الشارع إلى العتق.

23 -

(ومنها): بطلان الشروط الفاسدة في المعاملات، وصحّة الشروط المشروعة؛ لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:"كلُّ شرط ليس في كتاب اللَّه، فهو باطلٌ".

24 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن من استثنى خدمة المرقوق عند بيعه لم يصحّ شرطه.

25 -

(ومنها): أن من اشترك شرطًا فاسدًا لم يستحقّ العقوبة، إلا إن علم بتحريمه، وأصرّ عليه.

26 -

(ومنها): أن سيّد المكاتب لا يمنعه من السعي في تحصيل مال الكتابة، ولو كان حقّه في الخدمة ثابتًا.

27 -

(ومنها): أن المكاتب إذا أذى نجومه من الصدقة لم يردها السيّد، وإذا أدّى نجومه قبل حلولها كذلك.

28 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن المكاتب يَعتِق بتعجيل نجومه؛ أخذًا من قول موالي بريرة: "إن شاءت أن تحتسب عليك"، فإن ظاهره في قبول تعجيل ما اتفقوا على تأجيله، ومن لازمه حصول العتق.

29 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أيضًا أن من تبرع عن المكاتب بما عليه عَتَقَ.

30 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على عدم وجوب الوضع عن المكاتب؛ لقول عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "أعدّها لهم عَدَّةَ واحدةً"، ولم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك عليها. وأجيب بجواز قصد دفعهم لها بعد القبض.

ص: 11

31 -

(ومنها): جواز إبطال الكتابة، وفسخ عقدها إذا تراضى السيّد والعبد، وإن كان فيه إبطال التحرير؛ لتقرير بريرة على السعي بين عائشة ومواليها في فسخ كتابتها؛ لتشتريها عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -.

32 -

(ومنها): ثبوت الولاء للمعتِقِ، والردّ على من خالفه.

33 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه عدةُ مسائل، كعتق السائبة، واللقيط، والحليف، ونحو ذلك، كثّرَ بها العددَ من تكلّم على حديث بريرة - رضي اللَّه تعالى عنها -.

34 -

(ومنها): مشروعيّة الخطبة في الأمر المهمّ، والقيام فيها، وتقدمة الحمد

والثناء، وقولِ:"أما بعد" عند ابتداء الكلام في الحاجة.

35 -

(ومنها): أن من وقع منه ما يُنكر استُحبّ عدم تعيينه.

36 -

(ومنها): أن استعمال السجع في الكلام لا يكره، إلا إذا قصد إليه، ووقع متكلّفًا.

37 -

(ومنها): جواز اليمين فيما لا تجب فيه، ولا سيّما عند العزم على فعل الشيء.

38 -

(ومنها): أن لغو اليمين لا كفّارة فيه؛ لأن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - حلفت أن لا تشترط، ثم قال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اشترطي لهم الولاء"، ولم يُنقل كفّارة على ذلك.

39 -

(ومنها): جواز مناجاة الاثنين بحضرة الثالث في الأمر يستحيي منه المناجي، ويعلم أن من ناجاه يعلم الثالث به، ويستثنى ذلك من النهي الوارد فيه.

40 -

(ومنها): جواز سؤال الثالث عن المناجاة المذكورة إذا ظنّ أن له تعلّقًا به، وجواز إظهار السرّ في ذلك، ولا سيّما إن كان فيه مصلحة للمناجي.

41 -

(ومنها): جواز المساومة في المعاملة، والتوكيل فيها، ولو للرقيق.

42 -

(ومنها): جواز استخدام الرقيق في الأمر الذي يتعلّق بمواليه، وإن لم يأذنوا في ذلك بخصوصه.

43 -

(ومنها): ثبوت الولاء للمرأة المعتقة، فيُستثنى من عموم:"الولاء لُحْمةٌ كلُحمة النسب"، فإن الولاء لا ينتقل إلى المرأة بالإرث، بخلاف النسب.

44 -

(ومنها): أن الكافر يرث ولاء عتيقه المسلم، وإن كان لا يرث قريبه المسلم.

45 -

(ومنها): أن الولاء لا يباع، ولا يوهب.

46 -

(ومنها): يؤخذ منه أن معنى قوله في الرواية الأخرى: "الولاء لمن أعطى الورِق" أن المراد بالمعطي المالك، لا من باشر الإعطاء مطلقًا، فلا يدخل الوكيل، ويؤيّده قوله في رواية الثوريّ عند أحمد:"لمن أعطى الورق، وولي النعمة".

47 -

(ومنها): ثبوت الخيار للأمة إذا أُعتِقت، على التفصيل الآتي، وأن خيارها

ص: 12

يكون على الفور، وفيه خلاف بين العلماء سيأتي قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

48 -

(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن وطئك فلا خيار لك" دلالةً على أن المرأة إذا وجدت بزوجها عيبًا، ثم مكّنته من الوطء، بطل خيارها.

49 -

(ومنها): أن الخيار فسخ لا يملك الزوج فيه رجعة، وتمسّك من قال: له الرجعة بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لو راجعته"، ولا حجّة فيه، وإلا لما كان لها اختيار، فتعيّن حمل المراجعة في الحديث على معناها اللغويّ، والمراد رجوعها إلى عصمته، ومنه قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} ، مع أنها في المطلّق ثلاثًا.

50 -

(ومنها): أن فيه إبطال قول من زعم استحالة أن يحبّ أحد الشخصين الآخر، والآخر يبغضه؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ألا تعجب من حبّ مُغيث بريرة، ومن بغض بريرة مُغيثًا"؟. نعم يؤخذ منه أن ذلك هو الأكثر الأغلب، ومن ثمّ وقع التعجّب؛ لأنه على خلاف المعتاد، وجوّز الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة -نفع اللَّه به- أن يكون ذلك مما ظهر من كثرة استمالة مغيث لها بأنواع من الاستمالات، كإظهاره حبّها، وتردّده خلفها، وبكائه عليها، مع ما ينضمّ إلى ذلك من استمالته لها بالقول الحسن، والوعد الجميل، والعادة في مثل ذلك أن يميل القلب، ولو كان نافرًا، فلما خالفت العادة وقع التعجّب، ولا يلزم منه ما قال الأولون.

51 -

(ومنها): أن المرء إذا خُير بين مباحين، فآثر ما ينفعه لم يُلَم، ولو أضرّ ذلك برفيقه.

52 -

(ومنها): أن فيه اعتبار الكفاءة في الحرّيّة.

53 -

(ومنها): فيه سقوط الكفاءة برضا المرأة التي لا وليّ لها.

54 -

(ومنها): أن من خير امرأته، فاختارت فراقه وقع، وانفسخ النكاح بينهما، وأنها لو اختارت البقاء معه لم ينقص عدد الطلاق. وكثّر بعض من تكلّم على حديث بريرة هنا في سرد تفاريع التخيير.

55 -

(ومنها): أن المرأة إذا ثبت لها الخيار، فقالت: لا حاجة لي به ترتّب على ذلك حكم الفراق. قال الحافظ: كذا قيل، وهو مبنيّ على أن ذلك وقع قبل اختيارها الفراقَ، ولم يقع إلا بهذا الكلام، وفيه من النظر ما تقدّم.

56 -

(ومنها): جواز دخول النساء الأجانب بيت الرجل، سواء كان فيه، أم لا.

57 -

(ومنها): أن المكاتبة لا يلحقها في العتق ولدها، ولا زوجها.

58 -

(ومنها): تحريم الصدقة على النبيّ صلى الله عليه وسلم مطلقًا، وجواز التطوّع منها على ما يلحق به في تحريم صدقة الفرض، كأزواجه، ومواليه، وأن موالي أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم لا

ص: 13

تحرم عليهنّ الصدقة، وإن حرمت على الأزواج.

59 -

(ومنها): جواز أكل الغني ما تصدّق به على الفقير إذا أهداه له، وبالبيع أولى.

60 -

(ومنها): جواز قبول الغنيّ هديّة الفقير.

61 -

(ومنها): الفرق بين الصدقة والهديّة في الحكم.

62 -

(ومنها): نصح أهل الرجل له في الأمور كلها.

63 -

(ومنها): جواز أكل الإنسان من طعام من يُسَرُّ بأكله منه، ولو لم يأذن له فيه بخصوصه.

64 -

(ومنها): أن الأمة إذا أُعتقت جاز لها التصرّف بنفسها في أمورها، ولا حجر لمعتِقِها عليها، إذا كانت رشيدة، وأنها تتصرّف في كسبها، دون إذن زوجها، وإن كان لها زوج.

65 -

(ومنها): جواز الصدقة على من يمونه غيره؛ لأن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - كانت تمون بريرة، ولم يُنكَر عليها قبولها الصدقة.

66 -

(ومنها): أن من أُهدي لأهله شيء له أن يُشرك نفسه معهم في الإخبار عن ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وهو لنا هديّة".

67 -

(ومنها): أن من حرمت عليه الصدقة جاز له أكل عينها إذا تغيّر حكمها.

68 -

(ومنها): أنه يجوز للمرأة أن تُدخِل إلى بيت زوجها ما لا يملكه بغير علمه، وأن تتصرّف في بيته بالطبخ وغيره بآلاته، ووقوده.

69 -

(ومنها): جواز أكل المرء ما يجده في بيته إذا غلب الحلّ في العادة، وأنه ينبغي تعريفه بما يخشى توقّفه عنه.

70 -

(ومنها): استحباب السؤال عما يستفاد به علم، أو أدب، أو بيان حكم، أو رفع شبهة، وقد يَجِب.

71 -

(ومنها): سؤال الرجل عما لم يعهده في بيته.

72 -

(ومنها): أن هديّة الأدنى للأعلى لا تستلزم الإثابة مطلقًا.

73 -

(ومنها): أن قبول الهديّة، وإن نزر قدرها جبرٌ للمهدي.

74 -

(ومنها): أن الهديّة تُملك بوضعها في بيت المهدي له، ولا يحتاج إلى التصريح بالقبول.

75 -

(ومنها): أن من تُصُدّق عليه بصدقة له أن يتصرّف فيها بما شاء، ولا ينقص أجر المتصدّق.

76 -

(ومنها): أنه لا يجب السؤال عن أصل المال الواصل إذا لم يكن فيه شبهة،

ص: 14

ولا عن الذبيحة إذا ذُبحت بين المسلمين.

77 -

(ومنها): أن من تُصُدّق عليه بقليل لا يتسخّطه.

78 -

(ومنها): أن فيه مشاورة المرأة زوجها في التصرّفات.

79 -

(ومنها): سؤال العالم عن الأمور الدينيّة.

80 -

(ومنها): إعلام العالم بالحكم لمن رآه يتعاطى أسبابه، ولو لم يسأل.

81 -

(ومنها): مشاروة المرأة إذا ثبت لها التخيير في فراق زوجها، أو الإقامة عنده، وعلى الذي يشاوَرُ بذل النصيحة.

82 -

(ومنها): جواز مخالفة المشير فيما يُشير به في غير الواجب.

83 -

(ومنها): استحباب شفاعة الحاكم في الرفق بالخصم، حيث لا ضرر، ولا إلزام، ولا لوم على من خالف، ولا غَضَبَ، ولو عظم قدر الشافع، وترجم عليه النسائيّ في "كتاب آداب القضاء" -28/ 5444 - :"شفاعة الحاكم للخصوم قبل فصل الحكم"، ولا يجب على المشفوع عنده القبول.

84 -

(ومنها): يؤخذ منه أن التصميم في الشفاعة لا يسوغ فيما تشقّ الإجابة فيه على المسؤول، بل يكون على وجه العرض والترغيب.

85 -

(ومنها): جواز الشفاعة قبل أن يسألها المشفوع له؛ لأنه لم يُنقل أن مُغيثًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع له. قال الحافظ: كذا قيل، وقد قدّمت أن في بعض الطرق أن العبّاس هو الذي سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، فيحتمل أن يكون مغيث سأل العبّاس في ذلك، ويحتمل أن يكون العبّاس ابتدأ ذلك من قبل نفسه؛ شفقةً منه على مغيث.

86 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه استحباب إدخال السرور على قلب المؤمن.

87 -

(ومنها): أن الشافع يؤجر، ولو لم تحصل إجابته.

88 -

(ومنها): أن المشفوع عنده إذا كان دون قدر الشافع لم تمتنع الشفاعة.

89 -

(ومنها): تنبيه الصاحب صاحبه على الاعتبار بآيات اللَّه، وأحكامه؛ لتعجييب النبيّ صلى الله عليه وسلم العبّاسَ من حبّ مغيث بريرة.

90 -

(ومنها): أن نظر النبيّ صلى الله عليه وسلم كان كله بحضور وفكر.

91 -

(ومنها): أن كلّ ما خالف العادة يُتعجّب منه، ويُعتبر به.

92 -

(ومنها): حسن أدب بريرة؛ لأنها لم تُفصح بردّ الشفاعة، وإنما قالت:"لا حاجة لي فيه".

93 -

(ومنها): أن فرط الحبّ يُذهب الحياء؛ لما ذُكر من حال مغيث، وغلبة الوجد عليه، حتى لم يستطع كتمان حبّها. وفي ترك النكير عليه بيان جواز قبول عذر من

ص: 15

في مثل حاله، ممن يقع منه ما لا يليق بمنصبه، إذا وقع بغير اختياره. ويستنبط من هذا معذرة أهل المحبّة في اللَّه إذا حصل لهم الوجد من سماع ما يفهمون منه الإشارة إلى أحوالهم حيث يظهر منهم ما لا يصدر عن اختيار من الرقص، ونحوه. قاله الحافظ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في هذا الاستنباط نظر لا يخفى.

94 -

(ومنها): استحباب الإصلاح بين المتنافرين، سواء كانا زوجين، أم لا، وتأكيد الحرمة بين الزوجين إذا كان بينهما ولدٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنه أبو ولدك".

95 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن الشافع يذكر للمشفوع عنده ما يبعث على قبوله من مقتضى الشفاعة، والحامل عليها.

96 -

(ومنها): جواز شراء الأمة دون ولدها، وأن الولد يثبت بالفراش، والحكم بظاهر الأمر في ذلك. قال الحافظ: ولم أقف على تسمية أحدٍ من أولاد بريرة. والكلام محتمل لأن يريد به أنه ولدها بالقوّة، لكنه خلاف الظاهر.

97 -

(ومنها): أن فيه جواز نسبة الولد إلى أمه.

98 -

(ومنها): أن المرأة الثيّب لا إجبار عليها، ولو كانت معتقة.

99 -

(ومنها): جواز خِطبة الكبير والشريف لمن هو دونه.

100 -

(ومنها): حسن الأدب في المخاطبة حتى من الأعلى مع الأدنى، وحسن التلطّف في الشفاعة.

101 -

(ومنها): أن للعبد أن يخطب مطلّقته بغير إذن سيّده.

102 -

(ومنها): أن خطبة المعتدّة لا تحرم على الأجنبيّ، إذا خطبها لمطلّقها.

103 -

(ومنها): أن فسخ النكاح لا رجعة فيه إلا بنكاح جديد.

104 -

(ومنها): أن الحبّ والبغض بين الزوجين لا لوم فيه على واحد منهما؛ لأنه بغير اختيار.

105 -

(ومنها): جواز بكاء المحبّ على فراق حبيبه، وعلى ما يفوته من الأمور الدنيويّة، ومن الدينيّة بطريق الأولى.

106 -

(ومنها): أنه لا عار على الرجل في إظهار حبّه لزوجته.

107 -

(ومنها): أن المرأة إذا أبغضت زوجها لم يكن لوليّها إكراهها على عشرته، وإذا أحبّته لم يكن لوليّها التفريق بينهما.

108 -

(ومنها): جواز ميل الرجل إلى امرأة يطمع في تزويجها، أو رجعتها.

109 -

(ومنها): جواز كلام الرجل لمطلّقته في الطرق، واستعطافه لها، واتباعها أين سلكت كذلك. ولا يخفى أن محلّ الجواز عند أمن الفتنة.

ص: 16

110 -

(ومنها): جواز الإخبار عما يظهر من حال المرء، وإن لم يُفصح به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للعبّاس ما قال.

111 -

(ومنها): جواز ردّ الشافع المنّة على المشفوع إليه بقبول شفاعته؛ لأن قول بريرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "أتأمرني؟ " ظاهر في أنه لو قال: نعم لقبلت شفاعته، فلما قال:"لا" عُلم أنه ردّ عليها ما فَهِم من المنّة في امتثال الأمر. كذا قيل، وهو مُتكَلَّف، بل يؤخذ منه أن بريرة علمت أن أمره واجب الامتثال، فلما عرض عليها ما عَرَضَ استفصلت، هل هو أمرٌ، فيجب عليها امتثاله، أو مشورةٌ، فتتخيّر فيها؟.

112 -

(ومنها): أن كلام الحاكم بين الخصوم في مشورة وشفاعة، ونحوهما ليس حكمًا.

113 -

(ومنها): أنه يجوز لمن سُئل قضاء حاجة أن يشترط على الطالب ما يعود عليه نفعه؛ لأن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - شرطت أن يكون لها الولاء، إذا أدّت الثمن دفعة واحدة.

114 -

(ومنها): جواز أداء الدين عن المدين، وأنه يبرأ بأداء غيره عنه.

115 -

(ومنها): جواز إفتاء الرجل زوجته فيما لها فيه حظّ وغرضٌ، إذا كان حقًّا، وحكم الحاكم لزوجته بالحقّ.

116 -

(ومنها): جواز قول مشتري الرقيق: أشتريه لأعتقه ترغيبًا للبائع في تسهيل البيع.

117 -

(ومنها): جواز المعاملة بالدراهم والدنانير عددًا، إذا كان قدرها بالكتابة معلومًا؛ لقولها:"أعُدّها"، ولقولها:"تسع أواق".

118 -

(ومنها): جواز بيع المعاطاة.

119 -

(ومنها): جواز عقد البيع بالكتابة؛ لقوله: "خذيها"، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في حديث الهجرة:"قد أخذتها بالثمن".

120 -

(ومنها): أن حقّ اللَّه مقدّمٌ على حقّ الآدميّ؛ لقوله: "شرط اللَّه أحقّ، وأوثق"، ومثله الحديث الآخر:"دين اللَّه أحقّ أن يُقضى".

121 -

(ومنها): جواز الاشتراك في الرقيق؛ لتكرّر ذكر أهل بريرة في الحديث، وفي رواية:"كانت لناس من الأنصار"، ويحتمل مع ذلك الوحدة، وإطلاق ما في الخبر على المجاز.

122 -

(ومنها): أن الأيدي ظاهرةٌ في الملك، وأن مشيري السلعة لا يَسأل عن أصلها، إذا لم تكن رِيبة.

ص: 17

123 -

(ومنها): استحباب إظهار أحكام العقد للعالم بها، إذا كان العاقد يجهلها.

124 -

(ومنها): أن حكم الحاكم لا يُغيّر الحكم الشرعيّ، فلا يُحلّ حرامًا، ولا

يُحرّم حلالاً.

125 -

(ومنها): قبول خبر الواحد الثقة، ذكرًا، كان، أو أنثى، حرًّا كان، أو عبدًا.

126 -

(ومنها): أن البيان بالفعل أقوى من القول.

127 -

(ومنها): جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، والمبادرة إليه عند الحاجة.

128 -

(ومنها): أن الحاجة إذا اقتضت بيان حكم عامّ وجب إعلانه، أو نُدب بحسب الحال.

129 -

(ومنها): جواز الرواية بالمعنى، والاختصار من الحديث، والاقتصار على بعضه بحسب الحاجة؛ فإن الواقعة واحدةٌ، وقد رويت بألفاظ مختلفة، وزاد بعض الرواة ما لم يذكره الآخرون، ولم يقدح ذلك في صحّة الحديث عند أحد من العلماء.

130 -

(ومنها): أن العدّة بالنساء؛ لما تقدّم من حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أنها أُمرت أن تعتدّ عدّة الحرّة، ولو كان بالرجال لأُمرت أن تعتدّ بعدّة الإماء.

131 -

(ومنها): أن عدّة الأمة إذا أُعتقت تحت عبد، فاختارت نفسها ثلاثة قروء، وأما ما وقع في بعض طرقه:"تعتدّ بحيضة" فهو مرجوحٌ. ويحتمل أن أصله: "تعتدّ بحيض"، فيكون المراد جنس ما تستبرىء به رحمها، لا الوحدة.

132 -

(ومنها): أن فيه تسمية الأحكام سننًا، وإن كان بعضها واجبًا، وأن تسمية ما دون الواجب سنّةً اصطلاحٌ حادثٌ.

133 -

(ومنها): جواز جبر السيّد أمته على تزويج من لا تختاره، إما لسوء خَلْقِهِ، أو خُلُقه، وهي بالضدّ من ذلك، فقد قيل: إن بريرة كانت جميلة، غير سوداء، بخلاف زوجها، وقد زُوّجت منه، وظهر عدم اختيارها لذلك بعد عتقها.

134 -

(ومنها): أن أحد الزوجين قد يُبغض الآخر، ولا يظهر له ذلك. ويحتمل أن بريرة مع بغضها مُغيثًا، كانت تصبر على حكم اللَّه عليها في ذلك، ولا تُعامله بما يقتضيه البغض إلى أن فرّج اللَّه عنها.

135 -

(ومنها): أن فيه تنبيهَ صاحب الحقّ على ما وجب له إذا جهله.

136 -

(ومنها): استقلال المكاتب بتعجيز نفسه.

137 -

(ومنها): جواز إطلاق الأهل على السادة، وإطلاق العبيد على الأرقّاء.

138 -

(ومنها): جواز تسمية العبد مُغيثًا.

139 -

(ومنها): أن مال الكتابة لا حدّ لأكثره.

ص: 18

140 -

(ومنها): جواز قبول المعتق الهديّةَ من معتَقه، ولا يقدح ذلك في ثواب العتق.

141 -

ومنها): جواز الهديّة لأهل الرجل بغير استئذانه، وقبول المرأة ذلك، حيث لا ريبة.

42 -

(ومنها): سؤال الرجل عمّا لم يعهده في بيته، ولا يرِدُ على هذا ما في قصّة أمّ زرع، حيث وقع في سياق المدح:"ولا يسأل عما عهد"، لأن معناه: ولا يسأل عن شيء عهده، وفات، فلا يقول لأهله: أين ذهب؟، وهنا لم يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيء رآه، وعاينه، ثم أحضر له غيره، فسأل عن سبب ذلك؛ لأنه يعلم أنهم لا يتركون إحضاره له شُحًّا عليه، بل لتوهّم تحريمه، فأراد أن يبيّن لهم الجواز.

وقال ابن دقيق العيد: فيه دلالة على تبسّط الإنسان في السؤال عن أحوال منزله، وما عهده فيه قبلُ، والأول أظهر. قال الحافظ: وعندي أنه مبني على خلاف ما انبنى عليه الأول؛ لأن الأول بُني على أنه علم حقيقة الأمر في اللحم، وأنه مما تُصُدّق به على بريرة، والثاني بُني على أنه لم يتحقّق من أين هو؟ فجائز أن يكون مما أُهدي لأهل بيته من بعض اْقاربها مثلاً، ولم يتعيّن الأول.

143 -

(ومنها): ما قيل: إنه لا يجب السؤال عن أصل المال الواصل إليه، إذا لم يظنّ تحريمه، أو تظهر فيه شبهة، إذ لم يسأل صلى الله عليه وسلم عمن تصدّق على بريرة، ولا عن حاله.

وتُعُقّب بأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أرسل إلى بريرة بالصدقة، فلم يتمّ هذا

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في خيار الأمة إذا أُعتقت:

قال العلاّمة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: أجمع أهل العلم على أن الأمة إذا أُعتقت، وزوجها عبدٌ، فلها الخيار في فسخ النكاح. ذكره ابن المنذر، وابن عبد البرّ، وغيرهما،

(1)

ذكر هذه الفوائد في "فتح الباري" مجموعة في موضع واحد من "كتاب الطلاق" 10/ 516 - 522 - رقم الحديث -5284 - .

قال النووي: صنّف في هذا الحديث ابن خزيمة، وابن جرير تصنيفين كبيرين، أكثرا فيهما من استنباط الفوائد منه، فذكروا أشياء. قال الحافظ: ولم أقف على تصنيف ابن خزيمة، ووقفت على كلام ابن جرير من كتابه "تهذيب الآثار"، ولخّصت منه ما تيسّر بعون اللَّه تعالى، وقد بلغ بعض المتأخّرين الفوائد من حديث بريرة إلى أربعمائة، أكثرها مستبعد متكلَّفٌ، كما وقع في نظير ذلك الذي صنّف في الكلام على حديث المجامع في رمضان، فبلغ به ألف فائدة، وفائدة. انتهى. راجع "الفتح" 5/ 504 - 506. "كتاب المكاتب".

ص: 19

والأصل فيه خبر بَريرة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -:"كاتبت بريرة، فخيّرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في زوجها، وكان عبدًا، فاختارت نفسها. قال عروة: ولو كان حرًّا ما خيّرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. رواه مالكٌ في "الموطأ"

(1)

، وأبو داود

(2)

، والنسائيّ

(3)

. ولأن عليها ضَررًا في كونها تحت عبدٍ، فكان لها الخيار، كما لو تزوّج حرّةً على أنه حرّ، فبان عبدًا، فإن اختارت الفسخ، فلها فراقه، وإن رضيت الْمُقامَ معه لم يكن لها فراقه بعد ذلك؛ لأنها أسقطت حقّها، وهذا مما لا خلاف فيه بحمد اللَّه تعالى.

قال: وإن أُعتقت تحت حرّ، فلا خيار لها. وهذا قول ابن عمر، وابن عبّاس، وسعيد بن المسيّب، والحسن، وعطاء، وسليمان بن يسار، وأبي قلابة، وابن أبي ليلى، ومالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وإسحاق. وقال طاوس، وابن سيرين، ومجاهد، والنخعيّ، وحمّاد بن أبي سليمان، والثوريُّ، وأصحاب الرأي: لها الخيار؛ لما روى الأسود، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خيّر بريرة، وكان زوجها حرًّا. رواه النسائيّ

(4)

، ولأنها كملت بالحرّية، فكان لها الخيار، كما لو كان زوجها عبدًا.

قال: ولنا أنها كافأت زوجها في الكمال، فلم يثبت لها الخيار، كما لو أسلمت الكتابيّة تحت مسلم. فأما خبر الأسود، عن عائشة، فقد روى عنها القاسم بن محمد، وعروة أن زوج بريرة كان عبدًا، وهما أخصّ بها من الأسود؛ لأنهما ابن أخيها، وابن أختها. وقد روى الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن زوج بريرة كان عبدًا، فتعارضت روايتاه. وقال ابن عباس: كان زوج بريرة عبدًا أسود لبني المغيرة، يقال له مغيث. رواه البخاريّ وغيره. وقالت صفيّة بنت عبيد: كان زوج بريرة عبدًا أسود. وقال أحمد: هذا ابن عبّاس، وعائشة قالا في زوج بريرة: إنه عبدٌ، رواية علماء المدينة، وعَمَلهم، وإذا روى أهل المدينة حديثًا، وعملوا به، فهو أصحّ شيء، وإنما يصحّ أنه حرّ عن الأسود وحده، فأما غيره فليس بذاك. قال: والعقد صحيح، فلا يُفسخ بالمختلف فيه، والحرّ فيه اختلاف، والعبد لا اختلاف فيه، ويُخالف الحرّ العبدَ؛ لأن العبد نقصٌ، فإذا كملت تحته تضرّرت ببقائها عنده، بخلاف الحرّ. انتهى كلام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(5)

.

(1)

"الموطّأ"2/ 562. بل الحديث متّفقٌ عليه، كما تقدّم تخريجه.

(2)

"سنن أبي داود" 1/ 517.

(3)

"سنن النسائي" يأتي بعد باب 6/ 162.

(4)

يأتي في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى.

(5)

"المغني" 10/ 68 - 70.

ص: 20

وقال في "الفتح": وحاول بعض الحنفيّة ترجيح رواية من قال: كان حرًّا على رواية من قال: كان عبدًا، فقال: الرقّ تعقبه الحرّية بلا عكس، وهو كما قال، لكن محلّ طريق الجمع إذا تساوت الروايات في القوّة، أما مع التفرّد في مقابلة الاجتماع، فتكون الرواية المنفردة شاذّةً، والشاذّ مردود، ولهذا لم يَعتبر الجمهور طريق الجمع بين الروايتين، مع قولهم: إنه لا يُصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع، والذي يتحصّل من كلام محقّقيهم، وقد أكثر منه الشافعيّ، ومن تبعه أن محلّ الجمع إذا لم يظهر الغلط في إحدى الروايتين، ومنهم من شرط التساوي في القوّة.

قال ابن بطّال: أجمع العلماء أن الأمة إذا عَتَقَت تحت عبد فإن لها الخيار، والمعنى فيه ظاهرٌ؛ لأن العبد غير مكافىء للحرّة في أكثر الأحكام، فإذا عَتَقت ثبت لها الخيار من البقاء في عصمته، أو المفارقة؛ لأنها في وقت العقد عليها لم تكن من أهل الاختيار. واحتجّ من قال: إن لها الخيار، ولو كانت تحت حرّ بأنها عند التزويج لم يكن لها رأيٌ؛ لاتفاقهم على أن لمولاها أن يزوّجها بغير رضاها، فإذا عتقت تجدّد لها حالٌ لم يكن لها قبل ذلك.

وعارضهم الآخرون بأن ذلك لو كان مؤثّرًا لثبت الخيار للبكر إذا زوّجها أبوها، ثم بلغت رشيدةً، وليس كذلك، فكذلك الأمة تحت الحرّ، فإنه لم يحدُث لها بالعتق حالٌ ترتفع به عن الحرّ، فكانت كالكتابيّة تُسلم تحت المسلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر من الأدلّة أن الأرجح القول الأول، وهو أن خيار الأمة إذا أُعتقت إنما هو إذا كانت تحت عبد، لا تحت حرّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم هل الخيار فسخٌ، أم طلاقٌ؟:

قال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: وفرقة الخيار فسخٌ، لا ينقص بها عدد الطلاق. نصّ عليه أحمد، ولا أعلم فيه خلافًا. قيل لأحمد: لم لا يكون طلاقًا؟ قال: لأن الطلاق ما تَكلّم به الرجل؛ ولأن الفرقة لاختيار المرأة، فكانت فسخًا، كالفسخ لعُنّته، أو عَتَهِهِ انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: ولا أعلم فيه خلافًا. فيه نظر، فإن الخلاف ثابت، قال في "الفتح": واختُلف في التي تختار الفراق، هل يكون ذلك طلاقًا، أو فسخًا؟، فقال مالكٌ، والأوزاعيّ، والليث: تكون طلقة بائنة، وثبت مثله عن الحسن،

(1)

"فتح" 10/ 511 - 512. "كتاب الطلاق".

(2)

"المغني" 10/ 70.

ص: 21

وابن سيرين. أخرجه ابن أبي شيبة. وقال الباقون: يكون فسخًا، لا طلاقًا انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن الأرجح القول بأنه فسخٌ؛ لظهور معنى الفسخ فيه أكثر من ظهور معنى الطلاق، حيث إنه ليس فيه كلام للزوج، وأنه من قبل المرأة، فيترجّح كونه فسخًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وقت خيار الأمة:

قال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: خيار المعتقة على التراخي، ما لو يوجد أحد أمرين: عتق زوجها، أو وطؤه لها، وممن قال: إنه على التراخي مالكٌ، والأوزاعيّ، وروي ذلك عن عبد اللَّه بن عمر، وأخته حفصة، وبه قال سليمان بن يسار، ونافعٌ، والزهريّ، وقتادة، وحكاه بعض أهل العلم عن الفقهاء السبعة.

وقال أبو حنيفة، وسائر العراقيين: لها الخيار في مجلس العلم. وللشافعيّ ثلاثة أقوال: أظهرها كقولنا. والثاني: أنه على الفور، كخيار الشفعة. والثالث أنه إلى ثلاثة أيام.

ولنا ما روى الإمام أحمد في "المسند" بإسناده عن الحسن بن عمرو بن أميّة، قال: سمعت رجالاً يتحدَّثون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أُعتقت الأمة، فهي بالخيار، ما لم يطأها، إن شاءت فارقته، وإن وطئها فلا خيار لها"

(2)

. ورواه الأثرم أيضًا. وروى أبو داود أن بريرة عتقت، وهي عند مغيث، عبد لآل أحمد، فخيّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لها:"إن قربك فلا خيار لك"

(3)

. ولأنه قول من سمّينا من الصحابة، ولا مخالف لهم في عصرهم. قال ابن عبد البرّ: لا أعلم لابن عمر، وحفصة مخالفًا من الصحابة. ولأن الحاجة داعية إلى ذلك فثبت، كخيار القصاص، أو خيارٍ لدفع ضرر متحقّق، فأشبه ما قلناه. انتهى

(4)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه الإمام أحمد، ومن معه من أن تخيير الأمة على التراخي أرجح؛ لإطلاق تخيير الشارع لها، دون أن يقيّده بوقت دون وقت. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3475 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ قَضِيَّاتٍ: أَرَادَ

(1)

"فتح"10/ 512.

(2)

راه أحمد برقم 22697 - وفي سنده ابن لهيعة.

(3)

ضعيفٌ، لأن في إسناده محمد بن إسحاق، وهو مدلّس، وقد عنعنه.

(4)

"المغني" 10/ 71.

ص: 22

أَهْلُهَا أَنْ يَبِيعُوهَا، وَيَشْتَرِطُوا الْوَلَاءَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«اشْتَرِيهَا، وَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، وَأُعْتِقَتْ، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَكَانَ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا، فَتُهْدِي لَنَا مِنْهُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«كُلُوهُ، فَإِنَّهُ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده هو، وأبي داود، وهو ثقة.

و"هشام": هو ابن عروة.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق البحث فيه مستوفًى قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌30 - (بَابُ خِيَارِ الأَمَةِ، تُعْتَقُ، وَزَوْجُهَا حُرٌّ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: يحتمل أن يكون قوله: "تعتق" بفتح أوله، مبنيًّا للفاعل، من عَتَقَ يَعتقُ، ثلاثيًّا، من باب ضرب، أو بضمّه، مبنيًّا للمفعول، من أُعتق رباعيًّا، كما سبق بيانه قبل باب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3476 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتِ اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ، فَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلَاءَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «أَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ» ، قَالَتْ: فَأَعْتَقْتُهَا، فَدَعَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَخَيَّرَهَا مِنْ زَوْجِهَا، قَالَتْ: لَوْ أَعْطَانِي كَذَا وَكَذَا، مَا أَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"جرير": هو ابن عبد الحميد. و"منصور": هو ابن المعتمر. و"إبراهيم": هو ابن يزيد النخعي. و"الأسود": هو ابن يزيد النخعي.

والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم البحث فيه في الباب الماضي.

ص: 23

وقوله: "وكان زوجها حرًّا" هو محلّ الترجمة، لكن الأرجح رواية أنه كان عبدًا.

قال في "التلخيص الحبير": حديث: "أن بريرة أُعتقت، فخيّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاختارت نفسها، ولو كان حرًّا لم يُخيّرها". رواه النسائيّ، وابن حبّان، والطحاويّ، وابن حزم من حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - بهذا. قال الطحاويّ: يحتمل أن يكون من كلام عروة. قال الحافظ: وقع التصريح بذلك في النسائي. وقال ابن حزم: يحتمل أن يكون من كلام عائشة، أو من دونها، والتخيير ثابتٌ في "الصحيحين" من حديث عائشة أيضًا من طرق، وفي "الطبقات" لابن سعد، عن عبد الوهّاب بن عطاء، عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبيّ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبريرة لَمّا عَتَقَت: "وقد عتق بضعك معك، فاختاري". وهذا مرسل، ووصله الدارقطنيّ من طريق أبان بن صالح، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -.

ورُوي كون زوجها عبدًا من حديث عائشة، وابن عمر، وابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهم:

أما رواية عائشة، فرواها مسلم من حديثه عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها، وعنده، وعند النسائيّ من طريق يزيد بن رُومان، عن عروة، عنها:"كان زوج بريرة عبدًا". وقد اختُلف فيه على عَائشة، فروى الأسود بن يزيد، عنها أنه كان حرًّا. قال إبراهيم بن أبي طالب: خالف الأسود الناس. وقال البخاريّ: هو من قول الحكم، وقول ابن عباس: إنه كان عبدًا أصحّ. وقال البيهقيّ: روينا عن القاسم، وعروة، ومجاهد، وعمرة، كلهم عن عائشة أنه كان عبدًا. وروى شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم أنه قال: ما أدري أحرّ، أم عبدٌ. ورواه البيهقيّ عن سماك، عن عبد الرحمن بن القاسم، فقال: كان عبدًا، وكذا رواه أسامة بن زيد، عن القاسم، عن عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها: "إن شئت أن تثوي تحت العبد". قال المنذريّ: رُوي عن الأسود أنه قال: كان عبدًا، فاختُلف فيه عليه، مع أن بعضهم يقول: قوله: كان حرًّا من قول إبراهيم. وقيل: من قول الحكم.

وأما رواية ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، فرواها الدارقطنيّ، والبيهقيّ، من حديث نافع، عن ابن عمر، قال: كان زوج بريرة عبدًا. وفي إسناده ابن أبي ليلى. وقد رواه البيهقيّ من رواية نافع، عن صفيّة بنت أبي عُبيد، وإسناده أصحّ، وهو في النسائيّ أيضًا

(1)

.

(1)

أي في "الكبرى" 3/ 366 رقم 5646.

ص: 24

وأما رواية ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، فرواها البخاريّ من رواية القاسم بن محمد، عنه: "أن زوج بريرة كان عبدًا، يقال له: مُغيث، كأني انظر إليه يطوف خلفها يبكي

" الحديث. ورواه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، والطبرانيّ، وفي رواية للترمذيّ: "أن زوج بريرة كان عبدًا أسود لبني المغيرة يوم أُعتقت". انتهى ما في "التلخيص" ببعض تصرّف

(1)

.

وقال في "الفتح" بعد أن ذكر أن البخاريّ أورده في "الفرائض" عن حفص بن عمر، عن شعبة، وزاد في آخره: قال الحكم: وكان زوجها حرًّا"، ثم أورده بعده من طريق منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، ثم قال: قال الأسود: وكان زوجها حرًّا. قال البخاريّ: قول الأسود منقطع، وقول ابن عباس: "رأيته عبدًا" أصحّ، وقال في الذي قبله في قول الحكم نحو ذلك.

ثم قال: فظهر أن هذه الزيادة مدرجة. قال: وقد قال الدارقطنيّ في "العلل": لم يُختلف على عروة، عن عائشة أنه كان عبدًا، وكذا قال جعفر بن محمد بن عليّ، عن أبيه، عن عائشة، وأبو الأسود، وأسامة بن زيد، عن القاسم.

قال الحافظ: وقع لبعض الرواة فيه غلطٌ، فأخرج قاسم بن أصبغ في "مصنّفه"، وابن حزم من طريقه، قال: أنبأنا أحمد بن يزيد المعلّم، حدّثنا موسى بن معاوية، عن جرير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة:"كان زوج بريرة حرًّا". وهذا وهم من موسى، أو من أحمد، فإن الحفّاظ من أصحاب هشام، ومن أصحاب جرير، قالوا:"كان عبدًا"، منهم إسحاق بن راهويه، وحديثه عند النسائيّ، وعثمان بن أبي شيبة، وحديثه عند أبي داود، وعليّ بن حُجْر، وحديثه عند الترمذيّ، وأصله عند مسلم، وأحال به على رواية أبي أسامة، عن هشام، وفيه: أنه كان عبدًا. قال الدارقطنيّ: وكذا قال أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه. قال الحافظ: وراوه شعبة، عن عبد الرحمن، فقال: كان حرًّا، ثم رجع عبد الرحمن، فقال: ما أدري. قال الدارقطنيّ: وقال عمران بن حُدير، عن عكرمة، عن عائشة، كان حرًّا، وهو وَهمٌ. قال الحافظ: وهِمَ في شيئين: في قوله: "حرًّا"، وفي قوله:"عائشة"، وإنما هو من رواية عكرمة، عن ابن عبّاس، ولم يُختلف على ابن عبّاس في أنه كان عبدًا. وكذا جزم به الترمذيّ عن ابن عمر، وحديثه عند الشافعيّ، والدارقطنيّ، وغيرهما. وكذا أخرجه النسائيّ -أي في "الكبرى" - من حديث صفيّة بنت أبي عُبيد، قالت: كان زوج بريرة

(1)

"التلخيص الحبير" 3/ 363 - 365. تحقيق أبي عاصم حسن عباس قطب.

ص: 25

عبدًا، وسنده صحيح.

وقال النوويّ: يؤيّد قول من قال: إنه كان عبدًا قولُ عائشة: "كان عبدًا، ولو كان حرًا لم يُخيّرها"، فأخبرت وهي صاحبة القصّة بأنه كان عبدًا، ثم علّلت بقولها:"ولو كان حرًّا لم يُخيرها"، ومثلُ هذا لا يكاد أحدٌ يقوله إلا توقيفًا.

وتُعُقّب بأن هذه الزيادة في رواية جرير، عن هشام بن عروة في آخر الحديث، وهي مدرجة من قول عروة، بُيِّنَ ذلك في رواية مالك، وأبي داود، والنسائيّ. نعم وقع في رواية أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: "كانت بريرة مكاتبة لأناس من الأنصار، وكانت تحت عبد

" الحديث، أخرجه أحمد، وابن ماجه، والبيهقيّ. وأسامة فيه مقال.

وأما دعوى أن ذلك لا يُقال: إلا بتوقيف، فمردودة، فإن للاجتهاد فيه مجالاً. قال الدارقطنيّ: وقال إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: كان حرًّا. قال الحافظ: وأصرح ما رأيته في ذلك رواية أبي معاوية: حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان زوج بريرة حرًّا، فلما أُعتقت خُيّرت

" الحديث. أخرجه أحمد عنه. وأخرج ابن أبي شيبة، عن إدريس، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان زوج بريرة حرًّا، ومن وجه آخر عن النخعيّ، عن الأسود، أن عائشة حدّثته "أن زوج بريرة كان حرًّا حين أُعتقت".

فدلّت الروايات المفصّلة التي قدّمتها آنفًا على أنه مدرجٌ من قول الأسود، أو من دونه، فيكون من أمثلة ما أُدرج في أول الخبر، وهو نادرٌ، فإن الأكثر أن يكون في آخره، ودونه أن يقع في وسطه، وعلى تقدير أن يكون موصولاً، فترجّح رواية من قال: كان عبدًا بالكثرة، وأيضًا آل المرء أعرف بحديثه، فإن القاسم ابن أخي عائشة، وعروة ابن أختها، وتابعهما غيرهما، فروايتهما أولى من رواية الأسود، فإنهما أقعد بعائشة، وأعلم بحديثها. ويترجّح أيضًا بأن عائشة كانت تذهب إلى أن الأمة إذا عتقت تحت الحرّ، لا خيار لها، وهذا بخلاف ما روى العراقيّون عنها، فكان يلزم على أصل مذهبهم أن يأخذوا بقولها، ويدعوا ما روي عنها، لا سيّما، وقد اختلف عنها فيه. وادّعى بعضهم أنه يمكن الجمع بين الروايتين يحمل قول من قال: كان عبدًا على اعتبار ما كان عليه، ثم أعتق، فلذلك قال من قال: كان حرًّا. ويردّ هذا الجمع ما تقدّم من قول عروة: كان عبدًا، ولو كان حرًّا لم تُخيَّر. وأخرجه الترمذيّ بلفظ:"أن زوج بريرة كان عبدًا أسود يوم أُعتقت"، فهذا يعارض الرواية المتقدّمة عن الأسود، ويعارض الاحتمال المذكور احتمالُ أن يكون من قال: كان حرًّا، أراد ما آل إليه أمره، وإذا

ص: 26

تعارضا إسنادًا، واحتمالاً احتيج إلى الترجيح، ورواية الأكثر يرجّح بها، وكذلك الأحفظ، وكذلك الألزم، وكلّ ذلك موجودٌ في جانب من قال:"كان عبدا". انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فتبيّن بما تقدّم أن الرواية الراجحة هي رواية "كان زوج بريرة عبدًا". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3477 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ، فَاشْتَرَطُوا وَلَاءَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «اشْتَرِيهَا، وَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، وَأُتِيَ بِلَحْمٍ، فَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِمَّا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ» ، وَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح أيضًا. و"عمرو عليّ": هو الفلاّس. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"الحكم": هو ابن عُتيبة. وقوله: "وأُتي بلحم" ببناء الفعل للمفعول. ومثله "تُصُدّق به". وقوله: "وكان زوجها حرًّا"، الراجح أنه كان عبدًا، كما سبق قريبًا.

والحديث متّفقٌ عليه، وسبق الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌31 - (بَابُ خِيَارِ الأَمَةِ تُعْتَقُ، وَزَوْجُهَا مَمْلُوكٌ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يرى ترجيح رواية أن زوج بريرة كان عبدًا، حيث أخّر هذا الباب؛ لأن صنيعه غالبًا أنه يأتي بالأخبار المعلّلة أوّلاً، ثم يأتي بالأخبار الصحيحة بعدها، كما هو صنيع الترمذيّ غالبًا، وقد بين

(1)

"فتح"10/ 515 - 516. "كتاب الطلاق".

ص: 27

ذلك الحافظ ابن رجب -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح علل الترمذيّ"، ونصّ عبارته -رحمه اللَّه تعالى- فيه:

"وقد اعتُرِض على الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- بأنه في غالب الأبواب يبدأ بالأحاديث الغريبة الإسناد غالبًا. وليس ذلك بعيب، فإنه -رحمه اللَّه تعالى- يُبّين ما فيها من العلل، ثم يبيّن الصحيح في الإسناد، وكأنّ قصده -رحمه اللَّه تعالى- ذكر العدل، ولهذا تجد النسائيّ إذا استوعب طرق الحديث بدأ بما هو غلطٌ، ثم يذكر بعد ذلك الصواب المخالف له" انتهى كلام ابن رجب -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

والحاصل أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أورد في الباب السابق حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى - عنها من رواية الأسود عنها، وفيه:"وكان زوجها حرًّا"، ثم أورد حديثها في هذا الباب من رواية عروة، عنها، وفيه:"وكان زوجها عبدًا"، ومن طريق سماك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عائشة، وفيه:"وكان زوجها عبدًا"، ومن طريق شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها، وفيه:"وكان زوجها عبدًا"، ثمّ قال بعد ذلك: ما أدري الخ.

ففي هذه الروايات ما يرجّح أن رواية الأسود "وكان زوجها حرًّا" مرجوحةٌ.

وقد رجّح الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" أيضًا رواية كونه عبدًا، حيث قال:"باب خيار الأمة تحت العبد"، ثم أخرج بسنده من طريق قتادة، عن عكرمة عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: رأيته عبدًا -يعني زوج بريرة، ومن طريق أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ذاك مُغيث عبد بني فلان -يعني زوج بَريرة- كأني انظر إليه يتبعها في سكك المدينة، يبكي عليها.

قال في "الفتح": وهذا مصير من البخاريّ إلى ترجيح قول من قال: إن زوج بريرة كان عبدًا، وقد ترجم في أوائل "النكاح" بحديث عائشة في قصّة بريرة "باب الحرّة تحت العبد" وهو جزمٌ منه أيضًا بأنه كان عبدًا. قال: واعترض عليه هناك ابن المنيّر بأنه ليس في حديث الباب أن زوجها كان عبدًا، وإثبات الخيار لها لا يدلّ؛ لأن المخالف يدّعي أن لا فرق في ذلك بين الحرّ والعبد.

والجواب أن البخاريّ جرى على عادته من الإشارة إلى ما في بعض طرق الحديث الذي يورده، ولا شكّ أن قصّة بريرة لم تتعدّد، وقد رجح عنده أن زوجها كان عبدًا، فلذلك جزم به انتهى

(2)

.

(1)

"شرح علل الترمذي" ص 236 بتحقيق صبحي السامرّائيّ.

(2)

"فتح" 10/ 510 - 511. "كتاب الطلاق".

ص: 28

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن رواية "وكان زوجها عبدًا" هي الراجحة، كما سيأتي قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3478 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَاتَبَتْ بَرِيرَةُ عَلَى نَفْسِهَا، بِتِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ سَنَةٍ بِأُوقِيَّةٍ، فَأَتَتْ عَائِشَةَ تَسْتَعِينُهَا، فَقَالَتْ: لَا، إِلاَّ أَنْ يَشَاءُوا أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً، وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِي، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ، فَكَلَّمَتْ فِي ذَلِكَ أَهْلَهَا، فَأَبَوْا عَلَيْهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ، فَجَاءَتْ إِلَى عَائِشَةَ، وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهَا: مَا قَالَ أَهْلُهَا، فَقَالَتْ: لَا، هَا اللَّهِ إِذًا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا هَذَا؟» ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بَرِيرَةَ أَتَتْنِي، تَسْتَعِينُ بِي عَلَى كِتَابَتِهَا، فَقُلْتُ: لَا، إِلاَّ أَنْ يَشَاءُوا أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً، وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِي، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لأَهْلِهَا، فَأَبَوْا عَلَيْهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ابْتَاعِيهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، ثُمَّ قَامَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ، يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا، لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل، يَقُولُونَ: أَعْتِقْ فُلَانًا، وَالْوَلَاءُ لِي، كِتَابُ اللَّهِ عز وجل أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ» ، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَوْجِهَا، وَكَانَ عَبْدًا، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، قَالَ عُرْوَةُ: فَلَوْ كَانَ حُرًّا، مَا خَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المترجم قريبًا.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقة، صحيح الكتاب، قيل: كان في آخر عمره يَهِم من حفظه [8] 2/ 2.

3 -

(هشام بن عروة) بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيه، ربما دلّس [5] 49/ [6]

4 -

(أبوه) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها -5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمروزيّ، وجرير، فرازيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 29

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: كَاتَبَتْ بَرِيرَةُ عَلَى نَفْسِهَا) أي عقدت الكتابة بينها وبين مواليها على عتق نفسها، إذا أدّت البدل (بِتِسْعِ أَوَاقٍ) هذه الرواية وهي رواية هشام عن أبيه هي المشهورة في قدر بدل الكتابة، وقد وقعت في رواية للبخاريّ علّقها من طريق الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، مخالفة لهذه الرواية، ولفظها: "إن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها، وعليها خمس أواق، نُجّمت عليها في خمس سنين

"، وقد جزم الإسماعيليّ بأن هذه الرواية غلطٌ. قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن التسع أصل، والخصى كانت بقيت عليها. وبهذا جزم القرطبيّ، والمحبّ الطبريّ، لكن يعكُرُ عليه قوله في رواية قُتيبة: "ولم تكن أدّت من كتابتها شيئًا". ويجاب بأنها كانت حصلت الأربع أواقٍ قبل أن تستعين عائشة، ثم جاءتها، وقد بقي عليها خمس. وقال القرطبيّ: يُجاب بأن الخمس هي التي كانت استحقّت عليها بحلول نجومها من جملة التسع الأواقي المذكورة في حديث هشام. ويؤيّده قوله في رواية عمرة عن عائشة عند البخاريّ في "أبواب المساجد": "فقال أهلها: إن شئت أعطيت ما يبقى". وذكر الإسماعيليّ أنه رأى في الأصل المسموع على الفربريّ في هذه الطريق أنها كاتبت على خمس أوساق، وقال: إن كان مضبوطًا، فهو يدفع سائر الأخبار. قال الحافظ: لم يقع في شيء من النسخ المعتمدة التي وقفنا عليها إلا الأواقي، وكذا في نسخة النسفيّ عن البخاريّ، وكان يمكن على تقدير صحّته أن يُجمع بأن قيمة الأوساق الخمسة تسع أواقي، لكن يعكر عليه قوله: "في خمس سنين"، فيتعيّن المصير إلى الجمع الأول. انتهى

(1)

.

(فِي كُلِّ سَنَةٍ بِأوقِيَّةٍ) هكذا النسخ بالباء، والظاهر أن الباء زائدة، ويؤيّده أن في هامش "الكبرى" ما يشير إلى أن في بعض النسخ إسقاطَ الباء، فيكون "أوقية" مبتدأ مؤخّرًا، خبره "في كلّ سنة"، ويحتمل أن يتعلّق الجارّان بفعل مقدّر دلّ عليه السابق: أي كاتبتهم في كلّ سنة باقية. و"الأوقيّة": أربعون درهما (فَأَتَتْ عَائِشَةَ تَسْتَعِينُهَا) أي تطلب عونها في بدل الكتابة (فَقَالَتْ:) عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - (لَا) أي لا أفعل ذلك، وهو العون الذي طلبته (إِلاَّ أَنْ يَشَاءُوا) أي أهل بريرة (أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً) فيه أن العدّ في الدراهم الصحاح المعلومة الوزن يكفي عن الوزن، وأن المعاملة في ذلك الوقت كانت بالأواقي، وهي أربعون درهما، كما سبق آنفًا. وزعم المحبّ الطبريّ أن أهل المدينة

(1)

"فتح" 5/ 497. "كتاب المكاتب". رقم 2560.

ص: 30

كانوا يتعاملون بالعدّ إلى مقدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم أُمروا بالوزن. وفيه نظر؛ لأن قصّة بريرة متأخّرة عن مقدمه صلى الله عليه وسلم بنحو ثمان سنين، لكن يحتمل قول عائشة:"أعدّها لهم عدّة واحدة": أي أدفعها لهم، وليس مرادها حقيقة العدّ، ويؤيّده قولها في طريق عمرة:"أن أصُبّ لهم ثمنكِ صبّةً واحدةً". قاله في "الفتح"(وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِي) وفي رواية للبخاريّ: "فإن أحبّوا أن أقضي عنك كتابتك، ويكون ولاؤك لي فعلتُ". قال في "الفتح": وظاهره أن عائشة طلبت أن يكون الولاء لها إذا بذلت جميع مال الكتابة، ولم يقع ذلك، إذ لو وقع ذلك لكان اللوم على عائشة بطلبها ولاء من أعتقها غيرها، وقد رواه أبو أسامة، عن هشام بلفظ يزيل الإشكال، فقال بعد قوله:"أن أعدّها لهم عدّة واحدة، وأُعتقك، ويكون ولاؤك لي فعلت"، وكذلك رواه وهيب، عن هشام، فعرف بذلك أنها أرادت أن تشتريها شراء صحيحًا، ثم تُعتقها، إذ العتق فرع ثبوت الملك. ويؤيّده قوله في بقيّة حديث الزهريّ:"ابتاعي، فأعتقي"، وهو يفسّر قوله في رواية مالك، عن هشام:"خذيها"، ويوضّح ذلك أيضًا قوله في طريق أيمن:"دخلت عليّ بريرة، وهي مكاتبة، فقالت: اشتريني، وأعتقيني، قالت: نعم"، وقوله في حديث عمر:"أرادت عائشة أن تشتري جارية، فتُعتقها". وبهذا يتجه الإنكار على موالي بريرة، إذ وافقوا عائشة على بيعها، ثمّ أرادوا أن يشترطوا أن يكون الولاء لهم. ويؤيّده قوله في رواية أيمن:"قالت: لا تبيعوني حتى تشترطوا ولائي". وفي رواية الأسود، عن عائشة:"اشتريت بريرةَ لأعتقها، فاشترط أهلها ولاءها". انتهى

(1)

.

(فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ، فَكَلَّمَتْ فِي ذَلِكَ) أي فيما قالته عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَهْلَهَا)، المراد بالأهل هنا السادة، والأهل في الأصل الآل، وفي الشرع من تلزمه نفقته على الأصحّ عند الشافعيّة. قاله في "الفتح"

(2)

(فَأَبَوْا عَلَيْهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ، فَجَاءَتْ إِلَى عَائِشَةَ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ) أي عند مجيئها إلى عائشة، راجعةً من أهلها بعد رفضهم ما قالته عائشة (فَقَالَتْ: لَهَا) أي قالت بريرة لعائشة - رضي اللَّه تعالى عنهما - (مَا قَالَ أَهْلُهَا) من اشتراط ولائها لهم (فَقَالَتْ: لَا) أي لا أشتري، ولا أعُدّ الدراهم (هَا اللَّهِ) كدمة "ها" بدل من واو القسم، وما بعدها مجرور، يقال:"ها اللَّهِ" موضع "واللَّه" بقطع الهمزة، مع إثبات ألفها، وحذفه (إِذًا) أي إذا شرطوا الولاء لأنفسهم.

[فائدة]: قال السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرحه": قد تكلّم الناس قديمًا وحديثًا

(1)

"فتح" 8/ 499. "كتاب المكاتب".

(2)

8/ 499. "كتاب المكاتب".

ص: 31

على هذه اللفظة، وقالوا: إنّ المحدّثين يروونها هكذا، وأنه خطأ، والصواب: لا ها اللَّه ذا، بإسقاط الألف من "ذا"، وقد ألّفتُ في ذلك تأليفًا حسنًا، وأودعته برُمّته في كتاب "إعراب الحديث" انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: دعوى الغلط والتصحيف على المحدّثين، مع كثرة وقوعه في الأحاديث، اتباعًا لقول بعض النحاة غير صحيح، بل التركيب هذا فصيح، وتوجيهه واضح، كما قال بعض المحقّقين.

وأحسن من لَخّص أقوال العلماء في ذلك، واستوفى البحث حقّه، بإيجاز هو الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح البخاري" في شرحه حديثَ أبي قتادة رضي الله عنه

(2)

، فقال -عند شرح قوله:"فقال أبو بكر الصدّيق: لا ها اللَّه، إذا لا يعمد إلى أسد من أُسُد اللَّه، يقاتل عن اللَّه ورسوله، فيُعطيك سلبه" -:

ما نصّه: هكذا ضبطناه في الأصول المعتمدة من "الصحيحين"، وغيرهما بهذه الأحرف:"لا ها اللَّه إذا"، فأما "لا ها اللَّه"، فقال الجوهريّ: ها للتنبيه، وقد يُقسم بها، يقال: لا ها اللَّه، ما فعلت كذا.

قال ابن مالك: فيه شاهدٌ على جواز الاستغناء عن واو القسم بحرف التنبيه، قال: ولا يكون ذلك إلا مع "اللَّه"، أي لم يُسمع "لا ها الرحمن"، كما سُمع "لا والرحمن"، قال: وفي النطق بها أربعة أوجه:

[أحدها]: ها اللَّه باللام بعد الهاء بغير إظهار شيء من الألفين.

[ثانيها]: مثله، لكن بإظهار ألف واحدة بغير همز، كقولهم:"التقت حلقتا البطان".

(1)

"زهر الربى" 69/ 164 - 165. والكتاب الذي أشار إليه هو كتابه "عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد"، راجعه ج2 ص185.

(2)

هو ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، ونصه في "كتاب المغازي":

4322 -

حدثنا عبد اللَّه بن يوسف، أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمر بن كثير بن أفلح، عن أبي محمد، مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلاً من المشركين، قد علا رجلاً من المسلمين، فضربته من وراثه، على حَبْل عاتقه بالسيف، فقطعت الدرع، وأقبل علي، فضمني ضمة، وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت، فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب، فقلت: ما بال الناس؟، قال: أمر اللَّه عز وجل، ثم رجعوا، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"من قتل قتيلا، له عليه بينة، فله سلبه"، فقلت: من يشهد لي، ثم جلست، قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقمت، فقلت: من يشهد لي، ثم جلست، قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم مثله، فقمت، فقال:"مالك يا أبا قتادة؟ "، فأخبرته، فقال رجل: صدق، وسلبه عندي، فَأَرْضِهِ مني، فقال أبو بكر: لاها اللَّه، إذا لا يعمد إلى أسد من أسد اللَّه، يقاتل عن اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيعطيك سلبه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"صدق، فأعطه"، فأعطانيه، فابتعت به مخرفا ني بني سَلِمَةَ، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام.

ص: 32

[ثالثها]: ثبوت الألفين بهمزة قطع.

[رابعها]: بحذف الألف، وثبوت همزة القطع انتهى كلامه. والمشهور في الرواية من هذه الأوجه الثالث، ثمّ الأول.

وقال أبو حاتم السجستانيّ: العرب تقول: "لا هأ اللَّه ذا" بالهمز، والقياس ترك الهمزة. وحكى ابن التين عن الداوديّ أنه روى برفع "اللَّه"، قال: والمعنى يأبى اللَّه.

وقال غيره: إن ثبت الرواية بالرفع فتكون "ها" للتنبيه، و"اللَّه " مبتدأ، و"لا يعمد" خبره انتهى. ولا يخفى تكلّفه. وقد نقل الأئمّة الاتفاق على الجرّ، فلا يلتفت إلى غيره.

وأما "إذا" فثبتت في جميع الروايات المعتمدة، والأصول المحقّقة من "الصحيحين"، وغيرهما بكسر الألف، ثمّ ذال معجمة منوّنة. وقال الخطّابيّ: هكذا يروونه، وإنما هو في كلامهم -أي العرب- لا ها اللَّه ذا، والهاء فيه بمنزلة الواو، والمعنى: لا واللَّهيكون ذا. ونقل عياض فيم "المشارق" عن إسماعيل القاضي أن المازنيّ قال: قول الرواة: "لا ها اللَّه إذا" خطأٌ، والصواب: لا ها اللَّه ذا، أي يميني وقسمي. وقال أبو زيد: ليس في كلامهم لا ها اللَّه إذا، وإنما هو لا ها اللَّه ذا، و"ذا" صلة في الكلام، والمعنى لا واللَّه، هذا ما أقسم به، ومنه أخذ الجوهريّ، قال: قولهم: لا ها اللَّه ذا، معناه لا واللَّه هذا، ففرقوا بين حرف التنبيه والصلة، والتقدير لا واللَّه ما فعلت ذا. وتوارد كثير ممن تكلّم على هذا الحديث أن الذي وقع في الخبر بلفظ "إذًا" خطأٌ، وإنما هو "ذا" تبعًا لأهل العربيّة، ومن زعم أنه ورد في شيء من الريات بخلاف ذلك، فلم يصب، بل يكون ذلك من إصلاح بعض من قلّد أهل العربية في ذلك. وقد اختلف في كتابة "إذًا" هذه، هل تُكتب بألف، أو بنون. وهذا الخلاف مبنيّ على أنها اسم، أو حرف، فمن قال: هي اسم، قال: الأصل فيمن قيل له: سأجيء إليك، فأجاب إذا أكرمك، أي إذا جئتني أكرمك، ثم حذف "جئتني"، وعوّض عنها التنوين، وأُضمرت "أن"، فعلى هذا يكتب بالنون. ومن قال: هي حرف -وهم الجمهور- اختلفوا، فمنهم من قال: هي بسيطةٌ، وهو الراجح، ومنهم من قال: مركّبةٌ من "ذا"، و"إن"، فعلى الأول تكتب بألف، وهو الراجح، وبه وقع رسم المصاحف. وعلى الثاني تكتب بنون. واختلف في معناها، قال سيبويه: معناها الجواب والجزاء، وتبعه جماعةٌ، فقالوا: هي حرف جواب يقتضي التعليل. وأفاد أبو عليّ الفارسيّ أنها قد تتمحّض للجواب، وأكثر ما تجيء جوابًا لـ "لو"، و"إن"، ظاهرًا، أو مقدّرًا، فعلى هذا لو ثبتت الرواية بلفظ "إذا" لاختلّ نظم الكلام؛ لأنه يصير هكذا: لا، واللَّه، إذًا لا يعمِد إلى أسد الخ، وكان حقّ السياق أن يقول: إذا يعمد، أي لو أجابك إلى ما طلبتَ لعمد إلى أسد الخ. وقد ثبتت

ص: 33

الرواية بلفظ: "لا يعمد الخ"، فمن ثمّ ادّعى من ادّعى أنها تغيير، ولكن قال ابن مالك: وقع في الرواية "إذًا" بألف وتنوين، وليس ببعيد. وقال أبو البقاء: هو بعيد، ولكن يمكن أن يوجّه بأن التقدير: لا واللَّه لا يعطي إذًا، يعني، ويمكن لا يعمد الخ تأكيدًا للنفي المذكور، وموضّحًا للسبب فيه. وقال الطيبيّ: ثبت في الرواية "لا ها اللَّه إذًا"، فحمله بعض النحويين على أنه من تغيير بعض الرواة؛ لأن العرب لا تستعمل لا ها اللَّه بدون "ذا"، وإن سلّم استعماله بدون "ذا"، فليس هذا موضع "إذًا"؛ لأنها حرف جزاء، والكلام هنا على نقيضه، فإن مقتضى الجزاء أن لا يذكر "لا" في قوله:"لا يعمد"، بل كان يقول: إذًا يعمد إلى أسد الخ ليصحّ جوابًا لطلب السلب، قال: والحديث صحيح، والمعنى صحيح، وهو كقوله لمن قال لك افعل كذا، فقلت له: واللَّه إذًا لا أفعل، فالتقدير إذًا، واللَّه لا يعمد إلى أسد الخ، قال: ويحتمل أن تكون "إذًا" زائدة، كما قال أبو البقاء: إنها زائدة في قوله الحماسيّ:

إِذَا لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ

في جواب قوله:

لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تُسْتَبَحْ إِبِلِي

قال: والعجب ممن يعتني بشرح الحديث، ويقدّم نقل بعض الأدباء على أئمّة الحديث، وجهابذته، وُينسبون إليهم الخطأ والتصحيف، ولا أقول: إن جهابذة المحدّثين أعدل، وأتقن في النقل، إذ يقتضي المشاركة بينهم، بل أقول: لا يجوز العدول عنهم في النقل إلى غيرهم.

وقد سبقه إلى تقرير ما وقع في الرواية، ورد ما خالفها الإمام أبو العبّاس القرطبيّ في "المفهم"، فنقل ما تقدّم عن أئمّة العربيّة، ثم قال: وقع في رواية العُذْريّ، والهوزنيّ في مسلم:"لا ها اللَّه ذا" بغير ألف ولا تنوين، وهو الذي جزم به من ذكرناه، قال: والذي يظهر لي أن الرواية المشهورة صوابٌ، وليست بخطأٌ، وذلك أن هذا الكلام وقع على جواب إحدى الكلمتين للأخرى، والهاء هي التي عوض بها عن واو القسم، وذلك لأن العرب تقول في القسم:"آاللَّه لأفعلنّ" بمدّ الهمزة، وبقصرها، فكأنهم عوضوا عن الهمزة "ها"، فقالوا:"ها اللَّه"؛ لتقارب مخرجيهما، وكذلك قالوا بالمدّ والقصر، وتحقيقه أن الذي مدّ مع الهاء كأنه نطق بهمزتين، أَبدل من إحداهما ألفًا؛ استثقالاً لاجتماعهما، كما تقول: آاللَّه، والذي قصر كأنه نطق بهمزة واحدة، كما تقول: اللَّه. وأما "إذًا"، فهي بلا شكّ حرف جواب وتعليل، وهي مثل التي وقعت في قوله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال:"أينقص الرُّطَب إذا جفّ؟ "، قالوا: نعم، قال:

ص: 34

"فلا إذن"، فلو قال: فلا واللَّه إذًا، لكان مساويًا لما وقع هنا، وهو قوله:"لا ها اللَّه إذًا" من كلّ وجه، لكنه لم يحتج هناك إلى القسم، فتركه. قال: فقد وضح تقرير الكلام، ومناسبته، واستقامته معنىً، ووضعًا، من غير حاجة إلى تكلّف بعيد، يخرج عن البلاغة، ولا سيّما من ارتكب أبعد، وأفسد، فجعل "ها" للتنبيه، و"ذا" للإشارة، وفصل بينهما بالمقسم به. قال: وليس هذا قياسًا، فيطّرد، ولا فصيحًا، فيحمل عليه الكلام النبويّ، ولا مرويًّا برواية ثابتة. قال: وما وُجد للعذريّ، وغيره، فإصلاح من اغترّ بما حكي عن أهل العربية، والحقّ أحقّ أن يتّبع.

وقال بعض من أدركناه، وهو أبو جعفر الغرناطيّ، نزيل حَلَب في حاشية نسخته من البخاريّ: استرسل جماعة من القدماء في هذا الإشكال إلى أن جعلوا المخلص منه أن اتهموا الأثبات بالتصحيف، فقالوا: والصواب: "لا ها اللَّه ذا" باسم الإشارة، قال: ويا عجبًا من قوم يقبلون التشكيك على الروايات الثابتة، ويطلبون لها تأويلاً. وجوابهم أن "ها اللَّه" لا يستلزم اسم الإشارة، كما قال ابن مالك، وأما جعل "لا يعمِد" جواب "فأَرْضِهِ"، فهو سبب الغلط، وليس بصحيح ممن زعمه، وإنما هو جواب شرط مقدّر، يدلّ عليه "صدق، فأرضه"، فكأن أبا بكر قال: إذا صدق في أنه صاحب السلب إذًا لا يعمد إلى السلب، فيُعطيك حقّه، فالجزاء على هذا صحيحٌ؛ لأن صدقه سببُ أن لا يفعل ذلك. قال: وهذا واضحٌ، لا تكلّف فيه انتهى. قال الحافظ: وهو توجيه حسنٌ، والذي قبله أقعد.

ويؤيّد ما رجّحه من الاعتماد على ما ثبتت به الرواية كثرة وقوع هذه الجملة من الأحاديث:

(منها): ما وقع في حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - في قصّة بريرة لَمّا ذكرت أن أهلها يشترطون الولاء قالت: فانتهرتها، فقلت:"لا ها اللَّه إذًا". (ومنها): ما وقع في قصّة جُليبيب -بالجيم، والموحّدتين، مصغّرًا-:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب عليه امرأة من الأنصار إلى أبيها، فقال: حتّى أستأمر أمّها، قال: نعم إذًا، قال: فذهب إلى امرأته، فذكر لها، فقالت: لا ها اللَّه إذًا، وقد منعناها فلانًا" الحديث، صحّحه ابن حبّان من حديث أنس. (ومنها): ما أخرجه أحمد في "الزهد" قال: "قال مالك بن دينار للحسن، يا أبا سعيد لو لبست مثل عباءتي هذه، قال: لا ها اللَّه إذًا ألبس مثل عباءتك هذه"، وفي "تهذيب الكمال" في ترجمة ابن أبي عتيق:"أنه دخل على عائشة في مرضها، فقال: كيف أصبحت جعلني اللَّه فداك؟ قالت: أصبحت ذاهبة، قال: فلا إذًا، وكان فيه دُعابة". ووقع في كثير من الأحاديث في سياق الإثبات بقسم، وبغير قسم، فمن ذلك

ص: 35

في قصّة جُلَيبيب. (ومنها): حديث عائشة في قصّة صفيّة لَمّا قال صلى الله عليه وسلم: "أحابستنا هي؟ وقال: إنها طافت بعد ما أفاضت، فقال: فلتنفر إذًا". (ومنها): حديث عمرو بن العاص وغيره في سؤاله عن أحبّ الناس "فقال: عائشة، فقال: لم أعن النساء؟، قال: فأبوها إذًا". (ومنها): حديث ابن عباس في قصّة الأعرابيّ الذي أصابته الحمّى، فقال:"بل حمّى تفور، على شيخ كبير، تُزيره القبور، قال: فنعم إذًا". (ومنها): ما أخرجه الفاكهيّ من طريق سفيان قال: "لقيت ليطة بن الفرزدق، فقلت: أسمعت هذا الحديث من اْبيك؟ قال: أي ها اللَّه إذًا، سمعت أبي يقوله"، فذكر القصّة. (ومنها): ما أخرجه عبد الرزاق، عن ابن جُريج، قال:"قلت لعطاء: أرأيت لو أني فرغت من صلاتي، فلم أرض كمالها، أفلا أعود لها؟ قال: بلى ها اللَّه إذًا". قال الحافظ: والذي يظهر من تقدير الكلام بعد أن تقرّر أن "إذا" حرف جواب وجزاء أنه كانه قال: إذًا واللَّه أقول لك: نعم، وكذا في النفي كانه أجابه بقوله: إذًا واللَّه لا نعطيك، إذا واللَّه لا أشترط، إذا واللَّه لا ألبس، وأخر حرف الجواب في الأمثلة كلّها. وقد قال ابن جريج في قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} : فلا يؤتون الناس إذًا، وجعل ذلك جوابًا عن عدم النصيب بها، مع أن الفعل مستقبل. وذكر أبو موسى المدينيّ في "المغيث، له في قوله تعالى:{وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} إذًا قيل: هو اسم بمعنى الحروف الناصبة، وقيل: أصله إذًا الذي هو من ظروف الزمان، وإنما نوّن للفرق، ومعناه حينئذ: أي إن أخرجوك من مكة، فحينئذ لا يلبثون خلفك إلا قليلاً. وإذا تقرّر ذلك أمكن حمل ما ورد من هذه الأحاديث عليه، فيكون التقدير: لا واللَّه حينئذ، ثم أراد بيان السبب في ذلك، فقال: لا يعمد الخ. واللَّه أعلم.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وإنما أطلت في هذا الموضع لأنني منذ طلبت الحديث، ووقفت على كلام الخطّابيّ وقعت عندي نفرةٌ للإقدام على تخطئة الروايات الثابتة، خصوصًا ما في "الصحيحين"، فما زلت أتطلّب الْمَخْلَصَ من ذلك إلى أن ظفرت بما ذكرته، فرأيت إثباته كلّه هنا. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

، وهو بحث نفيس جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذَا؟! ") وفي رواية: "فسمع بذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسألني، فأخبرته". وفي رواية مالك، عن هشام:"فجاءت من عندهم، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالسٌ، فقال: إني عرضتُ عليهم، فأبوا، فسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم".

(1)

"فتح" 8/ 356 - 359 "كتاب المغازي".

ص: 36

وفي رواية: "فسمع بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو بلغه"، زاد في رواية:"فقال: ما شأن بريرة؟ ". وفي رواية عند مسلم، وابن خزيمة:"فجاءتني بريرة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم جالسٌ، فقالت لي فيما بيني وبينها: ما أراد أهلها، فقلت: لا ها اللَّه إذًا، ورفعت صوتي، وانتهرتها، فسمع ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسألني، فأخبرته"، لفظ ابن خزيمة. قاله في "الفتح" (فَقَالَتْ:: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بَرِيرَةَ أَتَتْنِي، تَسْتعِينُ بِي عَلَى كِتَابَتِهَا، فَقُلْتُ: لَا، إِلاَّ أَنْ يَشَاءُوا أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً، وَيكُونُ الْوَلاءُ لِي، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِأَهْلِهَا، فَأَبَوْا عَلَيْهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"ابْتَاعِيهَا" وفي رواية: "خذيها، فأعتقيها". وفي رواية: "ابتاعي، فأعتقي"، وفي حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -:"لا يمنعك ذلك"(وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلَاءَ) قال ابن عبد البرّ، وغيره: كذا رواه أصحاب هشام، عن عروة، وأصحاب مالك، عن هشام، واستُشكل صدور الإذن منه صلى الله عليه وسلم في البيع على شرط فاسدٍ، واختلف العلماء في ذلك: فمنهم من أنكر الشرط في الحديث، فروى الخطّابي في "المعالم" بسنده إلى يحيى بن أكثم أنه أنكر ذلك. وعن الشافعيّ في "الأمّ" الإشارة إلى تضعيف رواية هشام المصرّحة بالاشتراط؛ لكونه انفرد بها، دون أصحاب أبيه، وروايات غيره قابلة للتأويل. وأشار غيره إلى أنه رَوَى بالمعنى الذي وقع له، وليس كما ظنّ. وأثبت آخرون، وقالوا: هشام ثقةٌ حافظٌ، والحديث متّفقٌ على صحّته، فلا وجه لردّه. ثمّ اختلفوا في توجيهها: فزعم الطحاويّ أن المزنيّ حدّث به عن الشافعيّ بلفظ "وأشرطي دا بهمزة قطع، بغير تاء مثنّاة، ثمّ وجّهه بأنّ معناه: أظهري لهم حكم الولاء، والإشراط الإظهار، قال أوس بن حجر:

فَأَشْرَطَ فِيهَا نَفْسَهُ وَهُوَ مُعْصِمٌ

(1)

أي أظهر نفسه انتهى. وأنكر غيره الرواية. والذي في "مختصر المزنيّ"، و"الأمّ"، وغيرهما عن الشافعيّ كرواية الجمهور:"واشترطي" بصيغة أمر المؤنّث من الشرط، ثمّ حكى الطحاويّ أيضًا تأويل الرواية التي بلفظ "اشترطي"، وأن اللام في قوله:"اشترطي لهم " بمعنى "على"، كقوله تعالى:{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} ، وهذا المشهور عن المزنيّ، وجزم به الخطّابيّ، وهو صحيحٌ عن الشافعيّ، أسنده البيهقيّ في "المعرفة" من طريق أبي حاتم الرازيّ، عن حرملة، عنه. وحكى الخطّابيّ، عن ابن خزيمة أن قول يحيى بن اْكثم غلطٌ، والتأويل المنقول عن المزنيّ لا يصحّ.

وقال النوويّ: تأويل اللام بمعنى "على" هنا ضعيف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أنكر الاشتراط، ولو

(1)

صدر بيت من "الطويل"، وعجزه: وَأَلْقَى بِأَسْبَابٍ لَهُ وَتَوَكَّلَا راجع "لسان العرب" في مادّة "شرط".

ص: 37

كانت بمعنى "على" لم يُنكره.

فإن قيل: ما أنكر إلا إرادة الاشتراط في أوّل الأمر. فالجواب أن سياق الحديث يأبى ذلك. وضعّفه أيضًا ابن دقيق العيد، وقال: اللام لا تدلّ بوضعها على الاختصاص النافع، بل على مطلق الاختصاص، فلا بُدّ في حملها على ذلك من قرينة.

وقال آخرون: الأمر في قوله: "واشترطي"، للإباحة، وهو على وجه التنبيه على أن ذلك لا ينفعهم، فوجوده وعدمه سواء، وكأنه يقول: اشترطي، أو لا تشترطي، فذلك لا يُفيدهم. ويقوّي هذا التأويل قوله في رواية أيمن عند البخاريّ:"اشتريها، ودعيهم يشترطون ما شاؤوا". وقيل: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعلمَ الناسَ بأن اشتراط البائع الولاء باطلٌ، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى على أهل بريرة، فلما أرادوا أن يشترطوا ما تقدّم لهم العلمُ ببطلانه أطلق الأمر، مُريدًا به التهديد على مآل الحال، كقوله تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} ، وكقول موسى:{أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} ، أي فليس ذلك بنافعكم، وكأنّه يقول: اشترطي لهم، فسيعلمون أن ذلك لا ينفعهم. ويؤيّده قوله حين خطبهم:"ما بال أقوام يشترطون شروطًا الخ"، فوبّخهم بهذا القول، مشيرًا إلى أنه قد تقدّم منه بيان حكم اللَّه بإبطاله، إذ لو لم يتقدّم بيان ذلك، لبدأ ببيان الحكم في الخطبة، لا بتوبيخ الفاعل؛ لأنه كان يكون باقيًا على البراءة الأصليّة.

وقيل: الأمر فيه بمعنى الوعيد الذي ظاهره الأمر، وباطنه النهي، كقوله تعالى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} ، وقال الشافعيّ في "الأمّ": لما كان من اشترط خلاف ما قضى اللَّه ورسوله عاصيًا، وكانت في المعاصي حدودٌ، وآدابٌ، وكان من أدب العاصين أن يُعطل عليهم شروطهم ليرتدعوا عن ذلك، ويرتدع به غيرهم، كان ذلك من أيسر الأدب. وقال غيره: معنى "اشترطي": اتركي مخالفتهم فيما اشترطوه، ولا تُظهري نزاعهم فيما دعوا إليه، مراعاة لتنجيز العتق؛ لتشوّف الشارع إليه، وقد يعبّر عن الترك بالفعل، كقوله تعالى:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي نتركهم يفعلون ذلك، وليس المراد بالإذن إباحة الإضرار بالسحر. قال ابن دقيق العيد: وهذا وإن كان محتملاً، إلا أنه خارجٌ عن الحقيقة من غير دلالة على المجاز من حيث السياق. وقال النوويّ: أقوى الأجوبة أن هذا الحكم خاصّ بعائشة في هذه القضيّة، وأن سببه المبالغة في الرجوع عن هذا الشرط؛ لمخالفته حكم الشارع، وهو كفسخ الحجّ إلى العمرة، كان خاصًّا بتلك الحجّة، مبالغةً في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحجّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قوّاه النوويّ ضعيفٌ عندي؛ إذ خطبته صلى الله عليه وسلم المذكورة في الحديث تردّ هذه الدعوى، حيث عممت بإبطال كلّ شروطٍ منافية لحكم

ص: 38

الشارع. وقد تعقّبه ابن دقيق العيد بأن التخصيص لا يثبت إلا بدّليل، ولأن الشافعيّ نصٌّ على خلاف هذه المقالة.

ثمّ إن ما ذكره في فسخ الحجّ ضعيفٌ أيضًا، إذ الحقّ أن فسخ الحجّ إلى العمرة ليس خاصًّا بتلك الحجّة، بل عامّ إلى يوم القيامة، وقد تقدّم تحقيق هذه المسألة بأدلّتها في "كتاب الحجّ"، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم.

قال: ويُستفاد منه ارتكاب أخفّ المفسدتين، إذا استلزم إزالة أشدّهما. وتُعُقّب بأنه استدلالٌ بمختلف فيه على مختلف فيه.

وقال ابن الجوزيّ: ليس في الحديث أن اشتراط الولاء والعتق كان مقارنًا للعقد، فيُحمل على أنه كان سابقًا للعقد، فيكون الأمر بقوله:"اشترطي" مجرّد الوعد، ولا يجب الوفاء به. وتُعُقّب باستبعاد أنه صلى الله عليه وسلم يأمر شخصًا أن يعد مع علمه بأنه لا يفي بذلك الوعد. وأغرب ابن حزم، فقال: كان الحكم ثابتًا بجواز اشتراط الولاء لغير المعتق، فوقع الأمر باشتراطه في الوقت الذي كان جائزًا فيه، ثم نُسخ ذلك الحكم بخطبته صلى الله عليه وسلم، وبقوله:"إنما الولاء لمن أعتق"، ولا يخفى بعد ما قال، وسياق طرق الحديث يدفع في وجه هذا الجواب. واللَّه المستعان.

وقال الخطّابيّ: وجه هذا الحديث أن الولاء لَمّا كان كلُحْمة النسب، والإنسان إذا وُلد له ولدٌ ثبت له نسبه، ولا ينتقل نسبه عنه، ولو نُسب إلى غيره، فكذلك إذا أعتَقَ عبدًا ثبت له ولاؤه، ولو أراد نقل ولأئه عنه، أو أذن في نقله عنه لم ينتقل، فلم يعبأ باشتراطهم الولاء، وقيل:"اشترطي"، و"دعيهم يتشترطون ما شاؤوا"، ونحو ذلك؛ لأن ذلك غير قادحٍ في العقد، بل هو بمنزلة اللغو من الكلام، وأَخّر إعلامهم بذلك؛ ليكون ردّه، وإبطاله قولاً شهيرًا، يُخطب به على المنبر ظاهرًا، إذ هو أبلغ في النكير، وأوكد في التعبير انتهى. وهو يؤول إلى أن الأمر فيه بمعنى الإباحة، كما تقدّم. قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَإِنّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ) وفي رواية: "إنما الولاء لمن أعتق". ويستفاد منها أن كلمة "إنما" للحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عما عداه، ولولا ذلك لما لزم من إثبات الولاء للمعتق نفيه عن غيره. واستُدلّ بمفهومه على أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه رجل، أو وقع بينه وبينه محالفة؛ خلافًا للحنفيّة. ولا للملتقط، خلافًا لإسحاق.

ويستفاد من منطوقه إثبات الولاء لمن أعتق سائبة، خلافًا لمن قال: يصير ولاؤه

(1)

5/ 502 - 503. "كتاب المكاتب".

ص: 39

للمسلمين، ويدخل فيمن أعتق عتقُ المسلم للمسلم، وللكافر، وبالعكس ثبوت الولاء للمعتق. قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "إنما الولاء لمن أعتق" هذا حصرٌ للولاء على من باشر العتق بنفسه، من كان من رجلٍ، أو امرأة، من يصحّ منه العتق، ويستقلّ بتنفيذه، وقوّة هذا الكلام قوّة النفي والإيجاب، فكأنه قال: لا ولاء إلا لمن أعتق، وإياه عنى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"شرط اللَّه أوثق" في أصحّ الأقوال، وأحسنها. وقال الداوديّ: هو قوله تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]، وقال:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37]، وقال:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7].

وهو حجة على أبي حنيفة، وأصحابه القائلين بأن من أسلم على يديه رجلٌ، فولاؤه له، وبه قال الليث، وربيعة. وعلى إسحاق في حكمه بثبوت الولاء بالالتقاط. وعلى أبي حنيفة في حكمه بثبوت الولاء بالموالاة. ولمن قال: إن من أعتق عبده عن غيره، أو عن المسلمين إن ولاءه له، أعني للمعتق. وإليه ذهب ابن نافع فيمن أعتق عن المسلمين. ويلزمه فيمن أعتق عن غيره مطلقًا. وخالفه في ذلك مالك، والجمهور، متمسّكين بأن مقصود الحديث بيان حكم من أعتق عن نفسه، بدليل اتفاق المسلمين على أن الوكيل على العتق مُعتقٌ، ومع ذلك فالولاء للمعتق عنه إجماعًا، فكذلك حكم من أعتق عن الغير. وتُقدّره الشافعيّة أنه ملكه ثمّ ناب عنه في العتق. وأما المالكيّة، فإنهم قالوا: لا يحتاج إلى تقدير ذلك؛ لأنه يصحّ العتق عن الميت، وهو لا يملك. وفيه نظر، فإنه إن لم يقدّر الملك لزم منه هبة الولاء، وقد نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء، وعن هبته. وإن قدّر الملك لم يصحّ العتق عن الميت؛ لأنه لا يملك. انتهى المقصود من كلام القرطبيّ

(2)

.

(ثُمَّ قَامَ) صلى الله عليه وسلم (فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ) وفي رواية: "أما بعد، فمال أقوام

" أي ما حالهم؟ (يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا، لَيْسَتْ فِي كِتَاب اللَّهِ عز وجل) المراد بما ليس في كتاب اللَّه: ما خالف كتاب اللَّه. وقال ابن بطّال. المراد بكتاب اللَّه هنا حكمه، من كتابه عز وجل، أو سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع الأمّة. وقال ابن خزيمة: ليس في كتاب اللَّه: أي ليس في حكم اللَّه جوازه، أو وجوبه، لا أن كلّ من شرط شرطًا لم ينطق به الكتاب يبطل؛ لأنه قد يشترط في البيع الكفيل، فلا

(1)

"فتح" 5/ 503. "كتاب العتق".

(2)

"المفهم" 4/ 328329. "كتاب العتق".

ص: 40

يبطل الشرط، ويشترط في الثمن شروط من أوصافه، أو من نجومه، ونحو ذلك، فلا يبطل.

وقال النوويّ: قال العلماء: الشروط في البيع ونحوه أقسام:

[أحدها]: شرط يقتضيه إطلاق العقد، بأن شرط تسليمه إلى المشتري، أو تبقية الثمرة على الشجرة إلى أوان الجداد، أو الردّ بالعيب.

[الثاني]: شرط فيه مصلحةٌ، وتدعو إليه الحاجة، كاشتراط الرهن، والضمين، والخيار، وتأجيل الثمن، ونحو ذلك، وهذان القسمان جائزان، ولا يؤثّران في صحّة العقد، بلا خلاف.

[الثالث]: اشتراط العتق في العبد المبيع، أو الأمة، وهذا جائزٌ أيضًا عند الجمهور؛ لحديث عائشة، وترغيبًا في العتق؛ لقوّته، وسرايته.

[الرابع]: ما سوى ذلك من الشروط، كشرط استثناء منفعة، وشرط أن يبيعه شيئًا آخر، أو يكريه داره، أو نحو ذلك، فهذا شرط باطلٌ، مبطلٌ للعقد. هكذا قال الجمهور. وقال أحمد: لا يبطله شرط واحد، وإنما يبطله شرطان. واللَّه أعلم انتهى كلام النوويّ

(1)

.

وقال القرطبيّ: قوله: "ليس في كتاب اللَّه"، أي ليس مشروعًا في كتاب اللَّه تأصيلاً، ولا تفصيلاً. ومعنى هذا أنّ من الأحكام، والشروط ما يؤخذ تفصيلها من كتاب اللَّه، كالوضوء، وكونه شرطّا في صحّة الصلاة. ومنها ما يوجد فيه أصله، كالصلاة، والزكاة، فإنهما فيه مجملتان. ومنها ما يوجد أصل أصله، وهو كدلالة الكتاب على أصليّة السنة، والإجماع، والقياس، فكلّ ما يُقتبسُ من هذه الأصول تفصيلاً فهو مأخوذ من كتاب اللَّه تاصيلاً.

وعلى هذا: فمعنى الحديث أن ما كان من الشروط مما لم يدلّ على صحّته دليلٌ شرعيّ كان باطلاً، أي فاسدًا مردودًا. وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ". متّفقٌ عليه.

وفي هذا من الفقه ما يدلّ على أن العقود الشرعيّة إذا قارنها شرطٌ فاسدٌ بطل ذلك الشرط خاصّةً، وصحّ العقد. لكن هذا إنما يكون إذا كان ذلك الشرط خارجًا عن أركان العقد، كاشتراط الولاء في الكتابة، واشتراط السلف في البيع، فلو كان ذلك الشرط مُخلاًّ بركن من أركان العقد، أو مقصودًا، فُسخ العقد والشرط. انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

(1)

"شرح مسلم" 10/ 381. "كتاب العتق".

(2)

"المفهم" 4/ 326 - 327. "كتاب العتق".

ص: 41

(يَقُولُونَ: أَعْتِقْ فُلَانًا، وَالْوَلَاءُ لِي، كِتَابُ اللَّهِ عز وجل أَحَقُّ) أي بالاتباع من الشروط المخالفة له. وقال القرطبيّ: أي حكم اللَّه، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر -لما قال له الخصم: اقض بيننا بكتاب اللَّه تعالى - فقال: "لأقضينّ بينكما بكتاب اللَّه"، ثم قضى على الزاني البكر بالجلد والتغريب، وعلى الزانية بالرجم، وليس الرجم، والتغريب موجودين في كتاب اللَّه تعالى، لكن في حكهم اللَّه المسمّى بالسنّة، وكذلك اختصاص الولاء بالمعتِق ليس موجودًا في كتاب اللَّه، لكن في حكم اللَّه به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم

مما يُسمّى سنّة انتهى

(1)

.

(وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ) أي باتباع حدوده التي حدّها، وليس أفعل التفضيل هنا على حقيقتها، إذ لا مشاركة بين الحقّ والباطل، وقد وردت صيغة "أفعل" لغير التفضيل كثيرًا. ويحتمل أن يُقال: ورد ذلك على ما اعتقدوه من الجواز. قاله في "الفتح"

(2)

.

(وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ) أي في حكمه سبحانه وتعالى (فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ") قال النوويّ: معنى قوله: "ولو مائة شرط" أي لو شرط مائة مرّة توكيدًا، فهو باطلٌ. ويؤيّده قوله في الرواية الأخيرة:"وإن شرط مائة مرّة"، وإنما حمله على التأكيد؛ لأن العموم في قوله:"كلّ شرط"، وفي قوله:"من اشترط شرطًا" دالّ على بطلان جميع الشروط المذكورة، فلا حاجة إلى تقييدها بالمائة، فإنها لو زادت عليها كان الحكم كذلك لما دلّت عليها الصيغة. نعم طريق أيمن، عن عائشة عند البخاريّ:"بلفظ: "فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: الولاء لمن أعتق، وإن اشترطوا مائة شرط"، وإن احتمل التأكيد، لكنه ظاهر في أن المراد به التعدّد، وذكر المائة على سبيل المبالغة. وقال القرطبيّ: قوله: "ولو كان مائة شرط" خرج مخرج التكثير، يعني أن الشروط الغير المشروعة باطلة، ولو كثرت، ويُفيد دليل خطابه أن الشروط المشروعة صحيحة، كما قد نصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "المؤمنون على شروطهم، إلا شرطًا أحلّ حرامًا، أو حرّم حلالاً". أخرجه الترمذيّ من حديث عمرو بن عوف، وقال: حديث حسن انتهى

(3)

.

(فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَوْجِهَا، وَكَانَ عَبْدًا، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، قَالَ: عُرْوَةُ: فَلَوْ كَانَ حُرًّا، مَا خَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) تقدَّم شرح ما يتعلّق بهذا الجزء قبل باب. والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3479 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

"المفهم" 4/ 327.

(2)

"فتح" 5/ 503. "كتاب العتق".

(3)

"المفهم" 4/ 327.

ص: 42

وُهَيْبٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"وُهيب": هو ابن خالد. و"عُبيد اللَّه بن عمر": هو العمريّ المدنيّ الفقيه. و"يزيد بن رُومان": هو المدنيّ مولى آل الزبير ثقة [5] 17/ 1537.

والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3480 -

(أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ، مِنْ أُنَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَاشْتَرَطُوا الْوَلَاءَ، فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَاءُ لِمَنْ وَلِيَ النِّعْمَةَ» ، وَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا، وَأَهْدَتْ لِعَائِشَةَ لَحْمًا، فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ وَضَعْتُمْ لَنَا مِنْ هَذَا اللَّحْمِ» ، قَالَتْ عَائِشَةُ: تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلّهم رجال الصحيح. و"حُسين": هو ابن عليّ الْجُعفيّ. و"زائدة": هو ابن قُدامة. و"سماك": هو ابن حرب.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى" التي بين يديّ إسقاط قوله: "عن أبيه"، والصواب إثباته؛ لأن عبد الرحمن لا يروي عن عائشة، وإنما يروي عن أبيه، عنها، وقد وقع على الصواب في "الكبرى" 3/ 366 - رقم -5647 - وكذا في "تحفة الأشراف" 12/ 268 - 269. فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "من ولي النعمة" أي لمن ولي نعمة الإعتاق. والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3481 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ الْكَرْمَانِيُّ

(1)

، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ: وَكَانَ وَصِيَّ أَبِيهِ، قَالَ: وَفَرِقْتُ أَنْ أَقُولَ: سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِيكَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ بَرِيرَةَ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهَا، وَاشْتُرِطَ الْوَلَاءُ لأَهْلِهَا، فَقَالَ:«اشْتَرِيهَا، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، قَالَ: وَخُيِّرَتْ، وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: مَا أَدْرِي

(2)

،

(1)

"الكِرْمَانِيّ" بكسر الكاف، وسكون الراء: نسبة إلى كِرْمَان ولاية كبيرة، تشتمل على عدّة بلدان. أفاده في "لب اللباب" جـ2 ص206.

(2)

وفي "الكبرى": "ما أدري، ما أدري" بالتكرار.

ص: 43

وَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ، فَقَالُوا: هَذَا مِمَّا تُصُدّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، قَالَ:"هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه -وهو المعروف أبوه بابن عليّة- فإنه من أفراده، وهو ثقة حافظ. و"يحيى بن أبي بكير": اسم أبيه نَسْر -بفتح النون، وسكون السين المهملة -وهو كوفيّ الأصل، نزيل بغداد، من رجال الجماعة.

وقوله: "قال: وكان وصيّ أبيه" الظاهر أن فاعل "قال" ضمير شعبة، أي قال شعبة: كان عبد الرحمن بن القاسم وصيّ أبيه، أي أوصى إليه أبوه بالقيام بشأن أولاده، وتدبير أحوالهم؛ حيث كان أكبر أولاده، فيكون قوله:"عن عائشة" معترضًا.

وقوله: "وفرِقتُ" بتاء المتكلّم هو من تتمّة كلام شعبة، وهو بكسر الراء، يقال: فرِق من الشيء، من باب تَعِبَ: إذا خاف منه.

وقوله: "هل سمعتَهُ" بفتع التاء؛ لأنها تاء خطاب، فما وقع في النسخ المطبوعة من ضبطها بالضمّ ضبطَ قلم غلط فليُتنبّه. ومعناه: أن شعبة خاف أن يسأل عبد الرحمن بن القاسم أن يسأله هل سمع هذا الحديث من أبيه، أم لا؟.

وقولها: "وأردتُ أن أشتريها" جملة في حلّ نصب على الحال من فاعل "سألتُ". وقولها: "واشتُرط الولاء لأهلها" ببناء الفعل للمفعول جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "أشتريها".

وقوله: "قال: وخُيّرت، وكان زوجها عبدًا" ببناء "خُيّرت" للمفعول، والقائل هو عبد الرحمن: يعني أن عبد الرحمن بن القاسم، قال: وخُيّرت بريرة حينما أُعتقت، وكان زوجها وقت التخيير عبدًا.

وقوله: "ثم قال بعد ذلك: ما أدري" أي قال عبد الرحمن بعد أن حدّث أن زوجها كان عبدًا، لا أعلم أكان زوجها عبدًا، أم حرًّا، ومعنى ذلك أنه شكّ في كونه عبدًا بعد ما حدّث بالجزم أنه عبدٌ، والمعتبر في هذا جزمه السابق؛ لأن الشكّ الطارئ لا يرفعه، ولا سيّما وقد وافقه عليه عروة، وهو أتقن من روى عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -.

[تنبيه]: وقع في رواية المصنّف هنا من طريق يحيى بن أبي بُكير، عن شعبة:"وكان زوجها عبدًا".

والذي في "صحيح البخاريّ" عن محمد بن بشّار، عن غندر، عن شعبة: قال عبد الرحمن: زوجها حرٌّ، أو عبد، قال شعبة: سألت عبد الرحمن عن زوجها؟ قال: لا أدري، أحرّ، أم عبد انتهى.

ص: 44

والذي في "صحيح مسلم" عن محمد بن المثنى، عن محمد بن جعفر، عن شعبة في هذا الحديث:"فقال عبد الرحمن: وكان زوجها حرًّا، قال شعبة: ثم سألته عن زوجها؟ فقال: لا أدري" انتهى.

والظاهر أن عبد الرحمن كان متردّدًا، فمرّة يقول حرّ، ومرّة يقول: عبدٌ، ومرّة يقول: لا أدري، وقد تقدّم أن المحفوظ أنه كان عبدًا، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌32 - (بَابُ الإِيلَاءِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الإيلاء": في اللغة هو الحلف، يقال: آلى يولي إيلاءً: أي حلف، ويقال: تألّى تألّيًا، وائتلاءً، وهو في الشرع: الحلف على الامتناع من وطء الزوجة بيمين يلزم بها حكمٌ أكثر من أربعة أشهر بمدّة مؤثّرة. قاله القرطبيّ

(1)

.

وقال ابن قُدامة: الإيلاء في اللغة: الحَلِف، يقال: آلى يولي إيلاءً، وأَلِيّةً، وجمع الأَلِيّة ألايا، بالتخفيف، مثلُ عطيّة وعَطَايا، قال الشاعر [من الطويل]:

قَلِيلُ الألَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ

إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الأَلِيّةُ بَرَّتِ

فجمع بين المفرد والجمع. ويقال: تَأَلَّى يَتَأَلَّى. فأما الإيلاء في الشرع، فهو الحلف على ترك وطء المرأة. والأصل فيه قوله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] وكان أبيّ بن كعب، وابن عبّاس رضي الله عنهم يقرآن:"يُقْسِمُونَ" انتهى ببعض اختصار

(2)

.

وأخرج الطبريّ عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قرأ "الذين يولون من نسائهم" قال الفرّاء: التقدير على نسائهم، و"من" بمعنى "على". وقال غيره: بل فيه حذفٌ، تقديره: يُقسمون على الامتناع من نسائهم. قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

"المفهم" 4/ 259. "كتاب الطلاق".

(2)

"المغني" 11/ 5 "كتاب الإيلاء".

(3)

"فتح" 10/ 534.

ص: 45

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد اعترض بعضهم على الاستدلال بحديث "آلى من نسائه شهرًا" على الإيلاء المعروف عند الفقهاء؛ إذ ليس فيه أنه حلف على ترك جماعهنّ، اللَّهم إلا أن يكون على رأي من لا يشترط في الإيلاء ذكر الجماع.

قال في "الفتح": ذَكَرَ البخاريّ حديث أنس رضي الله عنه "آلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من نسائه

" الحديث -يعني الحديث الثاني من حديثي الباب هنا - وإدخاله في هذا الباب على طريقة من لا يشترط في الإيلاء ذكر الجماع.

قال: وأنكر شيخنا

(1)

في "التدريب" إدخال هذا الحديث في هذا الباب، فقال: الإيلاء المعقود له الباب حرام، يأثم به من علم بحاله، فلا تجوز نسبته إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى. وهو مبنيّ على اشتراط ترك الجماع فيه، وقد كنت أطلقت في أوائل "الصلاة"، و"المظالم" أن المراد بقول أنس رضي الله عنه:"آلى" أي حلف، وليس المراد به الإيلاء المعروف في كتب الفقهاء، ثم ظهر لي أن فيه الخلاف قديمًا، فليُقيّد ذلك بأنه على رأي معظم الفقهاء، فإنه لم يُنقل عن أحد من فقهاء الأمصار أن الإيلاء ينقعد بغير ذكر ترك الجماع إلا عن حمّاد بن أبي سليمان، شيخ أبي حنيفة، وإن كان ذلك قد ورد عن بعض من تقدّمه، كما تقدّم. وفي كونه حرامًا أيضًا خلافٌ.

وقد جزم ابن بطّال، وجماعة بأنه صلى الله عليه وسلم امتنع من جماع نسائه في ذلك الشهر. ولم أقف على نقل صريح في ذلك، فإنه لا يلزم من ترك دخوله عليهنّ أن لا تدخل إحداهنّ عليه في المكان الذي اعتزل فيه، إلا إِنْ كان المذكور من المسجد، فيتمّ استلزام عدم الدخول عليهنّ مع استمرار الإقامة في المسجد العزم على ترك الوطء؛ لامتناع الوطء في المسجد. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3482 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْفُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، قَالَ: تَذَاكَرْنَا الشَّهْرَ عِنْدَهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا: ثَلَاثِينَ، وَقَالَ بَعْضُنَا: تِسْعًا وَعِشْرِينَ، فَقَالَ أَبُو الضُّحَى: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَصْبَحْنَا يَوْمًا، وَنِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَبْكِينَ عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ أَهْلُهَا، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ مَلآنُ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: فَجَاءَ عُمَرُ رضي الله عنه، فَصَعِدَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي عُلِّيَّةٍ لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَرَجَعَ، فَنَادَى بِلَالاً، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا، فَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَ، فَدَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ).

(1)

يعني به البلقينيّ.

(2)

"فتح" 10/ 534 - 535.

ص: 46

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أحمد بن عبد اللَّه بن الحكم بن أبي فروة البصريّ) أبو الحسين الهاشميّ، المعروف بابن الكرديّ، ثقة [10] 39/ 583.

2 -

(مروان بن معاوية) أبو عبد اللَّه الفزاريّ الكوفيّ، نزيل مكّة، ثم الدمشقيّ، ثقة حافظ، وكان يدلّس أسماء الشيوخ [8] 50/ 850.

3 -

(أبو يعفور)

(1)

-بفتح التحتانيّة، وسكون المهملة، وضتم الفاء، وسكون الواو، وآخره راء-: هو عبد الرحمن بن عُبيد بن نِسْطاس الكوفيّ، ثقة [5] 17/ 1639.

4 -

(أبو الضُّحَى) مسلم بن صُبيح -بالتصغير- الهمدانيّ الكوفيّ العَطّار، مشهور بكنيته، ثقة فاضلٌ [4] 96/ 123.

5 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فبصريّ، والصحابيّ، فمدني، ثم بصريّ، ثم مكيّ، ثم طائفيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ: أبو يعفور، عن أبي الضحى. (ومنها): أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي الضُّحَى) مسلم بن صُبَيْحٍ (قَالَ) أبو يعفور، فالضمير لأبي يعفور، لا لأبي الضحى، فجملة "قال: تذاكرنا الخ" تفصيل لمعنى قوله: "حدّثنا أبو يعفور، عن أبي الضحى"، فليُتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(تَذَاكَرْنَا الشَّهْرَ) أي مدّة الشهر العربيّ، هل هو ثلاثون ليلةً، أم تسع وعشرون ليلةً (عِنْدَهُ) أي عند أبي الضحى (فَقَالَ بَعْضُنَا: ثَلَاثِينَ) بالنصب خبر لـ "يكون" محذوفًا، أي يكون ثلاثين ليلةً (وَقَالَ بَعْضُنَا: تِسْعًا وَعِشْرِينَ) أي يكون تسعًا وعشرين ليلة (فَقَالَ: أَبُو الضُّحَى: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (قَالَ) تفصيل لمجمل "حدّثنا"(أَصْبَحْنَا يَومًا، وَنِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَبْكِينَ) الواو للحال، والجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "أصبحنا"(عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ أَهْلُهَا) جملة في محلّ نصب على الحال

(1)

هو الأصغر، وأما أبو يعفور الأكبر، فاسمه واقد، وقيل: وقدان، ثقة [4] مات سنة 1220. من رجال الجماعة أيضًا.

ص: 47

من فاعل "يبكين"(فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ) أي النبويّ، فـ "ال" فيه للعهد الذهنيّ، أو الحضوري، إن كان تحديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - وقع في المسجد نفسه (فَإِذَا هُوَ مَلآنُ) غير منصرف للوصفية وزيادة الألف والنون (مِنَ النَّاسِ) هذا ظاهر في حضور ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذه القصّة، وحديثه الطويل الذي سنذكره، يشعر بأنه ما عرف القصّة إلا من عمر رضي الله عنه، لكن يحتمل أن يكون عرفها مجملة، ففصّلها عمر رضي الله عنه له لَمّا سأله عن المتظاهرتين. قاله في "الفتح"

(1)

(قَالَ) ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - (فَجَاءَ عُمَرُ) بن الخطاب (رضي الله عنه، فصَعِدَ) بكسر العين المهملة، قال في "القاموس": صَعِدَ في السُّلّم، كَسَمِعَ، صُعُودًا، وصَعْدَ في الجبل، وعليه تصعيدًا: رَقِيَ، ولم يُسمَع صَعِد فيه انتهى (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي عُلِّيَّةِ لَهُ) بكسر العين المهملة، وضمّها لغةٌ، واللام مشدّدةٌ: هي المكان العالي، وهي الغُرْفة، والأصل عِلّيْوَة، فقُلبت الواو ياء، وأدغمت فيها الياء، للقاعدة المشهورة أنه إذا اجتمعت الواو والياء في كلمة، وسبقت إحداهما بالسكون الأصليّ، وجب قُلب الواو ياء، وإدغامها في الياء، كما قال في "الخلاصة":

إِنْ يِسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاو وَيَا

وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا

فَيَاء الْوَاوَ اقْلِبَنَّ مُدْغِمَا

وَشَذَّ مُعْطًى غَيْرَ مَا قَدْ رُسِمَا

والجمع الْعَلَالِيّ

(2)

.

وزاد في رواية الإسماعليّ، من طريق عبد الرحيم بن سُليمان، عن أبي يعفور:"في غُرفة ليس عنده فيها إلا بلال".

(فَسَلَّمَ عَلَيْهِ) أي على النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ) لعله لم يُسمع تسليمه، أو ردّ عليه، لكن عمرء رضي الله عنه يسمع الجواب (ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمْ يُجِبهُ أَحَدٌ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَرَجَعَ،) أي انصرف إلى بيته، أو محلّ حاجته (فَنَاَدَى بلَالاً) هكذا في رواية المصنّف هنا، وفي "الكبرى" بنصب بلال، والظاهر أن الصواب فيه الرفع؛ لأنه الفاعل، والمفعول محذوف ضمير عمر رضي الله عنه، يدلّ على ذلك ما في "الفتح"، ونصّه: عند قول البخاريّ: "فناداه، فدخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم ": كذا في جميع الأصول التي وقفت عليها من البخاريّ بحذف فاعل "فناداه"، فإن الضمير لعمر، وهو الذي دخل، وقد وقع مبيّنًا في رواية أبي نُعيم، ولفظه بعد قوله:"فسلّم": "فلم يجبه أحدٌ، فانصرف، فناداه بلالٌ، فدخل"، ومثله للنسائيّ، لكن قال:"فنادى بلالٌ" بحذف المفعول، وهو الضمير في

(1)

"فتح" 10/ 378 "كتاب النكاح" رقم 5203.

(2)

راجع "المصباح المنير".

ص: 48

رواية غيره. وعند الإسماعيليّ: "فسلّم، فلم يُجبه أحدٌ، فانحطّ، فدعاه بلالٌ، فسلّم، ثم دخل".

فظهر بما نقله صاحب "الفتح" من رواية النسائيّ أن نسخه مختلفة، والصواب "فنادى بلالٌ" بالرفع، والمفعول محذف، أي نادى بلالٌ عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

ويحتمل تصحيح ما وقع في نسختنا بأن يكون عمر نادى بلالاً لَمّا عرف أنه عند النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليستأذن له في الدخول، لكن الأول أقرب. واللَّه تعالى أعلم.

ووقع في رواية مسلم عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه أن اسم الغلام الذي استأذن له رَبَاح، فيمكن أن يكون المراد بالحصر في رواية الإسماعيليّ المتقدّمة، حيث قال:"ليس عنده فيها إلا بلال" حصر من في داخل الغرفة، فيكون رباح قاعدًا على أُسْكُفّة الباب، وعند الإذن ناداه بلال، فأسمعه رباح، فبهذا يجتمع الخبران. كما أفاده في "الفتح".

(فَدَخَلَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) عمر رضي الله عنه (أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا، وَلَكِنِّي آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا) أي حلفت، أو أقسمت أن لا أدخل عليهنّ مدّة شهر، وليس المراد به الإيلاء الذي في عرف الفقهاء اتفاقًا. قاله في "الفتح"

(1)

. وقد تقدّم الاختلاف في سبب

إيلائه، هل هو شربه العسل عند زينب بنت جحش - رضي اللَّه تعالى عنها -، أو تحريمه جاريته مارية - رضي اللَّه تعالى عنها -، وقدّمنا أن الصحيح أن الأمرين جميعًا هما السبب في ذلك (فَمَكَثَ تِسْعَا وَعِشْرِينَ) أي من الليالي (ثُمَّ نَزَلَ) أي من تلك العلّيّة (فَدَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ).

[تنبيه]: قصّة إيلائه صلى الله عليه وسلم قد ساقه الشيخان في "صحيحيهما"، مطوّلاً، أحببت إيراده هنا؛ لأنه من رواية ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - راوي حديث الباب، ولفظ البخاريّ في "كتاب النكاح":

حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه ابن أبي ثور، عن عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما، قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب، عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، اللتين قال اللَّه تعالى:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} حتى حج، وحججت معه، وعَدَل، وعدلت معه بإداوة، فتبرز، ثم جاء، فسكبت على يديه منها، فتوضأ، فقلت له: يا أمير المؤمنين: من المرأتان، من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، اللتان قال اللَّه تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ

(1)

10/ 363 "كتاب النكاح".

ص: 49

قُلُوبُكُمَا}، قال: واعجبا لك يا ابن عباس، هما عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه، قال: كنت أنا، وجار لي من الأنصار، في بني أمية بن زيد، وهم من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل يوما، وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم، من الوحي، أو غيره، وإذا نزل، فعل مثل ذلك، وكنا معشرَ قريش، نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار، إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا، يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخبْتُ عَلَى امرأتي، فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، قالت: ولِمَ تنكر أن أراجعك، فواللَّه إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم، حتى الليل، فأفزعني ذلك، وقلت لها: قد خاب من فعل ذلك منهن، ثم جمعت عليّ ثيابي، فنزلت، فدخلت على حفصة، فقلت لها: أي حفصة، أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم، اليوم حتى الليل، قالت: نعم، فقلت: قد خِبتِ، وخسرت، أفتأمنين أن يغضب اللَّه لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم، فتهلكي، لا تستكثري النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنّكِ، أن كانت جارتك أوضأ منك، وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم -يريد عائشة- قال عمر: وكنا قد تحدثنا أن غَسّان تُنعِل الخيل لغزونا، فنزل صاحبي الأنصاري، يوم نوبته، فرجع إلينا عشاء، فضرب بأبي ضربا شديدا، وقال: أَثَمَّ هو؟ ففزعت، فخرجت إليه، فقال: قد حدث اليوم أمر عظيم، قلت: ما هو؟ أجاء غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأهول، طَلَّق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه. وقال عبيد بن حنين: سمع ابن عباس، عن عمر، فقال: اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه، فقلت: خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا، يوشك أن يكون، فجمعت علي ثيابي، فصليت صلاة الفجر مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، مشربة له، فاعتزل فيها، ودخلت على حفصة، فإذا هي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟ ألم أكن حذرتك هذا؟ أطلقكنّ النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لا أدري، ها هو ذا، معتزل في المشربة، فخرجت،

فجئت إلى المنبر، فإذا حوله رهط، يبكي بعضهم، فجلست معهم قليلا، ثم غلبني ما أجد، فجئت المشربة، التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت لغلام له أسود: استأذن لعمر، فدخل الغلام، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع، فقال: كلمت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرتك له، فصمت، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فجئت، فقلت للغلام: استأذن لعمر، فدخل: ثم رجع، فقال: قد ذكرتك له، فصمت، فرجعت، فجلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فجئت الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فدخل، ثم رجع إليّ، فقال: قد ذكرتك له، فصمت، فلما ولّيت منصرفا، قال: إذا الغلام يدعوني، فقال: قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإذا هو

ص: 50

مضطجع، على رِمَال حَصِير ليس بينه وبينه فراش، قد أَثّر الرمال بجنبه، متكئا على وسادة من أَدَمٍ، حشوها لِيفٌ، فسلمت عليه، ثم قلت: وأنا قائم، يا رسول اللَّه، أطلقت نساءك؟ فرفع إلى بصره، فقال: لا، فقلت: اللَّه أكبر، ثم قلت: وأنا قائم، أستأنس، يا رسول اللَّه، لو رأيتني، وكنا معشر قريش، نغلب النساء، فدما قدمنا المدينة، إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قلت: يا رسول اللَّه لو رأيتَنِي، ودخلت على حفصة، فقلت لها: لا يَغُرّنكِ، أن كانت جارتك أوضأ منك، وأحب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم -يريد عائشة- فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى، فجلست حين رأيته تبسم، فرفعت بصري في بيته، فواللَّه ما رأيت في بيته شيئا، يَرُدّ البصر غير أَهَبَةٍ ثلاثة، فقلت: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه، فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم، قد وُسِّعَ عليهم، وأُعُطوا الدنيا، وهم لا يعبدون اللَّه، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وكان متكئا، فقال:"أوفي هذا أنت يا ابن الخطاب، إن أولئك قوم، عُجِّلُوا طيباتهم في الحياة الدنيا"، فقلت: يا رسول اللَّه، استغفر لي، فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، من أجل ذلك الحديث، حين أفشته حفصة إلى عائشة، تسعا وعشرين ليلة، وكان قال: ما أنا بداخل عليهن شهرا، من شدة مَوْجِدَته عليهن، حين عاتبه اللَّه، فلما مضت تسع وعشرون ليلة، دخل على عائشة، فبدأ بها، فقالت له عائشة: يا رسول اللَّه، إنك كنت قد أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا، وإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة، أَعُدّها عَدًّا، فقال:"الشهر تسع وعشرون ليلة"، فكان ذلك الشهر تسعا وعشرين ليلة، قالت عائشة: ثم أنزل اللَّه تعالى آية التخيير، فبدأ بي، أول امرأة من نسائه، فاخترته، ثم خير نساءه كلهن، فقلن مثل ما قالت عائشة. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-32/ 3482 - وفي "الكبرى" 33/ 5649. وأخرجه (خ) في "النكاح" 5203 (م) في "الطلاق" 1479. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"صحيح البخاريّ" بنسخة "الفتح" 10/ 347 - 349 رقم 5191. "كتاب النكاح".

ص: 51

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعية الإيلاء.

(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصبر على زوجاته، والإغضاء عن أخطائهنّ، والصفح عما يقع منهنّ من الزلل. (ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من محبّة الاطلاع على أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم، جلّت، أو قلّت، وشدّة اهتمامهم بما يهتمّ له، حيث اجتمعوا في المسجد لَمّا سمعوا اعتزاله صلى الله عليه وسلم عن أهله.

(ومنها): جواز اتخاذ الحاكم عند الخلوة بوّابًا يمنع من يدخل عليه دون استئذان، فقد اتّخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم غلامًا يجلس على باب علّيّته. فيحمل قول أنس رضي الله عنه في قصّة تلك المرأة التي كانت جالسة عند القبر تبكي، فوعظها صلى الله عليه وسلم، فقالت له: إليك عنّي، فإنك لم تُصَب بمصيبتي، فلما أخبرت أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ندمت، فجاءت إليه لتعتذر، فلم تجد عنده بوّابين الخ على الأوقات التي يجلس فيها للناس. وقال المهلّب -رحمه اللَّه تعالى-: فيه أن للإمام أن يحتجب عن بطانته، وخاصّته عند أمر يطرقه من جهة أهله، حتى يذهب غيظه، ويخرُج إلى الناس، وهو منبسطٌ إليهم، فإن الكبير إذا احتجب لم يَحسُن الدخول إليه بغير إذن، ولو كان الذي يريد أن يدخل جليل القدر، عظيم المنزلة عنده. (ومنها): الرفق بالأصهار، والحياء منهم إذا وقع للرجل من أهله ما يقتضي معاتبتهم.) ومنها): بيان أبي الضّحَى للذين اختلفوا عنده في مدّة الشهر، هل ثلاثون يومًا، أو تسعة وعشرون بما سمعه عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من هذه القصّة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما قالت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: يا رسول اللَّه، إنك كنت قد أقسمت أن لا تدخل علينا شهرًا، وإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلةً، أعدّها عدًّا، قال: "الشهر

تسعٌ وعشرون ليلة". يعني أن بعض الشهور يكون تسعًا وعشرين، وبعضها ثلاثين يومًا، فحصل بذلك جواب كلا الفريقين المختلفين.

(ومنها): جواز تكرير السلام، والاستئذان لمن لم يؤذن له، إذا رجا حصول الإذن، وأنه لا يجاوز به ثلاثًا، وقد أخرج الشيخان من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له، فليرجع". (ومنها): جواز سكنى الغرفة، ذات الدرج، واتخاذ الخِزانة لأثاث البيت والأمتعة. (ومنها): تذكير الحالف بيمينه، إذا وقع منه ما ظاهره نسيانها، لا سيّما ممن له تعلّقٌ بذلك؛ لأن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - خشيت أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم نسي مقدار ما حلف عليه، وهو شهر، والشهر ثلاثون يومًا، أو تسعة وعشرون يومًا، فلما نزل في تسعة وعشرين ظنّت أنه ذَهِلَ عن القدر، أو أنّ الشهر لم يُهلّ، فأعلمها أن الشهر استهلّ، فإن الذي كان الحلف وقع فيه جاء تسعًا وعشرين يومًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 52

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الإيلاء:

قال العلاّمة ابن قُدامة عند قول الخِرَقيّ -رحمهما اللَّه تعالى-: "والمولي الذي يَحلف باللَّه عز وجل أن لا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر": ما حاصله: وجملته أن شروط الإيلاء أربعة:

[أحدها]: أن يحلف باللَّه تعالى، أو بصفة من صفاته، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الحالف بذلك إيلاءٌ. فأما إن حلف على ترك الوطء بغير هذا، مثل أن حلف بطلاق، أو عَتَاق، أو صدقة المال، أو الحجّ، أو الظهار، ففيه روايتان: إحداهما: لا يكون موليًا، وهو قول الشافعيّ القديم. والرواية الثانية: هو مولٍ. وروي عن ابن عبّاس أنه قال: كلّ يمين منعت جماعها، فهي إيلاء. وبذلك قال الشعبيّ، والنخعيّ، ومالك، وأهل الحجاز، والثوريّ، وأبو حنيفة، وأهل العراق، والشافعيّ، وأبو ثور، وأبو عبيد، وغيرهم؛ لأنها يمينٌ منعت جماعها، فكانت إيلاءً، كالحلف باللَّه تعالى، ولأن تعليق الطلاق، والعَتَاق على وطئها حلِفٌ بدليل أنه لو قال: متى حلفت بطلاقك، فأنت طالقٌ، ثم قال: إن وطئتك فأنت طالقٌ طلقت في الحال. وقال أبو بكر: كلّ يمين من حرام، أو غيرها يجب بها كفّارة يكون الحالف بها موليًا، وأما الطلاق، والعتاق فليس الحلف به إيلاء؛ لأنه يتعلّق به حقّ آدميّ، وما أوجب كفّارةً تعلّق بها حقّ اللَّه تعالى. والرواية الأولى هي المشهورة؛ لأن الإيلاء المطلق إنما هو القسَمُ، ولهذا قرأ أُبيّ، وابن عبّاس رضي الله عنهم:"يُقسِمون" مكان: {يُؤْلُونَ} ، وروي عن ابن عبّاس في تفسير {يُؤْلُونَ} قال: يحلفون باللَّه. هكذا ذكره الإمام أحمد. والتعليق بشرط ليس بقسم، ولهذا لا يؤتى فيه بحرف القسم، ولا يُجاب بجوابه، ولا يذكره أهل العربيّة في باب القسم، فلا يكون إيلاء، وإنما يُسمى حلفًا تجوّزًا؛ لمشاركته القسم في المعنى المشهور في القسم، وهو الحثّ على الفعل، أو المنع عنه، أو توكيد الخبر، والكلام عند الإطلاق لحقيقته. ويدلّ على هذا قول اللَّه تعالى:{فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] وإنما يدخل الغفران في اليمين باللَّه. وأيضًا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير اللَّه فقد أشرك". رواه أحمد، والترمذيّ، وقوله:"إن اللَّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم". متّفقٌ عليه.

قال: الشرط الثاني: أن يحلف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهر. وهذا قول ابن عبّاس، وطاوس، وسعيد بن جبير، وما لك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأبي ثور، وأبي عبيد. وقال عطاءٌ، والثوريّ، وأصحاب الرأي: إذا حلف على أربعة اْشهر، فما زاد كان موليًا. وحكى ذلك القاضي، وأبو الحسين رواية عن أحمد؛ لأنه ممتنع من الوطء

ص: 53

باليمين أربعة أشهر، فكان موليًا، كما لو حلف على ما زاد. وقال النخعيّ، وقتادة، وحمّاد بن زيد، وابن أبي ليلى، وإسحاق: من حلف على ترك الوطء في قليل من الأوقات، أو كثير، تركها أربعة أشهر، فهو مولٍ؛ لقول اللَّه تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} ، وهذا مولٍ، فإن الإيلاء الحلف، وهذا حالف.

قال: ولنا أنه لم يمنع نفسه من الوطء ياليمين أكثر من أربعة أشهر، فلم يكن موليًا، كما لو حلف على ترك قُبلتها، والآية حجة لنا؛ لأنه جعل له تربّص أربعة أشهر، فإذا حلف على أربعة أشهر، أو ما دونها، فلا معنى للتربّص؛ لأن مدّة الإيلاء تنقضي قبل ذلك، أو مع انقضائه، وتقدير التربّص بأربعة أشهر يقتضي كونه في مدّة تناولها الإيلاء، ولأن المطالبة إنما تكون بعد أربعة أشهر، فإذا انقضت المدّة بأربعة، فما دون لم تصحّ المطالبة من غير إيلاء. وأبو حنيفة، ومن وافقه بنوا ذلك على قولهم في الْفَيْئة أنها تكون في مدّة الأربعة الأشهر، وظاهر الآية خلافه؛ فإن اللَّه تعالى قال:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا} الآية، فعقّب الفيئة عقب التربّص بفاء التعقيب، فيدلّ على تأخّرها عنه.

قال: الشرط الثالث: أن يحلف على ترك الوطء في الفرج، ولو قال: واللَّه لا وطئتك في الدبر لم يكن موليًا؛ لأنه لم يترك الوطء الواجب عليه، ولا تتضرّر المرأة بتركه، وإنما هو وطء محرّمٌ، وقد أكّد منع نفسه منه بيمينه. وإن قال: واللَّه لا وطئتك دون الفرج، لم يكن موليًا؛ لأنه لم يحلف على الوطء الذي يُطالب به في الفيئة، ولا ضرر على المرأة في تركه.

قال: الشرط الرابع: أن يكون المحلوف عليها امرأته؛ لقول اللَّه تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} ، ولأن غير الزوجة لا حقّ لها في وطئه، فلا يكون موليًا عنها، كالأجنبيّة، فإن حلف على ترك وطء أمته لم يكن موليًا؛ لما ذكرنا. وإن حلف على ترك وطء أجنبيّة، ثم نكحها، يكن موليًا؛ لذلك. وبه قال الشافعيّ، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر. وقال مالكٌ يصير موليًا إذا بقي من مدّة يمينه أكثر من أربعة أشهر؛ لأنه ممتنع من وطء امرأته بحكم يمينه مدّة الإيلاء، فكان موليًا، كما لو حلف في الزوجيّة. وحكي عن أصحاب الرأي أنه إن مرّت به امرأةٌ، فحلف أن لا يقربها، ثم تزوّجها، لم يكن موليًا، وإن قال: إن تزوّجت فلانة، فو اللَّه لا قربتها، صار موليًا؛ لأنه أضاف اليمين إلى حال الزوجيّة، فأشبه ما لو حلف بعد تزوّجها. قال: ولنا قول اللَّه تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وهذه ليست من نسائه. انتهى كلام ابن قدامة

ص: 54

باختصار

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: خلاصة القول في المسألة أن الراجح في الإيلاء، هو أن يحلف باللَّه تعالى، أو بصفة من صفاته على ترك وطء زوجته في الفرج أكثر من أربعة أشهر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم فيما إذا مضت أربعة أشهر، ولم يَفِىء إلى امرأته:

قال العلامة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: المولي يتربّص أربعة أشهر، كما أمر اللَّه تعالى، ولا يُطالب بالوطء فيهنّ، فإذا مضت أربعة أشهر، ورافعته امرأته إلى الحاكم وَقَفَه، وأمره بالفيئة، فإن أبى أمره بالطلاق، ولا تطلق زوجته بنفس مضيّ المدّة. قال أحمد في الإيلاء: يوقف عن الأكابر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عن عمر شيء يدلّ على ذلك، وعن عثمان، وعليّ، وجعل يثبت حديث عليّ. وبه قال ابن عمر، وعائشة. وروي ذلك عن أبي الدرداء، وقال سليمان بن يسار: كان تسعة عشر رجلاً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوقفون في الإيلاء. وقال سهيل بن أبي صالح: سألت اثني عشر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكلّهم يقول: ليس عليه شيء، حتى يمضي أربعة أشهر، فيوقف،

فإن فاء، وإلا طلّق. وبهذا قال سعيد بن المسيّب، وعروة، ومجاهدٌ، وطاوسٌ، ومالكٌ، والشافعيّ، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر.

وقال ابن مسعود، وابن عبّاس، وعكرمة، وجابر بن زيد، وعطاء، والحسن، ومسروقٌ، وقبيصة، والنخعيّ، والأوزاعيّ، وابن أبي ليلى، وأصحاب الرأي: إذا مضت أربعة أشهر، فهي تطليقة بائنة. وروي ذلك عن عثمان، وعليّ، وزيد، وابن عمر. وروي عن أبي بكر بن عبد الرحمن، ومكحول، والزهريّ: تطليقةٌ رجعيّة.

وُيحكى عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: {فَإِنْ فَاءُوا} فيهن {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، ولأن هذه مدّةٌ ضُربت لاستدعاء الفعل منه، فكان ذلك في المدّة كمدّة العنّة.

قال: ولنا قول اللَّه تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وظاهر ذلك أن الفيئة بعد أربعة أشهر؛ لذكره الفيئة بعدها بالفاء المقتضية للتعقيب، ثم قال:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، ولو وقع بمضيّ المدّة لم يحتج إلى عزم عليه، وقوله:{سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يقتضي أن الطلاق مسموع، ولا يكون المسموع إلا كلامًا انتهى كلام ابن قدامة باختصار

(2)

.

(1)

"المغني" 11/ 5 - 23. "كتاب الإيلاء".

(2)

"المغني" 11/ 30 ظ-32. "كتاب الإيلاء".

ص: 55

وقال في "الفتح" بعد ذكر كلام سليمان بن يسار: "أدركنا الناس يقفون في الإيلاء إذا مضت أربعة أشهر": ما نصّه: وهو قول مالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وسائر أصحاب الحديث، إلا أن للمالكيّة والشافعيّة بعد ذلك تفاريع يطول ذكرها، منها: أن الجمهور ذهبوا إلى أن الطلاق يكون فيه رجعيًّا، لكن قال مالك: لا تصحّ رجعته إلا إن جامع في العدّة. وقال الشافعيّ: ظاهر كتاب اللَّه تعالى على أن له أربعة أشهر، ومن كانت له أربعة أشهر أجلاً، فلا سبيل عليه فيها حتى تنقضي، فإذا انقضت فعليه أحد أمرين: إما أن يفيء، وإما أن يطلّق، فلهذا قلنا: لا يلزمه الطلاق بمجرّد مضيّ المدّة حتى يُحدث رجوعًا، أو طلاقًا، ثم رجّح قول الوقف بأن أكثر الصحابة قال به، والترجيح قد يقع بالأكثر، مع موافقة ظاهر القرآن. ونقل ابن المنذر عن بعض الأئمّة قال: لم يجد في شيء من الأدلّة أن العزيمة على الطلاق تكون طلاقًا، ولو جاز لكان العزم على الفيء يكون فيئًا، ولا قائل به، وكذلك ليس في شيء من اللغة أن اليمين التي لا ينوي بها الطلاق تقتضي طلاقًا. وقال غيره: العطف على الأربعة أشهر بالفاء يدلّ على أن التخيير بعد مضيّ المدّة، والذي يتبادر من لفظ التربّص أن المراد به المدّة المضروبة ليقع التخيير بعدها. وقال غيره ة جعل اللَّه الفيء، والطلاق معلّقين بفعل المولي بعد المدّة، وهو من قوله تعالى:{فَإِنْ فَاءُوا} ، {وَإِنْ عَزَمُوا} ، فلا يتّجه قول من قال: إن الطلاق يقع بمجرّد مضيّ المدّة. واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد اتّضح بما ذُكر من الأدلّة أن الراجح أنه إذا مضت المدّة يوقف المولي، فإما أن يفيء إلى امرأته، وإما أن يطلّق، وأن القول بوقوع الطلاق بنفس مضيّ المدّة قول مرجوح؛ لمخالفته ظاهر كتاب اللَّه تعالى، وقول جمهور الصحابة رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في أقوال أهل العلم في معنى الفيئة:

قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: أجمع كلّ من يُحفظ عنه من أهل العلم على أن الفيء الجماع، كذلك قال ابن عبّاس. وروي ذلك عن عليّ، وابن مسعود. وبه قال مسروق، وعطاء، والشعبيّ، والنخعيّ، وسعيد بن جبير، والثوريّ، والأوزاعيّ، وأبو عبيدة، وأصحاب الرأي، إذا لم يكن عن عذر.

وأصل الفيء الرجوع، ولذلك يُسمّى الظلّ بعد الزوال فيئًا؛ لأنه رجع من المغرب إلى المشرق، فسمّي الجماع من المولِي فيئةً؛ لأنه رجوع إلى فعل ما تركه. وأدنى

(1)

"فتح" 10/ 537 - 538. "كتاب الطلاق".

ص: 56

الوطء الذي يحصل به الفيئة أن تغيب الحشفة في الفرج. قاله ابن قدامة -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في وجوب الكفّارة في الإيلاء:

قال ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: وإذا فاء لزمته الكفارة في قول أكثر أهل العلم. روي ذلك عن زيد، وابن عباس رضي الله عنهما. وبه قال ابن سيرين، والنخعيّ، والثوريّ، وقتادة، ومالكٌ، وأهل المدينة، وأبو عبيد، وأصحاب الرأي، وابن المنذر، وهو ظاهر مذهب الشافعيّ، وله قول آخر: لا كفّارة عليه، وهو قول الحسن، وقال النخعيّ: كانوا يقولون ذلك؛ لأن اللَّه تعالى قال: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . قال قتادة: هذا خالف الناس -يعني الحسن-.

قال: ولنا قول اللَّه تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية إلى قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} الآية [المائدة: 89] وقال سبحانه وتعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} الآية [التحريم: 2]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها، فاءت الذي هو خيرٌ، وكفّر عن يمينك"، متّفقٌ عليه. ولأنه حالف حانثٌ في يمينه، فلزمته الكفّارة كما لو حلف على ترك فريضة، ثم فعلها، والمغفرة لا تنافي الكفّارة؛ فاللَّه تعالى قد غفر لرسوله صلى الله عليه وسلم ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر، وقد كان يقول:"إني واللَّه لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خيرٌ، وتحلّلتها". متّفقٌ عليه انتهى كلام ابن قدامة - رحمه اللَّه تعالى -

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قول جمهور أهل العلم في وجوب الكفّارة على المولي إذا رجع هو الحقّ؛ لظهور أدلته كما سبق آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3483 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: آلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ، فَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ نَزَلَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَيْسَ آلَيْتَ عَلَى شَهْرٍ، قَالَ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "خالد": هو ابن الحارث الْهُجيميّ البصريّ. و"حميد": هو ابن أبي حميد الطويل البصريّ. والسند مسلسل بالبصريين، وفيه محمد ابن المثنّى أحد التسعة الذين اتفق أصحاب الأصول الستة بالرواية عنهم بلا واسطة، وقد

(1)

"المغني" 11/ 38.

(2)

"المغني" 11/ 38 - 39. "كتاب الإيلاء".

ص: 57

تقدّموا غير مرّة. والرواة كلهم من رجال الصحيح.

[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (179) من رباعيات الكتاب.

وقوله: في "مشرُبة" -بفتح الميم، وسكون الشين المعجمة، وضمّ الراء، وفتحها، جمعها مشارب، ومشربات: الغُرْفة، وهي العلّيّة المذكورة في الحديث الماضي.

وقوله: "فقيل له": القائل هي عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وثبت في حديث عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه الذي قال له ذلك، ولا تنافي بين الروايتين، إذ يمكن الجمع بأن عمر ذكّره بذلك عند نزوله من الغرفة، وعائشة ذكّرته به حين دخل عليها البيت، فتواردا على ذلك.

وقوله: "أليس آليت الخ" اسم ليس ضمير الشأن، أي أليس الشأن والأمر أنك آليت على شهر. واللَّه تعالى أعلم. وتمام شرح الحديث يُعلم مما قبله، وأما البحث عن الشهر هل هو ثلاثون، أو تسع وعشرون، فقد مضى مستوفى في "كتاب الصيام"، في باب "كم الشهر"، فراجعه تستفد.

والحديث أخرجه المصنّف هنا-32/ 3483 - وفي "الكبرى" 33/ 5650. وأخرجه (خ) في "الصوم" 1911 و"المظالم والغصب" 2469 و"النكاح" 5201 و"الطلاق" 5289 وفي "الأيمان والنذور" 6684، (ت) في "الصوم" 690. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌33 - (بَابُ الظِّهَارِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الظهار" -بكسر الظاء المعجمة-: مصدر ظاهر يُظاهر مُظاهرةً، وظِهارًا، مشتقّ من الظهر، وإنما خضوا الظهر بذلك من بين سائر الأعضاء؛ لأن كلّ مركوب يُسمّى ظهرًا؛ لحصول الركوب على ظهره في الأغلب، فشبّهوا الزوجة بذلك. وهو محرّم؛ لقول اللَّه تعالى:{وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} . ومعناه أن الزوجة ليست كالأمّ في التحريم. قال اللَّه تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} ، وقال تعالى:

ص: 58

{وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} قاله في "المغني"

(1)

.

وقال في "الفتح": الظهار قول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمّي. وإنما خصّ الظهر بذلك دون سائر الأعضاء؛ لأنه محلّ الركوب غالبًا، ولذلك سمّي المركوب ظهرًا، فشُبّهت الزوجة بذلك لأنها مركوب الرجل، فلو أضاف لغير الظهر -كالبطن مثلاً- كان ظهارًا على الأظهر عند الشافعيّة. واختُلف فيما إذا لم يعين الأمّ كان قال: كظهر أختي مثلاً، فعن الشافعيّ في القديم لا يكون ظهارًا، بل يختصّ بالأمّ، كما ورد في القرآن، وكذا في حديث خولة التي ظاهر منها أوس. وقال في الجديد: يكون ظهارًا، وهو قول الجمهور، لكن اختلفوا فيمن لم تحرم على التأبيد، فقال الشافعيّ: لا يكون ظهارًا، وعن مالك هو ظهارٌ، وعن أحمد روايتان كالمذهبين. فلو قال: كظهر أبي مثلاً، فليس بظهار عند الجمهور، وعن أحمد رواية أنه ظهارٌ، وطرده في كلّ من يحرُم عليه وطؤه حتى في البهيمة. ويقع الظهار بكلّ لفظ يدلّ على تحريم الزوجة، لكن بشرط اقترانه بالنيّة. وتجب الكفّارة على قائله، كما قال اللَّه تعالى، لكن بشرط العود عند الجمهور. وعند الثوريّ، وروي عن مجاهد: تجب الكفّارة بمجرّد الظهار انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3484 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَدْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي، فَوَقَعْتُ قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ، قَالَ: «وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟» ، قَالَ: رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، فَقَالَ: «لَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ عز وجل»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الحسين بن حُريث) الخزاعيّ مولاهم، أبو عمّار المروزيّ، ثقة [10] 44/ 52.

2 -

(الفضل بن موسى) السِّينَانيّ، أبو عبد اللَّه المروزيّ، ثقة ثبت، ربما أغرب، من كبار [9] 83/ 100.

3 -

(معمر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، ثم اليمنيّ، ثقة ثبت [7] 10/ 10.

4 -

(الحكم بن أبان) أبو عيسى العدنيّ، صدوق له أوهام [6] 11/ 2639.

(1)

راجع "المغني" 11/ 54 "كتاب الظهار".

(2)

"فتح" 10/ 542. "كتاب الطلاق".

ص: 59

5 -

(عكرمة) البربريّ، مولى ابن عبّاس، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة ثبت [3] 2/ 325.

6 -

(ابن عبّاس) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير الحكم بن أبان، فإنه من رجال الأربعة، وأخرج له البخاريّ في " جزء القراءة". (ومنها): أن فيه مروزيين: الحسين، والفضل، ويمنيين: معمر، والحكم، ومدنيين: عكرمة، وابن عبّاس. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَجُلاً) يحتمل أن يكون سَلَمَة بن صَخْر الزُّرَقي رضي الله عنه كما ستأتي قصته (أَتَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَدْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ) جملة حاليّة من فاعل "أتى"(فَوَقَعَ عَلَيْهَا) أي جامعها (فَقَالَ) وفي رواية أبي داود: "فأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره

" (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي، فَوَقَعْتُ قَبْلَ أَنْ أُكُفِّرَ) من التكفير، أي قبل أن أعطي الكفّارة التي أوجبها اللَّه تعالى عليّ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ) "ما" استفهاميّة: أي أيّ شيء حملك على أن تواقع امرأتك التي حرّم اللَّه عليك العودة إليها قبل أن تكفّر عن ظهارك؟ (يَرْحَمُكَ اللَّه؟) فيه إظهار الشفقة والرأفة بالتائب، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعنّفه، ولم يوبّخه، بل دعا له بالرحمة؛ لأنه جاء تائبًا إلى اللَّه تعالى، نادمًا على ما فعل، إذ الندم من الذنب يمحو الذنب، كما ثبت فيما أخرجه البيهقيّ، وحسّنه بعضهم، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، مرفوعًا "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"

(1)

(قَالَ) الرجل (رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا) بفتح الخاءين المعجمين، وإسكان اللام الأولى، قال في "القاموس": الْخَلْخَلُ، وُيضمّ، وكَبَلْبَالٍ: حَلْيٌ معروف. انتهى. وفي "اللسان": والْخَلْخَلُ، والْخُلْخُلُ من الْحُلْي: معروف، قال الشاعر:

بَرَّاقَةُ الْجِيْدِ صَمُوتُ الْخَلْخَلِ

وهو لغةٌ في الْخَلَخال، أو مقصور منه انتهى.

(فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ) وفي رواية المعتمر، عن الحكم بن أبان الآتية:"قال: يا نبيّ اللَّه رأيت بياض ساقيها في ضوء القمر"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا تَقْرَبْهَا) بفتح الراء، وضمّها، من بابي تَعِبَ، وقتل، أي لا تجامعها مرّة أخرى (حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَ اللَهُ عز وجل) وفي رواية

(1)

راجع "صحيح الجامع الصغير" للشيخ الألبانيّ 1/ 578 رقم 3008.

ص: 60

عبد الرزّاق، عن معمر الآتية:"فاعتزلها حتى تفعل ما أمرك اللَّه عز وجل"، وفي رواية المعتمر:"فاعتزل حتى تقضي ما عليك". والمراد به أداء الكفّارة التي ذكرها اللَّه تعالى في كتابه، حيث قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} إلى آخر الآيتين [المجادلة: 3 - 4]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيحٌ.

[فإن قلت]: كيف يكون صحيحًا، وسيأتي أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- سيُرجّح أن المرسل هو الصواب؟.

[قلت]: الظاهر أن الإرسال في مثل هذا لا يضرّ؛ لأن الذي وصله ثقة، وقد صحّحه الترمذيّ، والحاكم، وقال ابن حزم: رجاله ثقات، ولا يضرّ إرسال من أرسله. وقال الحافظ: رجاله ثقات. وقال في "البدر المنير": هذا الحديث صحيح. وقال المنذريّ: صححه الترمذيّ، ورجال إسناده ثقات، وسماع بعضهم من بعض مشهور، وترجمة عكرمة عن ابن عبّاس احتجّ بها البخاريّ في غير موضع. قال ابن الملقّن: وهو كما قال.

وأخرج له البزّار شاهدّا من طريق خُصيف، عن عطاء، عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: أن رجلاً قال: يا رسول اللَّه إني ظاهرت من امرأتي، رأيت ساقها في القمر، فواقعتها قبل أن أكفّر، قال:"كفّر، ولا تعُد". وقال في "الفتح" بعد أن ذكر أحاديث الظهار، ومنها هذا الحديث: ما نصّه: وأسانيد هذه الأحاديث حسان. انتهى

(1)

.

وقال الشيخ الألباني: وبالجملة فالحديث بطرقه، وشاهده صحيح. وقال أيضًا: له طريق أخرى عن ابن عبّاس يرويه إسماعيل بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: أن رجلاً ظاهر من امرأته، فرأى خلخالها في ضوء القمر، فأعجبه، فوقع عليها، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال:"قال اللَّه تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} "، فقال: قد كان ذلك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أمسك حتى تكفّر". أخرجه الحاكم 2/ 204 والبيهقيّ 7/ 386. وإسماعيل بن مسلم، وهو المكيّ

ضعيف. ويشهد له حديث سلمة بن صخر الزرقيّ، قال: "تظاهرت من امرأتي، ثم

(1)

"فتح" 10/ 543.

ص: 61

وقعت بها، قبل أن أكفّر، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأفتاني بالكفّارة". هكذا أخرجه الترمذيّ مختصرًا 9/ 225 وأحمد 4/ 37 من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سليمان بن يسار، عنه. قال: وهذا إسناد ضعيف. يعني لعنعنة ابن إسحاق، فإنه مدلّس

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن الحديث بطرقه، وشواهده صحيح. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قد بالغ أبو بكر ابن العربيّ، فقال: ليس في الظهار حديث صحيح. وهذه مبالغة غير مرضيّة فإن حديث الباب صحيح كما عرفت. فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-33/ 3484 و3485 و 3486 - وفي "الكبرى" 34/ 5651 و 5652 و 5653. وأخرجه (د) في "الطلاق" 2221 و 2222 (ت) في "الطلاق" 1199 (ق) في "الطلاق" 2065 و 2066. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم الظهار، وهو ما تضمّنه حديث الباب. (ومنها): تحريم مواقعة المرأة التي ظاهر منها قبل التكفير. (ومنها): وجوب التكفير في الظهار. (ومنها): أن من واقع قبل التكفير ليس عليه إلا التوبة، وعدم العودة قبل التكفير. (ومنها): أن من ارتكب ذنبًا، ثم تاب، لا ينبغي أن يوبّخ، وُيعنّف، بل يترخم عليه، ويستغفر له. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في تحريم ما دون الجماع على المظاهر:

قال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: فأما التلذّذ بما دون الجماع، من القبلة، واللمس، والمباشرة فيما دون الفرج، ففيه روايتان: إحداهما: يحرم، وهو اختيار أبي بكر. وهو قول الزهريّ، ومالك، والأوزاعيّ، وأبي عبيد، وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن النخعيّ، وهو أحد قولي الشافعيّ؛ لأن ما حَرَّم الوطءَ من القول حرّم دواعيه، كالطلاق، والإحرام. والثانية: لا يحرم، قال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس، وهو قول الثوريّ، وإسحاق، وأبي حنيفة، وحكي عن مالك، وهو القول الثاني للشافعيّ؛

(1)

راجع "الإرواء" 7/ 178 - 179. تحت الحديث رقم 2091.

ص: 62

لأنه وطء يتعلّق بتحريمه مالٌ، فلم يتجاوزه التحريم، كوطء الحائض انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول الأول هو الراجح؛ لظاهر قوله: "لا تقربها"، فإن القربان يشمل الجماع، وغيره من أنواع التلذّذ بها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): اتّفق أهل العلم على أن المظاهر يحرم عليه وطء امرأته التي ظاهر منها قبل أن يكفّر، إذا كانت الكفّارة عتقًا، أو صومًا؛ لقول اللَّه تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3 - 4] وقوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3 - 4]. واختلفوا فيما إذا كان التكفير بالإطعام، فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه مثل ذلك، وأنه يحرم وطؤها قبل التكفير، منهم: عطاء، والزهريّ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي.

وذهب أبو ثور إلى إباحة الجماع قبل التكفير بالإطعام. وعن أحمد ما يقتضي ذلك؛ لأن اللَّه تعالى لم يمنع المسيس قبله، كما في العتق والصيام.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قول الأولين هو الصواب؛ لحديث الباب؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقربها حتى تكفّر"، ولم يخصّ نوعًا من الكفّارة، دون نوع، بل أطلق النهي عن القربان قبل التكفير. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3485 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: تَظَاهَرَ رَجُلٌ مِنِ امْرَأَتِهِ، فَأَصَابَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟» ، قَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ، يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا، أَوْ سَاقَيْهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَاعْتَزِلْهَا، حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ عز وجل»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير الحكم، كما تقدّم في الحديث الماضي.

وقوله: "رحمك اللَّه يا رسول اللَّه " قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: الظاهر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بدأ بالدعاء بالرحمة، فقال له:"يرحمك اللَّه"، كما تقدّم، فقابله الرجل بمثل ذلك، أو بأحسن منه، حيث استعمل صيغة المضيّ، ووقع الاختصار من الرواة، فنقل البعض الأول، والبعض الآخر. وفي تقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك دلالة على جواز الدعاء

(1)

"المغني" 11/ 67 "كتاب الظهار".

ص: 63

له صلى الله عليه وسلم بالرحمة انتهى

(1)

.

والحديث صحيح بمجموع طرقه، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3486 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْمُعْتَمِرُ ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَكَمَ بْنَ أَبَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّهُ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ غَشِيَهَا، قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ مَا عَلَيْهِ، قَالَ:«مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟» ،

قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، رَأَيْتُ بَيَاضَ سَاقَيْهَا فِي الْقَمَرِ، قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«فَاعْتَزِلْ حَتَّى تَقْضِيَ مَا عَلَيْكَ» .

وَقَالَ إِسْحَاقُ فِي حَدِيثِهِ: «فَاعْتَزِلْهَا حَتَّى تَقْضِيَ مَا عَلَيْكَ» ، وَاللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الْمُرْسَلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْمُسْنَدِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسحاق": هو ابن راهويه. و"محمد بن عبد الأعلى": هو الصنعانيّ البصريّ. و"المعتمر": هو ابن سليمان التيميّ.

وقوله: "وقال إسحاق الخ" يعني أن إسحاق ابن راهويه ذكر في روايته الضمير المنصوب، وقال:"فاعتزلها"، وأما محمد بن عبد الأعلى، فحذفه، وقال:"فاعتزل"، وحذف الفضلة جائز، كما قال في "الخلاصة":

وَحَذفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضِرْ

كحَذْفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أَوْ حُصِرْ

وقوله: "واللفظ محمد" يعني أن سياق المتن الذي ساقه هو لفظ محمد بن عبد الأعلى، وأما إسحاق فرواه بالمعنى. هذا هو الذي تقتضيه عبارته، وفيه نظر، إذ يقتضي أن شيخيه مختلفان في سياق الحديث، وإن اتفقا في المعنى، وهذا يعارض قوله:"وقال إسحاق في حديثه الخ"، إذ هو يقتضي أنهما متّفقان، إلا في هذا الحرف، فليُتأمّل.

وقوله: "قال أبو عبد الرحمن: المرسل أولى بالصواب من المسند"، أراد بالمسند المتّصل، يعني أن رواية من رواه عن عكرمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً أولى ممن رواه عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - متّصلاً، وإنما رجّح المرسل على المتصل؛ للاختلاف على معمر، فإن عبد الرزاق رواه عنه بالإرسال، فخالف الفضل بن موسى، ووافق رواية المعتمر. وهكذا رجّح أبو حاتم المرسل على المتّصل، كما ذكره الحافظ في "التلخيص الحبير".

(1)

"شرح السنديّ" 6/ 169.

ص: 64

لكن تقدّم أن الموصول له شواهد، ولهذا صححه كثيرٌ من العلماء وهو الحقّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3487 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتْ خَوْلَةُ، إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، تَشْكُو زَوْجَهَا، فَكَانَ يَخْفَى عَلَيَّ كَلَامُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} الآيَةَ [المجادلة: 1]).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ المعروف بابن راهويه، أبو يعقوب المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبّيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، قيل: كان في آخره يَهِم من حفظه [8] 2/ 2.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مِهران الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقة ثبت ورع، لكنه يدلّس [5] 18/ 17.

4 -

(تميم بن سلمة) السلميّ الكوفيّ، ثقة [3] 21/ 388.

5 -

(عروة) بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن تميم، عن عروة. (ومنها): أن فيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّهَا قَالَتِ: الْحَمْدُ لِلَهِ الَّذِي وَسِعَ) بكسر السين المهملة، قال الفيّوميّ: وَسِع الإناء المتاعَ سَعَةً بفتح السين، وقرأ به السبعة في قوله تعالى:{وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} ، وكسرها لغة، وقرأ به بعض التابعين. قيل: الأصل في المضارع الكسر، ولهذا حُذفت الواو لوقوعها بين ياء مفتوحة، وكسرة، ثمّ

ص: 65

فُتحت بعد الحذف لمكان حرف الحلق، ومثله يَهَبُ، ويقَعُ، وَيدَع، ويَلَغُ، وَيطَأُ، ويَضَعُ، ويَلَعُ، ويَزَعُ الجيشَ: أي يَحبسه. والحذف في يسع، ويطأ مما ماضيه مكسورٌ شاذّ؛ لأنهم قالوا: فَعِلَ بالكسر مضارعه يَفْعَل بالفتح، واستثنوا أفعالاً، ليست هذه منها. ووِسِعَ المكانُ القومَ، ووسِعَ المكانُ: أي اتّسع، يتعدّى، ولا يتعدّى، قال النابغة [من الكامل]:

تَسَعُ الْبِلَادُ إِذَا أَتَيْتُكَ زَائِرًا

وَإِذَا هَجَرْتُكَ ضَاقَ عَنِّي مَقْعَدِي

ووسُعَ المكان بالضمّ بمعنى اتّسع أيضًا، فهو واسع من الأولى، ووَسِيعٌ من الثانية انتهى.

وما هنا من المتعدّي، ولذا نصب "الأصوات" (سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ) وفي رواية ابن ماجه:"كلّ شيء" بدل "الأصوات". أي يسمع كلّ الأصوات، فلا يخفى عليه صوت في الأرض ولا في السماء، جهر به المتكلّم، أو أسرّ به، كما استشهدت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - على ذلك (لَقَدْ جَاءَتْ خَوْلَةُ) بنت ثعلبة بن أصرم بن فِهْر بن ثعلبة بن غَنْم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخرج الأنصاريّة الخزرجيّة. ويقال: خولة بنت ثعلبة بن مالك. ويقال: بنت مالك بن ثعلبة. ويقال: بنت دليج. ويقال: بنت الصامت. وهي المجادلة التي ظاهر منها زوجها. روى حديثها ابن إسحاق عن معمر بن عبد اللَّه بن حنظلة، عن يوسف بن عبد اللَّه بن سلام، عن خولة، قالت: "ظاهر منّي زوجي أوس بن الصامت

". وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: خولة بغير تصغير. وكذا قال ابن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس. وكذا هو في تفسير النخعيّ، عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عبّاس. قال محمد بن أبي حرملة، عن عطاء بن يسار: إن خُويلة بنت ثعلبة. وكذا سمّاها محمد بن كعب، وعروة، وعكرمة. وقال محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق: خويلة بنت ثعلبة. أخرجه الطبرانيّ. وقال يحيى بن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق: بنت مالك بن ثعلبة. أخرجه الحسن بن سفيان. وكذا قال جعفر بن الحارث، عن ابن إسحاق. أخرجه ابن منده. وأخرجه يحيى الحِمّاني في "مسنده" من طريق أبي إسحاق السبيعيّ، عن زيد بن يزيد، عن خولة بنت الصامت. قاله في "تهذيب التهذيب"

(1)

.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الفتح" بعد أن ذكر أنه وقع اسمها خويلة بنت مالك بن ثعلبة، عند أبي داود، وابن حبّان: ما نصّه: وهذا يُحمل على أن اسمها كان

(1)

"تهذيب التهذيب" 4/ 671.

ص: 66

ربّما صُغّر، وإن كان محفوظًا، فتكون نُسبت في الرواية الأخرى لجدّها. وقد تظاهرت الروايات بالأول، ففي مرسل محمد بن كعب القرظيّ عند الطبرانيّ، كانت خولة بنت ثعلبة تحت أوس بن الصامت، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي. وعند ابن مردويه من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه أن أوس بن الصامت رضي الله عنه تظاهر من امرأته خولة بنت ثعلبة. وعنده أيضًا من مرسل أبي العالية:"كانت خولة بنت دُلَيح تحت رجل من الأنصار، سيء الخلُق، فنازعته في شيء، فقال: أنت عليّ كظهر أمي. دُلَيح -بمهملتين، مصغّرًا- لعلّه من أجدادها. وأخرج أبو داود من رواية حمّاد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن جميلة كانت تحت أوس بن الصامت. ووصله من وجه آخر عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، والرواية المرسلة أقوى. وأخرجه ابن مردويه من رواية إسماعيل بن عياش، عن هشام، عن أبيه، عن أوس بن الصامت، وهو الذي ظاهر من امرأته. ورواية إسماعيل عن الحجازيين ضعيفة، وهذا منها، فإن كان حفظه، فالمراد بقوله: "عن أوس بن الصامت"، أي عن قصّة أوس، لا أن عروة حمله عن أوس، فيكون مرسلاً، كالرواية المحفوظة، وإن كان الراوي حفظها أنها جميلة، فلعلّه كان لقبها. وأما ما أخرجه النقّاش في "تفسيره" بسند ضعيف إلى الشعبيّ، قال: المرأة التي جادلت في زوجها هي خولة بنت الصامت، وأمها معاذة أمة عبد اللَّه بن أبيّ التي نزل فيها: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}. وقوله: "بنت الصامت" خطأٌ، فإن الصامت والد زوجها، كما تقدّم، فلعلّه سقط منه شيء، وتسمية أمها غريبٌ. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال أبو عمر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: روينا من وجوه عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنه خرج، ومعه الناس، فمرّ بعجوز، فاستوقفته، فوقف، فجعل يُحدّثها، وتحدّثه، فقال له رجلٌ: يا أمير المؤمنين حبست الناس على هذه العجوز، فقال: ويلك، أتدري من هي؟ هذه امرأة سمع اللَّه شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت مالك بن ثعلبة التي أنزل اللَّه فيها:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} الآية.

قال: وقد روى خُليد بن دعلج، عن قتادة، قال: خرج عمر من المسجد، ومعه الجارود العبديّ، فإذا بامرأة بَرْزَةٍ، على ظهر الطريق، فسلّم عليها عمر، فردّت عليه السلام، فقالت: هيهات يا عمر، عهدتك، وأنت تسمّى عميرًا في سوق عكاظ، تَزع

(1)

"فتح" 15/ 326 - 327. "كتاب التوحيد".

ص: 67

الصبيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق اللَّه في الرعيّة، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب إليه البعيد، ومن خاف الموت، خشي الفوت، فقال الجارود: قد أكثرتِ على أمير المؤمنين أيتها المرأة، فقال عمر: دعها، أما تعرفها؟ هذه خولة بنت حكيم امرأة عبادة بن الصامت التي سمع اللَّه قولها من فوق سبع سموات، فعمر أحقّ، واللهِ أن يسمع لها، قال أبو عمر: هكذا في الخبر خولة بنت حكيم، امرأة عبادة بن الصامت، وهو وَهَمٌ. يعني في اسم أبيها، وزوجها، وخُلَيد ضعيفٌ، سيّء الحفظ. قاله في "الإصابة"

(1)

.

(إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تَشْكُو زَوْجَهَا) أخرج قصّتها الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "سننه"، ونصّ أحمد:

26774 -

حدثنا سعد بن إبراهيم، ويعقوب، قالا: حدثنا أبي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني معمر بن عبد اللَّه بن حنظلة، عن يوسف بن عبد اللَّه بن سلام، عن خولة بنت ثعلبة، قالت: واللَّه فيّ، وفي أوس بن صامت، أنزل اللَّه عز وجل، صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده، وكان شيخا كبيرا، قد ساء خلقه، وضَجِر، قالت: فدخل عليّ يوما، فراجعته بشيء، فغضب، فقال: أنت عليّ كظهر أمي، قالت: ثم خرج، فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل علي، فإذا هو يريدني على نفسي، قالت: فقلت: كلَّا، والذي نفس خويلة بيده، لا تخلص إليّ، وقد قلت: ما قلت، حتى يحكم اللَّه ورسوله فينا بحكمه، قالت: فواثبني، وامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني، قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي، فاستعرت منها ثيابها، ثم خرجت، حتى جئت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه، فجعلت أشكو إليه صلى الله عليه وسلم، ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"يا خويلة ابن عمك، شيخ كبير، فاتقي اللَّه فيه"، قالت: فواللَّه، ما بَرِحت، حتى نزل فيّ القرآن، فتغشى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ما كان يتغشاه، ثم سُرِّيَ عنه، فقال لي:"يا خويلة، قد أنزل اللَّه فيك، وفي صاحبك"، ثم قرأ عليّ:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} إلى قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، فقال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"مُرِيه، فليُعتِق رقبة"، قالت: فقلت: واللَّه يا رسول اللَّه، ما عنده ما يُعتق، قال:"فليصم شهرين متتابعين"، قالت: فقلت: واللَّه يا رسول اللَّه، إنه شيخ كبير، ما به من صيام، قال: "فليطعم ستين

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 12/ 232 - 233.

ص: 68

مسكينا وسقا من تمر"، قالت: قلت: واللَّه، يا رسول اللَّه، ما ذاك عنده، قالت: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فإنا سنعينه بعرق من تمر"، قالت: فقلت: وأنا يا رسول اللَّه سأعينه بعرق آخر، قال: "قد أصبت، وأحسنت، فاذهبي، فتصدقي عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرا"، قالت: ففعلت.

وقال أبو داود بعد إخراجه: ما نصّه: في هذا، أنها كفّرت عنه، من غير أن تستأمره، قال أبو داود: وهذا أخو عبادة بن الصامت

(1)

.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "الفتح" بعد أن ذكر أن الحديث أخرجه أحمد، وغيره: ما نصّه: وهذا أصحّ ما ورد في قصّة المجادلة، وتسميتها. وقد أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبّان. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث فيه ابن إسحاق، مدلّسٌ، لكنه صرّح هنا بالسماع، دكين معمر بن عبد اللَّه بن حنظلة، لم يرو عنه غير ابن إسحاق، ووثقه ابن حبّان، وصحح حديثه هذا، وقال فيه ابن القطّان: مجهول الحال. وقد علّق البخاريّ الحديث في "صحيحه" بصيغة الجزم. ويشهد له حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - المذكور في الباب.

وخلاصة الأمران الحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم.

(فَكَانَ يَخْفَى) بفتح أوّله، من باب تَعِبَ (عَلَيَّ كَلَامُهَا) أي لعدم رفعها له، بل كانت تسرّ به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا تريد أن يسمعه غيره (فَأَنْزَلَ اللَّه عز وجل:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} الآيَةَ). ولفظ ابن ماجه، من طريق محمد بن أبي عبيدة، عن أبيه، عن الأعمش: قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه كلّ شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويَخفَى عليّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول اللَّه أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كَبِرَت سنين، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللَّهم إني أشكو إليك، فما برحت، حتى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} . واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

راجع "سنن أبي داود" 6/ 302 - 353. بنسخة "عون المعبود".

(2)

"فتح" 15/ 326.

ص: 69

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-33/ 3487 - وفي "الكبرى" 34/ 5654 وفي "التفسير"11570. وأخرجه (ق) في "المقدمة" 188 وفي "الطلاق " 2063. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم الظهار، وذلك لأن الآيات التي نزلت بسبب المجادلة بيّنت حكمه. (ومنها): بيان سبب نزول هذه الآيات، وهو أصحّ ما ذكر في سبب نزولها. (ومنها): أن فيه إثباتَ صفة السمع للَّه تعالى. قال الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "كتاب التوحيد" من "صحيحه": "باب وكان اللَّه سميعًا بصيرًا". قال ابن بطال -رحمه اللَّه تعالى-: غرض البخاريّ في هذا الباب الردّ على من قال: إن معنى "سميع بصير" عليم، قال: ويلزم من قال ذلك أن يسوّيه بالأعمى الذي يعلم أن السماء خضراء، ولا يراها، والأصمّ الذي يعلم أن في الناس أصواتًا، ولا يسمعها، ولا شكّ أن من سمع وأبصر أدخل في صفة الكمال ممن انفرد بأحدهما دون الآخر، فصحّ أن كونه سميعًا بصيرًا، يفيد قدرًا زائدًا على كونه عليمًا، وكونه سميعًا بصيرًا يتضمّن أنه يسمع بسمع، ويبصر ببصر، كما تضمّن كونه عليمًا أنه يعلم بعلم، ولا فرق بين إثبات كونه سميعًا بصيرًا، وبين كونه ذا سمع وبصر. قال: وهذا قول أهل السنّة قاطبة انتهى.

قال الحافظ: واحتجّ المعتزلة بأن السمع ينشأ عن وصول الهواء إلى العصب المفروش في أصل الصماخ، واللَّه منزّهٌ عن الجوارح. وأجيب بأنها عادة أجراها اللَّه تعالى فيمن يكون حيًّا، فيخلقه اللَّه عند وصول الهواء إلى المحلّ المذكور، واللَّهسبحانه وتعالى يسمع المسموعات بدون الوسائط، وكذا يرى المرئيّات بدون المقابلة، وخروج الشعاع، فذات الباري مع كونه حيًّا موجودًا، لا تشبه الذوات، فكذلك صفات ذاته لا تشبه الصفات.

وقال البيهقيّ في "الأسماء والصفات": السميع من له سمع، يدرك به المسموعات، والبصير من له بصرٌ يدرك به المرئيّات، وكلّ منهما في حقّ الباري سبحانه وتعالى صفة قائمة بذاته، وقد أفادت الآية، وأحاديث الباب الردّ على من زعم أنه سميعٌ بصيرٌ بمعنى عليم، ثم ساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه أبو داود بسند قويّ، على شرط مسلم، من رواية أبي يونس، عن أبي هريرة رضي الله عنه رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -يقرؤها -يعني قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} -إلى قوله تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ

ص: 70

كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} ويضع إصبعه، قال أبو يونس: وضع أبو هريرة رضي الله عنه إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه. قال البيهقيّ: وأراد بهذه الإشارة تحقيق إثبات السمع والبصر للَّه ببيان محلّهما من الإنسان، يريد أن له سمعًا وبصرًا، لا أن المراد به العلم، فلو كان كذلك لأشار إلى القلب؛ لأنه محلّ العلم، ولم يرد بذلك الجارحة، فإن اللَّه تعالى منزّه عن مشابهة المخلوقين. ثم ذكر لحديث أبي هريرة رضي الله عنه شاهدًا من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "إن ربّنا سميعٌ بصيرٌ، واْشار إلى عينيه". وسنده حسن. ذكره في "الفتح"

(1)

.

[تنبيه]: قال الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى- في "تفسيره" بعد أن أورد قصّة خولة المذكورة: ما نصّه: هذا هو الصحيح في سبب نزول هذه السورة، فأما حديث سلمة بن صخر، فليس فيه أنه كان سبب النزول، ولكن أمر بما أنزل اللَّه في هذه السورة، من العتق، أوالصيام، أو الإطعام، كما قال الإمام أحمد:

15986 -

حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سليمان بن يسار، عن سلمة بن صخر الأنصاري، قال: كنت امرأ، قد أوتيت من جماع النساء، ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان، تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فَرَقًا من أن أصيب في ليلتي شيئا، فأتتابع في ذلك، إلى أن يدركني النهار، وأنا لا أقدر على أن أنزع، فبينا هي تخدمني، إذ تكشف لي منها شيء، فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي، فأخبرتهم خبري، وقلت لهم: انطلقوا معي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بأمري، فقالوا: لا واللَّه لا نفعل، نتخوف أن ينزل فينا قرآن، أو يقول فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت، فاصنع

ما بدا لك، قال: فخرجت، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته خبري، فقال لي:"أنت بذاك؟ "، فقلت: أنا بذاك، فقال:"أنت بذاك؟ "، فقلت: أنا بذاك، قال:"أنت بذاك؟ "، قلت: نعم، ها أنا ذا، فأمض فيّ حكم اللَّه عز وجل، فإني صابر له، قال:"أعتق رقبة"، قال: فضربت صفحة رقبتي بيدي، وقلت: لا، والذي بعثك بالحق ما، أصبحت أملك غيرها، قال:"فصم شهرين"، قال: قلت: يا رسول اللَّه، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام، قال:"فتصدق"، قال: فقلت: والذي بعثك بالحق، لقد بتنا ليلتنا هذه، وَحْشَاء، ما لنا عشاء، قال: "اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له، فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقا من تمر، ستين مسكينا، ثم استعن بسائره عليك

(1)

"فتح" 15/ 325. "كتاب التوحيد".

ص: 71

وعلى عيالك"، قال: فرجعت إلى قومي، فقلت: وجدت عندكم الضيق، وسوء الرأي، ووجدت عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، السعة والبركة، قد أمر لي بصدقتكم، فادفعوها لي، قال: فدفعوها إليّ

(1)

.

وهكذا رواه أبو داود، وابن ماجه، واختصره الترمذيّ، وحسّنه، وظاهر السياق أن هذه القصّة كانت بعد قصّة أوس بن الصامت، وزوجته خويلة بنت ثعلبة، كما دلّ عليه سياق تلك وهذه بعد التأمّل. انتهى كلام ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌34 - (بَابُ مَا جَاءَ فِي الْخُلْعِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الخلع" -بضمّ الخاء المعجمة، وسكون اللام- قال في "المصباح": خَلَعتُ النعل وغيره خَلْعًا، أي من باب نفع: نزعتُهُ، وخالعت المرأة زوجها مُخالعةً: إذا افتدت منه، وطلّقها على الفدية، فَخَلَها هو خَلْعًا، والاسم الْخُلْعُ بالضمّ، وهو استعارة من خَلَع اللباس؛ لأن كلّ واحد منهما لباس للآخر، فإذا فعلا ذلك فكأن كلّ واحد نزع لباسه عنه. انتهى.

وقال العينيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ما حاصله: "الخلع" -بضمّ الخاء المعجمة، وسكون اللام- مأخوذٌ من خَلَعَ الثوبَ والنعلَ، ونحوَهما، من باب نفع، وذلك لأن المرأة لباس الرجل، كما قال اللَّه تعالى:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} الآية. وإنما جاء مصدره بضمّ الخاء تفرقةً بين الأجرام والمعاني، يقال: خلع ثوبه ونعله خَلْعًا -بفتح الخاء- وخلع امرأته خُلْعًا وخُلْعَة -بالضمّ-. وأما حقيقته الشرعيّة، فهو فراق الرجل امرأته على عوض يحصل له. هكذا قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ"، وقال: هو الصواب. وقال كثير من الفقهاء: هو مفارقة الرجل امرأته على مال. وليس بجيّد، فإنه لا يشترط كون العوض في الخلع مالاً، فإنه لو خالعها بما لها عليه من دين، أو خالعها

(1)

حديث حسن، كما قال الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى-.

(2)

"تفسير ابن كثير" 4/ 342. "تفسير سورة المجادلة".

ص: 72

على قصاص لها عليه، فإنه صحيح، وإن لم يأخذ الزوج منها شيئًا، فلذلك عبّرت بالحصول، لا بالأخذ. انتهى "عمدة القاري"

(1)

.

وقال في "الفتح": وذكر أبو بكر بن دُريد في "أماليه" أن أوّل خلع كان في الدنيا أن عامر بن الظرب -بفتح المعجمة، وكسر الراء، ثم موحّدة- زوّج ابنته من ابن أخيه عامر بن الحارث بن الظرب، فلما دخلت عليه نفرت منه، فشكا إلى أبيها، فقال: لا أجمع عليك فراق أهلك ومالك، وقد خلعتها منك بما أعطيتها. قال: فزعم العلماء أن هذا كان أول خلع في العرب انتهى.

وأما أول خلع وقع في الإسلام فهو الآتي في الحديث الثاني، في قصّة حبيبة بنت سهل - رضي اللَّه تعالى عنها -، فإنها أوّل مختلعة في الإسلام، كما أخرجه البزّار من حديث عمر رضي الله عنه. كما سيأتي.

وُيسمّى أيضًا فديةً، وافتداء. وأجمع العلماء على مشروعيته إلا بكر بن عبد اللَّه المزنيّ التابعيّ المشهور، فإنه قال: لا يحلّ للرجل أن يأخذ من امرأته في مقابل فراقها شيئًا؛ لقوله تعالى: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} ، فأوردوا عليه قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ، فادّعى نسخها بآية النساء

(2)

0 أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنه. وتُعُقّب مع شذوذه بقوله تعالى في النساء أيضًا: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} الآية، وبقوله فيها:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا} الآية، وبالحديث، وكأنه لم يثبت عنده، أو لم يبلغه، وانعقد الإجماع بعده على اعتباره، وأن آية النساء مخصوصة بآية البقرة، وبآيتي النساء الآخرتين.

وضابطه شرعًا فراق الرجل زوجته ببذل قابل للعوض، يحصل لجهة الزوج. وهو مكروه إلا في حال مخافة أن لا يقيما، أو أحدهما ما أمر به. وقد ينشأ ذلك عن كراهة العشرة، إما لسوء خَلْقٍ، أو خُلُق. وكذا ترفع الكراهة إذا احتاجا إليه خشية حنث يؤول إلى البينونة الكبرى. انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3488 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْمَخْزُومِيُّ -وَهُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ- قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:«الْمُنْتَزِعَاتُ، وَالْمُخْتَلِعَاتُ، هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ» . قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

(1)

"عمدة القاري" 17/ 42. "باب الخلع".

(2)

يعني قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} الآية.

(3)

"فتح" 10/ 496 - 497 "باب الخلع". رقم 5273.

ص: 73

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ شَيْئًا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المترجم في الباب الماضي.

2 -

(المغيرة بن سلمة المخزوميّ) أبو هشام البصريّ، ثقة ثبت، من صغار [9] 28/ 815.

3 -

(وُهيب) بن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، لكنه تغيّر قليلاً بآخره [7] 21/ 427.

4 -

(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت فقيه فاضل [5] 42/ 48.

5 -

(الحسن) بن أبي الحسن يسار الأنصاريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة فقيه

فاضل مشهور، لكنه كثير الإرسال والتدليس [3] 32/ 36.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غيرأنه منقطع على ما قاله المصنّف، وسيأتي تحقيق القول في ذلك عند شرح كلامه، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وأبي هريرة، فمدنيّ (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، أيوب، عن الحسن. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "الْمُنْتَزِعَاتُ) أي التي تنزع نفسها من يد زوجها بما تدفعه له من العوض، وهو بمعنى قوله (وَالْمُخْتَلِعَاتُ) قال ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى-: يعني اللاتي يطلبن الخلع، والطلاق من أزواجهنّ بغير عذر، يقال: خَلَعَ امرأتَهُ خُلْعًا، وخالعها مخالعةً، واختلعت هي منه، فهي خالعٌ. وأصله من خلع الثوب. والخلع أن يطلّق زوجته على عوض، تبذُله له. وفائدته إبطال الرجعة إلا بعد عقد جديد. وفيه عند الشافعيّ خلافٌ، هل هو فسخٌ، أو طلاقٌ؟. وقد يُسمّى الخلع طلاقًا انتهى كلام ابن الأثير

(1)

(هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ) أي إنهنّ كالمنافقات في كونهنّ لا

(1)

"النهاية" 2/ 65.

ص: 74

يحقّ لهنّ دخول الجنّة، مع من يدخلها أوّلاً، ففيه تحريم الخلع على المرأة من غير ضرورة. وقد أخرج أحمد، وأبو داود، والترمذيّ بإسناد صحيح، عن ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة، سألت زوجها طلاقا، في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة". واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ: الْحَسَنُ) البصريّ -رحمه اللَّه تعالى- (لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ) ولفظ "الكبرى": قال الحسن: "لم أسمعه من أحد غير أبي هريرة". يعني أنه لم يسمع هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه بواسطة، بل إنما سمعته من نفسه. وهذا صريحٌ على أن الحسن سمع من أبي هريرة رضي الله عنه، خلافًا لكلام المصنّف الآتي.

وهذا الذي وقع في "المجتبى"، و"الكبرى" من نصّ كلام الحسن هو الصواب، وقد وقع عند الحافظ ابن حجر في "الفتح"، و"التهذيب" بلفظ:"قال الحسن: لم أسمع من أبي هريرة غير هذا الحديث". ووقع لابن حزم في "المحلّى" بلفظ: "قال الحسن: لم أسمعه من أبي هريرة" وكلاهما تصحيف، والصواب ما هنا، وسيأتي تمام البحث فيه في كلام العلامة أحمد محمد شاكر -رحمه اللَّه تعالى-.

(قَالَ: أَبو عَبْد الرَّحْمَنِ) النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى- (الْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (شَيْئًا) وهذا الذي قاله المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، قاله غيره أيضًا، ومنهم أحمد، وأبو حاتم، وبهز بن أسد. وقال شعبة: قلت ليونس بن عبيد: سمع الحسن من أبي هريرة؟ قال: ما رآه قط.

لكن السند الذي عند المصنّف رجاله كلهم ثقات أثبات، وهو صريح لا يقبل التأويل في أن الحسن سمع من أبي هريرة رضي الله عنه.

ولقد أجاد البحث في هذه المسألة العلامة أحمد محمد شاكر -رحمه اللَّه تعالى- فيما كتبه على "مسند الإمام أحمد" -رحمه اللَّه تعالى-، وهاك نصّه:

وقد تكلّم العلماء كثيرًا في سماع الحسن من بعض الصحابة، وأشرنا إلى بعض ذلك مرارًا، وممن تحدّثوا في سماعه منه، فأكثروا أبو هريرة، ونشير إلى أقاويلهم، ومن رواها:

فروى ابن سعد في "الطبقات" 7/ 115/1 عن عليّ بن زيد بن جُدْعان، وعن يونس: لم يسمع الحسن من أبي هريرة. وروى ابن أبي حاتم في "المراسيل" ص 13 - 14 عن شعبة، قلت ليونس بن عُبيد: الحسن سمع من أبي هريرة؟ قال: لا، ولا رآه قط. وروى عن أيوب، وعليّ بن زيد، قالا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة. وروى عن بهز، أنه سئل عن الحسن: من لقي من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمع من ابن عمر

ص: 75

حديثًا، ولم يسمع من أبي هريرة، ولم يره. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: لم يسمع الحسن من أبي هريرة. وسمعت أبا زرعة يقول: لم يسمع الحسن من أبي هريرة، ولم يره. قلت له: فمن قال: حدثنا أبو هريرة؟ قال يُخطىء. ثم أشار ابن أبي حاتم إلى رواية ربيعة بن كلثوم لهذا الحديث الذي يأتي قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى، والتي يقول فيها: سمعت الحسن يقول: حدّثنا أبو هريرة الخ، وأن أباه أبا حاتم قال: لم يعمل ربيعة بن كلثوم شيئًا، لم يسمع الحسن من أبي هريرة شيئًا. ثم قال: قلت لأبي إن سالمًا الخيّاط روى عن الحسن، قال: سمعت أبا هريرة؟ قال: هذا ما يبيّن ضعف سالم.

وروى ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 1/ 2/ 41 عن أبيه أيضًا، قال أبي: قال بعضهم: عن الحسن: حدثنا أبو هريرة، قال ابن أبي حاتم إنكارًا عليه أنه لم يسمع من أبي هريرة.

وقال ابن حبّان في "كتاب الضعفاء" ص 229 في ترجمة سالم بن عبد اللَّه الخياط:

يقلب الأخبار، ويزيد فيها ما ليس منها، يجعل روايات الحسن عن أبي هريرة سماعًا، ولم يسمع الحسن من أبي هريرة شيئًا.

قال: الشيخ أحمد شاكر: وأكثر هذه الروايات منقول في "التهذيب" في ترجمة الحسن، وهي -عندي- أقوال مرسلة على عواهنها، يقلّد بعضهم بعضًا، دون نظر إلى سائر الروايات التي تُثبت سماعه من أبي هريرة، ودون نظر إلى القواعد الصحيحة في الرواية:

فإن الراجح عند أهل العلم بالحديث أن المعاصرة كافيةٌ في الحكم بالاتّصال، إلا أن يثبت في حديث بعينه أن الراوي لم يسمعه ممن روى عنه، أو يثبت أنه كثير التدليس، والمتشدّدون -كالبخاريّ- يشترطون اللُّقِيّ، أي يثبت أن الراوي لقي من حدّث عنه، ولو أن يثبت ذلك في حديث واحد، فإذا ثبت اللُّقيّ حمل سائر الروايات على الاتصال، إلا أن يثبت أيضًا في حديث بعينه عدم سماعه.

وأن الراوي الثقة إذا قال في روايته: حدّثنا، أو سمعت، أو نحو ذلك كان ذلك قاطعًا في لقائه من روى عنه، وفي سماعه منه، وكان ذلك كافيًا في حمل كلّ رواياته عنه على السماع، دون حاجة إلى دليل آخر، إلا فيما ثبت أنه لم يسمعه، وهذا شيء بديهيّ؛ لأن الراوي إذا روى أنه سمع من شيخه، مصرّحًا بذلك، ولم يكن قد سمع منه، لم يكن راويًا ثقة، بل كان كذّابًا لا يؤتمن على الرواية.

أما معاصرة الحسن لأبي هريرة، فما أظنّ أن أحدًا يشكّ فيها، أو يتردّد، فأبو هريرة

ص: 76

مات سنة (57 هـ) وكانت سق الحسن إذ ذاك (36) سنة. وأما من ادّعى أن الحسن لم يلق أبا هريرة، فأنّى له أن يُثبت ذلك؟ وهو إنما يجزم بنفي مطلق، تنقضه الروايات الأخرى الثابتة التي إذا جمُعت، ونُظر فيها بعين الإنصاف، دون التكلّف والتمحّل لم تدع شكَّا في ذلك.

فروى ابن أبي حاتم في "المراسيل" ص13 بإسناد صحيح عن شعبة، عن قتادة، قال: قال الحسن: إن واللَّه ما أدركنا حتى مضى صدر أصحاب محمد الأول. قال قتادة: إنما أخذ الحسن، عن أبي هريرة، قلت له -القائل شعبة-: زعم زياد الأعلم أن الحسن لم يلق أبا هريرة؟ قال: لا أدري. وقتادة تابعي أيضًا، أصغر من الحسن، مات بعده بسبع سنين، وهو من أعلم أصحاب الحسن، كما قال أبو زرعة. وقال أبو حاتم في "الجرح والتعديل" 3/ 2/ 135: أكثر أصحاب الحسن قتادة، وأثبت أصحاب أنس الزهريّ، ثم قتادة.

فهذا قتادة يجزم بأن الحسن إنما أخذ عن أبي هريرة، بكلمة عامّة مطلقة، يفهم سامعها أن الحسن أخذ عن أبي هريرة العلم، لا أنه أخذ منه حديثًا واحدًا، أو أحاديث معدودةً، وقتادة من أعلم الناس بالحسن، فأنّى تؤثّر كلمة زياد بن حسّان الأعلم التي اعترض بها شعبة بصيغة تُشعر بالتمريض؟ ولذلك لم يجد قتادة جوابًا إلا أن يقول: لا أدري، لا يريد بذلك أنه يشكّ فيما عرف عن شيخه، إنما يشكّ فيما زعم زياد الأعلم، ويوحي باستنكاره، ومن فهم غير هذا، فإنما يُخطىء مواقع الكلام.

ثم قد جاءت روايات صحيحة فيها تصريح الحسن بالسماع من أبي هريرة، مجموعها لا يدع ارتيابًا في صحّة ذلك، وإن فرّقها العلماء في مواضع، وحاول بعضهم أن يتأول ما وقع إليه منها بما وقر في نفوسهم من النفي المطلق، حتى جعلوه جرحًا لبعض الرواة، كما صنع ابن حبّان -فيما حكينا عنه من قبل- في شأن سالم الخيّاط.

ولكن الحافظ ابن حجر لم يستطع أمام بعض الروايات الثابتة، إلا أن ينقض هذا النفي المطلق بحديث واحد، لم يجد منه مناصًا، فقال في "التهذيب" 2: 269 - 270 بعد ذكره ذلك الحديث: وهذا إسناد لا مطعن في أحد من رواته، وهو يؤيّد أنه سمع من أبي هريرة في الجملة. وقال في "الفتح" 9/ 354 في الحديث نفسه: وما المانع أن يكون سمع هذا منه فقط، وسنذكر كلامه مفصّلاً، واستدراكنا عليه فيما يأتي في هذا البحث، إن شاء اللَّه.

وقد جمعت ما استطعت مما صرّح فيه الحسن بالسماع من أبي هريرة، ولم أستقص، فما ذلك في مقدوري، ولكن فيما سأذكر مقنعٌ لمن شاء أن يقنع، واللَّه وليّ التوفيق.

ص: 77

1 -

حديث هذا الباب الذي نشرحه (7138) -يعني في "مسند أحمد" - رواه ابن سعد في "الطبقات" 7/ 1/ 115: أخبرنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدّثنا ربيعة بن كلثوم، قال: سمعت رجلاً قال للحسن: يا أبا سعيد، يوم الجمعة يوم لثق وطين ومطر؟ فأبى عليه الحسن إلا الغسل، فلما أبى عليه قال الحسن: حدثنا أبو هريرة، قال: عهد إليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: الغسل يوم الجمعة، والوتر قبل النوم، وصيام ثلاثة أيام من كلّ شهر.

وهذا هو الحديث أشار إليه ابن أبي حاتم في "المراسيل" فيما نقلناه عنه آنفًا، أنه سأل عنه أباه؟ فقال أبوه أبو حاتم: لم يعمل ربيعة بن كلثوم شيئًا، لم يسمع الحسن من أبي هريرة شيئًا. وكيف كان هذا؟ لا أدري إنما هو نفي مطلقٌ، وتحكّم ما بعده تحكّم. فربيعة بن كلثوم بن جبر ثقة، وثّقه ابن معين، والعجليّ وغيرهما، وقال أحمد بن حنبل: صالحٌ، وللنسائيّ فيه قولان متقاربان: ليس به بأس، وليس بالقويّ. وترجمه البخاريّ في "الكبير" 2/ 1/ 226 فلم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم 1/ 2/ 477 - 478 وروى توثيقه عن ابن معين، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وأخرج له مسلم في "صحيحه".

فهذا إسنادٌ صحيح حجة في تصريح الحسن بسماعه من أبي هريرة، بل إن فيه قصّة تدلّ على تثبّت راويه، إذ شهد سؤال الرجل للحسن، وجواب الحسن إياه. وقد ذكر البخاريّ في "الكبير" 2/ 2/ 17 رواية ربيعة هذه بإشارته الدقيقة كعادته، حين أشار إلى روايات هذا الحديث، والخلاف بين رواته في غسل الجمعة، أو صلاة الضحى، وذلك في ترجمة سليمان بن أبي سليمان، فقال: وقال موسى: حدثنا ربيعة، عن الحسن، نا أبو هريرة

نحوه، وقال الغسل يوم الجمعة. فموسى: هو ابن إسماعيل التبوذكيّ، شيخ البخاريّ، وربيعة هو ابن كلثوم، وهذه الرواية عند البخاريّ تؤيّد ما ذهبنا إليه من صحّة سماع الحسن من أبي هريرة، إذ من عادة البخاريّ أن يشير إلى العلة في الإسناد، أو في الراوي، إذا كان يرى علّة، أما وقد ساق هذا الإسناد، وفيه تصريح الحسن بالسماع من أبي هريرة، ولم يعقب عليه: فإنه يدلّ على صحّة سماعه منه عنده.

2 -

وروى ابن سعد أيضًا: حدّثنا بن إبراهيم، قال حدّثنا أبو هلال محمد بن سُليم، قال: سمعت الحسن يقول: كان موسى نبيّ اللَّه لا يغتسل إلا مستترًا، قال: فقال له عبد اللَّه ابن بُريدة: يا أبا سعيد، ممن سمعت هذا؟ قال: سمعته من أبي هريرة.

وهذا إسناد صحيحٌ، أبو هلال الراسبيّ محمد بن سُليم وثّقه أبو داود. وقال ابن معين: ليس به بأس، وليس بصاحب كتاب. وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 3/ 2/ 273 - 274: قال أبي: أدخله البخاريّ في "كتاب الضعفاء"، فسمعت.

ص: 78

أبي يقول: يُحوّل من "كتاب الضعفاء"، وكلمة البخاريّ في "الضعفاء" ص31 هي كلمته في "الكبير" 1/ 1/ 105 قال: كان يحيى بن سعيد لا يروي عنه، وابن مهديّ يروي عنه. قال أحمد شاكر: وعندي أن من تكلّم فيه إنما تكلّم في حفظه في روايته عن قتادة خاصّة، فقد روى ابن أبي حاتم، عن أبي بكر الأثرم، قال: سألت أبا عبد اللَّه أحمد بن حنبل عن أبي هلال -يعني الراسبيّ؟ - قال: قد احتُمل حديثه، إلا أنه يخالف في حديث قتادة، وهو مضطرب الحديث في قتادة.

فهذا إسناد يصلح للاحتجاج به في سماع الحسن من أبي هريرة؛ لأن راويه أبا هلال الراسبيّ لم يروه عن قتادة الذي يضطرب روايته عنه، بل رواه عن الحسن، وسياق الرواية يدلّ على أنه حفظ القصّة، فذكرها مفصّلةً، وشهد عبد اللَّه بن بُريدة، وهو يسأل الحسن: ممن سمعت هذا؟، وسمع جوابه: سمعته من أبي هريرة، ومثل هذا التفصيل يدلّ على توثّق الراوي مما سمع، وحفظه إياه.

3 -

وروى ابن سعد أيضًا: أخبرنا معن بن عيسى، قال: حدّثنا محمد بن عمرو، قال: سمعت الحسن يقول: سمعت أبا هريرة يقول: "الوضوء مما غيّرت النار". قال: فقال الحسن: لا أدعه أبدًا.

فهذا إسناد جيّد، يصلح للمتابعات والشواهد على الأقلّ؛ لأن راويه محمد بن عمرو هو الأنصاريّ الواقفيّ، أبو سهل، ضعّفه يحيى القطّان، وغيره، ولكن ترجمه البخاريّ في "الكبير" 1/ 1/ 194، فلم يذكر فيه جرحًا، ولم يذكره هو ولا النسائيّ في "الضعفاء"، واضطرب فيه ابن حبّان، فذكره في "الثقات"، ثم أعاده في "الضعفاء"، كما في "التهذيب"، بل جزم ابن حزم في "المحلّى" بتوثيقه، فروى 4/ 256 حديثًا آخر من طريقه، ثم قال: وأبو سهل محمد بن عمرو الأنصاريّ، ثقة، روى عنه ابن مهديّ، ووكيع، ومعمرٌ، وعبد اللَّه بن المبارك، وغيرهم.

وروى الإمام أحمد في "المسند" -8727 - : حدّثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدّثنا عبّاد بن راشد، حدّثنا الحسن، حدثنا أبو هريرة، إذ ذاك، ونحن بالمدينة

فذكر حديثًا. ثم قال عبد اللَّه بن أحمد عقب روايته: "عباد بن راشد ثقة"، ولكن لم يسمع الحسن من أبي هريرة. ونقله ابن كثير في "تفسيره" 2/ 180 - 181 عن "المسند" مع استدراك عبد اللَّه بن أحمد.

وروى الطيالسيّ قطعة منه في "مسنده" -2472 - قال: حدثنا عبّاد بن راشد، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا أبو هريرة، ونحن بالمدينة. ولم يستدرك الطيالسيّ عقبه بشيء.

ص: 79

فهذا الاستدراك من عبد اللَّه بن أحمد، ومثله فيما سيأتي استدراك النسائيّ من أعجب ما رأيت من دون دليل، إلا التقليد الصرف.

عبّاد بن راشد التميميّ البصريّ، ثقة، قال أحمد بن حنبل: شيخ ثقة صدوق صالح. ووثقه العجليّ، والبزّار، وغيرهما، وضعّفه أبو داود وغيره، وذكره البخاريّ في "الضعفاء" ص 23 وقال: روى عنه ابن مهديّ، يهم شيئًا، وتركه يحيى القطّان. فقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 3/ 1/ 79: سألت أبي عن عباد بن راشد؟ فقال: صالح، واْنكر على البخاريّ إدخال اسمه في "كتاب الضعفاء"، وقال: يُحوّل من هناك، ومع ذلك فقد روى له البخاريّ في "صحيحه"، وزعم الحافظ في "التهذيب" 5/ 92 أنه روى له مقرونًا بغيره، وحديثه عند البخاريّ 8/ 143 غير مقرون بأحد، وقد غيّر الحافظ العبارة في "مقدّمة الفتح" ص410، فقال: له في "الصحيح" حديث واحد في تفسير سورة البقرة بمتابعة يونس له، والمتابعة التي أشار إليها جاء بها البخاريّ معلّقة عقب رواية عبّاد، وليس التعليق عند البخاريّ كالموصول، فرواية عباد عنده في ذلك أصل. فالراوي الثقة عند أحمد، وابنه عبد اللَّه، يروي عن الحسن سماعًا منه أنه قال: حدّثنا أبو هريرة إذ ذاك، ونحن بالمدينة، ثم لا ينفرد بتصريح الحسن بالسماع من أبي هريرة، بل يتابعه فيه ثقات آخرون، ممن ذكرنا قبل، وممن نذكر بعد، ثم يقال: ولكن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، لا أدري ماذا أقول؟ إلا أن أستغفر لمن صنع هذا، فاخطأ، رحمنا اللَّه وإياهم.

5 -

وروى النسائيّ 2/ 104: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم إلى آخر حديث الباب.

ثم عقّب النسائيّ على هذا الحديث بقوله: قال أبو عبد الرحمن: لم يسمع الحسن من أبي هريرة شيئًا.

قال ابن شاكر: وهذا هو الاستدراك الآخر بالعسف والتحكم الذي أشرنا إليه آنفًا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، لا مطعن في أحد من رواته يصرّح فيه الحسن بأنه لم يسمعه من غير أبي هريرة، ثم يقال من غير دليل، ولا حجة: لم يسمع الحسن من أبي هريرة شيئًا.

قال: وكلمة الحسن التي في رواية النسائيّ قاطعة في إثبات سماعه من أبي هريرة، دون حاجة إلى دليل آخر، ومع ذلك فقد تأيّدت صحّتها بما سُقنا من الروايات قبل. وهي ثابتة بهذا النصّ حرفيًّا في طبعة مصر -كما ذكرنا- وفي طبعة الهند ص 547 وفي المخطوطتين اللتين عندي، وإحداهما نسخة الشيخ عابد السنديّ، وهي موثقة التصحيح، كما قلنا مرارًا.

ص: 80

وقد نقلها حافظان كبيران عن النسائيّ محرّفة على غير هذا النصّ، وتحريفها عندهما لا ينفي سماع الحسن من أبي هريرة، بل يُثبته، كما سنذكره، حتى إن أحدهما، وهو الحافظ ابن حجر لم يجد مناصًا من القول بسماعه منه في الجملة، ونقض النفي العامّ الذي قلّد فيه بعضهم بعضًا:

فنقلها ابن حزم في "المحلّى" 10/ 236، إذ روى الحديث من طريق النسائيّ، وذكرها بلفظ: قال الحسن لم أسمع من أبي هريرة، ثم بني عليها عدم صحّة ذلك الحديث عنده، فقال: فسقط بقول الحسن أن نحتجّ بذلك الخبر.

فهذه الرواية لكلمة الحسن وقعت لابن حزم على اللفظ الذي نقله، ولعلّ الغلط فيها من بعض الناسخين، أو الرواة الذين أخذ عنهم كتاب النسائيّ، ولذلك احتجّ باللفظ الذي وقع له، مستدلاًّ به على أن هذا الحديث بعينه ضعيف؛ لتصريح الحسن في الرواية التي عنده بأنه لم يسمعه من أبي هريرة. ونسخ كتاب النسائيّ الصحيحة هي على اللفظ الذي نقلناه.

ومع هذا فإن اللفظ الذي وقع لابن حزم لو صحّ عن الحسن كان دليلاً على سماعه من أبي هريرة بمفهوم الكلام وإيمائه، إذ ينصّ على أنه لم يسمع هذا الحديث بعينه من أبي هريرة، فيؤخذ منه أنه معروفٌ بالسماع منه، وأن ما يرويه عنه إنما يرويه سماعًا، ولذلك نصّ على الحديث الذي لم يسمعه؛ لئلا يُحمل على ما عُرف عنه.

ووقعت كلمة الحسن للحافظ ابن حجر بلفظ: قال الحسن: لم أسمع من أبي هريرة غير هذا الحديث. نقلها في "الفتح" 9/ 354، و"تهذيب التهذيب" 2/ 269 - 270، وعقّب عليها في الموضعين بما يُفيد تسليمه بسماع الحسن من أبي هريرة.

فقال في "التهذيب": أخرجه -يعني النسائيّ- عن إسحاق بن راهويه، عن المغيرة بن سلمة، عن وُهيب، عن أيوب، وهذا إسناد لا مطعن في أحد من رواته، وهو يؤيّد أنه سمع من أبي هريرة في الجملة.

وقال في "الفتح": وقد تأوله بعضهم على أنه أراد لم يسمع هذا إلا من حديث أبي هريرة، وهو تكلّف، وما المانع أن يكون سمع هذا منه فقط، وصار يُرسل عنه غير ذلك.

فلم يستطع الحافظ أن يتفضى من دلالة كلمة الحسن على اللفظ الذي وقع له، واضطرّ إلى التسليم بسماع الحسن من أبي هريرة في الجملة.

واللفظ الثابت في كتاب النسائيّ بيّنٌ واضحٌ، صريحٌ في السماع، دالّ بإيمائه على أن الحسن لم يسمع حديث "المختلعات" من أحد من الصحابة غير أبي هريرة، وعلى أن

ص: 81

سماعه من أبي هريرة معروفٌ، ليس موضع شكّ، أو تردّد، انتهى المقصود من كلام العلامة أحمد محمد شاكر -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال الشيخ الألباني في "سلسلته الصحيحة" بعد أن ذكر رواية المصنّف:

وبالجملة فهذا الإسناد متّصل صحيح، فلا يُلتفت إلى إعلال النسائيّ له بالانقطاع؛ لأنه يلزم منه أحد أمرين: إما تكذيب الحسن البصريّ في قوله المذكور، وإما توهيم أحد الرواة الذين رووا ذلك عنه، وكلّ منهما لا سبيل إليه، أما الأول فواضحٌ، وأما الآخر، فلأنه لا يجوز توهيم الثقات بدون حجّة، أو بيّنة، وهو واضح بيّن. ثم ذكر للحديث شواهد من أحاديث: أنس بن مالك، وعبد اللَّه بن مسعود، وثوبان، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم، وكلّها فيها مقالٌ، غير أنها تصلح للاستشهاد بها، فراجع ما كتبه في "صحيحته" 2/ 210 - 214 رقم الحديث 632.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: خلاصة القول في هذه المسألة أن الراجح ثبوت سماع الحسن من أبي هريرة رضي الله عنه، وصحّة حديث الباب؛ حيث إنه متّصل الإسناد، ورجاله ثقات، لا مطعن في أحد منهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-34/ 3488 - وفي "الكبرى" 35/ 5655. وأخرجه (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 9094. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما ورد في حكم الخلع. (ومنها): أن فيه تحريم الخلع من غير حاجة تدعو إليه، كما بينته الآية:{إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} الآية. (ومنها): أن الخلع بلا حاجة يعتبر نفاقًا، وقد تقدّم حديث ثوبان رضي الله عنه، مرفوعًا:"أيما امرأة سألت زوجها طلاقا في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنّة". قيل: هو على نهج الوعيد والمبالغة في التهديد، أو وقوع ذلك متعلّقٌ بوقت دون وقت، أي لا تجد رائحة الجنّة أول ما يجدها المحسنون، أو لا تجدها أصلاً، وهذا

(1)

راجع ما كتبه الشيخ أحمد شاكر على مسند أحمد" 12/ 107 - 116. رقم الحديث 7138.

ص: 82

من المبالغة في التهديد، ونظير ذلك كثير. قاله القاضي. ولا بدّع أنها تُحرم لذّة الرائحة، ولو دخلت الجنّة. قاله القاري

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن الأَوْلَى أن يُحمل الوعيد المذكور ونحوه على من كانت مستحلّة مع علمها بتحريمه، فلا تجد رائحة الجنّة، أي لا تدخل الجنّة، فتجد ريحها، فيكون منعها منعًا مؤبّدًا، لكفرها باستحلالها ما حرّم اللَّه تعالى، وإن كانت لا تستحلّه، بل تعلم أنها عاصية، فمنعها يكون منعًا أوليًّا، فلا تدخل مع من لم يقترف ذنبًا أصلاً، بل إنما تدخل بعد أن تعذّب، بقدر ذنبها، إلا أن يعفو اللَّه تعالى عنها، وهكذا في كلّ نصّ جاء على هذا النحو. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3489 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ، أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، خَرَجَ إِلَى الصُّبْحِ، فَوَجَدَ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ عِنْدَ بَابِهِ فِي الْغَلَسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ هَذِهِ؟» ، قَالَتْ: أَنَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «مَا شَأْنُكِ؟». قَالَتْ: لَا أَنَا، وَلَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ. لِزَوْجِهَا، فَلَمَّا جَاءَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هَذِهِ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ، قَدْ ذَكَرَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ» ، فَقَالَتْ حَبِيبَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كُلُّ مَا أَعْطَانِي عِنْدِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِثَابِتٍ: «خُذْ مِنْهَا» ، فَأَخَذَ مِنْهَا، وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن سلمة) بن أبي فاطمة المراديّ الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.

2 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن الْعُتَقيّ، أبو عبد اللَّه المصريّ، ثقة فقيه، من كبار [10] 19/ 20.

3 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة، أبو عبد اللَّه الفقيه الثبت الحجة [7] 7/ 7.

4 -

(يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5] 22/ 23.

5 -

(عمرة بنت عبد الرحمن) بن سعد بن زُرارة الأنصاريّة المدنيّة، ثقة [3] 134/ 203.

(1)

"عون المعبود شرح سنن أبي داود" 6/ 308.

ص: 83

6 -

(حبيبة بنت سهل) بن ثعلبة بن الحارث بن زيد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النجّار الأنصاريّة. روى حديثها يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن عمرة، عنها أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شمّاس. وقد اختُلف فيه على يحيى بن سعيد، وعلى عمرة بنت عبد الرحمن. وقيل: إن التي اختلعت من ثابت بن قيس بن شَمّاس جميلة بنت أُبيٍّ ابن سَلُولَ. قال بعض العلماء: وجائزٌ أن يكون كلّ واحدة منهما اختلعت منه. وقيل: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان عزم على تزويجها، ثم تركها، فتزوّجها ثابت، ثمّ اختلعت منه. وذكر ابن سعد في "الطبقات" عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد همّ أن يتزوّج حبيبة بنت سهل، وهي إحدى عمّاتي، ثم ذكر غيرة الأنصار، فكره أن يسوءهم.

وسيأتي تمام البحث في هذا في الحديث التالي، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فمصريان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ) بن مالك بن امرئ القيس الخزرجيّ، أبي عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد المدنيّ، خطيب النبيّ صلى الله عليه وسلم. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعنه أولاده: محمد، وقيس، وإسماعيل، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. واستُشهد باليمامة في خلافة أبي بكر الصّدّيق سنة (12هـ)، شهد بدرًا

(1)

، والمشاهد كلّها، ودخل عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو عليل، فقال:"أذهب الباس ربّ الناس عن ثابت بن قيس بن شمّاس". وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل ثابت بن قيس بن شمّاس". رواه الترمذيّ بإسناد حسن. وبشّره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالجنّة في قصّة رواها موسى بن أنس، عن أبيه. وفي البخاريّ مختصرًا، والطبرانيّ مطوْلاً عن أنس رضي الله عنه، قال: لَمّا انكشف الناس يوم اليمامة قلتُ لثابت بن قيس: ألا ترى يا عمّ؟ ووجدته يتحنّط، فقال: ما هكذا كنّا نفعل مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بئسما عوّدتم أقرانكم، اللَّهمّ إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ومما صنع هؤلاء، ثم قاتل حتّى قُتل، وكان عليه درع نفيسةٌ، فمرّ به رجلٌ مسلمٌ، فأخذها، فبينما رجلٌ من المسلمين نائمٌ أتاه

(1)

هكذا في "تهذيب التهذيب"1/ 267 والذي في "الإصابة": 2/ 15: "لم يذكره أصحاب المغازي في البدريين، وقالوا: أول مشاهده أحد، وما بعدها".

ص: 84

ثابت في منامه، فقال: إني أوصيك بوصيّة، فإياك أن تقول هذا حُلُم، فتضيّعه، إني لما قُتلت أخذ درعي فلانٌ، ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرسٌ تستنّ

(1)

، وقد كفأ على الدرع بُرْمة، وفوقها رَحْلٌ، فَأْتِ خالدًا، فمُرْه، فليأخذها، وليقُل لأبي بكر: إن عليّ من الدين كذا وكذا، وفلانٌ عتيقٌ، فاستيقظ الرجل، فأتى خالدًا، فأخبره، فبعث إلى الدرع، فأُتي بها، وحدّث أبا بكر برؤياه، فأجاز وصيّته. ورواه البغويّ من وجه آخر عن عطاء الخراسانيّ، عن بنت ثابت بن قيس مطوّلاً

(2)

. ليس له رواية عند المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وإنما أورده خلال هذه القصّة، وأخرج له في "عمل اليوم والليلة"، وله حديث واحد في "صحيح البخاري"، وحديثان عند أبي داود.

(وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، خَرَجَ إِلَى الصُّبْحِ) أي إلى أداء صلاة الصبح جماعةً في المسجد (فَوَجَدَ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْل عِنْدَ بَابِه) أي باب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (فِي الْغَلَسِ) بفتحتين: أول الصبح حتى ينتشر في الآفاق، وكذلك الْغَلَس -بالباء- وهما سواد مختلط ببياض وحمرة، مثل الصبح سواء. وفي الحديث الصحيح:"كان يصلي الصبح بغلس": ظلمة آخر الليل إذا اختلط بضوء الصباح. أفاده في "اللسان"(فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هَذِهِ؟ "، قَالَتْ: أَنَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "مَا شَأْنكِ؟ ") استفهام عن سبب حضورها في وقت لا يليق لمثلها أن تخرج من بيتها (قَالَتْ: لَا أَنَا، وَلَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ) أي لا يمكن الاجتماع بيننا. قال السنديّ: يحتمل أن "لا" الثانية مزيدة، والخبر محذوفٌ بعدهما: أي مجتمعان، أي لا يمكن الاجتماع. ويحتمل أنها غير زائدة، وأن خبر كلٍّ محذوف، أي لا أنا مجتمعة مع ثابت، ولا ثابت مجتمعٌ معي انتهى (لِزَوْجِهَا) اللام للتبيين، أي قالت هذا الكلام لأجل زوجها (فَلَمَّا جَاءَ ثَابتُ بْنُ قَيْسٍ) رضي الله عنه إلى مجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَذِهِ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ، قَدْ ذَكَرَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ") أي من الشكوى منه من أنها تُبغضه، وفي رواية أنه كسر يدها (فَقَالَتْ: حَبِيبَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّ مَا أَعْطَانِي عِنْدِي) تعني المهر الذي دفع لها حينما تزوّجها

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لِثَابتٍ: "خُذْ مِنْهَا") أي ما أعطيتها، فالمفعول محذوفٌ، وفيه جواز أخذ جميع ما أعطاها من المهر، وفيه اختلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه في مسائل الحديث التالي، إن شاء اللَّه تعالى (فَأَخَذَ مِنْهَا، وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا) أي لأنه لا سكنى لها. ولم يذكر في هذه الرواية الأمر بطلاقها، وقد اختلف العلماء، هل الخلع فسخ، أم طلاق، وسيأتي تحقيق ذلك في مسائل الحديث التالي، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى

(1)

أي تمرح، وتتبختر.

(2)

"الإصابة" 2/ 15.

ص: 85

أعلم بالصواب، د إليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث حبيبة بنت سهل - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-34/ 3489 - وفي "الكبرى" 35/ 5656. وأخرجه (د) في "الطلاق" 2227 و (أحمد) في "مسند القبائل" 2689 (الموطأ) في "الطلاق" 1198 (الدارمي) في "الطلاق" 2271. وبقية المسائل ستأتي في الحديث التالي، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3490 -

(أَخْبَرَنَا أَزْهَرُ بْنُ جَمِيلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، أَمَا إِنِّي مَا أَعِيبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ، وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» ، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أزهر بن جميل) الهاشميّ مولاهم، أبو محمد البصريّ الشّطّيّ، صدوق يُغرب [10] 64/ 2554.

2 -

(عبد الوهّاب) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة تغيّر قبل موته بثلاث سنين [8] 42/ 48.

3 -

(خالد) بن مهران الحذّاء، أبو الْمُنَازل البصريّ، ثقة يرسل [5] 7/ 634.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: خالدٌ، عن عكرمة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ) هي جميلة، وليست هي حبيبة بنت سهل المذكورة في الحديث الماضي، بل هي غيرها، على الراجح،

ص: 86

وأنها وقع لها الخلع قبل هذه، فإنها أول مختلعة في الإسلام، كما سبق بيانه أول الباب. قال في "الفتح" عند شرح هذا الحديث: وأبهم في هذه الطريق اسم المرأة، وفي الطريق التي بعدها، وسمّيت في آخر الباب

(1)

في طريق حمّاد بن زيد، عن أيّوب، عن عكرمة مرسلاً جميلة. ووقع في الرواية الثانية أنها أخت عبد اللَّه بن أبيّ -يعني كبير الخزرج، ورأس النفاق- فظاهره أنها جميلة بنت أُبيّ. ويؤيّده أن في رواية قتادة، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: "أن جميلة بنت سلول جاءت

" الحديث. أخرجه ابن ماجه، والبيهقيّ، وسَلُول امرأة اختُلف فيها، هل هي أمّ أُبيّ، أو امرأته. ووقع في رواية النسائيّ

(2)

، والطبرانيّ، من حديث الرُّبَيع بنت مُعوّذ أن ثابت بن قيس بن شَمّاس ضرب امرأته، فكسر يدها، وهي جميلة بنت عبد اللَّه بن أبيّ، فأتى أخوها يشتكي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

الحديث. وبذلك جزم ابن سعد في "الطبقات"، فقال: جميلة بنت عبد اللَّه ابن أبي أسلمت، وبايعت، وكانت تحت حنظلة بن أبي عامر، غسيل الملائكة، فقُتل عنها بأُحُد، وهي حامل، فولدت له عبد اللَّه بن حنظلة، فخلف عليها ثابت بن قيس، فولدت له ابنه محمدًا، ثم اختلعت منه، فتزوّجها مالك بن الدخشم، ثم خُبيب بن

(1)

يعني روايات البخاريّ، قال الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه":

5273 -

حدثنا أزهر بن جميل، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، أن امرأة ثابت بن قيس، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه، ثابت بن قيس، ما أعتِب عليه في خُلُق، ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أتردين عليه حديقته؟ "، قالت: نعم، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة". قال أبو عبد اللَّه: لا يتابع فيه عن ابن عباس.

5257 -

حدثنا إسحاق الواسطي، حدثنا خالد، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، أن أخت عبد اللَّه بن أبي بهذا

وقال: "تردين حديقته؟ "، قالت: نعم، فردتها، وأمره يطلقها.

وقال إبراهيم بن طهمان: عن خالد، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وطلقها.

وعن أيوب بن أبي تميمة، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، أنه قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس، إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه، إني لا أعتب على ثابت في دين، ولا خلق، ولكني لا أطيقه، فقال رسول اللَّه عز وجل:"فتردين عليه حديقته؟ "، قالت: نعم.

5277 -

حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن المبارك المخرمي، حدثنا قُراد أبو نوح، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رض اللَّه عنهما، قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه، ما أنقم على ثابت في دين، ولا خلق، إلا أنى أخاف الكفر، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"فتردين عليه حديقته؟ "، فقالت: نعم، فردت عليه، وأمره نفارتها.

حدثنا سليمان، حدثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة، أن جميلة

فذكر الحديث.

(2)

سيأتي للمصنّف برقم 53/ 3524.

ص: 87

أساف. ووقع في رواية حجّاج بن محمد، عن ابن جُريج: أخبرني أبو الزبير: "أن ثابت ابن قيس بن شمّاس، كانت عنده زينب بنت عبد اللَّه بن أُبيّ ابن سلول، وكان أصدقها حديقة، فكرهته

" الحديث. أخرجه الدارقطنيّ، والبيهقيّ، وسنده قويّ مع إرساله. ولا تنافي بينه وبين الذي قبله لاحتمال أن يكون لها اسمان، أو أحدهما لقب، وإن لم يؤخذ بهذا الجمع فالموصول أصحّ، وقد اعتضد بقول أهل النسب: إن اسمها جميلة، وبه جزم الدمياطيّ، وذكر أنها كانت أخت عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبيّ، شقيقته، أمهما خولة بنت المنذر بن حرام.

قال الدمياطيّ: والذي وقع في البخاريّ من أنها بنت أُبي وَهَمٌ. قال الحافظ: ولا يديق إطلاق كونه وَهَمًا، فإن الذي وقع فيه أخت عبد اللَّه بن أُبيّ، وهي أخت عبد اللَّه بلا شكّ، لكن نُسب أخوها في هذه الرواية إلى جدّه أُبيّ، كما نُسبت هي في رواية قتادة إلى جدّتها سَلُول. فبهذا يُجمع بين المختلف من ذلك. وأما ابن الأثير، وتبعه النوويّ، فجزما بأن قول من قال: إنها بنت عبد اللَّه بن أبيّ وَهَمٌ، وأن الصواب أنها أخت عبد اللَّه ابن أُبيّ. وليس كما قالا، بل الجمع أولى. وجمع بعضهم باتحاد اسم المرأة وعمّتها، وأن ثابتًا خالع الثنتين، واحدةً بعد أخرى، ولا يَخفَى بُعْده، ولا سيّما مع اتحاد المخرج. وقد كثرت نسبة الشخص إلى جدّه إذا كان مشهورًا، والأصل عدم التعدّد حتى يثبت صريحًا.

وجاء في اسم امرأة ثابت بن قيس قولان آخران:

[أحدهما]: أنها مريم المَغَاليّة. أخرجه النسائيّ

(1)

، وابن ماجه من طريق محمد بن إسحاق: "حدّثني عُبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ، قالت: اختلعت من زوجي

"، فذكرت قصّة فيها: "وإنما تبع عثمان في ذلك قضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مريم الْمَغَاليّة، وكانت تحت ثابت بن قيس، فاختعلت منه"، وإسناده جيّد. قال البيهقيّ: اضطرب الحديث في تسمية امرأة ثابت، ويمكن أن يكون الخلع تعدّد من ثابت انتهى.

وتسميتها مريم يمكن ردّه للأول؛ لأن المغالية -وهي بفتح الميم، وتخفيف الغين المعجمة-: نسبة إلى مَغَالة، وهي امرأة من الخزرج، ولَدَت لعمرو بن مالك بن النّجّار ولده عَديًّا، فبنو عديّ بن النجّار يُعرفون كلهم ببني مغالة، ومنهم عبد اللَّه بن أُبيّ، وحَسّان بن ثابت، وجماعة من الخزرج، فإذا كان آل عبد اللَّه بن أُبيّ من بني مَغالة،

(1)

حديث صحيح، سيأتي للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- برقم 3525.

ص: 88

فيكون الوهم وقع في اسمها، أو يكون مريم اسمًا ثالثًا، أو بعضها لقب لها.

[والقول الثاني]: في اسمها أنها حبيبة بنت سهل، أخرجه مالك في "الموطّإ" عن

يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن حبيبة بنت سهل، أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شَمَّاس، وأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح، فوجد حبيبة عند بابه في الغلس

الحديث. وأخرجه أصحاب السنن الثلاثة، وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان من هذا الوجه، وأخرجه أبو داود من طريق عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، "عن عمرة، عن عائشة، أن حبيبة بنت سهل، كانت عند ثابت

". قال ابن عبد البرّ: اختُلف في امرأة ثابت بن قيس، فذكر البصريّون أنها جميلة بنت أُبيّ، وذكر المدنيّون أنها حبيبة بنت سهل.

قال الحافظ: والذي يظهر أنهما قصّتان وقعتا لامرأتين لشهرة الخبرين، وصحّة الطريقين، واختلاف السياقين، بخلاف ما وقع من الاختلاف في تسمية جميلة، ونسبها، فإن سياق قصّتها متقاربٌ، فأمكن ردّ الاختلاف فيه إلى الوفاق، قال: وسأبّين اختلاف القصّتين عند سياق ألفاظ قصّة جميلة.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- من تعدّد القضتين هو الذي يترجّح عندي. واللَّه تعالى أعلم.

وقد أخرج البزّار من حديث عمر، قال: "أوّل مختلعة في الإسلام حبيبة بنت سهل، كانت تحت ثابت بن قيس

" الحديث.

قال الحافظ: وهذا على تقدير التعدّد يقتضي أن ثابتًا تزوّج حبيبة قبل جميلة، ولو لم يكن في ثبوت ما ذكره البصريون إلا كون محمد بن ثابت بن قيس من جميلة، لكان دليلاً على صحّة تزوّج ثابت بجميلة.

[تنبيه]: وقع لابن الجوزيّ في "تنقيحه" أنها سهلة بنت حبيب. قال الحافظ: فما أظنّه إلا مقلوبًا، والصواب حبيبة بنت سهل. وقد ترجم لها ابن سعد في "الطبقات"، فقال: بنت سهل بن ثعلبة بن الحارث، وساق نسبها إلى مالك بن النجّار، وأخرج حديثها عن حمّاد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، قال:"كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس، وكان في خُلُقه شدّة"، فذكر نحو حديث مالك، وزاد في آخره: "وقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هَمّ أن يتزوّجها، ثم كره ذلك؛ لغيرة الأنصار، وكره أن يسوءهم في نسائهم. انتهى

(1)

.

(1)

"فتح" 10/ 500 - 501. "كتاب الطلاق".

ص: 89

(أَتَتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ) وفي رواية إبراهيم بن طهمان، عن أيوب عند البخاريّ تعليقًا، ووصلها الإسماعيليّ:" جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شمّاس الأنصاريّ". وفي رواية سعيد، عن قتادة، عن عكرمة في هذه القصّة:"فقالت: بأبي وأمّي"، أخرجها البيهقيّ.

(أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، بمنزلة "ألا"(إِنِّي مَا أَعِيبُ عَلَيْهِ) من العيب، يقال: عاب المتاعُ عيبًا، من باب سار، فهو عائبٌ، وعابه صاحبه، فهو مَعِيبٌ، يتعدّى، ولا يتعدّى. قاله الفيّوميّ.

وفي رواية البخاريّ: "ما أعتب عليه". قال في "الفتح": بضمّ المثنّاة من فوقُ، ويجوز كسرها، من العتاب، يقال: عتبت على فلان أَعتب عَتْبًا، والاسم الْمَعْتِبَة، والعِتَاب: هو الخطاب بالإدلال. وفي رواية بكسر العين المهملة، بعدها تحتانيّةٌ ساكنة، من العيب، وهي أليق بالمراد انتهى (فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ) بضمّ الخلق المعجمة، ويجوز إسكانها، أي لا أريد مفارقته لسوء خلقه، ولا لنقصان دينه. زاد في رواية:"ولكنّي لا أطيقه"، كذا فيه لم يذكر مميّز عدم الطاقة، وبيّنه الإسماعيليّ في روايته، ثم البيهقيّ، بلفظ:"لا أطيقه بغضًا". وهذا ظاهرٌ أنه لم يصنع بها شيئًا، يقتضي الشكوى منه بسببه، لكن تقدّم من رواية النسائيّ أنه كسر يدها، فيحمل على أنها أرادت أنه سيء الخلق، لكنّها ما تعيبه بذلك، بل بشيء آخر. وكذا وقع في قصّة حبيبة بنت سهيل عند أبي داود أنه ضربها، فكسر بعضها، لكن لم تشكه واحدةٌ منهما بسبب ذلك، بل وقع التصريح بسبب آخر، وهو أنه كان دميم الخلقة، ففي حديث عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه، عند ابن ماجه:"كانت حبيبة بنت سهلة عند ثابت بن قيس، وكان رجلاً دميمًا، فقال: واللَّه لولا مخافة اللَّه، إذا دخل عليّ لبصقت في وجهه". وأخرج عبد الرزّاق، عن معمر، قال:"بلغني أنها قالت: يا رسول اللَّه بي من الجمال ما ترى، وثابتٌ رجلٌ دميمٌ"، وفي رواية معتمر بن سليمان، عن فُضيل، عن أبي حريز

(1)

، عن عكرمة، عن ابن عبّاس:"أول خلع كان في الإسلام امرأة ثابت بن قيس، أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه، لا يجتمع رأسي ورأس ثابت أبدًا، إني رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدّةِ، فإذا هو أشدّهم سوادًا، وأقصرهم قامةً، وأقبحهم وجهًا، فقال: "أتردّين عليه

(1)

أبو حريز بفتح الحاء المهملة، وكسر الراء، آخره زاي معجمة، هذا هو الصواب، ووقع في "الفتح" أبو جرير، وهو تصحيف، وهو عبد اللَّه بن الحسين الأزديّ البصريّ، قاضي سجستان، مختلف فيه، والحقّ أنه ثقة، وثقه ابن معين، وأبو زرعة، وغيرهما. راجع ما كتبه العلامة أحمد شاكر على "تفسير الطبريّ" 4/ 553.

ص: 90

حديقته؟ "، قالت: نعم، وإن شاء زدته، ففرّق بينهما"

(1)

.

(وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسْلَامِ) أي أكره إن أقمت معه أن أقع فيما يقتضي الكفر، وانتفى أنها أرادت أن يحملها على الكفر، ويامرها به نفاقًا بقولها:"لا أعتب عليه في دين"، فتعيّن الحمل على ما قلناه. ورواية جرير بن حازم عند البخاريّ تؤيد ذلك، حيث جاء فيها:"إلا أني أخاف الكفر"، وكأنها أشارت إلى أنها قد تحملها شدّة كراهتها له على إظهار الكفر؛ لينفسخ نكاحها منه، وهي كانت تعرف أن ذلك حرام، لكن خشيت أن تحملها شدّة البغض على الوقوع فيه.

ويحتمل أن تريد بالكفر كفران العشير، إذ هو تقصير المرأة في حقّ الزوج.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا التوجيه هو الصواب عندي، وأما الذي قبله، فما أبعده احتمالاً، في صحابية فاضلة، تكلّم النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله، ويسكت عنها، إن هذا لشيء بعيد.

وقال الطيبيّ: المعنى أخاف على نفسي في الإسلام ما يُنافي حكمه، من نشوز، وفرك، وغيره، مما يقع من الشابّة الجميلة المبغضة لزوجها، إذا كان بالضدّ منها، فأطلقت على ما يُنافي مقتضى الإسلام الكفر. ويحتمل أن يكون في كلامها إضمارٌ، أي أكره لوازم الكفر، من المعاداة، والشقاق، والخصومة

(2)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أترُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟) أي بستانه الذي أصدقك إيّاه، فقد جاء في رواية:"كان تزوّجها على حديقة نخل". و"الحديقة" -بفتح الحاء، وكسر الدال المهملتين-: الْبُستان يكون عليه حائطٌ، فَعِيلةٌ بمعنى مفعولة؛ لأن الحائط أحدق بها، أي أحاط، ثم توسّعوا حتى أطلقوا الحديقة على البستان، وإن كان بغير حائط، والجمع الحدائق. قاله الفيّوميّ.

(قَالَت: نَعَمْ) زاد في رواية: "أيطيب ذلك يا رسول اللَّه؟، قال: نعم"(قَالَ: رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ) بفتح الباء الموحّدة، أمر قبل يقبل، من باب تعب (وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً") هو أمر إرشاد، وإصلاح، لا إيجاب. ووقع في رواية جرير بن حازم:"فردّت عليه، وأمره بفراقها". واستُدلّ بَهذا السياق على أن الخلع ليس بطلاق. وفيه نظر، فليس في الحديث ما يُثبت ذلك، ولا ما ينفيه، فإن قوله:"طلّقها الخ" يحتمل أن يراد طلّقها على ذلك، فيكون طلاقًا صريحًا على عوض، وليس البحث فيه، إنما الاختلاف فيما إذا وقع لفظ الخلع، أو ما كان في حكمه من غير تعرّض لطلاق بصراحة، ولا

(1)

"فتح" 10/ 502.

(2)

"المصدر السابق".

ص: 91

كناية، هل يكون الخلع طلاقًا أو فسخًا؟، وكذلك ليس فيه التصريح بأن الخلع وقع قبل الطلاق، أو بالعكس. نعم في رواية خالد الحذاء المرسلة المتقدّمة في رواية البخاريّ:"فردّتها، وأمره، فطلّقها"، وليس صريحًا في تقديم العطيّة على الأمر بالطلاق، بل يحتمل أيضًا أن يكون المراد إن أعطتك طلّقها، وليس فيه أيضًا التصريح بوقوع صيغة الخلع. ووقع في مرسل أبي الزبير عند الدارقطنيّ:"فأخذها له، وخلّى سبيلها". وفي حديث حبيبة بنت سهل: "فأخذها منها، وجلست في أهلها"، لكن في معظم الروايات في الباب تسميته خلعًا، ففي رواية عمرو بن مسلم، عن عكرمة، عن ابن عبّاس:"أنها اختلعت من زوجها". أخرجه أبو داود، والترمذيّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-34/ 3490 - وفي "الكبرى" - 35/ 5657. وأخرجه (خ) في "الطلاق" 5273 و5277 و 5277 (ق) في "الطلاق" 2056. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: أخرج الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- هذا الحديث عن أزهر بن جميل شيخ النسائيّ، بسنده، وقال بعده:"لا يُتابع فيه عن ابن عبّاس". قال في "الفتح": أي لا يتابع أزهر بن جميل على ذكر ابن عبّاس في هذا الحديث، بل أرسله غيره، ومراده بذلك خصوص طريق خالد الحذّاء، عن عكرمة، ولهذا عقّبه برواية خالد بن عبد اللَّه الطحان، عن خالد الحذّاء، عن عكرمة، مرسلاً، ثم برواية إبراهيم بن طهمان، عن خالد الحذّاء، مرسلاً، وعن أيوب موصولاً، ورواية إبراهيم بن طهمان، عن أيوب الموصولة، وصلها الإسماعيليّ.

قال: ثم أشار البخاريّ إلى أنه اختُلف على أيوب أيضًا في وصل الخبر، وإرساله، فاتّفق إبراهيم بن طهمان، وجرير بن حازم على وصله، وخالفهما حمّاد بن زيد، فقال:"عن أيوب، عن عكرمة" مرسلاً.

ويؤخذ من إخراج البخاريّ هذا الحديث في "الصحيح" فوائد: (منها): أن الأكثر إذا وصلوا، وأرسل الأقلّ قُدّم الواصل، ولو كان الذي أرسل أحفظ، ولا يلزم منه أنه تُقدّم رواية الواصل على المرسل دائمًا. (ومنها): أن الراوي إذا لم يكن في الدرجة العليا من الضبط، ووافقه من هو مثله، اعتضَدَ، وقاومت الروايتان رواية الضابط المتقن.

ص: 92

(ومنها): أن أحاديث "الصحيح" متفاوتة المرتبة إلى صحيح، وأصحّ انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما جاء في الخلع.

(ومنها): أن الشقاق إذا حصل من قبل المرأة فقط جاز الخلع والفدية، ولا يتقيّد ذلك بوجوده منهما جميعًا. (ومنها): مشروعيّة الخلع، إذا كرهت المرأة عِشرة الرجل، ولو لم يكرهها هو، ولم ير منها ما يقتضي فراقها. وهو قول الجمهور. وخالف في ذلك أبو قلابة، ومحمد بن سيرين، فقالا: لا يجوز له أخذ الفدية منها إلا أن يرى على بطنها رجلاً. وسيأتي تحقيق الخلاف قريبًا، إن شاء اللَّه تعالىء (ومنها): أن فيه أن المرأة إذا سألت زوجها الطلاق على مال، فطلّقها وقع الطلاق. (ومنها): أن الفدية لا تكون إلا بما أعطى الرجل المرأة، عينًا، أو قدرًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أتردّين عليه حديقته"، وسيأتي قريبًا اختلاف العلماء في ذلك، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أن الخلع جائز في الحيض؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصلها، أحائض هي أم لا؟، وفيه الخلاف بين العلماء أيضًا، سيأتي بيانه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أن الأخبار الواردة في ترهيب المرأة من طلب طلاق زوجها محمولة على إذا لم يكن هناك سبب يقتضي ذلك، كحديث ثوبان رضي الله عنه، مرفوعًا:"أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق، فحرام عليها رائحة الجنّة". رواه أصحاب السنن، وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان. ويدلّ على تخصيصه قوله في بعض طرقه:"من غير ما بأس"، وكحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدِّم في هذا الباب:"المنتزعات، والمختلعات هنّ المنافقات". (ومنها): أن الصحابيّ إذا أفتى بخلاف ما روى أن المعتبر ما رواه، لا ما رآه؛ لأن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - روى قصّة امرأة ثابت بن قيس الدّالّة على أن الخلع طلاقٌ، وكان يُفتي بأن الخلع ليس بطلاق. لكن ادّعى ابن عبد البرّ شذوذ ذلك عن ابن عبّاس، إذ لا يُعرف له أحد نقل عنه أنه فسخٌ، وليس بطلاق إلا طاوسٌ. قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن طاوسًا ثقة حافظ فقيهٌ، فلا يضره تفرّده، وقد تلقّى العلماء ذلك بالقبول، ولا أعلم من ذكر الاختلاف في المسألة إلا جزم أن ابن عبّاس كان يراه فسخًا. نعم أخرج إسماعيل القاضي بسند صحيحٍ عن ابن أبي نجيح أن طاوسًا لما قال: إن الخلع ليس بطلاق أنكره عليه أهل مكة، فاعتذر، وقال: إنما قاله ابن عبّاس. قال إسماعيل: لا نعلم أحدًا قاله غيره اهـ.

(1)

"فتح" 10/ 503 - 504. "كتاب الطلاق".

ص: 93

ولكن الشأن في كون قصّة ثابت صريحة في كون الخلع طلاقًا

(1)

. وسيأتي تمام البحث في ذلك قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[فائدة]: نقل ابن عبد البرّ عن مالك -رحمهما اللَّه تعالى- أن المختلعة هي التي اختلعت من جميع مالها، وأن المفتدية هي التي افتدت ببعض مالها، وأن المبارئة هي التي بارأت زوجها قبل الدخول. قال ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: وقد يُستعمل بعض ذلك في موضع بعض انتهى

(2)

.

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في حكم الخلع:

قال العلامة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: ما حاصله: إذا كرهت المرأة زوجها لخَلْقِه، أو خُلُقه، أو دينه، أو كبره، أو ضعفه، أو نحو ذلك، وخَشِيت أن لا تؤدّي حقّ اللَّه تعالى في طاعته، جاز لها أن تُخالعه بعوض تفتدي به نفسها منه؛ يقول اللَّه تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 229]، ولحديث امرأة ثابت ابن قيس رضي الله عنه المذكور في الباب. قال: وبهذا قال جميع الفقهاء بالحجاز والشام. قال ابن عبد البرّ: ولا نعلم أحدًا خالفه إلا بكر بن عبد اللَّه المزنيّ، فإنه لم يُجزه، وزعم أن الآية منسوخة بقوله سبحانه وتعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} الآية [النساء:20]. وروي عن ابن سيرين، وأبي قلابة أنه لا يَحِلّ الخلع حتى يجد على بطنها رجلاً؛ لقول اللَّه تعالى:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} الآية [النساء: 19].

وحجة الجمهور الآية، والخبر المتقدّمان، وأنه قول عمر، وعثمان، وعليّ، وغيرهم من الصحابة، ولم يُعرف لهم مخالفٌ في عصرهم، فيكون إجماعًا، ودعوى النسخ لا تُسمَع حتى يثبت تعذّر الجمع، وأن الآية الناسخة متأخّرة، ولم يثبت شيء من ذلك. انتهى كلام ابن قدامة بتصرف

(3)

.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- وقال أبو قلابة، ومحمد بن سيرين: لا يجوز له أخذ الفدية منها إلا أن يرى على بطنها رجلاً. أخرجه ابن أبي شيبة، وكأنهما لم يبلغهما الحديث. واستدلّ ابن سيرين بظاهر قوله تعالى:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . وتُعُقْب بأن آية البقرة فسّرت المراد بذلك، مع ما دلّ عليه الحديث.

قال الحافظ: ثم ظهر لي لما قاله ابن سيرين توجيهٌ، وهو تخصيصه بما إذا كان ذلك

(1)

"فتح" 10/ 506. "كتاب الطلاق".

(2)

المصدر المذكور.

(3)

"المغني" 1/ 267 - 268.

ص: 94

من قبل الرجل بأن يكرهها، وهي لا تكرهه، فضاجرها؛ لتفتدي منه، فوقع النهي عن ذلك، إلا أن يراها على فاحشة، ولا يجد بيّنةً، ولا يُحبّ أن يفضحها، فيجوز حينئذ أن يفتدي منها، ويأخذ منها ما تراضيا عليه، ويطلّقها، فليس في ذلك مخالفة للحديث؛ لأن الحديث ورد فيما إذا كانت الكراهة من قبلها.

واختار ابن المنذر أنه لا يجوز حتى يقع الشقاق بينهما جميعًا، وإن وقع من أحدهما لا يندفع الإثم. وهو قويّ موافقٌ لظاهر الآيتين، ولا يُخالف ما ورد فيه. وبه قال طاوس، والشعبيّ، وجماعة من التابعين.

وأجاب الطبريّ وغيره عن ظاهر الآية بأن المرأة إذا تقُم بحقوق الزوج التي أُمرت بها، كان ذلك منفّرًا للزوج عنها غالبًا، ومقتضيًا لبغضه لها، فنُسبت المخالفة إليهما لذلك، وعن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفسر ثابتًا، هل أنت كارهها، كما كرهتك، أم لا؟ انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور من جواز الخلع، إذا حصل الشقاق من قبل المرأة فقط هو الأرجح عندي؛ لظاهر حديث امرأة ثابت - رضي اللَّه تعالى عنهما -، ولا يعارض ظاهر الآية، كما أشار إلى ذلك الطبريّ في كلامه المذكور آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في جواز الخلع بأكثر مما أعطاها من الصداق:

قال العلامة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: ما حاصله: أكثر أهل العلم على أنه يصحّ الخلع بأكثر من الصداق، وأنهما إذا تراضيا على الخلع بشي صحّ، روي ذلك عن عثمان، وابن عمر، وابن عبّاس، وعكرمة، ومجاهد، وقبيصة بن ذؤيب، والنخعيّ، ومالك، والشافعيّ، وأصحاب الرأي.

وُبروى عن ابن عبّاس، وابن عمر رضي الله عنهم أنهما قالا: لو اختلعت امرأة من زوجها بميراثها، وعقاص رأسها، كان ذلك جائزًا. وروي ذلك عن عليّ رضي الله عنه بإسناد منقطع، واختاره أبو بكر، قال: فإن فعل ردّ الزيادة. وعن سعيد بن المسيّب قال: ما أرى أن يأخذ كلّ مالها، ولكن ليدعْ لها شيئًا.

واحتخوا بحديث قصّة امرأة ثابت بن قيس - رضي اللَّه تعالى عنهما - المذكور في الباب، وفي رواية ابن ماجه:"فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته، ولا يزداد"، ولأنه

(1)

"فتح" 10/ 504.

ص: 95

بدلٌ في مقابلة فسخ، فلم يزد على قدره في ابتداء العقد، كالعِوَض في الإقالة.

واحتجّ الجمهور بقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} الآية [البقرة: 229]، ولأنه قول من سُمّي من الصحابة، قالت الرُّبَيِّع بنت مُعوِّذ - رضي اللَّه تعالى عنها -:"اختلعتُ من زوجي بما دون عِقَاص رأسي، فأجاز ذلك عثمان بن عفّان رضي الله عنه"، ومثل هذا يَشتهر، فلم يُنكر، فيكون إجماعًا، ولم يصحّ عن عليّ خلافه.

فإذا ثبت هذا، فإنه لا يُستحبّ له أن يأخذ أكثر مما أعطاها، وبذلك قال سعيد بن المسيّب، والحسن، والشعبيّ، والحكم، وحمّاد، وإسحاق، وأبو عُبيد، فإن فعل جاز مع الكراهية، ولم يكرهه أبو حنيفة، ومالكٌ، والشافعيّ. قال مالكٌ: لم أزل أسمع إجازة الفداء بأكثر من الصداق. واحتجّ الأولون بحديث جميلة المتقدّم. وري عن عطاء، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كره أن يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها. رواه أبو حفص بإسناده. وهو صريحٌ في الحكم، فنجمع بين الآية والخبر، فنقول الآية دالّة على الجواز، والنهي عن الزيادة للكراهية. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": واستُدلّ بالحديث على أن الفدية لا تكون إلا بما أعطى الرجل المرأة عينًا، أو قدرها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أتردّين عليه حديقته؟ ". وقد وقع في رواية سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عبّاس في آخر حديث الباب عند ابن ماجه، والبيهقيّ:"فأمره أن يأخذ منها، ولا يزداد"، وفي رواية عبد الوهّاب بن عطاء، عن سعيد، قال أيوب: لا أحفظ: "ولا تزدد". ورواه ابن جريج، عن عطاء، مرسلاً، ففي رواية ابن المبارك، وعبد الوهّاب، عنه:"أما الزيادة فلا"، زاد ابن المبارك عن مالك، وفي رواية الثوريّ:"وكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطى". ذكر ذلك كلّه البيهقيّ. قال: ووصله الوليد بن مسلم، عن ابن جريج بذكر ابن عبّاس فيه، أخرجه أبو الشيخ، قال: وهو غير محفوظ. يعني أن الصواب إرساله. وفي مرسل أبي الزبير عند الدارقطنيّ، والبيهقيّ:"أتردّين عليه حديقته التي أعطاك؟ قال: نعم، وزيادة، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أما الزيادة فلا، ولكن حديقته، قالت: نعم، فأخذ ماله، وخلّى سبيلها". ورجال إسناده ثقات. وقد وقع في بعض طرقه سمعه أبو الزبير من غير واحد، فإن كان فيهم صحابيّ، فهو صحيح، وإلا فيعتضد بما سبق، لكن فيه دلالة على الشرط، فقد يكون ذلك وقع على سبيل الإشارة رفقًا بها.

وأخرج عبد الرزّاق عن عليّ رضي الله عنه: "لا يأخذ منها فوق ما أعطاها". وعن طاوس،

(1)

"المغني" 10/ 269 - 270.

ص: 96

وعطاء، والزهريّ مثله. وهو قول أبي حنيفة، وأحمد، واسحاق. وأخرج إسماعيل بن إسحاق، عن ميمون بن مهران:"من أخذ أكثر مما أعطى لم يسرّح بإحسان".

ومقابل هذا ما أخرج عبد الرزّاق بسند صحيح عن سعيد بن المسيّب، قال: ما أُحبّ أن يأخذ منها ما أعطاها، لياع لها شيئًا". وقال مالك: لم أزل أسمع أن الفدية تجوز بالصداق، وبأكثر منه؛ لقوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ، ولحديث حبيبة بنت سهل - رضي اللَّه تعالى عنها -، فإذا كان النشوز من قبلها حلّ للزوج ما أخذ منها برضاها، وإن كان من قبله لم يحلّ له، ويردّ عليها إن أخذ، وتمضي الفرقة. وقال الشافعيّ: إذا كانت غير مؤدّية لحقّه، كارهةً له حلّ له أن يأخذ، فإنه يجوز أن يأخذ منها ما طابت به نفسًا، بغير سبب، فبالسبب أولى. وقال إسماعيل القاضي: ادّعى بعضهم أن المراد بقوله تعالى: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أي بالصداق، وهو مردود؛ لأنه لم يقيّد في الآية بذلك انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما تقدّم عن الجمهور أنه يستحبّ أن لا يأخذ أكثر مما أعطاها أولى؛ جمعًا بين إطلاق الآية، وما ورد من النهي عن أخذ الزيادة، فهو وإن كان مرسلاً، لكنه يعتضد بكثرة طرقه.

والحاصل أن الجمع يحمل النهي عن أخذ الزيادة على التنزيه أولى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في جواز الخلع بلا سبب:

ذهب بعضهم إلى أنها لو خالعت من زوجها، لغير بغض، وخشية عدم قيامها بحدود اللَّه كره لها ذلك، وصحّ الخلع، وهذا قول أكثر أهل العلم -كما قاله ابن قدامة- منهم ة أبو حنيفة، والثوريّ، ومالكٌ، والأوزاعيّ، والشافعيّ.

وذهب بعضهم إلى تحريم الخلع لغير حاجة، وبه قال ابن المنذر، وداود، وقال ابن قُدامة: ويحتمل كلام أحمد تحريمه، فإنه قال: الخلع مثل حديث سهلة تَكره الرجل، فتُعطيه المهر، فهذا الخلع. وهذا يدلّ على أنه لا يكون الخلع صحيحًا إلا في هذه الحال.

وقال ابن المنذر: وروي معنى ذلك عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وكثير من أهل العلم؛ وذلك لأن اللَّه تعالى قال:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} الآية [البقرة: 229]. وهذا صريحٌ في التحريم إذا لم

(1)

"فتح" 10/ 505.

ص: 97

يخافا ألا يقيما حدود اللَّه، ثم قال:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ} ، فدلّ بمفهومه على أن الجناح لاحقٌ بهما إذا افتدت من غير خوف، ثم غلّظ بالوعيد، فقال:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]. ولحديث ثوبان رضي الله عنه، مرفوعًا:"أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة". حديث صحيح، رواه أحمد، وأصحاب السنن إلا النسائيّ. ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"المختلعات، والمنتزعات، هنّ المنافقات". حديث صحيح، أخرجه أحمد، وتقدّم للنسائيّ أول الباب. قال ابن قدامة ذكره أحمد محتجًّا به، وهذا يدلّ على تحريم المخالعة لغير حاجة؛ ولأنه إضرارٌ بها، وبزوجها، وإزالة لمصالح النكاح من غير حاجة، فحُرّم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر، ولا ضرار". حديث صحيح، أخرجه أحمد، وابن ماجه من حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

واحتجّ الأولون بقوله عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. قال ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: لا يلزم من الجواز في غير عقد الجواز في المعاوضات؛ بدليل الربا، حرّمه اللَّه تعالى في العقد، وأباحه في الهبة، والحجة مع من حرّمه، وخصوص الآية في التحريم يجب تقديمه على عموم آية الجواز، مع ما عاضدها من الأخبار. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: إن القول بتحريمه بغير حاجة هو الأرجح؛ لظهور أدلّته، كما حقّقه الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى- في كلامه المذكور آنفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في الخلع هل هو فسخٌ، أو تطليقة:

قال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: اختلفت الرواية عن أحمد في الخلع، ففي إحدى الروايتين أنه فسخٌ، وهذا اختيار أبي بكر، وقول ابن عبّاس، وطاوس، وعكرمة، وإسحاق، وأبي ثور، وأحد قولي الشافعيّ.

والرواية الثانية: أنه تطليقة بائنة. ورُوي ذلك عن سعيد بن المسيّب، والحسن، وعطاء، وقَبيصة، وشُريح، ومجاهد، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، والنخعيّ، والشعبيّ، والزهريّ، ومكحول، وابن أبي نُجيح، ومالك، والأوزاعيّ، والثوريّ، وأصحاب الرأي. وقد رُوي عن عثمان، وعلي، وابن مسعود، لكن ضعّف أحمد

(1)

راجع "المغني" 10/ 270 - 272.

ص: 98

الحديث عنهم، وقال: ليس لنا في الباب شيء أصحّ من حديث ابن عبّاس أنه فسخٌ.

واحتجّ ابن عبّاس بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ، ثم قال:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ} ، ثم قال:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ، فذكر تطليقتين، والخلعَ، وتطليقةً بعدها، فلو كان الخلع طلاقًا لكان أربعًا، ولأنها فُرقة خَلَتْ عن صريح الطلاق ونيّته، فكانت فسخًا، كسائر الفسوخ.

ووجه الثانية أنها بذلت العوض للفرقة، والفرقة التي يملك الزوج إيقاعها هي الطلاق دون الفسخ، فوجب أن يكون طلاقًا؛ ولأنه أتى بكناية الطلاق، قاصدًا فراقها، فكان طلاقًا، كغير الخلع، وفائدة الروايتين أنا إذا قلنا: هو طلقة، فخالعها مرّةً، حُسبت طلقة، فنقص بها عدد طلاقها، وإن خالعها ثلاثًا، طلقت ثلاثًا، فلا تحلّ له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره. وإن قلنا: هو فسخٌ، لم تحرم عليه، وإن خالعها مائة مرّة. وهذا الخلاف فيما إذا خالعها بغير لفظ الطلاق، ولم ينوه، فأما إن بذلت له العوض على فراقها، فهو طلاق، لا اختلاف فيه، وإن وقع بغير لفظ الطلاق، مثل كنايات الطلاق، أو لفظ الخلع والمفاداة، ونحوهما، ونوى به الطلاق، فهو طلاق أيضًا؛ لأنه كناية نوى بها الطلاق، فكانت طلاقًا، كما لو كان بغير عوض، فان لم ينو به الطلاق، فهو الذي فيه الروايتان. انتهى كلام ابن قُدامة

(1)

.

وقال في "الفتح": واستُدلّ لمن قال بأنه فسخ بما وقع في بعض طرق حديث الباب من الزيادة، ففي رواية عمرو بن مسلم، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، عند أبي داود، والترمذيّ في قصّة امرأة ثابت بن قيس:"فأمرها أن تعتدّ بحيضة"

(2)

. وعند أبي داود، والنسائيّ، وابن ماجه من حديث الرُّبيّع بنت معوّذ:"أن عثمان أمرها أن تَعْتَدَّ بحيضة"، قال: وتبع عثمان في ذلك قضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابت بن قيس. وفي رواية النسائيّ، والطبريّ من حديث الربيع بنت معوّذ: "أن ثابت بن قيس ضرب امرأته

" فذكر نحو حديث الباب، وقال في آخره: "خذ الذي لها، وخلِّ سبيلها"، قال: نعم، "فأمرها أن تتربّص حيضة، وتلحق بأهلها"

(3)

.

قال الخطّابيّ: في هذا دليلٌ أقوى لمن قال: إن الخلع فسخٌ، وليس بطلاق، إذ لو كان طلاقًا لم تكتف بحيضة للعدّة انتهى

(4)

.

(1)

"المغني" 10/ 274 - 275.

(2)

حديث صحيح، سيأتي للمصنف -رحمه اللَّه تعالى- برقم 3524.

(3)

حديث صحيح، سيأتي للمصنّف برقم 3525.

(4)

"فتح" 10/ 504 - 505.

ص: 99

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن الراجح قول من قال: إن الخلع فسخٌ، لا طلاقٌ، كما أوضحه ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وحديث قصّة امرأة ثابت بن قيس - رضي اللَّه تعالى عنهما -. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في ثبوت الرجعة بعد الخلع:

قال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: ولا يثبت في الخلع رجعة، سواء قلنا: هو فسخٌ، أو طلاقٌ، في قول أكثر أهل العلم، منهم الحسن، وعطاء، وطاوسٌ، والنخعيّ، والثوريّ، والأوزاعيّ، ومالكٌ، والشافعيّ، وإسحاق.

وحكي عن الزهريّ، وسعيد بن المسيّب أنهما قالا: الزوج بالخيار بين إمساك العوض، ولا رجعة، وبين ردّه، وله الرجعة. وقال أبو ثور: إن كان الخلع بلفظ الطلاق، فله الرجعة؛ لأن الرجعة من حقوق الطلاق، فلا تسقط بالعوض، كالولاء مع العتق. واحتجّ الأولون بقوله سبحانه وتعالى:{فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ، وإنما يكون فداءً إذا خرجت به عن قبضته وسُلطانه، وإذا كانت له الرجعة، فهي تحت حكمه؛ ولأن القصد إزالة الضرر عن المرأة، فلو جاز ارتجاعها لعاد الضرر، وفارق الولاء، فإن العتق لا ينفكّ منه، والطلاق ينفكّ عن الرجعة فيما قبل الدخول، وإذا أكمل العدد انتهى كلام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن ما ذهب إليه أكثر أهل العلم، من أنه لا رجعة بعد الخلع هو الأقرب؛ لظهور مناسبته لما شُرع له الخلع من دفع الضرر عن المرأة؛ فإن ضررها لا يندفع مع ثبوت المراجعة للزوج. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3491 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَمْنَعُ يَدَ لَامِسٍ، فَقَالَ: «غَرِّبْهَا، إِنْ شِئْتَ» ، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَتَّبِعَهَا نَفْسِي، قَالَ: «اسْتَمْتِعْ بِهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة، سوى:

1 -

(عمارة بن أبي حفصة) اسم أبيه ثابت أوّله نون -ويقال: ثابت بالثاء المثلّثة، وهو

(1)

"المغني" 10/ 278 - 279.

ص: 100

تصحيف- الأزديّ العتكيّ مولاهم، أبو رَوْحٍ، وقيل: أبو الحكم البصريّ، ثقة [6].

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: شيخٌ ثقة. وقال ابن معين، وأبو زرعة، وابن سعد، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: أثنى عليه سليمان بن سعيد اليماميّ. وقال عليّ بن عاصم: قال لي شعبة: عليك بعُمارة بن أبي حفصة، فإنه غنيّ لا يكذب. وقال

الدارقطنيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال حرميّ بن عُمارة: كنّا عند شعبة، فحدّث بحديث عن عمارة بن أبي حفصة، فقال بعض القوم: ههنا ابن عمارة، فقال: لا أُتمّه، حتى تقبّلوا رأسه، فما بقي في المجلس أحدٌ إلا قتل رأسي. وقال الفلاّس في "تاريخه": قلت لحرميّ بن عمارة: ما اسم أبي حفصة؟ فقال: ما يكون أسماء العبيد؟ قلت: ثابت؟ قال: صحّفتَ، صحّفتَ، هو نابت -بنون-. قال خليفة، وابن حبّان: مات سنة (132). روى له الجماعة، سوى مسلم، له في البخاريّ حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "لَمّا فتُحت خيبر، قلنا: الآن نشبع من التمر

"، وله عند المصنّف هذا الحديث، وحديث رقم 4655 - "كذب، قد علم أني من أتقاهم للَّه

". وعند ابن ماجه حديث في ذكر المهديّ.

وقوله: "لا تردّ يد لامس": اختّلف في معناه، فقيل: كناية عن الزنا. وقيل: كناية عن بذل الطعام. والصحيح أن سجيّتها ليس فيها ممانعة، ولا مخالفةٌ لمن أرادها لو خلا بها أحدٌ، لا أن المراد أن هذا واقعٌ منها، وأنها تفعل الفاحشة، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها، فإن زوجها يكون حينئذ دَيّوثًا، وقد ورد الوعيد على ذلك.

وإنما أمره صلى الله عليه وسلم بعدم فراقها لما ذكر له أنه يحبها؛ لأن محبته لها محققة، ووقوع الفاحشة منها متوهّمٌ، فلا يُصار إلى الضرر العاجل لتوهّم الآجل. وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في -12/ 3230 - . واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وتقدّم له بالرقم المذكور، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد.

وغرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بإيراده هنا الاستدلال على جواز الخلع عند الحاجة؛ لأن قوله-سيد: "غَرِّبها": ومعناه أبعدها، يشمل التغريب بالخلع وغيره، فيدلّ على جواز الخلع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3492 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا هَارُونُ بْنُ رِئَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ تَحْتِي امْرَأَةً، لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، قَالَ:«طَلِّقْهَا» .

ص: 101

قَالَ: إِنِّي لَا أَصْبِرُ عَنْهَا، قَالَ:«فَأَمْسِكْهَا» .

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ مُرْسَلٌ).

قال الجامع عفا اللَّهَ تعالى عنه: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"هارون بن رئاب" -بكسر الراء، وتحتانيّة مهموزة، ثم موحدة- هو: التميميّ البصريّ، ثقة [6] 80/ 2575.

و"عبد اللَّه بن عبيد بن عمير": هو الليثيّ المكيّ، ثقة [3] 89/ 2837.

وقوله: "قال عبد الرحمن: هذا خطأٌ الخ" أراد به أن الصواب إرسال هذا الحديث بإسقاط ذكر ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وقد سبق له في الحديث المتقدم بالرقم المذكور في الحديث الماضي نحو هذا الكلام، وقدّمنا أن الظاهر صحّة الحديث، فراجع الموضع المذكور تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌35 - (بَابُ بَدْءِ اللِّعَانِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يرى ترجيح كون سبب نزول آية اللعان هو قصّة عويمر العجلانيّ رضي الله عنه، وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فمنهم من قال: إنها نزلت في عويمر، ومنهم من قال: نزلت في هلال بن أميّة، ومنهم من قال: نزلت فيهما، وهو الذي رجحه الكثيرون، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.

و"اللعان" -بكسر اللام- مصدر لاعن، كالملاعنة، كما قال ابن مالك في "لاميّته":

لِفَاعَلَ اجْعَلْ فِعَالاً أَوْ مُفَاعَلَةً

وِفِعْلَةٌ عَنْهُمَا قَدْ نَابَ فَاحْتُمِلَا

قال الفيّوميّ: لاعن الرجل زوجته: قذفها بالفجور. وقال ابن دريد: كلمة إسلاميّة في لغة فصيحة انتهى.

وقال في "الفتح": هو مأخوذ من اللعن؛ لأن الملاعن يقول: "لعنة اللَّه عليه إن كان من الكاذبين. واختير لفظ اللعن، دون الغضب في التسمية؛ لأنه قول الرجل، وهو الذي بُدىء به في الآية، وهو أيضًا يُبدأ به، وله أن يرجع عنه، فيسقط عن المرأة بغير عكس. وقيل: سُمّي لعانًا؛ لأن اللعن الطردُ والابعاد، وهو مشتركٌ بينهما، وإنما

ص: 102

خُصّت المرأة بلفظ الغضب؛ لعظم الذنب بالنسبة إليها؛ لأن الرجل إذا كان كاذبًا لم يصل ذنبه إلى أكثر من القذف، وإن كانت هي كاذبةً، فذنبها أعظم؛ لما فيه من تلويث الفراش، والتعرّض لإلحاق من ليس من الزوج به، فتنتشر المحرميّة، وتَثْبُتُ الولاية، والميراث لمن لا يستحقّهما.

واللعان، والالتعان، والملاعنة بمعنًى. ويقال: تلاعنا، والتعنا، ولاعن الحاكم بينهما، والرجل ملاعن، والمرأة ملاعنةٌ؛ لوقوعه غالبًا من الجانبين.

وأجمعوا على مشروعيّة اللعان، وعلى أنه لا يجوز مع عدم التحقّق. واختُلف في وجوبه على الزوج، لكن لو تحقّق أن الولد ليس منه قَوِيَ الوجوب انتهى

(1)

.

وقال البدر العينيّ: ويقال: تلاعنا، والتعنا، ولاعن الحاكم بينهما، والرجل ملاعنٌ، والمرأة ملاعنةٌ، وسمّي به لما فيه من لعن نفسه في الخامسة، وهي من تسمية الكلّ باسم البعض، كالصلاة تُسمّى ركوعًا وسُجودًا. ومعناه الشرعيّ: شهادات مؤكّدات بالأيمان مقرونة باللعن. وقال الشافعيّ: هي أيمان مؤكّدات بلفظ الشهادة، فيُشترط أهليّة اليمين عنده، فيجري بين المسلم وامرأته الكافرة، وبين الكافر والكافرة، وبين العبد وامرأته، وبه قال مالكٌ، وأحمد. وعندنا -يعني الحنفيّة- يُشترط أهليّة الشهادة، فلا يَجري إلا بين المسلمين الحرّين العاقلين البالغين، غير محدودين في قذف. قال: وجُوّز اللعان؛ لحفظ الإنساب، ودفع المعَرَّة عن الأزواج، وأجمع العلماء على صحّته. انتهى المقصود منه

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3493 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: جَاءَنِي عُوَيْمِرٌ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ، فَقَالَ: أَيْ عَاصِمُ، أَرَأَيْتُمْ رَجُلاً، رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيَقْتُلُهُ، فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ ، يَا عَاصِمُ، سَلْ لِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عَاصِمٌ، عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَعَابَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ، وَكَرِهَهَا، فَجَاءَهُ عُوَيْمِرٌ، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ يَا عَاصِمُ؟ ، فَقَالَ: صَنَعْتُ، أَنَّكَ لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، كَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ، وَعَابَهَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لأَسْأَلَنَّ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِيكَ، وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَائْتِ بِهَا» ، قَالَ سَهْلٌ: وَأَنَا مَعَ النَّاسِ، عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ بِهَا، فَتَلَاعَنَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللَّهِ لَئِنْ أَمْسَكْتُهَا، لَقَدْ كَذَبْتُ عَلَيْهَا، فَفَارَقَهَا، قَبْلَ أَنْ

(1)

"فتح" 10/ 551 حديث رقم 5300.

(2)

"عمدة القاري" 17/ 75.

ص: 103

يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِفِرَاقِهَا، فَصَارَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن مَعْمَر) البحرانيّ البصريّ، صدوق [11] 5/ 1829.

2 -

(أبو داود) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ الحافظ الثقة [9] 13/ 343.

3 -

(عبد العزيز بن أبي سليمة) هو عبد العزيز بن بن عبد اللَّه بن أبي سلمة - نُسب لجده- الماجشون المدنيّ، نزيل بغداد، مولى آل الْهُدير، ثقة فقيه مصنّف [7] 17/ 897.

4 -

(إبراهيم بن سعد) الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجةٌ [8] 196/ 314.

5 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام المدنيّ الحجة الحافظ الشهير [4] 1/ 1.

6 -

(سهل بن سعد) بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ الساعديّ الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما -، مات سنة (88) وقيل: بعدها، وقد جاوز المائة، تقدّم في 40/ 734. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيغ شيخه، فبصريان. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعدٍ) الساعديّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - (عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ) بن الحارث بن الجدّ بن العجلان العجلانيّ الأنصاريّ الصحابيّ رضي الله عنه، شهَد أحدًا، ومات في خلافة معاوية رضي الله عنه، وقد جاوز المائة، تقدّمت ترجمته في 225/ 3068.

وقال في "الفتح": وهو ابن عمّ والد عُويمر. وفي رواية الأوزاعيّ، عن الزهريّ عند البخاريّ في "التفسير":"وكان عاصم سيّد بني عجلان". و"الْجَدّ" -بفتح الجيم، وتشديد الدال. و"العجلان" -بفتح المهملة، وسكون الجيم- هو ابن حارثة بن ضُبيعة، من بني بَلِيّ بن عمرو بن الحاف بن قُضاعة، وكان العجلان حالف بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، من الأنصار في الجاهليّة، وسكن المدينة، فدخلوا في الأنصار. وقد ذكر ابن الكلبيّ أن امرأة عويمر هي بنت عاصم المذكور، وأن اسمها خولة.

ص: 104

وقال ابن منده في "كتاب الصحابة": خولة بنت عاصم التي قذفها زوجها، فلاعن النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما، لها ذكر، ولا تُعرف لها رواية. وتبعه أبو نُعيم، ولم يذكرا سلفهما في ذلك، وكأنه ابن الكلبيّ. وذكر مقاتل بن سليمان -فيما حكاه القرطبيّ- أنها خولة بنت قيس. وذكر ابن مردويه أنها بنت أخي عاصم، فأخرج من طريق الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى:"أن عاصم بن عديّ، لَمّا نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} قال: يا رسول اللَّه، أين لأحدنا أربعة شُهداء؟، فابتُلي في بنت أخيه". وفي سنده مع إرساله ضعف. وأخرج ابن أبي حاتم في "التفسير" عن مقاتل بن حيّان، قال:"لَمّا سأل عاصمٌ عن ذلك ابتُلي به في أهل بيته، فأتاه ابن عمّه، تحته ابنة أخيه، رماها بابن عمّه، والمرأة، والزوجُ، والحليل، ثلاثتهم بنو عمّ عاصم". وعن ابن مردويه في مرسل ابن أبي ليلى المذكور أن الرجل الذي رَمَى عُويمرٌ امرأته به هو شريك ابن سَحْمَاء. وهو يشهد لصحّة هذه الرواية؛ لأنه ابن عمّ عُويمر، كما سيأتي بعد بابين، وكذا في مرسل مقاتل بن حيان عند أبي حاتم، فقال الزوج لعاصم: يا ابن عمّ أُقسم باللَّه، لقد رأيت شريك بن سحماء على بطنها، وإنها لحبلى، وما قربتها منذ أربعة أشهر. وفي حديث عبد اللَّه بن جعفر عند الدارقطنيّ:"لاعن بين عُويمر العجلانيّ وامرأته، فأنكر حملها الذي في بطنها، وقال: هو لابن سحماء". ولا يمتنع أن يُتّهم شريك بن سحماء بالمرأتين معًا. وأما قول ابن الصبّاغ في "الشامل": إن الْمُزَنيّ ذكر في "المختصر" أن العجلانيّ قذف زوجته بشريك بن سحماء، فهو سهو في النقل، وإنما القاذف بشريك هلال بن أميّة، فكأنه لم يعرف مستند المزنيّ في ذلك، وإذا جاء الخبر من طرق متعدّدة، فإن بعضها يعضد بعضًا، والجمع ممكن، فيتعيّن المصير إليه، فهو أولى من التغليط

(1)

.

(قَالَ: جَاءَنِي عُوَيْمِرٌ) ابن أبي الأبيض العَجْلانيّ. وقال الطبرانيّ

(2)

: هو عُويمر بن الحارث بن زيد بن جابر بن الْجَدّ بن الْعَجْلان، وأبيض لقب لأحد آبائه. قاله في "الإصابة"

(3)

.

وقال في "الفتح": في رواية القعنبيّ، عن مالك:"عويمر بن أشقر"، وكذا أخرجه أبو داود، وأبو عوانة من طريق عياض بن عبد اللَّه الفهريّ، عن الزهريّ. ووقع في "الاستيعاب": عويمر بن أبيض. وعند الخطيب في "المبهمات": عويمر بن الحارث.

(1)

"فتح"10/ 561 - 562.

(2)

لعلّ الصواب "الطبريّ"، كما سيأتي في عبارة "الفتح".

(3)

"الإصابة" 7/ 182.

ص: 105

وهذا هو المعتمد، فإن الطبريّ نسبه في "تهذيب الآثار"، فقال: عويمر بن الحارث بن زيد بن الجدّ بن عجلان. فلعلّ أباه كان يُلقّب أشقر، أو أبيض. وفي الصحابة ابن أشقر آخر، وهو مازنيّ، أخرج له ابن ماجه.

واتفقت الروايات عن ابن شهاب على أنه في مسند سهل، إلا ما أخرجه النسائيّ من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة، وإبراهيم بن سعد، كلاهما، عن الزهريّ، فقال فيه:"عن سهل، عن عاصم بن عديّ، قال: كان عُويمر رجلاً من بني العجلان، فقال"، أي عاصم، فذكر الحديث، والمحفوظ الأول، وسيأتي عن سهل أنه حضر القصّة، وفي رواية للبخاريّ في "الحدود" من رواية سفيان بن عُيينة، عن الزهريّ، قال: قال سهل بن سعد: شهدت المتلاعنين، وأنا ابن خمس عشرة سنة". ووقع في نسخة أبي اليمان، عن شُعيب، عن الزهريّ، عن سهل بن سعد، قال: "توفّي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن خمس عشرة سنة"، فهذا يدلّ على أن قصّة اللعان، كانت في السنة الأخيرة من زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم. لكن جزم الطبريّ، وأبو حاتم، وابن حبّان بأن اللعان كان في شعبان سنة تسع، وجزم به غير واحد من المتأخّرين. ووقع في حديث عبد اللَّه بن جعفر عند الدارقطنيّ أن قصّة اللعان كانت بمنصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم من تبوك. وهو قريب من قول الطبريّ، ومن وافقه، لكن في إسناده الواقديّ، فلا بدّ من تأويل أحد القولين، فإن أمكن، وإلا فطريق شعيب أصحّ. ومما يوهن رواية الواقديّ ما اتفق عليه أهل السير أن التوجّه إلى تبوك كان في رجب، وما ثبت في "الصحيحين" أن هلال بن أُميّة أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، وفي قصّته أن امرأته استأذنت له النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تخدُمه، فأذن لها بشرط أن لا يقربها، فقالت: إنه لا حِرَاك به، وفيه أن ذلك كان بعد أن مضى لهم أربعون يومًا، فكيف تقع قصّة اللعان في الشهر الذي انصرفوا فيه من تبوك، ويقع لهلال مع كونه فيما ذُكر من الشغل بنفسه، وهجران الناس له، وغير ذلك. وقد ثبت في حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أن آية اللعان نزلت في حقّه. وكذا عند مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أنه أول من لاعن في الإسلام. ووقع في رواية عبّاد بن منصور في حديث ابن عبّاس عند أبي داود، وأحمد: "حتى جاء هلال بن أميّة، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فوجد عند أهله رجلاً

" الحديث. فهذا يدلّ على أن قصّة اللعان تأخّرت عن قصّة تبوك.

قال الحافظ: والذي يظهر أن القصّة كانت متأخّرةً، ولعلّها كانت في شعبان سنة عشر، لا تسع، وكانت الوفاة النبويّة في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة باتفاق، فيلتئم حينئذ مع حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. ووقع عند مسلم من حديث ابن مسعود

ص: 106

- رضي الله عنه: "كنّا ليلة جمعة في المسجد، إذ جاء رجلٌ من الأنصار

" فذكر القصّة في اللعان باختصار، فعيّن اليوم، لكن لم يُعيّن الشهر، ولا السنة انتهى ما في "الفتح"

(1)

. (رَجُلٌ) بدلٌ من "عُويمر"، أو خبر لمحذوف، أي هو رجلٌ (مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ، فَقَالَ: أَيْ عَاصِمُ)"أي" حرف لنداء القريب، أو الأوسط، أو البعيد، ورجح السيوطيّ الأوسط" حيث قال في "الكوكب الساطع":

"أَيْ" لِنِدَا الأَوْسَطِ فِي الشَّهِيرِ

لَا الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَلِلتَّفْسِيرِ

(أَرَأَيتُمْ رَجُلاً) أي أخبرني عن حكم رجل (رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً) قال في "الفتح": كذا اقتصر على قوله: "مع"، فاستعمل الكناية، فإن مراده معيّةٌ خاصّة، ومراده أن يكون وجده عند الرؤية انتهى (أَيَقْتُلُهُ) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار. قاله العيني

(2)

(فَتَقْتُلُونَهُ) أي قصاصًا؛ لتقدّم علمه بحكم القصاص؛ لعموم قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، لكن في طرقه احتمال أن يُخصّ من ذلك ما يقع بالسبب الذي لا يقدر على الصبر عليه غالبًا من المغيرة التي في طبع البشر، ولأجل هذا قال:"أم كيف يفعل؟ ". وقد ثبت في "الصحيحين" استشكال سعد بن عبادة مثل ذلك، وقوله:"لو رأيته لضربته بالسيف غير مُصفح"، وسيأتي بعد بابين قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لهلال بن أميّة:"أربعة شهداء، وإلا فحدّ في ظهرك"، وذلك كلّه قبل أن ينزل اللعان. وقد اختلف العلماء فيمن وجد مع امرأته رجلاً، فقتله، هل يُقتل به، أم لا؟، وسيأتي بيان ذلك في المسألة الثامنة، إن شاء اللَّه تعالى.

وقوله (أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟) يحتمل أن تكون "أم" متّصلة، والتقدير: أم يصبر على ما به من المضض. ويحتمل أن تكون منقطعة بمعنى الإضراب، أي بل هناك حكم آخر لا يعرفه، ويريد أن يطلع عليه، فلذلك قال: سل لي يا عاصم، وإنما خصّ عاصمًا بذلك لما تقدّم من أنه كان كبير قومه، وصهره على ابنته، أو ابن أخيه، ولعله كان اطّلع على مخايل ما سأل عنه، لكن لم يتحقّقه، فلذلك لم يُفصح به، أو اطّلع حقيقة، لكن خشي إذا صرّح به من العقوبة التي تضمّنها من رمي المحصنة بغير بيّنة. أشار إلى ذلك ابن العربيّ. قال: ويحتمل أن يكون لم يقع له شيء من ذلك، لكن اتفق أنه وقع في نفسه إرادة الاطّلاع على الحكم، فابتُلي به، كما يُقال: النبلاء موكّلٌ بالمنطق، ومن ثمّ قال: إن الذي سألتك عنه قد ابتُليت به. وقد وقع في حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - عند مسلم في قصّة العجلانيّ: "فقال: أرأيت إن وجد رجلٌ مع امرأته رجلاً، فإن تكلّم

(1)

"فتح" 10/ 560 - 561.

(2)

"عمدة القاري" 17/ 328.

ص: 107

به تكلّم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك". وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عنده أيضًا:"إن تكلّم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ". وهذه أتمّ الروايات في هذا المعنى.

(يَا عَاصِمُ، سَلْ) أصله "اسأل"، فنُقلت حركة الهمزة إلى السين، بعد حذفها للتخفيف، واستُغني عن همزة الوصل، فحُذفت، فصار "سَلْ"، على وزن "فَلْ"(لِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عَاصِمٌ، عَنْ ذَلِكَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَعَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ، وَكَرِهَهَا) وفي رواية مالك، عن ابن شهاب المتقدّمة في -7/ 34030 - : "فكره رسول اللَّهَ صلى الله عليه وسلم المسائل، وعابها، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

".

وقوله: "كبر" بفتح الكاف، وضمّ الموحّدة: أي عظُم وزنًا ومعنًى. وسببه أن الحامل لعاصم على السؤال غيره، فاختصّ هو بالإنكار عليه، ولهذا قال لعويمر لَمّا رجع، فاستفهمه عن الجواب: لم تأتني بخير.

وإنما كره النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك ما قال الشافعيّ: كانت المسائل فيما لم ينزل فيه حكم زمن نزول الوحي ممنوعة؛ لئلاّ ينزل الوحي بالتحريم فيما لم يكن قبل ذلك محرمًا، فيحرم، ويشهد له الحديث المخرج في "الصحيح":"أعظم الناس جُرْمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فيحرم من أجل مسألته".

وقال النوويّ: المراد كراهة المسائل التي لا يُحتاج إليها، لا سيّما ما كان فيه هتك ستر مسلمٍ، أو إشاعة فاحشة، أو شناعة عليه، وليس المراد المسائل المحتاج إليها إذا وقعت، فقد كان المسلمون يسألون عن النوازل، فيُجيبهم صلى الله عليه وسلم بغير كراهة، فلما كان في سؤال عاصم شناعة، ويترتّب عليه تسليط اليهود والمنافقين على أعراض المسلمين، كَرِهَ مسألته، وربما كان في المسألة تضييق، وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ التيسير على أمّته، وشواهد ذلك في الأحاديث كثيرة، وفي حديث جابر رضي الله عنه:"ما نزلت آية اللعان إلا لكثرة السؤال". أخرجه الخطيب في "المبهمات" من طريق مجالد، عن عامر عنه

(1)

.

(فَجَاءَهُ عُوَيْمِرْ) وفي رواية مالك المذكورة: "فلما رجع عاصم إلى أهله، جاءه عُويمر"(فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ،)"ما" استفهامية، أيْ أيَّ شيء صنعت فيما أمرتك به من سؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ (يَا عَاصِمُ؟، فَقَالَ: صَنَعْتُ) أي فعلتُ ما أمرتني به (إِنَّكَ لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا) جملة "كره الخ" تعليليّة لكونه لم يأته بخير (قَالَ عُوَيْمِرْ: وَاللَّهِ لَأَسْأَلَنَّ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية مالك المذكورة: "فأقبل

(1)

"فتح" 10/ 563 - 564.

ص: 108

عُويمر: واللَّه لا أنتهي حتى أسال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (فَانْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ) وفي رواية مالك: "فأقبل عُويمر حتى أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وسط الناس

(1)

، فقال: يا رسول اللَّه، أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتده، فتقتدونه؟، أم كيف يفعل؟ " (فَقَالَ: لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِيكَ، وَفِي صَاحِبَتِكَ) قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ظاهر هذا السياق أنه كان تقدّم منه إشارة إلى خصوص ما وقع له مع امرأته، فيترجّح أحد الاحتمالات التي أشار إليها ابن العربيّ. لكن ظهر لي من بقيّة الطرق أن في السياق اختصارًا، ويوضّح ذلك ما وقع في حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - في قصّة العجلانيّ بعد قوله: "إن تكلّم تكلّم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك":"فسكت عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما كان بعد ذلك أتاه، فقال: إن الذي سألتك عنه، قد ابتُليتُ به"، فدلّ على أنه لم يذكر امرأته إلا بعد أن انصرف، ثم عاد. ووقع في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن الرجل لما قال: "وإن سكت سكت على غيظ" قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهمّ افتح"، وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان. وهذا ظاهر أن الآية نزلت عقب السؤال. لكن يحتمل أن يتخلّل بين الدعاء والنزول زمن بحيث يذهب عاصم، ويعود عويمر. وهذا ظاهر جدًّا في أن القصّة نزلت بسبب عويمر، ويعارضه حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - "إن هلال ابن أُميّة قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "البيّنة، أو حدّ في ظهرك"، فقال هلال: والذي بعثك بالحقّ إنني لصادقٌ، وليُنزلنّ اللَّه ما يُبرىء ظهري من الحدّ، فنزل جبريل، فأنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الحديث. وفي رواية عبّاد منصور، عن عكرمة، عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - في هذا الحديث عند أبي داود: "فقال هلال: وإني لأرجو أن يجعل اللَّه لي فَرَجًا، قال: فبينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كذلك إذ نزل عليه الوحي". وفي حديث أنس رضي الله عنه عند مسلم، والنسائيّ

(2)

: "إن هلال بن أميّة قذف امرأته بشريك بن سحماء، وكان أخا البراء بن مالك لأمه، وكان أول رجل لاعن في الإسلام".

فهذا يدلّ على أن الآية نزلت بسبب هلال بن أمية رضي الله عنه، وقد اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية، وسيأتي تحقيق ذلك في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. (فَائْتِ بِهَا) وفي رواية مالك:"فاذهب، فأت بها". يعني فذهب، فأَتَى بها. واستُدلّ به على أن اللعان يكون عند الحاكم، وبأمره، فلو تراضيا بمن يُلاعن بينهما، فلاعن لم يصحّ؛ لأن في اللعان من التغليظ ما يقتضي أن يختصّ به الْحُكّام. وفي حديث ابن

(1)

بفتح السين، وسكونها. اهـ "فتح".

(2)

سيأتي للمصنف بعد باب.

ص: 109

عمر: "فتلاهنّ عليه -أي الآيات التي في سورة النور- ووعظه، وذكّره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال: والذي بعثك بالحقّ ما كذبت عليها، ثم دعاها، فوعظها، وذكّرها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قالت: والذي بعثك بالحقّ إنه لكاذب".

(قَالَ: سَهْلٌ) رضي الله عنه هو موصول بالسند السابق (وَأَنَا مَعَ النَّاسِ، عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) زاد البخاريّ من طريق ابن جريج، عن ابن شهاب:"في المسجد"، وزاد ابن إسحاق في روايته عن ابن شهاب في هذا الحديث:"بعد العصر". أخرجه أحمد. وفي حديث عبد اللَّه بن جعفر: "بعد العصر عند المنبر". وسنده ضعيف.

واستُدلّ بمجموع ذلك على أن اللعان يكون بحضرة الحكّام، وبمجمع من الناس، وهو أحد أنواع التغليظ. ثانيها الزمان. ثالثها المكان. وهذا التغليظ مستحبّ. وقيل: واجب.

(فَجَاءَ بِهَا، فَتَلَاعَنَا) فيه حذفٌ تقديره: فأتى بها، فسألها، فأنكرت، فأمر باللعان، فتلاعنا.

[تنبيه]: قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: لم أر في شيء من طرق سهل بن سعد رضي الله عنه صفة تلاعنهما، إلا ما في رواية الأوزاعيّ، فإنه قال:"فأمرهما بالملاعنة بما سمّى في كتابه"، وظاهره أنهما لم يزيدا على ما في الآية. وحديث ابن عمر عند مسلم صريحٌ في ذلك، فإن فيه: "فبدأ بالرجل، فشهد أربع شهادات باللَّه إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة اللَّه عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة

" الحديث. وحديث ابن مسعود رضي الله عنه نحوه، لكن زاد فيه: "فذهبت لتلتعن، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: مه، فأبت، فالتعنت". وفي حديث أنس رضي الله عنه عند أبي يعلى، وأصله في مسلم: "فدعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أتشهد باللَّه إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا؟، فشهد بذلك أربعًا، ثم قال في الخامسة: ولعنة اللَّه عليك إن كنت من الكاذبين؟ ففعل، ثم دعاها، فذكر نحوه، فلما كان في الخامسة سكتت سكتةً حتى ظنّوا أنها ستعترف، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت على القول". وفي حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من طريق عاصم بن كُليب، عن أبيه، عنه، عند أبي داود، والنسائيّ، وابن أبي حاتم: "فدعا الرجل، فشهد أربع شهادات باللَّه إنه لمن الصادقين، فأمر به، فأُمسك على فيه، فوعظه، فقال: كلّ شيء أهون عليك من لعنة اللَّه، ثم أرسله، فقال: لعنة اللَّه عليه إن كان من الكاذبين، وقال في المرأة نحو ذلك". وهذه الطريق لم يُسمّ فيها الزوج، ولا الزوجة، بخلاف حديث أنس رضي الله عنه، فصرّح فيه بأنها في قصّة هلال بن أميّة، فإن كانت

ص: 110

القصّة واحدة وقع الوهم في تسمية الملاعن، كما جزم به غير واحد، فهذه زيادة ثقة، فتُعتمد، وإن كانت متعدّدة، فقد ثبت بعضها في قصّة امرأة هلال انتهى كلام الحافظ ببعض اختصار

(1)

.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَئِنْ أَمْسَكتُهَا، لَقَدْ كَذَبْتُ عَلَيْهَا) وفي رواية الأوزاعيّ: "إن حبستها، فقد ظلمتها"(فَفَارَقَهَا، قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِفِرَاقِهَا) وفي رواية مالك المذكورة: "فطلّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". وفي رواية ابن إسحاق: "ظلمتها إن أمسكتها، فهي الطلاق، فهي الطلاق". قال في "الفتح": وقد تفرّد بهذه الزيادة، ولم يُتابَع عليها، وكأنه رواه بالمعنى لاعتقاده منع جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة. وقد تقدّم البحث عن هذا في باب "الثلاث المجموعة، وما فيه من التغليظ". واستُدلّ بقوله: "طلّقها ثلاثًا" أن الفرقة بين المتلاعنين تتوقّف على تطليق الرجل، كما نُقل عن عثمان الْبَتِّيّ.

وأُجيب بقوله في حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - "فرق النبيّ صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين"، فإن حديث سهل، وحديث ابن عمر رضي الله عنهم في قصّة واحدة، وظاهر حديث ابن عمر أن الفرقة وقعت بتفريق النبيّ رضي الله عنه. وقد وقع في "شرح مسلم للنوويّ": قوله: "كذبتُ عليها يا رسول اللَّه، إن أمسكتها" هو كلام مستقلّ، وقوله:"فطلّقها"، أي ثم عقب قوله ذلك بطلاقها، وذلك لأنه ظنّ أن اللعان لا يحرّمها عليه، فأراد تحريمها بالطلاق، فقال: هي طالقٌ ثلاثًا، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا سبيل لك عليها"، أي لا ملك لك عليها، فلا يقع طلاقك انتهى.

قال الحافظ: وهو يوهم أن قوله: "لا سبيل لك عليها" وقع منه صلى الله عليه وسلم عقب قول الملاعن: هي طالق ثلاثًا، وأنه موجود كذلك في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الذي شرحه، وليس كذلك، فإن قوله:"لا سبيل لك عليها"، لم يقع في حديث سهل رضي الله عنه، وإنما في حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - عقب قوله:"اللَّه يعلم أن أحدكما كاذبٌ، لا سبيل لك عليها"، وفيه: "قال: يا رسول اللَّه مالي

" الحديث. كذا في "الصحيحين".

قال الحافظ: وظهر من ذلك أن قوله: "لا سبيل لك عليها"، إنما استدلّ من استدلّ به من أصحابنا -يعني الشافعيّة- لوقوع الفرقة بنفس الطلاق من عموم لفظه، لا من خصوص السياق. واللَّه أعلم انتهى

(2)

.

(1)

"فتح" 10/ 565 - 566.

(2)

"فتح" 10/ 566.

ص: 111

(فَصَارَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ) الضمير للملاعنة المفهومة من "تلاعنا"، أي صارت الملاعنة على الوجه المذكور طريقة شرعها اللَّه تعالى لكلّ من أتى بعدهما ممن عليه التلاعن.

وفي رواية البخاريّ: "قال ابن شهاب: فكانت سنّة المتلاعنين"، قال في "الفتح":

زاد أبو داود عن القعنبيّ، عن مالك:"فكانت تلك"، وهي إشارة إلى الفرقة. وفي رواية ابن جريج:"فطلّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ذلك تفريق بين كلّ متلاعنين". كذا للمستملي، وللباقين:"فكان ذلك تفريقًا"، وللكشميهني:"فصار" بدل "فكان". وأخرجه مسلم من طريق ابن جريج بلفظ: "فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ذلك التفريق بين كلّ متلاعنين". وهو يؤيّد رواية المستملي. ومن طريق يونس، عن ابن شهاب: قال بمثل حديث مالك. قال مسلم: لكن أدرج قوله: "وكان فراقه إياها بعدُ سنّة بين المتلاعنين". وكذا ذكر الدارقطنيّ في "غرائب مالك" اختلاف الرواة على ابن شهاب، ثم على مالك في تعيين من قال:"فكان فراقها سنة"، هل هو من قول سهل، أو من قول ابن شهاب، وذكر ذلك الشافعيّ، وأشار إلى أن نسبته إلى ابن شهاب لا تمنع نسبته إلى سهل. ويؤيّده ما وقع عند أبي داود من طريق عياض بن عبد اللَّه الفهريّ، عن ابن شهاب، عن سهل، قالك "فطلّقها ثلاث تطليقات عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأنفذه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان ما صنع عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سنّة"، قال: سهل: "حضرت هذا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فمضت السنّة بعد في المتلاعنين أن يفرّق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدًا".

فقوله: "فمضت السنّة" ظاهر في أنه من تمام قول سهل. ويحتمل أنه من قول ابن شهاب، ويؤيّده أن ابن جريج -كما عند البخاريّ- أورد قول ابن شهاب في ذلك بعد ذكر حديث سهل، فقال -بعد قوله:"ذلك تفريق بين كلّ متلاعنين" -: قال ابن جريج: قال ابن شهاب: كانت السنة بعدهما أن يفرّق بين المتلاعنين.

قال الحافظ: ثم وجدت في نسخة الصغانيّ في آخر الحديث: "قال أبو عبد اللَّه: قوله: ذلك تفريق بين المتلاعنين، من قول الزهريّ، وليس من الحديث انتهى. وهو خلاف ظاهرسياق ابن جريج، فكأن البخاريّ رأى أنه مدرجٌ فنبّه عليه. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"فتح" 10/ 566 - 567.

ص: 112

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سهل بن سعد - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-7/ 3430 و35/ 3493 - وفي "الكبرى" 8/ 5595 و 36/ 5660. وأخرجه (خ) ففي "الطلاق" 5259 (م) في "اللعان" 1492 (د) في "الطلاق" 2245 و2351 (ق) في "الطلاق" 2066 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 22320 و 22344 و 22346 (الموطأ) في "الطلاق" 1201 (الدارمي) في "النكاح" 2229. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان بدء اللعان. (ومنها): مشروعيةُ الاستعداد للوقائع قبل وقوعها؛ ليعلم أحكامها إذا وقعت. (ومنها): الرجوع إلى من له الأمر. (ومنها): إجراء الأمر على الظواهر، واللَّه تعالى يتولّى السرائر. (ومنها): كراهة المسائل التي يترتّب عليها هتك المسلم، أو التوصّل إلى أذيّته بأيّ سبب كان، وفي كلام الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- إشارة إلى أن كراهة ذلك كانت خاصّة بزمنه صلى الله عليه وسلم من أجل نزول الوحي؛ لئلّا تقع المسألة عن شيء مباح، فيقع التحريم بسبب المسألة. وقد ثبت في "الصحيح":"أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يُحرّم، فحُرّم من أجل مسألته". وقد استمرّ جماعة من السلف على كراهة السؤال عما لم يقع، لكن عمل الأكثر على خلافه، فلا يُحصى ما فرّعه الفقهاء من المسائل قبل وقوعها

(2)

.

(ومنها): أن العالم يُقصد في منزله، ولا يُنتظر به حتى يُصادفه في المسجد، أو الطريق. (ومنها): مشروعيّة اللعان؛ لقول اللَّه عز وجل: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} . (ومنها): أن اللعان يكون بحضرة الإمام، أو القاضي، وبمجمع من الناس. (ومنها): تغليظ اللعان، قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: يغلّظ اللعان بالزمان، والمكان، والجمع، فأما الزمان فبعد العصر، والمكان في أشرف موضع في ذلك البلد، والجمع طائفة من الناس، وأقلّهم أربعة. وهل هذه التغليظات واجبة، أم

(1)

المراد فوائد حديث اللعان، لا بخصوص السياق الذي في هذا الباب، بل الأحاديث المتعلّقة به، فقد أخرجه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- من حديث سهل، وحديث أنس، وحديث ابن عبّاس، وحديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهم -.

(2)

"فتح" 10/ 580.

ص: 113

مستحبّة، فيه خلاف عندنا، والأصحّ الاستحباب انتهى

(1)

. (ومنها): أن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين؛ لأن اللَّه تعالى خصّه بالأزواج، حيث قال:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية. (ومنها): سقوط الحدّ به عن الرجل. (ومنها): أن شرط مشروعيّة اللعان عدم إقامة البيّنة؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية، فلو أقام الزوج الشهداء لا يجوز اللعان، بل يقام عليها الحدّ، وهو الجلد إن كانت غير محصنة، والرجم إن كانت محصنة. (ومنها): أن شرط وجوب اللعان إنكار المرأة وجود الزنا منها، فلو أقرّت به لا يجوز اللعان، بل يقام عليها الحدّ المذكور. (ومنها): أن في حديث سعيد بن جبير الآتي -41/ 3500 - ينبغي للعالم إذا سُئل عن واقعة، ولم يعلم حكمها، ورجا أن يجد فيها نصًّا لا يُبادر إلى الاجتهاد فيها. (ومنها): الرحلة في المسألة النازلة؛ لأن سعيد بن جُبير رحل من العراق إلى مكّة من أجل مسألة الملاعنة. (ومنها): إتيان العالم في منزله، ولو كان في قائلته، إذا عرف الآتي أنه لا يشُقّ عليه. (ومنها): تعظيم العالم، ومخاطبته بكنيته؛ لقول سعيد لابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: يا أبا عبد الرحمن. (ومنها): التسبيح عند التعجّب؛ يقول ابن عمر: "نعم سبحان اللَّه". وفيه إشعار بسعة علم سعيد؛ لأن ابن عمر عجب من خفاء مثل هذا الحكم عليه. ويحتمل أن يكون تعجبه لعلمه بأن الحكم المذكور كان مشهورًا من قبلُ، فتعجّب كيف خفي على بعض الناس. (ومنها): بيان أوليات الأشياء، والعناية بمعرفتها؛ لقول ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -:"أول من سأل عن ذلك فلان"، وقول أنس رضي الله عنه:"أول لعان كان". (ومنها): أن البلاء موكّلٌ بالمنطق، وأنه إن لم يقع بالناطق وقع بمن له به صلة. (ومنها): أن الحاكم يردع الخصم عن التمادي على الباطل بالموعظة، والتذكير، والتحذير، ويكرّر ذلك؛ ليكون أبلغ. (ومنها): ارتكاب أخفّ المفسدتين بترك أثقلهما؛ لأن مفسدة الصبر على خلاف ما توجبه الغيرة مع قبحه وشدّته أسهل من الإقدام على القتل الذي يؤدّي إلى الاقتصاص من القاتل، وقد نهج له الشارع سبيلاً إلى الراحة منها، إما بالطلاق، وإما باللعان. (ومنها): أن الاستفهام بـ "أرأيت" كان قديمًا. (ومنها): أن خبر الواحد يُعمل به إذا كان ثقةً. (ومنها): أن يسنّ للحاكم وعظ المتلاعنين عند إرادة التلاعن، ويتأكّد عند الخامسة. ونقل ابن دقيق العيد عن الفقهاء أنهم خصّوه بالمرأة عند إرادة تلفّظها بالغضب، واستشكله بما في حديث ابن عمر، لكن قد صرّح جماعة من الشافعيّة وغيرهم باستحباب وعظهما معًا. (ومنها): أن فيه ذكر

(1)

"شرح مسلم" 10/ 360.

ص: 114

الدليل مع بيان الحكم. (ومنها): أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون عن الحكم الذي لم ينزل فيه وحي. (ومنها): أن للعالم إذا كره السؤال أن يَعيبه، ويهجّنه. (ومنها): أن من لقي شيئًا من المكروه بسبب غيره له أن يعاتبه عليه. (ومنها): أن المحتاج إلى معرفة الحكم لا يردّه كراهة العالم لما سأل عنه، ولا غضبه عليه، ولا جفاؤه له، بل يُعاود ملاطفته إلى أن يقضي حاجته. (ومنها): أن السؤال عما يلزم من أمور الدين مشروع سرًّا وجهرًّا، وأن لا عيب في ذلك على السائل، ولو كان مما يُستقبح. (ومنها): أن فيه التحريض على التوبة، والعمل بالستر، وانحصار الحقّ في أحد الجانبين عند تعذّر الواسطة؛ لقوله:"إن أحدكما كاذب"، وأن الخصمين المتكاذبين لا يعاقب واحد منهما، وإن أحاط العلم بكذب أحدهما لا بعينه. (ومنها): أن فيه أن اللعان إذا وقع سقط حدّ القذف عن الملاعن للمرأة، وللذي رميت به؛ لأنه صرّح في بعض طرقه بتسمية المقذوف، ومع ذلك لم يُنقل أن القاذف حدّ. قال الداوديّ: لم يقل به مالكٌ؛ لأنه لم يبلغه الحديث، ولو بلغه لقال به. وأجاب بعض من قال: يُحدّ من المالكيّة، والحنفيّة بأن المقذوف لم يطلب، وهو حقّه، فلذلك لم يُنقل أن القاذف حدّ؛ لأن الحدّ سقط من أصله باللعان. وذكر عياض أن بعض أصحابهم اعتذر عن ذلك بأن شريكًا كان يهوديًّا. (ومنها): أن فيه ليس على الإمام أن يعلم المقذوف بما وقع من قاذفه. (ومنها): أن الحامل تلاعنُ قبل الوضع؛ لقوله في الحديث: "انظروا، فإن جاءت به الخ"، كما في حديث سهل رضي الله عنه، وفي حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -. وعند مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"فجاء -يعني الرجل- هو وامرأته، فتلاعنا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لعلّها أن تجيء به أسود جَعدًا، فجاءت به أسود، جعدًا". وبه قال الجمهور؛ خلافًا لمن أبى ذلك من أهل الرأي، معتلاًّ بأن الحمل لا يُعلم لأنه قد يكون نفخة. وحجة الجمهور أن اللعان شُرع لدفع حدّ القذف عن الرجل، ودفع حدّ الرجم عن المرأة، فلا فرق بين أن تكون حاملاً، أو حائلاً، ولذلك يُشرع اللعان مع الآيسة. وقد اختُلف في الصغيرة، فالجمهور على أن الرجل إذا قذفها فله أن يلتعن لدفع حدّ القذف عنه دونها.

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن لا كفارة في اليمين الغموس؛ لأنها لو وجبت لبيّنت في هذه القصّة. وتُعقّب بأنه لم يتعيّن الحانث. وأُجيب بأنه لو كان واجبًا لبيّنه مجملاً بأن يقول مثلاً: فليُكفّر الحانث منكما عن يمينه، كما أرشد أحدهما إلى التوبة. (ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أُميّة رضي الله عنه: "أربعة شُهداء، وإلا فحدّ في ظهرك" الآتي بعد بابين دلالةً على أن القاذف لو عجز عن البيّنة، فطلب تحليف المقذوف لا

ص: 115

يُجاب؛ لأن الحصر المذكور لم يتغيّر منه إلا زيادة مشروعيّة اللعان. (ومنها): جواز ذكر الأوصاف المذمومة عند الضرورة الداعية إلى ذلك، ولا يكون ذلك من الغيبة المحرمة. (ومنها): أن الحكم يتعلّق بالظاهر، وأمر السرائر موكول إلى اللَّه عز وجل. (ومنها): ما قال ابن التين: وبه احتجّ الشافعيّ على قبول توبة الزنديق. وفيه نظر؛ لأن الحكم يتعلّق بالظاهر فيما لا يتعلّق فيه حكم الباطن، والزنديق قد علم باطنه بما تقدّم، فلا يقبل منه ظاهر ما يبديه بعد ذلك. قال الحافظ: كذا قال، وحجة الشافعيّ ظاهرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد تحقّق أن أحدهما كاذب، وكان قادرًا على الاطلاع على عين الكاذب، لكن أخبر أن الحكم بظاهر الشرع يقتضي أنه لا ينقب عن البواطن، وقد لاحت القرائن بتعيين الكاذب في المتلاعنين، ومع ذلك فأجراهما على حكم الظاهر، ولم يُعاقب المرأة. (ومنها): أنه يستفاد منه أن الحاكم لا يكتفي بالمظنّة، والإشارة في الحدود، إذا خالفت الحكم الظاهر، كيمين المدّعَى عليه، إذا أنكر، ولا بيّنة. (ومنها): أن الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- استدلّ به على إبطال الاستحسان؛ لقوله: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن". (ومنها): أن الحاكم إذا بذل وسعه، واستوفى الشرائط لا ينقض حكمه إلا إن ظهر عليه إخلال شرط، أو تفريق في سبب. (ومنها): أن اللعان يُشرع في كلّ امرأة دخل بها، أو لم يدخل، ونقل فيه ابن المنذر الإجماع. وفي صداق غير المدخول بها خلاف للحنابلة، والمشهور أن لها نصف المهر؛ لأنها فُرقة منه، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومالك. وفي رواية لا صداق لها؛ لأن الفرقة حصلت بلعانهما جميعًا، فأشبه الفرقة بعيب في أحدهما

(1)

. (ومنها): أنه لو نكح فاسدًا، أو طلّق بائنًا، فولدت، فأراد نفي الولد، فله الملاعنة. وقال أبو حنيفة: يلحقه الولد، ولا نفي، ولا لعان؛ لأنها أجنبيّة. وكذا لو قذفها، ثم أبانها بثلاث فله اللعان. وقال أبو حنيفة: لا. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن هُشيم، عن مغيرة، قال الشعبيّ: إذا طلّقها ثلاثًا، فوضعت، فانتفى منه، فله أن يلاعن. فقال له الحارث: إن اللَّه يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية، أفتراها زوجة؟ فقال الشعبيّ: إني لأستحيي من اللَّه إذا رأيت الحقّ أن لا أرجع إليه. فلو التعن ثلاث مرّات فقط، فالتعنت المرأة مثله، ففرق الحاكم بينهما لم تقع الفرقة عند الجمهور؛ لأن ظاهر القرآن أن الحدّ وجب عليهما، وأنه لا يندفع إلا بما ذكر، فتعيّن الإتيان بجميعه. وقال أبو حنيفة: أخطأ السنّة، وتحصل الفرقة؛ لأنه أُتي بالأكثر، فتعلّق به الحكم. ومذهب الجمهور أصحّ. (ومنها): أنه استُدلّ به على أن

(1)

"المغني" 11/ 124.

ص: 116

الالتعان ينتفي به الحمل؛ خلافًا لأبي حنيفة، ورواية عن أحمد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"انظروا، فإن جاءت الخ"، فإن الحديث ظاهر في أنها كانت حاملاً، وقد أُلحق الولد مع ذلك بأمه. (ومنها): أن فيه جواز الحلف على ما يغلب على الظنّ، ويكون المستند التمسّك بالأصل، أو قوة الرجاء من اللَّه تعالى عند تحقّق الصدق؛ لقول من سأله هلال:"واللَّه ليجلدنّك"، ولقول هلال:"واللَّه لا يضربني، وقد علم أني رأيت، حتى استفتيت". (ومنها): أن اليمين التي يعتدّ بها في الحكم ما يقع بعد إذن الحاكم؛ لأن هلالاً قال: "واللَّه إني لصادق"، ثم لم يحتسب بها من كلمات اللعان الخمس. (ومنها): أنه تمسّك به من قال بإلغاء حكم القافة. وتُعقّب بأن إلغاء حكم الشبه هنا إنما وقع حيث عارضه حكم الظاهر بالشرع، وإنما يُعتبر حكم القافة حيث لا يوجد ظاهر يتمسّك به، ويقع الاشتباه، فيرجع حينئذ إلى القافة

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في سبب نزول آية اللعان:

قال في "الفتح": وقد اختلف الأئمة في هذا الموضع: فمنهم من رجّح أنها نزلت في شأن عويمر. ومنهم من رجّح أنها نزلت في شأن هلال. ومنهم من جمع بينهما بأن أوّل من وقع له ذلك هلال، وصادف مجيء عويمر أيضًا، فنزلت في شأنهما معًا في وقت واحد. وقد جنح النوويّ إلى هذا، وسبقه الخطيب، فقال: لعاّهما اتفق كونهما جاآ في وقت واحد. ويؤيّد التعدّد أن القائل في قصّة هلال سعد بن عبادة، كما أخرجه أبو داود، والطبريّ من طريق عبّاد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عبّاس مثل رواية هشام بن حسّان بزيادة في أوله: "لَمّا نزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية، قال سعد بن عبادة: لو رأيت لكاعًا قد تفخّذها رجلٌ، لم يكن لي أن أُهيجه حتى آتي أربعة شهداء، ما كنت لآتي بهم حتى يفرغ من حاجته، قال: فما لبثوا إلا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية

" الحديث. وعند الطبريّ من طريق أيوب، عن عكرمة، مرسلاً فيه نحوه، وزاد: "فلم يلبثوا أن جاء ابن عمّ له، فرمى امرأته

" الحديث. والقائل في قصّة عويمر عاصم بن عديّ، كما في حديث سهل بن سعد في هذا الباب. وأخرج الطبريّ من طريق الشعبيّ مرسلاً، قال: "لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية، قال عاصم بن عديّ: إن أنا رأيت، فتكلّمت، جُلدتُ، وإن سكتّ سكتّ على غيظ

" الحديث.

(1)

"فتح" 10/ 579 - 582. "كتاب الطلاق". و"عمدة القاري" 15/ 329 - 330. "كتاب التفسير".

ص: 117

ولا مانع أن تتعدّد القصص، ويتّحد النزول. وروى البزّار من طريق زيد بن يُثيع، عن حذفة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: لو رأيت مع أم رومان رجلاً ما كنت فاعلاً به؟ قال: كنت فاعلاً به شرًّا. قال: فأنت يا عمر؟ قال: أقول: لعن اللَّه الأبعد، قال: فنزلت". ويحتمل أن النزول سبق بسبب هلال، فلما جاء عويمر، ولم يكن علم بما وقع لهلال أعلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحكم، ولهذا قال في قصّة هلال: "فنزل جبريل"، وفي قصّة عويمر: "قد أنزل اللَّه فيك"، فيؤوّل قوله: "قد أنزل اللَّه فيك"، أي وفيمن كان مثلك. وبهذا أجاب ابن الصبّاغ في "الشامل"، قال: نزلت الآية في هلال، وأما قوله لعويمر: "قد نزل فيك وفي صاحبتك"، فمعناه ما نزل في قصّة هلال. ويؤيّده أن في حديث أنس عند أبي يعلى قال: "أول لعان كان في الإسلام أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أميّة بامرأته

" الحديث.

وجنح القرطبيّ إلى تجويز نزول الآية مرّتين، قال: وهذه الاحتمالات، وإن بعدت أولى من تغليط الرواة الحفّاظ.

وقد أنكر جماعة ذكر هلال فيمن لاعن، قال القرطبيّ: أنكره أبو عبد اللَّه بن أبي صفرة، أخو المهلّب، وقال: هو خطأ، والصحيح أنه عويمر. وسبقه إلى نحو ذلك الطبريّ. وقال ابن العربيّ: قال الناس: هو وَهَمٌ من هشام بن حسّان، وعليه دار حديث ابن عبّاس، وأنس بذلك. وقال عياضٌ في "المشارق": كذا جاء من رواية هشام بن حسّان، ولم يقله غيره، وإنما القصّة لعويمر العجلانيّ، قال: ولكن وقع في "المدوّنة" في حديث العجلانيّ ذكر شريك. وقال النوويّ في "مبهماته": اختلفوا في الملاعن على ثلاثة أقوال: عويمر العجلانيّ، وهلال بن أُميّة، وعاصم بن عديّ. ثم نقل عن الواحديّ أن أظهر هذه الأقوال أنه عويمر.

قال الحافظ: وكلام الجميع مُتعقَّبٌ، أما قول ابن أبي صفرة، فدعوى مجرّدة، وكيف يجزم بخطأ حديث ثابت في "الصحيحين" مع إمكان الجمع؟، وما نسبه إلى الطبريّ لم أره في كلامه.

وأما قول ابن العربيّ: إن ذكر هلال دار على هشام بن حسّان، وكذا جزم عياض بأنه لم يقله غيره، فمردود؛ لأن هشام بن حسّان لم ينفرد به، فقد رواه عبّاد بن منصور، كما قدّمته، وكذا جزم جرير بن حازم، عن أيوب، أخرجه الطبريّ، وابن مردويه، موصولاً، قال:"لَمّا قذف هلال بن أميّة امرأته".

وأما قول النوويّ تبعًا للواحديّ، وجنوحه إلى الترجيح فمرجوح؛ لأن الجمع مع

ص: 118

إمكانه أولى من الترجيح. ثم قوله: "وقيل: عاصم بن عديّ" فيه نظر؛ لأنه ليس لعاصم فيه قصّة أنه الذي لاعن امرأته، وإنما الذي وقع من عاصم نظير الذي وقع من سعد بن عبادة. ولما روى ابن عبد البرّ في "التمهيد" طريق جرير بن حازم تعقّبه بأن قال: قد رواه القاسم بن محمد، عن ابن عبّاس كما رواه الناس. وهذا يوهم أن القاسم سمّى الملاعن عويمرًا، والذي في "الصحيح":"فأتاه رجلٌ من قومه"، أي من قوم عاصم، وللنسائيّ من هذا الوجه:"لاعن بين العجلانيّ وامرأته"، والعجلانيّ هو عمير. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في "تفسير سورة النور"

(1)

.

وقال في "كتاب الطلاق" بعد الإشارة إلى ما تقدّم: وظهر لي الآن احتمال أن يكون عاصم سأل قبل النزول، ثم جاء هلال بعده، فنزلت عند سؤاله، فجاء عويمرٌ في المرّة الثانية التي قال فيها:"إن الذي سألتك عنه، قد ابتليت به"، فَوَجَدَ الآيةَ نزلت في شأن هلال، فأعلمه صلى الله عليه وسلم بأنها نزلت فيه، يعني أنها نزلت في كلّ من وقع له ذلك؛ لأن ذلك لا يختصّ بهلال، وكذا يجاب على سياق حديث ابن مسعود رضي الله عنه يحتمل أنه لما شرع يدعو بعد توجّه العجلانيّ جاء هلال، فذكر قصّته، فنزلت، فجاء عويمرٌ، فقال: قد نزل فيك، وفي صاحبتك انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الجمع الذي سلكه الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- جمع حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في صفة الزوجين اللذين يصحّ منهما اللعان:

ذهبت طائفة إلى أن اللعان يصحّ من كلّ زوجين مكلّفين، مسلمين كانا، أو كافرين، أو عدلين، أو فاسقين، أو محدودين في قذف، أو كان أحدهما كذلك. وبهذا قال سعيد ابن المسيّب، وسليمان بن يسار، والحسن، وربيعة، ومالك، وإسحاق، وأحمد في رواية.

وحجّتهم عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية؛ ولأن اللعان يمين، فلا يفتقر إلى سائر ما اشترطوه، كسائر الأيمان، ودليل أنه يمين قوله صلى الله عليه وسلم:"لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن". وأما تسميته شهادة؛ فلقوله في يمينه: أشهد باللَّه، فسمي ذلك شهادة، وإن كان يمينًا، كما قال تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ} الآية [المنافقون: 1].

(1)

"فتح" 9/ 382 - 383. في تفسير "سورة النور".

(2)

"فتح" 10/ 564 - 565 "كتاب الطلاق".

ص: 119

وذهبت طائفة إلى أنه لا يصحّ اللعان إلا من زوجين مسلمين، عدلين، حرّين، غير محدودين في قذف. روي هذا عن الزهريّ، والثوريّ، والأوزاعيّ، وحماد، وأصحاب الرأي. وعن مكحول: ليس بين المسلم والذّمّيّة لعان. وعن عطاء، والنخعيّ في المحدود في القذف: يُضرب الحدّ، ولا يُلاعن. وروي فيه حديث، ولا يثبت، كذلك قال الشافعيّ، والساجيّ؛ ولأن اللعان شهادة، بدليل قوله عز وجل:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} ، فاستثنى أنفسهم من الشهداء، وقال تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} ، فلا يُقبل ممن ليس من أهل الشهادة

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي ما ذهب إليه الأولون؛ لقوّة دليله. واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "الفتح" عند شرح حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "أن رجلاً من الأنصار قذف امرأته، فأحلفهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم فرّقهما": ما نصّه: وقد تمسّك به من قال: إن اللعان يمين، وهو قول مالك، والشافعيّ، والجمهور. وقال أبو حنيفة: اللعان شهادة، وهو وجه للشافعيّة. وقيل: شهادة فيها شائبة اليمين. وقيل: بالعكس. ومن ثمّ قال بعض العلماء: ليس بيمين، ولا شهادة.

وانبنى على الخلاف أن اللعان يُشرع بين كلّ زوجين مسلمين، أو كافرين، حرّين، أو عبدين، عدلين، أو فاسقين؛ بناءً على أنه يمين، فمن صحّ يمينه صحّ لعانه. وقيل: لا يصحّ اللعان إلا من زوجين حرّين مسلمين؛ لأن اللعان شهادة، ولا يصحّ من محدود في قذف، وهذا الحديث حجة للأولين؛ لتسوية الراوي بين لاعَنَ، وحلف، ويؤيّده أن اليمين ما دلّ على حثّ، أو منع، أو تحقيق خبر، وهو هنا كذلك، ويدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم في بعض طرق حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -:"فقال له: احلف باللَّه الذي لا إله إلا هو إني لصادق، يقول ذلك أربع مرّات". أخرجه الحاكم، والبيهقيّ، من رواية جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عنه. وقوله صلى الله عليه وسلم:"لولا الأيمان لكان لي ولها شأن".

واعتلّ بعض الحنفيّة بأنها لو كانت يمينًا لما تكرّرت. وأجيب بأنها خرجت عن القياس تغليظًا لحرمة الفرج، كما خرجت القسامة لحرمة الأنفس، وبأنها لو كانت شهادة لم تكرر أيضًا.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: والذي تحرّر لي أنها من حيث الجزم بنفي الكذب،

(1)

راجع "المغني" لابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى- 11/ 122 - 124.

ص: 120

وإثبات الصدق يمين، لكن أطلق عليها شهادة لاشتراط أن لا يكفَى في ذلك بالظنّ، بل لا بدّ من وجود علم كلّ منهما بالأمرين علمًا يصحّ معه أن يشهد به، ويؤيّد كونها يمينًا أن الشخص لو قال: أشهد باللَّه فقد كان كذا لعُدّ حالفًا. وقد قال القفّال في "محاسن الشريعة": كررت أيمان اللعان لأنها أقيمت مقام أربع شهود في غيره ليقام عليها الحدّ، ومن ثمّ سمّيت شهادات. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط تفريق الحاكم بين المتلاعنين: ذهبت جمماعة إلى أن الفرقة لا تحصل إلا بتفريق الحاكم بينهما، وبه قال أبو حنيفة، والثوريّ، وأحمد؛ يقول ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - في حديثه: ففرّق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بينهما. وفي حديث عويمر رضي الله عنه، قال:"كذبت عليها يا رسول اللَّه إن أمسكتها، فطلّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وهذا يقتضي إمكان إمساكها، وأنه وقع طلاقه، ولو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك، لما وقع طلاقه، ولا أمكنه إمساكها. ولأن سبب هذه الفرقة يَقِفُ على الحاكم، فالفرقة المتعلّقة به لا تقع إلا بحكم الحاكم، كفرقة الْعُنّة.

وذهبت طائفة إلى أن الفرقة تحصل بمجرّد التعانهما، وبه قال مالكٌ، وأبو عبيد، وأبو ثور، وداود، وزفر، وابن المنذر. وروي ذلك عن ابن عبّاس؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال:"المتلاعنان يُفرّق بينهما، ولا يجتمعان أبدًا". رواه سعيد بن منصور. ولأنه معنى يقتضي التحريم المؤبّد، فلم يقف على حكم الحاكم كالرضاع، ولأن الفرقة لو لم يحصل إلا بتفريق الحاكم، لساغ ترك التفريق إذا كرهاه، كالتفريق للعيب، وللإعسار، ولو وجب أن الحاكم إذا لم يُفرّق بينهما أن يبقى النكاح مستمرًّا، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا سبيل لك عليها" يدلّ على هذا، وتفريقه بينهما بمعنى إعلامه لهما بحصول الفرقة، وعلى كلتا الروايتين لا تحصل الفرقة قبل تمام اللعان منهما. وقال الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: تحصل الفرقة بقول الزوج وحده، وإن لم تلتعن المرأة؛ لأنها فرقة حاصلة بالقول، فتحصل بقول الزوج وحده، كالطلاق. قال ابن قدامة: ولا نعلم أحدًا وافق الشافعيّ على هذا القول. وحكي عن الْبَتّيّ أنه لا يتعلّق باللعان فرقةٌ؛ لما روى أن العجلانيّ لَمّا لاعن عن امرأته طلّقها ثلاثًا، فأنفذه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولو وقعت الفرقة لما نفذ طلاقه.

(1)

"فتح" 10/ 557 - 558.

ص: 121

قال ابن قدامة: وكلا القولين لا يصحّ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فرّق بين المتلاعنين. رواه عبد الله بن عمر، وسهل بن سعد، وأخرجهما مسلم. وقال سهل بن سعد:"فكانت سنة لمن كان بعدهما أن يفرّق بين المتلاعنين". وقال عمر رضي الله عنه: "المتلاعنان يُفرّق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدًا. وأما القول الآخر فلا يصحّ؛ لأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين، ولا يكونان متلاعنين بلعان أحدهما، وإنما فرّق النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما بعد تمام اللعان منهما، فالقول بوقوع الفرقة قبله تحكّمٌ، يخالف مدلول السنّة، وفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى المقصود من كلام ابن قدامة رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال في "الفتح": ذهب مالكٌ، والشافعيّ، ومن تبعهما إلى أن الفرقة تقع بنفس اللعان، قال مالك، وغالب أصحابه: بعد فراغ المرأة. وقال الشافعيّ، وأتباعه، وسحنون من المالكية: بعد فراغ الزوج، واعتلّ بأن التعان المرأة إنما شُرع لدفع الحدّ عنها، بخلاف الرجل، فإنه يزيد على ذلك في حقّه نفي النسب، ولحاق الولد، وزوال الفراش.

وتظهر فائدة الخلاف في التوارث لو مات أحدهما عقب فراغ الرجل، وفيما إذا علّق طلاق امرأة بفراق أخرى، ثم لاعن الأخرى. وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأتباعهما: لا تقع الفرقة حتى يوقعها عليهما الحاكم. واحتجّوا بظاهر ما وقع في أحاديث اللعان. وعن أحمد روايتان. وذهب عثمان البتّيّ إلى أنه لا تقع الفرقة حتى يوقعها الزوج. واعتلّ بأن الفرقة لم تذكر في القرآن، ولأن ظاهر الأحاديث أن الزوج هو الذي طلّق ابتداءً. ويقال: إن عثمان تفرّد بذلك. لكن نقل الطبريّ عن أبي الشعثاء جابر بن زيد البصريّ، أحد أصحاب ابن عبّاس - رضي الله تعالى عنهما -، من فقهاء التابعين نحوه. ومقابله قول أبي عبيد: إن الفرقة بين الزوجين تقع بنفس القذف، ولو لم يقع اللعان، وكأنه مفرّعٌ على وجوب اللعان على من تحقّق ذلك من المرأة، فإذا أخلّ به عوقب بالفرقة، تغليظًا عليه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أنه لا يحتاج إلى حكم الحاكم، بل تقع الفرقة بنفس اللعان، وأنه لا بدّ من تمام لعانهما، فلا تقع قبله؛ عملاً بظاهر الأحاديث، وأما تفريق النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما، فالظاهر أنه أعلمهما بذلك، وأنهما لا يجتمعان بعد ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في فرقة اللعان، هل هي فسخٌ، أم طلاق؟:

(1)

"المغني" 11/ 144 - 146. "اللعان".

(2)

"فتح"10/ 560. "كتاب الطلاق".

ص: 122

ذهبت طائفة إلى أن الفرقة فسخ؛ وبه قال الشافعيّ، وأحمد -رحمهما اللَّه تعالى-؛ لأنها فرقة توجب تحريمًا مؤبّدًا، فكانت فسخًا، كفرقة الرضاع، ولأن اللعان ليس بصريح في الطلاق، ولا نوى به الطلاق، فلم يكن طلاقًا، كسائر ما ينفسخ به النكاح. وقال أبو حنيفة -رحمه اللَّه تعالى-: هي طلاقٌ؛ لأنها فرقة من جهة الزوج، تخصّ النكاح، فكانت طلاقًا، كالفرقة بقوده: أنت طالقٌ. ذكره ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المذهب الأول هو الأظهر عندي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم فيمن وجد مع امرأته رجلاً، فتحقق الأمر، فقتله، هل يُقتل به أم لا؟:

ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز له الإقدام على قتله، فإن قتله يُقتصّ منه، إلا أن يأتي ببيّنة الزنا، أو على المقتول بالاعتراف، أو يعترف به ورثته، فلا يُقتل القاتل به بشرط أن يكون المقتول محصنًا. وقيل: بل يُقتل به؛ لأنه ليس له أن يُقيم الحدّ بغير إذن الإمام. وقال بعض السلف: بل لا يُقتل أصلاً، وُيعزّر فيما فعله، إذا ظهرت أمارات صدقه. وشرط أحمد، وإسحاق، ومن تبعهما أن يأتي بشاهدين أنه قتله بسبب ذلك، ووافقهم ابن القاسم، وابن حبيب من المالكيّة، لكن زاد أن يكون المقتول قد أحصن. أفاده في "الفتح"

(2)

.

وقال في "المفهم": وكونه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على السائل قوله: أيقتله؟ تقرير منه على ذلك، ويلزم منه إن قتله لم يكن فيه قصاص، ولا غيره، وقد عضده قول سعد رضي الله عنه: لو رأيته ضربته بالسيف. ولم ينكر عليه، بل صوّبه بقوله:"تعجبون من غيرة سعد؟ ". متّفق عليه. ولهذا قال أحمد، وإسحاق: يُهدر دمه إذا جاء القاتل بشاهدين. انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله أحمد، وإسحاق -رحمهما اللَّه تعالى- عندي أرجح؛ لظاهر حديث سعد، وعويمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"المغني" 11/ 147. "اللعان".

(2)

"فتح" 10/ 562 - 563.

(3)

"المفهم" 4/ 290 - 291.

ص: 123

‌36 - (بَابُ اللِّعَانِ بِالْحَبَلِ)

3494 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:"لَاعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ، وَكَانَتْ حُبْلَى").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن عليّ": هو أبو بكر القاضي المروزيّ الثقة الحافظ [12] 1/ 2094. من أفراد المصنّف.

و"محمد بن أبي بكر" بن عليّ بن عطاء بن مُقدَّم -بالتشديد بوزن محمد- المقدّميّ، أبو عبد اللَّه الثقفيّ مولاهم البصريّ، ثقة [10].

قال عبد الخالق بن منصور: قلت ليحيى: أكتب عنه أحاديث أبيه؟ قال: اكتب. وقال أيضًا عن يحيى: صدوق. وقال أبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، محلّه الصدق. قال البخاريّ، وغير واحد: مات سنة (234) زاد بعضهم: في أول السنة. وقال ابن قانع: مات في شعبان، وكان ثقة. أخرج له البخاريّ، ومسلم، والمصنّف، وله عنده حديث الباب فقط.

و"عمر بن عليّ" بن عطاء بن مقدّم، أبو حفص البصريّ، واسطيّ الأصل، مولى ثقيف، ثقة، وكان يدلّس تدليسًا شديدًا [8].

قال عبد اللَّه بن أحمد: سمعت أبي ذكره، فأثنى عليه خيرًا، وقال: كان يدلّس.

وفي "الميزان" عن أحمد: عمر بن عليّ صالح عفيفٌ مسلم عاقلٌ، كان به من العقل أمر عجيب جدًّا؛ جاء إلى معاذ بن معاذ، فأدّى إليه مائتي ألف. وقال ابن معين: كان يدلّس، وما كان به بأس، حسن الهيئة، وأصله واسطيّ، نزل البصرة، لم أكتب عنه شيئًا. وقال ابن سعد: كان ثقةً، وكان يدلّس تدليسًا شديدًا، يقول: سمعت، وحدثنا، ثم يسكت، فيقول: هشام بن عروة، والأعمش. وقال عفان بن مسلم: كان رجلاً صالحًا، ولم يكونوا يَنقمون عليه غير التدليس، وأما غير ذلك فلا، ولم أكن أقبل منه حتى يقول: حدّثنا. وقال أبو حاتم: محلّه الصدق، ولولا تدليسه لحكمنا له إذا جاءنا بزيادة، غير أنا نخاف أن يكون أخذه عن غير ثقة. وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به. وقال الساجيّ: صدوق ثقة، كان يدلّس. ونقل ابن خلفون توثيقه عن العجليّ. وقال أبو زيد عمر بن شبّة: كان مدلّسًا، وكان مع تدليسه أنبل الناس. قال ابنه عاصم: مات سنة (190) في جمادى الأولى. وفيها أرّخه البخاريّ. وقال أبو موسى: مات سنة

ص: 124

(92)

. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وحكى القولين في وفاته. أخرج له الجماعة.

وله عند المصنّف خمسة أحاديث: حديث الباب، وحديث 5010 "كتاب قطع السارق" - "باب تعليق يد السارق في عنقه" و5061 "كتاب الإيمان" - "الدين يسر" و 5264 "كتاب الزينة" - "تسكين الشعر" و 5409 "كتاب القضاء" - "باب ترك استعمال من يحرص على القضاء".

و"إبراهيم بن عقبة": هو الأسديّ مولاهم المدنيّ، أخو موسى، ثقة [6] 50/ 609. و"أبو الزناد": هو عبد اللَّه بن ذكوان المدنيّ الثقة الحافظ.

والحديث متّفق عليه، وسيأتي شرحه بعد بابين، إن شاء اللَّه تعالى، واستدلّ به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا لمشروعيّة اللعان بسبب الحبل من الزنا، وهو واضحٌ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌37 - (بَابُ اللِّعَانِ فِي قَذْفِ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أشار بهذه الترجمة إلى أنه إذا قذف الرجل امرأته برجل معيّن، إنما يجب عليه اللعان فقط، دون حدّ القذف لذلك الرجل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحدّ هلالاً بشريك بن سحماء، وهذا قول الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-.

قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وظاهر هذا الحديث أن هلالاً صرّح بذكر شريك أنه قذفه، ومع ذلك، فلم يحدّه النبيّ صلى الله عليه وسلم له، وبهذا قال الشافعيّ: إنه لا حدّ على الرامي لزوجته إذا سمَّى الذي رماها به، ثم التعن، ورأى أنه التعن لهما.

وقال مالك: إنه يُحدّ، ولا يُكتفى بالتعانه؛ لأنه إنما التعيين للمرأة، ولم تكن له ضرورة إلى ذكره، بخلاف المرأة، فهو إذًا قاذفٌ، فيُحدّ. واعتذر بعض أصحابنا -يعني المالكيّة- عن حديث شريك بأن يقال: إنه كان يهوديًّا، وأيضًا فلم يطلب شريك بشيء من ذلك، وهو حقّه، فلا متعلّق في الحديث. قال القاضي عياض: لا يصحّ قول من

ص: 125

قال: إن شريكًا كان يهوديًّا، وهو باطلٌ، وهو شريك بن عبدة بن مغيث، وهو بلويّ، حليف الأنصار، وهو أخو البراء بن مالك لأمه. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- هو الأرجح عندي؛ لظاهر الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3495 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، قَالَ: سُئِلَ هِشَامٌ عَنِ الرَّجُلِ، يَقْذِفُ امْرَأَتَهُ؟ ، فَحَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ ذَلِكَ؟ وَأَنَا أَرَى أَنَّ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا، فَقَالَ: إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ، قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ السَّحْمَاءِ، وَكَانَ أَخُو الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ لأُمِّهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَاعَنَ، فَلَاعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: «ابْصُرُوهُ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ، سَبِطًا، قَضِيءَ الْعَيْنَيْنِ، فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ، جَعْدًا أَحْمَشَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ السَّحْمَاءِ» ، قَالَ: فَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ، جَعْدًا، أَحْمَشَ السَّاقَيْنِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و "عبد الأعلى": هو ابن عبد الأعلى الساميّ البصريّ الثقة المتقين [8]. و"هشام": هو ابن حسّان القردوسيّ البصريّ. و"محمد": هو ابن سيرين.

وقوله: "أن عنده من ذلك علمًا" الظرف خبر "أنا مقدّمًا، و"علمًا" اسمها مؤخّرًا، هكذا النسخة المصريّة، ونسخة "الكبرى" أيضًا.

ووقع في النسخة الهنديّة، وشرح السنديّ بلفظ:"أن عنده من ذلك علم"، ولذا قال السنديّ في "شرحه": هو بالنصب اسم "أنّ"، وإن كتب بصورة المرفوع. ويحتمل أن يكون مرفوعًا بتقدير ضمير الشأن، أي أن الشأن عنده من ذلك علم. انتهى

(2)

.

وقوله: "وكان أخو البراء" قال السنديّ: هكذا نسخ "المجتبى"، و"الكبرى" برفع "أخو"، والصواب "وكان أخا البراء" بالنصب؛ لأنه يُنصب بالألف؛ لأنه من الأسماء الستة التي ترفع بالواو، وتنصب بالألف، وتجرّ بالياء، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَارْفَعْ بِوَاوِ وَانْصِبَنَّ بِالأَلِفْ

وَاجْرُرْ بِيَاءٍ مَا مِنَ الأَسْمَا أَصِفْ

مِنْ ذَاكَ "ذُو" إِنْ صُحْبَةً أَبَانَا

و"الْفَمُ" حَيْثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا

"أَبٌ""أَخٌ""حَمٌ"، كَذَاكَ وَ"هَنُ"

وَالنَّقْصُ فِي هَذَا الأَخِيرِ أَحْسَنُ

(1)

"المفهم" 4/ 300 - 301.

(2)

"شرح السنديّ" 6/ 171.

ص: 126

وَفِي أَبٍ وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ

وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ

و"البراء" هذا هو ابن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر ابن غَنم بن عديّ بن النجّار الأنصاريّ النجاريّ، أخو أنس بن مالك لأبيه. قاله أبو حاتم. وقال ابن سعد: أخوه لأبيه وأمه، أمهما أم سليم. قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه أخو شريك بن سحماء لأمه، أمهما سحماء، وأما أم أنس، فهي أم سليم، بلا خلاف. وكان البراء رضي الله عنه حادي النبيّ صلى الله عليه وسلم، يرجز له في بعض أسفاره، وشهد معه المشاهد إلا بدرًا. روى البغويّ بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين، عن أنس رضي الله عنه قال: دخلت على البراء بن مالك رضي الله عنه، وهو يتغنّى، فقلت له: قد أبدلك اللَّه ما هو خير منه، فقال: أترهب أن أموت على فراشي، لا واللَّه، ما كان اللَّه ليَحْرِمني ذلك، وقد قتلت مائة منفردَا، سوى من شاركت فيه. وأخرج بقي بن مخلد في "مسنده" عن أبي إسحاق، قال: زحف المسلمون إلى المشركين يوم اليمامة حتى ألجئوهم إلى حديقة فيها عدوّ اللَّه مسيلمة، فقال البراء بن مالك: يا معشر المسلمين، ألقوني إليهم، فاحتُمِل حتى إذا أشرف على الجدار اقتحم، فقاتلهم على الحديقة، حتى فتحها على المسلمين، ودخل عليهم المسلمون، فقتل اللَّه مسيلمة. وأخرج بسنده عن أنس رضي الله عنه، قال: رَمَى البراء بنفسه عليهم، فقاتلهم حتى فتح الباب، وبه بضع وثمانون جراحةً من بين رمية بسهم، وضربة، فحُمل إلى رحله يُداوَى، وقام عليه خالد شهرًا.

وأخرج الترمذيّ من طريق ثابت، وعليّ بن زيد، عن أنس رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ربّ أشعث أغبر لا يُؤْبه له، لو أقسم على اللَّه لأبرّه، منهم البراء بن مالك"، فلما كان يوم تُستر من بلاد فارس، انكشف الناس، فقال المسلمون: يا براء أقسم على ربّك، فقال: أُقسم عليك يا ربّ لَمّا منحتنا أكتافهم، وألحقتني بنبيّك، فحمل، وحمل الناس معه، فقتل مرزُبان الزارة من عظماء الفرس، وأخذ سلبه، فانهزم الفرس، وقُتل البراء.

استُشهد يوم حصن تستر في خلافة عمر رضي الله عنه سنة عشرين. وقيل: قبلها. وقيل: سنة ثلاث وعشرين. وذكر سيف أن الهرمزان هو الذي قتله. انتهى ملخّصًا من "الإصابة"

(1)

.

وقوله: "أبصروه" الضمير لولدها. ثم الظاهر أنه من الإبصار، فهمزته همزة قطع، ويحتمل أن يكون من البصر -بفتحتين- من بابي كَرُم، وعلم، لكن هذا قليل، إذ

(1)

راجع "الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 235 - 237.

ص: 127

الفصيح أن يتعدى بالباء، قال الفيّوميّ: يقال: أبصرته برؤية العين إبصارًا، وبَصُرتُ بالشيء -بالضمّ، والكسرُ لغة، بَصَرًا -بفتحتين-: علمت به، فأنا بصير به، يتعدّى بالباء في اللغة الفصحى، وقد يتعدّى بنفسه انتهى

(1)

.

وقال السمين الحلبيّ في قوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ} : يقال: بصر بالشيء: أي علمه، وأبصره: أي نظر إليه. كذا قال الزجّاج، وقال غيره: بصر بالشيء، وأبصره: بمعنى علمه، والعامّة بضمّ الصاد في الماضي، ومضارعه، وقرأ الأعمش، وأبو السمّال "بصِرت" بالكسر، يبصَروا بالفتح، وهي لغة. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن الفصيح في قوله: "أبصروا" قطع الهمزة، أو تعديته بالباء، والمعنى اعلموا ولدها، أو انظروا إلى ولدها الذي ستلده من هذا الحمل الذي لاعنت به على أي صفة تلده، حتى تستدلّوا على كذب أحدهما. واللَّه تعالى أعلم.

وتمام شرح الحديث يأتي في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌38 - (كَيْفَ اللِّعَانُ)

3496 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ حُسَيْنٍ الأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ لِعَانٍ كَانَ فِي الإِسْلَامِ، أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ، قَذَفَ شَرِيكَ ابْنَ السَّحْمَاءِ بِامْرَأَتِهِ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَرْبَعَةَ شُهَدَاءَ، وَإِلاَّ فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» ، يُرَدِّدُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِرَارًا، فَقَالَ لَهُ هِلَالٌ: وَاللَّهِ، يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللَّهَ عز وجل، لَيَعْلَمُ أَنِّي صَادِقٌ، وَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ عز وجل عَلَيْكَ، مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْجَلْدِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ اللِّعَانِ:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَدَعَا هِلَالاً، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَمِنَ

(1)

"المصباح المنير".

(2)

"الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 5/ 49 "تفسير سورة طه".

ص: 128

الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، ثُمَّ دُعِيَتِ الْمَرْأَةُ، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي الرَّابِعَةِ، أَوِ الْخَامِسَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَقِّفُوهَا، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ، فَتَلَكَّأَتْ، حَتَّى مَا شَكَكْنَا، أَنَّهَا سَتَعْتَرِفُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ،

فَمَضَتْ عَلَى الْيَمِينِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«انْظُرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ، سَبِطًا قَضِيءَ الْعَيْنَيْنِ، فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ آدَمَ، جَعْدًا، رَبْعًا، حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ السَّحْمَاءِ» ، فَجَاءَتْ بِهِ آدَمَ، جَعْدًا، رَبْعًا، حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْلَا مَا سَبَقَ فِيهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» .

قَالَ الشَّيْخُ" وَالْقَضِىءُ طَوِيلُ شَعْرِ الْعَيْنَيْنِ، لَيْسَ بِمَفْتُوحِ الْعَيْنِ، وَلَا جَاحِظِهِمَا، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمران بن يزيد) هو عمران بن خالد بن يزيد بن مسلم -نُسب لجدّه- القرشيّ الدمشقيّ، صدوق [10] 18/ 422 من أفراد المصنّف.

2 -

(مخلد بن الحسين الأزديّ) أبو محمد البصريّ، نزيل المصّيصة، ثقة فاضل، من كبار [9] 72/ 2380. من أفراد المصنّف، ومسلم في "المقدّمة".

3 -

(هشام بن حسّان) القردوسيّ البصريّ، ثقة، من أثبت الناس في ابن سيرين [6] 188/ 300.

4 -

(محمد بن سيرين) الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقة ثبت فقيه فاضل [3] 57/ 46.

5 -

(أنس بن مالك) بن النضر الأنصاريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وشيخ شيخه كما مرَّ آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فدمشقيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن مخلد بن الحسين أنه (قال: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -. هكذا أخرج المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هذا

ص: 129

الحديث من رواية هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه البخاريّ من رواية هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -. قال في "الفتح": فمنهم من أعلّ حديث ابن عبّاس بهذا -يعني حديث أنس- ومنهم من حمله على أن لهشام فيه شيخين، وهذا هو المعتمد، فإن البخاريّ أخرج طريق عكرمة، ومسلمًا أخرج طريق ابن سيرين، ويرجّح هذا الحمل اختلاف السياقين، كما سنبيّنه، إن شاء اللَّه تعالى انتهى

(1)

.

(قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ لِعَانٍ كَانَ فِي الإِسْلَام) قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا يقتضي أن آية اللعان نزلت بسبب هلالَ بن أميّة، وكذلك ذكره البخاريّ، وهو مخالفٌ لما تقدّم أنها نزلت بسبب عويمر العجلانيّ. وهذا يحتمل أن تكون القضيّتان متقاربي الزمان، فنزلت بسببهما معًا. ويحتمل أن تكون الآية أنزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّتين، أي كرّر نزولها عليه، كما قال بعض العلماء في "سورة الفاتحة": إنها نزلت بمكّة، وتكرر نزولها بالمدينة، وهذه الاحتمالات -وإن بعُدت- فهي أولى من أن يُطرَّق الوهم للرواة الأئمة الحفّاظ. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حاصل ما أشار إليه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- أن الجمع بأنها نزلت بسببهما هو الأرجح، وقد تقدّم تمام البحث في ذلك في المسألة الرابعة، في "باب بدء اللعان"، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

(أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ) بن عامر بن قيس بن عبد الأعلم بن عامر بن كعب بن واقف الأنصاريّ الواقفيّ، شهد بدرًا، وما بعدها، وهو أحد الثلاثة الذين تِيب عليهم، وقد تقدّم ذلك في -18/ 3449 باب "الحقي بأهلك"(قَذَفَ) أي رمى، يقال: قذف المحصنة قَذْفًا، من باب رمى: رماها بالفاحشة. أفاده الفيّوميّ (شَرِيكَ بْنَ السَّحْمَاءِ) بالنصب مفعول "قذف". وهو شريك -بفتح الشين المعجمة، وكسر الراء- ابن السحماء -بفتح السين، وسكون الحاء المهملتين- وهي أمه، واسم أبيه عبدة بن معتّب ابن الجدّ بن العجلان البلويّ، حليف الأنصار.

وتقدّم في الباب الماضي أنه أخو البراء بن مالك لأمه. قال في "الإصابة": فقال أبو نعيم: إن بعضهم زعم أن شريكًا صفة لهذا الرجل، لا اسم له، وإنما كان بينه وبين ابن سحماء شَرِكَةٌ، فقيل له: شريك بن سحماء، فعلى هذا يتعيّن كتابة ألف بين "شريك"، و"ابن سحماء"، ولكنّه قول شاذّ. وقد يتقوّى بأن البراء بن مالك، كان أخا أنس بن

(1)

"فتح" 9/ 382. "كتاب التفسير".

(2)

"المفهم" 4/ 300.

ص: 130

مالك شقيقه، فعلى هذا فأُمهم جميعًا أم سُليم، ولم ينقل أن أم سُليم، تزوّجت عبدة بن مُعتّب قط. لكن يُجاب عن هذا بأنه كان أخا البراء لأمه من الرضاعة.

وقد ذكر ابن الكلبيّ وغيره أن أمّ إبراهيم بن عبد اللَّه بن عربيّ الذي كان والي اليمامة لعبد الملك بن مروان فاطمة بنت شريك بن سحماء. وذكروا أيضًا لفاطمة بنت شريك خبرًا يوم الدار، وأنها حملت مروان بن الحكم لما ضُرب يوم الدار، فسقط، فأدخلته بيتًا حتى سلم من القتل.

ويقال: إن شريك بن السحماء بعثه أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه رسولاً إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه -وهو باليمامة. ويقال: إنه شهد مع أبيه أحدًا. روى ذلك ابن سعد، عن الواقديّ بسنده، قال: فبعث أبو بكر إلى خالد أن يسير من اليمامة إلى العراق، وبعث عبده مع شريك بن عبدة العجلانيّ، وكان شريك أحد الأمراء بالشام في خلافة أبي بكر، وبعثه عمر رسولاً إلى عمرو بن العاص حين أذن له أن يتوجّه إلى فتح مصر. ذكره ابن عساكر، ولم ينبّه على أنه ابن سحماء، فكأنه عنده آخر انتهى ما في "الإصابة" باختصار

(1)

.

(بامْرَأَتِهِ) متعلّق بـ "قذف"، أي رماه بأنه زنى بامرأته (فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ بذَلِكَ، فَقَالَ: لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعَةَ شُهَدَاءَ، وَإِلاَّ فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ)"إلا" هي "إن" الشرطيّة أُدغمت في "لا" النافية، ولذا جاءت الفاء في جوابها، أي وإن لم تأت بأربعة شهداء، يشهدون على أنه زنى بامرأتك، فعليك حد القذف، يُضرب به ظهرك (يُرَدِّدُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِرَارًا) أي يردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الكلام على هلال كلما راجعه في هذه القضية. وفي رواية البخاريّ من حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -:"البيّنةَ، وإلا حدّ في ظهرك، فقال: يا رسول اللَّه، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً، ينطلق، يلتمس البيّنة؟، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "البيّنةَ، وإلا حدّ في ظهرك".

قال ابن مالك: ضبطوا "البيّنةَ" بالنصب على تقدير عامل، أي أحضر البيّنة. وقال غيره: روي بالرفع، والتقدير إما البيّنة، وإما حدّ. وقوله:"أو حدّ في ظهرك" قال ابن مالك: حُذف منه فاء الجواب، وفعل الشرط بعد "إلا"، والتقدير: وإلا تُحضرها، فجزاؤك حدّ في ظهرك، قال: وحذف مثل هذا لم يذكر النحاة أنه يجوز إلا في الشعر، لكن يرد عليهم وروده في هذا الحديث الصحيح انتهى

(2)

.

(فَقَالَ لَهُ هِلَالٌ: وَاللَّهِ، يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ اللَّهَ عز وجل، لَيَعْلَمُ أَنِّي صَادِقٌ) وفي

(1)

راجع "الإصابة" 5/ 74 - 75.

(2)

"فتح" 9/ 382 "كتاب التفسير".

ص: 131

حديث ابن عبّاس المذكورة: "فقال هلال: والذي بعثك بالحقّ إني لصادق، فليُنزلنّ اللَّه ما يُبرىء ظهري من الحدّ (وَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ عز وجل عَلَيْكَ، مَا يُبَرِّئُ) بتشديد الراء، من التبرئة (ظَهْرِي مِنَ الْجَلْدِ) -بفتح الجيم، وسكون اللام-: هو الضرب بالسوط، يقال: جلدتُ الجاني جَلْدًا من باب ضرب: ضربتُهُ بالْمِجْلَد -بكسر الميم- وهو السوط. الواحدة جَلْدَة، مثل ضرب، وضَرْبَة. قاله الفيّوميّ (فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ) أي بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم يتراجع الكلام مع هلال، وأصحابه جالسون معه يستمعون (إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ اللِّعَانِ:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَدَعَا هِلَالاً) إنما بدىء بالرجل؛ لأنه القاذف، فيدرأ الحدّ عن نفسه، ولأنه هو الذي بدأ اللَّه تعالى به، فإذا فرغ من أيمانه تعيّن عليها أن تقابل أيمانه بأيمانها النافية لما أثبته عليها، أو الحدّ، وهذا مما أجمع عليه العلماء. قاله القرطبيّ

(1)

.

(فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتِ باللَّهِ) قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: أي حلف أربع أيمان، وهذا معنى قولَه تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] أي يحلف أربع أيمان، والعرب تقول: أشهد باللَّه: أي أحلف، وكما قال شاعرهم [من الطويل]:

فَأَشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّي أُحِبُّهَا

فَهَذَا لَهَا عِنْدِي فَمَا عِنْدَهَا لِيَا؟

وهذا مذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: هي شهادات محقّقة من المتلاعنين على أنفسهما. وانبنى على هذا الخلافُ في لعان الفاسقين، والعبدين، فعند الجمهور يصحّ، وعنده أبي حنيفة لا يصحّ. وربما استُدلّ لأبي حنيفة بما رواه أبو عمرو من حديث عمرو بن شعيب، مرفوعًا:"لا لعان بين مملوكين، ولا كافرين،"، وبما رواه الدارقطنيّ من هذا المعنى، ولا يصحّ منها كلّها شيء عند المحدّثين انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

(إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةَ) بالنصب عطفًا على "أربعَ"، أي وشهد الخامسة (أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) وجملة "أن الخ" بدل من "الخامسة"، أو عطف بيان (ثُمَّ دُعِيَتِ الْمَرْأَةُ) ببناء الفعل للَمفعول (فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتِ بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي الرَّابِعَةِ)"أن" بعد "لما" التوقيتيّة زائدة، كما في قوله تعالى:{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} الآية

(3)

(أَوِ الخَامِسَةِ) وفي حديث ابن عبّاس: "فلما كانت عند الخامسة" بدون شكّ (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَقِّفُوهَا) من التوقيف، أي

(1)

"المفهم" 4/ 296.

(2)

"المفهم 4/ 296 - 297.

(3)

راجع "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 33.

ص: 132

أعلموها حكم الخامسة، وهو أن اللعان إنما يتمّ بها، ويترتب عليها آثاره، كما أشار إليه بقوله (فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ) لحكم اللعان، من الفرقة، وغيرها؛ وموجبة للعنة اللَّه المؤدّية إلى العذاب، في حقّ الكاذب (فَتَلَكَأَتْ) أي توقّفت، يقال: تلكّأ في الأمر تلكّئًا: إذا تباطأ عنه، وتوقّف فيه. يعني أنها توقّفت عن تكميل الخامسة (حَتَّى مَا شَكَكْنَا)، "ما" نافية، ويحتمل أن تكون زائدة، والأول أشبه (أَنَّهَا سَتَعْتَرِفُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ) -بفتح الضاد المعجمة، من باب نفع: أي لا أُلحق العيب فيهم. قال الفيّوميّ: الفضيحة: العيب، والجمع فضائح، وفضحته فَضْحًا، من باب نفع: كشفته. وفي الدعاء: "لا تَفْضَحنا بين خلقك"، أي استر عيوبنا، ولا تكشفها، ويجوز أن يكون المعنى: اعصمنا، حتى لا نعصي، فنستحقّ الكشف انتهى (قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ) قيل: أرادت باليوم الجنس، أي جميع الأيام، أو بقيّتها، والمراد مدّة عمرهم (فَمَضَتْ عَلَى الْيَمِينِ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "انْظُرُوهَا") أي انتظروها (فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ، سَبِطًا) أي مسترسل الشعر، منبسطه، يقال: سَبِط الشعر سَبَطًا، من باب تعب، فهو سَبِطٌ -بكسر الباء، وربّما قيل: سَبَطٌ بالفتح وصفٌ بالمصدر: إذا كان مسترسلاً، وسَبُطَ سَبُوطةً، فهو سَبْطٌ، مثلُ سَهُل سُهُولةً، فهو سَهْلٌ، لغةٌ فيه. قاله الفيّوميّ (قَضِيءَ الْعَينَيْنِ) -بفتح القاف، وكسر الضاد المعجمة- على وزن فَعِيل أي فاسد العينين بكثر دمع، أو حمرة، أو غير ذلك. قال ابن منظور في "اللسان": قَضِئَتْ عينُهُ تَقْضَأُ قَضَأً، فهي قَضِئَةٌ: احمرّت، واسترخت مآقيها، وقَرِحَت، وفَسَدَت. والقُضْأَةُ الاسم. وفيها قَضْأَةٌ: أي فسادٌ. انتهى (فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ) أي لأن هذه صفته الْخِلْقيّة (وَإنْ جَاءَتْ بِهِ آدَمَ) بالمدّ من الأُدمة، وهي شدّة السمرة، يقال: رجلٌ آدم، وامرأة أَدْماءُ، كأحمر، وحمراء، ويُجمع آدم على أُدْم، كَحُمْر. قاله في "المفهم". وفي "القاموس": أدم، كعلم، وكرُم، فهو آدم، جمعه أُدْمٌ، وأُدْمَانْ -بضمّهما-، وهي أَدْمَاءُ، وشدّ أَدمَانةٌ، جمعها أُدْمٌ- بالضمّ- انتهى (جَعْدًا) -بفتح الجيم، وسكون العين المهملة- المرإد هنا هو المتكسّر الشعر، ضدّ السبوطة المتقدّمة. قال الفيّوميّ: جَعد الشعر -بضمّ العين، وكسرها- جُعُودةً إذا كان فيه التواء، وتقبّضٌ، فهو جعد، وذلك خلاف المسترسل انتهى. وفي رواية أخرى:"إن جاءت به جعدًا قَطِطًا": أي شديد الجعودة.

وقال الهرويّ -رحمه اللَّه تعالى-: الجعد في صفات الرجال يكون مدحًا، ويكون ذمًّا، فإذا كان مدحًا، فله معنيان: أحدهما: أن يكون معصوب الخلق، شديد الأسر. والثاني: أن يكون شعره غير سبط؛ لأن السبوطة أكثرها في شعور العجم. وأما

ص: 133

المذموم، فله معنيان: أحدهما: القصير المتردّد. والآخر: البخيل، يقال: جعد الأصابع، وجعد اليدين: أي بخيل انتهى

(1)

.

(رَبْعًا) -بفتح الراء، وسكون الموحّدة، وتُفتح- ويقال أيضًا: رَبْعَةٌ: أي متوسّطًا، غير طويل، ولا قصير. قال الفيّوميّ: رجلٌ رَبْعةٌ، وامرأة رَبْعَةٌ: أي معتدل، وحذف الهاء في المذكّر لغةٌ، وفتح الباء فيهما لغةٌ، ورجلٌ مربوعٌ مثله. انتهى (حَمْشَ السَّاقَيْنِ) -بفتح الحاء المهملة، وسكون الميم، وشين معجمة، وزان فَلْس، يقال: رجلٌ حَمْشُ الساقين، وأحمش الساقين: أي دقيقهما. وحَمِشَ عَظْمُ ساقه، من باب تَعِب حَمْشةً: رقّ (فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ السَّحْمَاءِ) قال القرطبيّ: هذا يدلّ على أن هذا كان منه صلى الله عليه وسلم تفرّسًا وحَدْسًا، لا وحيًا، ولو كان وحيًا لكان معلومًا عنده. وفيه ما يدلّ على إلغاء حكم الشبه في الحرائر، كما هو مذهب مالك. قال: وفيه: أن ذكر الأوصاف المذمومة للضرورة، والتحلية بها للتعريف ليس بغيبة. انتهى

(2)

.

(فَجَاءَتْ بِهِ آدَمَ، جَعْدًا، رَبْعًا، حَمْشَ السَّاقَيْنِ) أي على صفة شريك بن السحماء

الذي ادّعى هلال أنه وجده مع امرأته (فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا مَا سَبَقَ فِيهَا مِنْ كِتَابِ اللَّه، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ) وفي رواية: "لولا ما مضى من كتاب اللَّه، لكان لي ولها شأن". أي لولا ما سبق من حكم اللَّه تعالى أن اللعان يدفع الحدّ عن المرأة لأقمت عليها الحدّ من أجل الشبه الظاهر بالذي رُميت به. ويستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم كان يحكم بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه وحي خاصّ، فإذا أنزل الوحي بالحكم في تلك المسألة قطع النظر، وعمل بما نزل، وأجرى الأمر على الظاهر، ولو قامت قرينة تقتضي خلاف الظاهر. قاله في "الفتح"

(3)

.

وقال القرطبيّ: يفهم من ذلك أن الحكم إذا وقع على شروطه لا يُنقض، وإن تبيّن خلافه. هذا إن لم يقع خلل، أو تفريط في شيء من أسبابه، فأما لو فرّط الحاكم، فغلط، وتبيّن تفريطه، وغلطه بوجه واضح، نُقض حكمه. وهذا مذهب الجمهور انتهى

(4)

.

(قَالَ: الشَّيْخُ) أبو عبد الرحمن النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى-، مفسّرًا قوله:"قضيء العينين (وَالْقَضِئُ طَوِيلُ شَعْرِ الْعَيْنَيْنِ) وفي نسخة: "والقضيء العينين"، وفي أخرى: "والقضيء العين" (لَيْسَ بِمَفْتُوحِ الْعَيْنِ، وَلَا جَاحِظِهَا) وفي نسخة: "ولا جاحظهما". قال

(1)

راجع "شرح مسلم للنوويّ". 10/ 367 - 368.

(2)

"المفهم" 4/ 303.

(3)

"فتح" 10/ 579.

(4)

"المفهم" 4/ 303.

ص: 134

في "القاموس": جَحَظَت عينُهُ، كمنع: خرجت مقلتها، أو عظُمت انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا التفسير الذي فسّر به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- لـ "لقضيء" لم أجده في كتب اللغة التي بين يديّ، والمذكرر فيها تفسيره بالفاسد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-38/ 3496 و 37/ 3495 - وفي "الكبرى" 37/ 5662 و 38/ 5663. وأخرجه (م) في "اللعان" 1496 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 12042. واللَّه تعالى أعلم. أما فوائد الحديث، وبيان المسائل المتعلّقة به، فقد تقدّمت في شرح حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قبل بابين، وإنما أتكلّم هنا فيما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، فأقول:

(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في كيفيّة اللعان، وألفاظه:

قال العلامة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: أما ألفاظه فهي خمسة في حقّ كلّ واحد منهما. وصفته أن الإمام يبدأ بالزوج، فيقيمه، ويقول له: قل أربع مرّات: أشهد باللَّه أني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا، وُيشير إليها، إن كانت حاضرة، ولا يحتاج مع الحضور، والإشارة إلى نسبة وتسمية، كما لا يحتاج إلى ذلك في سائر العقود. وإن كانت غائبةً أسماها، ونسبها، فقال: امرأتي فلانة بنت فلان، ويرفع في نسبها حتى تنتفي المشاركة بينها وبين غيرها. فإذا شهد أربع مرّات، وقفه الحاكم، وقال له: اتّق اللَّه، فإنها الموجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وكلّ شيء من لعنة اللَّه. ويأمر رجلاً، فيضع يده على فيه، حتى لا يبادر بالخامسة قبل الموعظة، ثم يأمر الرجل، فيرسل يده عن فيه، فإن رآه يمضي في ذلك، قال له: قل: وأن لعنة اللَّه عليّ، إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنى. ثم يأمر المرأة بالقيام، ويقول لها: قولي: أشهد باللَّه أن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى، وتشير إليه، وإن كان غائبًا أسمته، ونسبته، فإذا كرّرت ذلك أربع مرّات، وقفها، ووعظها كما ذكرنا في حقّ الزوج، ويأمر امرأة، فتضع يدها على فيها، فإن رآها تمضي على ذلك، قال لها: قولي: وأن غضب اللَّه عليّ، إن كان زوجي هذا من الصادقين فيما رماني به من الزنى.

ص: 135

قال: وعدد هذه الألفاظ الخمسة شرط في اللعان، فإن أخلّ بواحدة منها لم يصحّ. انتهى كلام ابن قدامة باختصار.

وسئل الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- كيف يلاعن؟ فقال: على ما كتاب اللَّه تعالى، ثم ذكر نحو ما تقدّم

(1)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: واختلفوا في الألفاظ التي يقولها المتلاعنان، وأولى ذلك كلّه ما دلّ عليه كتاب اللَّه تعالى، ثم ذكر نحو ما تقدّم. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن ما دلّ عليه نصّ كتاب اللَّه تعالى من ألفاظ اللعان، هو المتّبع، ولا حاجة إلى الاختلاف في الزيادة والنقص، إلا إذا ثبت في الأحاديث ما يدلّ على الزيادة، مثل التوقيف ووضع اليد في الخامسة، وقوله: إنها موجبة، ونحو ذلك، فيعمل بالزيادة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌39 - (بَابُ قَوْلِ الإِمَام: اللَّهُمَّ بَيِّنْ)

أي هذا باب في بيان الحديث الدّالّ على مشروعيّة قول الإمام في اللعان: "اللَّهم بين"، أي أظهر حكم هذه المسألة الواقعة. وقال ابن العربيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ليس معنى هذا الدعاء طلب ثبوت صدق أحدهما فقط، بل معناه أن تلد ليظهر الشبه، ولا يمتنع دلالتها بموت الولد مثلاً، فلا يظهر البيان. والحكمة فيه ردع من شاهد ذلك عن التلبس بمثل ما وقع لما يترتّب على ذلك من القبح، ولو اندرأ الحدّ انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3497 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ

(1)

"المغني" 11/ 176 - 177.

(2)

"المفهم" 4/ 297.

(3)

راجع "عمدة القاري" 17/ 89. و"الفتح" 10/ 578.

ص: 136

الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ التَّلَاعُنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلاً، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، يَشْكُو إِلَيْهِ، أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، قَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا، إِلاَّ بِقَوْلِي، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ، بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا، قَلِيلَ اللَّحْمِ، سَبِطَ الشَّعَرِ، وَكَانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ آدَمَ، خَدْلاً، كَثِيرَ اللَّحْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ بَيِّنْ» ، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا، أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا، فَلَاعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ: أَهِيَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، رَجَمْتُ هَذِهِ؟» ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا، تِلْكَ امْرَأَةٌ، كَانَتْ تُظْهِرُ فِي الإِسْلَامِ الشَّرَّ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عيسى بن حمّاد) بن مسلم التجيبيّ، أبو موسى المصريّ الملقب زُغْبَة، وهو لقب أبيه أيضًا، ثقة [10] 135/ 211.

[تنبيه]: وقع في النسخة المصريّة من "المجتبى""عيسى بن حميد"، وهو غلطٌ، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

2 -

(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ الإمام الحجة الثبت المصريّ [7] 31/ 35.

3 -

(يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5] 22/ 23.

4 -

(عبد الرحمن بن القاسم) بن محمد التيميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقة جليل، قال ابن عيينة: كان أفضل أهل زمانه [6] 120/ 166.

5 -

(القاسم بن محمد) بن أبي بكر الصدّيق التيميّ المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت، قال أيوب: ما رأيت أفضل منه، من كبار [3] 120/ 166.

6 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر الحبر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، والليث، فمصريان. (ومنها): أن رواية يحيى، عن عبد الرحمن من رواية الأكابر، عن الأصاغر؛ لأن يحيى من الطبقة الخامسة، وعبد الرحمن من السادسة، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه القاسم بن محمد أحد الفقهاء السبعة، وفيه ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد العبادلة

ص: 137

الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وكلهم تقدّموا غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ التَّلَاعُنُ) ببناء الفعل للمفعول، و"التلاعن" بالرفع على أنه نائب الفاعل. وفي رواية عند البخاريّ:"ذُكر المتلاعنان". والمراد ذكر حكم الرجل يرمي امرأته بالزنا، فعبّر عنه بالتلاعن باعتبار ما آل إليه الأمر بعد نزول الآية (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: عَاصِمُ بْنُ عَدِي فِي ذَلِكَ قَوْلاً) قال الكرمانيّ: معنى قوله: "قولاً"، أي كلامًا لا يليق به، كعجب النفس، والنخوة، والمبالغة في الغيرة، وعدم المردّ إلى اللَّه، وقدرته. وتعقّبه الحافظ، فقال: وكلّ ذلك بمعزل عن الواقع، وإنما المراد بقول عاصم ما تقدّم في حديث سهل بن سعد أنه سأل عن الحكم الذي أمره عويمرٌ أن يسأل له عنه، وإنما جزمت بذلك؛ لأنه تبيّن لي أن حديثي سهل بن سعد، وابن عبّاس من رواية القاسم بن محمد، عنه في قصّة واحدة، بخلاف رواية عكرمة، عن ابن عبّاس، فإنها قصّة أخرى، كما تقدّم في تفسير سورة النور، عن ابن عبد البرّ أن القاسم روى قصّة اللعان عن ابن عبّاس، كما رواه سهل بن سعد، وغيره، في أن الملاعن عويمر، وبينّت هناك توجيهه، وعلى هذا فالقول المبهم عن عاصم في رواية القاسم هذه هو قوله:"أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله، فتقتلونه؟ " الحديث. ولا مانع أن يروي ابن عبّاس القصّتين معًا. ويؤيّد التعدّد اختلاف السياقين، وخلوّ أحدهما عما وقع في الآخر، وما وقع بين القصّتين من المغايرة، كما أبيّنه انتهى

(1)

.

(ثُمَّ انْصَرَفَ) أي رجع عاصم من مجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى منزله (فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ) هو عويمر كما تقدّم، ولا يمكن تفسيره بهلال بن أميّة؛ لأنه لا قرابة بينه وبين عاصم؛ لأنه هلال بن أمية بن عامر بن عبد قيس من بني واقف، وهو مالك بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس، فلا يجتمع مع بني عمرو بن عوف الذي ينتمي عاصم إلى حلفهم، إلا في مالك بن الأوس؛ لأن عمرو بن عوف هو ابن مالك. قاله في "الفتح"(يَشْكُو إِلَيْهِ، أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، قَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا) ببناء الفعل للمجهول. أي ما ابتُليت بوقوع هذه الفاحشة في قومي إلا بسؤالي عما لم يقع، وإنما أسند الابتلاء إليه؛ لأن عويمرًا كانت تحته بنت عاصم، أو بنت أخيه، فما وقع منها فهو ابتلاء له.

(1)

"فتح" 10/ 570.

ص: 138

وقوله (إِلاَّ بقَوْلِي) أي بسؤالي عما لم يقع، كأنه قال: فعوقبت بوقوع ذلك في آل بيتي. قال الحافظ: وزعم الداوديّ أن معناه أنه قال مثلاً: لو وجدت أحدًا يفعل ذلك لقتلته، أو عيّر أحدًا بذلك، فابتلي به. وكلامه أيضًا بمعزل عن الواقع، فقد وقع في مرسل مقاتل بن حيّان عن ابن أبي حاتم:"فقال عاصم: إنا للَّه، وإنا إليه راجعون، هذا واللَّه بسؤالي عن هذا الأمر بين الناس، فابتليت به"، والذي كان قال:"لو رأيته لضربته بالسيف" هو سعد بن عبادة، وقد أورد الطبريّ من طريق أيوب، عن عكرمة، مرسلاً، ووصله ابن مردويه بذكر ابن عبّاس، قال: لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} قال سعد بن عبادة: إن أنا رأيت لكاع يفجر بها رجل

" فذكر القصّة، وفيه: فواللَّه ما لبثوا إلا يسيرًا حتى جاء هلال بن أميّة، فذكر قصّته، وهو عند أبي داود في رواية عبّاد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، فوضح أن قول عاصم كان في قصّة عويمر، وقول سعد بن عبادة كان في قصّة هلال، فالكلامان مختلفان، وهما مما يؤيّد تعدد القصّة، ويؤيّد التعدّد أيضًا أنه وقع في آخر حديث ابن عبّاس عند الحاكم: "قال ابن عبّاس: فما كان بالمدينة أكثر غاشية منه". وعند أبي داود وغيره: "قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميرًا على مصر، وما يُدعى لأب"، فهذا يدلّ على أن ولد الملاعنة عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم زمانًا. وقوله: "على مصر"، أي من الأمصار، وظنّ بعض شيوخنا أنه أراد مصر البلد المشهور، فقال: فيه نظر؛ لأن اْمراء مصر معروفون معدودون، ليس فيهم هذا. ووقع في حديث عبد اللَّه بن جعفر، عند ابن سعد في "الطبقات" أن ولد الملاعنة عاش بعد ذلك سنتين، ومات، فهذا أيضًا مما يقوّي التعدد، واللَّه أعلم. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

(فَذَهَبَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ، بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ) أي الذي رمى امرأته (مُصْفَرًّا) -بضم أوله، وسكون الصاد المهملة، وفتح الفاء، وتشديد الراء- أي قويّ الصفرة. وهذا لا يخالف قوله في حديث سهل رضي الله عنه:"إنه أحمر، أو أشقر"؛ لأن ذاك لونه الأصليّ، والصفرة عارضة (قَلِيلَ اللَّحْمِ) أي نحيف الجسم (سَبِطَ الشَّعْرِ) بفتح، فكسر، أو بفتحتين: أي مسترسله، وهو ضدّ الجعودة (وَكَانَ الَّذِيَ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أهْلِهِ آدَمَ) بالمدّ: أي لونه قربٌ من السواد (خَدْلاً) -بفتح الخاء المعجمة، وإسكان الدال المهملة: هو الممتلئ الساق الضخم. أي ممتلىء الساقين. وقال أبو الحسين بن فارس: "ممتلىء الأعضاء". وقال الطبريّ: لا

(1)

"فتح".

ص: 139

يكون إلا مع غلظ العظم مع اللحم. وقال ابن التين: ضبط في بعض الكتب بكسر الدال، وتخفيف اللام، وفي بعضها بتشديد اللام، وفي بعضها بسكون الدال، وكذلك هو في كتب اللغة، وكذا ضبط في رواية أبي صالح، وابن يوسف. قاله العينيّ

(1)

(كَثِيرَ اللَّحْمٍ) أي في جميع جسده. قال في "الفتح": يحتمل أن تكون صفة شارحة لقوله: "خدلاً"، بناء على أن الخدل الممتلئ البدن، وأما على قول من قال: إنه الممتلئ الساق، فيكون فيه تعميم بعد تخصيص. وزاد في الرواية التالية:" جعدًا قططًا"، و"الجعد": هو المتكسّر، ضدّ السبوطة. و"القطط" -بفتحتين، أو بفتح، فكسر-: هو المتفلفل الشعر. قال في "الفتح": وهذه الصفة موافقة للتي في حديث سهل بن سعد حيث فيه: "عظيم الأليتين خدلّج الساقين الخ". انتهى

(2)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ بَيِّنْ") أي بين لنا الحكم في هذه المسألة. قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ظاهره أنه دعاء في أن يبيّن له ممن الولد؟، فأجيب بأنه للذي رُمي به، وتبيّن له ذلك بأن اللَّه تعالى خلقه يُشبه الذي رميت به، وعلى الصفة التي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولذلك نسّق قوله:"فوضعت" على الكلام المتقدّم بالفاء. وقيل: معناه: اللَّهمّ بين الحكم في هذه الواقعة، كما جاء في الرواية الأخرى:"اللَّهم افتح"، أي احكم، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [سبأ: 26] أي يحكم انتهى

(3)

.

وقال البدر العينيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "اللَّهم بيّن" أي حكم المسألة. ويقال: معناه الحرص على أن يعلم من باطن المسألة ما يقف به على حقيقتها، وإن كانت شريعته قد أحكمها اللَّه في القضاء بالظاهر. وإنما صارت شرائع الأنبياء عليهم السلام يُقضى فيها بالظاهر؛ لأنها تكون سببًا لمن بعدهم من أممهم، ممن لا سبيل له إلى وحي يعلم به بواطن الأمور

(4)

.

(فَوَضَعَتْ) أي ولدت تلك المرأة ولدًا (شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا، أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا، فَلَاعَنَ) أي أمر باللعان (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا) هذا ظاهره أن الملاعنة بينهما تأخّرت حتى وضعت، فيُحمل على أن قوله:"فلاعن" معقّب بقوله: فذهب به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، واعترض قوله:"وكان ذلك الرجل الخ"،

(1)

"عمدة القاري" 17/ 85.

(2)

"فتح" 10/ 571.

(3)

"المفهم" 4/ 302 - 303.

(4)

"عمدة القاري" 17/ 85.

ص: 140

والحامل على ذلك ما قدّمناه من الأدلّة على أن رواية القاسم هذه موافقة لحديث سهل بن سعد. ويحتمل على بعد أن تكون الملاعنة وقعت مرّة بسبب القذف، وأخرى بسبب الانتفاء. قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَقَالَ: رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ) هذا السائل هو عبد اللَّه بن شدّاد بن الهاد، وهو ابن خالة ابن عبّاس، سمّاه أبو الزناد عن القاسم بن محمد في هذا الحديث عند البخاريّ في "كتاب الحدود" (أَهِيَ الَّتِي قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، رَجَمْتُ هَذِهِ؟ "، قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (لَا، تِلْكَ امْرَأَةٌ، كَانَتْ تُظْهِرُ فِي الْإِسْلَامِ الشَّرِّ) وفي رواية: "كانت تظهر في الإسلام السوء" أي كانت تُعلن بالفاحشة، ولكن لم يثبت عليها ذلك ببيّنة، ولا اعتراف. قال الداوديّ: فيه جواز عيب من يسلك مسالك السوء. وتُعُقّب بأن ابن عبّاس لم يسمها، فإن أراد إظهار العيب على الإبهام فمحتملٌ

(2)

.

وقال القرطبيّ: قوله: "تلك امرأة كانت تُظهِر في الإسلام السوء" أي تَظهَر عليها قرائنُ، تدلّ على أنها بَغِيّ، تتعاطى الفاحشة، لكن لم يثبت عليها سببٌ شرعيّ، يتعلّق به الرجم، لا إقرارٌ، ولا حملٌ، ولا بيّنةٌ، فلم يُقَم عليها حدٌّ لتلك الأسباب المحصورة انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-39/ 3497 و 3498 - و 36/ 3494 - وفي "الكبرى" 39/ 5664. وأخرجه (خ) في "الطلاق" 5310 و 5316 و"الحدود" 6855 و 6856 و"التمنّي" 7238 (م) في "اللعان" 1497 (ق) في "الحدود" 2560 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 3096 و3350 و 3439. وأما فوائد الحديث، وسائر متعلّقاته، فقد تقدّمت قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3498 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ، عَنْ

(1)

"فتح" 10/ 571 و 579.

(2)

"فتح" 10/ 579.

(3)

"المفهم" 4/ 303.

ص: 141

إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ يَحْيَى، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ التَّلَاعُنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ، فِي ذَلِكَ قَوْلاً، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا، قَلِيلَ اللَّحْمِ، سَبِطَ الشَّعْرِ، وَكَانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ آدَمَ، خَدْلاً، كَثِيرَ اللَّحْمِ، جَعْدًا، قَطَطًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ بَيِّنْ» ، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا، أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا، فَلَاعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ: أَهِيَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، رَجَمْتُ هَذِهِ» ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ الشَّرَّ فِي الإِسْلَامِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يحيى بن محمد بن السكن": هو القرشيّ البصريّ، نزيل بغداد، صدوق [11] 60/ 1770.

و"محمد بن جهضم": هو أبو جعفر الثقفيّ البصريّ، خراسانيّ الأصل، صدوقٌ [10] 60/ 1770. و"إسماعيل بن جعفر" بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرقيّ، أبو إسحاق المدنيّ الثقة الثبت [8] 16/ 17. و"يحيى": هو ابن سعيد الأنصاريّ المذكور في السند الماضي.

وقوله: " جعدًا" -بفتح، فسكون-: هو الذي شعره غير سبط. وقوله: "قططًا" - بفتحتين، أو كسر الطاء الأولى-: شديد الجعودة، والتقبّض، كشعر السودان. والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه مستوفى في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌40 - (بَابُ الأَمْرِ بِوَضْع الْيَدِ عَلَى فِي الْمُتَلَاعِنَينِ عِنْدَ الْخَامِسَةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "على في المتلاعنين" هي لغة في "الفم"، وقد تقدّم أنها من الأسماء الستّة التي ترفع بالواو، وتنصب بالألف، وتجرّ بالياء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

ص: 142

3499 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَمَرَ رَجُلاً حِينَ أَمَرَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يَتَلَاعَنَا، أَنْ يَضَعَ يَدَهُ، عِنْدَ الْخَامِسَةِ، عَلَى فِيهِ، وَقَالَ «إِنَّهَا مُوجِبَةٌ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عليّ بن ميمون) الرقّيّ العطّار، ثقة [10] 28/ 435.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.

3 -

(عاصم بن كليب) الجرميّ الكوفيّ، صدوق رُمي بالإرجاء [5] 11/ 889.

4 -

(أبوه) عاصم بن كُليب بن شهاب، صدوق [2] ووهم من ذكره في الصحابة 11/ 889.

5 -

(ابن عباس) - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد هو وابن ماجه. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَمَرَ رَجُلاً حِينَ أَمَرَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يَتَلَاعَنَا، أَنْ يَضَعَ يَدَهُ) الضمير للرجل المأمور (عِنْدَ الْخَامِسَةِ) أي اللعنة الخامسة (عَلَى فِيهِ) أي فم الرجل الملاعن.

[فإن قيل]: الحديث نصّ في الأمر بالوضع على في الرجل، فمن أين أخذ المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- حكم المرأة، حيث ترجم بقوله:"باب الأمر بوضع اليد على في المتلاعنين"؟.

[قلت]: قياسًا على الرجل؛ لاستوائهما في العلّة التي أُمر من أجلها بالوضع. وهي أن لا يسارع الملاعن إلى إتمام الخامسة قبل أن يعظه الإمام، ويذكّره باللَّه تعالى، ويخبره بأن عذاب الدنيا اْهون من عذاب الآخرة، كما سيأتي في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى. ثم إن المرأة لا يضع يده عليها إلا امرأة، أو محرمٌ لها. واللَّه تعالى أعلم.

(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّهَا مُوجِبَةٌ) أي إن الخامسة موجبة للعنة اللَّه تعالى، وغضبه، وعذابه لمن كان كاذبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 143

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-40/ 3499 - وفي "الكبرى" 40/ 5666. وأخرجه (د) في "الطلاق" 2255. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌41 - (بَابُ عِظَةِ الإِمَامِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ عِنْدَ اللِّعَانِ)

3500 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، يَقُولُ: سُئِلْتُ عَنِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، فِي إِمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ ، فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ، فَقُمْتُ مِنْ مَقَامِي، إِلَى مَنْزِلِ ابْنِ عُمَرَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، الْمُتَلَاعِنَيْنِ، أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ ، قَالَ: نَعَمْ، سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ -وَلَمْ يَقُلْ عَمْرٌو أَرَأَيْتَ- الرَّجُلَ مِنَّا يَرَى عَلَى امْرَأَتِهِ فَاحِشَةً، إِنْ تَكَلَّمَ فَأَمْرٌ عَظِيمٌ -وَقَالَ عَمْرٌو: أَتَى أَمْرًا عَظِيمًا- وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ الأَمْرَ الَّذِي سَأَلْتُكَ، ابْتُلِيتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل، هَؤُلَاءِ الآيَاتِ، فِي سُورَةِ النُّورِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} حَتَّى بَلَغَ {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ، فَوَعَظَهُ، وَذَكَّرَهُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا، أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا كَذَبْتُ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ، فَوَعَظَهَا، وَذَكَّرَهَا، فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنَّهُ لَكَاذِبٌ، فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا، إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفيّ أبو حفص البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

ص: 144

2 -

(محمد بن المثنّى) العنَزيّ، أبو موسى البصريّ، ثقة ثبت [10] 64/ 80.

3 -

(يحيى بن سعيد) بن فرّوخ القطّان البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

4 -

(عبد الملك بن أبي سليمان) ميسرة العرزميّ الكوفيّ، صدوقٌ له أوهامٌ [5] 7/ 406.

5 -

(سعيد بن جُبير) الأسديّ الوالبيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه فاضل [3] 28/ 436.

6 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخيه من التسعة الذين يروي عنهم الجماعة بلا واسطة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، ومن المكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن عبد الملك بن أبي سليمان، أنه (قال: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، يَقُولُ: سُئِلْتُ) بالبناء للمفعول (عَنِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فِي إِمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ) وفي رواية مسلم: "في إمرة مصعب بن الزبير"، وفي رواية له:"زمن مصعب بن الزبير". ولا تعارض بينهما؛ لأن مصعبًا كان أميرًا على العراق في زمن إمرة أخيه عبد اللَّه بن الزبير - رضي اللَّه تعالى عنهما - على مكة (أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟) ببناء الفعل للمفعول (فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ، فَقُمْتُ مِنْ مَقَامِي، إِلَى مَنْزِلِ ابْنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -. في هذه الرواية اختصار يبيّنها ما في "صحيح مسلم": "سُئلتُ عن المتلاعنين في إمرة مصعب بن الزبير، فما دريت ما أقول، فمضيت إلى منزل ابن عمر بمكة، فقلت للغلام: استأذن لي، قال: إنه قائل

(1)

، فسمع صوتي، فقال: ابن جبير؟ قلت: نعم، قال: ادخل، فواللَّه، ما جاء بك هذه الساعة إلا حاجة، فدخلت، فإذا هو مفترشٌ بَرْذَعَةً

(2)

، متوسّد وسادةً حشوها ليف".

والظاهر أن سعيدًا سافر من الكوفة إلى مكة ليسأل ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - عن هذه المسألة التي لم يدر جوابها حين سئل.

(1)

من القيلولة، وهي النوم نصف النهار.

(2)

بفتح الباء، وسكون الراء، فذال معجمة- ويقال: بالدال المهملة: الحلس، يُلقَى تحت الرحل. اهـ ق.

ص: 145

وفي رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن سعيد، قال: كنّا بالكوفة نختلف في الملاعنة، يقول بعضنا: يفرّق بينهما، ويقول بعضنا: لا يفرّق". ويؤخذ منه أن الخلاف في ذلك كان قديمًا، وقد استمر عثمان البتّيّ من فقهاء البصرة على أن اللعان لا يقتضي الفرقة، كما تقدّم نقله عنه، وكأنه لم يبلغه حديث ابن عمر. قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كنية عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - (الْمُتَلَاعِنَيْنِ) هكذا رواية المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- "المتلاعنين" بالياء، وهو يحتمل أن يكون منصوبًا بفعل مقدّر، أي أسألك المتلاعنين، أي حكمهما، ويحتمل الجرّ بحرف مقدّر على قلّة، أي أخبرني عن المتلاعنين، ولفظ مسلم:"المتلاعنان"، وهو واضح، إذ هو مبتدأٌ، خبره جملة: أيفرّق بينهما" (أَيُفَرَّقُ) بالبناء للمجهول (بَيْنَهُمَا؟) وفي رواية عزرة، عن سعيد بن جبير الآتية في الباب التالي: قال: "لم يفرّق المصعب -يعني ابن الزبير- بين المتلاعنين، فذكرت ذلك لابن عمر، فقال: فرّق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان".

(قَالَ: نَعَمْ، سُبْحَانَ اللَّهِ) إنما سبّح تعجبًا من خفاء هذا الحكم المشهور على سعيد (إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ) قال القرطبيّ: هو -واللَّه أعلم- عويمر العجلانيّ المتقدّم الذكر انتهى

(2)

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ -وَلَمْ يَقُلْ عَمْرٌو: أَرَأَيْتَ-) يعني أن شيخه عمر بن عليّ لم يذكر في روايته: لفظ "أرأيت"، وإنما ذكرها محمد بن المثنى (الرَّجُلَ مِنَّا يَرَى عَلَى امْرَأَتِهِ فَاحِشَةً) أي زنا (إِنْ تَكَلَّمَ فَأَمْرٌ عَظِيمٌ، وَقَالَ عَمْروٌ) يعني الفلاّس (أَتَى أَمْرًا عَظِيمًا- وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَلَمْ يُجِبْهُ) أي لم يجب النبيّ صلى الله عليه وسلم السائل (فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ) أي جاء السائل النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: إِنَّ الأَمْرَ الْذِي سَأَلْتُكَ، ابْتُلِيتُ بِهِ) تقدّم شرحه قريبًا (فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل، هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ، فِي سُورَةِ النُّورِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} حَتَّى بَلَغَ {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ) فيه أن الابتداء في اللعان يكون بالزوج؛ لأن اللَّه تعالى بدأ به؛ ولأنه يُسقط عن نفسه حد قذفها، وينفي النسب إن كان. ونقل القاضي وغيره إجماع المسلمين على الابتداء بالزوج، ثم قال الشافعيّ، وطائفة: لو لاعنت المرأة قبله لم يصحّ لعانها. وصححه أبو حنيفة، وطالْفة. قاله النوويّ

(3)

.

(فوَعَظَهُ، وَذَكَّرَهُ) قال القرطبيّ: هذا الوعظ والتذكير كان منه صلى الله عليه وسلم قبل اللعان. وينبغي

(1)

"فتح" 10/ 572 - 573.

(2)

"المفهم" 4/ 295.

(3)

"شرح مسلم"10/ 363.

ص: 146

أن يُتّخذ سنة في وعظ المتلاعنين قبل الشروع في اللعان، ولذلك قال الطبريّ: إنه يجب على الإمام أن يعظ كلّ من يحلّفه. وذهب الشافعيّ إلى أنه يعظ كلّ واحد بعد تمام الرابعة، وقبل الخامسة؛ تمسّكًا بحديث ابن عبّاس في لعان هلال بن أمية أنه صلى الله عليه وسلم وعظهما عند الخامسة انتهى

(1)

(وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا، أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا كَذَبْتُ، ثُمَّ ثَنَّى بِالمْرْأَةِ) بتشديد النون، من التثنية، أي جعلها ثانية في الوعظ، والتذكير، واللعان (فَوَعَظَهَا، وَذَكَّرَهَا، فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، إِنَّهُ لَكَاذِبٌ، فَبَدَأَ بالرَّجُلِ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتِ باللهِ، إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّه عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبينَ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتِ بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا، إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَفَرّقَ بَيْنَهُمَا) قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: من التفريق، وفيه أنه لا بدّ من تفريق الحاكم، أو الزوج بعد اللعان، ولا يكفي اللعان في التفريق. ومن لا يقول به يرى أن معناه أظهر أن اللعان مفرّق بينهما. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم تحقيق الخلاف في ذلك مستوفًى، وأن الراجح عدم اشتراط التفريق، بل يقع بالفراغ من التعانهما، وسيأتي بعض البيان في الباب التالي أيضًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-41/ 3500 و 42/ 3501 و 43/ 3502 و 44/ 3503 و45/ 3504. وفي "الكبرى" 41/ 5667 و 42/ 5668 و 43/ 5669 و 44/ 5670 و45/ 5671. وأخرجه (خ) في "التفسير" 4748 و"الطلاق" 5312 و5315 و"الفرائض" 6748 (م) في "اللعان" 1493 (د) في "الطلاق" 2257 و 2258 و 2259 (ق) في "الطلاق" 2069 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4463 و 4513 و 4589 و 4679 و 4926 و5180 و5290 و 6063 (الموطأ) في "الطلاق" 1202 (الدارمي) في "النكاح" 2231 و 2232. واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: استدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- على ما ترجم له

(1)

"المفهم" 4/ 295 - 296.

ص: 147

بالحديث واضح، وفوائد الحديث، وسائر متعلّقاته قد تقدّمت مستوفاة، فلا تغفل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌42 - (بَابُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ)

3501 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى -وَاللَّفْظُ لَهُ- قَالَا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: لَمْ يُفَرِّقِ الْمُصْعَبُ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، قَالَ سَعِيدٌ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لاِبْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: فَرَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو معاذ": هو هشام بن أبي عبد اللَّه الدستوائيّ. و"عزرة": هو ابن عبد الرحمن الخزاعيّ الكوفيّ الأعور، ثقة [6] 37/ 1701.

وقوله: "أخوي بني العجلان": أي بين رجل وامرأة من بني عجلان، وتسميتهما أخوين تغليبٌ للذكر على الأنثى. والمراد بهما عويمرٌ، وزوجته.

والحديث متّفق عليه، وهو مختصر من حديث الباب الذي قبله.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر ترجمة المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، واستدلاله بهذا الحديث أنه يرى مذهب من يقول: إن اللعان لا تقع به الفرقة، بل يتوقّف على تفريق الحاكم، وهو مذهب الحنفيّة، ورواية عن أحمد، وقال به أحمد بن أبي صفرة من المالكيّة، ثم اختلفوا في هذا التفريق، فقال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وعبيد اللَّه بن الحسن: هي طلقة بائنة، فلو أكذب نفسه بعد ذلك، جاز له نكاحها، وهو رواية عن أحمد. وقال أبو يوسف: هو تحريمٌ مؤبّدٌ.

والذي عليه جمهور العلماء حصول الفرقة بمجرّد اللعان، من غير توقّف على تفريق، وبه قال مالكٌ، والشافعيّ، وأحمد، وزفر، ثم قال الشافعيّ، وبعض المالكيّة: تحصل الفرقة بتمام لعانه هو، وإن لم تلتعن هي، وقال أحمد: لا يحصل ذلك إلا بتمام لعانهما معًا، وهو المشهور عند المالكيّة، وبه قال أهل الظاهر، قالوا: وهي فرقة فسخ، وحرمة مؤبّدة.

وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه ليس معناه إنشاء الفرقة بينهما، بل إظهار

ص: 148

ذلك، وبيان حكم الشرع فيه، ويدلّ لذلك ما في "الصحيحين"، وغيرهما، من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا سبيل لك عليها"

(1)

.

وتُعُقّب بأن ذلك وقع جوابًا لسؤال الرجل عن ماله الذي أخذته منه. وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ، وهو نكرة في سياق النفي، فيشمل المال والبدن، ويقتضي نفي تسليطه عليها بوجه من الوجوه. ووقع في آخر حديث ابن عبّاس عند أبي داود:"وقضى أن ليس عليه نفقة، ولا سُكنى من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق، ولا متوفَّى عنها". وهو ظاهر في أن الفرقة وقعت بينهما بنفس اللعان. قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم ترجيح مذهب الجمهور في هذه المسألة في المسائل المذكورة في أوائل باب اللعان، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌43 - (اسْتِتَابَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ بَعْدَ اللِّعَانِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الترجمة ظاهرة في أن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يرى أنه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللَّه يعلم أن أحدكما كاذبٌ" كان بعد فراغهما من اللعان، قال القاضي عياض -رحمه اللَّه تعالى-: ظاهره أنه قال هذا الكلام بعد فراغهما من اللعان، والمراد أنه يلزم الكاذب التوبة. قال: وقال الداوديّ: إنما قاله قبل اللعان، تحذيرًا لهما منه. قال: والأول أظهر، وأولى بسياق الكلام انتهى

(3)

.

وقال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: والذي قاله الداوديّ أولى من جهة أخرى، وهي مشروعيّة الموعظة قبل الوقوع في المعصية، بل هو أحرى مما بعد الوقوع، وأما سياق الكلام، فمحتملٌ في رواية ابن عمر للأمرين، وأما حديث ابن عبّاس، فسياقه ظاهرٌ فيما

(1)

أفاده الحافظ وليّ الدين في "طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 114.

(2)

"فتح" 10/ 576.

(3)

"شرح مسلم للنوويّ" 10/ 364.

ص: 149

قال الداوديّ، ففي رواية جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - عند الطبريّ، والحاكم، والبيهقيّ في قصّة هلال بن أميّة:"قال: فدعاهما حين نزدت آية الملاعنة، فقال: "اللَّه يعلم أن أحدكما كاذبٌ، فهل منكما تائب؟ قال هلالٌ: واللَّه إني لصادقٌ

" الحديث. وقد قدّمت أن حديث ابن عبّاس من رواية عكرمة في قصّة غير القصّة التي في حديث سهل بن سعد، وابن عمر رضي الله عنهم، فيصحّ الأمران معًا باعتبار التعدّد انتهى كلام الحافظ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن استدلال المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بهذا الحديث على أن الاستتابة بعد وقوع اللعان صحيحٌ؛ إذ هو ظاهر سياق الحديث، كما قاله عياضٌ -رحمه اللَّه تعالى-.

والحاصل أنه يستحبّ الاستتابة قبل اللعان، كما يدلّ له ظاهر حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - المذكور، وبعده، كما هو ظاهر حديث الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3502 -

(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ: لاِبْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، قَالَ: فَرَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ، وَقَالَ «اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ» ، قَالَ لَهُمَا ثَلَاثًا، فَأَبَيَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، قَالَ أَيُّوبُ: وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: إِنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْئًا، لَا أَرَاكَ تُحَدِّثُ بِهِ، قَالَ: قَالَ الرَّجُلُ: مَالِي؟ ، قَالَ: «لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَهِيَ أَبْعَدُ مِنْكَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"زياد بن أيوب": هو الحافظ البغداديّ المعروف بـ "دَلُّويه". و"أيوب": هو السختيانيّ.

وقوله: "اللَّه يعلم أن أحدكما كاذب" فيه تغليب المذكّر على المؤنّث. قال القاضي عياض، وتبعه النوويّ: في قوله: "أحدكما" ردٌّ على من قال من النحاة: إن لفظ "أحد" لا يُستعمل إلا في النفي، وعلى من قال منهم ة لا يستعمل إلا في الوصف، وأنها لا توضع موضع واحد، ولا تقع موقعه. وقد أجازه المبرّد، وجاء في هذا الحديث في غير وصف، ولا نفي، وبمعنى "واحد" انتهى.

قال الفاكهيّ: هذا من أعجب ما وقع للقاضي مع براعته، وحِذْقه، فإن الذي قاله النحاة، إنما هو في "أحد" التي للعموم، نحو ما في الدار من أحد، وما جاءني من

(1)

"فتح" 10/ 575.

ص: 150

أحد، وأما "أحد" بمعنى "واحد" فلا خلاف في استعمالها في الإثبات، نحو:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، ونحو:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} ، ونحو:"أحدكما كاذب". قاله في "الفتح"

(1)

.

وقوله: "فهل منكما تائب؟ " يحتمل أن يكون إرشادًا؛ لأنه لم يحصل منهما، ولا من أحدهما اعترافٌ، ولأن الزوج لو أكذب نفسه كانت توبة منه

(2)

.

وقوله: "قال أيوب": هو موصول بالسند الأول.

وقوله: "وقال عمرو بن دينار": إن في هذا الحديث شيئًا، لا أراك تحدّث به".

حاصله أن عمرو بن دينار، وأيوب سمعا الحديث جميعًا من سعيد بن جبير، فحفظ فيه عمرو ما لم يحفظه أيوب، وهو قوله:"قال الرجل: مالي، قال: لا مال لك، إن كنت صادقًا، فقد دخلت بها، وإن كنت كاذبًا، فهي أبعد منك".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وقد روى سفيان بن عيينة هذا الحديث عن كلّ من عمرو بن دينار، وأيوب السختيانيّ، فروايته عن عمرو ستأتي في الباب التالي، وروايته عن أيوب أخرجها البخاريّ، فقال بعد أن ساق الحديث عن علي بن المدينيّ، عن سفيان، عن عمرو: قال سفيان: حفظته من عمرو، وقال أيوب: سمعت سعيد بن جبير، فساقه، ثم قال: قال سفيان: حفظته من عمرو، ومن أيوب، كما أخبرتك.

قال في "الفتح": قوله: "قال أيوب" هو موصول بالسند المبتدإ به، وليس بتعليق، وحاصله أن الحديث كان عند سفيان، عن عمرو بن دينار، وعن أيوب جميعًا، عن ابن عمر. وقد وقع في رواية الحميديّ، عن سفيان:"قال: وحدّثنا أيوب في مجلس عمرو بن دينار، فحدّثه عمرو بحديثه هذا، فقال له أيوب: أنت أحسن حديثًا منّي". وسبب قوله هذا أن في حديث عمرو ما ليس عند أيوب من الزيادة، كما سبق قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "قال الرجل: مالي". فاعلٌ لفعل محذوف، كأنه لما سمع "لا سبيل لك عليها"، قال: أيذهب مالي؟، والمراد به الصداق. قال ابن العربيّ: قوله: "مالي" أي الصداق الذي دفعته إليها، فأجيب بأنك استوفيته بدخولك عليها، وتمكينها لك من نفسها، ثم أوضح له ذلك بتقسيم مستوعبٍ، فقال: إن كنت صادقًا فيما ادّعيته عليها، فقد استوفيت حقّك منها قبل ذلك، وإن كنت كذبت عليها، فذلك أبعد لك من مطالبتها؛ لئلا تجمع عليها الظلم في عرضها، ومطالبتها بمال قبضته منك قبضًا صحيحًا تستحقّه.

(1)

"فتح" 10/ 574.

(2)

"عمدة القاري" 17/ 87. "فتح" 10/ 574.

ص: 151

وقوله: "فقد دخلت بها" فسره قوله في الرواية الآتية في الباب التالي من طريق ابن عيينة، عن عمرو:"فهو بما استحللت من فرجها".

وقوله: "فهو أبعد منك" وفي الرواية المذكورة: "أبعد لك". ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "فذلك أبعد، وأبعد لك منها"، بتكرير لفظ "أبعد" تأكيدًا. وقوله:"ذلك" إشارة إلى الكذب؛ لأنه مع الصدق يبعد عليه استحقاق إعادة المال، ففي الكذب أبعد.

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌44 - (اجْتِمَاعُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا بيان حكم اجتماع المتلاعنين، وهو أنه لا يجوز، وأن الفرقة بينهما تحريم مؤبّد؛ لقوله في هذا الحديث:"لا سبيل لك عليها"، ولما سبق في حديث سهل بن سعد - رضي اللَّه تعالى عنهما - من رواية ابن جريج، عن ابن شهاب: "فكانت تلك سنة في المتلاعنين، لا يجتمعان أبدًا، وقد سبق الاختلاف في كونه مرسلاً، أو موصولاً. وبهذا قال الجمهور، وهو المذهب الراجح.

وقال بعضهم: يجوز أن يتزوّجها، وإنما يقع باللعان طلقة واحدةٌ بائنة، وبه قال حمّاد، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وصحّ عن ابن المسيّب، قالوا: ويكون الملاعن إذا أكذب نفسه خاطبًا من الخطاب. وعن الشعبيّ، والضحّاك: إذا أكذب نفسه رُدّت إليه امرأته. قال ابن عبد البرّ: هذا عندي قولٌ ثالث. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون معنى قوله: "رُدّت إليه" أي بعد العقد الجديد، فيوافق الذي قبله. قال ابن السمعانيّ: لم أقف على دليل لتأييد الفرقة من حيث النظر، وإنما المتّبع في ذلك النصّ. وقال ابن عبد البرّ: أبدى بعض أصحابنا له فائدةً، وهو أن لا يجتمع ملعونٌ مع غير ملعون؛ لأن أحدهما ملعونٌ في الجملة، بخلاف ما إذا تزوّجت المرأة غير الملاعن، فإنه لا يتحقّق.

وتُعُقّب بأنه لو كان كذلك لامتنع عليهما معًا التزويج؛ لأنه يتحقّق أن أحدهما

ص: 152

ملعون. ويمكن أن يجاب بأن في هذه الصورة افترقا في الجملة.

قال السمعانيّ: وقد أورد بعض الحنفيّة أن قوله: "المتلاعنان" يقتضي أن فرقة التأبيد يشترط لها أن يقع التلاعن من الزوجين، والشافعيّة يكتفون في التأبيد بلعان الزوج فقط، كما تقدّم. وأجاب بأنه لما كان لعانه بسبب لعانها، وصريح اللعن يوجد في جانبه دونها، سمّي الموجود منه ملاعنة، ولأنه سبب في إثبات الزنا عليها، فيستلزم انتفاء نسب الولديّة، فإذا انتفى الفراش انقطع النكاح.

[فإن قيل]: إذا أكذب الملاعن نفسه يلزم ارتفاع الملاعنة حكمًا، وإذا ارتفعت صارت المرأة محلّ استمتاع.

[قلنا]: اللعان عندكم شهادةٌ، والشاهد إذا رجع بعد الحكم لم يرتفع الحكم، وأما عندنا فهو يمينٌ، واليمين إذا صارت حجة، وتعلّق بها الحكم، لا ترتفع، فإن أكذب نفسه، فقد زعم أنه لم يوجد منه ما سقط الحدّ عنه، فيجب عليه الحدّ، ولا يرتفع موجب اللعان. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3503 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، يَقُولُ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، عَنِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، وَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَالِي، قَالَ: «لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه "محمد بن منصور"، وهو الْجَوّاز المكيّ، فإنه من أفراده، و"سفيان": هو ابن عيينة، و"عمرو": هو ابن دينار.

وقوله: "لا سبيل لك عليها" أي لا تسلّط لك على زوجتك التي لاعنتها.

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هو دليل لمالك، ولمن قال بقوله في تأبيد التحريم، فإن ظاهره النفي العامّ. وقد ذكر الدارقطنيّ زيادة في حديث سهل بعد قوله:"ففرّق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بينهما، وقال: "لا يجتمعان أبدًا". وقال أبو داود، عن سهل: "مضت سنة المتلاعنين أن يُفرّق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدًا". قال مالك: وهي السنّة التي لا اختلاف فيها عندنا انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"فتح" 10/ 576 - 577.

(2)

"المفهم" 4/ 298.

ص: 153

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌45 - (بَابُ نَفْيِ الْوَلَدِ بِاللِّعَانِ، وَإِلْحَاقِهِ بِأُمِّهِ)

3504 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "لَاعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالأُمِّ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وهو من رباعيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (180) من رباعيات الكتاب، وهو أصحّ الأسانيد مطلقًا، على ما نُقل عن الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-، وهو المعروف بسلسلة الذهب، روى الخطيب بسنده، عن يحيى بن بكير، أنه قال لأبي زرعة الرازيّ: يا أبا زرعة ليس ذا زَعْزَعَةٍ عن زَوْبَعَة

(1)

، إنما ترفع الستر، فتنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصحابة: حدثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر"

(2)

.

وقوله: "لاعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ" ولفظ البخاريّ: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لاعن بين رجل وامرأته، فانتفى من ولدها، ففرّق بينهما، وألحق الولد بالمرأة". وقوله: "فانتفى الخ" قال الطيبيّ: الفاء سببيّة، أي الملاعنة سبب الانتفاء. قال الحافظ: فإن أراد أن الملاعنة سبب ثبوت الانتفاء، فجيّد، وإن أراد أن الملاعنة سبب وجود الانتفاء، فليس كذلك، فإنه إن لم يتعرّض لنفي الولد في الملاعنة لم ينتف، والحديث في "الموطّإ" بلفظ:"وانتفى" بالواو، لا بالفاء. وذكر ابن عبد البرّ أن بعض الرواة عن مالك ذكره بلفظ:"وانتقل" يعني بقاف بدل الفاء، ولام آخره، وكأنه تصحيف، وإن كان محفوظًا، فمعناه قريبٌ من الأول. وعند البخاريّ في "التفسير" من وجه آخر عن نافع بلفظ:"أن رجلاً رمى امرأته، وانتفى من ولدها، فأمرهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتلاعنا"، فوضح أن الانتفاء سبب الملاعنة، لا العكس.

(1)

"الزَّعْزَعَة": تحريك الريح الشجرة ونحوها، وكل تحربك شدبد. و"الزبعة" هي الإعصار التي ترفع التراب في الجوّ، وتستدير كأنها عمود.

(2)

راجع "تدريب الراوي" للسيوطيّ ج 1/ 78.

ص: 154

واستُدِلَّ بهذا الحديث على مشروعيّة اللعان لنفي الولد، وعن أحمد ينتفي الولد بمجرّد اللعان، ولو لم يتعرّض الرجل لذكره في اللعان. وفيه نظر؛ لأنه لو استلحقه لحقه، وإنما يؤثر لعان الرجل دفع حدّ القذف عنه، وثبوت زنا المرأة، ثم يرتفع عنها الحدّ بالتعانها. وقال الشافعيّ: إن نفى الولد في الملاعنة انتفى، وإن لم يتعرّض له، فله أن يعيد اللعان لانتفائه، ولا إعادة على المرأة، وإن أمكنه الرفع إلى الحاكم، فأخّر بغير عذر حتى ولدت، لم يكن له أن ينفيه كما في الشفعة. واستدلّ به على أنه لا يُشترط في نفي الحمل تصريحُ الرجل بانها ولدت من زنا، ولا أنه استبرأها بحيضة، وعن المالكيّة يُشترط ذلك. واحتجّ بعض من خالفهم بأنه نفى الحمل عنه من غير أن يتعرّض لذلك، بخلاف اللعان الناشىء عن قذفها. واحتجّ الشافعيّ بأن الحامل قد تحيض، فلا معنى لاشتراط الاستبراء. قال ابن العربيّ: ليس عن هذا جواب مقنع

(1)

.

وقوله: "وفرّق بينهما، وألحق الولد بالأمّ" ولفظ البخاريّ: "ففرّق بينهما، وألحق الولد بالمرأة". قال الدارقطنيّ: تفرّد مالكٌ بهذه الزيادة، قال: ابن عبد البرّ: ذكروا أن مالكًا تفرّد بهذه اللفظة في حديث ابن عمر، وقد جاءت من أوجه أخرى في حديث سهل بن سعد، كما تقدّم من رواية يونس، عن الزهريّ، عند أبي داود بلفظ:"ثم خرجت حاملاً، فكان الولد إلى أمه". ومن رواية الأوزاعيّ، عن الزهريّ:"وكان الولد يُدعى إلى أمه".

ومعنى قوله: "وألحق الولد بأمه": أي صيّره لها وحدها، ونفاه عن الزوج، فلا توارث بينهما، وأما أمّه فترث منه ما فرض اللَّه لها، كما وقع صريحًا ففي حديث سهل ابن سعد:"وكان ابنها يُدعَى لأمه، ثم جرت السنّة في ميراثها أنها ترثه، ويرث منها ما فرض اللَّه لها".

وقيل: معنى إلحاقه بأمه أنه صيّرها له أبًا وأمًّا، فترث جميع ماله، إذا لم يكن له وارث آخر من ولد ونحوه. وهو قول ابن مسعود، وواثلة بن الأسقع، وطائفة، ورواية عن أحمد. وروي أيضًا عن ابن القاسم، وعنه: معناه أن عصبة أمه تصير عصبة له، وهو قول عليّ، وابن عمر، وعطاء، والمشهور عن أحمد. وقيل: ترثه أمه وإخوته منها بالفرض والردّ، وهو قول أبي عبيد، ومحمد بن الحسن، ورواية عن أحمد، قال: فإن لم يرثه ذو فرض بحال، فعصبته عصبة أمه.

واستدلّ به على أن الولد المنفيّ باللعان لو كان بنتًا حلّ للملاعن نكاحها، وهو وجه

(1)

"فتح" 10/ 577.

ص: 155

شاذّ لبعض الشافعيّة، والأصحّ كقول الجمهور أنها تحرم؛ لأنها ربيبته في الجملة

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌46 - (بَابٌ إِذَا عَرَّضَ بِامْرَأَتِهِ، وَشَكَّ فِي وَلَدِهِ، وَأَرَادَ الانْتِفَاءَ مِنْهُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وقع في معظم نسخ "المجتبى" و"شكّت" بتاء التأنيث، وفي بعضها:"وسكت" من السكوت، والظاهر أن كليهما تصحيف، والصواب كما في بعض النسخ، و"السنن الكبرى":"وَشَكَّ". فتنبّه. وقال السنديّ: وقيل: يحتمل أن يكون من السكوت، أي لم يصرّح بما يوجب القذف انتهى. وفيه بعد لا يخفى.

وجواب "إذا" محذوف، أي لا يكون قذفًا، فلا يترتّب عليه لعان، ولا حدّ.

وقوله: "عرّض" بتشديد الراء، من التعريض، وهو ذكر شيء يفهم منه شيء آخر لم يُذكر، ويفارق الكناية بأنها ذكر شيء بغير لفظه الموضوع، يقوم مقامه.

قال في "الكوكب الساطع":

اللَّفْظُ إِنْ أُطْلِقَ فِي مَعْنَاهُ ثُمَّ

أُرِيدَ مِنْهُ لَازِمُ الْمَعْنَى فَسَمّ

كِنَايَةً وَهْوَ حَقِيقَة جَرَى

أَوْ لَمْ يُرَد مَعْنًى وَلَكِنْ عُبِّرًا

عَنْ لَازِمِ مِنْهُ بِمَلْزُومٍ فَذَا

يَجْرِي مَجَازًا فِي الَّذِي السُّبْكِي احْتَذَا

وَمَنْ يَقُلْ مَجَازٌ أَوْ حَقِيقَةُ

أَوْ لَا وَلَا كُلٌّ لدَيْهِ حُجَّةُ

وَإِنْ لِتَلْوِيحٍ سِوَاهُ قُصِدَا

تَعرِيضُهُمْ لَيْسَ مَجَازًا أَبَدَا

وقد ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" في "اللعان" بقوله: "بابٌ إذا عرّض بنفي الولد"، وفي "الحدود" بقوله:"باب ما جاء في التعريض".

قال في "الفتح": وكأنه أخذه من قوله في بعض طرقه: "يُعَرِّضُ بنفيه". وقد اعترضه

(1)

"فتح" 10/ 577 - 578. و"طرح التثريب" 7/ 116.

ص: 156

ابن المنيّر، فقال: ذكر ترجمة التعريض عقب ترجمة الإشارة؛ لاشتراكهما في إفهام المقصود، لكن كلامه يشعر بإلغاء حكم التعريض، فيتناقض مذهبه في الإشارة.

والجواب أن الإشارة المعتبرة هي التي لا يُفهم منها إلا المعنى المقصود، بخلاف التعريض، فإن الاحتمال فيه، إما راجح، وإما مساوٍ، فافترقا. قال الشافعيّ في "الأمّ": ظاهر قول الأعرابيّ أنه اتّهم امرأته، لكن لَمّا كان لقوله وجهٌ غير القذف، لم يحكم النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه بحكم القذف، فدلّ ذلك على أنه لا حدّ في التعريض. ومما يدلّ على أن التعريض لا يُعطَى حكم التصريح الإذن بخِطْبة المعتدّة بالتعريض، لا بالتصريح، فلا يجوز. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3505 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:«فَمَا أَلْوَانُهَا؟» ، قَالَ: حُمْرٌ،

قَالَ: «فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟» ، قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ:«فَأَنَّى تَرَى أَتَى ذَلِكَ؟» ، قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ» ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ المروزيّ المعروف بابن راهويه، ثقة ثبت إمام [10] 2/ 2.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة الثبت المكيّ [8] 1/ 1.

3 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت المدنيّ [4] 1/ 1.

4 -

(سعيد بن المسيّب) بن حَزْن المخزوميّ المدنيّ الإمام الحجة الفقيه، من كبار [3] 9/ 9.

5 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، وهو من أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فمروزيّ، ثم نيسابوريّ، وسفيان، فكوفيّ، ثم مكيّ.

(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن ابن المسيب من الفقهاء السبعة،

(1)

"فتح" 10/ 554 - 555.

ص: 157

وأبا هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) قال في "الفتح": كذا لأكثر أصحاب الزهريّ، وخالفهم يونس، فقال: عنه، عنَ أبي سلمة، عن أبي هريرة، وقد أخرجه البخاريّ في "كتاب الاعتصار" من طريق ابن وهب، عنه، وهو مصير من البخاريّ إلى أنه عند الزهريّ، عن سعيد، وأبي سلمة معًا، وقد وافقه مسلم على ذلك. ويؤيّده رواية يحيى بن الضحّاك، عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عنهما جميعًا. وقد أطلق الدارقطنيّ أن المحفوظ رواية مالك، ومن تابعه. وهو محمول على العمل بالترجيح، وأما طريق الجمع فهو ما صنعه البخاريّ، ويتأيّد أيضًا بأن عُقيلاً رواه عن الزهريّ، قال: بلغنا عن أبي هريرة، فإن ذلك يُشعر بأنه عنده عن غير واحد، وإلا لو كان عن واحد فقط، كسعيد مثلاً لاقتصر عليه انتهى

(1)

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي فَزَارَةَ) -بفتح الفاء، وبالزاي، وبعد الألف راء مهملة-. وفي رواية أبي مصعب:"جاء أعرابي". وفي رواية: "جاء رجلٌ من أهل البادية". واسم هذا الأعرابيّ ضمضم بن قتادة، أخرج حديثه عبد الغني بن سعيد في "المبهمات" له من طريق قطبة بنت عمرو بن هرم أن مدلوكًا حدّثها، أن ضمضم بن قتادة وُلد له مولود أسود، من امرأة من بني عجل، فشكا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"هل لك من إبل؟ "(أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية ابن أبي ذئب: "صرخ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ) قال الحافظ: لم أقف على اسم المرأة، ولا على اسم الغلام. وزاد في رواية يونس: "وإني أنكرته"، أي استنكرته بقلبي، ولم يُرد أنه أنكر كونه ابنه بلسانه، وإلا لكان تصريحًا بالنفي، لا تعريضًا، ووجه التعريض أنه قال: غلامًا أسود، أي وأنا أبيض، فكيف يكون منّي؟. ووقع في رواية معمر، عن الزهريّ التالية: "ويريد الانتفاء منه"، ولفظ مسلم: "وهو حينئذ يعرّض بأن ينفيه".

ويؤخذ منه أن التعريض بالقذف ليس قذفًا، وبه قال الجمهور. واستدلّ الشافعي بهذا الحديث لذلك. وعن المالكيّة يجب به الحدّ، إذا كان مفهومًا، وأجابوا عن الحديث بما سيأتي بيانه في آخر شرحه. وقال ابن دقيق العيد: في الاستدلال بالحديث نظر؛ لأن المستفتي لا يجب عليه حدّ، ولا تعزير. قال الحافظ: وفي هذا الإطلاق نظرٌ؛ لأنه قد يستفتي بلفظ لا يقتضي القذف، وبلفظ يقتضيه، فمن الأول أن يقول مثلاً: إذا كان زوج

(1)

"فتح"555.

ص: 158

المرأة أبيض، فأتت بولد أسود: ما الحكم؟، ومن الثاني أن يقول مثلاً: إن امرأتي أتت بولد أسود، وأنا أبيض، فيكون تعريضًا، أو يزيد فيه مثلاً: زنت، فيكون تصريحًا، والذي ورد في حديث الباب هو الثاني، فيتمّ الاستدلال. وقد نبّه الخطّابيّ على عكس هذا، فقال: لا يلزم الزوج إذا صرّح بأن الولد الذي وضعته امرأته ليس منه حدّ قذف؛ لجواز أن يريد أنها وُطئت بشبهة، أو وضعته من الزوج الذي قبله، إذا كان ذلك ممكنًا (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَمَا أَلْوَانُهَا؟، قَالَ) الرجل (حُمْرٌ) وفي رواية محمد بن مصعب، عن مالك، عند الدارقطنيّ:"رُمْك"، والأرمك الأبيض إلى حمرة (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَهَل فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ ") بوزن أحمر (قَالَ) الرجل (إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا) بضمّ الواو بوزن حُمْر، جمع أورق، وهو الذي فيه سواد، ليس بحالك، بل يميل إلى الغبرة، ومنه قيل للحمامة: ورقاء (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَأَنَّى) -بفتح الهمزة، وتشديد النون- بمعنى "من أين"(تَرَى أتى ذَلِكَ؟) أي من أين تظنّ أن ذلك اللون الذي خالفها حصل لها، هل هو بسبب فحل من غير لونها، طرأ عليها، أو لأمر آخر؟ (قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ) وفي رواية معمر التالية: "قال: فلم يُرخّص له في الانتفاء". وفي رواية شعيب الآتية: "فمن أجله قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذا لا يجوز لرجل أن ينتفي من ولد وُلد على فراشه، إلا أن يزعُم أنه رأى فاحشةً".

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: المراد بالعرق هنا الأصل من النسب؛ تشبيهًا بعرق الشجرة، ومنه قولهم: فلان مُعرقٌ في النسب، والحسب، وفي اللؤم، والكرم. ومعنى نزعه: أشبهه، واجتذبه إليه، وأظهر لونه عليه. وأصل النزع الجذب، فكأنه جذبه إليه لشبهه، يقال منه نزع الولد لأبيه، وإلى أبيه، ونزعه أبوه، ونزعه إليه انتهى

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "لعلّه نزعه عرقٌ". والمعنى يحتمل أن يكون في أصولها ما هو باللون المذكور، فاجتذبه إليه، فجاء على لونه انتهى

(2)

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ") أي كذلك يحتمل أن يكون نزع هذا الولد الأسود المخالف للونك أحد من كان بهذا اللون من أصوله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، د إليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

"شرح مسلم" 10/ 372.

(2)

"فتح" 10/ 556.

ص: 159

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-46/ 3505 و 3506 و 3507 - وفي "الكبرى" 46/ 5672 و 5673 و 5674. وأخرجه (خ) في "الطلاق" 5305 و"الحدود" 6847 و"الاعتصام بالكتاب والسنة" 7314 (م) في "اللعان" 1500 (د) في "الطلاق" 2260 (ت) في "الولاء والهبة" 2128 (ق) في "النكاح" 2002 (أحمد) في "مسند المكثرين" 7149 و 7223 و 7702 و 9043. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم التعريض بالقذف، وهو أنه لا يُوجب حكم القذف، حتى يقع التصريح، وبه قال أبو حنيفة، والشافعيّ، وآخرون. وذهب المالكيّة إلى وجوب الحدّ بالتعريض، إذا كان مفهومًا. قاله وليّ الدين

(1)

.

وقال في "الفتح" بعد ذكره مخالفة المالكيّة في ذلك: ما نصّه: وأجاب بعض المالكيّة أن التعريض الذي يجب به القذف عندهم هو ما يفهم منه القذف، كما يُفهم من التصريح، وهذا الحديث لا حجة فيه لدفع ذلك، فإن الرجل لم يُرد قذفًا، بل جاء سائلاً، مستفتيًا عن الحكم لما وقع له من الريبة، فلما ضرب له المثل أذعن. وقال المهلّب: التعريض إذا كان على سبيل السؤال لا حد فيه، وإنما يجب الحدّ في التعريض إذا كان على سبيل المواجهة، والمشاتمة. وقال ابن المنيّر: الفرق بين الزوج والأجنبيّ في التعريض أن الأجنبيّ يقصد الأذيّة المحضة، والزوج قد يُعذر بالنسبة إلى صيانة النسب. انتهى

(2)

.

وقال ابن دقيق العيد بعد ذكره أن فيه ما يُشعر بأن التعريض بنفي الولد لا يوجب حدًّا: كذا قيل، وفيه نظر؛ لانتفاء الحدّ، أو التعزير عن المستفتين انتهى

(3)

.

(ومنها): أن فيه ضرب المثل، وتشبيه المجهول بالمعلوم؛ تقريبًا لفهم السائل.

(ومنها): أنه يدلّ على صحّة القياس. قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وهو أصل في قياس الشَّبَهِ. وقال ابن العربيّ: فيه دليلٌ على صحّة القياس، والاعتبار بالنظير. وتوقّف فيه ابن دقيق العيد، فقال: هو تشبيه في أمر وجوديّ، والنزاع إنما هو في التشبيه في

(1)

"طرح السريب" 7/ 119.

(2)

"فتح" 10/ 557.

(3)

"طرح التثريب" 7/ 119.

ص: 160

الأحكام الشرعيّة من طريق واحد قويّة. (ومنها): أن فيه أن الزوج لا يجوز له الانتفاء من ولده بمجرّد الظنّ، وأن الولد يلحق به، ولو خالف لونه لون أمّه. وقال القرطبيّ، تبعًا لابن رُشيد: لا خلاف في أنه لا يحلّ نفي الولد باختلاف الألوان المتقاربة، كالأُدْمة، والسُّمْرة، ولا في البياض، والسواد، إذا كان قد أقرّ بالوطء، ولم تمض مدّة الاستبراء.

قال الحافظ: وكأنه أراد في مذهبه، وإلا فالخلاف ثابت عند الشافعيّة بتفصيل، فقالوا: إن لم ينضمّ إليه قرينة زنا لم يجز النفي، فإن اتّهمها، فأتت بولد على لون الرجل الذي اتّهمها به جاز النفي على الصحيح. وفي حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - المتقدّم في اللعان ما يقويّه. وعند الحنابلة يجوز النفي مع القرينة مطلقًا. والخلاف إنما هو عند عدمها، وهو عكس ترتيب الخلاف عند الشافعيّة. انتهى

(1)

.

(ومنها): أن فيه تقديم حكم الفراش على ما يُشعر به مخالفة الشبَه، (ومنها): أن فيه

الاحتياط للأنساب، وإبقائها مع الإمكان، والزجر عن تحقيق ظنّ السوء.

(ومنها): ما قال الخطّابيّ: أن قوله: ليس منّي ليس قذفًا لأمه بمجرّد ذلك؛ لجواز كونه لغيره بوطء شبهة، أو من زوج متقدّم انتهى. وفيه أن هذا الرجل لم يصدر منه أنه قال: ليس منّي، وإنما عرّض بذلك، كما تقدّم

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3506 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، وَهُوَ يُرِيدُ الاِنْتِفَاءَ مِنْهُ، فَقَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «مَا أَلْوَانُهَا؟» ، قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟» ، قَالَ: فِيهَا ذَوْدٌ وُرْقٌ، قَالَ: «فَمَا ذَاكَ تُرَى؟» ، قَالَ: لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ نَزَعَهَا عِرْقٌ، قَالَ: فَلَعَلَّ هَذَا أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: فَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الاِنْتِفَاءِ مِنْهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"محمد بن عبد اللَّه بن بَزِيع" -بفتح الباء الموحّدة، وكسر الزاي المعجمة، آخره عين مهملة- بصريّ، ثقة [10] 43/ 588. و"يزيد بن زُريع" -بتقديم الزاي، مصغّرًا، أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5. "ومعمر" هو: ابن راشد أبو عروة اليمنيّ الثقة الثبت [7]

(1)

"فتح" 10/ 556 - 557.

(2)

"طرح التثريب" 7/ 121.

ص: 161

وقوله: "ذود ورق" -بفتح الذال المعجمة، وسكون الواو، آخره قال مهملة-: قال ابن الأنباريّ: سمعت أبا العبّاس يقول: ما بين الثلاث إلى العشر ذَوْدٌ، وكذا قال الفارابيّ. والذود مؤنّثةٌ؛ لأنهم قالوا: ليس في أقلّ من خمس ذود صدقة، والجمع أذوادٌ، مثلُ ثوب وأثواب. وقال في البارع: الذود لا يكون إلا إناثًا. قاله الفيّوميّ.

وقوله: "وُرْق" -بضمّ، فسكون-: جمع أروق، وهو مرفوع صفة لذود. وضُبط في النسخ المطبوعة ضبط قلم بالجرّ، فإن صحّت الرواية به فله وجهٌ على قلّة، وهو أن يضاف إليه "ذودٌ"، من إضافة الموصوف إلى الصفة، كمسجد الجامع، كما قال في "الخلاصة":

وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ

مَعْنًى وَأَوِّلْ مُوهِمًا إِذَا وَرَدْ

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3507 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَيْوَةَ، حِمْصِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَامَ رَجُلٌ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي وُلِدَ لِي غُلَامٌ أَسْوَدُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَأَنَّى كَانَ ذَلِكَ؟» ، قَالَ: مَا أَدْرِي، قَالَ: «فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَمَا أَلْوَانُهَا؟» ، قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: «فَهَلْ فِيهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ» ، قَالَ: "فِيهَا إِبِلٌ وُرْقٌ"، قَالَ: «فَأَنَّى كَانَ ذَلِكَ؟» ، قَالَ: مَا أَدْرِي يَا رَسُولَ اللهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: «وَهَذَا لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ» ، فَمِنْ أَجْلِهِ قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا لَا يَجُوزُ لِرَجُلٍ أَنْ يَنْتَفِىَ مِنْ وَلَدٍ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، إِلاَّ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُ رَأَى فَاحِشَةً").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، "أحمد بن محمد بن المغيرة": هو الأزديّ الحمصيّ، صدوقٌ [11] 65/ 85 فإنه من أفراده. و"أبو حيوة": هو شريح بن يزيد الحضرميّ المؤذّن الحمصيّ، ثقة [9] 16/ 896.

و"شعيب بن أبي حمزة" دينار الأمويّ مولاهم، أبو بشر الحمصيّ، ثقة ثبتٌ [7] 69/ 85.

وقوله: "فمن أجله" الظاهر أنه من كلام أبي هريرة رضي الله عنه. أي من أجل سؤال هذا الرجل عن قضيّة لا بيّنة فيها، ولا حجة تثبتها، قضى صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز لشخص أن ينتفي من ولد ولدته امرأته، وهي تحته، إلا إذا أثبت أنه رآها تزني، فيجوز له عند ذلك أن يلاعنها، ويفارقها، وينتفي من ولدها.

ص: 162

وقوله: "هذا" الظاهر أن اسم الإشارة منصوب بنزع الخافض، متعلّقٌ بـ "قضى"، أي قضى بهذا الحكم، وقوله:"لا يجوز لرجل الخ" بيان لمرجع اسم الإشارة.

والحديث متّفقٌ عليه. كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌47 - (بَابُ التَّغْلِيظِ فِي الانْتِفَاءِ مِنَ الْوَلَدِ)

3508 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ -حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُلَاعَنَةِ-: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ رَجُلاً، لَيْسَ مِنْهُمْ، فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَلَا يُدْخِلُهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، احْتَجَبَ اللَّهُ عز وجل مِنْهُ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ) بن أعين المصريّ، ثقة فقيه [11] 120/ 166.

2 -

(شعيب) بن الليث بن سعد الفهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقة نبيل فقيه، من كبار [10] 120/ 166.

3 -

(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم، والد شعيب الراوي عنه، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت فقيه حجة [7] 31/ 35.

4 -

(ابن الهاد) هو يزيد بن عبد اللَّه بن أسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة مكثر [3] 7/ 90.

5 -

(عبد اللَّه بن يونس) حجازيّ، مجهول الحال [6].

روى عن سعيد المقبريّ، ومحمد بن كعب القرظيّ. وعنه يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد. ذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكر عبد الحقّ أنه لا يعرف إلا بهذا الحديث.

ص: 163

وقال ابن القطّان: مجهول الحال. تفرّد به المصنّف، وأبو داود بهذا الحديث فقط.

6 -

(سعيد بن أبي سعيد) كيسان المقبريّ، أبو سَعْد المدنيّ، ثقة تغيّر قبل موته بأربع سنين [3] 95/ 117.

7 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ- حِينَ نَزَلَث آيَةُ الْمُلَاعَنَةِ) أي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الآية (أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ رَجُلاً، لَيْسَ مِنْهُمْ) أي بالنسب الباطل، وذلك أن تزني، فتدد ولدًا، وتقول: هو لزوجها (فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) أي ليست من دين اللَّه تعالى، أو من رحمته في شيء يُعتدّ به، وهذا تغليظ لفعلها (وَلَا يُدْخِلُهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ) أي لا تستحقّ أن يدخلها اللَّه تعالى جنته، وهذا وأمثاله يؤول بتأولين: أحدهما أنه فيمن استحلّت ذلك، فيكون على ظاهره، وأنها لا تدخل الجنّة أبدًا؛ لارتدادها باستحلال ما حرّم اللَّه تعالى، مع علمها بتحريمه. والثاني: أن المراد أنها لا تدخل مع الأولين، بل إنما تدخل بعد أن تعذّب. واللَّه تعالى أعلم (وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ) أي اْنكره، ونفاه (وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ) أي ينظر الرجل إلى ولده، وهو كناية عن العلم بأنه ولده، أو المعنى ينظر الولد إلى الرجل، فهو تقبيحٌ لفعله، وإشارة إلى قلّة شفقته، ورحمته، وشدّة قساوة قلبه، وغلظته (احْتَجَبَ اللَّهُ عز وجل مِنْهُ) أي فيكون ممن قال اللَّه تعالى فيهم:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} إن كان مستحلاًّ لذلك، وإلا فيكون احتجابًا مأقّتًا، والحاصل أنه يأتي فيه التأويلان المذكوران آنفًا (وَفَضَحَهُ) - بفتح الضاد المعجمة، والحاء المهملة- يقال: فضَحَه، كمنعه: كَشَفَ مَساويه، فافْتَضَحَ، والاسم الفضيحة، والفُضُوح، والفُضُوحة، بضمهما، والفَضَاحة، بالفتح، والفِضَاح بالكسر. قاله في "القاموس"(عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ) واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صححه الحاكم في "المستدرك" جـ2/ ص 202 - 203 - وقال: على شرط مسلم، قال في "التلخيص الحبير": وصححه

ص: 164

الدارقطنيّ في "العلل"، مع اعترافه بتفرّد عبد اللَّه بن يونس به، عن سعيد المقبريّ، وأنه لا يعرف إلا بهذا الحديث انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أما تصحيح الحاكم، وقوله على شرط مسلم، فتساهل ظاهر؛ فإن عبد اللَّه بن يونس ليس من رجال مسلم، وأما تصحيح الدارقطنيّ، ففيه نظر لا يخفى؛ لأن عبد اللَّه بن يونس مجهول، كما تقدّم في ترجمته، وقد تفرّد بروايته عن سعيد المقبريّ.

وقال في "التلخيص": وفي الباب عن ابن عمر، في "مسند البزّار"، وفيه إبراهيم بن سعيد

(1)

الْخُوزيّ، وهو ضعيف. انتهى.

والحاصل أن الظاهر ضعفُ حديثِ الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-47/ 3508 - وفي "الكبرى" 46/ 5674. وأخرجه (د) في "الطلاق" 3263 (الدارمي) في "النكاح" 2238. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌48 - (بَابُ إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْفِرَاشِ، إِذَا لَمْ يَنْفِهِ صَاحِبُ الْفِرَاشِ)

3509 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»).

رجال هذا الإسناد: ستة، وقد ترجموا قبل باب، وكلهم رجال الصحيح.

و"سفيان": هو ابن عيينة. و"سعيد": هو ابن المسيّب، و"أبو سلمة": هو ابن عبد الرحمن بن عوف. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا في "التلخيص" بلفظ "ابن سعيد"، ولعله محرّفٌ من "ابن يزيد" الخوزيّ المتروك، فليُحرّر. واللَّه تعالى أعلم ..

ص: 165

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْوَلَدُ لِلفِرَاشِ") قال في "النهاية": أي لمالك الفراش، وهو الزوج، والمولى، والمرأة تسمّى فراشًا؛ لأن الرجل يفترشها انتهى (وَللْعَاهِرِ) أي الزاني (الْحَجَرُ) أي الحرمان. وقيل: كنى به عن الرجم، وفيه أنه ليس كلُّ زان يُرجم، وقد يقال في صدق هذا الكلام ثبوت الرجم له أحيانًا. وتمام شرح الحديث يأتي في الحديث الثالث من أحاديث الباب، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-48/ 3509/ و3510 - وفي "الكبرى" 48/ 5676 و 5677. وأخرجه (خ) في "الفرائض". 6750 و"الحدود" 6818 (م) في "الرضاع" 1458 (ت) في "الرضاع" 1157 (ق) في "النكاح" 2006 (أحمد) في "مسند المكثرين" 7221 و7705 و8777 و 9047 و 9692 و 9797 و 10013 (الدارمي) في "النكاح"2235. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3510 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"إسحاق بن إبرهيم": هو ابن راهويه. و"عبد الرزاق": هو ابن همّام الصنعانيّ. و"معمر": هو ابن راشد الصنعاني. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق البحث فيه في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3511 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتِ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فِي غُلَامٍ، فَقَالَ: سَعْدٌ: هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ أَخِي، عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَهِدَ إِلَيَّ، أَنَّهُ ابْنُهُ، انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي، مِنْ وَلِيدَتِهِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى شَبَهِهِ،

ص: 166

فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ:«هُوَ لَكَ، يَا عَبْدُ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِى مِنْهُ، يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ» ، فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد الإمام المصريّ الثقة الثبت الحجة [7] 31/ 35.

3 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ المدنيّ الإمام الحجة الحافظ [4] 1/ 1.

4 -

(عروة) بن الزبير بن العوّام الأسديّ المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.

5 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، والليث، فمصريان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُرْوَةَ) وفي رواية شعيب، عن الزهريّ عند البخاريّ في "العتق":"حدّثني عروة"، وكذا وقع في رواية عبد اللَّه بن مسلمة، عن مالك، في "المغازي"، لكن أخرجه في "الوصايا" بلفظ:"عن عروة". قاله في "الفتح"(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتِ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق، أحد العشرة، وأول من رمى بسهم في سبيل اللَّه عز وجل، مناقبه كثيرة، مات رضي الله عنه بالعقيق، سنة (55هـ) على المشهور، وهو آخر من مات من العشرة المبشرين بالجنّة رضي الله عنهم، تقدّمت ترجمته في 96/ 1021 (وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ) بغير إضافة "عبد". ووقع في "مختصر ابن الحاجب""عبد اللَّه"، وهو غلطٌ، نعم عبد اللَّه بن زمعة آخر. وفي بعض الطرق من غير رواية عائشة عند الطحاويّ في هذا الحديث عبد اللَّه بن زمعة. ونبّه على أنه غلطٌ، وأن عبد اللَّه بن زمعة هو ابن الأسود بن عبد المطّلب بن أسد بن عبد العزّى.

و"زمعة": -بفتح الزاي، وسكون الميم، وقد تحُرّك- قال النوويّ: التسكين أشهر.

وقال أبو الوليد الوقشيّ: التحريك هو الصواب. قال الحافظ: والجاري على ألسنة المحدّثين التسكين في الاسم، والتحريك في النسبة. وهو ابن قيس بن عبد شمس

ص: 167

القرشيّ العامريّ، والد سودة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها.

وعبد بن زمعة قال ابن عبد البرّ: كان من سادات الصحابة، وأخوه لأمه قَرَظَة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، أمهما عاتكة بنت الأخيف -بخاء معجمة، بعدها مثنّاة تحتانيّة- من بني هُصيص بن عامر بن لؤيّ. وأخرج ابن أبي عاصم بسند حسن إلى يحيى ابن عبد الرحمن بن حاطب، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت: تزوّج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة، فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحجّ، فجعل يحثو من التراب على رأسه، فقال بعد أن أسلم: إنّي لسفيهٌ يوم أحثو التراب على رأسي أن تزوّج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لي سودة. قاله في "الإصابة"

(1)

.

(فِي غُلَامٍ) هو الابن الصغير، وجمع القلّة منه غِلْمة بالكسر، وجمع الكثرة غِلمانٌ، ويُطلق الغلام على الرجل، مجازًا باسم ما كان عليه، كما يقال للصغير شيخٌ، مجازًا باسم ما يئول إليه، وجاء في الشعر غلامةٌ، بالهاء، للجارية، قال أوس بن غلفاء الْهُجَيميّ، يصف فرسًا [من الكامل]:

وَمُرْكِضَةٌ صَرِيحِيٌّ أَبُوهَا

يُهَانُ لَهَا الْغُلَامَةُ وَالْغُلَامُ

قال الأزهريّ: وسمعت العرب تقول للمولود حين يولد ذكرًا: غُلامٌ، وسمعتهم يقولون للكهل: غُلام، وهو فاشٍ في كلامهم

(2)

.

واسم الغلام المذكور: عبد الرحمن، وذكره ابن عبد البرّ في الصحابة وغيره، وقد أعقب بالمدينة. قاله في "الفتح".

وقال في "الإصابة": وقال ابن عبد البرّ: لم يختلف النسّابون أن اسم ابن الوليدة، صاحب القصّة عبد الرحمن. قال الحافظ: خبط ابن منده، وتبعه أبو نُعيم في نسبه، فجعله من بني أسد بن عبد العزّى، وليس كذلك، ووهم ابن قانع، فجعله هو الذي خاصم سعدَ بنَ أبي وقّاص، وكأنه انقلب عليه، فإنه المخاصَمُ فيه، لا المخاصِمُ، والمخاصِمُ عبدٌ بغير إضافة، بلا نزاع انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": وقد وقع لابن منده خبطٌ في ترجمة عبد الرحمن بن زمعة، فإنه زعم أن عبد الرحمن، وعبد اللَّه، وعبدًا إخوة ثلاة، أولاد زمعة بن الأسود، وليس كذلك، بل عبدٌ بغير إضافة، وعبد الرحمن أخوان، عامريان، من قريش، وعبد اللَّه بن

(1)

راجع "الإصابة" 6/ 341 - 342.

(2)

راجع "المصباح المنير".

(3)

"الإصابة" 7/ 215.

ص: 168

زمعة قرشي أسديّ، من قريش أيضًا انتهى

(1)

.

(فَقَالَ: سَعْدٌ) ابن أبي وقّاص - رضي اللَّه تعالى عنه - (هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِي، عُتْبَةَ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ)"عتبة" بدل من "أخي"، وهو أخو سعد المذكور، مختلفٌ في صحبته، فذكره في الصحابة العسكريّ، وذكر ما نقله الزبير بن بكّار في النسب أنه كان أصاب دمًا بمكّة في قريش، فانتقل إلى المدينة، ولَمّا مات أوصى إلى سعد. وذكره ابن منده في الصحابة، ولم يذكر مستندًا إلا قول سعد:"عهد إليّ أخي أنه ولده"، واستنكر أبو نعيم ذلك. وذكر أنه الذي شجّ وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأحد، قال: وما علمت له إسلامًا، بل قد روى عبد الرزاق من طريق عثمان الجزريّ، عن مقسم:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا بأن لا يحول على عتبة الحول حتى يموت كافرًا، فمات قبل الحول". وهذا مرسل. وأخرجه من وجه آخر عن سعيد بن المسيّب بنحوه. وأخرج الحاكم في "المستدرك" من طريق صفوان بن سُليم، عن أنس أنه سمع حاطب بن أبي بلتعة، يقول:"إن عتبة لَمّا فعل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ما فعل، تبعته، فقتلته". كذا قال. وجزم ابن التين، والدمياطيّ بأنه مات كافرًا.

وأم عتبة هند بنت وهب بن الحارث بن زُهرة، وأم أخيه سعد حمنة بنت سفيان بن أميّة. قاله في "الفتح"

(2)

(عَهِدَ إِلَيَّ) أي أوصى إلَيَّ. يقال: عَهِدَ إليه يَعْهَدُ، من باب تَعِبَ: إذا أوصاه. قاله الفيّوميّ (أنَّهُ ابْنُهُ، انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ) أي إلى مماثلته لعتبة. قال في "القاموس": الشِّبْهُ بالكسر، والتحريك، وكأمير: المثل، ، جمعه أشباه انتهى.

وفي رواية البخاريّ في "الفرائض": "فلما كان عام الفتح أخذه سعد، فقال: ابن أخي. وفي رواية له في "المغازي": "فلما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكّة في الفتح". وفي رواية لأحمد، وهي لمسلم، ولم يسق لفظها: "فلما كان يوم الفتح رأى سعدٌ الغلامَ، فعرفه بالشبه، فاحتضنه، وقال ابن أخي، وربّ الكعبة" (وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي، وُلِدَ) بالبناء للمفعول (عَلَى فِرَاشِ أَبِي) زاد في رواية:"من جاريته"(مِنْ وَلِيدَتِهِ) الوليدة في الأصل المولودة، وتُطلق على الأمة، قال الحافظ: وهذه الوليدة لم أقف على اسمها لكن ذكر مصعب الزبيريّ، وابن أخيه الزبير في "نسب قريش" أنها كانت أمة يمانية. والوليدة فَعِيلة من الولادة، بمعنى مفعولة. قال الجوهريّ: هي الصبيّة،

(1)

"الإصابة" 7/ 521.

(2)

"فتح" 13/ 520 - 521.

ص: 169

والأمة، والجمع ولائد. وقيل: إنها اسم لغير أم الولد.

(فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى شَبَهِهِ، فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ) وفي رواية: "فإذا هو أشبه الناس بعتبة بن أبي وقّاص".

قال الخطّابيّ، وتبعه عياضٌ، والقرطبي، وغيرهما: كان أهل الجاهليّة يقتنون الو لائد، ويقرّرون عليهنّ الضرائب، فيكتسبن بالفجور، وكانوا يُلحقون النسب بالزناة، إذا ادّعوا الولد، كما في النكاح، وكانت لزمعة أمةٌ، وكان يُلمّ بها، فظهر بها حملٌ، زعم عتبة بن أبي وقّاص أنه منه، وعهد إلى أخيه سعد أن يستلحقه، فخاصم فيه عبد بن زمعة، فقال له سعد: هو ابن أخي، على ما كان عليه الأمر في الجاهليّة، وقال عبد الرحمن: هو أخي، على ما استقرّ عليه الأمر في الإسلام، فأبطل النبيّ صلى الله عليه وسلم حكم الجاهليّة، وألحقه بزمعة. وأبدل عياضٌ قوله: إذا ادّعوا الولد بقوله: إذا اعترفت به الأمّ وبنى عليهما القرطبيّ، فقال: ولم يكن حصل إلحاقه بعتبة في الجاهليّة، إما لعدم الدعوى، وإما لكون الأمّ لم تعترف به لعتبة.

قال الحافظ: وقد مضى في "النكاح"

(1)

من حديث عائشة ما يؤيّد أنهم كانوا يعتبرون استلحاق الأمّ في صورة، وإلحاق القائف في صورة، ولفظها: "إن النكاح في الجاهليّة كان على أربعة أنحاء

" الحديث، وفيه: "يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يُصيبها، فإذا حملت، ووضعت، ومضت ليالٍ، أرسلت إليهم،

(1)

هو ما أخرجه البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه":

5127 -

وحدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عنبسة، حدثنا يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته أن النكاح في الجاهلية، كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته، أو ابنته، فيُصدقها، ثم ينكحها. ونكاح آخر، كان الرجل يقول لامرأته: إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان، فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها، ولا يمسها أبدا، حتى يتبيّن حملها من ذلك الرجل، الذي تستبضع منه، فإذا تبيّن حملها، أصابها زوجها، إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح، نكاح الاستبضاع. ونكاح آخر، يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت، ووضعت، ومَرَّ عليها ليال، بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به

الرجل. ونكاح رابع، يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة، لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا، كُن ينصبن عليّ أبوابهن رايات، تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن، ووضعت حملها، جُمِعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به، ودُعي ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلما بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم بالحق، هدم نكاح الجاهليّة كله، إلا نكاح الناس اليوم.

ص: 170

فاجتمعوا عندها، فقالت: قد ولدت فهو ابنك يا فلان، فيُلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع

"، إلى أن قالت: "ونكاح البغايا، كنّ يَنصبن عليّ أبوابهنّ رايات، فمن أرادهنّ، دخل عليهنّ، فإذا حملت إحداهنّ، فوضعت، جُمِعوا لها، ودعوا القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرى القائف، لا يمتنع من ذلك انتهى.

واللائق بقصّة أمة زمعة الأخير، فلعلّ جمع القافة لهذا الولد تعذر بوجه من الوجوه، أو أنها لم تكن بصفة البغايا، بل أصابها عتبة سرًّا من زنا، وهما كافران، فحملت، وولدت ولدًا يُشبهه، فغلب على ظنّه أنه منه، فبغته الموت قبل استلحاقه، فأوصى أخاه أن يسلتحقه، فعمد سعد بعد ذلك، تمسّكا بالبراءة الأصليّة.

قال القرطبيّ: وكان عبد بن زمعة سمع أن الشرع ورد بأن الولد للفراش، وإلا فلم يكن عادتهم الإلحاق به. كذا قال، قال الحافظ: ولا أدري من أين له هذا الجزم بالنفي، وكأنه بناه على ما قاله الخطّابيّ: من أن أمة زمعة كانت من البغايا اللاتي عليهن من الضرائب، فكان الإلحاق مختصًّا باستلحاقها على ما ذكر، أو بإلحاق القائف على ما في حديث عائشة، لكن لم يذكر الخطّابيّ مستندًا لذلك، والذي يظهر من سياق القصّة ما قدّمته أنها كانت أمةً، مستفرشةً لزمعة، فاتّفق أن عتبة زنى بها، كما تقدّم، وكانت طريقة الجاهليّة في مثل ذلك أن السيّد إن استلحقه لحقه، وإن نفاه انتفى عنه، وإذا ادّعاه غيره كان مردّ ذلك إلى السيّد، أو القافة. وقد وقع في حديث ابن الزبير الذي أسوقه بعد هذا ما يؤيّد ما قلته.

وأما قوله: إن عبد بن زمعة سمع أن الشرع الخ، ففيه نظر؛ لأنه يبعد أن يسمع ذلك عبد بن زمعة، وهو بمكة لم يُسلم بعدُ، ولا يسمعه سعد بن أبي وقّاص، وهو من السابقين الأوّلين الملازمين لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من حين إسلامه إلى حين فتح مكة نحو العشرين سنة، حتى ولو قلنا: إن الشرع لم يرد بذلك، إلا في زمن الفتح، فبلوغه لعبد قبل سعد بعيدٌ أيضًا. والذي يظهر لي أن شرعيّة ذلك إنما عُرفت من قوله صلى الله عليه وسلم في هذه القصّة:"الولد للفراش"، وإلا فما كان سعد لو سبق علمه بذلك ليَدَعَه، بل الذي يظهر أن كُلاًّ من سعد، وعتبة بنى على البراءة الأصليّة، وأن مثل هذا الولد يقبل النزاع.

وقد أخرج أبو داود تلو حديث الباب بسند حسن إلى عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: قام رجلٌ، فقال: يا رسول اللَّه، إن فلانًا عاهرت بأمه في الجاهليّة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهليّة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر". وقد وقع في بعض طرقه أن ذلك وقع زمن الفتح، وهو يؤيّد ما قلته.

ص: 171

انتهى كلام الحافظ

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (هُوَ لَكَ، يَا عَبْدُ) وفي لفظ للبخاريّ: "هو لك يا عبد بن زمعة" يجوز في "عبد" الضمّ، على أنه منادى مفرد علم، والفتح؛ اتباعًا لما بعده، وأما "ابن" فهو واجب النصب على الحالين؛ لكونه مضافًا، وقد أشار ابن مالك -رحمه اللَّه تعالى- إلى هذا في "خلاصته"، حيث قال:

وَنَحْوَ زَيْدٍ ضُمَّ وَافْتَحَنَّ مِنْ

نَحْوِ أَزَيْدُ ابْنَ سَعِيدٍ لَا تَهِنْ

وَالضَّمُّ إِنْ لَمْ يَلِ الابْنُ عَلَمَا

أَوْ يَلِ الابْنَ عَلَمٌ قَدْ حُتِمَا

قال في "الفتح": ووقع في رواية للنسائيّ

(2)

: "وهو لك عبد بن زمعة" بحذف حرف النداء، وقرأه بعض المخالفين بالتنوين، وهو مردود، فقد وقع في رواية يونس المعلّقة في "المغازي":"هو لك، هو أخوك يا عبد"، ووقع لمسدّد، عن ابن عيينة، عند أبي داود:"هو أخوك يا عبد".

(الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) أي لصاحب الفراش، وهو الزوج، أو السيّد (وَلِلعَاهِرِ الْحَجَرُ) أي للزاني الخيبة، والحرمان، والعهر -بفتحتين-: الزنا. وقيل: يختصّ بالليل. ومعنى الخيبة هنا حرمان الولد الذي يدّعيه، وجرت عادة العرب أن تقول لمن خاب: له الحجر، وبفيه الحجر والتراب، ونحو ذلك. وقيل: المراد بالحجر هنا أنه يُرجم. قال النوويّ: وهو ضعيف؛ لأن الرجم مختصّ بالمحصن، ولأنه لا يلزم من رجمه نفي الولد، والخبر إنما سيق لنفي الولد. وقال السبكيّ: والأول أشبه بمساق الحديث؛ لتعمّ الخيبة كلّ زان، ودليل الرجم مأخوذ من موضع آخر، فلا حاجة للتخصيص من غير دليل.

قال الحافظ: ويؤيّد الأول أيضًا ما أخرجه أبو أحمد الحاكم من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، رفعه:"الولد للفراش، وفي فم العاهر الحجر". وفي حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - عند ابن حبّان: "الولد للفراش، وبفي العاهر الأثلب" -بفتح الهمزة، وكسرها، وإسكان المثلّثة، بعدها باءٌ موحّدة، بينهما لام، ويُفتح أوله، وثالثه، ويُكسران- قيل: هو الحجر. وقيل: دقاقه. وقيل: التراب.

(وَاحْتَجِبِي مِنْهُ، يَا سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ) زاد في حديث ابن الزبير الآتي: "فليس لك بأخٍ"، وسيأتي الكلام عليها قريبًا (فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ) وفي لفظ:"فلم تره سودة قط".

(1)

"فتح" 13/ 521 - 523. "كتاب الفرائض".

(2)

لم أره بهذا اللفظ عند النسائيّ، لا في "المجتبى"، ولا في "الكبرى". واللَّه تعالى أعلم.

ص: 172

يعني في المدّة التي بين هذا القول، وبين موت أحدهما. وفي رواية معمر: قالت عائشة: "فواللَّه ما رآها حتى ماتت". وللبخاريّ في رواية الكشميهني: "فلم تره سودة بعدُ". قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وهذه إذا ضُمّت إلى رواية مالك ومعمر استُفيد منها أنها امتثلت الأمر، وبالغت في الاحتجاب منه". حتى إنها لم تره فضلاً عن أن يراها؛ لأنه ليس في الأمر المذكور دلالة على منعها من رؤيته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنفه له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-48/ 3511 و 49/ 3514 - وفي "الكبرى" 48/ 6578 و 49/ 5681. وأخرجه (خ) في "البيوع" 2053 و 2218 و"الخصومات" 2421) و"العتق" 2533 و"الوصايا" 2745 و"المغازي" 4303 و"الفرائض" 6749 و"الحدود" 6817 و"الأحكام" 7182 (م) في "الرضاع" 1457 (د) في "الطلاق" 2273 (ق) في "النكاح " 2004 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 2356 و2445 و 25366 و25470 و 25562 (الموطأ) في "الأقضية" 1449 (الدارمي) في "النكاح" 2236 و2237. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: حديث: "الولد للفراش" قال ابن عبد البرّ هو من أصحّ ما يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم جاء عن بضعة وعشرين نفسًا من الصحابة، فذكره البخاريّ في هذا الباب عن أبي هريرة، وعائشة. وأخرجه النسائيّ من حديث أبي هريرة، وعائشة، وعبد اللَّه بن الزبير، وعبد اللَّه بن مسعود. وقال الترمذيّ -عقب حديث أبي هريرة-: وفي الباب عن عمر، وعثمان، وعبد اللَّه بن مسعود، وعبد اللَّه بن الزبير، وعبد اللَّه عمرو، وأبي أُمامة، وعمرو بن خارجة، والبراء، وزيد بن أرقم.

وزاد الحافظ العراقيّ عليه: معاوية، وابن عمر. وزاد أبو القاسم بن منده في "تذكرته" معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، وعليّ بن أبي طالب، والحسين ابن عدي، وعبد اللَّه بن حُذافة، وسعد بن أبي وقّاص، وسودة بنت زمعة.

قال الحافظ: ووقع لي من حديث ابن عبّاس، وأبي مسعود البدريّ، وواثلة بن الأسقع، وزينب بنت جحش. وقد رقّمت عليها علامات من أخرجها من الأئمّة، فـ "طب" علامة الطبرانيّ في "الكبير"، و"طس" علامته في "الأوسط"، و"بز" علامة

ص: 173

البزار، و"ص" علامة أبي يعلى الموصليّ، و"تم" علامة تمام في "فوائده"

(1)

.

وجميع هؤلاء وقع عندهم: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر"، ومنهم من اقتصر على الجملة الأولى. وفي حديث عثمان قصّة، وكذا عليّ. وفي حديث معاوية قصّة أخرى له مع نصر بن حجّاج، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فقال له نصر: فأين قضاؤك في زياد؟، فقال: قضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خير من قضاء معاوية. وفي حديث أبي أمامة، وابن مسعود، وعبادة أحكام أخرى. وفي حديث عبد اللَّه بن حُذافة قصّة له في سؤاله عن اسم أبيه. وفي حديث ابن الزبير قصْة نحو قصّة عائشة باختصار، وقد أشرت إليه. وفي حديث سودة نحوه، ولم تُسَمَّ في رواية أحمد، بل قال:"عن بنت زمعة". وفي حديث زينب قصّة، ولم يُسَمَّ أبوها، بل فيه:"عن زينب الأسديّة".

وجاء من مرسل عُبيد بن عمير، وهو أحد كبار التابعين، أخرجه ابن عبد البرّ بسند صحيح إليه

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان أن الولد يُلحق بالفراش، إذا لم ينفه صاحب الفراش. (ومنها): أن الوصيّ يجوز له أن يستلحق ولد موصيه، إذا أوصى إليه بأن يستلحقه، ويكون كالوكيل عنه في ذلك. (ومنها): أن الأمة تصير فراشًا بالوطء، إذا اعترف السيّد بذلك، أو ثبت ذلك بأي طريق كان. (ومنها): أنه استُدلّ به على أن القائف إنما يُعتمَد في الشبه إذا لم يُعارضه ما هو أقوى منه؛ لأن الشارع لم يدتفت هنا إلى الشبه، والتفت إليه في قصّة زيد بن حارثة - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وكذا لم يحكم بالشبه في قصّة الملاعنة؛ لأنه عارضه حكم أقوى منه، وهو مشروعيّة اللعان. (ومنها): أن عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش" مخصوص بمشروعية اللعان، وخالف فيه الشعبيّ، وبعض المالكيّة، وهو شاذٌّ. ونقل عن الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- أنه قال: لقوله: "الولد للفراش" معنيان: أحدهما: هو له ما لم ينفه، فإذا نفاه بما شُرع له، كاللعان انتفى عنه. والثاني: إذا تنازع ربّ الفراش، والعاهر، فالولد لربّ الفراش. قال الحافظ: والثاني منطبقٌ على خصوص الواقعة، والأول أعمّ. انتهى

(3)

. (ومنها): أنه يدلّ على أن حكم الحاكم لا يُحلّ الأمر في الباطن، كما لو حكم بشهادة، فظهر أنها

(1)

توجد هذه العلامات في نسخ "الفتح" المطبوعة، ولعل الطابع أسقطها، غفلة، أو لأمر آخر، واللَّه تعالى أعلم.

(2)

"فتح" 13/ 528.

(3)

"فتح" 13/ 524. "كتاب الفرائض".

ص: 174

زورٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حكم بأنه أخو عبد، وأمر سودة بالاحتجاب عنه بسبب الشبه بعتبة، فلو كان الحكم يُحلّ الأمر في الباطن، لما أمرها بالاحتجاب. (ومنها): أنه يدلّ على صحّة ملك الكافر الوثنيّ الأمة الكافرة، وأن حكمها بعد أن تلد من سيّدها حكم القنّ؛ لأن عَبْدًا، وسعدًا أطلقا عليها أمةً، ووليدةً، ولم يُنكر ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأجيب بأن عتق أم الولد بموت السيّد ثبت بأدلّة أخرى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في استلحاق غير الأب:

ذهب الشافعيّ وجماعة -رحمه اللَّه تعالى- إلى أن الاستلحاق لا يختصّ بالأب، بل للأخ أن يستلحق، لكن بشرط أن يكون حائزَا للإرث، أو يوافقه باقي الورثة، وإمكان كونه من المذكور، وأن يوافق على ذلك، إن كان بالغًا عاقلاً، وأن لا يكون معروف الأب.

وتُعُقّب بأن زمعة كان له ورثة غير عبد. وأجيب بأنه لم يخلُف وارثاً غيره، إلا سودة، فإن كان زمعة مات كافرًا، فلم يرثه إلا عبدٌ وحده. وعلى تقدير أن يكون أسلم، وورثته سودة، فيحتمل أن تكون وكّلت أخاها في ذلك، أو ادّعت أيضًا.

وذهب مالك، وطائفة -رحمه اللَّه تعالى- إلى أن الاستلحاق خاصّ بالأب. وأجابوا عن هذا الحديث بأن الإلحاق لم ينحصر في استلحاق عبد؛ لاحتمال أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم اطّلع على ذلك بوجه من الوجوه، كاعتراف زمعة بالوطء، ولأنه إنما حكم بالفراش؛ لأنه قال -بعد قوله:"هو لك" -: "الولد للفراش"؛ لأنه لما أبطل الشرع إلحاق هذا الولد بالزاني لم يبق صاحبَ الفراش.

وجرى المزنيّ على القول بأن الإلحاق يختصّ بالأب، فقال: أجمعوا على أنه لا يُقبل إقرار أحد على غيره، والذي عندي في قصّة عبد بن زمعة أنه صلى الله عليه وسلم أجاب عن المسألة، فأعلمهم أن الحكم كذا بشرط أن يدّعي صاحب الفراش، لا أنه قَبِلَ دعوى سعد عن أخيه عتبة، ولا دعوى عبد بن زمعة عن زمعة، بل عرّفهم أن الحكم في مثلها يكون كذلك، قال: ولذلك قال: "احتجبي منه يا سودة".

وتُعُقّب بأن قوله لعبد بن زمعة: "هو أخوك" يدفع هذا التأويل

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن ما ذهب إليه الشافعيّة وجماعة، من أن الاستلحاق يجوز للأخ هو الراجح؛ عملاً بظاهر حديث الباب. واللَّه تعالى أعلم

(1)

"فتح" 13/ 523. "كتاب الفرائض". حديث رقم 6749.

ص: 175

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): استُدلّ بهذا الحديث على أن الأمة تفسير فراشًا بالوطء، فإذا اعترف السيّد بوطء أمته، أو ثبت ذلك بأيّ طريق كان، ثم أتت بولد لمدّة الإمكان بعد الوطء لحقه من غير استلحاق، كما في الزوجة، لكن الزوجة تصير فراشًا بمجرّد العقد، فلا يُشترط في الاستلحاق إلا الإمكان؛ لأنها تراد للوطء، فجعل العقد عليها كالوطء، بخلاف الأمة، فإنها تراد لمنافع أخرى، فاشتُرط في حقّها الوطء، ومن ثَمّ يجوز الجمع بين الأختين بالملك، دون الوطء، وهذا قول الجمهور. وعن الحنفيّة لا تفسير الأمة فراشًا إلا إذا ولدت من السيّد ولدًا، ولحق به، فمهما ولدت بعد ذلك لحقه إلا أن ينفيه. وعن الحنابلة: من اعترف بالوطء، فأتت منه لمدّة الإمكان لحقه، وإن ولدت منه أوّلاً، فاستلحقه لم يلحقه ما بعده إلا بإقرار مستأنف على الراجح عندهم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ترجيح المذهب الأول -كما قال الحافظ- ظاهرٌ؛ لأنه لم يُنقل أنه كان لزمعة من هذه الأمة ولد آخر، والكلّ متّفقون على أنها لا تصير فراشًا إلا بالوطء. قال النوويّ: وطء زمعة أمته المذكورة عُلم، إما ببيّنة، وإما باطلاع النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وحديث ابن الزبير الآتي للمصنف بعد هذا، بلفظ "كانت لزمعة جارية يطؤها" يشعر بأن ذلك كان مشهورًا عندهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): استُدلّ بالحديث على أن السبب لا يخرج، ولو قلنا: إن العبرة بعموم اللفظ. ونقل الغزاليّ تبعًا لشيخه، والآمديّ، ومن تبعه عن الشافعيّ قولاً بخصوص السبب؛ تمسّكًا بما نُقل عن الشافعيّ أنه ناظر بعض الحنفيّة، لما قال: إن أبا حنيفة خصّ الفراش بالزوجة، وأخرج الأمة من عموم "الولد للفراش"، فردّ عليه الشافعيّ بأن هذا ورد على سبب خاصّ. ورد الفخر الرازيّ على من قال بأن مراد الشافعيّ أن خصوص السبب لا يخرج، والخبر إنما ورد في حقّ الأمة، فلا يجوز إخراجه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): اتفق أهل العلم على أن قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش" يعمّ الزوجة أيضًا؛ أخذّا بعموم اللفظ، كما تقدّم، لكن بشرط الإمكان، فلو نكح مشرقيّ مغربيّةً، ولم يُفارق واحد منهما وطنه، ثم أتت بولد لستة أشهر، أو أكثر، لم يلحقه؛ لعدم إمكان كونه منه، وكذا لو اجتمعا، لكن اْتت به لأقلّ من ستة أشهر من حين إمكان اجتماعهما لم يلحقه أيضًا. هذا مذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، والعلماء كافّة، إلا

ص: 176

أبا حنيفة، فلم يشترط الإمكان، بل اكتفى بمجرّد العقد، حتى لو طلّق عقب العقد من غير إمكان وطء، فولدت لستة أشهر من العقد لحقه الولد. قال النوويّ: وهذا ضعيفٌ، ظاهر الفساد، ولا حجة له في إطلاق الحديث؛ لأنه خرج على الغالب، وهو حصول الإمكان عند العقد

(1)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ: الفراش هنا كناية عن الموطوءة؛ لأن الواطىء يستفرشها، أي يُصيّرها كالفراش، ويعني به أن الولد لاحقٌ بالواطىء. قال الإمام: وأصحاب أبي حنيفة يحملونه على أن المراد به صاحب الفراش، ولذلك لم يشترطوا إمكان الوطء في الحرّة، واحتجّوا بقول جرير [من الكامل]:

بَاتَتْ تُعَانِقُهُ وَبَاتَ فِرَاشُهَا

خَلَقَ الْعَبَاءَةِ فِي الدِّمَاءِ قَتِيلَا

يعني زوجها، والأول أولى؛ لما ذكرناه من الاشتقاق، ولأن ما قدّره من حذف المضاف ليس في الكلام ما يدلّ عليه، ولا ما يُحوج إليه انتهى

(2)

.

قال الحافظ: وفهم بعض الشرّاح -يريد به ولي الدين العراقيّ- عن القرطبيّ خلاف مراده، فقال: كلامه يقتضي حصول مقصود الجمهور بمجرّد كون الفراش هو الموطوءة، وليس هو المراد، فعُلم أنه لا بدّ من تقدير محذوف؛ لأنه قال: إن الفراش هو المطوءة، والمراد به أن الولد لا يلحق بالواطىء، قال المعترض: وهذا لا يستقيم إلا مع تقدير المحذوف. قلت: وقد بيّنت وجه استقامته بحمد اللَّه. ويؤيد ذلك أيضًا أن ابن الأعرابيّ اللغويّ نقل أن الفراش عند العرب يعبّر به عن الزوج، وعن المرأة، والأكثر إطلاقه على المرأة، ومما ورد في التعبير عن الرجل قول جرير، فيمن تزوّجت بعد قتل زوجها، أو سيّدها [من الكامل]:

بَاتَتْ تُعَانِقُهُ وَبَاتَ فِرَاشُهَا

خَلَقَ الْعَبَاءَةِ بِالْبَلَاءِ ثَقِيلَا

وقد يُعبّر به عن حالة الافتراش، ويمكن حمل الخبر عليها، فلا يتعيّن الحذف. نعم لا يمكن حمل الخبر على كلّ واطىء، بل المراد من له الاختصاص بالوطء، كالزوج، والسيّد، ومن ثمّ قال ابن دقيق العيد: معنى "الولد للفراش" تابع للفراش، أو محكوم به للفراش، أو ما يقارب هذا.

وقد شنّع بعضهم على الحنفيّة بأن من لازم مذهبهم إخراج السبب مع المبالغة في العمل بالعموم في الأحوال. وأجاب بعضهم بأنه خصّص الظاهر القويّ بالقياس، وقد

(1)

"طرح التثريب".

(2)

"المفهم" 4/ 196.

ص: 177

عُرف من قاعدته تقديم القياس في مواضع على خبر الواحد، وهذا منها انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا بدّ لثبوت النسب من الإمكان زمانًا ومكانًا هو الصواب عندي؛ لوضوح متمسّكه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): قال المازريّ -رحمه اللَّه تعالى-: يتعلّق بهذا الحديث استلحاق الأخ لأخيه، وهو صحيح عند الشافعيّ، إذا لم يكن له وارث سواه، وقد تعلّق أصحابه بهذا الحديث لأنه لم يرد أن زمعة ادّعاه ولدًا، ولا اعترف بوطء أمه، فكان المعوّل في هذه القصّة على استلحاق عبد بن زمعة، قال: وعندنا -يعني المالكيّة- لا يصحّ استلحاق الأخ، ولا حجة في هذا الحديث؛ لأنه يمكن أن يكون ثبت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم أن زمعة كان يطأ أمته، فألحق الولد به؛ لأن من ثبت وطؤه لا يحتاج إلى الاعتراف بالوطء، وإنما يصعب هذا على العراقيين، ويعسر عليهم الانفصال عفا قاله الشافعيّ؛ لما قرّرناه أنه لم يكن لزمعة ولدٌ من الأمة المذكورة سابقٌ، ومجرّد الوطء لا عبرة به عندهم، فيلزمهم تسليم ما قال الشافعيّ، قال: ولَمّا ضاق عليهم الأمر، قالوا: الرواية في هذا الحديث: "هو لك عبد بن زمعة"، وحُذف حرف النداء بين عبد وابن زمعة، والأصل يا ابن زمعة، قالوا: والمراد أن الولد لا يلحق بزمعة، بل هو عبد لولده؛ لأنه وارثه، وأمر سودة بالاحتجاب منه؛ لأنها لم ترث زمعة؛ لأنه مات كافرًا، وهي مسلمةٌ، قال: وهذه الرواية التي ذكروها غير صحيحة، ولو وردت لرددناها إلى الرواية المشهورة، وقلنا: بل المحذوف حرف النداء بين "لك"، و"عبد"، كقوله تعالى، حكايته عن صاحب يوسف عليه السلام، حيث قال:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} انتهى.

وسلك الطحاويّ فيه مسلكًا آخر، فقال: معنى قوله: "هو لك" أي يدك عليه، لا أنك تملكه، ولكن تمنع غيرك منه إلى أن يتبيّن أمره، كما قال لصاحب اللقطة:"هي لك"، وقال له:"إذا جاء صاحبها فأدّها إليه"، قال: ولما كانت سودة شريكة لعبد في ذلك، لكن لم يعلم منها تصديق ذلك، ولا الدعوى به، ألزم عبدًا بما أقرّ به على نفسه، ولم يجعل ذلك عليها، فأمرها بالاحتجاب.

وكلامه هذا كله متعقّبٌ بالرواية الثانية المصرّح فيها بقوله صلى الله عليه وسلم: "اخوك"، فإنها رفعت الإشكال، وكأنه لم يقف عليها، ولا على حديث ابن الزبير وسودة الدّالّ على أن سودة وافقت أخاها عبدًا في الدعوى بذلك. قاله في "الفتح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): أنه قد استدلّت الحنفيّة بهذا الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم لم يلحقه

ص: 178

بزمعة؛ لأنه لو ألحقه به لكان أخا سودة، والأخ لا يؤمر بالاحتجاب منه.

وأجاب الجهمور بأن الأمر بذلك كان للاحتياط؛ لأنه وإن حكم بأنه أخوها؛ لقوله في الطرق الصحيحة: "هو أخوك يا عبد"، وإذا ثبت أنه أخو عبد لأبيه، فهو أخو سودة لأبيها، لكن لما رأى الشبه بيّنًا بعتبة أمرها بالاحتجاب منه احتياطًا. وأشار الخطّابيّ إلى أن في ذلك مزيّة لأمهات المؤمنين؛ لأن لهنّ في ذلك ما ليس لغيرهنّ، قال: والشبه يُعتبر في بعض المواطن، لكن لا يُقضى به، إذا وُجد ما هو أقوى منه، وهو كما يُحكم في الحادثة بالقياس، ثم يوجد فيها نصّ، فيُترك القياس. قال: وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث، وليس بثابت:"احتجبي منه، يا سودة، فإنه ليس لك بأخ"، وتبعه النوويّ، فقال: هذه الزيادة باطلة مردودة. وتُعُقّب بأنها وقعت في حديث عبد اللَّه بن الزبير، عند النسائيّ

(1)

، بسند حسن، ولفظه: "كانت لزمعة جارية يطؤها

" الحديث، ورجال سنده رجال الصحيح، إلا شيخ مجاهد، وهو يوسف مولى آل الزبير.

وقد طعن البيهقيّ في سنده، فقال: فيه جرير، وقد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، وفيه يوسف، وهو غير معروف، وعلى تقدير ثبوته، فلا يعارض حديث عائشة المتّفق على صحّته.

وتُعُقّب بأن جريرًا هذا لم يُنسب إلى سوء حفظ، وكأنه اشتبه عليه بجرير بن حازم، وبأن يوسف معروف في موالي آل الزبير، وبأن الجمع بينهما ممكن، فلا ترجيح. وعلى هذا فيتعيّن تأويله، وإذا ثبتت هذه الزيادة تعليق تأويل نفي الأخوة عن سودة على نحو ما تقدّم من أمرها بالاحتجاب منه.

ونقل ابن العربيّ في "القوانين" عن الشافعيّ نحو ما تقدّم، وزاد: ولو كان أخاها بنسب محقّق لما منعها، كما أمر عائشة أن لا تحتجب من عمها من الرضاعة.

وقال البيهقيّ: معنى قوله: "ليس لك بأخ" بالنسبة للميراث من زمعة؛ لأن زمعة مات كافرًا، وخلف عبد بن زمعة، والولد المذكور، وسودة، فلا حقّ لسودة في إرثه، بل حازه عبد قبل الاستلحاق، فإذا استلحق الابن المذكور شاركه في الإرث، دون سودة، فلهذا قال لعبد:"هو أخوك"، وقال لسودة:"ليس لك بأخ".

وقال القرطبيّ -بعد أن قرّر أن أمر سودة بالاحتجاب للاحتياط، وتوقّي الشبهات-: ويحتمل أن يكون ذلك لتغليظ أمر الحجاب في حقّ أمهات المؤمنين، كما قال:

(1)

هو الحديث التالي لهذا الحديث في الباب رقم 3512.

ص: 179

"أفعمياوان أنتما"، فنهاهما عن رؤية الأعمى، مع قوله لفاطمة بنت قيس:"اعتدّي عند ابن أم مكتوم، فإنه أعمى"، فغلّظ الحجاب في حقّهنّ، دون غيرهنّ. وقد قال بعض أهل العلم إنه كان يحرم عليهنّ بعد الحجاب إبراز أشخاصهنّ، ولو كنّ مستترات، إلا لضرورة، بخلاف غيرهنّ، فلا يُشترط. وأيضًا فإن للزوج أن يمنع زوجته من الاجتماع بمحارمها، فلعلّ المراد بالاحتجاب عدم الاجتماع في الخلوة.

وقال ابن حزم: لا يجب على المرأة أن يراها أخوها، بل الواجب عليها صلة رحمها، ورَدّ على من زعم أن معنى قوله:"هو لك" أي عبدٌ بأنه لو قضى بأنه عبد لما أمر سودة بالاحتجاب منه؛ إما لأن لها فيه حصّةً، وإما لأن من في الرقّ لا يُحتجب منه على القول بذلك. أفاده في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الراجح أن نهيه صلى الله عليه وسلم سودة - رضي اللَّه تعالى - عنها، وقوله:"فإنه ليس لك بأخ" إن صح محمول على الاحتياط، فإنه وإن ثبت نسبه لأجل الفراش، إلا أن شبهه بعتبة يورث الشبهة، فيُحتاط من أجله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة العاشرة): استدلّ بالحديث بعض المالكيّة على مشروعيّة الحكم بين حكمين، وهو أن يأخذ الفرع شبهًا من أكثر من أصل، فيُعطَى أحكامًا بعدد ذلك، وذلك أن الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة في النسب، والشبه يقتضي إلحاقه بعتبة، فأعطي الفرع حكمًا بين حكمين، فروعي الفراش في النسب، والشبه البيّن في الاحتجاب، قال: وإلحاقه بهما، ولو كان من وجه أولى من إلغاء أحدهما من كلّ وجه.

قال ابن دقيق العيد: وُيعتَرض على هذا بأن صورة المسألة ما إذا دار الفرع بين أصلين شرعيين، وهنا الإلحاق شرعيّ للتصريح بقوله:"الولد للفراش"، فبقي الأمر بالاحتجاب مشكلاً؛ لأنه يناقض الإلحاق، فتعيّن أنه للاحتياط، لا لوجوب حكم شرعيّ، وليس فيه إلا ترك مباح، مع ثبوت المحرميّة انتهى. وهو اعتراض وجيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الحادية عشرة): أنه استُدلّ بهذا الحديث على أن لوطء الزنا حكم وطء الحلال في حرمة المصاهرة، وهو قول الجمهور، ووجه الدّلالة أمر سودة بالاحتجاب بعد الحكم بأنه أخوها لأجل الشبه بالزاني.

وقال مالك في المشهور عنه، والشافعيّ: لا أثر لوطء الزنا، بل للزاني أن يتزوّج أم

(1)

"فتح" 13/ 526 - 527.

ص: 180

التي زنى بها، وبنتها، وزاد الشافعيّ، ووافقه ابن الماجشون: والبنت التي تلدها المزنيّ بها، ولو عرفت أنها منه. قال النوويّ: وهذا احتجاج باطلٌ؛ لأنه على تقدير أن يكون من الزنا، فهو أجنبيّ من سودة لا يحلّ لها أن تظهر له سواء ألحق بالزاني، أم لا، فلا تعلّق له بمساْلة البنت المخلوقة من الزنا. كذا قال، وهو ردّ للفرع بردّ الأصل، وإلا فالبناء الذي بنوه صحيحٌ. وقد أجاب الشافعيّة عنه بما تقدّم أن الأمر بالاحتجاب للاحتياط، ويحمل الأمر في ذلك إما على الندب، وإما على تخصيص أمهات المؤمنين بذلك، فعلى تقدير الندب، فالشافعيّ قائل به في المخلوقة من ماء الزنا، فيُجيز عند فقد الشبه، ويمنع عند وجوده. قاله في "الفتح".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه مالك والشافعيّ من أنه لا أثر لوطء الزنا هو الراجح عندي، وقد صح عن عليّ وابن عبّاس وغيرهما أنهم قالوا: إن الحرام لا يُحَرِّمُ الحلال

(1)

، وأما أمره صلى الله عليه وسلم سودة رضي الله عنه بالاحتجاب فمن باب الاحتياط، ولأن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن لسن كغيرهن، فيشدد عليهن ما لا يشدد على غيرهنّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3512 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ الزُّبَيْرِ، مَوْلًى لَهُمْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَتْ لِزَمْعَةَ جَارِيَةٌ، يَطَؤُهَا هُوَ، وَكَانَ يَظُنُّ بِآخَرَ، يَقَعُ عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ شِبْهِ الَّذِي كَانَ يَظُنُّ بِهِ، فَمَاتَ زَمْعَةُ، وَهِيَ حُبْلَى، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ سَوْدَةُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ، فَلَيْسَ لَكِ بِأَخٍ»)

قال الجامع عَفا اللَّه تعالى عنه: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح غير يوسف بن الزبير كما سيأتي، و"إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و" جرير": هو ابن عبد الحميد. و"منصور": هو ابن المعتمر. و"مجاهد": هو ابن جبر.

و"يوسف بن الزبير" المكيّ، مولى آل الزبير، وقلبه بعضهم، مقبول [3] 10/ 2638، من أفراد المصنّف.

وقوله: "مولى لهم" هكذا نسخ "المجتبى"، و"الكبرى""لهم" بالضمير، وكان الأولى أن يقول:"مولى آل الزبير"، كما في كتب الرجال؛ إذ لم يسبق مرجع للضمير، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "يطؤها" وفي نسخة: "يتّطئها"، وهو افتعال، من الوطء، وأصله: يوتطئها،

(1)

راجع "صحيح البخاري" في "كتاب النكاح" جـ10 ص196 - 197 بنسخة "فتح الباري".

ص: 181

أبدلت الواو تاء، وأدغمت في تاء الافتعال، كما في "يتّعد"، ويتّقي"، من الوعد، والوقاية. قال ابن مالك -رحمه اللَّه تعالى- في "خلاصته":

ذُو اللِّينِ فَا تَا فِي افْتِعَالِ أُبْدِلَا

وَشَذَّ فِي ذِي الْهَمْزِ نَحْوُ ائْتَكَلَا

وقوله: "فليس لك بأخ" أي في استحسان الدخول، وإلا فهو أخٌ في ظاهر الشرع؛ للإحاق بأبيها. وقيل: هذه الزيادة غير معروفة في هذا الحديث، بل هي زيادة باطلة، مردودة. لكن تقدّم أن الحافظ حسّنها، وأنها لا تنافي الرواية الصحيحة، ويكون معناه أنه ليس بأخ لك شبهًا، فاحتاطي بالاحتجاب منه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن الذي يظهر أن الصواب مع من ردّها؛ لأنها زيادة شاذة، تفرّد بها يوسف بن الزبير، وهو وإن وثّقه ابن حبّان، فقد قال فيه ابن جرير: إنه مجهولٌ لا يُحتجّ به، فزيادته المخالفة، للحديث الصحيح، حيث قال صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة:"هو أخوك" تكون مردودة.

ومنهم من تمسّك بها لكن قال بعدم الإلحاق، وإنما أُعطي عبدُ بن زمعة الولدَ على أنه عبد له. وهذا تأويل باطل، كما تقدّم. وتمام شرح الحديث تقدّم في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث ضعيف؛ لجهالة يوسف بن الزبير، كما تقدّم آنفًا.

وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، لم يروه من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا-48/ 3512 - وفي "الكبرى" 48/ 5679. وأخرجه (أحمد) في "مسند المدنيين" 27713. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3513 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ». قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَلَا أَحْسُبُ هَذَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"مغيرة": هو ابن مقسم الضبّيّ، أبو هشام الكوفيّ الأعمى، ثقة متقنٌ، إلا أنه يدلّس [6] 155/ 301. و"أبو وائل": هو شقيق بن سلمة الكوفيّ المخضرم الثقة.

وقوله: "لا أحسب هذا عن عبد اللَّه بن مسعود" يعني أن كون هذا الحديث من مسند عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه غريب، بل المشهور أنه من حديث غيره.

قال الحافظ في "النكت الظراف": ما حاصله: أخرجه إسحاق بن إبراهيم في مسند عبد اللَّه بن مسعود من "مسنده"، ثم أخرجه من طريق شعبة، عن مغيرة، عن أبي وائل

ص: 182

به، مرسلاً انتهى

(1)

.

والحديث بهذا السند ضعيف؛ كما أشار إليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-؛ لأن فيه عنعنة المغيرة، وهو مدلّس، فلعله أخذه من ضعيف، أخطأ فيه على أبي وائل، فجعله من مسند ابن مسعود رضي الله عنه، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا- 48/ 3513 - وفي "الكبرى" 48/ 5680. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌49 - (بَابُ فِرَاشِ الأَمَةِ)

3514 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتِ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فِي ابْنِ زَمْعَةَ، قَالَ سَعْدٌ: أَوْصَانِي أَخِي عُتْبَةُ، إِذَا قَدِمْتَ مَكَّةَ، فَانْظُرِ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَهُوَ ابْنِي، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هُوَ ابْنُ أَمَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي، فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"سفيان": هو ابن عيينة. والحديث متّفق عليه، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

(1)

"النكت الظراف" 7/ 52/ 53.

ص: 183

‌50 - (بَابُ الْقُرْعَةِ فِي الْوَلَدِ إِذَا تَنَازَعُوا فِيهِ، وَذِكْرِ الاخْتِلَافِ عَلَى الشَّعْبِيِّ فِيهِ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه

-)

3515 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ، خُشَيْشُ بْنُ أَصْرَمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ رضي الله عنه، بِثَلَاثَةٍ -وَهُوَ بِالْيَمَنِ- وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ، فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ اثْنَيْنِ، أَتُقِرَّانِ لِهَذَا بِالْوَلَدِ؟ ، قَالَا: لَا، ثُمَّ سَأَلَ اثْنَيْنِ، أَتُقِرَّانِ لِهَذَا بِالْوَلَدِ؟ ، قَالَا: لَا، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالَّذِي صَارَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَيِ الدِّيَةِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَضَحِكَ، حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أبو عاصم خُشيش بن أصرم) بن الأسود النسائيّ، ثقة حافظ [11] 44/ 590.

2 -

(عبد الرزّاق) بن همّام بن نافع الصنعانيّ، ثقة حافظ مصنّف مشهور، تغيّر في الآخر بعد أن عمي، وكان يتشيّع [9] 61/ 77.

3 -

(الثوريّ) سفيان بن سعيد الإمام الحجة الثبت الكوفيّ [7] 33/ 37.

4 -

(صالح) بن صالح بن مسلم بن حيّ، ويقال: حيان، الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة [6] 65/ 3345.

5 -

(الشعبيّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الهمدانيّ الكوفيّ الثقة الفقيه الفاضل [3] 66/ 82.

6 -

(عبد خير) الهمدانيّ المخضرم الثقة الكوفيّ [2] 74/ 91.

7 -

(زيد بن أرقم) بن زيد بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ المشهور، أول مشاهده الخندق، وأنزل اللَّه عز وجل تصديقه في "سورة المنافقون"، مات - رضي اللَّه تعالى عنه - سنة (66) أو (68 هـ)، تقدّمت ترجمته 13/ 13. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من الثوريّ.

ص: 184

(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ مُخَضْرَم. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: أُتِيَ) بالبناء للمفعول (عَليٌّ) بن أبي طالب (رَضِي اللَّه تعالى عَنْه) وفي الرواية التالية: "بينا نحن عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجلٌ من اليمن، فجعل يُخبره، ويحدّثه، وعليّ بها، فقال: يا رسول اللَّه أَتى عليًّا ثلاثة نفر

(بثَلَاَثةِ) أي بثلاثة نفر (وَهُوَ بِالْيَمَنِ-) جملة في محلّ نصب على الحال، أي والحال أن عَليًّا رضي الله عنه كائن باليمن، حيث ولاّه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليها (وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ) أي جامعوا امرأةً، وهي أمة مشتركة بينهم (فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ اثْنَيْنِ، أَتُقِرَّانِ لِهَذَا بِالْوَلَدِ؟) أي أترضيان يكون الولد لهذا الثالث، وتتركان دعواه مسامحة.

وفي رواية أبي داود: "فقال لاثنين: طِيبا بالولد لهذا"(قَالَا: لَا) وفي رواية أبي داود: "فغليا"، أي من الغليان، يعني أنهما صاحا (ثُمَّ سأَلَ اثْنَيْنِ، أَتُقِرَّانِ لِهَذَا بِالْوَلَدِ؟، قَالَا: لَا، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَلْحَقَ) وفي نسخة: "وألحق" بالواو (الْوَلَدَ بِالَّذِي صَارَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ) أي خرجت القرعة باسمه (وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَيِ الدِّيَةِ) أي غرّم من خرجت له القرعة ثلثي دية الولد.

وقال الإمام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- في "تهذيب السنن": وهذا مما أشكل على الناس، ولم يعرف له وجه، وسألت شيخنا -يعني ابن تيميّة-؟ فقال: له وجه، ولم يزد. ولكن قد روى الحميديّ في "مسنده" بلفظ آخر، يدفع الإشكال جملة، قال:"وأغرمه ثلثي قيمة الجارية لصاحبيه"، وهذا؛ لأن الولد لما لحق به صارت أم ولد، وله فيها ثلثها، فغرّمه قيمة ثلثيها اللذين أفسدهما على الشريكين بالاستيلاد، فلعلّ هذا هو المحفوظ، وذكر ثلثي دية الولد وهم، أو يكون عبّر عن قيمة الجارية بالدية؛ لأنها هي التي يُودَى بها، فلا يكون بينهما تناقض انتهى

(1)

.

وتعقّبه العلامة أحمد محمد شاكر -رحمه اللَّه تعالى-، فقال: هذا تكلّفٌ، ورواية الحميدي التي أشار ابن القيّم لم نر إسنادها، ولا معنى لردّ الحديث الصحيح بتكلّف معنى من رواية تنافيه، والظاهر أن الوجه فيه أن إلزام من خرجت له قرعة الولد بثلثي الدية؛ لأن الولد لم يثبت نسبه من واحد منهم بدليل صحيح، أو راجح، والقرعة في ذاتها ليست دليلاً على صحّة النسب، وإنما هي لقطع النزاع في خصومة، لا يملك أحد الخصمين فيها دليلاً، فعلى من استفاد بالقرعة لحوق الولد به أن يُعوّض الآخرين ما

(1)

"تهذيب السنن" 3/ 178.

ص: 185

خسرا، وأقرب تعويض أن يقدّر بالدية الكاملة، فعليه ثلثاها لزميليه، وأظنّ أن هذا تعليلٌ جيّد، أو قريبٌ من الجيّد، وأما ما كان فعلينا أن نقبل الحكم الثابت بالسنة "الصحيحة" وإن عجزنا عن فهم الوجه الذي يوجّه به انتهى كلام أحمد شاكر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله العلامة أحمد محمد شاكر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- حسنٌ جدًّا، غير قوله:"بدليل صحيح، أو راجح"، كيف يقول: هذا، والحديث الذي معنا صحيح، وقد أثبت نسب هذا الولد بالقرعة، فأيّ دليل صحيح، يريد غير هذا؟.

ثم هذا الذي قاله سيأتي أن ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- هو الذي مشى عليه في "زاد المعاد"، ولم يذكر ما ذكره في "تهذيب السنن" أصلاً.

والحاصل أن المعنى الصحيح للحديث أن عليًّا رضي الله عنه أغرم من خرجت له القرعة بالولد ثلثي قيمته لصاحبيه، ولا إشكال على هذا المعنى، على ما سبق توجيهه آنفًا. واللَّه تعالى أعلم.

(فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ) وفي نسخة: "لرسول اللَّه"(صلى الله عليه وسلم، فَضَحِكَ) أي فرحًا، وسرورًا بتوفيق اللَّه تعالى عليًّا رضي الله عنه للصواب في هذه القضية، ولهذا قرّره على ذلك، أو تعجّبًا مما كان عليه الحال، والأول أظهر (حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) بالذال المعجمة جمع ناجذ. قال الفيّوميّ: الناجذ: السنّ بين الضِّرْس والناب، و"ضَحِكَ حتى بدت نواجده"، قال ثعلبٌ: المراد الأنياب. وقيل: الناجذ: آخر الأضراس، وهو ضِرْسُ الْحُلُم؛ لأنه ينبت بعد البلوغ، وكمال العقل. وقيل: الأضراس كلها نواجذ، قال في البارع: وتكون النواجذ للإنسان، والحافر، وهي من ذوات الخفّ الأنياب انتهى

(2)

.

وقال في "النهاية": النواجذ من الأسنان: الضواحك، وهي التي تبدو عند الضحك.

والأكثر الأشهر أنها أقصى الأسنان. والمراد الأول؛ لأنه ما كان يبلغ به الضحك إلى أن تبدو أواخر أضراسه، كيف؟ وقد جاء في صفة ضحكه:"جلّ ضحكه التبسّم"، وإن أريد به الأواخر فالوجه فيه أن يراد به مبالغة مثلِهِ في ضَحِكِه، من غير أن يراد ظهور نواجده في الضحك، وهو أقيس القولين؛ لاشتهار النواجذ بأواخر الأسنان انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

انظر ما كتبه أحمد محمد شاكر على هامش "تهذيب السنن" لابن القيّم -رحمهما اللَّه تعالى- 3/ 178.

(2)

"المصباح المنير".

(3)

"النهاية في غريب الحديث" 5/ 20.

ص: 186

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث زيد بن أرقم - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح. قال أبو محمد ابن حزم -كما نقله عنه ابن القيّم -رحمهما اللَّه تعالى-: هذا الحديث إسناده صحيح، كلهم ثقات، قال:[فإن قيل]: إنه خبر قد اضطُرب فيه، فأرسله شعبة، عن سلمة بن كُهيل، عن الشعبيّ، عن مجهول. ورواه أبو إسحاق، عن رجل من حضر موت، عن زيد بن أرقم؟.

[قلنا]: قد وصله سفيان، وليس هو بدون شعبة، عن صالح بن حيّ، وهو ثقة، عن عبد خير، وهو ثقة، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-50/ 3515 و 3516 و 3517 و 3518 و 3519 - وفي "الكبرى" 50/ 5682 و 5683 و 5684 و5685 و 5686. وأخرجه (د) في "الطلاق" 2269 و2270 (ق) في "الأحكام" 2348. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعيّة القرعة فيما إذا تنازع جماعة في ولد أمة لهم، جامعوها كلهم، وفيه اختلاف بين العلماء، سيأتي بيانه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى.

(ومنها): أن الولد لا يُلحق بأكثر من أب واحد. (ومنها): إثبات القرعة في الأمور التي تقع فيها الشركة، ويتنازع أهلها، وليس لأحدهم ما يقدّمه على الآخرين. قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وللقرعة مواضع غير هذا، في العتق، وتساوي البيّنتين في الشيء، يتداعاه اثنان، فصاعدًا، وفي الخروج بالنساء في الأسفار، وفي قسم المواريث، وإفراز الحصص بها، وقد قال بجميع وجوهها نفر من العلماء، ومنهم من قال بها في بعض هذه المواضع، ولم يقل بها في بعض انتهى

(2)

.

(ومنها): ما كان عليه عليّ رضي الله عنه من العلم والفهم لدقائق الشريعة، حيث اهتدى إلى معرفة فصل مثل هذه الخصومات لا يدرك وجهها كثير من الناس؛ لالتباسها، حيث استوت حقوق المستحقّين، وتشاحّوا فيما بينهم، وعُدِم تسامحهم، ففصل بينهم بما

(1)

راجع "تهذيب السنن" 3/ 177.

(2)

"معالم السنن" 3/ 177.

ص: 187

أوتيه من العلم، حتى زالت الشحناء، والبغضاء من بينهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم القرعة:

قال العلاّمة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- في "زاد المعاد": اختلف الفقهاء في هذا الحكم، فذهب إليه إسحاق بن راهويه، وقال: هو السنّة في دعوى الولد، وكان الشافعيّ يقول به في القديم، وأما الإمام أحمد، فسئل عن هذا الحديث؟ فرجّح عليه حديث القافة، وقال: حديث القافة أحبّ إليّ.

وههنا أمران: أحدهما: دخول القرعة في النسب. والثاني: تغريم من خرجت له القرعة ثلثي دية ولده لصاحبيه. وأما القرعة، فقد تُستعمل عند فقدان مرجّح، سواها، من بيّنة، أو إقرار، أو قافة، وليس ببعيد تعيين المستحقّ بالقرعة في هذه الحال، إذ هي غاية المقدور عليه من أسباب ترجيح الدعوى، ولها دخول في دعوى الأملاك المرسلة التي لا تثبت بقرينة، ولا أمارة، فدخولها في النسب الذي يثبت بمجرّد الشبه الخفيّ المستند إلى قول القائف أولى وأحرى.

وأما أمر الدية، فمشكلٌ جدًّا، فإن هذا ليس بموجب للدية، وإنما هو تفويت نسبه بخروج القرعة، فيقال: وطء كلّ واحد صالحٌ لجعل الولد له، فقد فوّته كلُّ واحد منهم على صاحبيه بوطئه، ولكن لم يتحقّق من كان له الولد منهم، فلما أخرجته القرعة لأحدهم، صار مفوِّتًا لنسبه عن صاحبيه، فأُجري ذلك مجرى إتلاف الولد، ونزل الثلاثة منزلة أبٍ واحدٍ، فحصّة المتلف منه ثلث الدية، إذ قد عاد الولد له، فيغرَمُ لكلْ من صاحبيه ما يخُصّه، وهو ثلث الدية.

ووجه آخر أحسن من هذا، أنه لما أتلف عليهما بوطئه، ولحوق الولد به، وجب عليه ضمان قيمته، وقيمة الولد شرعًا هي ديته، فلزمه لهما ثلثا قيمته، وهي ثلثا الدية، وصار هذا كمن أتلف عبدًا بينه وبين شريكين له، فإنه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه، فإتلاف الولد الحرّ عليهما بحكم القرعة، كإتلاف الرقيق الذي بينهم.

ونظير هذا تضمين الصحابة المغرور بحريّة الأمة قيمة أولاده لسيّد الأمة؛ لما فات رقّهم على السيّد لحرّيتهم، وكانوا بصدد أن يكونوا أرقّاء، وهذا ألطف ما يكون من القياس، وأدقّه، وأنت إذا تأمّلت كثيرًا من أقيسة الفقهاء، وتشبيهاتهم وجدت هذا أقوى منها، وألطف مسلكًا، وأدقّ مأخذًا، ولم يضحك منه النبيّ صلى الله عليه وسلم سُدىً.

وقد يقال: لا تعارض بين هذا وبين حديث القافة، بل إن وجدت القافة، تعيّن العمل بها، وإن لم توجد قافة، أو أشكل عليهم، تعيّن العمل بهذا الطريق، واللَّه أعلم انتهى

ص: 188

كلام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال الشوكانيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "نيل الأوطار": وقد أخذ بالقرعة مطلقًا مالك، والشافعيّ، وأحمد، والجمهور. حكى ذلك عنهم ابن رسلان في "كتاب العتق" من شرح "سنن أبي داود". قال: وقد قال بعضهم: إن حديث القرعة منسوخ. وقال المقبليّ في "الأبحاث": إن حديث الإلحاق بالقرعة إنما يكون بعد انسداد الطرق الشرعيّة. انتهى. قال: ومن المخالفين في اعتبار القرعة الحنفيّة، وكذلك الهادويّة، وقالوا: إذا وطئ الشركاء الأمة المشتركة في طهر واحد، وجاءت بولد، وادّعوه جميعًا، ولا مرجّح للإلحاق بأحدهم، كان الولد ابنًا لهم جميعًا، يرث كلَّ واحد منهم ميراث ابن كامل، ومجموعهم أبٌ يرثونه ميراث أب واحد. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن قول الجمهور بمشروعيّة القرعة في إلحاق الولد المتنازع فيه هو الحقّ؛ لصحّة حديث الباب، والقائلون بعدم مشرعيّته لم يأتوا بحجة مقنعة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3516 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(3)

عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الأَجْلَحِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْخَلِيلِ الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَمَنِ، فَجَعَلَ يُخْبِرُهُ، وَيُحَدِّثُهُ وَعَلِيٌّ بِهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَى عَلِيًّا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، يَخْتَصِمُونَ فِي وَلَدٍ، وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ

وَسَاقَ الْحَدِيثَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الأجلح" هو: ابن عبد اللَّه بن حُجَيّة -بالمهملة، والجيبم، مصغّرًا- يكنى أبا حُجَية الكنديّ، يقال: اسمه يحيى، والأجلح لقبه، صدوقٌ، شيعيّ [7].

قال القطّان: في نفسي منه شيء. وقال أيضًا: ما كان يَفصِل بين الحسين بن عليّ، وعليّ بن الحسين. يعني أنه ما كان بالحافظ. وقال أحمد: أجلح، ومجالد متقاربان في الحديث، وقد روى الأجلح غير حديث منكر. وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ما أقرب الأجلح من فِطْر بن خليفة. وقال ابن معين: صالح. وقال مرّةً: ثقة. وقال مرّةَ: ليس به بأس. وقال العجليّ: كوفيّ ثقة. وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ، يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به. وقال النسائيّ: ضعيف، ليس بذاك، وكان له رأيٌ سوءٌ. وقال

(1)

"زاد المعاد في هدي خير العباد صلى الله عليه وسلم" 5/ 430 - 432.

(2)

"نيل الأوطار" 6/ 298 - 299.

(3)

وفي نسخة: "حدثني".

ص: 189

الجوزجانيّ: مُفْتَرٍ. وقال ابن عديّ: له أحاديث صالحةٌ، ويروي عنه الكوفيّون، وغيرهم، ولم أر له حديثًا منكرًا، مُجاوزًا للحدّ، لا إسنادًا، ولا متنًا، إلا أنه يُعدّ في شيعة الكوفة، وهو عندي مستقيم الحديث، صدوقٌ. وقال شريكٌ عن الأجلح: سمعنا أنه ما يسبّ أبا بكر وعمر أحدٌ إلا مات قتلاً، أو فقيرًا. وقال أبو داود: ضعيف. وقال مرّةً: زكريا أرفع منه بمائة درجة. وقال ابن سعد: كان ضعيفًا جدًّا. وقال العقيليّ: روى عن الشعبيّ أحاديث مضطربة، لا يُتابع عليها. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة، في حديثه لين. وقال ابن حبّان: كان لا يدري ما يقول، جعل أبا سفيان أبا الزبير. وقال عمرو بن عليّ: مات سنة (145هـ) في أول السنة، وهو رجل من بَجِيلة

(1)

، مستقيم الحديث، صدوق. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله عند المصنّف ستة مواضع برقم 50/ 3588 و 3589 و 16/ 5101 و 5106 و 5107 و 24/ 5630.

و"عبد اللَّه بن أبي الخليل، أو ابن الخليل الحضرميّ"، أبو الخليل الكوفيّ، وفرق البخاريّ، وابن حبّان بين الراوي عن عليّ، فقال فيه: ابن أبي الخليل، والراوي عن زيد بن أرقم، فقال فيه: ابن الخليل، مقبول [2] 102/ 2036.

وقوله: "وساق الحديث" الضمير للأجلح، أي ساق بهذا السند متن هذا الحديث، كما ساقه صالح الهمدانيّ بالسند السابق، والمراد أنهما ما اختلفا في المتن، وإنما اختلفا في السند فقط.

والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3517 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ الأَجْلَحِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَلِيٌّ رضي الله عنه، يَوْمَئِذٍ بِالْيَمَنِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا، أُتِيَ فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ، ادَّعَوْا وَلَدَ امْرَأَةٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ لأَحَدِهِمْ: تَدَعُهُ لِهَذَا؟ ، فَأَبَى، وَقَالَ لِهَذَا: تَدَعُهُ لِهَذَا؟ ، فَأَبَى، وَقَالَ لِهَذَا تَدَعُهُ لِهَذَا؟ ، فَأَبَى، قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: أَنْتُمْ شُرَكَاءُ، مُتَشَاكِسُونَ، وَسَأُقْرِعُ بَيْنَكُمْ، فَأَيُّكُمْ أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ، فَهُوَ لَهُ، وَعَلَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن عليّ": هو الفلاّس. و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان.

(1)

تعقّب الحافظ في "تهذيب التهذيب" قوله: "من بجيلة"، فقال: ليس هو من بجيلة انتهى.

ص: 190

وقوله: "تدعه لهذا": أي تتركه لصاحبك، وتسامحه فيه. وقوله:"متشاكسون": أي مختلفون، ومتنازعون.

والحديث صحيحٌ، وقد سبق القول فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3518 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَلِيًّا عَلَى الْيَمَنِ، فَأُتِيَ بِغُلَامٍ، تَنَازَعَ فِيهِ ثَلَاثَةٌ

وَسَاقَ الْحَدِيثَ. خَالَفَهُمْ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسحاق بن شاهين" بن الحارث الواسطيّ، أبو بشر ابن أبي عمران، صدوقٌ [10].

قال النسائيّ: لا بأس به. وقال في "أسامي شيوخه": كتبنا عنه بواسط، صدوقٌ. وقال أنس بن محمد الطحان: كان من الدهاقين. وقال أسلم بن سهل: جاز المائة.

وقال ابن حبّان في "الثقات": مستقيم الحديث، مات به (250) وقال مسلمة الأندلسيّ: واسطيّ، صدوقٌ، أخبرنا عنه ابن مبشّر. روى عنه البخاريّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديث الباب، وآخر في "كتاب الزينة" 39/ 5169. و"خالد" هو: ابن عبد اللَّه الطحّان الحافظ الثبت الواسطيّ. و"الشيبانيّ": هو أبو إسحاق سليمان أبي سليمان فيروز الكوفيّ الثقة الثبت.

وقوله: "عن رجل من حضر موت" يحتمل أن يكون عبد اللَّه بن الخليل المذكور. وقوله (خَالَفَهُم سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ) يعني أن سلمة بن كُهيل خالف كلاًّ، من صالح الهمدانيّ، والأجلح وأبي إسحاق الشيباني، في جعله متصلاً، مرفوعًا، فجعله منقطعًا، موقوفًا على عليّ رضي الله عنه، كما أوضحه بقوله:

3519 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، أَوِ ابْنِ أَبِي الْخَلِيلِ: أَنَّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ، اشْتَرَكُوا فِي طُهْرٍ

فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذَا صَوَابٌ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد": هو ابن جعفر المعروف بـ "غندر". و"سلمة ابن كُهيل": هو الحضرميّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة [4] 195/ 312.

وقوله: "فذكر نحوه" الضيمر لسلمة بن كُهيل، أي ذكر سلمة الحديث نحو ما تقدّم من الرواية.

وقوله: "قال أبو عبد الرحمن: هذا صواب الخ" ولفظ "الكبرى": "قال أبو

ص: 191

عبد الرحمن: وسلمة بن كُهيل أثبتهم، وحديثه أولى بالصواب".

يعني أن رواية سلمة بإسقاط زيد بن أرقم رضي الله عنه، ووقفه على عليّ رضي الله عنه هو الصواب، وأن الروايات السابقة خطأ، وذلك لأن سلمة أوثق ممن خالفهم، فتكون روايته المنقطعة، الموقوفة أولى من روايتهم. لكن سبق في كلام ابن حزم وغيره أن طريق صالح بن حيّ صحيحة، لأنه ثقة، فزيادته مقبولة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌51 - (بَابُ الْقَافَةَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القائف: هو الذي يتتبّعُ الآثار، ويعرفها، وَيعرف شَبَهَ الرجلِ بأخيه، وأبيه. ويقال: فلانٌ يقُوفُ الأثر، وَيقْتَافه قِيَافَةً، مثلُ قفا الأثرَ، واقتفاه. قال ابن سِيدَهْ: قاف الأثر قِيَافَةً، واقْتَافه اقتيافًا، وقافه يقُوفه قَوْفًا، وتقَوَّفَه: تَتَبَّعه، أنشد ثعلب [من الطويل]:

مُحَلَّى بِأَطْوَاقِ عِتَاقٍ يَبِينُهَا

عَلَى الضَّزْنِ أَغْبَى الضَّأْنِ لَوْ يَتَقَوَّفُ

و"الضَّزْنُ" هنا: سوء الحال من الجهل، يقول: كرمه وجُودهُ يَبِين لمن لا يفهم الخبرَ، فكيف من يفهم؟. ومنه قيل للذي ينظر إلى شبه الوالد بأبيه: قائفٌ، والقِيَافة المصدر. أفاده في "لسان العرب"

(1)

.

وقال في "الفتح": القائف: هو الذي يَعرِف الشبه، وُيميّز الأثر، سمي بذلك؛ لأنه يقفو الأشياء، أي يتبعها، فكأنه مقلوب من القافي. قال الأصمعيّ: هو الذي يقفو الأثر، ويقتافه قَفْوًا، وقِيَافةً، والجمع القافةُ. كذا وقع في "الغربين"، و"النهاية". انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3520 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ عَلَيَّ، مَسْرُورًا، تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: «أَلَمْ تَرَيْ،

(1)

"لسان العرب" 9/ 293. في مادّة "قوف".

(2)

"فتح" 13/ 550 "كتاب الفرائض".

ص: 192

أَنَّ مُجَزِّزًا، نَظَرَ إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأَقْدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ»).

رجال هذا الإسناد: ستة

وقد مرّت تراجمهم قبل بابين، وكلهم رجال الصحيح، وأخرجه البخاريّ في "الصحيح" بنفس هذا السند. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ عَلَيَّ، مَسْرُورًا، تَبْرُقُ) -بفتح التاء المثنّاة، وضم الراء، من باب قتل-: أي تُضيء، وتستنير من السرور والفرح (أسَارِيرُ وَجْهِهِ) هي الخطوط التي تجتمع في الجبهة، وتتكسّر، واحدها سِرٌّ -بالكسر- أو سَرَرٌ -بفتحتين-، وجمعها أَسْرارٌ، وأسِرَّةٌ، وجمع الجمع أَسَارير. أفاده ابن الأثير

(1)

.

وقال القرطبيّ: أسارير وجهه: هي الطرائق الدقيقة، والتكسّر اليسير الذي يكون في الجبهة، والوجهِ، والغضون أكثر من ذلك، وواحد الأسارير: أسرار، وواحدها سِرٌّ، وسَرَرٌ، فأسارير جمع الجمع، ويُجمع في القلّة أيضًا أَسِرَّة. وهذا عبارة عن انطلاق وجهه، وظهور السرور عليه، وُيعبّر عن خلاف ذلك بالمقَطِّب، أي "المجمع" فكأن الحزن والغضب جمعه وقبضه انتهى

(2)

.

(فَقَالَ: "أَلَمْ تَرَيْ) فعل مضارع مسند لضمير المؤنّثة المخاطبة، مجزوم بحذف النون؛ لأنه من الأمثلة الخمسة التي ترفع بثبوت النون، وتجزم، وتنصب بحذفها. قال في "الفتح": والمراد من الرؤية هنا الإخبار، أو العلم. وفي "صحيح البخاريّ" في مناقب زيد رضي الله عنه من طريق ابن عيينة، عن الزهريّ بلفظ:"ألم تسمعي ما قال المدلجيّ"(أَنَّ مُجَزِّزًا) -بضمّ الميم، وكسر الزاي المشدّدة، وحكي فتحها، وبعدها زاي أخرى- هذا هو المشهور. ومنهم من قال: -بسكون الحاء المهملة، وكسر الراء، ثم زاي-.

قال القرطبيّ: مجرز -بفتح الجيم، وكسر الزاي الأولى- هو المعروف عند الحفّاظ، وكان ابن جريج يقول: مُجزَّز -بفتح الزاي- وقيل عنه أيضًا: مُحْرِز -بحاء مهملة ساكنة، وراء مكسورة- والصواب الأول، فإنه روي أنه إنما سُمي مجزّزًا؛ لأنه كان إذا أخذ أسيرًا جزّ ناصيته. وقيل: لحيته. قاله الزبيريّ انتهى

(3)

.

وهو مجزّز بن الأعور بن جعدة بن معاذ بن عُتْوَارة بن عمرو بن مُدْلِج الكنانيّ

(1)

"النهاية" 2/ 359.

(2)

"المفهم" 4/ 198 - 199.

(3)

"المفهم" 4/ 199.

ص: 193

المدلجيّ، نسبة إلى مُدلج بن مرّة بن عبد مناف بن كنانة، وكانت القيافة فيهم، وفي بني أسد، والعرب تعترف لهم بذلك، وليس ذلك خاصًّا بهم على الصحيح. وقد أخرج يزيد بن هارون في "الفرائض" بسند صحيح إلى سعيد بن المسيّب أن عمر رضي الله عنه كان قائفًا، أورده في قصّته. وعمر قرشيّ، ليس مُدْلجيًّا، ولا أسديًّا، لا أسد قريش، ولا أسد خزيمة، ومُجزّز المذكور هو والد علقمة بن مجزّز. وذكر مصعب الزبيريّ، والواقديّ أنه سمي مُجزّزًا؛ لأنه كان إذا أخذ أَسيرًا في الجاهليّة جَزَّ ناصيته، وأطلقه. قال الحافظ: وهذا يدفع فتح الزاي الأولى من اسمه، وعلى هذا فكان له اسمٌ غير مجزز، لكنّي لم أر من ذكره. وكان مجزّزٌ عارفًا بالقيافة. وذكره ابن يونس فيمن شهد فتح مصر، وقال: وذكروه في كتبهم. يعني كتب من شهد فتح مصر، قال: ولا أعلم له رواية.

قال الحافظ في "الإصابة": وأغفل ذكره جمهور من صنّف في الصحابة، لكن ذكره أبو عمر في "الاستيعاب". قال: ولولا ذكر ابن يونس أنه شهد الفتوح بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم لما كان مع من ذكره في الصحابة حجة صريحةٌ على إسلامه، واحتمال أن يكون قال ما قال في حقّ زيد وأسامة قبل أن يُسلم، واعتُبر قوله لعدم معرفته بالقيافة

(1)

لكن قرينة رضا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقربه يدلّ على أنه اعتمد خبره، ولو كان كافرًا لما اعتمده في حكم شرعيّ انتهى

(2)

.

(نَظَرَ) زاد في رواية البخاريّ: "آنفًا" وهو بالمدّ على المشهور، ويجوز قصرها، وبهما قرئ في السبع: ومعناه: قريبًا، أو أقرب وقت (إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنهم -. وفي الرواية التي بعدها:"دخل عليّ، فرأى أسامة بن زيد، وزيدًا، وعليهما قطيفة، قد غطّيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما". وفي رواية للبخاريّ: "وأسامة وزيدٌ مضطجعان". قال الحافظ: وفي هذه الزيادة دفع توهّم من يقول: لعلّه حاباهما بذلك لما عرف من كونهم كانوا يطعنون في أسامة انتهى.

(فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأقْدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ) قال أبو داود: نقل أحمد بن صالح عن أهل النسب أنهم كانوا في الجاهليّة يقدحون في نسب أسامة؛ لأنه كان أسود شديد السواد، وكان أبوه زيدٌ أبيض من القطن، فلما قال القائف ما قال، مع اختلاف اللون، سرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لكونه كافًّا لهم عن الطعن فيه؛ لاعتقادهم ذلك. وقد أخرجه

(1)

هكذا نسخة "الإصابة" وفيها ركاكة، ولعل الصواب إسقاط لفظة "عدم"، وليحرّر. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

"فتح" 13/ 550 "كتاب الفرائض". و"الإصابة" 9/ 93 - 94.

ص: 194

عبد الرزاق من طريق ابن سيرين أن أمّ أيمن مولاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، كانت سوداء، فلهذا جاء أسامة أسود. وقد وقع في "الصحيح" عن ابن شهاب: أن أمّ أيمن كانت حبشيّةً وَصِيفة لعبد اللَّه والد النبيّ صلى الله عليه وسلم. ويقال: كانت من سبي الحبشة الذين قدِموا زمن الفيل، فصارت لعبد المطّلب، فوهبها لعبد اللَّه، وتزوّجت قبل زيد عُبيدًا الحبشيّ، فولدت له أيمن، فكُنيت به، واشتهرت بذلك، وكان يقال لها: أمّ الظباء. قاله في "الفتح".

وقال أبو العبّاس القرطبيّ: قال القاضي: وقال غير أحمد -يعني ابن صالح-: كان زيد أزهر اللون، وكان أسامة شديد الأُدْمة. وزيد بن حارثة عربيّ صريحٌ، من كلب، أصابه سباءٌ، فاشتراه حكيم بن حِزَام لعمّته خديجة بنت خُوَيلد - رضي اللَّه تعالى عنها -، فوهبته للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فتبنّاه، فكان يُدعى زيدَ بن محمد، حتى نزل قوله تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، فقيل: زيد بن حارثة. وابن زيد أسامة، وأمه أم أيمن بركة، وكانت تُدعى أمّ الظِّبَاء، مولاة عبد اللَّه بن عبد المطّلب، ودَايةُ

(1)

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولم أر لأحد أنها كانت سوداء إلا ما رُوي عن ابن سيرين في "تاريخ أحمد بن سعيد"، فإن كان هذا، فلهذا خرج أسامة أسود، لكن لو كان هذا صحيحًا لم ينكر الناس لونه؛ إذ لا يُنكر أن يلد الإنسان أسود من سوداء

(2)

. وقد نسبها الناس، فقالوا: أم أيمن بركة بنت محصن بن ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان. وقد ذكر مسلم في "الجهاد" عن ابن شهاب: أن أم أيمن كانت من الحبش، وَصِيفة لعبد اللَّه بن عبد المطّلب، أبي النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقد ذكره الواقديّ. وكانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم بركة أخرى حبشيّة، كانت تخدم أم حبيبة، فلعلّه اختلط اسمها على ابن شهاب، على أن أبا عمر قد قال في هذه: أظنّها أم أيمن. أو لعلّ ابن شهاب نسبها إلى الحبشة؛ لأنها من مهاجرة الحبشة. واللَّه تعالى أعلم.

قال القرطبيّ: هذا أظهر. وتزوّجها عُبيد بن زيد، من بني الحارث، فولدت له أيمن، وتزوّجها بعده زيد بن حارثة بعد النبوّة، فولدت له أسامة، شهدت أحدًا، وكانت تُداوي الجرحى، وشهدت خيبر، وتوفّيت في أول خلافة عثمان رضي الله عنه بعشرين يومًا، روى عنها ابنها أنس، وأنس بن مالك، وطارق بن شهاب.

قالت أم أيمن: بات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في البيت، فقام من الليل، فبال في فَخّارة، فقمت، وأنا عطشى، لم أشعر ما في الفخّارة، فشربت ما فيها، فلما أصبحنا، قال: "يا

(1)

"البداية": الحاضنة.

(2)

وأجاب الحافظ عن هذا، فقال: يحتمل أنها كانت صافيةً، فجاء أسامة شديد السواد، فوقع الإنكار لذلك. انظر الفتح 13/ 551 "كتاب الفرائض".

ص: 195

أم أيمن أهريقي ما في الفخارة"، قلت: والذي بعثك بالحقّ لقد شربت ما فيها، فضحك حتى بدت نواجذه، قال: "إنه لا تتجعنّ

(1)

بطنك بعدها أبدًا". انتهى كلام القرطبيّ

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-51/ 3520 و 3521 وفي "الكبرى" 51/ 5687 و 5688. وأخرجه (خ) في "المناقب" 3555 و"الفرائض" 6770 و 6771 (م) في "الرضاع" 1459 (د) في "الطلاق" 2267 (ت) في "الولاء والهبة" 2129 (ق) في "الأحكام" 2349 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 24005. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعيّة العمل بالقافة، وفيه اختلافٌ بين العلماء، سيأتي تحقيقه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): جواز اضطجاع الرجل مع ولده في شعار واحد. (ومنها): جواز الشهادة على المنتقبة، والاكتفاء بمعرفتها، من غير رؤية الوجه. (ومنها): قبول شهادة من يشهد قبل أن يُستشهد عند عدم التهمة. (ومنها): سرور الحاكم لظهور الحقّ لأحد الخصمين، عند السلامة من الهوى. (ومنها) أن البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- أدخل هذا الحديث في "كتاب الفرائض" إشارة إلى الردّ على من زعم أن القائف لا يُعتبر قوله، فإن من اعتبر قوله، فعمل به، لزم منه حصول التوارث بين الملحق والملحق به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم العمل بالقائف:

قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قد استدلّ جمهور العلماء على الرجوع إلى قول القافة عند التنازع في الولد بسرور النبيّ صلى الله عليه وسلم بقول هذا القائف، وما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بالذي يُسرّ بالباطل، ولا يُعجبه، ولم يأخذ بذلك أبو حنيفة، والثوريّ، وإسحاق، وأصحابهم؛ متمسّكين بإلغاء النبيّ صلى الله عليه وسلم الشبه في حديث اللعان على ما سبق، وفي

(1)

الذي في "الإصابة": "إنك لا تشتكين بطنك بعد هذا"، وعزاه إلى ابن السكن.

(2)

"المفهم" 4/ 199 - 200.

ص: 196

حديث سودة، كما تقدّم. وقد انفَصل من أخذ به عن هذا بأن إلغاء الشبه في تلك المواضع التي ذكروها إنما كان لمعارض أقوى منه، وهو معدوم هنا، فانفصلا.

ثم اختلف الآخذون بأقوال القافة، هل يؤخذ بذلك في أولاد الحرائر والإماء، أو يختصّ بأولاد الإماء؟ على قولين:

فالأول قول الشافعيّ، ومالك في رواية ابن وهب عنه، ومشهور مذهبه قصره على ولد الأمة، وفرّق بينهما بأن الواطىء في الاستبراء يستند وطؤه لعقد صحيح، فله شبهة الملك، فيصحّ إلحاق الولد به، إذا أتت به لأكثر من ستّة أشهر من وطئه، وليس كذلك الوطء في العدّة؛ إذ لا عقد، إذ لا يصحّ، وعلى هذا فيلزم من نكح في العدّة أن يُحدّ، ولا يُلحق به الولد؛ إذ لا شبهة له. وليس مشهور مذهبه، وعلى هذا فالأولى ما رواه ابن وهب عنه، وقاله الشافعيّ.

ثم العجب أن هذا الحديث الذي هو الأصل في هذا الباب إنما وقع في الحرائر؛ فإن أسامة وأباه ابنا حرّتين، فكيف يلغى السبب الذي خرج عليه دليل الحكم، وهو الباعث عليه، هذا ما لا يجوز عند الأصوليين.

وكذلك اختلف هؤلاء، هل يُكتَفَى بقول واحد؛ لأنه خبر من القافة، أو لا بدّ من اثنين؛ لأنها شهادةٌ؟ وبالأول قال ابن القاسم، وهو ظاهر الخبر، بل نصّه. وبالثاني قال مالكٌ، والشافعيّ، ويلزم عليه أن يُراعَى فيها شروط الشهادة، من العدالة، وغيرها.

واختلفوا أيضَا فيما إذا ألحقته القافة بمدّعيين، هل يكون ابنًا لهما؟، وهو قول سحنون، وأبي ثور. وقيل: يُترك حتى يَكْبَر، فيوالي من شاء منهما، وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقاله مالكٌ، والشافعيّ. وقال عبد الملك، ومحمد بن مسلمة: يُلحق بأكثرهما شَبَهًا.

واختَلَفَ نفاة القول بالقافة في حكم ما أشكل، وتنوزع فيه: فقال أبو حنيفة: يُلحق الولد بهما، وكذلك بامرأتين. وقال محمد بن الحسن: يُلحق بالآباء، وإن كثروا، ولا يُلحق إلا بأم واحدة، ونحوه قال أبو يوسف. وقال إسحاق: يقرع بينهم، وقاله الشافعيّ في القديم، ويُستدلّ له بحديث عليّ رضي الله عنه المذكور في الباب الماضي. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- باختصار

(1)

.

وقال الإمام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-- بعد ذكر أدلة القائلين بالعمل بالقافة-: قالت الحنفيّة: قد أجلبتم علينا في القافة بالخيل والرَّجِلِ، والحكم بالقيافة تعويلٌ على مجرّد

(1)

"المفهم" 4/ 200 - 202.

ص: 197

الشبه، والظنّ، والتخمين، ومعلومٌ أن الشبه قد يوجد من الأجانب، وينتفي عن الأقارب، وذكرتم قصّة أسامة وزيد، ونسيتم قصّة الذي ولدت امرأته غلامًا أسود، يخالف لونهما، فلم يمكنه النبيّ صلى الله عليه وسلم من نفيه، ولا جعل للشبه، ولا لعدمه أثَرًا، ولو كان للشبه أثرٌ لاكتفى به في ولد الملاعنة، ولم يحتج إلى اللعان، ولكان ينتظر ولادته، ثم يلحق بصاحب الشبه، ويستغني بذلك عن اللعان، بل كان لا يصحّ نفيه مع وجود الشبه بالزوج، وقد دلّت السنّة الصحيحة الصريحة على نفيه عن الملاعن، ولو كان الشبه له، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أبصروها، فإن جاءت به كذا وكذا، فهو لهلال بن أميّة"، وهذا قاله بعد اللعان، ونفي النسب عنه، فعلم أنه لو جاء على الشبه المذكور، لم يثبت نسبه منه، وإنما كان مجيئه على شبهه دليلاً على كذبه، لا على لحوق الولد به.

قالوا: وأما قصّة أسامة وزيد، فالمنافقون كانوا يطعنون في نسبه من زيد؛ لمخالفة لونه لون أبيه، ولم يكونوا يكتفون بالفراش، وحكم اللَّه تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم في أنه ابنه، فلما شهد به القائف، وافقت شهادته حكم اللَّه تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فسُرّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لموافقتها حكمه، ولتكذبيها قول المنافقين، لا أنه أثبت نسبه بها، فأين في هذا إثبات النسب بقول القائف؟.

قالوا: وهذا معنى الأحاديث التي ذُكر فيها اعتبار الشبه، فإنها إنما اعْتَبَرَت فيه الشبه بنسب ثابت بغير القافة، ونحن لا ننكر ذلك.

قالوا: وأما حكم عمر، وعليّ، فقد اختُلف على عمر، فروي عنه ما ذكرتم، وروي عنه أن القائف لما قال له: قد اشتركا فيه، قال: والِ أيّهما شئت، فلم يعتبر قول القائف.

قالوا: وكيف تقولون بالشبه، ولو أقرّ أحد الورثة بأخ، وأنكره الباقون، والشبه موجود، لم تثبتوا النسب به، وقلتم: إن لم تتّفق الورثة على الإقرار به لم يثبت النسب؟.

قال أهل الحديث: من العجب أن يُنكر علينا القول بالقافة، ويجعلها من باب الحدس والتخمين من يُلحِق ولد المشرقيّ بمن في أقصى الغرب، مع القطع بأنهما لم يتلاقيا طرفة عين، ويُلحق الولد باثنين مع القطع بأنه ليس ابنًا لأحدهما، ونحن إنما ألحقنا الولد بالقائف المستند إلى الشبه المعتبر شرعًا وقدرًا، فهو استناد إلى ظنّ غالب، ورأي راجح، وأمارة ظاهرة بقول من هو من أهل الخبرة، فهو أولى بالقبول من قول المقومين، وهل ينكر مجيء كثير من الأحكام مستندًا إلى الإمارات الظاهرة، والظنون الغالبة؟.

وأما وجود الشبه بين الأجانب، وانتفاؤه بين الأقارب، وإن كان واقعًا، فهو من أندر

ص: 198

شيء وأقلّه، والأحكام إنما هي للغالب الكثير، والنادر في حكم المعدوم.

وأما قصّة من ولدت امرأته غلاما أسود، فهو حجة عليكم؛ لأنها دليلٌ على أن العادة التي فطر اللَّه عليها الناس اعتبار الشبه، وأن خلافه يوجب ريبة، وأن في طباع الخلق إنكار ذلك، ولكن لما عارض ذلك دليلٌ أقوى منه، وهو الفراش، كان الحكم للدليل القويّ، وكذلك نقول نحن وسائر الناس: إن الفراش الصحيح إذا كان قائمًا، فلا يعارض بقافة، ولا شبه، فمخالفة ظاهر الشبه لدليل أقوى منه -وهو الفراش- غير مستنكر، وإنما المستنكر مخالفة هذا الدليل الظاهر بغير شيء.

وأما تقديم اللعان على الشبه، وإلغاء الشبه مع وجوده، فكذلك أيضًا هو من تقديم أقوى الدليلين على أضعفهما، وذلك لا يمنع العمل بالشبه مع عدم ما يعارضه، كالبيّنة تُقدّم على اليد، والبراءة الأصلية، ويُعمل بهما عند عدمهما.

وأما ثبوت نسب أسامة من زيد بدون القيافة، فنحن لم نُثبت نسبه بالقيافة، والقيافةُ دليل آخر موافقٌ لدليل الفراش، فسرور النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفرحه بها، واستبشاره لتعاضد أدلّة النسب، وتضافرها، لا لإثبات النسب بقول القائف وحدَه، بل هو من باب الفرح بظهور أعلام الحقّ، وأدلّته، وتكاثرها، ولو لم تصلح القيافة دليلاً لم يَفرَح بها، ولم يُسَرّ، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يفرح ويُسرّ، إذا تعاضدت عنده أدلّة الحقّ، ويُخبر بها الصحابة، ويُحبّ أن يسمعوها من المخبر بها؛ لأن النفوس تزداد تصديقًا بالحقّ، إذا تعاضدت أدلّته، وتُسرّ به، وتفرح، وعلى هذا فطر اللَّه تعالى عباده، فهذا حكم اتفقت عليه الفطرة والشِّرْعَة، وباللَّه تعالى التوفيق. انتهى كلام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- باختصار، وإن أردت الزيادة من احتجاجاته الكثيرة المفيدة، فارجع إلى كتابه "زاد المعاد"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما تقدّم من الأدلة أن المذهب الصحيح في مسألة العمل بالقائف، هو مذهب الجمهور المثبتين له؛ لوضوح حجته، وقوّتها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3521 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ذَاتَ يَوْمٍ، مَسْرُورًا، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، أَلَمْ تَرَيْ، أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيِّ، دَخَلَ عَلَيَّ، وَعِنْدِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَرَأَى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَزَيْدًا، وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ، وَقَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا،

(1)

"زاد المعاد في هدي خير العباد" 5/ 418 - 423.

ص: 199

فَقَالَ: هَذِهِ أَقْدَامٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و "إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"سفيان": هو ابن عيينة.

وقوله: "قطيفة" بفتح، فكسر-: دِثارٌ له خَمْلٌ، والجمع قطائفُ، وقُطُفٌ - بضمّتين-. قاله الفيّوميّ. وقال القرطبيّ:"القطيفة": كساء غليظ.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌52 - (بَابُ إسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَتَخَيِيرِ الْوَلَدِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذه الترجمة اشتملت على مسألتين: [إحداهما]: مسألة إسلام أحد الزوجين. و [الثانية]: تخيير الولد بين الأبوين.

فأما المسألة الأولى، فليس في حديثي الباب ما يبيّن حكمها، ولكن سأتكلم عليها في المسألة الرابعة من الحديث الأول، إن شاء اللَّه تعالى. وأما المسألة الثانية، فالحديث الأول بين حكمها فيما إذا أسلم أحد الأبوين، وبينهما ولد، والحديث الثاني بين حكم ما إذا كان الولد بين مسلمين، وسأتكلّم عليها في المسألة الثالثة من الحديث الثاني، إن شاء اللَّه تعالى.

3522 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيٍّ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سَلَمَةَ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ أَسْلَمَ، وَأَبَتِ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ، فَجَاءَ ابْنٌ لَهُمَا صَغِيرٌ، لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، فَأَجْلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الأَبَ هَا هُنَا، وَالأُمَّ هَا هُنَا، ثُمَّ خَيَّرَهُ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِهِ» ، فَذَهَبَ إِلَى أَبِيهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمود بن غيلان) العدويّ مولاهم، أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 33/ 37.

ص: 200

2 -

(عبد الرزاق) بن همام المترجم قبل باب.

3 -

(سفيان) الثوريّ المترجم قبل باب أيضًا.

4 -

(عثمان) بن مسلم، ويقال: اسم أبيه سليمان، ويقال: اسم جدّه جرموز "البتّيّ" -بفتح الموحّدة، وتشديد المثنّاة- أبو عمرو البصريّ، صدوق، عابوا عليه الإفتاء بالرأي [5].

قال الجوزجانيّ، عن أحمد: صدوقٌ ثقة. وقال الدوريّ، عن ابن معين: ثقة. وقال معاوية بن صالح، عن ابن معين: ضعيف. قال النسائيّ في "الكنى": عثمان الْبَتّيّ، أخبرنا معاوية بن صالح، عن ابن معين، قال: عثمان البتّيّ ضعيف. قال النسائيّ: هذا عندي خطأ، ولعله أراد عثمان بن مقسم البُرّيّ. وقال ابن سعد: كان ثقة، له أحاديث، وكان صاحب رأي وفقه، أخبرنا الأنصاريّ، قال: كان عثمان الْبَتّيّ من أهل الكوفة، فانتقل إلى البصرة، فنزلها، وكان مولى لبنى زُهرة، ويُكنى أبا عمرو، وكان يبيع الْبُتُوت

(1)

، فقيل: البتّيّ. وقال أبو حاتم: شيخٌ يُكتب حديثه. وقال الدارقطنيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: مات سنة (143هـ) وفيها أرخه ابن جرير، والقرّاب. روى له الأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

5 -

(عبد الحميد بن سلمة الأنصاريّ) يقال: هو ابن يزيد بن سلمة، مجهولٌ [6]. روى عن أبيه، عن جدّه، أن أبوية اختصما فيه

الحديث. وعنه عثمان البتّيّ. قاله ابن عليّة عنه. وقال الثوريّ: عن عثمان، عن عبد الحميد الأنصاريّ، عن أبيه، عن جدّه به. وقال حماد بن سلمة وغيره: عن عثمان، عن عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه، أن رجلاً أسلم، فذكره مرسلاً. ورواه المعافى بن عمران، وعيسى بن يونس، عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن جدّه أبي الحكم، رافع بن سنان به. وروى الدارقطنيّ حديثًا من طريقه، وقال: عبد الحميد بن سلمة، وأبوه، وجدّه لا يُعرفون، قال: ويقال: عبد الحميد بن يزيد بن سلمة. وكذا قال في "كتاب السنّة" له في أحاديث النزول، ذكر الرواية عن سلمة جد عبد الحميد بن يزيد بن سلمة. ورجّح ابن القطّان أن حديث عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن جدّه، غير حديث عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه، عن جدّه؛ لاختلاف السياق فيهما، وأنكر على من خلطهما، ومن أعلّ حديث أبي جعفر بابن سلمة. انتهى. روى له المصنّف، وابن ماجه حديث الباب فقط. وأبوه، وجدّه سيأتي الكلام عليهما. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

قاال ابن الأثير البَتُّ: كساء غليظ مربّعٌ. وقيل: طيلسان من خزّ، ويُجمع على بتوت. "النهاية" 1/ 92.

ص: 201

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سَلَمَةَ الأَنْصَارِيِّ) ويقال: ابن يزيد بن سلمة (عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّهِ) تقدّم عن الدارقطنيّ أن عبد الحميد، وأباه، وجدّه لا يعرفون (أَنَّهُ أَسْلَمَ، وَأَبَتِ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ، فَجَاءَ ابْنْ لَهُمَا صَغِيرٌ، لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ) -بضم، فسكون- والاحتلام: الجماع في النوم، والاسم الْحُلُمُ -بضمتين- كعُنُق. أفاده في "القاموس". والمعنى أنه لم يبلغ مبلغ الرجال (فَأَجْلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَبَ هَا هُنَا) أي في جهة (وَالْأُمَّ هَا هُنَا) أي في جهة أخرى (ثَمَّ خَيَّرَهُ) أي خيّر الغلام بين أبويه، حتى يتبع من يريده (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ اهْدِهِ) أي وفّق هذا الغلام ليختار الإسلام باتباع أبيه المسلم (فَذَهَبَ إِلَى أَبِيهِ) أي فأخذه. وفي رواية للمصنّف في "الفرائض" من "الكبرى" من طريق ابن عليّة، عن عثمان البتّيّ، عن عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه، عن جدّه: أن أبويه اختصما فيه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أحدهما مسلمٌ، والآخر كافرٌ، فتوجّه إلى الكافر، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهم اهده، فتوجّه إلى المسلم، فقضى له به".

وفيه أن الولد الصغير إذا كان بين مسلم وكافر يخيّر، فأيهما تبع يكون له، وفيه اختلاف بين أهل العلم، سيأتي بيانه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد الحميد بن سلمة الاْنصارقي، عن أبيه، عن جدّه رضي الله عنه هذا ضعيفٌ لجهالة عبد الحميد، وأبيه، وجدّه، وللاضطراب في إسناده، فقد أخرجه المصنّف في "الفرائض" من "الكبرى" -26/ 6388 - من طريق حمّاد بن سلمة، عن عثمان البتّيّ، عن عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه: أن رجلاً أسلم، ولم تسلم امرأته. مرسلٌ.

وقد أخرجه فيه 26/ 6385 - من حديث رافع بن سنان رضي الله عنه، بإسناد صحيح، وأخرج هذا أيضًا أبو داود في "سننه"، فقال:

حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي، أخبرنا عيسى، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، أخبرني أبي، عن جدي، رافع بن سنان، أنه أسلم، وأبت امرأته، أن تسلم، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: ابنتي، وهي فَطِيم، أو شبهه، وقال رافع: ابنتي، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"اقعد ناحية"، وقال لها:"اقعدي ناحية"، قال: وأقعد الصبية بينهما، ثم قال:"ادعواها"، فمالت الصبية إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللَّهم اهدها"، فمالت الصبية إلى أبيها،

ص: 202

فأخذها. وهذا حديث صحيح، يعني عن حديث جدّ عبد الحميد.

قال الحافظ أبو الحسن ابن القطّان الفاسيّ -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه، بيان الوهم والإيهام" - بعد أن ذكر أن عبد الحقّ قال: اختُلف في إسناد هذا الحديث-: ما نصّه: وهذا الاختلاف أن هذا السياق، وما في معناه هو من رواية عيسى بن يونس، وأبي عاصم، وعليّ بن غُراب، كلهم عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن جدّه رافع بن سنان، فإنه عبد الحميد بن جعفر بن عبد اللَّه بن الحكم بن رافع بن سنان. وعبد الحميد ثقة، وأبوه جعفر كذلك، قاله الكوفيّ. ذكر رواية عيسى بن يونس هذه أبو داود، وهو راوي السياق المذكور. وذكر رواية أبي عاصم، وعليّ بن غُراب أبو الحسن الدارقطنيّ في "كتاب السنن"، وسُمّيت البنت المذكورة في رواية أبي عاصم عميرة.

ورُويت القصّة كما هي من طريق عثمان الْبتّيّ، عن عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه، عن جدّه، أن أبويه اختصما فيه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أحدهما مسلم، والآخر كافر، فخيّره، فتوجّه إلى الكافر، فقال:"اللَّهم اهده"، فتوجّه إلى المسلم، فقضى به له. هكذا ذكره أبو بكر بن أبي شيبة، عن إسماعيل بن إبراهيم -هو ابن عليّة- عن عثمان البتّيّ. وكذا رواه يعقوب الدورقيّ، عن إسماعيل أيضًا. ورواه يزيد بن زُريع، عن عثمان البتّيّ، فقال فيه: عن عبد الحميد بن يزيد بن سلمة، أن جدّه أسلم، وأبت امرأته أن تُسلم، وبينهما ولدٌ صغير، فذكر مثله. ورواه عن يزيد بن زريع، يحيى بن عبد الحميد الحِمّانيّ، من رواية ابن أبي خيثمة عنه. نقلت جميعها من "كتاب قاسم بن أصبغ"، إلا أن هذه القصّة هكذا بجعل المخيّر غلامًا، وجدا لعبد الحميد بن يزيد بن سلمة لا يصحّ؛ لأن عبد الحميد، وأباه، وجدّه لا يُعرفون، ولو صحّت لم ينبغ أن تُجعل خلافًا لرواية أصحاب عبد الحميد بن جعفر، عن عبد الحميد بن جعفر، فإنهم ثقات، وهو وأبوه ثقتان، وجدّه رافع بن سنان معروف، بل كان يجب أن يقال: لعلهما قصّتان، خُير في إحداهما غلام، وفي الأخرى جارية واللَّه أعلم انتهى كلام ابن القطّان -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن الحديث برواية المصنّف هنا ضعيف، وإنما الصحيح أنه من حديث عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن جدّه، كما أخرجه أبو داود في "سننه" كما سقته آنفًا، وأخرجه هو في "الفرائض" من "الكبرى". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام" 3/ 513 - 515.

ص: 203

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-52/ 3522 - وفي "الكبرى" 52/ 5689 وفي "الفرائض" 26/ 6386 و 6387. وأخرجه (ق) في "الأحكام" 2352 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 2352 و 23243 و 23247. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم إسلام أحد الزوجين، وإباء الآخر، وبينهما ولدٌ، وذلك أن يخيّر الولد، وفيه اختلاف بين العلماء سيأتي تحقيقه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أن إسلام أحد الزوجين، وإباء الآخر يبطل النكاح، وفيه اختلاف بين العلماء أيضًا، سيأتي تحقيقه في المسألة الثالثة من الحديث الثاني، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم بهداية أمته، حيث لم يترك هذا الولد يختار الكافر من أبويه، بل دعا اللَّه تعالى أن يهديه للحقّ. (ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، وهو استجابة دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم لهذا الولد بالهداية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم النكاح إذا أسلم أحد الزوجين: (اعلم): أنه إذا أسلم الزوجان معًا، فهما على نكاحهما، سواء كان قبل الدخول، أو بعده، وليس بين أهل العلم في هذا اختلاف، كما ذكر ابن عبد البرّ أنه إجماع أهل العلم على ذلك، وذلك لأنه لم يوجد منهم اختلاف دين.

وأما إذا أسلم أحد الزوجين الوثنيين، أو المجوسيين، أو كتابيّ متزوّج بوثنيّة، أو مجوسيّة قبل الدخول، فذهب الإمامان: أحمد، والشافعيّ -رحمهما اللَّه تعالى- إلى وقوع الفرقة بينهما من حين إسلامه، ويكون ذلك فسخًا، لا طلاقًا.

وذهب الإمام أبو حنيفة -رحمه اللَّه تعالى- إلى أن الفرقة لا تقع، بل إن كانا في دار الإسلام، عُرض الإسلام على الآخر، فإن أبى وقعت الفرقة حينئذ، وإن كانا في دار الحرب، وقّف ذلك على انقضاء عدّتها، فإن لم يسلم الآخر، وقعت الفرقة، فإن كان الإباء من الزوج، كان طلاقًا؛ لأن الفرقة حصلت من قبله، فكان طلاقًا، كما لو لفظ به، وإن كان من المرأة، كان فسخًا؛ لأن المرأة لا تملك الطلاق.

وذهب الإمام مالك -رحمه اللَّه تعالى- إلى أنه إن كانت هي المسلمة، عُرض عليه الإسلام، فإن أسلم، وإلا وقعت الفرقة، وإن كان هو المسلم تعجلت الفرقة؛ لقول سبحانه وتعالى {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} الآية.

وأما إذا أسلم أحدهما بعد الدخول، فذهبت طائفة إلى أنه يوقف على انقضاء العدّة،

ص: 204

فإن أسلم الآخر قبل انقضائها، فهما على النكاح، وإن لم يسلم حتى انقضت العدّة وقعت الفرقة منذ اختلف الدينان، فلا يحتاج إلى استئناف العدّة. وهذا قول الزهريّ، والليث، والحسن بن صالح، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وإسحاق، ورواية عن أحمد، ونحوه عن مجاهد، وعبد اللَّه بن عمر، ومحمد بن الحسن.

وذهبت طائفة إلى وقوع الفرقة، وبه قال الحسن، وطاوس، وعكرمة، وقتادة، والحكم، وهي الرواية الثانية عن أحمد، واختارها الخلّال. وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، ونصره ابن المنذر. واحتجوا بقوله سبحانه وتعالى:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} . وبأن ما يوجب فسخ النكاح لا يختلف بما قبل الدخول وبعده، كالرضاع.

واحتجّ الأولون بما روى مالك في "موطّئه" عن ابن شهاب، قال: كان بين إسلام صفوان بن أمية، وامرأته بنت الوليد بن المغيرة نحوٌ من شهر، أسلمت يوم الفتح، وبقي صفوان حتى شهد حُنينًا، والطائف، وهو كافرٌ، ثم أسلم، فلم يفرّق النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما، واستقرّت عنده امرأته بذلك النكاح. قال ابن عبد البرّ: وشُهرة هذا الحديث أقوى من إسناده. وقال ابن شهاب: أسلمت أم حكيم يوم الفتح، وهرب زوجها عكرمة حتى أتى اليمن، فارتحلت حتى قدِمت عليه اليمن، فدعته إلى الإسلام، فأسلم، وقدِم، فبايع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فثبتا على نكاحهما. وقال ابن شُبْرُمة: كان الناس على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُسلم الرجل قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدّة المرأة فهي امرأته، وإن أسلم بعد العدّة، فلا نكاح بينهما. ولأن أبا سفيان خرج، فأسلم عام الفتح قبل دخول النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة، ولم تُسلم هند امرأته حتى فتح النبيّ صلى الله عليه وسلم مكّة، فثبتا على نكاحهما. وأسلم حكيم بن حزام قبل امرأته. وخرج أبو سفيان بن الحارث، وعبد اللَّه ابن أبي أُميّة، فلقيا النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الفتح بالأبواء، فأسلما قبل نسائهما، ولم يُعلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فرّق بين أحد ممن أسلم وبين امرأته، ويبعد أن يتّفق إسلامهما دفعةً واحدةً.

وأما إذا أسلم أحدهما بعد إنقضاء عدّتها، انفسخ النكاح في قول عامّة العلماء، قال ابن عبد البرّ: لم يختلف العلماء في هذا، إلا شيئًا روي عن النخعيّ، شذّ فيه عن جماعة العلماء، فلم يتبعه أحد، زعم أنها تردّ إلى زوجها، وإن طالت المدّة. انتهى ملخّصًا من "المغني" لابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن الأرجح القول ببقاء النكاح بعد إسلام أحد الزوجين، مطلقًا، سواء كان قبل الدخول، أو بعده، وسواء انقضت العدّة،

(1)

"المغني" 10/ 6 - 10.

ص: 205

أم لا، إلا إن صحّ الإجماع على أنها إن انقضت انفسخ النكاح، وإلا فليس هناك دليلٌ يفرّق بين الدخول، وعدم الدخول، وبين انقضاء العدّة، وعدمه، فقد كان الرجال يأتون إلى المدينة، فيسلمون، ثم يرجعون إلى أهليهم، فيدعونهم إلى الإسلام، فيسلمون، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه تكلّم في شأن أنكحتهم بشيء من التفصيل المذكور، بل كان يأمرهم أن يرجعوا إلى أهليهم، ويدعوهم رجالاً ونساء إلى الإسلام فقط.

قال العلاّمة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: ما ملخّصه: إن اعتبار العدّة لم يُعرف في شيء من الأحاديث، ولا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسأل المرأة، هل انقضت عدّتها، أم لا؟، ولو كان الإسلام بمجرّده فرقة لكانت طلقة بائنة، ولا رجعة فيها، فلا يكون الزوج أحقّ بها إذا أسلم، وقد دلّ حكمه في أن النكاح موقوف، فإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدّة فهي زوجته، وإن انقضت عدّتها، فلها أن تنكح من شاءت، وإن أحبّت انتظرته، وإذا أسلم كانت زوجته من غير حاجة إلى تجديد نكاح. قال: ولا نعلم أحدًا جدّد بعد الإسلام نكاحه البتّة، بل الواقع أحد الأمرين: إما افتراقهما، ونكاحها غيره، وإما بقاؤهما على النكاح الأول، وإن تأخر إسلامها، أو إسلامه، وأما تنجيز الفرقة، أو مراعاة العدّة، فلا نعدم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضى بواحدة منهما، مع كثرة من أسلم في عهده من الرجال وأزواجهنّ، وقرب إسلام أحد الزوجين من الآخر، وبعده منه، ولولا إقراره صلى الله عليه وسلم الزوجين على نكاحهما، وإن تأخّر إسلام أحدهما عن الآخر بعد صلح الحديبية، وزمن الفتح، لقلنا بتعجيل الفرقة بالإسلام من غير اعتبار عدّة؛ لقوله تعالى:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ، وقوله:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، وأن الإسلام سبب الفرقة، وكلّ ما كان سببًا للفرقة تعقبه الفرقة، كالرضاع، والخلع، والطلاق. وهذا اختيار الخلّال، وأبي بكر صاحبه، وابن المنذر، وابن حزم.

قال: وجواب من أجاب بتجديد نكاح من أسلم في غاية البطلان، ومن القول على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بلا علم، واتفاق الزوجين في التلفّظ بكلمة الإسلام معًا في لحظة واحدة معلوم الانتفاء. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي حققه العلاّمة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- تحقيق حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3523 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ،

(1)

"زاد المعاد في هدي خير العباد" 5/ 137 - 139.

ص: 206

قَالَ أَخْبَرَنِي زِيَادٌ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، وَقَدْ نَفَعَنِي، وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، فَجَاءَ زَوْجُهَا، وَقَالَ مَنْ يُخَاصِمُنِي فِي ابْنِي، فَقَالَ:«يَا غُلَامُ، هَذَا أَبُوكَ، وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ؟» ، فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعانيّ، ثم البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يرسل كثيرًا ويُدلّس [6] 28/ 32.

4 -

(زياد) بن سعد بن عبد الرحمن الخراسانيّ، ثم المكيّ، ثم اليمنيّ، ثقة ثبت، قال ابن عيينة: كان أثبت أصحاب الزهريّ [6] 51/ 64.

5 -

(/هلال بن أسامة) هو هلال بن عليّ بن أسامة العامريّ المدنيّ، نُسب لجده، ثقة 51/ 65.

6 -

(أبو ميمونة) الفارسيّ المدنيّ الأبّار، قيل: اسمه سُليم. وقيل: سلمان. وقيل: سليمان. وقيل: سلمى. وقيل: أسامة. وقيل: إنه والد هلال بن أبي ميمونة. ثقة [3]. قال ابن معين: أبو ميمونة الآبّار صالح. وقال العجليّ: سُليم بن أبي ميمونة مدنيّ تابعيّ، ثقة. وقال النسائيّ: أبو ميمونة ثقة. وقال ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن هلال بن أبي ميمونة، أن أبا ميمونة سُليمًا، مولى من أهل المدينة، رجل صدق حديثه عن أبي هريرة. وقال ابن عيينة، عن زياد بن سعد، عن هلال بن أبي ميمونة، عن أبي ميمونة -وليس بأبيه- عن أبي هريرة. وقال أبو حكيم: أبو ميمونة الفارسيّ، اسمه سليمان، ويقال: أسامة بن زيد، روى عنه ابنه هلال بن أبي ميمونة. وفرق البخاريّ، وأبو حاتم، ومسلم، والحاكم أبو أحمد بين أبي ميمونة الأبار الذي روى عن أبي هريرة، وعنه قتادة، وبين أبي ميمونة الفارسيّ الذي اسمه سُليم، روى عنه أبو النضر وغيره. ووقع عند أبي داود أن اسمه سلمى. وقال الدارقطنيّ: أبو ميمونة عن أبي هريرة، وعنه قتادة مجهول يُترك. وهذا مما يؤيّد أنه غير الفارسيّ؛ لأنه وثّق الفارسيّ في كناه. روى له الأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

7 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 207

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير أبي ميمونة، فمن رجال الأربعة. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ) وفي رواية أبي داود من طريق أبي عاصم، عن ابن جريج: عن هلال بن أسامة، أن أبا ميمونة سَلْمى، مولًى من أهل المدينة، رجل صدق (قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِندَ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، وفي رواية أبي داود المذكورة: "بينما أنا جالسٌ مع أبي هريرة، جاءته امرأةٌ فارسية، معها ابن لها، فادعياه، وقد طلّقها زوجها، فقالت: يا أبا هريرة -رطنت

(1)

له بالفارسيّة- زوجي يُريد أن يذهب بابني، فقال أبو هريرة: استهما عليه، ورَطَنَ لها بذلك، فجاء زوجها، فقال: من يُحاقُّني في ولدي؟، فقال أبو هريرة: اللَّهمّ إني لا أقول هذا، إلا أني سمعت امرأةً جاءت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنا قاعدٌ عنده، فقالت: يا رسول اللَّه، إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني

" الحديث (فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَةَ جَاءَت رَسُولَ اللهِ- صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) جملة اسميّة، من مبتدأ وخبر. قال ابن منظور: "الفداء" بالكسر، والمدّ، والفتح مع القصر: فكاك الأسير. يقال: فداه يَفدِيه فِداءَ، وفَدًى، وفاداه يُفاديه مُفاداةً: إذا أعطى فِداءه، وأنقذه. وفداه بنفسه، وفدّاه بالتشديد: إذا قال له: جُعِلتُ فَدَاك. قال: وروى الأزهريّ عن نُصير: قال: تقول العرب: فَدَيته بأبي وأمي، وفَدَيته بمالي، كأنه اشتريته، وخلّصته به، إذا لم يكن أسيرًا، وإذا كان أسيرًا مملوكًا قلت: فاديته، ويجوز أيضًا فَدَيت الأسير، بمعنى خلّصته مما كان فيه، وفاديت أحسن في هذا، وقوله عز وجل: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي جعلنا الذبح فداء له، وخلّصناه به من الذبح. وقال الجوهريّ: "الفداء" إذا كُسر أوله يُمدّ، ويُقصر، وإذا فُتح فهو مقصور. انتهى باختصار وتصرّف

(2)

.

(إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذهَبَ بِابْنِي، وَقَدْ نَفَعَنِي، وَسَقَانِي مِنْ بئْرِ أَبِي عِنَبَةَ) -بكسر العين المهملة، وفتح النون، وفتح الموحّدة-: بئر على بَرِيد من المَدينة. أظهرت حاجتها إلى الولد، ولعلّ محمل الحديث بعد الحضانة، مع ظهور حاجة الأم إلى الولد، واستغناء الأب عنه، مع عدم إرادته إصلاح الولد. قاله السنديّ. زاد في رواية أبي داود

(1)

أي كلّمته بالعجمية.

(2)

"لسان العرب" 15/ 150.

ص: 208

المذكورة: "فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: استَهِما عليه". أي اقترعا على الابن. قال الشوكانيّ: فيه دليل على أن القرعة طريق شرعية عند تساوي الأمرين، وأنه يجوز الرجوع إليها، كما يجوز الرجوع إلى التخيير، وقد قيل: إنه يقدّم التخيير عليها، وليس في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا ما يدلّ على ذلك، بل ربّما دلّ على عكسه؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرهما أوّلاً بالاستهام، ثم لما لم يفعلا خيّر الولد، وقد قيل: إن التخيير أولى؛ لاتفاق ألفاظ الأحاديث عليه، وعمل الخلفاء الراشدين به انتهى

(1)

(فَجَاءَ زَوْجُهَا، وَقَالَ: مَنْ يُخَاصِمُنِي فِي ابْنِي) وفي رواية أبي داود: "من يُحاقّني". والْحِقَاق، والاحتقاق: الخِصَام، والاختصام، كما في "القاموس"، أي من يخاصمني في أخذ ولدي (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (يَا غُلَامُ، هَذَا أَبُوكَ، وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ؟ "، فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ) قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا في الغلام الذي قد عقل، واستغنى عن الحضانة، وإذا كان كذلك خُيّر بين والديه انتهى

(2)

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-52/ 3523 - وفي "الكبرى" 52/ 5690. وأخرجه (د) في "الطلاق" 2277 (ت) في "الأحكام" 1357 (أحمد) في "مسند المكثرين" 9479 (الدارمي) في "الطلاق" 2293. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الئالة): في اختلاف أهل العلم في الصبيّ، إذا أسلم أحد أبويه:

قال العلاّمة ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: لا تثبت الحضانة لكافر على مسلم، وبهذا قال مالك، والشافعيّ، وسوّارٌ، والعنبريّ. وقال ابن القاسم، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: تثبت له؛ لما روي عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن جدّه، رافع بن سنان رضي الله عنه أنه أسلم، وأبت امرأته أن تُسلم، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: ابنتي

الحديث. رواه أبو داود.

قال: ولنا أنها ولايةٌ، فلا تثبت لكافر على مسلم، كولاية النكاح والمال، ولأنها إذا

(1)

"نيل الأوطار" 6/ 351.

(2)

"معالم السنن" 3/ 185.

ص: 209

لم تثبت للفاسق، فالكافر أولى، فإن ضرره أكثر، فإنه يفتنه عن دينه، ويُخرجه عن الإسلام بتعليمه الكفر، وتزيينه له، وتربيته عليه، وهذا أعظم الضرر، والحضانة إنما تثبت لحظّ الولد، فلا تُشرع على وجه يكون فيه هلاكه، وهلاك دينه. فأما الحديث، فقد روي على غير هذا الوجه، ولا يُثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال. قاله ابن المنذر. ويحتمل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم علم أنها تختار أباها بدعوته، فكان ذلك خاصًّا في حقّه انتهى

(1)

.

وقال العلاّمة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى -عند تعداد شروط الحضانة-: فلا حضانة لكافر على مسلم؛ لوجهين:

[أحدهما]: أن الحاضن حريصٌ على تربية الطفل على دينه، وأن ينشأ عليه، ويتربّى عليه، فيصعب بعد كبره، وعقله انتقاله عنه، وقد يغيّره عن فطرة اللَّه التي فطر عليها عباده، فلا يراجعها أبدًا، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كلُّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه". متّفق عليه. فلا يؤمن تهويد الحاضن، وتنصيره للطفل المسلم.

قال:

[الوجه الثاني]: أن اللَّه سبحانه وتعالى قطع الموالاة بين المسلمين والكفار، وجعل المسلمين بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء من بعض، والحضانة من أقوى أسباب الموالاة التي قطعها.

قال -رحمه اللَّه تعالى-: ثم إن الحديث قد يُحتجّ به على صحّة مذهب من اشترط الإسلام، فإن الصبيّة لما مالت إلى أمها دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم لها بالهداية، فمالت إلى أبيها، وهذا يدلّ على أن كونها مع الكافر خلاف هُدَى اللَّه الذي أراده من عباده، ولو استقرّ جعلها مع أمها، لكان فيه حجةٌ، بل أبطله اللَّه تعالى بدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن العجب أنهم يقولون: لا حضانة للفاسق، فأي فسق أكبر من الكفر؟، وأين الضرر المتوقّع من الفاسق بنشوء الطفل على طريقته إلى الضرر المتوقّع من الكافر. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أما الحديث فقد تقدّم أن حديث رافع بن سنان رضي الله عنه المذكور حديث صحيح، وإنما الضعيف حديث عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه، عن جدّه؛ للجهالة، والاضطراب، فتنبّه.

وأما حكم المسألة، فالذي يظهر لي أن ما ذهب إليه الأولون من عدم ثبوت الحضانة للكافر هو الحقّ؛ لقوله عز وجل:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} ، وأما

(1)

"المغني" 11/ 412 - 413.

(2)

"زاد المعاد" 5/ 460 - 461.

ص: 210

الحديث، فإن الاحتجاج به على اشتراط الإسلام عندي أظهر من الاحتجاج به على خلافه، كما حقّقه ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- في كلامه السابق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في تخيير الولد بين الأبوين المسلمين: ذهب إسحاق بن راهويه إلى أن الصبيّ والصبيّة مع الأم إذا طُلّقت. وقال أحمد إن كان ذكرًا، وكان دون سبع سنين، فأمه أحقّ به بلا تخيير، وإن كان له سبع، فالمشهور المختار عنه أنه يخيّر، فما دونها، أنه يُخيّر، فان لم يختر أقرع بينهما، وإن كانت أنثى، دون سبع فأمها أحقّ بها، وإن بلغت سبعًا فالمشهور عنه أنها أحقّ بها إلى تسع، وبعدها فالأب أحقّ.

وذهب الشافعيّ إلى أن الأم أحقّ بالطفل ذكرًا أو أنثى إلى سبع سنين، فإذا بلغا سبعا، وهما يعقلان خيّرا.

وذهب مالك، وأبو حنيفة إلى أنه لا تخيير بحال، ثم قال أبو حنيفة الأم أحقّ بالجارية حتى تبلغ، وبالغلام حتى يأكل، ويشرب، ويلبس وحده، ثم يكونان عند الأب. وقال مالك: الأم أحقّ بالولد ذكرًا أو أنثى حتى يبلغ، ولا يخيّر بحال. وقال الليث: الأم أحقّ بالابن إلى ثمان سنين، وبالبنت حتى تبلغ، ثم الأب بعد ذلك. وقال الحسن بن حيّ: الأم أحقّ بالبنت حتى يَكعُب ثدياها، وبالغلام حتى ييفَعَ، فيخيّران. انتهى من "زاد المعاد" بالاختصار، فمن أراد التوسّع في أدلة هذه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، فليرجع إليه

(1)

، فإن مؤلّفه قد أطال النفس في هذا الموضوع، وأتى بالعجب العجاب.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجّح عندي أن الأمّ أحقّ بالولد قبل سنّ التمييز؛ لما أخرجه أحمد، وأبو داود، واللفظ له، بإسناد صحيح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عبد اللَّه بن عمرو: أن امرأة، قالت: يا رسول اللَّه، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثدي له سقاء، وحجري له حِوَاء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أنت أحق به، ما لم تنكحي".

فهذا حديث صحيح، صريح في وجوب حقّ الحضانة للأمّ، ما لم تتزوّج.

وأما إذا ميّز الولد، فإنه يُخيّر، فيكون مع من يختاره؛ لحديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - المذكور في الباب، وهذا هو الأحسن في الجمع بين أدلّة المسألة بدون ردّ

(1)

راجع "زاد المعاد" 5/ 432 - 490.

ص: 211

لبعض ما صحّ منها؛ فإن الذي يرجّح غير هذا، فإنه سيردّ الحديث الصحيح، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌53 - (عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لفظ "الكبرى": "أبواب العدّ" -"عدّة المختلعة". و"العدّة": اسم لمدّة تتربصها المرأة عن التزويج بعد وفاة زوجها، أو فراقه لها، إما بالولادة، أو بالأقراء، أو الأشهر. قاله في "الفتح". وقال ابن الأثير: وعدّة المرأة المطلّقة، والمتوفَّى عنها زوجها: هي ما تعُدّه من أيام أقرائها، أو أيام حملها، أو أربعة أشهر وعشر ليال انتهى. وجمع العدّة عِدَدٌ، بكسر، ففتح، مثلُ عِبرةٍ وعِبَر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3524 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي شَاذَانُ بْنُ عُثْمَانَ، أَخُو عَبْدَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، ضَرَبَ امْرَأَتَهُ، فَكَسَرَ يَدَهَا، وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَأَتَى أَخُوهَا، يَشْتَكِيهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ثَابِتٍ، فَقَالَ لَهُ: «خُذِ الَّذِي لَهَا عَلَيْكَ، وَخَلِّ سَبِيلَهَا» ، قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ تَتَرَبَّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً، فَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أبو عليّ محمد بن يحيى) بن عبد العزيز اليشكريّ -بفتح التحتانيّة، وسكون المعجمة، وضمّ الكاف- الصائغ المروزيّ، ثقة [11].

قال النسائيّ: ثقة. وقال مسلمة بن قاسم: روى عنه بعض أصحابنا، ووثّقه. مات سنة (252هـ) روى عنه البخاريّ، ومسلم، والمصنّف، وله عنه ستة مواضع هنا -53/ 3524 و 6/ 4048 "قتل من فارق الجماعة"، و1/ 4899 "باب تعظيم السرقة" و 26/ 5134 "المتفلجات" و 40/ 5682 "الإذن في شيء منها".

ص: 212

2 -

(شاذان) هو عبد العزيز بن عثمان بن جَبَلَة -بفتح الجيم، والموحّدة- ابن أبي روّاد الأزديّ مولاهم، أبو الفضل المروزيّ، وشاذان لقبه، وهو أخو عَبْدان، مقبول [10].

ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مولده سنة (145) ومات سنة (221) وقيل: سنة (25). وقال الكلاباذيّ: وُلد في المحرم سنة (48) ومات في المحرّم سنة (229). روى له البخاريّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

3 -

(أبوه) عثمان بن جَبَلَة بن أبي روّاد -بفتح الراء، وتشديد الواو- الْعَتَكيّ -بفتح المهملة، والمثنّاة- مولاهم المروزيّ، ثقة، من كبار [10].

قال أبو حاتم: كان شريكًا لشعبة، وهو ثقة صدوق. وقال ابن عديّ: قيل لعثمان بن جبلة: من أين لك هذه الغرائب؟ قال: كنت شريكًا لشعبة، فكان يخصّني بها. وقال ابن حبّان في "الثقات": كان عثمان مع أبي تُمَيلة بالكوفة في طلب الحديث، فهاج غمّ وكرب، فوضع رأسه في حجر أبي تميلة، فمات. وقال أبو حاتم، عن النُّفيليّ: رأيت عثمان، والد عبدان بالكوفة، فبينا هو يمشي معنا في بعض أزقّة الكوفة، إذ دخل دارًا ليبول، فنظرنا، فإذا هو ميت. روى له البخاريّ، ومسلم، وله عنده حديث واحد، والمصنف، وله عنده حديث الباب فقط.

4 -

(عليّ بن المبارك) الْهُنَائيّ البصريّ، ثقة، كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان: أحدهما سماع، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، من كبار [7] 28/ 1411.

5 -

(يحيى بن أبي كثير) الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقة ثبتٌ، لكنه يدلّس، ويرسل [5] 23/ 24.

6 -

(محمد بن عبد الرحمن) بن ثوبان: هو العامريّ عامر قريش، ثقة [3] 47/ 2258.

7 -

(الرُّبَيّع بنت مُعّوِّذ بن عَفْراء) بن حزام بن جندب الأنصاريّة النجارية، من بني عديّ بن النجار، من صغار الصحابيات - رضي اللَّه تعالى عنهن -، تزوّجها إياس بن البكير الليثيّ، فولدت له محمدًا، روت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنها ابنتها عائشة بنت أنس بن مالك، وخالد بن ذكوان، وسليمان بن يسار، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، ونافع مولى ابن عمر، وأبو عبيدة بن محمد بن عمّار بن ياسر، وعُبادة بن الوليد بن عبادة، وعبد اللَّه بن محمد بن عَقِيل. قال ابن أبي خيثمة، عن أبيه: كانت من المبايعات تحت الشجرة. روى لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب حديث الباب فقط، كرّره مرّتين، برقم 3524 و3525. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 213

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) اليماميّ، أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ الرُّبَيِّعَ) -بضمّ الراء، وفتح الموحّدة، وتشديد الياء التحتانيّة، آخره عين مهملة، بصيغة التصغير (بِنْتَ مُعَوِّذِ) بضمّ الميم، وكسر الواو المشدّدة، بصيغة اسم الفاعل المضعَّف (ابْنِ عَفْرَاءَ) بفتح، فسكون - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسِ) -بفتح المعجمة، وتشديد الميم- الأنصاريّ الخزرجيّ، خطيب الأنصار رضي الله عنه (ضَرَبَ امْرَأَتَهُ، فَكَسَرَ يَدَهَا، وَهِيَ جَميلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ) تقدّم تحقيق الخلاف في اسمها في شرح حديث -34/ 3488 - فراجعه تستفد (فَأَتَى أَخُوهَا، يَشْتَكِيهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ثَابِتٍ، فَقَالَ لَهُ: (خُذِ الَّذِي لَهَا عَلَيْكَ) أي خذ ما دفعته لها من المهر، وتقدّم الخلاف في جواز الزيادة على ما دفعه في الباب المذكور (وَخَلِّ سَبِيلَهَا) أي فارقها، واتركها تذهب حيث شاءت (قَالَ: نَعَمْ) هو وعدٌ منه بأن يفعل ما أمره به صلى الله عليه وسلم؛ لأن "نعم" للوعد إذا وقعت بعد المستقل، كهذا المثال، وللتصديق إذا وقعت بعد الماضي، نحو هل قام زيد، فتقول: نعم. قاله الفيّوميّ (فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أن تَتَرَبَّصَ) أي تنتظر (حَيْضَةً وَاحِدَةً) قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: من لا يقول بهذا الحديث يقول: إن الواجب في العدّة ثلاثة قروء بالنصّ، فلا يُترك النصّ بخبر الآحاد، وقد يقال: هذا مبنيّ على أن الخلع طلاقٌ، وهو ممنوع، والحديث دليلٌ لمن يقول: إنه ليس بطلاق، على أنه لو سُلّم أنه طلاق، فالنصّ مخصوص، فيجوز تخصيصه ثانيًا بالاتفاق، أما عند من يقول بالتخصيص بخبر الآحاد مطلقًا، فظاهر، وأما عند غيره، فلمكان التخصيص أوّلاً، والمخصوص أوّلاً، يجوز تخصيصه بخبر الآحاد. واللَّه تعالى أعلم انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بجواز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد هو الحقّ، وهو الراجح عند الأصوليّين، كما قال في "الكوكب الساطع":

وَجَازَ أَنْ يُخَصَّ الصَّوَابِ

سُنَّتُهُ بِهَا وَبِالْكِتَابِ

(1)

"شرح السنديّ" 6/ 186.

ص: 214

وَهْوَ بِهِ وَخَبَرِ التَّوَاتُرِ

وخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الأَكْثَرِ

وَقِيلَ إِنْ خُصَّ بِقَاطِعِ جَلِي

وَعَكْسُهَ وَقِيلَ بِالْمنُفَصِلِ

(1)

(فَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا) -بفتح أوله، وثالثه، مضارع لَحِقَ، يقال: لحقته، ولحقت به ألحَق، من باب تَعِبَ لَحَاقًا بالفتح: أدركته. قاله الفيّوميّ. والمراد به هنا أنها بعد تربّصها بحيضة تذهب إلى أهلها؛ لانقضاء عدّتها التي وجبت عليها.

وهذا الحديث نصٌّ في أن المختلعة تعتدّ بحيضة واحدة فقط، وبهذا قال عثمان بن عفّان، وابن عبّاس، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، اختارها شيخ الإسلام ابن تيميّة، قال ابن القيّم -بعد أن ذكر أحاديث الباب-: وهذا كما أنه مُوجَب السنّة، وقضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وموافقٌ لأقوال الصحابة رضي الله عنهم، فهو مقتضى القياس، فإنه استبراء لمجرّد العلم ببراءة الرحم، فكفت فيه حيضةٌ، كالمسبيّة، والأمة المستبرأة، والحرّة، والمهاجرة، والزانية إذا أرادت أن تنكح. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا المذهب، وهو أن عدّة المختلعة حيضة واحدة، هو الحقّ؛ لصحة أحاديث الباب.

وهذا الحديث صحيح، تفرّد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-53/ 3524 - وفي "الكبرى" 53/ 5691. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3525 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ رُبَيِّعٍ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، قَالَ: قُلْتُ: لَهَا حَدِّثِينِي حَدِيثَكِ، قَالَتِ: اخْتَلَعْتُ مِنْ زَوْجِي، ثُمَّ جِئْتُ عُثْمَانَ، فَسَأَلْتُهُ مَاذَا عَلَيَّ مِنَ الْعِدَّةِ؟ ، فَقَالَ: لَا عِدَّةَ عَلَيْكِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونِي حَدِيثَةَ عَهْدٍ بِهِ، فَتَمْكُثِي، حَتَّى تَحِيضِي حَيْضَةً، قَالَ: وَأَنَا مُتَّبِعٌ فِي ذَلِكَ قَضَاءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي مَرْيَمَ الْمَغَالِيَّةِ، كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عبيد اللَّه بن سعد بن إبراهيم بن سعد) أبو الفضل البغداديّ، قاضي أصبهان، ثقة [11] 17/ 480.

2 -

(عمه) يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد،

(1)

راجع "الكوكب الساطع في نظم جمع الجوامع" بسنخة شرحي عليه ص 194 - 195.

(2)

"زاد المعاد" 5/ 679.

ص: 215

ثقة فاضل، من صغار [9] 196/ 314.

3 -

(أبوه) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8] 196/ 314.

4 -

(ابن إسحاق) محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطّلبيّ مولاهم المدنيّ، نزيل العراق، صدوق، يدلّس، ورُمي بالقدر والتشيّع، إمام في المغازي [5] 5/ 480.

5 -

(عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت) الأنصاريّ، ويقال له: عبد اللَّه، ثقة [4] 53/ 3498.

6 -

(ربيّع بنت مُعَوِّذ) - رضي اللَّه تعالى عنها - المذكورة في السند السابق.

7 -

(عثمان) بن عفان الخليفة الراشد رضي الله عنه 68/ 84. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ رُبَيِّعَ بِنْتِ مُعَوِّذٍ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (قَالَ) عبادة بن الصامت (قُلْتُ لَهَا: حَدِّثِينِي حَدِيثَكِ) أي حديث اختلاعك من زوجك، وماذا قيل لك؟ في ذلك (قالَتِ: اخْتَلَعْتُ مِنْ زَوْجِي، ثُمَّ جِئْتُ عُثْمَانَ) بن عفّان - رضي اللَّه تعالى عنه - (فَسَأَلْتُهُ مَاذَا عَلَيَّ مِنَ الْعِدَّةِ؟) أي هو ثلاثة قروء، أم حيضة واحدة؟ (فَقَالَ) عثمان رضي الله عنه (لَا عِدَّةَ عَلَيْكِ إِلاَّ أَنْ تَكُونِي حَدِيثَةَ عَهْدٍ بِهِ) أي بالزوج، أي بدخوله عليك، أو الجماع. وهذا يقتضي أن الحيضة الواحدة أيضًا غير لازمة، وإنما اللازم الاستبراء، إن علمت بالجماع. قاله السنديّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا يحتمل أن عثمان رضي الله عنه يرى هذا التفصيل، لكن ظاهر ما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أمرها أن تتربّص حيضةً واحدةً، من غير استفصال، فيقدّم على الاحتمال الذي ذكره عثمان رضي الله عنه (فَتَمْكُثِي، حَتَّى تحَيضِي حَيضَةَ، قَالَ) عثمان رضي الله عنه (وَأَنا مُتَّبعْ فِي ذَلِكَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي مَرْيَمَ الْمَغَالِيَّةِ) -بفتح الميم، وتخفيف الغين المعجمة- نسبة إلى مغالة، وهي امرأة من الخزرج، وَلَدت لعمرو بن مالك بن النّجّار ولده عَدِيًّا، فبنو عديّ بن النجّار يُعرفون ببني مغالة، ومنهم عبد اللَّه بن أبيّ، وحسّان بن ثابت، وجماعة من الخزرج. ثم إن تسميتها بمريم وَهَمٌ من بعض

ص: 216

الرواة، والصواب أن اسمها جميلة بنت عبد اللَّه بن أُبيّ، كما في رواية الربيّع التي قبل هذه الرواية. ويحتمل أن يكون لها اسمان، أو هو اسمها، وجميلة لقبها. وقد تقدّم تحقيق ذلك كله في شرح حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، في "باب ما جاء في الخلع" -34/ 3490 - فراجعه تزدد علمًا (كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ)، أي فأمرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأن تتربّص حيضةً واحدةً. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث الربيّع بنت مُعوِّذ - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-53/ 3525 - وفي "الكبرى" 53/ 5692. وأخرجه (ق) في "الطلاق" 2058. وبقية المسائل المتعلّقة به قد تقدّمت مستوفاة -بحمد اللَّه تعالى- في "باب ما جاء في الخلع"، فراجعها تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌54 - (مَا اسْتُثْنِيَ مِنْ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَاتِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد -رحمه اللَّه تعالى- بالاستثناء هنا المعنى اللغويّ، وهو الإخراج مطلقًا، فمعنى الترجمة: هذا الباب معقود لبيان ما أخرج من عدّة المطقلّات، وهي ثلاثة قروء، فكان غير ذلك.

وحاصل ما أشار إليه -رحمه اللَّه تعالى- أن ما دلّت عليه آية {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، من تناول جمغ النساء المطلّقات، أخرج منه بعض المطلقات بدليل آخر.

وبيان ذلك أن هذه الآية عامة في جميع المطلّقات، سواء كنّ يحضن، أو يئسن من المحيض، وسواء كنّ مدخولاً بهنّ، أم لا، فخرج من هذا العموم الآيسات، فعدّتهن ثلاثة أشهر،؛ لقوله تعالى:{وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} الآية [الطلاق: 4]، وخرجت المطلّقات قبل الدخول، فليس عليهنّ عدّة؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ

ص: 217

ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} الآية [الأحزاب: 49]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3526 -

(أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَزِيدُ النَّحْوِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وَقَالَ:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} الآيَةَ وَقَالَ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ، فَأَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِبْلَةُ، وَقَالَ:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، وَقَالَ:{وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} ، فَنُسِخَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى:{ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} .

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زكريا بن يحيى) السِّجْزيّ، أبو عبد الرحمن، نزيل دمشق، المعروف بـ "خيّاط السنّة"، ثقة حافظ [12]، من أفراد المصنّف.

2 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ المروزيّ المعروف بابن رهويه، ثقة ثبت إمام [10] 2/ 2.

3 -

(عليّ بن الحسين) بن واقد المروزيّ، كان جدّه واقد مولى عبد اللَّه بن كريز، صدوقٌ يَهِمُ [10].

قال النسائيّ: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وأسند العقيليّ من طريق البخاريّ: قال: رأينا عليّ بن الحسين سنة (10) وكان أبو يعقوب -يعني إسحاق ابن راهويه- سيّىء الرأي فيه لعلّة الإرجاء، فتركناه، ثم كتبنا عن إسحاق. ونقل ابن حبّان عن البخاريّ، قال: كنت أمرّ عليه طرفىِ النهار، ولم أكتب عنه. وقال البخاريّ: مات سنة (211). وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان مولده سنة (135) ومات سنة (11) وقيل: سنة (212). روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم في "المقدمة"، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب خمسة مواضع، وكلها بهذا السند - 54/ 3526، وفي 69/ 3570 - " باب نسخ متاع المتوفّى عنها

"و75/ 3581 "باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث"، و 9/ 4073 "ذكر اختلاف طلحة بن مصرّف الخ"، و15/ 4096 - "توبة المرتدّ".

4 -

(أبوه) الحسين بن واقد المروزيّ، أبو عبد اللَّه القاضي، ثقة، له أوهام [7] 5/ 463.

ص: 218

5 -

(يزيد) بن أبي سعيد النحويّ، أبو الحسن القرشيّ مولاهم المروزيّ، ثقة عابد [6].

قال أبو زرعة، وأبو داود، وابن معين، والنسائيّ: يزيد النحويّ ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال حسين بن واقد: ما رأيت مثله، ما أدري ما أيّوب؟. وقال الدارقطنيّ: حسبك به ثقةَ ونُبْلاً. وقال أبو داود، وأحمد بن سيّار: قتله أبو مسلم، زاد أحمد سنة إحدى وثلاثين. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان متقنًا، من العبّاد، تقيًّا، من الرفعاء، تاليًا لكتاب اللَّه تعالى، عالمًا بما فيه جهده، قتله أبو مسلم لأمره إياه بالمعروف سنة (131). روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب المواضع الخمسة المذكورة في ترجمة عليّ بن الحسين قبل ترجمة.

6 -

(عكرمة) مولى ابن عباس، أبو عبد اللَّه المدنيّ بربريّ الأصل، ثقة ثبت عالم بالتفسير [3] 2/ 325.

7 -

(ابن عبّاس) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالمراوزة إلى عكرمة، وشيخه دمشقيّ. (ومنها): أن فيه ابن عبّاس من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (فِي قَوْلِهِ: (مَا) شرطيّة، ولذا جُزم فعل شرطها، وهو "ننسخ"، وجوابها، وهو "نأت" (نَنْسَخْ) النسخ: لغة يطلق على الإزالة والنقل. وشرعًا: رفع حكم شرعيّ، بخطاب شرعيّ، متراخ عنه، كرفع الحكم بالاعتداد بحول بالاعتداد بأربعة أشهر وعشر. قال في "الكوكب الساطع":

النَّسْخُ رَفْعٌ أَوْ بَيَانٌ وَالصَّوَابْ

فِي الْحَدِّ رَفعُ حُكْمِ شَرْعٍ بِخِطَابْ

فخرج بقوله: "رفع حكم شرعيّ"، رفع البراءة الأصليّة، وبقوله:"بخطاب شرعيّ" رفع الحكم بارتفاع محلّه، أو بانتهاء أمده، إذا كان مغيًّا، ونحو ذلك، وخرج بقوله:"متراخ عنه" ما يرفعه المخصّص المتّصل، كالاستثناء.

(مِنْ آيَةٍ) بيان و"ما"(أَوْ نُنْسِهَا) بضمّ النون، من النسيان، وهو أن يذهب بحفظها من القلب. وقرأ مكيّ، أبو عمرو:{أو ننسأها} بفتح النون، من نسأت، بمعنى أخّرت (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) أي بآية خير منها للعباد، حيث يكون العمل بها أكثر ثوابًا ({أَوْ مِثْلِهَا})

ص: 219

أي مثل تلك الآية (وَقَالَ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ}) قال النسفيّ: تبديل الآية مكان الآية هو النسخ، واللَّه تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع؟ لحكمة رآها، وهو معنى قوله ({وَاللَّهُ أَعْلَمُ بمَا يُنَزلُ}) قرئ في السبع بالتشديد والتخفيف

(1)

.

الآيًةَ، وَقَالَ:({يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ}) أي بنسخ ما يشاء نسخه (وَيُثْبِتُ) من الإثبات، وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة يثبّت، بالتشديد، من التثبيت. أي يثبت بدله ما يشاء، أو يتركه غير منسوخ، أو يمحو من ديوان الحفظة ما يشاء، ويُثبت غيره. أو يمحو كفر التائبين، ويُثبت إيمانهم. أو يميت من حان أجله، وعكسه ({وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}) أي أصل كلّ كتاب، وهو اللوح المحفوظ؛ لأن كلّ كائن مكتوب فيه

(2)

.

والغرض من سوق ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من سوق هذه الآيات الثلاث إثبات النسخ في كتاب اللَّه تعالى، وهو مجمع عليه عند المسلمين، وإنما خالف فيه اليهود، بعضهم في الجواز، وبعضهم في الوقوع، وسماه أبو مسلم الأصفهانيّ من المعتزلة تخصيصًا، وهذا خلاف في التسمية، لا في المعنى، وإلى هذا أشار في "الكوكب الساطع" بقوله:

النَّسْخُ عِنْدَ الْمُسْلِمينَ وَاقِعُ

وَقَائِلُ التَّخْصِيصِ لَا يُنَازعُ

(فَأَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ القُرآنِ الْقِبلَةُ) أي التوجّه في الصلاة إلى بيت المقدس بافتراض التوجّه إلى الكعبة، على الصحيح، أو بالعكس، إن قلنا: إن النسخ في القبلة كان مرَّتين، كما قيل. وعلى الوجهين كون هذا منسوخًا من القرآن، يقتضي أن له ذكرًا في القرآن، وهو غير ظاهر، إلا أن يقال: كان في القرآن إلا أنه نُسخ حكمًا، وتلاوةً، أو نقول: المراد بالقرآن الوحي والحكم مطلقًا.

ويحتمل أن يقرأ قوله: فأول ما نسخ على بناء الفاعل، وُيراد بالقبلة افتراض التوجّه إلى الكعبة، فيصحّ بلا تأويل. واللَّه تعالى أعلم. قاله السنديّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أنه لا داعي إلى هذه التأويلات الباردة، ولا سيما الأخير، فإنه تعسّف بعيد، بل المعنى واضحٌ، وذلك أن اللَّه تعالى قال في كتابه:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية، وغيرها من الآيات التي توجب اتباعه صلى الله عليه وسلم فيما أتى به، ومن جملة ما دخل فيها استقبال القبلة، ثم لما نُسخ، نسخ الأمر بالاتباع المذكور في الآية. فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.

(وَقَالَ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} التربّص: الانتظار، أي لينتظرن. قال

(1)

"تفسير النسفيّ" 2/ 299.

(2)

"تفسير النسفي" 2/ 252.

ص: 220

النسفيّ -رحمه اللَّه تعالى-: خبر في معنى الأمر، وأصل الكلام: ولتتربّص المطلّقات، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر، وإشعار بأنه مما يجب أن يُتلقّى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهنّ امتثلن الأمر بالتربّص، فهو يخبر عنه موجودًا، ونحوه قولهم في الدعاء: رحمك اللَّه، أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة، كأنما وُجدت الرحمة، فهو يُخبر عنها. وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضًا فضل تأكيد؛ لأن الجملة الاسميّة تدلّ على الدوام والثبات، بخلاف الفعليّة. وفي ذكر الأنفس تهييج لهنّ على التربّص، وزيادة بعث؛ لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهنّ، ويغلبنها على الطموح، ويُجبِرنها على التربّص.

{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} جمع قرء بالفتح، كفلس وفُلوس، وبالضمّ، ويجمع على أقراء، كقفل وأقفال. وقد اختلف فيه، هل هو الحيض، أم الطهر على قولين، سيأتي تمام البحث فيه في -74/ 3565 - "الأقراء"، إن شاء اللَّه تعالى.

(وَقَالَ: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ}) أي أشكل عليكم حكمهنّ، وجهلتم كيف يعتددن ({فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}) أي فهذا حكمهنّ (فَنُسِخَ مِنْ ذَلِكَ) بالبناء للمفعول، والضمير النائب يعود إلى ما دلّت عليه هذه الآية، واسم الإشارة يعود إلى ما دلت عليه الآية الأولى، يعني أنه نُسخ ما دلّت عليه هذه الآية، وهو كون العدّة بالأشهر من عموم ما دلّت عليه الآية الأولى، وهو كون المطلّقة تعتدّ بثلاثة قروء.

وقال السنديّ: أي الكلام الثاني نَسَخَ من الكلام الأول بعضَ صور المطلّقات، وهي صور الإياس، وأوجب فيها ثلاثة أشهر مكان ثلاثة قروء (قَالَ تَعَالَى) ناسخًا من الأول بعض الصور أيضًا، وهي ما إذا كان الطلاق قبل الدخول، فلا عدّة عليها هناك أصلاً ({وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}) أي تجامعوهنّ ({فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ}) قال النسفيّ: فيه دليلٌ على أن العدّة تجب على النساء للرجال

(1)

({تَعْتَدُّونَهَا}) افتعال، من العدّ، أي تستوفون عددها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

(1)

"تفسير النسفيّ" 3/ 308.

ص: 221

أخرجه هنا-54/ 3526 و75/ 3581 - وفي "الكبرى" 56/ 5704 وأخرجه (د) في "الطلاق" 2195 و 2282. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما نسخ من عدّة بعض النساء، من آية المطلّقات. (ومنها): بيان مشروعيّة النسخ، وأن للَّه تعالى فيه حكمة عظيمةً، كما أوضح ذلك بقوله:{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} . (ومنها): أن فيه نسخ الكتاب بالكتاب، وهو نوع من أنواع النسخ الأربعة: نسخ الكتاب بالكتاب، ونسخ السنة بالسنة، ونسخ الكتاب بالسنة، ونسخ السنة بالكتاب.

ثم المختار جواز نسخ بعض القرآن تلاوة وحكمًا، أو تلاوة فقط، أو حكمًا فقط.

(ومنها): أن عدّة المطلّقات ذوات الحيض ثلاثة قروء، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك؟ لقوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} الآية، وإنما الخلاف بينهم في معنى القرء، إذ يطلق في كلام العرب على الحيض والطهر جميعًا، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في موضعه، إن شاء اللَّه تعالى.

(ومنها): أن عدّة الآيسة تكون بالأشهر لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} الآية [الطلاق: 4]، وهذا أيضًا لا خلاف فيه بين أهل العلم.

(ومنها): أنه لا عدّة على المطِلّقات قبل المسيس؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك أيضًا، وإنما اختلفوا فيمن خلا بها، ثم طلقها قبل المسيس، فذهب أكثرهم إلى أنه تجب العدّة، وروي ذلك عن الخلفاء الراشدين، وزيد، وابن عمر. وبه قال عروة، وعلي بن الحسين، وعطاء، والزهري، والثوريّ، وأحمد، والأوزاعيّ، وإسحاق، وأصحاب الرأي، والشافعيّ في القديم، وقال الشافعيّ في الجديد: لا عدّة عليها؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} الآية. وهذا نصّ؛ ولأنها مطلّقة لم تُمسّ، فأشبهت من لم يخلُ بها

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- في الجديد من أنه لا عِدَّة على المطلّقة قبل الدخول، وإن خلا بها هو الظاهر؛ لقوة حجته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

راجع "المغني" 11/ 197 - 198.

ص: 222

‌55 - (بَابُ عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "المتوفّى" بفتح الفاء المشدّدة: اسم مفعول، من توفّاه اللَّه تعالى: إذا أماته. قال ابن منظور: الوفاة: المنيّة. والوفاة: الموت، وتُوفي فلان، وتوقاه اللَّه: إذا قبض نفسه. وفي "الصحاح": إذا قبض روحه. وقال غيره: تَوَفِّي الميتِ استيفاء مدّته التي وُفيت له، وعدد أيامه وشهوره، وأعوامه في الدنيا. انتهى.

وقرىء في الشواذّ: "والذين يَتَوَقّون منكم" الآية -بفتح الياء بالبناء للفاعل-: ومعناه: يستوفون آجالهم. قاله الزمخشريّ. وعلى هذه القراءة، يجوز "المتوفّي عنها زوجها" بصيغة اسم الفاعل، بمعنى المستوفي أجله.

قال السمين الحلبيّ: والذي يُحكى أن أبا الأسود كان خلف جنازة، فقال له رجل: مَن المتوفِّي؟ بكسر الفاء، فقال: اللَّه، وكان أحد الأسباب الباعثة لعليّ رضي الله عنه على أن أمر بوضع كتاب في النحو، تناقضه هذه القراءة. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3527 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: أُمُّ حَبِيبَةَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ، تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، تَحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ، فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هنّاد بن السّريّ) بن مصعب التميميّ، أبو السّريّ الكوفيّ، ثقة [10] 23/ 25.

2 -

(وكيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة ثبت عابد [9] 23/ 25.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحافظ الحجة الثبت [7] 24/ 27.

4 -

(حميد بن نافع) الأنصاريّ، أبو أفلح المدنيّ، ثقة [3] 53/ 3320.

5 -

(زينب بنت أم سلمة) هند بنت أبي أمية، وأبوها أبو سلمة عبد اللَّه بن عبد الأسد المخزوميّة، ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ماتت سنة (73) وتقدّمت في -123/ 182.

6 -

(أم حبيبة) رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب الأمويّة، أم المؤمنين، مشهورة

(1)

"الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 1/ 577. في "تفسير سورة البقرة".

ص: 223

بكنيتها، ماتت - رضي اللَّه تعالى عنها - سنة (2) أو (4) أو (49) وقيل:(50)، تقدّمت في 13/ 704. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رُوَاتَهُ عندهم رُوَاة الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من حميد. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّة، عن صحابيّة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ زيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها قالت (قَالَتْ: أُمُّ حَبِيبَةَ) رضي اللَّه تعالى عنها، أنها (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ، تُؤْمِنُ بَاللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ، تَحِدُّ) -بضمّ أوله، وكسر ثانيه- من الإحداد، وهو المشهور، أو بفتح أوله، وكسر ثانيه، وضمه. قال الفيّوميّ: حَدَّت المرأة على زوجها تِحدّ -بالكسر- وتَحُدّ - بالضمّ- حِدَادًا -بالكسر-، فهي حادٌّ بغير هاء، وأحدّت إحدادًا، فهي مُحِدٌّ، ومُحدّةٌ: إذا تركت الزينة لموته، وأنكر الأصمعيّ الثلاثي، واقتصر على الرباعيّ انتهى. والمضارع هنا بمعنى المصدر، بتقدير "أن" المصدرية، أو بدونها، فاعل "لا يحلّ"، فكأنه قال: لا يحلّ الإحداد.

ووصف المرأة بالإيمان يدلّ على صحّة مذهب القائلين بعدم الإحداد على الكتابيّة إذا مات زوجها المسلم، وهو القول الراجح، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في بابه، إن شاء اللَّه تعالى.

(عَلَى مَيِّتٍ، فَوْقَ ثَلَاَثةِ أَيَّامٍ) فيه دلالة على أن المرأة إذا مات قريبها، فلها أن تمتنع من الزينة ثلاثة أيام متتابعة (إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) منصوب على الظرفيّة، متعلّق بفعل محذوف، كما تفسّره الرواية الآتية بعد حديثين -3530 - أي فإنها تُحدّ عليه أربعة أشهر وعشرًا. وسيأتي شرح الحديث مستوفًى في -63/ 3560 - " ترك الزينة للحادّة المسلمة"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أم حبيبة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 224

أخرجه هنا-3527 و 3528 و 3529 و 59/ 3554 و 63/ 3560 - وفي "الكبرى" 54/ 5693 و 5694 و5695 و 59/ 5721 و 63/ 5727. وأخرجه (خ) في "الجنائز" 1280 و 1282 و"الطلاق" 5334 و 5337 و 5339 و5345 و"الطمث" 5757 (م) في "الطلاق" 1486 و 1489 (د) في "الطلاق" 2299 و 2354 (ت) في "الطلاق واللعان" 1195 و 1197 (ق) في "الطلاق" 3084 (أحمد) في "مسند الأنصار" 25962 و 2612 و 26214 و26225 و 26226 و"مسند القبائل" 26852 (الموطأ) في "الطلاق" 1268

و1269 و1270. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان وجوب عدّة المتوفّى عنها زوجها، ومدّته، وهو أربعة أشهر وعشرة أيام.

[فإن قيل]: حديث الباب لا يدلّ على وجوب العدّة، فمن أين يؤخذ الوجوب؟. [قلت]: يؤخذ من الأدلة الأخرى، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} الآية، وكنهيه صلى الله عليه وسلم عن كحل عين تلك المرأة مع وجود المرض، فإنه دليل وجود الإحداد، فيكون تقدير قوله صلى الله عليه وسلم:"أربعة أشهر وعشرًا" أي يجب عليها أن تُحدّ هذه المدّة.

(ومنها): أنه يستفاد من قوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} أنها لو كانت حاملاً، فزاد حملها على هذه المدّة لم يلزمها الإحداد، وبهذا قال الجمهور. وقالت المالكيّة عليها الإحداد إلى أن تضع؛ نظرًا إلى المعنى؛ إذ كلّ ذلك عدة من وفاة، وإنما خصّ ذلك العدد بالذكر؛ لأن الْحُيَّلَ من النساء أغلب، وهنّ الأصل، والحمل طارئ. قاله القرطبيّ

(1)

.

(ومنها): جواز الإحداد للمرأة على أقاربها لمدة ثلاثة أيام، فما دونها. (ومنها): أن الإحداد لا يجب إلا على المرأة المسلمة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"تؤمن باللَّه واليوم الآخر"، وسيأتي هذا في بابه، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في عدّة المتوفّى عنها زوجها:

قال العلاّمة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: أجمع أهل العلم على أن عدّة الحرّة المسلمة، غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشرٌ، مدخولاً بها، أو غير

(1)

"المفهم" 4/ 285.

ص: 225

مدخول بها، وسواء كانت كبيرة، أو صغيرةً، لم تبلغ، وذلك لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة

" الحديث المذكور في الباب.

[فإن قيل]: ألاّ حملتم الآية على المدخول بها، كما قلتم في قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} الآية [البقرة: 228].

[قلنا]: إنما خصّصنا هذه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، ولم يرد تخصيص عدّة الوفاة، ولا أمكن قياسها على المطلقة في التخصيص لوجهين:

[أحدهما]: أن النكاح عقد عمر، فإذا مات انتهى، والشيء إذا انتهى تقرّرت أحكامه، كتقرّر أحكام الصيام بدخول الليل، وأحكام الإجارة بانقضائها، والعدّة من أحكامه.

[الثاني]: أن المطلّقة إذا أتت بولد يُمكن الزوج تكذيبها، ونفيه باللعان، وهذا ممتنعٌ في حقّ الميت، فلا يؤمن أن تأتي بولد، فليحق الميت نسبه، وما له من ينفيه، فاحتطنا بإيجاب العدّة عليها لحفظها عن التصرّف، والمبيت في غير منزلها؛ حفظًا لها. إذا ثبت هذا، فإنه لا يُعتبر وجود الحيض في عدّة الوفاة في قول عامة أهل العلم. وحكي عن مالك أنها إذا كانت حاملًا، مدخولاً بها وجبت أربعة أشهر وعشرٌ فيها حيضة. واتباع الكتاب والسنّة أولى؛ ولأنه لو اعتبر الحيض في حقّها لاعتُبر ثلاثة قروء، كالمطلّقة. وهذا الخلاف يختصّ بذوات القرء، وأما الآيسة، والصغيرة، فلا خلاف فيهما.

وأما الأمة المتوفّى عنها زوجها، فعدّتها شهران وخمسة أيام، في قول عامّة أهل العلم، منهم سعيد بن المسيّب، وعطاء، وسليمان بن يسار، والزهريّ، وقتادة، ومالكٌ، والثوريّ، والشافعيّ، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وغيرهم، إلا ابن سيرين، فإنه قال: ما أرى عدّة الأمة إلا كعدّة الحرّة؛ إلا أن تكون قد مضت في ذلك سنة، فإن السنّة أحقّ أن تُتّبع، وأخذ بظاهر النصّ وعمومه. واحتجّ الأولون باتفاق الصحابة رضي الله عنه على أن عدّة الأمة المطلّقة على النصف من عدّة الحرّة، فكذلك عدّة الوفاة انتهى كلام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما قاله ابن سيرين -رحمه اللَّه تعالى- في مسألة عدة الأمة هو الحقّ؛ لظاهر الآية، وعدم دليل يخصّصها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المغني" 11/ 223 - 224.

ص: 226

(المسألة الخامسة): في بيان الحكمة في كون عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا:

قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: إنما خصّ اللَّه تعالى عدّة الوفاة بأربعة أشهر وعشر؛ لأن غالب الحمل يَبِين تحرّكه في تلك المدّة؛ لأن النطفة تبقى في الرحم أربعين، ثم تصير علقةً أربعين، ثم مضغة أربعين، فتلك أربعة أشهر، ثم يُنفخ فيه الروح بعد ذلك، فتظهر حركته في العشر الزائد على الأربعة الأشهر، وهذا ما جاء من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.

وأنّث عشرًا؛ لأنه أراد به مدّة العشر. قاله المبرد. وقيل: لأنه أراد الأيام بلياليها، وإلى هذا ذهب كافّة العلماء، فقالوا عشرة أيام بعد الأربعة الأشهر. وقال الأوزاعيّ: إنما أنّث العشر؛ لأنه أراد الليالي، فعلى قول الجمهور: تحلّ باليوم العاشر بآخره، وعلى قول الأوزاعيّ تحلّ بانقضاء الليلة العاشرة. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

وقال ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: والعشر المعتبرة في العدّة هي عشر ليال بأيامها، فتجب عشرة أيام مع الليالي، وبهذا قال مالكٌ، والشافعيّ، وأبو عبيد، وابن المنذر، وأصحاب الرأي. وقال الأوزاعيّ: يجب عشر ليال وتسعة أيام؛ لأن العشر تستعمل في الليالي، دون الأيام، وإنما دخلت الأيام اللاتي في أثناء الليالي تبعًا.

وأجيب بأن العرب تغلّب اسم التأنيث في العدد خاصّة على المذكر، فتُطلق لفظ الليالي، وتريد الليالي بأيامها، كما قاد اللَّه تعالى:{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10]، يريد بأيامها، بدليل أنه قال في موضع آخر:{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41]، يريد بليالها انتهى بتصرّف يسير

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي ما قاله الأودون هو الصحيح؛ لقوّة دليله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3528 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، قُلْتُ: عَنْ أُمِّهَا؟ ، قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ، تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَخَافُوا عَلَى عَيْنِهَا، أَتَكْتَحِلُ؟ ، فَقَالَ: «قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ، تَمْكُثُ فِي بَيْتِهَا، فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا حَوْلاً، ثُمَّ خَرَجَتْ، فَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا

(1)

"المفهم" 4/ 285.

(2)

"المغني" 11/ 224 - 225.

ص: 227

غير مرّة. و"خالد": هو ابن الحارث الهجيميّ.

وقوله: "في شر أحلاسها" -بفتح الهمزة، جمع حِلِس -بكسر الحاء المهملة، وسكون اللام-: هي كساء تُجعل على ظهر البعير. أي شرّ ثيابها، مأخوذ من حِلْسِ البعير.

وقوله: "فلا أربعة أشهر وعشرًا" بتقدير همزة الاستفهام، وقد صُرّح بها في رواية مسلم، أي أفلا تصبر في الإسلام أربعة أشهر وعشرًا، قاله؛ إنكارًا لطلب التخفيف الزائد، فقد خفّف اللَّه تعالى برحمته عما كان عليه الجاهليّة، بحول، ثم خفّف بعد ذلك إلى أربعة أشعر وعشر، فهل بعد هذا التخفيف يُطلب تخفيف؟.

والحديث متّفقٌ عليه، وسيأتي شرحه مستوفًى في 63/ 3560 - "ترك الزينة للحادّة المسلمة الخ"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3529 -

(أَخْبَرَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ قَهْدٍ الأَنْصَارِيِّ، وَجَدُّهُ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَأُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَتَا: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَإِنِّي أَخَافُ عَلَى عَيْنِهَا، أَفَأَكْحُلُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ، تَجْلِسُ حَوْلاً، وَإِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَإِذَا كَانَ الْحَوْلُ، خَرَجَتْ وَرَمَتْ وَرَاءَهَا بِبَعْرَةٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة. و"إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"جريرٌ": هو ابن عبد الحميد.

وقوله: "وجدّه قد أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم" يعني أن جدّ يحيى بن سعيد صحابيّ، وهو قيس ابن قهد -بقاف مفتوحة، فهاء ساكنة، آخره دال مهملة- وهذا الذي قاله المصنّف - رحمه اللَّه تعالى -، قاله أيضًا مصعب الزبيريّ، لكن غلّطه ابن خيثمة في ذلك، وقال: هما اثنان. وقال ابن حبّان: قيس بن عمرو هو قيس بن قهد، وقهد لقب عمرو. قال الحافظ: وكأنه أخذه من قول البخاريّ: قيس بن عمرو جدّ يحيى بن سعيد، له صحبة، قال: وقال بعضهم: قيس بن قَهْد. وقال أبو نُعيم في "الصحابة": قيس بن عمرو بن قهد بن ثعلبة، ثم قال: وقيل: قيس بن سهل. ذكره في "تهذيب التهذيب" 3/ 451.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن ما قاله ابن حبّان يجمع بين الاختلاف، ويؤيّده كلام البخاريّ. وأما ابن خيثمة فلا أرى لتغليطه مصعبًا الزبيريّ

ص: 228

وجهًا، حيث لم يذكر مستنده في ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "أفكحلها" -بضمّ الحاء المهملة، وفتحها- قال الفيّوميّ: كَحَلتُ الرجلَ كَحْلاً، من باب قتل -وزاد في "القاموس" من باب مَنَعَ-: جعلتُ الكُحلَ في عينه، فالفاعل كاحل، وكَحّالٌ، والمفعول مكحولٌ، وبه سمّي الرجل، والأصل كحَلتُ عين الرجل، فحُذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مقامه لفهم المعنى، ولهذا يقال: عينٌ كحيلٌ، فعيلٌ بمعنى مفعولِ، واكتحلتُ فعلت ذلك بنفسي، وتكحّلتُ كذلك انتهى.

وقوله: "أربعة أشهر وعشرًا" منصوب على الظرفية، كما تقدّم قريبًا. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3530 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ،، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ نَافِعًا، يَقُولُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، أَنَّهَا سَمِعَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ، تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، تَحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تَحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"عبد الوهاب": هو ابن عبد المجيد الثقفيّ البصريّ. و"يحيى بن سعيد": هو الأنصاريّ المذكور في السند الماضي.

[تنبيه]: سقط سهوًا من نسخ "المجتبى" التي بين يديّ ذكر "يحيى بن سعيد" بين عبد الوهّاب، ونافع، وقد ثبت في "الكبرى" 3/ 384 رقم (5696) وهو الصواب، وهو الذي في "تحفة الأشراف" 11/ 292. فليُتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

و"نافع": هو مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه. و"صفيّة بنت أبي عبيد": هي زوج ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، تابعيّة مدنيّة ثقة [2] 60/ 1765. و"حفصة بنت عمر": هي أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنهما -، تقدّمت في 39/ 583.

والحديث أخرجه مسلم، وتقدّم الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3531 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سَعِيدٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ، تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، تَحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ، أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تَحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير

ص: 229

مرّة، وهو مسلسلٌ بالبصريين إلى أيوب. و"سعيد": هو ابن أبي عَرُوبة. و"أيوب": هو السختيانيّ.

وقوله: "وعن أم سلمة" هكذا بالعطف في رواية محمد بن سواء، وفي رواية السهميّ التالية "وهي أم سلمة"، وهكذا قال الحافظ المزّيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف" -13/ 60 - . وفي رواية مسلم من طريق الليث، عن نافع: عن صفيّة بنت أبي عبيد، عن حفصة، أو عن عائشة، أو كلتيهما.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا يدلّ على أن صفيّة بنت أبي عبيد تروي هذا الحديث عن حفصة، كما في الرواية الماضية، وعن أم سلمة، كما في هذه الرواية، وعلى هذا فبعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الرواية هي حفصة، ويحتمل أن تكون عائشة - رضي اللَّه تعالى - عنهنّ -.

والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا- 55/ 3531 و 3532 - وفي "الكبرى" 54/ 5697 و 5698. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3532 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا السَّهْمِيُّ -يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بَكْرٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ أُمُّ سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، نَحْوَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن إبراهيم بن إسماعيل": هو المعروف أبوه بابن عليّة.

و"عبد اللَّه بن بكر بن حبيب السهميّ" الباهليّ، أبو وهب البصريّ، نزيل بغداد، ثقة حافظٌ [9].

قال أحمد، وابن معين، والعجليّ: ثقة. وقال ابن معين أيضًا، وأبو حاتم: صالح. وقال ابن سعد: السهميّ بطن من باهلة، وكان ثقة صدوقًا، نزل بغداد على سعيد بن سَلْم، ولم يزل بها حتى مات في المحرّم سنة (208)

(1)

. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الدارقطنيّ: ثقة مأمون. وقال ابن قانع: ثقة. وقال أبو عمرو الطائي: عَرَضَ سوّار على عبد اللَّه بن بكر قضاء الأُبُلّة، فأبى. روى له الجماعة، وله عند المصنّف حديثان فقط: حديث الباب، وحديث - 1/ 4010 - "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا

".

(1)

وقع في "تهذيب التهذيب" سنة (88) وهو غلط، والصواب ما هنا، كما في "التقريب"، و"تهذيب الكمال".

ص: 230

والحديث صحيح، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌56 - (بَابُ عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا)

3533 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ، قَالَا: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أَنَّ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ، نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَأْذَنَتْ أَنْ تَنْكِحَ، فَأَذِنَ لَهَا، فَنَكَحَتْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن سلمة) بن أبي فاطمة المراديّ الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمد الأمويّ مولاهم، أبو عمرو المصريّ القاضي، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

3 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن الْعُتَقيّ، أبو عبد اللَّه المصريّ، صاحب مالك، ثقة فقيه، من كبار [10] 19/ 20.

4 -

(مالك) بن أنس الأصبحيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ الإمام الحجة الفقيه [7] 7/ 7.

5 -

(هشام بن عروة) بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيه، ربما دلس [5] 49/ 61.

6 -

(أبوه) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 40/ 44.

7 -

(المسور بن مخرمة) بن نوفل بن أُهيب بن عبدمناف بن زُهرة الزهريّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما -، مات سنة (64)، وتقدّم في 37/ 936. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 231

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، فقد تفرّد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من مالك، ومن قبله مصريون. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، وتابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة، وقد تقدّم كلّ هذا غير مرّة وإنما أعتدته تذكيرًا لطول العهد به. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ سُبَيْعَةَ) -بمهملة، وموحّدة، ثم مهملة، تصغير سبع- بنت الحارث (الْأَسْلَمِيَّةَ) نسبة إلى بني أسلم، ذكرها ابن سعد في المهاجرات. ووقع في رواية لابن إسحاق عند أحمد "سبيعة بنت أبي برزة الأسلميّ"، فإن كان محفوظًا، فهو أبو برزة اخر غير الصحابيّ المشهور، وهو إما كنية للحارث، والد سبيعة، أو نُسبت في الرواية المذكورة إلى جدّ لها. قاله في "الفتح"(نُفِسَتْ) بالبناء للمفعول، أو للفاعل. قال الفيّوميّ: نُفست المرأة بالبناء للمفعول، فهي نُفساء، والجمع نِفَاس بالكسر، ومثله عُشَراء وعِشَار، وبعض العرب يقول: نَفِسَت تَنْفَسُ، من باب تَعِبَ، فهي نافسٌ، مثلُ حائض، والولد منفوسٌ، والنفاس بالكسر أيضًا اسمٌ من ذلك. ونَفِست تَنْفَسُ، من باب تعِبَ: حاضت. ونُقل عن الأصمعيّ: نُفست بالبناء للمفعول أيضًا، وليس بمشهور في الكتب في الحيض، ولا يقال في الحيض: نُفِست بالبناء للمفعول. من النفس، وهو الدم انتهى (بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا) سيأتي في الرواية الآتية -33545 - أنه سعد بن خولة، وهو من بني عامر بن لؤيّ، وكان ممن شهد بدرًا، فتوفّي في حجة الوداع. وفي "الإصابة": سعد بن خولة القرشيّ العامريّ، من بني مالك بن حِسْل بن عامر بن لُؤيّ. وقيل: من حلفائهم. وقيل: من مواليهم. قال ابن هشام: هو فارسيّ من اليمن، حالف بني عامر، ذكره موسى بن عُقبة، وابن إسحاق، وغيرهما في البدريين، وله ذكر في "الصحيحين" من حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، حيث مرض بمكة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لكن البائس سعد بن خولة، يرثي له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة انتهى

(1)

(بِلَيَالٍ) كذا أَبَهم المدةَ في هذه الرواية" وفي رواية "بأيام"، وفي رواية: "بيسير"، وفي رواية: "بثلاثة وعشرين، أو خمسة وعشرين ليلة"، وفي

(1)

"الإصابة" 4/ 139.

ص: 232

رواية: "بخمسة عشر، نصف شهر"، وفي رواية:"بعشرين ليلة"، وفي رواية:"لأدنى من أربعة أشهر"، وكلها في روايات المصنّف في هذا الباب. وفي رواية عند البخاريّ في "التفسير":"فوضعت بعد موته بأربعين ليلة".

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: والجمع بين هذه الروايات متعذّرٌ؛ لاتحاد القصّة، ولعلّ هذا هو السرّ في إبهام من أبهم المدّة، إذ محلّ الخلاف أن تضع لدون أربعة أشهر وعشر، وهو هنا كذلك، فأقلّ ما قيل في هذه الروايات نصف شهر. وأما ما وقع في بعض الشروح أن في البخاريّ رواية "عشر ليال"، وفي رواية للطبرانيّ "ثمان"، أو "سبع"، فهو في مدّة إقامتها بعد الوضع إلى أن استفتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا في مدّة بقيّة الحمل، وأكثر ما قيل فيه بالتصريح "شهرين"، وبغيره دون أربعة أشهر. انتهى

(1)

.

(فَجَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) لما تعلّت من نفاسها، وتشوّفت للأزواج، فعيب ذلك عليها، ففي الرواية الآتية من طريق الزهريّ -3545 - :"فلما تعلّت من نفاسها، تجمّلت للخُطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعْكَك، رجل من بني عبد الدار، فقال لها: ما لي أراك متجمّلة، لعلك تُريدين النكاح، إنك واللَّه ما أنت بناكح حتى تمرّ عليه أربعة اْشهر وعشر"(فَاسْتَأْذَنَتْ أَنْ تَنْكِحَ) أي طلبت منه صلى الله عليه وسلم أن يأذن لها في النكاح (فَأَذِنَ لَهَا، فَنَكَحَتْ) وفي الرواية المذكورة: قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي، حين أمسيت، فأتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حَلَلتُ حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج، إن بدالي". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث المسور بن مخرمة - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-56/ 3533 و 3534 - وفي "الكبرى" 55/ 5699 و5700. وأخرجه (خ) في "الطلاق" 5320 (ق) في "الطلاق" 2029 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 18438 (الموطأ) في "الطلاق" 1252. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(2)

:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان عدّة الحامل المتوفّى عنها

(1)

"فتح" 10/ 593 - 594.

(2)

المراد فوائد قصّة سبيعة كلّها، خصوص سياق هذه الرواية، فتنبّه.

ص: 233

زوجها، وذلك بوضع حملها، وفيه اختلاف بين العلماء سيأتي تحقيقه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): جواز الإفتاء بحضرة من هو أعلم منه؛ لأن الصحابة رضي الله عنه كانوا يُفتون في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنهم أبو السنابل بن بعكك رضي الله عنه، حيث أفتى سبيعة بأنها لا تحلّ بوضع حملها، بل بأربعة أشهر وعشر. (ومنها): أن المفتي إذا كان له ميلٌ إلى شيء، لا ينبغي له أن يُفتي فيه؛ لئلا يحمله الميل إليه على ترجيح ما هو المرجوح، كما وقع لأبي السنابل، حيث أفتى سُبيعة أنها لا تحلّ بالوضع؛ لكونه خطبها، فمنعته، ورجا أنها إذا قبلت ذلك منه، وانتظرت مضيّ المدّة حضر أهلها، فرغّبوها في زواجه، دون غيره، كما سيأتي في رواية أبي سلمة أنه خطبها رجلان: أحدهما شابّ، والآخر كهل، فحطّت إلى الشابّ، فقال الكهل -هو أبو السنابل-: لم تحلل، وكان أهلها غَيَبًا، فرجا إذا جاء أهلها أن يؤثروه بها".

(ومنها): ما كان في سُبيعة - رضي اللَّه تعالى عنها - من الشهامة والفطنة، حيث تردّدت فيما أفتاها به حتى حملها ذلك على استيضاح الحكم من الشارع، وهكذا ينبغي لمن ارتاب في فتوى المفتي، أو حكم الحاكم في مواضع الاجتهاد أن يبحث عن النصّ في تلك المسألة. قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ولعلّ ما وقع من أبي السنابل من ذلك هو السرّ في إطلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كَذَبَ في الفتوى المذكورة، كما أخرجه أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، على أن الخطأ قد يُطلق عليه الكذب، وهو في كلام أهل الحجاز كثير. وحمله بعض العلماء على ظاهره، فقال: إنما كذّبه؛ لأنه كان عالمًا بالقصّة، وأفتى بخلافه، حكاه ابن داود عن الشافعيّ في "شرح المختصر"، وهو بعيد.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله هذا البعض من زلّة الأقلام، بل من الخطأ الفادح، فلا ينبغي أن نقول: إن هذا الصحابيّ مع علمه بحكم اللَّه تعالى أفتى بخلافه؛ لأجل أن ينال شهوته، حاشا للَّه، ثم حاشا للَّه، فالواجب علينا أن نؤول مثل هذا بما لا يتعارض مع منصب الصحبة، فنقول: إن الكذب معناه هنا الخطأ، أي أخطأ في هذه الفتوى، لظنه الحكم كذلك، فليُتنبّه. واللَّه الهادي إلى سواء السبيل.

(ومنها): أن فيه الرجوع في الوقائع إلى الأعلم. (ومنها): مباشرة المرأة بنفسها السؤال عفا ينزل بها، ولو كان مما تَستحي النساء من مثله، لكن خروجها من منزلها ليلاً يكون أستر لها، كما فعلت سُبيعة. (ومنها): أن الحامل تنقضي عدّتها بالوضع على أيّ صفة كان، من مضغة، أو علقة، سواء استبان خلق الآدميّ، أم لا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رتّب الحلّ على الوضع من غير تفصيل. وتوقّف ابن دقيق العيد فيه من جهة أن الغالب في إطلاق

ص: 234

وضع الحامل هو الحمل التامّ المتخلّق، وأما خروج المضغة، أو العلقة، فهو نادرٌ، والحمل على الغالب أقوى، ولهذا نُقل عن الشافعيّ قولٌ بأن العدّة لا تنقضي بوضع قطعة لحم، ليس فيها صورةٌ بيّنة، ولا خفيّة. وأجيب عن الجمهور بأن المقصود في انقضاء العدّة براءة الرحم، وهو حاصلٌ بخروج المضغة، أو العلّقَة، بخلاف أم الولد، فإن المقصود منها الولادة، وما لا يصدق عليه أنه أصل آدميّ، لا يُقال فيه: ولدت. وسيأتي مزيد بسط في هذا في المسألة الخامسة، إن شاء اللَّه تعالى.

(ومنها): جواز تجمّل المرأة بعد انقضاء عدّتها لمن يخطبها؛ لأن في رواية الزهريّ الآتية: "فقال: ما لي أراك متجمّلةً"، وفي رواية ابن إسحاق:"فتهيّأت للنكاح، واختضبت"، وفي رواية معمر، عن الزهريّ، عند أحمد:"فلقيها أبو السنابل، وقد اكتحلت"، وفي رواية الأسود:"فتطيّبت، وتصنّعت".

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن المرأة لا يجب عليها التزويج؛ لقولها في الخبر من طريق الزهريّ: "وأمرني بالتزويج إن بدالي".

(ومنها): أن الثيّب لا تزوّج إلا برضاها من ترضاه، ولا إجبار لأحد عليها، وقد تقدّم بيانه في بابه.

(ومنها): أنه استُدلّ بقولها في رواية ابن شهاب الآتية: "فأفتاني بأني حللت حين وضعت حملي" على أنه يجوز العقد عليها إذا وضعت، ولو لم تطهر من دم النفاس. وبه قال الجمهور، وإلى ذلك أشار ابن شهاب في آخر حديثه عند مسلم بقوله:"ولا أرى بأسًا أن تتزوّج حين وضعت، وإن كانت في دمها، غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر". وقال الشعبيّ، والحسن، والنخعيّ، وحماد بن سلمة: لا تنكح حتى تطهر.

قال القرطبيّ: وحديث سبيعة حجة عليهم، ولا حجة لهم في قوله في بعض طرقه:"فلما تعلّت من نفاسها"؛ لأن "تعلّت" وإن كان أصله طهرت من دم نفاسها، على ما حكاه الخليل، فيحتمل أن يكون المراد به هنا تعلّت من آلام نفاسها، أي استقلّت من أوجاعها، وتغييراته. ولو سُلّم أن معناه ما قاله الخليل، فلا حجة فيه أيضًا؛ لأنها حكاية واقعة سُبيعة، وإنما الحجة في قوله صلى الله عليه وسلم:"إنها حلّتْ حين وضعتْ"، كما في حديث ابن شهاب المشار إليه سابقًا. وفي رواية معمر، عن الزهريّ:"حللتِ حين وضعتِ حملك"، وكذا أخرجه أحمد من حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه:"أن امرأته أم الطفيل قالت لعمر رضي الله عنه قد أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سبيعة أن تنكح إذا وضعت".

وهو ظاهر القرآن في قوله تعالى: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، فعلّق الحلّ بحين الوضع، وقصره

ص: 235

عليه، ولم يقل: إذا طهرت، ولا إذا انقطع دمك، فصحّ ما قاله الجمهور. انتهى كلام القرطبيّ، وهو تحقيق حسن جدًّا

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في عدّة الحامل المتوفّى عنها زوجها:

ذهب جمهور العلماء من السلف، وأئمة الفتوى في الأمصار إلى أن الحامل إذا مات عنها زوجها تحلّ بوضع الحمل، وتنقضي عدّة الوفاة.

وخالف في ذلك عليّ رضي الله عنه، فقال: تعتدّ آخر الأجلين. ومعناه أنها إن وضعت قبل مضيّ أربعة أشهر وعشر، تربّصت إلى انقضائها، ولا تحلّ بمجرّد الوضع، وإن انقضت المدّة قبل الوضع، تربّصت إلى الوضع. أخرجه سعيد بن منصور، وعبد بن حُميد، عن عليّ رضي الله عنه بسند صحيح. وبه قال ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، كما في قصّته مع أبي هريرة رضي الله عنه الآتية في هذا الباب، ويقال: إنه رجع عنه، ويقوّيه أن المنقول عن أتباعه وفاق الجماعة في ذلك. وسيأتي في الرواية الآتية -3544 - أن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنكر على ابن سيرين القول بانقضاء عدّتها بالوضع، وأنكر أن يكون ابن مسعود قال بذلك، وقد ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه من عدّة طرق أنه كان يوافق الجماعة، حتى كان يقول:"من شاء لاعنته على ذلك".

ويظهر من مجموع الروايات في قصّة سبيعة أن أبا السنابل رجع عن فتواه أوّلاً أنها لا تحلّ حتى تمضي مدّة عدّة الوفاة؛ لأنه قد روى قصّة سبيعة ورد النبيّ صلى الله عليه وسلم ما أفتاها أبو السنابل به من أنها لا تحلّ حتى يمضي أربعة أشهر وعشر، ولم يَرِد عن أبي السنابل تصريح في حكمها لو انقضت المدّة قبل الوضع، هل كان يقول بظاهر إطلاقه من انقضاء العدّة، أو لا؟، لكن نقل غير واحد الإجماع على أنها لا تنقضي في هذه الحالة الثانية حتى تضع.

وقد وافق سحنون من المالكيّة عليًّا رضي الله عنه، نقله المازريّ وغيره. وهو شذوذ مردود؛ لأنه إحداث خلاف بعد استقرار الإجماع.

والسبب الحامل له الحرص على العمل بالآيتين اللتين تعارض عمومهما، فقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} عامّ في كلّ من مات عنها زوجها، يشمل الحامل وغيرها، وقوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} عامّ أيضًا، يشمل المطلّقة، والمتوفّى عنها، فجمع أؤلئك بين العمومين بقصر الثانية على المطلّقة، بقرينة ذكر عدد المطلّقات، كالآيسة، والصغيرة

(1)

"المفهم" 4/ 281 - 282. و"الفتح" 594 - 595.

ص: 236

قبلهما، ثم لم يمهلوا ما تناولته الآية الثانية من العموم، لكن قصروه على من مضت عليها المدّة، ولم تضع، فكان تخصيص بعض العموم أولى، وأقرب إلى العمل بمقتضى الآيتين من إلغاء أحدهما في حقّ بعض من شمله العموم. قال القرطبيّ: هذا حسنٌ، فإن الجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول. لكن حديث سبيعة نصٌّ بأنها تحلّ بوضع الحمل، فكان فيه بيان للمراد بقوله تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} أنه في حقّ من لم تضع، وإلى ذلك أشار ابن مسعود رضي الله عنه بقوله:"إن آية الطلاق نزلت بعد آية البقرة". وفهم بعضهم منه أنه يرى نسخ الأولى بالأخيرة، وليس ذلك مراده، وإنما يعني أنها مخصّصة لها، فإنها أخرجت منها بعض متناولاتها.

وقال ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: لولا حديث سُبيعة لكان القول ما قال عليّ، وابن عبّاس رضي الله عنهم؛ لأنهما عدّتان مجتمعتان بصفتين، وقد اجتمعتا في الحامل المتوفّى عنها زوجها، فلا تخرج من عدّتها إلا بيقين، واليقين آخر الأجلين انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح هو ما ذهب إليه الجمهور، من العمل بحديث سُبيعة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فإذا وضعت الحامل حملها بعد وفاة زوجها، فقد انقضت عدّتها، سواء كان قريبًا من وفاته، ولو لحظة، أو بعيدًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم فيما تنقضي بوضعه العدّة، من الحمل: قال العلامة ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: ما ملخّصه: إذا ألقت المرأة بعد فرقة زوجها، أو موته شيئًا لم يخلُ من خمسة أحوال:

[أحدها]: أن تضع ما بان فيه خلق الآدميّ، من الرأس، واليد، والرجل، فهذا تنقضي به العدّة بلا خلاف بين العلماء. قال ابن المنذر: أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أن عدّة المرأة تنقضي بالسقط، إذا عُلم أنه ولد، وممن نحفظ عنه ذلك: الحسن، وابن سيرين، وشُريح، والشعبيّ، والنخعيّ، والزهريّ، والثوريّ، وأبو حنيفة، ومالكٌ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق. قال: وذلك لأنه إذا بان فيه شيء من خلق الآدميّ عُلم أنه حملٌ، فيدخل تحت قوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .

[الحال الثاني]: أن تلقي نطفة، أو دمًا، لا تدري، هل هو ما يُخلق منه الآدميّ، أو لا؟، فهذا لا يتعلّق به شيء من الأحكام؛ لأنه لم يثبت أنه ولدٌ، لا بالمشاهدة، ولا بالبيّنة.

[الحال الثالث]: أن تلقي مضغة، لم تَبِن فيها الخلقة، فشهدت ثقاتٌ من القوابل أن

ص: 237

فيه صورة خفيّةً، بأن بها خلقة آدميّ، فهذا في حكم الحال الأول؛ لأنه قد تبيّن بشهادة أهل المعرفة أنه ولد.

[الحال الرابع]: أن تُلقي مضغة، لا صورة فيها، فشهد ثقات من القوابل أنه مبتدأ خلق آدميّ، فاختلف عن أحمد، فنقل أبو طالب أنه عدّتها لا تنقضي، ولا تصير به أم ولد؛ لأنه لم يبن فيه خلق آدميّ، فأشبه الدم. وقد ذُكر هذا قولاً للشافعيّ. ونقل الأثرم عنه أن عدتها لا تنقضي به، ولكن تصير أم ولد؛ لأنه مشكوك في كونه ولدًا، فلا تنقضي عدتها، ويثبت كونها أم ولد؛ احتياطًا في كلّ منهما.

[الحال الخامس]: أن تضع مضغة لا صورة فيها، ولم تشهد القوابل بأنها مبتدأ خلق آدميّ، فهذا لا تنقضي به عدّة، ولا تصير به أم ولد؛ لأنه لم يثبت كونه ولدًا ببيّنة، ولا مشاهدة، فأشبه العلقة. ولا تنقضي العدّة بوضع ما قبل المضغة بحال، سواء كان نطفة، أو علقة، وسواء قيل: مبتدأ خلق آدميّ، أو لم يُقل. ولا نعلم في هذا مخالفًا إلا الحسن، فإنه قال: إذا علم أنه حمل انقضت به العدّة، وفيه الغُرّة. والأول الأصحّ، وعليه الجمهور. وأقلّ ما تنقضي به العدّة من الحمل أن تضعه بعد ثمانين يومًا منذ أمكنه وطؤها؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن خلق أحدكم ليُجمَع في بطن أمه، فيكون نطفة أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك

" الحديث متّفقٌ عليه. ولا تنقضي العدّة بما دون المضغة، فوجب أن تكون بعد الثمانين، فأما ما بعد الأربعة أشهر، فليس فيه إشكال؛ لأنه يُنكّس في الخلق الرابع. انتهى كلام ابن قدامة بتصرّف واختصار وهو تفصيل حسن جدًّا

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3534 -

(أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَمَرَ سُبَيْعَةَ، أَنْ تَنْكِحَ، إِذَا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"نصر بن عليّ": هو الجهضمي البصريّ الثقة الثبت، أحد مشايخ الأئمة الستة الذين اتفقوا على الرواية عنهم بدون واسطة، وهم تسعة، وقد تقدّموا غير مرّة. و"عبد اللَّه بن داود": هو أبو عبد الرحمن الْخُرَيبيّ، كوفيّ الأصل الثقة العابد.

وقوله: "إذا تعلّت" -بتشديد اللام- من تَعلّى: إذا ارتفع، أو برأ، أي إذا ارتفعت، وطهرت، أو خرجت من نفاسها، وسلمت. والظرف متعلّقٌ بـ "أمر"، لا لاستمرار العدّة

(1)

"المغني" 11/ 229 - 230.

ص: 238

إلى وقت الخروج من النفاس، بل بناء على أنها استفتت في هذا الوقت، أو متعلّق بـ "تنكح"، والتقييد به، لا لاستمرار العدّة إلى وقت الخروج من النفاس، بل لأن العادة أن النكاح يؤخّر إلى وقت الخروج من النفاس. قاله السنديّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم لك قريبًا أن عدم جواز النكاح ما دامت في نفاسها قال به جماعة، ولكن الجمهور على الجواز، وهو الحقّ.

والحديث أخرجه البخاريّ، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3535 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ أَبِي السَّنَابِلِ، قَالَ: وَضَعَتْ سُبَيْعَةُ حَمْلَهَا، بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا تَعَلَّتْ، تَشَوَّفَتْ لِلأَزْوَاجِ، فَعِيبَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«مَا يَمْنَعُهَا، قَدِ انْقَضَى أَجَلُهَا» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن قُدَامة) بن أعين الهاشميّ مولاهم، المصّيصيّ، ثقة [10] 137/ 214.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، قيل: كان يَهِم من حفظه في آخره [8] 2/ 2.

3 -

(منصور) بن المعتمر السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقة ثبت [6] 2/ 2.

4 -

(إبراهيم) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقة فقيه، يرسل كثيرًا [5] 29/ 33.

5 -

(الأسود) بن يزيد النخعيّ، أبو عمرو الكوفيّ، مخضرم ثقة فقيه مكثر [2] 29/ 33.

6 -

(أبو السنابل) -بمهملة، ونون، ثم موحّدة- جمع سنبلة. اختُلف في اسمه، فقيل: عمرو. قاله ابن البرقيّ، عن ابن هشام، عمن يثق به، عن الزهريّ. وقيل: عامر. روي عن ابن إسحاق. وقيل: حبّة -بموحّدة، بعد المهملة. وقيل: بنون. وقيل: لَبِيدُرَيِّه -بالإضافة-. وقيل: أصرم. وقيل: عبد اللَّه. ووقع في بعض الشروح: وقيل: بغيض. قال الحافظ: وهو غلط، والسبب فيه أن بعض الأئمة سئل عن اسمه، فقال: بغيض يسأل عن بغيض، فظنّ الشارح أنه اسمه، وليس كذلك لأن في بقيّة الخبر اسمه لَبِيدريه. وجزم العسكريّ بأن اسمه كنيته.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 239

وهو ابن بَعْكَك -بموحّدة، ثم مهملة، ثم كافين، بوزن جعفر- ابن الحارث بن عَمِيلة -بفتح أوله- ابن السبّاق بن عبد الدار القرشيّ العبدريّ. وكذا نسبه ابن إسحاق. وقيل: هو ابن بعكك بن الحجاج بن الحارث بن السبّاق. نقل ذلك عن ابن الكلبيّ ابنُ عبد البرّ، قال: وكان من المؤلّفة، وسكن الكوفة، وكان شاعرًا. ونقل الترمذيّ، عن البخاريّ أنه قال: لا أعلم أن أبا السنابل عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم. كذا قال، لكن جزم ابن سعد أنه بقي بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم زمنًا. وقال ابن منده في "الصحابة" عداده في أهل الكوفة، وكذا قال أبو نعيم: إنه سكن الكوفة. وفيه نظر لأن خليفة قال: أقام بمكّة حتى مات، وتبعه ابن عبد البرّ. وقال ابن سعد: هو من مسلمة الفتح.

ويؤيّد كونه عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم قول ابن البرقيّ: إن أبا السنابل تزوّج سبيعة بعد ذلك، وأولدها سنابل بن أبي السنابل، ومقتضى ذلك أن يكون أبو السنابل عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وقع في رواية عبد ربّه بن سعيد، عن أبي سلمة أنها تزوّجت الشابّ وكذا في رواية داود بن أبي عاصم أنها تزوّجت فتى من قومها، وتقدّم أن قصّتها كانت بعد حجة الوداع، فيحتاج -إن كان الشابّ دخل عليها، ثم طلّقها- إلى زمان الحمل، حتى تضع، وتلد سنابل حتى صار أبوه يكنى به أبا السنابل. وقد أفاد محمد بن وضّاح فيما حكاه ابن بشكوال وغيره عنه أن اسم الشابّ -الذي خطب سُبيعة هو وأبو السنابل، فآثرته على أبي السنابل- أبو البشر بن الحارث، وضبطه بكسر الموحّدة، وسكون المعجمة. وقد أخرج الترمذيّ، والنسائيّ

(1)

قصّة سُبيعة من رواية الأسود، عن أبي السنابل، بسند على شرط الشيخين إلى الأسود، وهو من كبار التابعين، من أصحاب ابن مسعود، ولم يوسف بالتدليس، فالحديث صحيح على شرط مسلم، لكن البخاريّ على قاعدته في اشتراط ثبوت اللقاء، ولو مرّةً، فلهذا قال ما نقله الترمذيّ. قاله في "الفتح" بزيادة من "الإصابة"

(2)

. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير شيخه فقد تفرّد به هو، وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فإنه مصّيصيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

هو هذا الذي نشرحه.

(2)

"الفتح"10/ 592.

ص: 240

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي السَّنَابِلِ) بن بَعْكَك - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: وَضَعَتْ) أي ولدت (سُبَيْعَةُ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا) سعد بن خولة رضي الله عنه (بثَلَاَثةٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً) تقدّم في شرح الحديث الماضي بيان اختلاف الروايات في المدة التي بين وفاته وولادتها (فَلَمَّا تَعَلَّتْ) تقدّم ضبطه ومعناه قريبًا (تَشَوَّفَتْ) بتشديد الواو، بعدها فاء: أي طَمَحَت، واستشرفت. قال الفيّوميّ: تَشَوَّفَت الأوعالُ: إذا علت رءوس الجبال، تنظر السهل، وخلُوّه مما تخافه لتَرِدَ الماء والمرعَى. ومنه قيل: تشوّفَ فلانٌ لكذا: إذا طَمَحَ بصره إليه، ثم استُعمل في تعلّق الآمال، والتطلّب انتهى. ووقع في "الكبرى":"توّقت" بالقاف.

(لِلْأَزْوَاجِ) أي للخُطّاب (فَعِيبَ ذَلِكَ عَلَيْهَا) ببناء الفعل للمفعول، والعائب هو أبو السنابل رضي الله عنه (فَذُكِرَ) بالبناء للمفعول، والذاكر هي سبيعة نفسها - رضي اللَّه تعالى عنها -. وفي نسخة:"فذَكَرَت" بالبناء للفاعل، وتاء التأنيث (ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا يَمْنَعُهَا) يحتمل أن تكون "ما" نافية، أي لا يمنعها من التشوّف للأزواج كونها في أيام نفاسها. ويحتمل أن تكون استفهاميّةً، استفهامًا إنكاريًّا، أي أيّ شيء يمنعها من ذلك، أي لا شيء يمنعها (قَدِ اتقَضَى أَجَلُهَا) أي انتهى الوقت الذي تعتدّ فيه عن زوجها. والجملة مستأنفة، استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، فكأن قائلاً قال: لِمَ لا تُمنع من ذلك؟ فأجيب بأنها قد انقضت عدّتها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي السنابل - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-56/ 3535 - وفي "الكبرى" 55/ 5701. وأخرجه (ت) في "الطلاق" 1193 (ق) في "الطلاق" 2027. (أحمد) في "مسند الكوفيين"18238. وبقية مسائل الحديث تقدّمت في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3536 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ، يَقُولُ: اخْتَلَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تُزَوَّجُ، وَقَالَ ابْنُ

ص: 241

عَبَّاسٍ: أَبْعَدَ الأَجَلَيْنِ، فَبَعَثُوا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: تُوُفِّيَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ، فَوَلَدَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا، بِخَمْسَةَ عَشَرَ، نِصْفِ شَهْرٍ، قَالَتْ: فَخَطَبَهَا رَجُلَانِ، فَحَطَّتْ بِنَفْسِهَا إِلَى أَحَدِهِمَا، فَلَمَّا خَشُوا، أَنْ تَفْتَاتَ بِنَفْسِهَا، قَالُوا: إِنَّكِ لَا تَحِلِّينَ، قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«قَدْ حَلَلْتِ، فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمود بن غيلان) العدويّ مولاهم، أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقة [10] 33/ 37.

2 -

(أبو داود) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقة حافظ [9] 13/ 343.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت المشهور [7] 24/ 27.

4 -

(عبد ربه بن سعيد) بن قيس الأنصاريّ، أخو يحيى المدنيّ، ثقة [5] 2/ 452.

5 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [3] 1/ 1.

6 -

(أم سلمة) هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن المغيرة بن مخزوم المخزوميّة، أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها -، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة عبد اللَّه بن عبد الأسد المخزوميّ رضي الله عنه، سنة أربع، وقيل: ثلاث، وماتت سنة (62) على الأصحّ، وقيل: سنة (61)، وقيل: قبل ذلك، تقدّمت في 123/ 183. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه بعد شعبة مسلسل بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن عبدربّه بن سعيد، أنه (قال: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف (يَقُولُ: اخْتَلَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهم -، لا تعارض بين هذا وبين ما يأتي أن الخلاف جرى بين ابن عباس، وبين أبي سلمة؛ لإمكان حمله على أن الأصل بين الأخيرين، فلما وافق أبو هريرة لأبي سلمة صحّ أن يطلق عليه أنه اختلف مع ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهم - (فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا) هل تنقضي عدّتها، أم لا (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (تُزَوَّجُ) بالبناء للمفعول، أي يزوّجها أولياؤها، أو بالبناء

ص: 242

للفاعل، وأصله تتزوّج، فحذف إحدى التاءين. يعني أنه يجوز لها أن تتزوّج؛ لانقضاء عدّتها (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسِ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ) بالنصب، أي تتربّص الأبعد من الأجلين: أجلِ أربعة أشهر وعشر، وأجلِ وضع الحمل، وذلك لأنه جاءت آيتان متعارضتان:

[إحداهما]: تقتضي أن العدّة في حقّها أربعة أشهر وعشر، وهي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} الآية.

[والثانية]: تقتضي أن العدّة في حقّها وضع الحمل، وهي قوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} الآية، ولم ندر بأيهما العمل؟، فالوجه العمل بالأحوط، وهو الأخذ بالأجل المتأخّر، فإن تأخّر وضع الحمل عن أربعة أشهر وعشر أخذت به، وإن تقدّم أخذت بالأربعة أشهر وعشر. نعم قد يتساويان، فلا يبقى أبعد الأجلين، بل هما يجتمعان، لكن هذا القسم لقلته لم يُذكر. أفاده السنديّ.

(فَبَعَثُوا إِلَى أُمَّ سَلَمَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وفي الرواية الآتية أن المبعوث كريب مولى ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - (فَقَالَتْ: تُوُفِّيَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ) - رضي اللَّه تعالى - عنها، وهو سعد بن خولة رضي الله عنها توفّي بمكة عام حجة الوداع. وإنما لم تجب أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - عن السؤال بـ "لا"، أو "نعم"، بل ذكرت قصّة سُبيعة؛ لأن فيها الجواب، مع دليله، ولم تذكر الجواب والدليل معًا؛ طلبًا للاختصار (فَوَلَدَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا، بِخَمْسَةَ عَشَرَ، نِصْفِ شَهْرٍ) بجر "نصفِ" بدلاً من "خمسة عشر"، ويجوز قطعه إلى الرفع والنصب، وقد تقدّم اختلاف الروايات في مقدار المدة التي بين وفاة زوجها وولادتها قريبًا (قَالَتْ) أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنهما - (فَخَطَبَهَا رَجُلَانِ) وفي الرواية التالية:"أحدهما شابّ، والآخر كَهْلٌ". والشابّ هو أبو البِشر بن الحارث العبدريّ، من بني عبد الدار، والكهل أبو السنابل بن بَعْكَك القرشيّ العبدريّ (فَحَطَّتْ بِنَفْسِهَا) بحاء مهملة، وطاء مهملة مشدّدة: أي مالت، ونزلت بقلبها (إِلَى أَحَدِهِمَا) وهو الشابّ (فَلَمَّا خَشُوا) بضمّ الشين المعجمة، أصله خَشِيُوا بكسرها، نُقلت ضمته إلى الشين بعد سلب حركتها، وحذفت الياء لالتقاء الساكنين، أي خشي الكهل ومن معه (أَنَّ تَفْتَاتَ بِنَفْسِهَا) أي تنفرد برأيها، فتتزوّج الشابّ. قال الفيّوميّ: يقال: فاته فلانٌ بذراع: سبقه بها، ومنه قيل: افتات فلانٌ افتياتًا: إذا سَبَق بفعل شيء، واستبدّ برأيه، ولم يؤامر فيه من هو أحقّ منه بالأمر فيه، وفلان لا يُفتات عليه -أي بالبناء للمفعول-: أي لا يُفعَل شيء دون أمره انتهى.

وقال السنديّ: افتعال من الفوت، يقال: فاته، وافتاته الأمر: أي ذهب عنه، وأفاته إياه غيره، والباء ههنا للعتدية إلى المفعول الثاني، والأول محذوف، والمعنى أن تُفيتهم

ص: 243

نفسَها، ويمن أن يكون الباء في "بنفسها" بمعنى "في"، أو للآلة بتقدير المضاف، ويكون المفعول المقدّر جارًا ومجرورًا، من افتات عليه إذا تفرّد برأيه، دونه في التصرّف فيه، والتقدير أن تفتات على أهلها في أمر نفسها، ويدلّ عليه روايات الحديث انتهى (قَالُوا: إِنَّكِ لَا تَحِلِّينَ، قَالَتْ: فَانْطَلَقَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، يحتمل أن يكون فاعل "قالت" ضمير أم سلمة، والتاء في "انطلَقَتْ" تاء التأنيث، والفاعل ضمير سبيعة، وهذا هو الموافق للسياق السابق، ويحتمل أن يكون فاعل "قالت" ضمير سبيعة، والتاء في "انطلقتُ" مضموم على أنه ضمير سبيعة أيضًا، وهذا هو الموافق للسياق اللاحق. واللَّه تعالى أعلم. (فَقَالَ: قَدْ حَلَلْتِ، فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ") لانقضاء عدّتكِ بوضع الحمل، فبيّن مراد اللَّه، فلا معنى لمن خالفه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-56/ 3536 و 3537 و 3538 و 3539 و3540 و3541 و 3542 و 3543 و 3544 - وفي "الكبرى" 55/ 5702 و 5703 و5705 و 5706 و 5707 و 5708 و 5709 و5710 و5711. وأخرجه (خ) في "التفسير" 4910 و "الطلاق" 5318 (م) في "الطلاق" 1485 (ت) في "الطلاق واللعان" 1194 (أحمد) في "مسند الأنصار" 26118 و26175 (الموطأ) في "الطلاق"1250 و 1253 (الدارمي) في "الطلاق" 2279 و2280. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان عدّة الحامل المتوفّى عنها زوجها، وهو وضع حملها. (ومنها): أن الحجة عند التنازع السنّة فيما لا نصّ فيه من الكتاب، وفيما فيه نصّ إذا احتمل للختصيص؛ لأن السنّة تبين مراد الكتاب، قال الإمام الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-: من عرف الحديث قويت حجته، ومن نظر في النحو رقّ طبعه، ومن حفظ القرآن نَبُل قدره، ومن لم يصن نفسه، لم يصنه العلم. (ومنها): أن المناظرة، وطلب الدليل، وموقع الحجة كان قديمًا من زمن الصحابة، ولا ينكره إلا جاهلٌ. (ومنها): أن الكبير لا يتعاظم، ولا يتكبّر على الصغير، إذا ردّ عليه فتواه، بل

(1)

المراد فوائد الحديث برواياته المختلفة، لا خصوص السياق المتقدم، فتنبّه.

ص: 244

يتوقّف، ويبحث حتى يتوصّل إلى الدليل الصحيح، فإن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى - عنهما - الصحابيّ مع جلالته في العلم لما ردّ عليه أبو سلمة التابعيّ، أرسل إلى أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنهما -، يبحث عنده سنة تحكم بينه وبين مخالفه. (ومنها): أنه لا ينبغي لصغير أن يسكت على علم من الكتاب والسنة أمام العالم الكبير إذا أخطأ، بل يردّ عليه، ويُحاجّه بالأدلة الصحيحة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3537 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَهِيَ حَامِلٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِرُ الأَجَلَيْنِ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِذَا وَلَدَتْ فَقَدْ حَلَّتْ،

فَدَخَلَ أَبُو سَلَمَةَ، إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ؟ ، فَقَالَتْ: وَلَدَتْ سُبَيْعَةُ الأَسْلَمِيَّةُ، بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ، فَخَطَبَهَا رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا شَابٌّ، وَالآخَرُ كَهْلٌ، فَحَطَّتْ إِلَى الشَّابِّ، فَقَالَ الْكَهْلُ: لَمْ تَحْلِلْ، وَكَانَ أَهْلُهَا غُيَّبًا، فَرَجَا إِذَا جَاءَ أَهْلُهَا أَنْ يُؤْثِرُوهُ بِهَا، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«قَدْ حَلَلْتِ، فَانْكِحِى مَنْ شِئْتِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، وهو ثقة حافظ.

وقوله: "فدخل أبو سلمة الخ" لا ينافي هذا ما تقدّم من أن الذي دخل على أم سلمة هو كريب مولى ابن عباس؛ لاحتمال أن يذهب أبو سلمة معه؛ للتأكّد بنفسه.

وقوله: "كهلٌ" -بفتح الكاف، وسكون الهاء-: من جاوز الثلاثين، ووخطه الشيب. وقيل: من بلغ الأربعين، والجمع كُهُول، والأنثى كهلة، والجمع كَهْلات بسكون الهاء، في قول الأصمعيّ، وأبي زيد، لَمْحًا للصفة، مثل صعْب وصَعْبَات، وبفتحها في قول أبي حاتم؛ تغليبًا لجانب الاسميّة، مثل سجدَة وسَجَدَات انتهى.

وقوله: "وكان أهلها غيبًا" بفتح، فسكون، أو بفتحتين، أو بضمّ، فتشديد الياء التحتيّة. قال الفيّوميّ: غاب الشيءُ يَغِيب غَيْبًا وغَيْبَةً -بفتح، فسكون فيهما-، وغِيَابًا - بالكسر- وغُيُوبًا -بضمّتين-، ومَغِيبًا -بفتح، فكسر-: بَعُدَ، فهو غائبٌ، والجمع غُيّبٌ، وغُيّابٌ، وغَيْبٌ، مثلُ رُكّع، وكُفّار، وصَحْبٍ انتهى. وقال المجد في "القاموس": وقوم غُيبٌ، وغُيابٌ، وغَيَبٌ محرّكةً: غائبون انتهى.

والمعنى: أن الكهل إنما قال: لم تحلل؛ لخوفه من مسارعتها إلى نكاح الشابّ، حيث كان أهلها غائبين، فطمع في حضورهم، حتى يأمروها بأن تتزوّجه دون الشابّ.

ص: 245

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3538 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ - قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قِيلَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ، فِي امْرَأَةٍ وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِعِشْرِينَ لَيْلَةً: أَيَصْلُحُ لَهَا أَنْ تَزَوَّجَ؟ قَالَ: لَا، إِلاَّ آخِرَ الأَجَلَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: قَالَ: اللَّهُ تبارك وتعالى: {روَأُولَاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، فَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ، فَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي -يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ- فَأَرْسَلَ غُلَامَهُ كُرَيْبًا، فَقَالَ: ائْتِ أُمَّ سَلَمَةَ، فَسَلْهَا، هَلْ كَانَ هَذَا سُنَّةً مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ، فَقَالَ: قَالَتْ: نَعَمْ، سُبَيْعَةُ الأَسْلَمِيَّةُ، وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ تَزَوَّجَ، فَكَانَ أَبُو السَّنَابِلِ فِيمَنْ يَخْطُبُهَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"بزيع" -بفتح الموحّدة، وكسر الزاي، آخره عين مهملة-. و"زُريع" -بضمّ الزاي، وفتح الراء، مصغّرًا، آخره عين مهملة-.

و"حجّاج": هو ابن أبي عثمان ميسرة، أو سالم الصوّاف الكنديّ مولاهم، أبو الصلت البصريّ، ثقة حافظ [6] 12/ 790.

وقوله: "أن تزوّج" -بفتح التاء- أصله تتزوّج، فحذفت إحدى التاءين، كما مرّ قريبًا. ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول، أي يزوّجها أهلها.

وقوله: "إلا آخر الأجلين" أي إلا تتربّص أبعد الأجلين، وهو هنا أربعة أشهر وعشر. وقوله:"قال: قلت" القائل هو أبو سلمة.

وقوله: "فقال: إنما ذلك في الطلاق" القائل هو ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

وقوله: "أنا مع ابن أخي" قاله ملاطفةً، على عادة العرب، وإلا فليس ابن أخيه حقيقة.

وقوله: "فأرسل غلامه كريبًا" المرسل هو ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

وقوله: "هل كان هذا سنّةً" بالنصب خبرًا لـ "كان". أي هل كان هذا الذي قاله أبو سلمة، ووافقه عليه أبو هريرة سنّةً منقولةً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولفظ "الكبرى":"هل كان في هذا سنّةٌ"، وعليه "فسنّةٌ" بالرفع اسم "كان" مؤخّرًا. أي هل ثبت في هذا الأمر سنةٌ منقولة عنه صلى الله عليه وسلم. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام شرحه، وبيان مسائله قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3539 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، تَذَاكَرُوا عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا،

ص: 246

تَضَعُ عِنْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَعْتَدُّ آخِرَ الأَجَلَيْنِ، وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: بَلْ تَحِلُّ حِينَ تَضَعُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي، فَأَرْسَلُوا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: وَضَعَتْ سُبَيْعَةُ الأَسْلَمِيَّةُ، بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِيَسِيرٍ، فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"الليث": هو ابن سعد. و"يحيى": هو ابن سعيد الأنصاريّ.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3540 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ وَاصِلِ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: وَضَعَتْ سُبَيْعَةُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِأَيَّامٍ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَزَوَّجَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو كوفيّ ثقة.

و"يحيى بن آدم": هو أبو زكريا الأمويّ مولاهم الكوفيّ الثقة الحافظ الفاضل.

[تنبيه]: يحيى بن آدم هكذا وقع عند المصنّف هنا، وفي "الكبرى"، ووقع عند الحافظ المزّيّ في "تحفة الأشراف" 13/ 29 يحيى بن يمان، وأظنّه غلطًا. واللَّه تعالى أعلم.

و"سفيان": هو الثوريّ الإمام الحجة.

وقوله: "ومحمد بن عمرو" بالجرّ عطفًا على يحيى بن سعيد، فسفيان يروي هذا الحديث بطريقين: طريق يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن كريب. وطريق محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن كريب. راجع "تحفة الأشراف" 13/ 28 - 29.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3541 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، اخْتَلَفَا فِي الْمَرْأَةِ، تُنْفَسُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: آخِرُ الأَجَلَيْنِ، وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: إِذَا نُفِسَتْ فَقَدْ حَلَّتْ، فَجَاءَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي -يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ بْنَ

ص: 247

عَبْدِ الرَّحْمَنِ- فَبَعَثُوا كُرَيْبًا، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ؟ ، فَجَاءَهُمْ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهَا قَالَتْ: وَلَدَتْ سُبَيْعَةُ، بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«قَدْ حَلَلْتِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

وقوله: "تُنفَس" -بضمَ أوله، وفتح ثالثه- مضارع نُفست المرأة بالبناء للمفعول: إذا ولدت، وتقدّم الكلام عليه في شرح أول حديث في الباب.

وقوله: "فجاء أبو هريرة" لعله كان قام لحاجة، وإلا فقد كان جالسًا عند ابن عبّاس لَمّا استُفتي، ففي رواية البخاريّ في "التفسير": "جاء رجل إلى ابن عباس، وأبو هريرة جالسٌ عنده، فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلةً، فقال ابن عباس: آخر الأجلين

الحديث.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3542 -

(أَخْبَرَنَا حُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا وَضَعَتِ الْمَرْأَةُ، بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا، فَإِنَّ عِدَّتَهَا آخِرُ الأَجَلَيْنِ، فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَبَعَثْنَا كُرَيْبًا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ، فَجَاءَنَا مِنْ عِنْدِهَا، أَنَّ سُبَيْعَةَ، تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَوَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِأَيَّامٍ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَتَزَوَّجَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"حسين بن منصور": هو أبو عليّ السلميّ النيسابوريّ، ثقة فقيه [10] 25/ 1664 من أفراد البخاريّ، والمصنّف.

و"جعفر بن عون": هو المخزوميّ، أبو عون الكوفيّ، صدوقٌ [9] 40/ 684.

وقوله: "كنت أنا الخ" خبره محذوف: أي جالسين، نتذاكر عدّة المرأة التي وضعت حملها بعد وفاة زوجها بأيام.

وقوله: "فبعثنا كريبًا الخ" هذا لا ينافي ما تقدّم من قوله: "فدخل أبو سلمة إلى أم سلمة، فسألها عن ذلك"؛ لأنه يمكن أن يدخل بعد ذلك، للتأكّد، أو لما بُعث كريب شاركه، فدخل معه. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "فأمرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تتزوّج" أي أمر استحباب وإرشاد؛ لما في الرواية

ص: 248

الآتية: "فأمرني بالتزويج إن بدا لي".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3543 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، أَخْبَرَتْهُ عَنْ أُمِّهَا، أُمِّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَسْلَمَ، يُقَالُ لَهَا: سُبَيْعَةُ، كَانَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا، وَهِيَ حُبْلَى، فَخَطَبَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَقَالَ: مَا يَصْلُحُ لَكِ أَنْ تَنْكِحِي، حَتَّى تَعْتَدِّي آخِرَ الأَجَلَيْنِ، فَمَكَثَتْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ نُفِسَتْ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «انْكِحِي»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"جعفر بن ربيعة": هو أبو شُرحبيل الكنديّ المصريّ الثقة. و"عبد الرحمن ابن هرمز": هو المدنيّ الفقيه المعروف بالأعرج.

وقوله: "عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن زينب بنت أبي سلمة أخبرته" أبوها: هو عبد اللَّه بن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم المخزوميّ، أخو النبيّ صلى الله عليه وسلم، من الرضاعة، وابن عمّته برّة بنت عبد المطّلب، كان من السابقين الأولين، شهد بدرًا، ومات بعد أحد في جمادى الآخرة سنة أربع من الهجرة، فتزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم بعده زوجته أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنهما -. وإنما نبّهت على هذا؛ لأنه ربما يلتبس على من لا يعلم الأسانيد أبو سلمة الرواي عن زينب بأبي سلمة والدها. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "أن زينب أخبرته". تقدّم أنه سمعه من كريب، عن أم سلمة، وتقدّم أيضًا أنه دخل على أم سلمة، فسألها عن ذلك، وسيأتي في الحديث التالي قوله: "فأخبرني رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أن سُبيعة

" الحديث. وعند أحمد من طريق ابن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم التيميّ، عن أبي سلمة، قال: دخلتُ على سبيعة

".

وهذا الاختلاف على أبي سلمة لا يقدح في صحّة الخبر؛ فإن لأبي سلمة اعتناء بالقصّة من حين تنازع هو وابن عبّاس فيها، فكأنه لَمّا بلغه الخبر من كريب، عن أم سلمة لم يقتنع بذلك، حتى دخل عليها، ثم دخل على سُبيعة، صاحبة القصّة نفسِها، ثم تحمّلها عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا الرجل يحتمل أن يكون هو المسور بن مخرمة رضي الله عنه، كما تقدم أول الباب، ويحتمل أن يكون أبا هريرة رضي الله عنه، كما يشهد له ما في آخر الحديث من قوله: (فقال أبو هريرة رضي الله عنه: أشهد على ذلك"، فيحتمل أن

ص: 249

يكون أبو سلمة أبهمه أوّلًا لَمّا قال: أخبرني رجلٌ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

وأما ما أخرجه عبد بن حميد من رواية صالح بن أبي حسّان، عن أبي سلمة، فذكر قصّته مع ابن عبّاس، وأبي هريرة رضي الله عنهم، قال:"فأرسلوا إلى عائشة، فذكرت حديث سبيعة". فهو شاذّ، وصالح بن أبي حسّان مختلفٌ فيه.

ووقع في رواية أبان العطار، عن يحيى بن أبي كثير في هذا الحديث:"أن ابن عبّاس احتجّ بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} وأن أبا سلمة قال له: يا ابن عبّاس، أقال اللَّه: آخر الأجلين؟ أرأيت لو مضت أربعة أشهر وعشر، ولم تضع، أتتزوّج؟ فقال لغلامه: اذهب إلى أم سلمة. قاله في "الفتح"

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3544 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا وَأَبُو هُرَيْرَةَ، عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِذْ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَهِى حَامِلٌ، فَوَلَدَتْ لأَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، مِنْ يَوْمِ مَاتَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِرُ الأَجَلَيْنِ، فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ، جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَهِيَ حَامِلٌ، فَوَلَدَتْ لأَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ: فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ تَتَزَوَّجَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير:

1 -

(داود بن أبي عاصم) بن أبي عروة بن مسعود الثقفيّ الطائفيّ، ثم المكيّ، ثقة [3]. قال أبو زرعة، وأبو داود، والنسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الدارقطنيّ: طائفيّ يُحتجّ به. وقال أبو بكر بن أبي عاصم: داود بن أبي عاصم ثقة. أخرج له البخاريّ

(3)

، وأبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان: هذا، وحديث "أن امرأة مخزومتة استعارت حليًّا

" في "كتاب قطع السارق" -5/ 4920.

وقوله: "جاءته امرأة الخ" وفي رواية البخاريّ: "جاء رجل إلى ابن عباس، وأبو هريرة جالس عنده، فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة

".

(1)

قال الجامع: هكذا ذكر في "الفتح" هذا الاحتمال، لكن سياق الحديث الآتى بعد هذا يُبْعِدُ أن يكون المبهم أبا هريرة رضي الله عنه. فتأمله بإمعان، واللَّه تعالى أعلم.

(2)

"فتح" 10/ 590.

(3)

رمز له المزّنيّ علامة التعليق، فردّ عليه الحافظ في "تهذيب الكمال" 1/ 565.

ص: 250

ولا تعارض بين الروايتين؛ لاحتمال أن يكون الرجل قريبًا لتلك المرأة، فسأل لها، فصحّ نسبة السؤال إليها لكونها آمرة له، أو سألت هي بعد سؤاله للتثبّت، أو بالعكس.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3545 -

(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ، كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْقَمَ الزُّهْرِيِّ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الأَسْلَمِيَّةِ، فَيَسْأَلَهَا حَدِيثَهَا، وَعَمَّا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ اسْتَفْتَتْهُ، فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، يُخْبِرُهُ أَنَّ سُبَيْعَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ ابْنِ خَوْلَةَ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهِيَ حَامِلٌ، فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا، تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاكِ، مُتَجَمِّلَةً، لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ النِّكَاحَ، إِنَّكِ وَاللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ، حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ، جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، حِينَ أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ، حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إِنْ بَدَا لِي).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يونس بن عبد الأعلى) بن ميسرة الصدفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقة، من صغار [10] 1/ 449.

2 -

(ابن وهب) هو عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقة حافظ عابد [9] 9/ 9.

3 -

(يونس) بن يزيد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقة [7] 9/ 9.

4 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهريّ المدنيّ، ثقة ثبت حافظ [4] 1/ 1.

5 -

(عبيد بن عبد اللَّه) بن عُتبة الهذليّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 45/ 56.

6 -

(عمر بن عبد اللَّه بن الأرقم) بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهرِيّ المدنيّ، مقبول [3].

روَى عن سُبيعة الأسلميّة. وعنه عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، وابنه عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عُتبة، فيما كتب إليهما. ذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والمصنّف، وده عندهم حديث سبيعة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا فقط.

ص: 251

7 -

(سُبيعة) بنت الحارث الأسلميّة زوجة سعد بن خَوْلة، روت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عدّتها، وروى عنها عمر بن عبد اللَّه بن الأرقم، ومسروق بن الأجدع، وزُفر بن أوس بن الْحَدَثَان، وعبيد أبو سَوِيَّةَ، وعمرو بن عُتبة بن فَرْقَد. قال ابن عبد البرّ: روى عنها فُقهاء المدينة والكوفة حديثها هذا، وروى ابن عمر عنها حديث: "من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت

" الحديث، قال: وزعم العقيليّ أن سُبيعة التي روى عنها ابن عمر غير الأولى، ولا يصحّ عندي. روى لها الجماعة، سوى الترمذيّ، ولها عندهم هذا الحديث فقط، راجع "تحفة الأشراف" 11/ 330 - 331. وقد كرّره المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في هذا الباب ثلاث مرّات برقم 3545 و 3546 و 3547. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، فهو سند وسط، وقد تقدّم أن أعلى الأسانيد له الرباعيات، وأنزلها العشاريّات. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين إلى يونس بن يزيد، وبعده مسلسل بالمدنيين. (ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابن شهاب، عن عبيد اللَّه بن عتبة، عن عمر بن عبد اللَّه. (ومنها): أن صحابيته من المقلّين من الرواية، فليس لها إلا هذا الحديث عند الجماعة، إلا الترمذيّ، كما سبق آنفًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ شِهَابِ) الزهريّ (أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبدِ اللَّهِ) بن عتبة (حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ) هو عبد اللَّهَ بن عتبة بن مسعود الهذليّ، ابن أخي عبد اللَّه بن مسعود، وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثقة، من كبار [2] وقد تقدّم في 197/ 315. (كَتَبَ) فيه العمل بالمكاتبة، وهو مذهب الجمهور، وقد عقد الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- للمكاتبة، والمناولة بابًا في "كتاب العلم" من "صحيحه"، فقالت: "باب ما يُذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان"، وقال أنس: نسخ عثمان المصاحف، فبعث بها إلى الآفاق. ورأى عبد اللَّه بن عمر، ويحيى بن سعيد، ومالكٌ ذلك جائزًا. واحتجّ بعض أهل الحجاز في المناولة بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث كتب لأمير السريّة كتابًا، وقال: لا تقرأه حتى تبلغ مكان

كذا وكذا، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس، وأخبرهم بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم. ثم أخرج بسنده عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه عتبة بن مسعود، أن عبد اللَّه بن عباس، أخبره، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بعث بكتابه رجلا، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم

ص: 252

البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مَزّقه

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: والمكاتبة من أقسام التحمّل، وهو أن يكتب الشيخ حديثه بخطه، أو يأذن لمن يَثِق به بكتبه، ويُرسله بعد تحريره إلى الطالب، ويأذن له في روايته عنه. وقد سوّى البخاريّ بينها وبين المناولة. ورجّح قوم المناولة عليها؛ لحصول المشافهة فيها بالإذن، دون المكاتبة. وقد جوّز جماعة من القدماء إطلاق الإخبار فيهما، والأولى ما عليه المحقّقون من اشتراط بيان ذلك انتهى

(1)

.

(إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ أَرْقَمَ الزُّهْرِيِّ) ولفظ البخاريّ: "أنه كتب إلى ابن الأرقم"، فظنّ جمع من الشرّاح أنه عبد اللَّه بن الأرقم والد عمر هذا، وهو وهم منهم، كما بيّنه في "الفتح".

(يَأْمُرُهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى سُبَيعَةَ بنْتِ الْحَارِثِ الأَسْلَمِيّةِ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (فَيَسْأَلَهَا حَدِيثَهَا، وَعَمَّا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ اسْتَفْتَتْهُ، فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّه، إِلَى عَبدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، يُخْبِرُهُ أَنَّ سُبَيعَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ) بفتح الخاء المعجمة، وسكون الواو، أي كانت زوجًا له (وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيِّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا) فيه الإظهار في مقام الإضمار للإيضاح (فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ) بكسر الحاء: المرة من الحجّ، وهو غير قياس، والجمع حِججٌ، مثلُ سدرة وسِدَر. قال ثعلبٌ: قياسه الفتح، ولم يُسمع من العرب. قاله الفيّوميّ. و"الوداع" بفتح الواو اسم من التوديع، يقال: ودّعته توديعًا: إذا شيّعته عند سفره، وإنما سُمي بذلك لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ودّع الناس فيه (وَهِيَ حَامِلٌ) جملة حاليّة، أي والحال أنها حامل من زوجها المتوفّى.

قال الفيّوميّ: حَمَلَت المرأةُ ولدَهَا، وُيجعلُ حَمَلت بمعنى عَلِقَتْ، فيتعدّى بالباء، فيقال: حَمَلت به في ليلة كذا، وفي موضع كذا: أي حَبِلَت، فهي حاملٌ، بغير هاء؛ لأنها صفة مختصّةٌ، وربّما قيل: حاملةٌ بالهاء، قيل: أرادوا المطابقة بينها وبين حَمَلَت.

وقيل: أرادوا مجاز الحمل، إما لأنها كانت كذلك، أو ستكون، فإذا أريد الوصف الحقيقيّ قيل: حاملٌ بغير هاء انتهى (فَلَمْ تَنْشَبْ) أي لم تلبث، ولم تتأخّر. قال ابن الأثير: يقال: لم ينشب أن فَعَلَ كذا: أي لم يلبث، وحقيقته لم يتعلّق بشيء غيره، ولا اشتغل بسواه. انتهى

(2)

(أَنْ وَضَعِتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا) بتشديد اللام: أي ارتفعت، أو برأت (تَجَمَّلَت لِلخُطَّابِ) بضمّ الخاء المعجمة، جمع خاطب، ككاتب وكُتّاب (فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، تقدم الخلاف

(1)

"فتح" 1/ 208.

(2)

"النهاية" 5/ 52.

ص: 253

في اسمه في ثاني حديث الباب (رَجُلٌ) بالرفع بدل من "أبو السنابل"(مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَقَالَ: لَهَا: مَا لِي أَرَاكِ، مُتَجَمَّلَةَ، لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ النِّكَاحَ، إنَّكِ وَاللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ، حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) هكذا نسخ "المجتبى" بالنصب. ووقع في "الكبرى" بالرفع، وهو ظاهر؛ لأنه فاعل "تمرّ"، ويمكن أن يوجّه ما في "المجتبى" بأن يكون النصب على الظرفية، والعامل فاعل "تمرّ" مقدّرًا: أي تمرّ عليك العدّة أربعة أشهر وعشرًا، ويحتمل أن يكون على حكايته لفظ القرآن.

وأما ما وقع في النسخ المطبوعة من ضبطه بالقلم برفع "أربعةُ"، ونصب "عشرًا"، فالظاهر أنه غلط. واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَتْ: سُبَيْعَةُ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ، جَمعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي) كناية عن استتارها بثيابها، وتحفّظها عن أن يظهر شيء من جسدها (حِينَ أَمْسَيْتُ) أي دخلت في وقت المساء، وإنما اختارت المساء؛ لكونه أستر (فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَفْتَانِي بأنِّي قَدْ حَلَلْتُ، حِينَ وَضَعْتُ حَمْلي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إِنْ بَدَا لِي) أي ظهر لي التزويج، أي إن أرادت ذلك، ففيه أن النكاح ليس بواجب على المرأة، وتقدّم اختلاف أهل العلم في حكم النكاح مفصّلًا في بابه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سُبيعة الأسلمية بنت الحارث الأسلميّة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-56/ 3545 و 3546 و 3547 - وفي "الكبرى" 56/ 5712 و 5713 و 5714. وأخرجه (خ) في "الطلاق" 5319 (م) في "الطلاق" 1484 (د) في "الطلاق" 2306 (ق) في "الطلاق" 2027 و 2028 (أحمد) في "مسند القبائل" 2688.

وفوائد الحديث تقدّمت. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3546 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ، يَذْكُرُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ، أَنَّ زُفَرَ بْنَ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا السَّنَابِلِ بْنَ بَعْكَكِ بْنِ السَّبَّاقِ، قَالَ لِسُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ: لَا تَحِلِّينَ، حَتَّى يَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، أَقْصَى الأَجَلَيْنِ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم،

ص: 254

فَسَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ؟ ، فَزَعَمَتْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَفْتَاهَا، أَنْ تَنْكِحَ، إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا، وَكَانَتْ حُبْلَى، فِي تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، حِينَ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا، وَكَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ ابْنِ خَوْلَةَ، فَتُوُفِّيَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَكَحَتْ فَتًى مِنْ قَوْمِهَا، حِينَ وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه محمد ابن وهب بن عمر بن أبي كريمة، أبي المعافى الْحَرّانيّ، صدوق [10] 191/ 306 فإنه من أفراده.

و"محمد بن سلمة": هو الحرّانيّ. و"أبو عبد الرحيم": هو خالد بن أبي يزيد الأمويّ الحرّانيّ.

[تنبيه]: وقع في "الكبرى" ج 3/ ص390 "أبو عبد الرحمن" وهو تصحيف، والصواب ما هنا.

و"زيد بن أبي أنيسة": هو أبو أسامة الجزريّ الرُّهَاوِيّ. واسم أبيه زيد. و"يزيد بن أبي حبيب": هو أبو رجاء الأزديّ المصريّ.

و"زُفر -بضمّ الزاي، وفتح الفاء- ابن أوس بن الحَدَثَان -بفتح المهملتين، ثم مثلّثة- النّصريّ" -بالنون، والصاد المهملة- المدنيّ، أخو مالك، يقال: له رؤية، وأما أبوه فصحابيّ معروف.

روى عن أبي السنابل بن بعكك قصّة سبيعة. وعنه عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عُتبة. ذكره ابن منده، وأبو نعيم في "الصحابة"، وقال: يُقال: أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرف له رواية" ولا صحبة. ولم يذكره البخاريّ، ولا ابن أبي حاتم. تفرّد به المصنّف بحديث الباب فقط.

وقوله: "قال: كتب إليه الخ" فاعل "قال" ضمير يزيد، أي قال: يزيد بن أبي حبيب: كتب إليه يذكر الخ، يعني أن الزهريّ كتب إلى يزيد بهذا الحديث.

وقوله: "أربعةَ أشهر وعشرًا" هكذا نسخ "المجتبى" بالنصب. ووقع في "الكبرى" بالرفع. والظاهر أنهما جائزان، وقد تقدّم توجيههما.

والحديث في سنده زُفَر بن أوس، وهو مجهول عين، لكنه صحيح بما قبله، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-56/ 3547 - وفي "الكبرى" 56/ 5713. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3547 -

(أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ

ص: 255

الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ، كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَرْقَمِ الزُّهْرِيِّ، أَنِ ادْخُلْ عَلَى سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الأَسْلَمِيَّةِ، فَاسْأَلْهَا عَمَّا أَفْتَاهَا بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَمْلِهَا، قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَأَلَهَا، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ ابْنِ خَوْلَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا، فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَوَلَدَتْ قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ لَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا، دَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَرَآهَا مُتَجَمِّلَةً، فَقَالَ: لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ النِّكَاحَ، قَبْلَ أَنْ تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ أَبِي السَّنَابِلِ، جِئْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«قَدْ حَلَلْتِ حِينَ وَضَعْتِ حَمْلَكِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير كثير بن عُبيد الْمَذْحِجِيّ، أبي الحسن الحمصيّ، وهو ثقة [10] فقد تفرد به هو، وأبو داود، وابن ماجه.

و"محمد بن حرب": هو الخولانيّ الحمصيّ الأبرش الثقة. و"الزبيديّ": هو محمد بن الوليد الحمصيّ الحافظ الثبت.

وقوله: "أربعة أشهر وعشرًا" أيضًا بالنصب، وفي "الكبرى" بالرفع، وتقدّم توجيهه قريبًا، فلا تنسَ.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3548 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي نَاسٍ بِالْكُوفَةِ، فِي مَجْلِسٍ لِلأَنْصَارِ، عَظِيمٍ، فِيهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، فَذَكَرُوا شَأْنَ سُبَيْعَةَ، فَذَكَرْتُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، فِي مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَوْنٍ: "حَتَّى تَضَعَ"، قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَكِنَّ عَمَّهُ، لَا يَقُولُ ذَلِكَ، فَرَفَعْتُ صَوْتِي، وَقُلْتُ: إِنِّي لَجَرِيءٌ، أَنْ أَكْذِبَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَهُوَ فِي نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ، قَالَ: فَلَقِيتُ مَالِكًا، قُلْتُ: كَيْفَ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ، يَقُولُ فِي شَأْنِ سُبَيْعَةَ؟ ، قَالَ: قَالَ: أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ، وَلَا تَجْعَلُونَ لَهَا الرُّخْصَةَ، لأُنْزِلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى، بَعْدَ الطُّولَى).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) القيسيّ، أبو عبد اللَّه الصنعانيّ، ثم البصريّ، ثقة [10]

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

ص: 256

3 -

(ابن عون) هو عبد اللَّه، أبو عون البصريّ، ثقة ثبت فاضل [5] 29/ 33.

4 -

(محمد) بن سيرين الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقة ثبت فقيه عابد [3] 46/ 57.

5 -

(مالك) بن عامر، أو ابن أبي عامر، أو ابن عوف، أو ابن حمزة، أو ابن أبي حمزة، أبو عطية الوادعيّ الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة [3] 10/ 1198 مات في حدود السبعين.

6 -

(ابن مسعود) عبد اللَّه الصحابيّ المشهور - رضي اللَّه تعالى عنه - 35/ 39. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم، عن بعض: ابن عون

(1)

، عن ابن سيرين، عن مالك بن عامر. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مُحَمَّدٍ) بن سيرين، أنه (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا، فِي نَاسٍ بِالْكُوفَةِ، فِي مَجْلِسٍ لِلْأَنْصَارِ، عَظِيمٍ) بالجرّ صفة لـ "مجلس". ولفظ البخاريّ في "تفسير سورة البقرة": جلست إلى مجلس فيه عُظْمٌ من الأنصار" (فِيهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى) التابعيّ المعروف (فَذَكَرُوا شَأْنَ سُبَيْعَةَ) أي في وضع حملها بعد وفاة زوجها (فَذَكَرْتُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسعُودٍ، فِي مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَوْنِ: (حَتَّى تَضَعَ") يعني أن لفظ "حتى تضع" ليس لفظ عبد اللَّه بن عون، بل معناه. وحاصله أن خالدًا نسي لفظ ابن عون، وحفظ معناه، وهو "حتى تضع".

فقوله: "في معنى قول ابن عون" متعلّق بحال مقدّر، و"حتى تضع" مفعول "ذكرتُ".

(قَالَ: ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَكِنَّ عَمَّهُ) يعني ابن مسعود رضي الله عنه (لَا يَقُولُ ذَلِكَ) أي بل يقول بأبعد الأجلين، فالظاهر أن ابن العمّ يتبعه، وهذا الذي نَقَلْتَ منه غير ثابت، ولهذا أنكر عليه محمد بن سيرين، فقال:"إني لجريء الخ"(فَرَفَعْتُ صَوْتِي، وَقُلْتُ: إِنِّي لَجَرِيءٌ)

(1)

الظاهر أن ابن عون تابعيّ صغير؛ لأنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه، فالحقّ أنه من الطبقة الخامسة، لا من السادسة، كما هو في "التقريب"، فليُتنبّه. واللَّه تعالى أعلم

ص: 257

قال السنديّ: بحذف همزة الاستفهام.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لم يظهر لي وجه الاستفهام هنا، بل كونه خبرًا هو الوجه، والمراد أنه جريء إن فعل ذلك، والغرض منه أنه لا يحصل منه الاجتراء. وفي رواية هشام، عن ابن سيرين، عند عبد بن حميد:"إني لحريص على الكذب".

(أَنْ أَكذِبَ عَلَى عَبْدِ اللْهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَهُوَ فِي نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ) هذا يُشعر بأن هذه القصّة وقعت له، وعبد اللَّه بن عتبة حيّ. وزاد في رواية البخاريّ:"فاستحيى، وقال: لكنّ عمّه لم يقل ذلك". يعني أن ابن أبي ليلى استحيى مما وقع منه، وقال: لكن عمه عبد اللَّه بن مسعود لم يقل: إنها تنقضي عدّتها بوضع حملها. قال في "الفتح": كذا نقل عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه، والمشهور عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول خلاف ما نقله ابن أبي ليلى، فلعلّه كان يقول ذلك، ثم رجع، أو وهم الناقل عنه انتهى (قَالَ) ابن سيرين (فَلَقِيتُ مَالِكًا) وفي رواية البخاريّ: فلقيت أبا عطية مالك بن عامر". قال في "الفتح": في رواية ابن عوف: "مالك بن عامر، أو مالك بن عوف" بالشك، والمحفوظ مالك بن عامر، وهو مشهور بكنيته أكثر من اسمه، والقائل هو ابن سيرين، كأنه استغرب ما نقله ابن أبي ليلى، عن ابن مسعود، فاستثبت فيه من غيره. ووقع في رواية هشام، عن ابن سيرين "فلم أدر ما قول ابن مسعود في ذلك، فسكتُّ، فلما قمتُ لقيت أبا عطيّة" (قُلْتُ: كَيْفَ كَانَ ابْنُ مَسعُودٍ، يَقُولُ فِي شَأْنِ سُبَيْعَةَ؟، قَالَ) أي مالك ابن عامر أبو عطيّة. وفي رواية البخاريّ: "فلقيت أبا عطيّة مالك بن عامر، فسألته، فذهب يُحدّثني حديث سُبيعة، فقلت: هل سمعت عن عبد اللَّه فيها شيئًا؟، فقال: كنا عند عبد اللَّه، فقال: أتجعلون عليها التغليظ

(قَالَ) أي ابن مسعود رضي الله عنه (أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التغْلِيظَ) أي وهو أبعد الأجلين، وهذا إنكار من ابن مسعود رضي الله عنه لما نقل عنه ابن أبي ليلى، فعُلم أن ما نَقَل عنه ابن أبي ليلى غير ثابت.

وفي رواية أبي نعيم، من طريق الحارث بن عُمير، عن أيوب: "فقال أبو عطيّة: ذُكر ذلك عند ابن مسعود، فقال: أرأيتم لو مضت أربعة أشهر وعشر، ولم تضع جملها، كانت قد حلّت؟ قالوا: لا، قال: فتجعلون عليها التغليظ

" الحديث (وَلَا تَجْعَلُونَ لَهَا الرُّخْصَةَ) وفي رواية البخاريّ: "ولا تجعلون عليها الرخصة" بـ "على"، والأولى أوجه. ويمكن أن تُحمل هذه على المشاكلة، أي من الأخذ بما دلّت عليه آية سورة الطلاق. أفاده في "الفتح"

(1)

(لَأُنْزِلَتْ) جواب قسم محذوف، وقع بيانه في رواية

(1)

"فتح" 9/ 653 "تفسير سورة الطلاق".

ص: 258

الحارث بن عمير، بلفظ:"فواللَّه لقد نزلت"(سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى، بَعْدَ الطُّولَى) أي سورة الطلاق بعد سورة البقرة. والمراد بعضه، فمن البقرة قوله عز وجل:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ، ومن الطلاق قوله عز وجل:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .

ومراد ابن مسعود رضي الله عنه إن كان هناك نسخٌ، فالمتأخّر هو الناسخ، وإلا فالتحقيق أن لا نسخ هناك، بل عموم آية البقرة مخصوص بآية الطلاق.

وقد أخرج أبو داود، وابن أبي حاتم من طريق مسروق، قال: بلغ ابن مسعود أن عليًّا يقول: تعتدّ آخر الأجلين، فقال:"من شاء لاعنته أن التي في النساء القصرى أُنزلت بعد سورة البقرة، ثم قرأ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ".

وعرف بهذا مراده بسورة النساء القصرى. وفيه جواز وصف السورة بذلك. وحكى ابن التين عن الداوديّ قال: لا أدري قوله: "القصرى" محفوظًا، ولا يقال في سور القرآن قُصرى، ولا صُغْرى انتهى. وهو ردّ للأخبار الثابتة بلا مستند، والقصر والطول أمر نسبيّ. وقد تقدّم في صفة الصلاة قول زيد بن ثابت:"طولى الطوليين"، وأنه أراد بذلك سورة الأعراف. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-56/ 3548 و 3549 و3550 - وفي "الكبرى" 56/ 5715 و 5716 و 1717 وفي "التفسير" 11604 و11605. وأخرجه (خ) في "التفسير" 4532 و491 (د) 2307. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان عدّة الحامل المتوفّى عنها زوجها، وهو وضع حملها. (ومنها): ما كان عليه السلف من المناقشة العلمية؛ للتوصّل إلى الحقّ. (ومنها): تثبّت ابن سيرين في نقله، حيث إنه مع تأكده النقل عن عبد اللَّه بن عتبة، إلا أنه أراد التثبّت، فسأل مالك بن عامر عن مذهب ابن مسعود رضي الله عنه

(1)

"فتح" 9/ 653 "تفسير سورة الطلاق".

ص: 259

في هذه المسألة. (ومنها): تغليظ العالم في إثبات ما ادعاه بدليله، إذا رأى من الخصم عدم التراجع، فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه:"من شاء لاعنته". (ومنها): جواز وصف السورة بالقصرى، خلافًا لمن أنكر ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3549 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مِسْكِينِ بْنِ نُمَيْلَةَ، يَمَامِيٌّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ح وَأَخْبَرَنِي مَيْمُونُ بْنُ الْعَبَّاسِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شُبْرُمَةَ الْكُوفِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ: مَنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ، مَا أُنْزِلَتْ: {وَأُولَاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، إِلاَّ بَعْدَ آيَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، إِذَا وَضَعَتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَقَدْ حَلَّتْ. وَاللَّفْظُ لِمَيْمُونٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن مسكين بن نُميلة" -بالنون مصغّرًا- أبو الحسن اليماميّ، نزيل بغداد، ثقة [11].

قال البخاريّ: ثقة مأمون. وقال أبو داود: كان ثقة -رحمه اللَّه تعالى-. وقال النسائيّ: كتبنا عنه بالبصرة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال مسلمة: لا بأس به. وقال الخطيب: كان ثقة. وقال مسلمة: لا بأس به. وذكر ابن منده أنه مات ببغداد. مات سنة (289). روى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

"وميمون بن العبّاس" بن أيوب بن عطاء بن عبد اللَّه، أبو منصور، وأبو ميمون الجزريّ الرافقيّ -بفاء، ثم قاف- ثقة [11].

قال النسائيّ: ثقة. وقال ابن أبي حاتم: أدركته، ولم أكتب عنه، وكان صدوقًا، وسئل أبي عنه؟، فقال: صدوق. قال أبو عليّ الحرّانيّ: مات سنة (254). تفرّد به المصنّف بحديث الباب فقط.

و"سعيد بن أبي مريم": هو سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الجمحيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقة ثبت فقيه، من كبار [10] 3/ 2098.

و"محمد بن جعفر" بن أبي كثير: هو الأنصاريّ الزرقيّ مولاهم، أخو إسماعيل، وهو الأكبر، المدنيّ، ثقة [6].

قال الدوريّ، عن ابن معين: ثقة. وقال ابن المدينيّ: معروف. وقال النسائيّ: صالح. وقال أيضًا: مستقيم الحديث. وقال العجليّ: مدنيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

ص: 260

و"ابن شُبرمة": هو عبد اللَّه بن شُبْرُمة -بضمّ المعجمة، وسكون الموحّدة، وضمّ الراء- ابن الطفيل بن حسّان بن المنذر بن ضِرَار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بَجَالة الضبّيّ، أبو شُبْرُمة الكوفيّ القاضي، وقيل في نسبه غير ذلك، ثقة فقيه [5].

قال أحمد، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقة. وقال عليّ بن المدينيّ: قلت لسفيان: كان ابن شُبرُمة جالس الحسن؟ قال: لا، ودكن رأى ابن سيرين بواسط. وقال عبد اللَّه بن داود، عن الثوريّ: فقهاؤنا ابن شبرمة، وابن أبي ليلى. وقال العجليّ: كان قاضيًا على السواد لأبي جعفر، وكان الثوريّ إذا قيل له: من مُفتيكم؟ يقول: ابن أبي ليلى، وابن شُبرمة، وكان ابن شبرمة عفيفًا، حازمًا، عاقلاً، فقيهًا، يُشبه النسّاك، ثقةً في الحديث، شاعرًا، حَسَنَ الْخُلُق، جوادًا. وقال محمد بن فُضيل، عن أبيه: كان ابن شُبرمة، ومغيرة، والحارث الْعُكْليّ، والقعقاع بن يزيد، وغيرهم، يسمُرُون في الفقه، فربّما لم يقوموا إلى الفجر. وقال عبد الوارث: ما رأيت أسرع جوابًا منه. وقال ابن سعد: كان شاعرًا، فقيها، ثقة، قليل الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان من فقهاء أهل العراق. وقال أبو جعفر الطبريّ: كان شاعرًا، فقيهًا، وَرِعًا. وقال ابن المبارك: جالسته حينًا، ولا أروي عنه. وقال ابن أبي حاتم، عن عبد اللَّه بن أحمد: لم يسمع ابن شُبرُمة من عبد اللَّه بن شدّاد. قال يحيى بن بُكير: مات سنة (144) وقال بعض المؤرّخين: وُلد سنة (72). علّق عنه البخاريّ، وأخرج له الباقون، الترمذيّ، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث برقم 56/ 3549 و 48/ 5710 و5711 و 57/ 5777 و 5784 و5785.

وقوله: "من شاء لاعنته" أي من خالفني في نزول هاتين الآيتين، وفي كون عدّة الحامل المتوفّى عنها زوجها بالوضع، فإن شاء، فليجتمع معي، حتى نلعن المخالف، وهذا كناية عن قطعه وجزمه بما يقول من وهم بخلافه.

وقوله: "ما أنزلت: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} الخ" جملة مستأنفة، بين بها الملاعَن عليه، ويحتمل أن يكون التقدير "من شاء لاعنته على أنه ما أنزلت {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} الخ.

وقوله: "واللفظ لميمون" يعني أن لفظ الحديث الذي ساقه هنا هو لشيخه ميمون بن العبّاس، وأما محمد بن مسكين، فرواه بمعناه.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3550 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ -وَهُوَ ابْنُ أَعْيَنَ- قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ ح وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ:

ص: 261

حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ، وَمَسْرُوقٍ، وَعَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى، نَزَلَتْ بَعْدَ الْبَقَرَةِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو داود" شيخه: هو الحرّانيّ الثقة الحافظ [11] 103/ 136. من أفراده. و"الحسن بن أعين": هو الحسن بن محمد بن أعين -نُسب لجده- أبو عليّ الحرّانيّ، صدوق [9] 16/ 649. و"محمد بن إسماعيل بن إبراهيم": هو المعروف اْبوه بابن عُليّة. و"يحيى": هو ابن كثير بن درهم العنبريّ مولاهم، أبو غسّان البصريّ، ثقة [9] 43/ 223.

[تنبيه]: هذا الذي ذكرته من أن "يحيى" هنا هو ابن كثير هو الذي صرّح به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "الكبرى" -3/ 391 رقم 5717، ولفظه:"قال: حدثنا يحيى- وهو ابن كثير-" قال: حدّثنا زهير بن معاوية الخ.

فما وقع للحافظ أبي الحجّاج المزنيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

في "تحفة الأشراف" 7/ 13 من أنه يحيى بن آدم، وهو يحيى بن آدم بن سليمان الكوفيّ، ولم يذكر لذلك مستنده، فالظاهر أنه غلطٌ، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

و"زهير بن معاوية" بن حُديج: هو الجعفيّ الكوفيّ الثقة الثبت، إلا أن سماعه من أبي إسحاق بأخَرَة. و"أبو إسحاق": هو عمرو بن عبد اللَّه السبيعي الكوفيّ. و"الأسود": هو ابن يزيد النخعيّ. و"عَبيدة" -بفتح العين المهمله، وكسر الموحّدة، مصغّرًا-: هو ابن عمرو السلمانيّ الكوفيّ التابعيّ المخضرم الثقة العابد.

[تنبيه]: وقع في بعض نسخ "المجتبى""بضبط القلم "عُبيدة" بضمّ العين المهملة، مصغّرًا، وهو غلط، فليُتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث، وإن كان في سنده أبو إسحاق السبيعيّ، وهو مدلّسٌ، وقد عنعنه، ومختلطٌ، وسماع زهير منه بآخره، إلا أنه يشهد له ما قبله، فهو صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

(1)

وقد قلّده في ذلك أصحاب برنامج الحديث الشريف (صخر)، فذكروا ترجمة يحيى بن آدم، وهو غلط، فتنبّه لذلك. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 262

‌57 - (عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا)

3551 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ، تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ؟ ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الأَشْجَعِيُّ، فَقَالَ: قَضَى فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، امْرَأَةٍ مِنَّا، مِثْلَ مَا قَضَيْتَ، فَفَرِحَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيحٌ، وقد تقدم للمصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في -68/ 3355 - باب "إباحة التزوّيج بغير صداق"، وتقدّم هناك شرحه ومسائله مستوفاة، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

و"سفيان": هو الثوريّ. وقوله: "لا وكس" -بفتح، فسكون-: أي لا نقصان منه. وقوله: "لا شطط" -بفتحتين-: أي لا زيادة عليه. وقوله: "معقِل بن سنان" -بفتح الميم، وكسر القاف. وقوله:"بَرْوَع بنت واشق" -بفتح الموحّدة، وكسرها، وقد تقدم في الباب المذكور الاختلاف في ضبطها، فراجعه تستفد.

[تنبيه]: أورده المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هذا الحديث هنا استدلالاً على وجوب العدّة على المتوفّى عنها زوجها قبل أن يدخل بها، وهذا مما لا خلاف فيه.

قال العلاّمة ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: أجمع أهل العلم على أن عدّة الحرّة المسلمة، غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشر، مدخولاً بها، أو غير مدخول بها، سواء كانت كبيرة بالغة، أو صغيرةً لم تبلغ؛ لعموم آية:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} الآية.

وإنما لم تحمل هذه الآية على المدخول بها، كما حُملت آية:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} الآية، على المدخول بها؛ لأن اية الطلاق خصّصتها اية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} الآية، وأما آية الوفاة، فلم يرد لها مخصّصٌ. ولم يمكن قياسها على المطلّقة؛ لأن المطلّقة إذا أتت بولد يمكن الزوج تكذيبها، ونفيه باللعان، وهذا ممتنع في حقّ الميت، فلا يؤمن أن تأتي بولد، فيلحق الميت نسبه، وما له من ينفيه، فاحتيط

ص: 263

بإيجاب العدّة عليها؛ لحفظها عن التصرّف، والمبيت في غير منزلها؛ حفظًا لها. انتهى باختصار، وقد تقدّم بأتمّ من هذا

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌58 - (بَابُ الإِحْدَادِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الإحداد" -بكسر الهمزة-: مصدر أحدّت المرأة رُباعيًّا، ويقال: حدّت ثلاثيًّا. قال الفيّوميّ: حدّت المرأة على زوجها تَحِدُّ -بالكسر- وتَحُدّ- بالضمّ حِدَادًا بالكسر، فهي حادّ، بغير هاء، وأحدّت إحدادًا، فهي مُحِدٌّ، ومُحِدَّة: إذا تركت الزينة لموته. وأنكر الأصمعيّ الثلاثيّ، واقتصر على الرباعيّ. انتهى

(2)

.

وقال ابن منظور -بعد ذكر نحو ما تقدّم-: قال أبو عبيد: وإحداد المرأة على زوجها ترك الزينة. وقيل: هو إذا حَزِنت عليه، ولبست ثياب الحزن، وتركت الزينة والخضاب. قال أبو عبيد: ونرى أنه مأخوذ من المنع؛ لأنها قد مُنِعَت من ذلك، ومنه قيل للبوّاب حدّاد؛ لأنه يمنع الناس من الدخول انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "تحد" بضمّ أوله، وكسر ثانيه، من الرباعيّ، ويجوز بفتحة، ثم ضمة، من الثلاثيّ. قال أهل اللغة: أصل الإحداد المنع، ومنه سمّي البوّاب حدّادًا؛ لمنعه الداخل، وسمّيت العقوبة حدًّا؛ لأنها تردع عن المعصية. وقال ابن درستويه: معنى الإحداد منع المعتدّة نفسَهَا الزينةَ، وبَدَنهَا الطيبَ، ومنع الْخُطّاب خِطبتها، والطمعَ فيها، كما منع الحدّ المعصية. وقال الفراء: سمّي الحديد حديدًا؛ للامتناع به، أو لامتناعه على محاوله، ومنه تحديد النظر بمعنى امتناع تقلّبه في الجهات. ويُروى بالجيم، حكاه الخطّابيّ، قال: يُروى بالحاء والجيم، وبالحاء أشهر، والجيم

(1)

راجع "المغني" 11/ 223 - 224.

(2)

"المصباح المنير" مادة "حدد".

(3)

"لسان العرب" 3/ 143 "مادة حدد".

ص: 264

مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته، فكان المرأة انقطعت عن الزينة. وقال أبو حاتم: أنكر الأصمعيّ حَدّت، ولم يَعرِف إلا أحدّت. وقال الفرّاء: كان القدماء يؤثرون أحدّت، والأخرى أكثر في كلام العرب

(1)

.

وقال في موضع آخر: قال ابن بطّال: الإحداد -بالمهملة-: امتناع المرأة المتوفّى عنها زوجها من الزينة، كلها من لباس، وطيب، وغيرهما، وكلّ ما كان من دواعي الجماع. وأباح الشارع للمرأة أن تحد على غير زوجها ثلاثة أيام لما يغلب من لَوْعة الحزن، ويهجم من ألم الوجد، وليس ذلك واجبًا؛ لاتفاقهم على أن الزوج لو طالبها بالجماع لم يحل لها منعه في تلك الحال. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3552 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ، تَحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ، أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجِهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"سفيان": هو ابن عُيينة.

وقوله: "تحُدّ" -بضمّ أوله، أو بفتحه، من الإحداد، أو الحدّ- وهو فاعلُ "لا يَحلّ" بتقدير "أن المصدريّة"، وهو قياس على الأصح، لوقوعه في القرآن، كما قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية، فـ "يريكم" بتقدير "أن" مبتدأ مؤخّر.

والحديث أخرجه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا -58/ 3552 و 3553 - وفي "الكبرى" 58/ 5719 و5720. وأخرجه (م) في "الطلاق" 1490 و1491 (ق) في "الطلاق" 2085 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23572 و 24986 و25590 و 25872 (الموطأ) في "الطلاق" 1271 (الدارمي) في "الطلاق" 2283، وقد تقدّم شرحه في شرح حديث أم حبيبة - رضي اللَّه تعالى عنها - قبل بابين، وسيأتي أيضًا بعد أربعة أبواب مشروحًا بشرح مطول، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3553 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ، تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تَحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن معمر": البحرانيّ -بالموحّدة،

(1)

"فتح" 10/ 608 "كتاب الطلاق" رقم 5333.

(2)

"فتح" 3/ 490 "كتاب الجنائز" رقم 1279.

ص: 265

والمهملة- البصريّ، صدوق، من كبار [11] 5/ 1829

(1)

.

و"حَبان" -بفتح المهملة، وتشديد الموحّدة-: هو ابن هلال، أبو حبيب البصريّ، ثقة ثبت [9] 44/ 590.

و"سليمان بن كثير" العبديّ البصريّ، أبو داود، ويقال: أبو محمد، لا بأس به في غير الزهريّ [7].

قال النسائيّ: ليس به بأس، إلا في الزهريّ، فإنه يُخطىء عليه. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه. وقال العجليّ: جائز الحديث، لا بأس به. وقال ابن معين: ضعيف. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: سليمان بن كثير أخو محمد بن كثير، أصله من واسط، يقال له: أبو داود الواسطيّ، كان يصحب سفيان بن حُسين. وقال العقيليّ: واسطيّ، سكن البصرة، مضطرب الحديث عن ابن شهاب، وهو في غيره أثبت. وقال الذهليّ: نحو ذلك. وقال ابن حبّان: كان يُخطىء كثيرًا، فأما روايته عن الزهريّ، فقد اختلطت عليه صحيفته، فلا يُحتجّ بشيء ينفرد به عن الثقات. وقال ابن عديّ: لم أسمع أحدًا في روايته عن غير الزهريّ شيئًا

(2)

، قال: وله عن الزهريّ، وعن غيره أحاديث صالحة، ولا بأس به.

مات سنة (133). روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب أربعة أحاديث، حديث الباب -58/ 3553 وحديث "باب فضل الصدقة عن الميت" 8/ 3683 وحديث "باب من قتل بحجر أو سوط" 31، 32/ 4916 و 4817.

والحديث صحيح، ولا يضرّ كونه من رواية سليمان بن كثير، وهو متكلّم فيه في حديث الزهريّ؛ لأنه لم ينفرد به، بل تابعه ابن عيينة، كما في الرواية السابقة، وتقدم شرحه، وبيان مسائله في شرح حديث أم حبيبة - رضي اللَّه تعالى عنها - قبل بابين، وسيأتي شرحه أيضًا مطوّلًا بعد أربعة أبواب، ولنتكلّم هنا على مسألتين تتعلّقان بما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-:

(المسألة الأولى): في أقوال أهل العلم في حكم إحداد المرأة:

قال العلامة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: ما ملخّصه: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في وجوب الإحداد على المتوفّى عنها زوجها، إلا الحسن، فإنه قال: لا يجب الإحداد، وهو قول شذّ به عن أهل العلم، وخالف به السنة، فلا يعرّج عليه، ويستوي

(1)

هذا الذي ذكرته من أن محمد بن معمر البحرانيّ هو الذي صرّح به المصنّف في "الكبرى"، وقد أخطأ في هذا أصحاب البرنامج "الحديث الشريف" صخر، فترجموا محمد بن معمر الحضرمي، وهو خطأ، فليتنبّه.

(2)

هكذا نسخة "تهذيب التهذيب"، والظاهر أن في العبارة سقطًا، ولعله "لم أسمع أحدًا يقول في روايته إلخ" أو نحو ذلك، فليحرر. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 266

في وجوبه الحرّة، والأمة، والمسلمة، والذمّيّة، والكبيرة، والصغيرة. وقال أصحاب الرأي: لا إحداد على ذمّيّة، ولا صغيرة؛ لأنهما غير مكلّفين. والصحيح قول الجمهور؛ لعموم الأحاديث.

ولا إحداد على غير الزوجات، كأم الولد، إذا مات سيدها، قال ابن المنذر: لا أعلمهم يختلفون في ذلك. وكذلك الأمة التي يطؤها سيدها، إذا مات عنها، ولا الموطوءة بشبهة، ولا المزنيّ بها؛ لحديث الباب، فإنه قال:"إلا على زوج"، فشرط كونه زوجًا.

ولا إحداد أيضًا على الرجعية، ولا نعلم فيه خلافًا بين العلماء؛ لأنها في حكم الزوجات، لها أن تتزين لزوجها، وتستشرف له، ليرغب فيها، كما تفعل في حال النكاح. ولا إحداد أيضًا على المنكوحة نكاحَا فاسدًا؛ لأنها ليست زوجة على الحقيقة.

واختُلف في المطلّقة البائن، فذهب إلى وجوب الإحداد عليها ابن المسيّب، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وهي رواية عن أحمد؛ لأنها معتدّة من بائن من نكاح، فلزمها الإحداد، كالمتوفّى عنها زوجها، وذلك لأن العدّة تحرم النكاح، فحرمت دواعيه.

وذهب عطاء، وربيعة، ومالك، وابن المنذر، والشافعيّ إلى أنه لا يجب عليها الإحداد؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحلّ لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تُحدّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا"، وهذه عدّة الوفاة، فيدلّ على أن الإحداد إنما يجب في عدة الوفاة

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المذهب الثاني، وهو عدم وجوب الاحداد على المطلّقة البائن هو الأرجح عندي؛ لقوة دليله، فإن الموجبين لم يأتوا بنصّ، ولا إجماع، فليس لنا دليلٌ نتمسّك به حتى نخرج من البراءة الأصلية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): فيما تجتنبه المحدّة في زمن إحدادها:

قال أهل العلم يجب عليها أن تجتنب ما يدعو إلى جماعها، ويرغّب في النظر إليها، ويُحسّنها، وذكر من ذلك أشياء:

(فمنها): الطيب، ولا خلاف في تحريمه عند من أوجب الإحداد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تمسّ طيبًا إلا عند طهرها، إذا طهرت من حيضتها بنبذة من قسط، أو أظفار". متّفقٌ

(1)

راجع "المغني" 11/ 284 - 285 و 299.

ص: 267

عليه. ولا يجوز لها استعمال الأدهان المطيّبة، كدهن البنفسج، والياسمين، والبان، وما أشبهه؛ لأنه استعمال للطيب، فأما الأدهان بغير الطيب، كالزيت، والشيرج، والسمن، فلا بأس به.

(ومنها): الزينة، واجتنابها واجب في قول عامة أهل العلم، منهم: ابن عمر، وابن عبّاس، وعطاء. وجماعة أهل العلم يكرهون ذلك، وينهون عنه. وهي ثلاثة أقسام:

[أحدها]: الزينة في نفسها، فيحرم عليها أن تختضب، وأن تحمّر وجهها، وتبيّضه، وأن تكتحل بالإثمد من غير ضرورة، ورخّص فيه عند الضرورة عطاء، والنخعيّ، ومالك، وأصحاب الرأي. والصحيح أنه لا يجوز؛ لما سبق من قصّة المرأة التي استأذنت في أن تكحل ابنتها للمرض، فنهاها النبيّ صلى الله عليه وسلم.

[الثاني]: زينة الثياب، فتحرم عليها الثياب المصبوغة للتحسين، كالمعصفر، والمزعفر، وسائر الملون للتحسين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تلبس ثوبًا مصبوغًا". متّفقٌ عليه. وأما ما لا يقصد بصبغه حسنه، كالكحليّ، والأسود، والأخضر المشبع، فلا تُمنع منه؛ لأنه ليس بزينة.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وقد ذكروا مما تجتنبه الحادّة أيضًا النقاب، وما في معناه، مثل البرقع؛ لأن المعتدّة كالمحرمة، لكن لم أجد لذلك دليلًا، فإن كان هناك دليل من نصّ أو إجماع، فذاك، وإلا فلا أرى لمنعه وجهًا، فليتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌59 - (بَابُ سُقُوطِ الإِحْدَادِ عَنِ الْكِتَابِيةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا)

3554 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ: «لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ، تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ، فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»).

ص: 268

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"إسحاق بن منصور": هو الكَوْسَجُ.

[تنبيه]: هذا الذي ذكرته من كون شيخ المصنّف هو إسحاق بن منصور الكوسج، هو الذي وقع في نسخ "المجتبى"، ووقع في "الكبرى" بدله عمرو بن منصور النسائيّ، وهو ثقة ثبت [11] 108/ 147.

والذي يظهر لي أن ما في "الكبرى" هو الصواب؛ لأمرين:

(الأول): تنصيصه بنسبته إلى بلده، فهذا التنصيص يرجّح على أنه رواه عن عمرو، لا عن إسحاق، فإنه مروزيّ. (والثاني): أنه لم يذكر في "تهذيب الكمال"، ولا "في تهذيب التهذيب" إسحاق بن منصور ممن روى عن عبد اللَّه بن يوسف التِّنِّيسيّ، بل نصّ في الثاني على أن النسائيّ يروي عنه بواسطة عمرو بن منصور النسائيّ. واللَّه تعالى أعلم.

و"عبد اللَّه بن يوسف": هو التِّنِّيسِيّ. و"الليث": هو ابن سعد المصريّ. و"أيوب بن موسى": هو أبو موسى الأمويّ المكيّ، ثقة [6] 150/ 241.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم قبل ثلاثة أبواب، وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فارجع إليه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

[تنبيه]: استدلّ المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا الحديث على عدم وجوب الإحداد على الكتابية المتوفّى عنها زوجها، وهذا الذي ذهب إليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- قال به أبو حنيفة، وغيره من الكوفيين، وأبو ثور، وبعض المالكيّة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ لامرأة تؤمن باللَّه

" الحديث.، فخصّه بالمؤمنة. وذهب الجمهور، ومنهم الشافعيّ إلى أنها يجب عليها الإحداد، وأولوا الحديث بأنه إنما خصّ المؤمنة؛ لأن الذي يستثمر خطاب الشارع، وينتفع به، وينقاد له هو المؤمن.

وقال العلّامة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: والتحقيق أن نفي حلّ الفعل عن المؤمنين لا يقتضي نفي حكمه عن الكفّار، ولا إثباته لهم أيضًا، وإنما يقتضي أن من التزم الإيمان وشرائعه، فهذا لا يحلّ له، ويجب على كلّ حال أن يلزم الإيمان وشرائعه، ولكن لا يُلزمه الشارع شرائع الإيمان إلا بعد دخوله فيه، وهذا كما لو قيل: لا يحلّ لمؤمن أن يترك الصلاة، والحجّ، والزكاة، فهذا لا يدلّ على أن ذلك حلّ للكافر، وهذا كما قال في لباس الحرير:"لا ينبغي هذا للمتقين". أخرجه مسلم. فلا يدلّ أنه ينبغي لغيرهم، وكذا قوله:"لا ينبغي لمؤمن أن يكون لعّانًا". أخرجه مسلم.

وسرّ المسألة أن شرائع الحلال والحرام والإيجاب، إنما شُرعت لمن التزم أصل

ص: 269

الإيمان، ومن لم يلتزمه، وخُلّي بينه وبين دينه، فإنه يُخلَّى بينه وبين شرائع الدين الذي التزمه، كما خُلي بينه وبين أصله ما لم يُحاكم إلينا، وهذه القاعدة متّفقٌ عليها بين العلماء، ولكن عُذرُ الذين أوجبوا الإحداد على الذميّة أنه يتعلّق به حقّ الزوج المسلم، وكان منه إلزامها به كأصل العدّة، ولهذا لا يُلزمونها به في عدّتها من الذميّ، ولا يُتعرّض لها فيها، فصار هذا كعقودهم مع المسلمين، فإنهم يُلزمُون فيها بأحكام الإسلام، وإن لم يُتعرّض لعقود بعضهم مع بعض.

ومن ينازعهم في ذلك يقولون: الإحداد حقّ اللَّه تعالى، ولهذا لو اتّفق هي والأولياء، والمتوفّى على سقوطه بأن أوصاها بتركه، لم يسقط، ولزمها الإتيان به، فهو جار مجرى العبادات، وليست الذميّة من أهلها، فهذا سرّ المسألة. انتهى كلام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن ما ذهب إليه المصنّف، وهو مذهب الحنفيّة، وبعض طائفة من أهل العلم، من عدم وجوب الإحداد على الكتابية هو الأرجح؛ عملا بظاهر التقييد بالإيمان، ولما ذُكر من أن الإحداد يُغَلَّب فيه جانب العبادة، وهي ليست من أهلها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌60 - (مُقَامُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فِي بَيْتِهَا حَتَّى تَحِلَّ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "مقام" -بضمّ الميم- مصدر أقام يُقيم، بمعنى الإقامة. وقوله:"حتى تحلّ" -بكسر الحاء المهملة، يقال: حلّت المرأة للأزواج تَحِلّ بالكسر: زال المانع الذي كانت متّصفة به، كانقضاء العدّة، فهي حلالٌ. أفاده الفيّوميّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3555 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ شُعْبَةَ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبٍ،

(1)

"زاد المعاد" 5/ 698 - 699.

ص: 270

عَنِ الْفَارِعَةِ بِنْتِ مَالِكٍ، أَنَّ زَوْجَهَا، خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْلَاجٍ، فَقَتَلُوهُ، قَالَ: شُعْبَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: وَكَانَتْ فِي دَارٍ قَاصِيَةٍ، فَجَاءَتْ وَمَعَهَا أَخُوهَا، إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرُوا لَهُ، فَرَخَّصَ لَهَا، حَتَّى إِذَا رَجَعَتْ دَعَاهَا، فَقَالَ:«اجْلِسِي فِي بَيْتِكِ، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(محمد بن العلاء) الهمدنيّ، أبو كُريب الكوفيّ، ثقة حافظ [10] 95/ 117.

2 -

(ابن إدريس) هو عبد اللَّه الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقة فقيه عابد [8] 85/ 102.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 24/ 27.

4 -

(ابن جريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلس ويرسل [6] 28/ 32.

[تنبيه]: قوله: "وابنِ جريج، ويحيى بنِ سعيد، ومحمد بنِ إسحاق" كلّه بالجرّ عطفًا على شعبة، فالأربعة، وهم: شعبة، وابن جريج، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، ومحمد بن إسحاق يروون عن سعد بن إسحاق

(1)

، فما وقع في النسخة المطبوعة من ضبط "ابن جريج، وما بعده ضبط قلم بالرفع غلط، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(يحيى بن سعيد) بن قيس الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5] 22/ 23.

6 -

(محمد بن إسحاق) بن يسار المطّلبيّ مولاهم، أبو بكر المدنيّ، نزيل بغداد، إمام المغازي، صدوقٌ يدلّس، ورُمي بالتشيّع والقدر، من صغار [5] 5/ 480.

7 -

(سعد بن إسحاق) بن كعب بن عُجرة البلويّ المدنيّ، حليف الأنصار، ثقة [5] 1/ 1600.

8 -

(زينب بنت كعب) بن عُجرة، زوج أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، مقبولة [2]. روت عن زوجها أبي سعيد رضي الله عنه، وأخته الفُريعة بنت مالك. وعنها ابنا أخويها: سعد بن إسحاق، وسليمان بن محمد ابني كعب بن عُجرة. وقال ابن المدينيّ: لم يرو عنها غير سعد بن إسحاق. كذا قال: وحديث سليمان عنها في "مسند أحمد" بسند جيّد. وذكرها ابن حبّان في "الثقات". وذكرها ابن الأثير، وابن فتحون في "الصحابة".

أخرج لها الأربعة، ولها عند المصنف في هذا الكتاب حديثها عن فريعة هذا، وحديثها عن زوجها في "الأضاحي" في النهي عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام.

(1)

راجع "تحفة الأشراف" 12/ 475.

ص: 271

9 -

(الفارعة بنت مالك) ويقال لها: الفُريعة -وهو المشهور- بنت مالك بن سنان الخدريّة الأنصاريّة، أخت أبي سعيد الخدريّ - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وأمهما حبيبة بنت عبد اللَّه بن أبيّ، صحابيّة شهدت بيعة الرضوان. روى لها الأربعة حديث الباب فقط. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ الْفَارِعَةِ) وفي الرواية التالية: "عن الفريعة" بالتصغير، وهو المشهور. وفي رواية الطحاويّ:"الفرعة"(بِنْتِ مَالِكٍ) بن سنان الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ زَوْجَهَا) لم يسمّ (خَرَجَ فِي طلَبِ أَعْلَاجٍ) -بفتح الهمزة- جمع عِلْج، -بكسر، فسكون- قال الفيّوميّ: العِلْج حمار الوحش الغليظ، ورجلٌ عِلْجٌ شديد، وعَلِجَ عَلَجًا، من باب تَعِبَ: اشتدّ. والعِلْجُ الرجل الضخم من كفّار العجم، وبعض العرب يُطلق العِلْج على الكافر مطلقًا، والجمع عُلُوجٌ، وأعلاجٌ، مثلُ حِمْلٍ وحُمُول وأحمال. قال أبو زيد: يقال: استعلج الرجل: إذا خرجت لحيته، وكلُّ ذي لحية عِلْجٌ، ولا يقال للأمرد: عِلْج انتهى.

والمراد به هنا العبيد، ففي رواية الترمذيّ:"خرج في طلب أعبد له أَبَقُوا".

(فَقَتَلُوهُ) وفي الرواية الآتية: "فقتل بطرف القدوم". وفي رواية الترمذيّ: "حتى إذا كان بطرف القدوم لَحِقهم، فقتلوه". والقَدّوم -بفتح القاف، وضم الدال مشدّدة، ومخفّفةً: موضع على ستّة أميال من المدينة (قَالَ: شُعْبَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: وَكانَتْ فِي دَارٍ قَاصِيَةٍ) أي بعيدة من أهلها، أو من الناس مطلقًا، والظاهر الأول، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم أمرها أخيرًا بأن لا تنتقل عنه، فلو كان بعيدًا من الناس لما أمرها بذلك (فَجَاءَتْ وَمَعَهَا أَخُوهَا) أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرُوا لَهُ) أي ما حصل من قتل زوجها، وكونها في دار قاصية، وتريد النقلة منها، وفي الرواية الثالثة: "فذكرتُ له النقلة إلى

أهلي، وذكرتْ له حالًا من حالها"، وفي رواية "الموطّإ": " فسألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خُدْرة، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه، ولا نفقة" (فَرَخَّصَ لَهَا) أي في الانتقال من تلك الدار إلى أهلها (حَتَّى إِذَا رَجَعَتْ) أي إلى بيتها بعد أن استفتت (دَعَاهَا) صلى الله عليه وسلم. وفي رواية "الموطّإ":"قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو أمر بي، فنوديتُ له، فقال: كيف قلت؟، فرددت عليه القصّة التي ذكرتُ له من شأن زوجي"(فَقَالَ: "اجلِسِي فِي بَيتِكِ) أي البيت الذي أسكنها زوجها، وأتاها قتله، وهي فيه (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ) أي المكتوب من العدّة (أَجَلَهُ) أي وقته الذي حُدّد له، وهو أربعة أشهر وعشر.

ص: 272

زاد في رواية "الموطّإ": "قالت: فلما كان عثمان بن عفّان رضي الله عنه أرسل إليّ، فسألني عن ذلك؟، فأخبرته، فأتبعه، وقضى به". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث الفارعة بنت مالك - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح.

[تنبيه]: ضعّف أبو محمد ابن حزم حديث الفريعة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا، وقال: هذا الحديث لا يثبت، فإن زينب هذه مجهولة، لم يرو حديثها غير سعد بن إسحاق بن كعب، وهو غير مشهور بالعدالة، ومالك -رحمه اللَّه تعالى- يقول فيه: سعد بن إسحاق، وسفيان يقول: سعيد.

فتعقبه ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-، وأجاد في ذلك، حيث قال: وما قاله أبو محمد غير صحيح، فالحديث حديث صحيح مشهور في الحجاز، والعراق، وأدخله مالك في "موطئه"، واحتجّ به، وبنى عليه مذهبه.

وأما قوله: إن زينب بنت كعب مجهولة، فنعم مجهولة عنده، فكان ماذا؟، وزينب هذه من التابعيّات، وهي امرأة أبي سعيد، روى عنها سعد بن إسحاق بن كعب، وليس بسعيد، وقد ذكرها ابن حبّان في "كتاب الثقات"، والذي غرّ أبا محمد قولُ عليّ بن المدينيّ: لم يرو عنها غير سعد بن إسحاق. وقد روينا في "مسند الإمام أحمد": حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم، عن سليمان بن محمد بن كعب بن عُجرة، عن عمّته زينب بنت كعب بن عجرة، وكانت عند أبي سعيد الخدريّ، عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال: اشتكى الناس عليًّا رضي الله عنه، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم خطيبًا، فسمعته يقول:"يا أيها الناس لا تَشْكُوا عليًّا، فواللَّه إنه لأخشن في ذات اللَّه، أو في سبيل اللَّه"

(1)

.

فهذه امرأة تابعيّةٌ، كانت تحت صحابيّ، وروى عنها الثقات، ولم يُطعَن فيها بحرف، واحتجّ الأئمة بحديثها، وصححوه.

وأما قوله: إن سعد بن إسحاق غير مشهور بالعدالة، فقد قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقة. وقال النسائيّ، والدراقطني: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وذكره ابن حبان في "كتاب الثقات". وقد روى عنه الناس: حماد بن زيد، وسفيان

(1)

رواه أحمد في "مسنده" 3/ 86. وسنده جيد، كما قال الحافظ في "تهذيب التهذيب".

ص: 273

الثوريّ، وعبد العزيز الدراورديّ، وابن جُريج، ومالك بن أنس، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، والزهريّ، وهو أكبر منه، وحاتم بن إسماعيل، وداود بن قيس، وخلقٌ سواهم من الأئمة، ولم يُعلم فيه قدح، ولا جرح البتّة، ومثل هذا يُحتجّ به اتفاقًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ردّ به ابن القيّم على ابن حزم -رحمهما اللَّه تعالى- حسنٌ جدًّا.

والحاصل أن الحديث صحيح، صححه جماعة من الحفاظ: منهم الذهليّ، والترمذيّ -2/ 12 - ، وابن حبّان رقم 1332 - والحاكم 2/ 258 وأقرّه الذهبيّ، ونقل الحاكم عن محمد بن يحيى الذهليّ، أنه قال: هذا حديث صحيح محفوظ. وقال ابن عبد البرّ: هذا حديث مشهورٌ عند علماء الحجاز، والعراق. وصححه الحافظ في "بلوغ المرام". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 60/ 3555 و 3556 و 3557 و 62/ 3559 - وفي "الكبرى" 60/ 5722 و 5723 و 5724 و 62/ 5726. وأخرجه (د) في "الطلاق" 2300 (ت) في "الطلاق واللعان" 1204 (ق) في "الطلاق" 2031 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 26547 و"مسند القبائل" 26817 (الموطأ) في "الطلاق" 1254 (الدارمي) في "الطلاق" 2287. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو وجوب إقامة المتوفّى عنها زوجها في بيتها إلى انتهاء عدّتها. (ومنها): مشروعيّة استفتاء المرأة في أمر دينها. (ومنها): أنه دليلٌ على جواز نسخ الحكم قبل الفعل، فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للفريعة أولًا بالانتقال إلى أهلها، ثم نهاها قبل أن تفعل. (ومنها): ما كان عليه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم من البحث عن حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل الحكم باجتهادهم. (ومنها): قبول خبر المرأة الواحدة، والعمل به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في أين تعتدّ المتوفّى عنها زوجها؟:

قال الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى-بعد إخراج الحديث-: والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، لم يروا للمعتدّة أن

(1)

"زاد المعاد" 5/ 680 - 681.

ص: 274

تنتقل من بيت زوجها حتى تنقضي عدّتها. وهو قول سفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.

وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهم: للمرأة أن تعتدّ حيث شاءت، وإن لم تعتدّ في بيت زوجها. والقول الأول أصحّ.

وقال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: وممن أوجب على المتوفّى عنها زوجها الاعتداد في منزلها: عمر، وعثمان، وروي ذلك عن ابن عمر، وابن مسعود، وأم سلمة رضي الله عنهم وبه يقول مالكٌ، والثوريّ، والأوزاعيّ، وأبو حنيفة، والشافعيّ، وإسحاق. قال ابن عبد البرّ: وبه يقول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز، والشام، والعراق، ومصر.

وقال جابر بن زيد، والحسن، وعطاء: تعتدّ حيث شاءت. وروي ذلك عن عليّ، وابن عبّاس، وجابر، وعائشة رضي الله عنهم. قال ابن عبّاس: نَسَخَت هذه الآية عدّتها عند أهله، وسكنت في وصيّتها، وإن شاءت خرجت؛ لقول اللَّه تعالى:{فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} . قال عطاء: ثم جاء الميراث، فنسخ السكنى، تعتدّ حيث شاءت. رواهما أبو داود.

واحتجّ الأولون بحديث فريعة بنت مالك - رضي اللَّه تعالى عنها - المذكور في الباب، وهو حديث صحيحٌ، قضى به عثمان في جماعة الصحابة، فلم ينكروه إذا ثبت هذا، فإنه يجب الاعتداد في المنزل الذي مات زوجها، وهي ساكنة به، سواء كان مملوكًا لزوجها، أو بإجارة، أو عارية؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال للفريعة:"امكثي في بيتك"، ولم تكن في بيت يملكه زوجها، وفي بعض ألفاظه:"اعتدّي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك"، وفي لفظ:"اعتدّي حيث أتاك الخبر"، فإن أتاها الخبر في غير مسكنها، رجعت إلى مسكنها، فاعتدّت فيه.

وقال سعيد بن المسيّب، والنخعيّ: لا تبرح من مكانها الذي أتاها فيه نعي زوجها؛ اتباعًا للفظ الخبر الذي رويناه.

والأول أصحّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "امكثي في بيتك"، واللفظ الآخر قضيّةٌ في عين، والمراد به هذا، فإن قضايا الأعيان لا عموم لها، ثم لا يمكن حمله على العموم؛ فإنه لا يلزمها الاعتداد في السوق، والطريق، والبرّيّة، إذا أتاها الخبر، وهي فيه. انتهى ملخصًا من كلام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال العلامة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن ذكر القائلين بوجوب العدة في

(1)

راجع "المغني" 11/ 290 - 291.

ص: 275

منزلها-:

وحجة هؤلاء حديث الفريعة بنت مالك، وقد تلقّاه عثمان بن عفّان رضي الله عنه بالقبول، وقضى به بمحضر المهاجرين والأنصار، وتلقّاه أهل المدينة، والحجاز، والشام، والعراق، ومصر بالقبول، ولم يُعلَم أن أحدًا منهم طعن فيه، ولا في رواته، وهذا مالك مع تحرّيه، وتشدّده في الرواية، وقوله للسائل له عن رجل، أثقة هو؟ فقال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي، قد أدخله في "موطّئه"، وبنى عليه مذهبه. قالوا: ولا ننكر النزاع بين السلف في المسألة، ولكن السنّة تفصل بين المتنازعين. قال أبو عمر ابن عبد البرّ: أما الستة، فثابتةٌ -بحمد اللَّه- وأما الإجماع، فمستغنى عنه مع السنّة، لأن الاختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قول من وافقته السنّة انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي ذكره ابن عبد البرّ، وأيده ابن القيّم --رحمهما اللَّه تعالى-- حسنٌ جدًّا.

والحاصل أن الحقّ قول من قال بأن المتوفى عنها زوجها تعتدّ في بيتها، ولا تخرج منه، إلا للضرورة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في حكم خروجها للضرورة:

إذا تضررت المتوفّى عنها زوجها، فلم تستطع أن تعتدّ في بيتها، بأن خافت هَدْمًا، أو غَرَقًا، أو عَدُوًّا، أو نحو ذلك، أو حوّلها صاحب المنزل؛ لكونه عارية رجع فيها، أو بإجارة، وانقضت مدّتها، أو منعها السكنى تعدّيًا، أو امتنع من إجارته، أو طلب أكثر من أجرة المثل، أو لم تجد ما تكتري به، أولم تجد إلا من مالها، فلها أن تنتقل؛ لأنها حال عذر؛ ولا يلزمها بذل أجر المسكن، وإنما الواجب عليها فعل السكنى، لا تحصيل المسكن، وإذا تعذّرت السكنى سقطت، ولها أن تسكن حيث شاءت. وقال الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-: تنتقل إلى أقرب ما يمكنها النقلة إليه

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أنه إن لحقها ضرر في سكنى بيتها الذي بلغها وفاة زوجها، وهي فيه، بشيء من الأشياء التي ذُكِرت، فلها أن تنتقل عنه إلى حيث يصلح لها السكنى؛ للضرورة؛ قال اللَّه تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الآية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3556 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ

(1)

"زاد المعاد" 5/ 687.

(2)

راجع "المغني" 11/ 291 - 292.

ص: 276

مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمَّتِهِ، زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبٍ، عَنِ الْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكٍ، أَنَّ زَوْجَهَا تَكَارَى عُلُوجًا؛ لِيَعْمَلُوا لَهُ، فَقَتَلُوهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَتْ: إِنِّي لَسْتُ فِي مَسْكَنٍ لَهُ، وَلَا يَجْرِي عَلَيَّ مِنْهُ رِزْقٌ، أَفَأَنْتَقِلُ إِلَى أَهْلِي وَيَتَامَايَ، وَأَقُومُ عَلَيْهِمْ، قَالَ:«افْعَلِي» ، ثُمَّ قَالَ:«كَيْفَ قُلْتِ؟» ، فَأَعَادَتْ عَلَيْهِ قَوْلَهَا، قَالَ:«اعْتَدِّي حَيْثُ بَلَغَكِ الْخَبَرُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يزيد بن محمد" بن قيس بن مخرمة بن المطّلب بن عبدمناف القرشيّ المطّلبيّ البصريّ مدنيّ الأصل، نزيل مصر، ثقة [6].

قال الدارقطنيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له البخاريّ، وأبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

وقوله: "الفريعة" -بضمّ الفاء، وفتح الراء- بصيغة التصغير.

وقوله: "تَكَارَى" تفاعل، من الكِرَاء. أي استأجر. قال الفيّوميّ: الكِرَاء بالمدّ:

الأجرة، وهو مصدر في الأصل، من كاريته، من باب قاتل، والفاعل مُكارٍ على النقص، والجمع مُكارُون، ومُكارِين، مثل قاضون وقاضين، ومُكارِيُّون بالتشديد خطأٌ، وأكريته الدارَ وغيرَها إكراءً، فاكتراه بمعنى آجرته، فاستاجر، والفاعل مُكتَرٍ، ومُكْرٍ بالنقص أيضًا، وجمعهما كجمع المنقوص انتهى.

وهذا لا يعارض ما تقدّم من أنهم عبيده؛ لامكان الجمع بأنهم عبيدٌ لغيره استأجرهم للعمل، فنسبوا إليه مجازًا.

وقولها: "لست في مسكن له" أي ليس ملكًا له، وإنما استأجره، أو استعاره.

وقولها: "ويتاماي" بالرفع عطف على الضمير المستتر في "أنتقل"؛ للفصل بينهما بالجارّ والمجرور، وهو جمع يتيم، ويُجمع أيضًا على أيتام، وهو مضافٌ إلى ياء المتكلّم.

وقوله: "حيث بلغك الخبر" تقدّم أن المراد به بيتها، فلا يكون حجة لمن قال: إنها لا تبرح من مكانها الذي أتاها فيه نعي زوجها، وإن لم يكن بيتها كما تقدّم تحقيقه.

والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3557 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْنَبَ، عَنْ فُرَيْعَةَ، أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْلَاجٍ لَهُ، فَقُتِلَ بِطَرَفِ الْقَدُّومِ، قَالَتْ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ لَهُ النُّقْلَةَ إِلَى أَهْلِي، وَذَكَرَتْ لَهُ حَالاً مِنْ حَالِهَا، قَالَتْ: فَرَخَّصَ لِي، فَلَمَّا أَقْبَلْتُ نَادَانِي، فَقَالَ: «امْكُثِي فِي أَهْلِكِ، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»).

ص: 277

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "حماد": هو ابن زيد.

وقوله: "النقلة" -بضمّ، فسكون-: الانتقال. قاله في "القاموس". وقوله: "وذكرت له حالًا من حالها" ببناء الفعل للفاعل، أي ذكر فريعة له صلى الله عليه وسلم مما يسبب لها الانتقال من مكانها، وهو ما سبق من أنها كانت في دار قاصية، وأن المسكن ليس ملكًا لزوجها.

وقوله: "امكثي في أهلك" المراد أهلها الذين تسكن معهم في بيتها، وليس المراد أقاربها الذين طلبت النقلة إليهم.

والحديث صحيحٌ، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌61 - (بَابُ الرُّخْصَةِ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنْ تَعْتَدَّ حَيْثُ شَاءَتْ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن المصنّف يرى أن ما دلّ عليه حديث فُريعة المذكور في الباب الماضي، من وجوب العدّة على المتوفّى عنها في بيتها منسوخ، بالآية المذكورة في الباب، لكن الحقّ أن الآية ليست ناسخة للحديث.

قال العلاّمة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- بعد ذكر الاختلاف في وجوب الاعتداد في منزلها:

وحديث الفريعة حجة ظاهرة، لا معارض لها، وأما قوله تعالى:{فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ، فإنها نسخت الاعتداد في منزل الزوج، فالمنسوخ حكم آخر، غير الاعتداد في المنزل، وهو استحقاقها للسكنى في بيت الزوج الذي صار للورثة سنّةً، وصية أوصى اللَّه بها الأزواج، تُقدّم به على الورثة، ثم نُسخ ذلك بالميراث، ولم يبق لها استحقاق في السكنى المذكورة، فإن كان المنزل الذي تُوفّي فيه الزوج لها، أو بذل الورثة لها السكنى، لزمها الاعتداد فيه، وهذا ليس بمنسوخ، فالواجب عليها فِعْلُ السكنى، لا تحصيل المسكن، فالذي نُسخ إنما هو اختصاصها بسكنى السنة، دون الورثة، والذي أُمرت به أن تمكث في بيتها حتى تنقضي عدّتها، ولا تنافي بين الحكمين

ص: 278

انتهى كلام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي جمع به ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- بين حديث فريعة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وبين ما دلّت عليه الآية من النسخ جمع حسنٌ جدًّا، لا ما دلّ عليه ظاهر كلام المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3558 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، قَالَ عَطَاءٌ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ، عِدَّتَهَا فِي أَهْلِهَا، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ}).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن إسماعيل بن إبراهيم) المعروف أبوه بابن عليّة، البصريّ، نزيل دمشق، وقاضيها، ثقة [11] 22/ 489.

2 -

(يزيد) بن هارون السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقة متقنٌ عابد [9] 154/ 244.

3 -

(ورقاء) بن عمر اليشكريّ، أبو بشر الكوفيّ، نزيل المدائن، صدوقٌ [7] 60/ 866.

4 -

(ابن أبي نَجيح) عبد اللَّه بن يسار الثقفيّ مولاهم، أبو يسار المكيّ، ثقة، رُمي بالقدر، ربّما دلّس [6] 112/ 155.

5 -

(عطاء) بن أبي رَبَاح القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقة فقيه فاضل كثير الإرسال [3] 112/ 154.

6 -

(ابن عبّاس) عبد اللَّه البحر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31 واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده. (ومنها): أن فيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه قال (نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) ببناء الفعل

(1)

"تهذيب السنن" 6/ 407 - 408 بنسخة "عون المعبود".

ص: 279

للفاعل، والفاعلُ اسمُ الإشارة، والإشارة إلى الأولى، وهي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} الآية. (عدّتها في أهلها) بنصب "عدةَ" على أنه مفعول به لـ "نسخت"، يعني أن الآية المذكورة نَسَخَت وجوبَ اعتداد المتوفَّى عنها زوجها المذكورة في الآية الثانية، وهي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} الآية، فإن هذه الآية توجب عليها أن تعتدّ عند أهل زوجها، فنُسِخَت بالآية الأولى. (فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ) أي في أيّ مكان شاءت، غير بيت زوجها؛ لأن السكنى تبع للعدّة، فلما نُسخ الحول بأربعة أشهر وعشر نُسخت السكنى أيضًا (وَهُوَ) أي المنسوخ حكمه (قَولُ اللَّهِ عز وجل:{غَيْرَ إِخْرَاجٍ} أي فهذه الآية الثانية التي فيها {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} منسوخة بالآية الأولى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-61/ 3558 و 69/ 3570 و3571 - وفي "الكبرى" 61/ 572569/ 5737 و 5738. وأخرجه (خ) في "التفسير" 4531 و"الطلاق" 5344 (د) في "الطلاق" 2298 و2301. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في آية عدّة الوفاة:

قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ذهب جماعة من المفسّرين في تأويل هذه الآية أن المتوفّى عنها زوجها، كانت تجلس في بيت المتوفِّي عنها حولًا، ويُنفَق عليها من ماله ما لم تخرُج من المنزل، فإن خرجت لم يكن على الورثة جُناح في قطع النفقة عنها، ثم نُسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر، ونُسخت النفقة بالربع والثمن في سورة النساء. قاله ابن عبّاس، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، والربيع.

وفي السكنى خلافٌ للعلماء، روى البخاريّ عن ابن الزبير، قال: قلت لعثمان: هذه الآية التي في البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} -إلى قوله-: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} ، قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها، أو تَدَعُها؟ قال: يا ابن أخي لا أُغيّر شيئًا منه من مكانه. وقال الطبريّ، عن مجاهد: إن هذه الآية محكمة، لا نسخ فيها، والعدّة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرًا، ثم جعل اللَّه لهنّ وصيّة منه سُكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيّتها، وإن شاءت خرجت، وهو

ص: 280

قول اللَّه عز وجل: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . قال ابن عطيّة: وهذا كلّه قد زال حكمه بالنسخ المتّفق عليه، إلا ما قوّله الطبريّ مجاهدًا -رحمهما اللَّه تعالى-، وفي ذلك نظر على الطبريّ.

وقال القاضي عياضٌ: والإجماع منعقدٌ على أن الحول منسوخٌ، وأن عدّتها أربعة أشهر وعشرٌ. وقال غيره: معنى قوله: {وَصِيَّةً} أي من اللَّه تعالى تجب على النساء بعد وفاة الزوج بلزوم البيت سنةً، ثم نُسخ.

قال القرطبيّ: ما ذكره الطبريّ عن مجاهد صحيحٌ ثابتٌ، خرّج البخاريّ، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا رَوْحٌ، قال: حدثنا شِبْلٌ، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} ، قال: كانت هذه العدةُ تَعتَدُّ عند أهل زوجها واجبةً، فأنزل اللَّه:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} ، قال: جعل اللَّه لها تمامَ السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول اللَّه تعالى:{غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . إلا أن القول الأول أظهر؛ لقوله عليه السلام: "إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكنّ في الجاهليّة ترمي بالبعرة عند رأس الحول

" الحديث. وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن حالة المتوفّى عنهن أزواجهنّ قبل ورود الشرع، فلما جاء الإسلام أمرهنّ اللَّه تعالى بملازمة البيوت حولًا، ثمّ نُسخ بالأربعة الأشهر والعشر. هذا -مع وضوحه في السنة الثابتة المنقولة بأخبار الآحاد- إجماعٌ من علماء المسلمين، لا خلاف فيه. قاله أبو عمر، قال: وكذلك سائر الآية، فقوله عز وجل:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} منسوخٌ كلّه عند جمهور العلماء، ثم نُسخ الوصيّة بالسكنى للزوجات في الحول، إلا روايةً شاذّةً مهجورةً عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، لم يُتابَع عليها، ولا قال بها فيما زاد على الأربعة الأشهر والعشر أحدٌ من علماء المسلمين، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم فيما علمت. وقد روى ابن جريج عن مجاهد مثل ما عليه الناس، فانعقد الإجماع، وارتفع الخلاف، وباللَّه تعالى التوفيق. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 226 - 227. "تفسير سورة البقرة".

ص: 281

وهو بحث نفيسٌ جدّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌62 - (عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ يَوْمِ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي أشار إليه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- من أن عدّة المتوفّى عنها زوجها من يوم يأتيها الخبر، لا من يوم الوفاة قول لبعض أهل العلم، والأكثرون على خلافه، وهو الصحيح، كما سنحققه في المسألة الآتية قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3559 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي زَيْنَبُ بِنْتُ كَعْبٍ، قَالَتْ: حَدَّثَتْنِي فُرَيْعَةُ بِنْتُ مَالِكٍ، أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَتْ: تُوُفِّيَ زَوْجِي بِالْقَدُّومِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ دَارَنَا شَاسِعَةٌ، فَأَذِنَ لَهَا، ثُمَّ دَعَاهَا، فَقَالَ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسحاق بن منصور": هو الكوسج الحافظ المروزيّ. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ.

وقوله: "بالقدوم" بتخفيف الدال، وتشديدها، تقدّم أنه اسم موضع. ووقوله:"توفي" لا تنافي بينه وبين ما تقدّم أنه قُتل، لأن من قُتل، فقد توفاه اللَّه تعالى بانقضاء أجله. وقوله:"أن دارنا شاسعة" بفتح همزة "أنّ"؛ لوقوعها مفعولا به لـ "ذكرتُ". و"الشاسعة": البعيدة.

قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: لا دلالة دهذا الحديث على أن العدّة من وقت وصول الخبر، دون الموت، إلا أن يقال: الأمر يدلّ على أن المدّة تُعتبر من وقت الأمر، لا من وقت الموت، لكن يرد عليه أن الأمر كان بعد وقت الخبر، فإن اعتذر عنه باتحاد اليوم، يقال: يجوز أن يكون ذلك اليوم يوم الموت أيضًا، ولا مانع عقلًا من ذلك على أنه لا دلالة للفظ الحديث على اتحاد يوم الخبر، ويوم الأمر، فليُتأمّل. انتهى

ص: 282

والحديث صحيحٌ، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله قبل باب، وأتكلّم هنا على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، فأقول:

[مسالة]: في اختلاف أهل العلم في ابتداء عدّة المرأة، هل هو من يوم الوفاة والطلاق، أو من يوم علمها بذلك:

قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: واختلفوا في المرأة يبلغها وفاة زوجها، أو طلاقه، فقالت طائفة: العدّة في الطلاق والوفاة من يوم يموت، أو يطلّق. هذا قول ابن عمر، وابن مسعود، وابن عبّاس. وبه قال مسروق، وعطاء، وجماعة من التابعين. وإليه ذهب مالكٌ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، والثوريّ، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وابن المنذر.

وفيه قولٌ ثانٍ، وهو أن عدّتها من يوم يبلغها الخبر. روي هذا القول عن عليّ، وبه قال الحسن البصريّ، وقتادة، وعطاء الخراسانيّ، وجُلَاس بن عمرو.

وقال سعيد بن المسيّب، وعمر بن عبد العزيز: إن قامت بيّنة، فعدّتها من يوم مات، أو طَلَّقَ، وإن لم تقم بيّنة، فمن يوم يأتيها الخبر. والصحيح الأول؛ لأنه تعالى علّق العدّة بالوفاة، أو الطلاق؛ ولأنها لو علمت بموته، فتركت الإحداد انقضت العدّة، فإذا تركته مع عدم العلم، فهو أهون، ألا ترى أن الصغيرة تنقضي عدّتها، ولا إحداد عليها. وأيضًا فقد أجمع العلماء على أنها لو كانت حاملًا، لا تعلم طلاق الزوج، أو وفاته، ثم وضعت حملها أن عدّتها منقضيةٌ، ولا فرق بين هذه المسألة وبين المسألة المختلف فيها.

ووجه من قال بالعدة من يوم يبلغها الخبر أن العدّة عبادة بترك الزينة، وذلك لا يصحّ إلا بقصد ونيّة، والقصد لا يكون إلا بعد العلم. واللَّه أعلم. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه الأولون من أن العدّة من يوم الوفاة، والطلاق، لا من يوم بلوغ الخبر إليها هو الأرجح، كما صححه القرطبيّ، وبين وجهه في كلامه السابق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 182 - 183.

ص: 283

‌63 - (تَرْكُ الزِّينَةِ لِلْحَادَّةِ الْمُسْلِمَةِ، دُونَ الْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّةِ)

3560 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ -وَأَنَا أَسْمَعُ- وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ: قَالَتْ: زَيْنَبُ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا، أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ، فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً، ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ، تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، تَحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ، فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» .

قَالَتْ: زَيْنَبُ: ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا، وَقَدْ دَعَتْ بِطِيبٍ، وَمَسَّتْ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ:«لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ، تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، تَحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ، فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» ).

وَقَالَتْ زَيْنَبُ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ، تَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ، إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا، أَفَأَكْحُلُهَا؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا» ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ» -قَالَ حُمَيْدٌ: فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ: وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ؟ ، قَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، دَخَلَتْ حِفْشًا، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا، وَلَا شَيْئًا، حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ، حِمَارٍ، أَوْ شَاةٍ، أَوْ طَيْرٍ، فَتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ، إِلاَّ مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ، فَتُعْطَى بَعْرَةً، فَتَرْمِى بِهَا، وَتُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ، مِنْ طِيبٍ، أَوْ غَيْرِهِ.

قَالَ مَالِكٌ: تَفْتَضُّ: تَمْسَحُ بِهِ، فِي حَدِيثِ مُحَمَّدٍ: قَالَ مَالِكٌ: الْحِفْشُ الْخُصُّ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن سلمة) المراديّ الجمليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.

2 -

(الحارث بن مسكين) الأمويّ مولاهم، أبو عمرو المصريّ القاضي، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

ص: 284

3 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن العُتَقيّ المصريّ، ثقة فقيه، من كبار [10] 19/ 20.

4 -

(مالك) بن أنس الإمام الحجة الثبت المدنيّ [7] 7/ 7.

5 -

(عبد اللَّه بن أبي بكر) محمد بن عمرو بن حزم -بفتح المهملة، وسكون الزاي- الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقة [5] 118/ 163.

6 -

(حُميد بن نافع) الأنصاريّ، أبو أفلح المدنيّ، ثقة [3] 53/ 332.

7 -

(زينب بنت سلمة) - رضي اللَّه تعالى عنه - تقدّمت قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من سداسيات المصنف رضي الله عنه. ومنها: أن رجاله رجال الصحيح غير شيخه الحارث، فتفرد به هو وأبو داود. ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين من مالك، ومن قبله مصريون. ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي: عبد اللَّه بن أبي بكر عن حُمَيد. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ زَيْنَبَ بنْتِ أَبِي سَلَمَةَ) عبد اللَّه بن عبد الأسد المخزوميّه الصحابيّة، وهي بنت أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزعم ابن التين أنها لا رواية لها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كذا قال. وقد أخرج لها مسلم حديثها: "كان اسمي برّة، فسمّاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زينب

" الحديث. وأخرج لها البخاريّ حديثًا

(1)

(2)

. (أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، بَهذِهِ الأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ) التي بيّنتها له حيث (قَالَتْ زَيْنَبُ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (دَخَلْتُ عَلَى أمِّ حَبيبَةَ) رملة بنت أبي سفيان - رضي اللَّه تعالى عنهما - (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا، أبو سُفْيَانَ) صخر (بْنُ حَرْبٍ) رضي الله عنه، مات سنة (32هـ) عند الجمهور. وقيل: سنة ثلاث. ووقع عند البخاريّ في "الجنائز" من رواية ابن عُيينة: "لَمّا جاء نعي أبي سفيان من الشام".

قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه مات بالمدينة، بلا خلاف بين أهل الأخبار، ولم أر في

(1)

وهو ما أخرجه البخاريّ في "المناقب"، ونصّه:

3492 -

حدثنا موسى، حدثنا عبد الواحد، حدثنا كليب، حدثتني ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأظنها زينب، قالت: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، عن الدباء، والحنتم، والنقير، والمزفت، وقلت لها: أخبريني النبي صلى الله عليه وسلم، ممن كان، من مضر كان؟ قالت: فممن كان إلا من مضر؟، كان من ولد النضر بن كنانة. 3491 - حدثنا قيس بن حفص، حدثنا عبد الواحد، حدثنا كليب بن وائل، قال: حدثتني ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، زينب بنت أبي سلمة، قال: قلت لها: أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، أكان من مضر، قالت: فممن كان إلا من مضر، من بني النضر بن كنانة.

(2)

"فتح" 1/ 608 "كتاب الطلاق".

ص: 285

شيء من طرق هذا الحديث تقييده بذلك، إلا في رواية ابن عيينة هذه، وأظنّها وهَمًا. وكنت أظن أنه حذف منه لفظ "ابن"؛ لأن الذي جاء نعيه من الشام، وأمّ حبيبة في الحياة هو أخوها يزيد بن أبي سفيان الذي كان أميرًا على الشام، لكن رواه البخاريّ في "العِدَد" من طريق مالك، ومن طريق سفيان الثوريّ، كلاهما عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن حُميد بن نافع بلفظ:"حين توفّي عنها أبوها، أبو سفيان بن حرب"، فظهر أنه لم يسقط منه شيء، ولم يقل واحد منهما "من الشام". وكذا أخرجه ابن سعد في ترجمة أم حبيبة، من طريق صفيّة بنت أبي عُبيد، عنها. ثم وجدت الحديث في "مسند ابن أبي شيبة"، قال:"حدثنا وكيع، حدثنا شعبة، عن حُميد بن نافع -ولفظه: جاء نعي أخي أم حبيبة، أو حميم لها، فدعت بصفرة، فلطخت به ذراعيها". وكذا رواه الدارميّ عن هاشم بن القاسم، عن شعبة، لكن بلفظ:"أن أخًا لأم حبيبة مات، أو حميمًا لها". ورواه أحمد عن حجاج، ومحمد بن جعفر جميعًا، عن شعبة، بلفظ:"أن حميمًا لها مات"، من غير تردد، وإطلاق الحميم على الأخ أقرب من إطلاقه على الأب، فقوي الظنّ عند هذا أن القصّة تعدّدت لزينب مع أمّ حبيبة عند وفاة أخيها يزيد، ثم عند وفاة أبيها أبي سفيان، ولا مانع من ذلك انتهى (فَدَعَتْ أُمّ حَبِيبَةَ بِطِيبِ) أي طلبت طيبًا. زاد في رواية "الموطّإ":"وفيه صُفْرة خلوق، أو غيره"(فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً) بالنصب، قال الحافظ: لم أعرف اسمها (ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا) أي جانبي وجهها، وجعل العارضين ما سحين تجوّزًا، والظاهر أنها جعلت الطيب في يديها، ومسحتها بعارضيها، والباء للإلصاق، أو الاستعانة، ومسح يتعدّى بنفسه، وبالباء، تقول: مسحت برأسي، ومسحت رأسي. وفي "الإكمال": قال ابن دريد: العارضان صفحتا العنق، وما بعده الأسنان. وفي "كتاب العين": عارضة الوجه: ما يبدو منه، ومبسما الوجه والثنايا. والمراد هنا الأول. وفي "المفهم": العوارض: ما بعد الأسنان، أطلقت على الخدّين هنا مجازًا؛ لأنهما عليها، فهو من مجاز المجاورة، أو تسمية للشيء بما كان من سببه. قاله الزرقانيّ

(1)

.

(ثُمَّ قَالَتْ) أمّ حبيبة - رضي اللَّه تعالى عنها - (وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ)"من" زائدة، وفي رواية:"حاجةٌ"(غيرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) وفي رواية: "يقول"(لَا يَحِلُّ) نفي بمعنى النهي، للتأكيد. واستُدلّ به على تحريم الإحداد على غير الزوج، وهو واضحٌ، وعلى وجوب الإحداد المدّة المذكورة على الزوج. واستُشكل بأن

(1)

"شرح الزرقاني على الموطإ" 3/ 230 - 231.

ص: 286

الاستثناء وقع بعد النفي، فيدلّ على الحلّ فوق الثلاث على الزوج، لا على الوجوب. وأجيب بأن الوجوب استُفيد من دليل آخر، كالإجماع. ورُدّ بأن المنقول عن الحسن البصريّ أن الإحداد لا يجب. أخرجه ابن أبي شيبة، ونقل الخلّال بسنده عن أحمد، عن هُشيم، عن داود، عن الشعبيّ، أنه كان لا يعرف الإحداد. قال أحمد: ما كان بالعراق أشدّ تبحّرًا من هذين -يعني الحسن والشعبيّ- قال: وخفي ذلك عليهما انتهى. ومخالفتهما لا تقدح في الاحتجاج، وإن كان فيها ردّ على من ادّعى الإجماع، وفي أثر الشعبيّ تعقّبٌ على ابن المنذر، حيث نفى الخلاف في المسألة، إلا عن الحسن.

وأيضًا فحديث التي شكت عينها -وهي ثالث أحاديث الباب- دالّ على الوجوب، وإلا لم يمنع التداوي المباح.

وأجيب أيضًا بأن السياق يدلّ على الوجوب، فإن كلّ ما منع منه إذا دلّ دليلٌ على جوازه كان ذلك الدليل دالًّا بعينه على الوجوب، كالختان، والزيادة على الركوع في الكسوف، ونحو ذلك. قاله في "الفتح"

(1)

.

(لِامْرَأَةٍ) تمسّك بمفهومه الحنفيّة، فقالوا: لا يجب الإحداد على الصغيرة، وذهب الجمهور إلى وجوب الإحداد عليها، كما تجب العدّة، وأجابوا عن التقييد بالمرأة أنه خرج مخرج الغالب، وعن كونها غير مكلّفة لأن الولي هو المخاطب بمنعها مما تمنع منه المعتدّة، ودخل في عموم قوله:"امرأة" المدخول بها، وغير المدخول بها حرّة كانت، أو أمة، ولو كانت مبعضة، أو مكاتبة، أو أم ولد إذا تُوُفّي عنها زوجها، سيّدها لتقييده في الخبر، خلافًا للحنفية (تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) هذا محلّ الاستدلال للمصنّف رحمه الله تعالى على ما ترجم له، وهو ترك الزينة للَحادّة المسلمة، دون اليهوديّة والنصرانيّة، وبه قال الحنفيّة، وبعض المالكيّة، وأبو ثور؛ وذلك لتقييده بالإيمان، وأجاب الجمهور بأنه ذكر تأكيدًا للمبالغة في الزجر، فلا مفهوم له، كما يقال: هذا طريق المسلمين، وقد يسلكه غيرهم. وأيضًا فالإحداد من حقّ الزوج، وهو ملتحق بالعدة في حفظ النسب، فتدخل الكافرة في ذلك بالمعنى كما دخل الكافر في النهي عن السوم على سوم أخيه، ولأنه حقّ للزوجية، فأشبه النفقة والسكنى، ونقل السبكي في فتاويه عن بعضهم أن الذميّة داخلة في قوله:"تؤمن باللَّه، واليوم الآخر"، وردّ على قائله، وبين فساد شبهته، فأجاد. وقال النوويّ: قيد بوصف الإيمان؛ لأن الْمتّصف به هو الذي ينقاد للشرع، قال ابن دقيق العيد: والأول أولى. وفي رواية عند المالكيّة أن الذّميّة المتوفّى عنها تعتدّ بالأقراء. قال ابن العربيّ: هو قول من قال: لا إحداد عليها

(2)

.

(1)

"فتح" 10/ 609.

(2)

"فتح" 10/ 609.

ص: 287

(تَحِدُّ) بضمّ أوله، من الإحداد، وبفتحه، من الحدّ. وهو على حذف "أن" المصدريّة، ورفع الفعل، وهو مقيس، وهو في تأويل المصدر فاعل "يحلّ"، أي لا يحل لها الإحداد (عَلَى مَيّتٍ) استدلّ به لمن قال: لا إحداد على امرأة المفقود؛ لأنه لم تتحقّق وفاته، خلافًا للمالكية (فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ) قال ابن بطّال: أباح الشارع للمرأة أن تحدّ على غير الزوج ثلاثة أيام؛ لما يغلب من لَوْعة الحزن، ويهجُمُ من أليم الوجد، وليس واجبًا؛ للاتفاق على أن الزوج لو طالبها بالجماع لم يحلّ لها منعه في تلك الحالة (إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ) أُخِذَ من هذا الحصر أن لا يُزاد على الثلاث في غير الزوج أبًا كان أو غيره، وأما ما أخرجه أبو داود في "المراسيل" من رواية عمرو بن شعيب "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رخّص للمرأة أن تحد على أبيها سبعة أيام، وعلى من سواه ثلاثة أيام"، فلو صحّ لكان خصوص الأب يخرج من هذا العموم، لكنه مرسلٌ، أو معضل؛ لأن جلّ رواية عمرو ابن شعيب عن التابعين، ولم يرو عن أحد من الصحابة، إلا الشيء اليسير عن بعض صغار الصحابة، ووهم بعض الشّرّاح، فتعقّب أبا داود تخريجه في "المراسيل"، فقال: عمرو بن شُعيب ليس تابعيًّا، فلا يخرّج حديثه في المراسيل. وهذا التعقّب مردود لما سبق؛ ولاحتمال أن يكون أبو داود كان لا يخصّ المراسيل برواية التابعيّ، كما هو منقول عن غيره أيضًا.

واستُدلّ به للأصحّ عند الشافعيّة في أن لا إحداد على المطلّقة، فأما الرجعيّة، فلا إحداد عليها إجماعًا، وإنما الاختلاف في البائن، فقال الجمهور: لا إحداد عليها.

وقالت الحنفيّة، وأبو عُبيد، وأبو ثور: عليها الإحداد؛ قياسًا على المتوفّى عنها، وبه قال بعض الشافعيّة، والمالكيّة.

واحتجّ الأولون بأن الإحداد شُرع لأن تركه من التطيب، واللبس، والتزيّن، يدعو إلى الجماع، فمُنعت المرأة منه زجرًا لها عن ذلك، فكان ذلك ظاهرًا في حقّ الميت؛ لأنه يمنعه الموت عن منع المعتدّة منه عن التزويج، ولا تراعيه هي، ولا تخاف منه، بخلاف المطلّق الحيّ في كلّ ذلك، ومن ثَمّ وجبت العدّة على كلّ متوفّى عنها، وإن لم تكن مدخولًا بها، بخلاف المطلّقة قبل الدخول، فلا إحداد عليها اتفاقًا، وبأن المطلّقة البائن يمكنها العود إلى الزوج بعينه بعقد جديد.

وتُعُقّب بأن الملاعنة لا إحداد عليها. وأجيب بأن تركه لفقدان الزوج بعينه، لا لفقدان الزوجيّة.

واستُدلّ به على جواز الإحداد على غير الزوج من قريب ونحوه ثلاث ليال، فما دونها، وتحريمه فيما زاد عليها، وكأن هذا القدر أبيح لأجل حظّ النفس، ومراعاتها،

ص: 288

وغلبة الطباع البشريّة، ولهذا تناولت أمّ حبيبة، وزينب بنت جحش - رضي اللَّه تعالى عنهما - الطيب؛ لتخرجا عن عُهدة الإحداد، وصرّحت كلّ منهما بأنها لم تتطيّب لحاجة، إشارةً إلى أن آثار الحزن باقيةٌ عندهما، لكنهما لم يسعهما إلا امتثال الأمر.

(أَرْبَعَةَ أَشهُرٍ وَعَشْرًا) قال القرطبيّ: "أربعة" منصوب على الظرف، والعامل فيه "تحد"، و"عشرًا" معطوف عليه. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ: الاستثناء في قوله: "إلا على زوج" متصل، إذا جعل قوله:"أربعة أشهر" منصوبَا بمقدّر، بيانًا لقوله:"فوق ثلاث"، أي أعني، أو أذكر، فهو من باب قوله:"ما اخترت إلا منكم رفيقًا؛ لكون ما بعد "إلا" شيئين، فيقدّم المفسّر، أعني "أربعة أشهر" على الاستثناء، تقديره: لا تحدّ المرأة على ميت فوق ثلاث، أعني أربعة أشهر، إلا على زوج. أو من قولك: ما ضرب أحدٌ أحدًا إلا زيدٌ عمرًا. وإذا جُعل معمولاً لـ "تحد" مضمرًا، كان منقطعًا، فالتقدير: لا تحدّ امرأة على ميت، فوق ثلاث، لكن تحدّ على زوج أربعة أشهر انتهى

(2)

.

قيل: الحكمة في كونه أربعة أشهر وعشرًا أن الولد يتكامل تخليقه، وتنفخ فيه الروح بعد مضيّ مائة وعشرين يومًا، وهي زيادة على أربعة أشهر بنقصان الأهلّة، فجُبر الكسر إلى العقد على طريق الاحتياط. وذَكَرَ العشر مؤنّثًا؛ لإرادة الليالي، والمراد مع أيامها عند الجمهور، فلا تحلّ حتى تدخل الليلة الحادية عشرة. وعن الأوزاعيّ، وبعض السلف: تنقضي بمضيّ الليالي العشر بعد مضي الأشهر، وتحلّ في أول اليوم العاشر.

واستُثنيت الحامل كما تقدّم شرح حالها في الكلام على حديث سُبيعة بنت الحارث الأسلميّة - رضي اللَّه تعالى عنها -. وقد ورد في حديث قويّ الإسناد، أخرجه أحمد، وصححه ابن حبّان، عن أسماء بنت عُميس - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت:"دخل عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر بن أبي طالب، فقال: لا تُحدّي بعد يومك هذا"، لفظ أحمد، وفي رواية له، ولابن حبّان، والطحاويّ:"لَمّا أُصيب جعفر أتانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: تَسَلّبي ثلاثًا، ثم اصنعي ما شئت". قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": ظاهره أنه لا يجب الإحداد على المتوفّى عنها بعد اليوم الثالث؛ لأن أسماء بنت عُميس، كانت زوج جعفر بن أبي طالب بالاتفاق، وهي والدة أولاده: عبد اللَّه، ومحمد، وعون، وغيرهم، قال: بل ظاهر النهي أن الإحداد لا يجوز.

وأجاب بأن هذا الحديث شاذّ مخالفٌ للأحاديث "الصحيحة" وقد أجمعوا على

(1)

"المفهم" 4/ 284.

(2)

"شرح المشكاة" 6/ 365.

ص: 289

خلافه. قال: ويحتمل أن يقال: إن جعفرًا قُتل شهيدًا، والشهداء أحياء عند ربّهم، قال: وهذا ضعيف؛ لأنه لم يرد في حقّ غير جعفر، من الشهداء، ممن قُطع بأنهم شُهداء، كما قُطع لجعفر، كحمزة بن عبد المطّلب عمه، وكعبد اللَّه بن عمرو بن حرام والد جابر انتهى كلام العراقيّ، ملخّصًا.

وأجاب الطحاويّ بأنه منسوخ، وأن الإحداد كان على المعتدة في بعض عدّتها في وقت، ثم أمرت بالإحداد أربعة أشهر وعشرًا، ثم ساق أحاديث الباب، وليس فيها ما يدلّ على ما ادعاه من النسخ، لكته يُكثر من ادعاء النسخ بالاحتمال، فجرى على عادته، ويحتمل وراء ذلك أجوبة أخرى:

[أحدها]: أن يكون المراد بالإحداد المقيد بالثلاث قدرًا زائدًا على الإحداد المعروف فعلته أسماء مبالغة في حزنها على جعفر، فنهاها عن ذلك بعد الثلاث.

[ثانيها]: أنها كانت حاملًا، فوضعت بعد ثلاث، فانقضت العدّة، فنهاها بعدها عن الإحداد، ولا يمنع ذلك قوله في الرواية الأخرى:"ثلاثا"؛ لأنه يُحمل على أنه صلى الله عليه وسلم اطّلع على أن عدّتها تنقضي عند الثلاث.

[ثالثها]: لعله كان أبانها بالطلاق قبل استشهاده، فلم يكن عليها إحداد.

[رابعها]: أن البيهقيّ أَعَلّ الحديث بالانقطاع، فقال: لم يثبت سماع عبد اللَّه بن شدّاد من أسماء. وهذا تعليلٌ مدفوع، فقد صححه أحمد، لكنه قال: إنه مخالفٌ للأحاديث الصحيحة في الإحداد.

وهو مصير منه إلى أنه يُعلّه بالشذوذ. وذكر الأثرم أن أحمد سُئل عن حديث حنظلة، عن سالم، عن ابن عمر، رفعه:"لا إحداد فوق ثلاث"؟، فقال: هذا منكر، والمعروف عن ابن عمر من رأيه انتهى.

وهذا يحتمل أن يكون لغير المرأة المعتدّة، فلا نكارة فيه، بخلاف حديث أسماء. واللَّه أعلم.

وأغرب ابن حبّان، فساق الحديث بلفظ:"تسلّمي" بالميم، بدل الموحّدة، وفسّره بأنه أمرها بالتسليم لأمر اللَّه، ولا مفهوم لتقييدها بالثلاث، بل الحكمة فيه كون القلق يكون في ابتداء الأمر أشدّ، فلذلك قيّدها بالثلاث. هذا معنى كلامه، فصحّف الكلمة، وتكلّف لتأويلها. وقد وقع في رواية البيهقيّ وغيره:"فأمرني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أتسلّب ثلاثًا"، فتبيّن خطؤه. قاله في "الفتح"

(1)

.

(1)

10/ 610 - 611. "كتاب الطلاق".

ص: 290

(قَالَتْ زَيْنَبُ) - رضي اللَّه تعالى عنها -، بالسند السابق، وهذا هو الحديث الثاني (ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها -. قال في "الفتح": وظاهره أن هذه القصّة وقعت بعد قصّة أم حبيبة - رضي اللَّه تعالى عنها -، ولا يصحّ ذلك إلا إن قلنا بالتعدّد، ويكون ذلك عقب وفاة يزيد بن أبي سفيان؛ لأن وفاته سنة ثمان عشرة، أو تسع عشرة، ولا يصحّ أن يكون ذلك عند وفاة أبيه؛ لأن زينب بنت جحش ماتت قبل أبي سفيان بأكثر من عشر سنين، على الصحيح المشهور عند أهل العلم بالأخبار، فيُحمل على أنها لم ترد ترتيب الوقائع، وإنما أرادت ترتيب الأخبار. وقد وقع في رواية أبى داود بلفظ:"ودخلت"، وذلك لا يقتضي الترتيب. واللَّه أعلم انتهى

(1)

(حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا) قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: لم أتحقّق من المراد به؟؛ لأن لزينب ثلاثة إخوة: عبد اللَّه، وعبد، بغير إضافة، وعبيد اللَّه بالتصغير، فأما الكبير، فاستُشهد بأحد، وكانت زينب إذ ذاك صغيرة جدًّا؛ لأن أباها أبا سلمة مات بعد بدر، وتزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم أمها، أم سلمة، وهي صغيرة ترضع، فقد ثبت أن أمها حلّت من أبي سلمة بوضع زينب هذه، فانتفى أن يكون هو المراد هنا، وإن كان وقع في كثير من "الموطّآت" بلفظ:"حين توفّي أخوها عبد اللَّه"، كما أخرجه الدارقطنيّ من طريق ابن وهب وغيره عن مالك، وأما عبدٌ بغير إضافة، فيُعرف بأبي حميد، وكان شاعرًا أعمى، وعاش إلى خلافة عمر رضي الله عنه. وقد جزم ابن إسحاق وغيره من أهل العلم بالأخبار بأنه مات بعد أخته زينب بسنة. وروى ابن سعد في ترجمتها في "الطبقات" من وجهين أن أبا حميد المذكور حضر جنازة زينب مع عمر رضي الله عنه، وحكي عنه مراجعة له بسببها، وإن كان في إسنادهما الواقديّ، لكن يُستشهد به في مثل هذا، فانتفى أن يكون هذا الأخير المراد. وأما عُبيد اللَّه المصغّر، فأسلم قديمًا، وهاجر بزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى الحبشة، ثم تنصّر هناك، ومات، فتزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم بعده أم حبيبة، فهذا يحتمل أن يكون هو المراد؛ لأن زينب بنت أبي سلمة عند ما جاء الخبر بوفاة عبيد اللَّه، كانت في سنّ من يَضبط، ولا مانع أن يحزن المرء على قريبه الكافر، ولا سيّما إذا تذكّر سوء مصيره. ولعلّ الرواية التي في "الموطّإ""حين توفّي أخوها عبد اللَّه" كانت بالتصغير، فلم يَضبطها الكاتب. واللَّه أعلم.

ويعكُر على هذا قول من قال: إن عُبيد اللَّه مات بأرض الحبشة، فتزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم أم حبيبة، فإن ظاهرها أن تزويجها كان بعد موت عُبيد اللَّه، وتزويجها وقع بأرض الحبشة،

(1)

"فتح" 3/ 491 - 492. "كتاب الجنائز".

ص: 291

وقبل أن تسمع النهي. وأيضًا ففي السياق: "ثم دخلت على زينب" بعد قولها: "دخلت على أم حبيبة"، وهو ظاهر في أن ذلك كان بعد موت قريب زينب بنت جحش المذكور، وهو بعد مجيء أم حبيبة من الحبشة بمدّة طويلة، فإن لم يكن هذا الظنّ هو الواقع احتمل أن يكون أخا لزينب بنت جحش من أمها، أو من الرضاعة، أو يُرجّح ما حكاه ابن عبد البرّ وغيره من أنّ زينب بنت أبي سلمة وُلدت بأرض الحبشة، فإن مقتضى ذلك أن يكون لها عند وفاة عبد اللَّه جحش أربع سنين، ومثلها يَضبِط في مثلها. واللَّه أعلم. قاله في "الفتح"

(1)

.

(وَقَدْ دَعَتْ بِطِيبٍ، وَمَسَّتْ مِنْهُ) وفي رواية "به" أي شيئًا من جسدها (ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ) وفي رواية: "أما واللَّه"(مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ) وفي رواية بحذف "من"(غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ، تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الْآخِرِ) تقدّم أن هذا هو محلّ استدلال المصنّف على أنه لا إحداد على غير المسلمة، والجمهور على خلافه (تَحِدُّ) تقدّم على أنه على تقدير حرف مصدريّ، وهو في تأويل المصدر فاعل "يحلّ"(عَلَى مَيّتٍ، فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ) أي فتحد عليه (أَرْبَعَةَ أَشْهُرِ وَعَشْرًا) أي أيامها، عند الجمهور، وقيل عشر ليال، وقد تقدم تفصيل الخلاف في ذلك.

(وَقَالَتْ زَيْنَبُ) بالسند السابق، وهذا هو الحديث الثالث (سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ) أي أمها أم المؤمنين هند بنت أبي أميّة المخزوميّة - رضي اللَّه تعالى عنهما - (تَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ) زاد في رواية الليث، عن حميد بن نافع الآتية بعد ثلاثة أبواب:"جاءت امرأة من قريش"، وسمّاها ابن وهب في "موطّئه"، وأخرجه إسماعيل القاضي في "أحكامه" عاتكة بنت نعيم بن عبد اللَّه، أخرجه ابن وهب: "عن أبي الأسود النوفليّ، عن القاسم بن محمد، عن زينب، عن أمها، أم سلمة، أن عاتكة بنت نُعيم بن عبد اللَّه، أتت تستفتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن ابنتي تُوفّي عنها زوجها، وكانت تحت المغيرة المخزوميّ، وهي تحدّ، وتشتكي عينها

" الحديث. وهكذا أخرجه الطبرانيّ من رواية عمران بن هارون الرمليّ، عن ابن لهيعة لكنه، قال: "بنت نُعيم"، ولم يسمّها.

وأخرجه ابن منده في "المعرفة" من طريق عثمان بن صالح "عن عبد اللَّه بن عُقبة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن حميد بن نافع، عن زينب، عن أمها، عن عاتكة بنت نُعيم، أخت عبد اللَّه بن نعيم، جاءت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن ابنتها تُوفّي

(1)

"فتح" 3/ 492 "كتاب الجنائز". رقم الحديث 1281 و 1282.

ص: 292

زوجها

" الحديث. وعبد اللَّه بن عقبة هو ابن لهيعة، نسبه لجدّه، ومحمد بن عبد الرحمن هو أبو الأسود، فإن كان محفوظًا فلابن لهيعة طريقان، ولم تسمّ البنت التي توفّي زوجها، قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ولم تنسب فيما وقفت عليه. وأما المغيرة المخزوميّ، فلم أقف على اسم أبيه، وقد أغفله ابن منده في "الصحابة"، وكذا أبو موسى في "الذيل" عليه، وكذا ابن عبد البرّ، لكنه استدركه ابن فتحون عليه انتهى كلام الحافظ. (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَتي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا) قال ابن دقيق العيد: يجوز فيه وجهان ضمّ النون على الفاعليّة على أن تكون العين هي المشتكية، وفتحها على أن يكون في اشتكت ضمير الفاعل، وهي المرأة، ورجّح هذا. ووقع في بعض الروايات "عيناها" يعني ويرجّح الضمّ، وهذه الرواية في مسلم، وعلى الضمّ اقتصر النوويّ، وهو الأرجح، والذي رجّح الأول هو المنذريّ (أَفَأَكْحُلُهَا؟) بضمّ الحاء المهملة، من باب قتل (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا") وفي رواية: "لا، مرَّتين، أو ثلاثًا، كلّ ذلك يقول: لا". وفي رواية شعبة، عن حميد ابن نافع، فقال: "لا تكتحل". قال النوويّ: فيه دليلٌ على تحريم الاكتحال على الحادّة، سواء احتاجت إليه، أم لا. وجاء في حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - في "الموطأ" وغيره: "اجعليه بالليل، وامسحيه بالنهار".

ووجه الجمع أنها إذا لم تحتج إليه لا يحلّ، وإذا احتاجت لم يجز بالنهار، ويجوز بالليل، مع أن الأولى تركه، فإن فعلت مسحته بالنهار، قال: وتأول بعضهم حديث الباب على أنه لم يتحقّق الخوف على عينها. وتُعُقّب بأن في حديث شعبة المذكور "فخشُوا على عينها"، وفي رواية ابن منده المتقدِّم ذكرها "رمدت رمَدًا شديدًا، وقد خشيت على بصرها"، وفي رواية الطبرانيّ أنها قالت في المرة الثانية:"إنها تشتكي عينها فوق ما يظنّ، فقال: لا"، وفي رواية القاسم بن أصبغ، أخرجها ابن حزم "إني خشيت أن تنفقىء عينها، قال: لا، وإن انفقأت"، وسنده صحيح، وبمثل ذلك أفتت أسماء بنت عُميس، أخرجه ابن أبي شيبة، وبهذا قال مالك في رواية عنه بمنعه مطلقًا، وعنه يجوز إذا خافت على عينها بما لا طيب فيه، وبه قال الشافعيّة مقيّدًا بالليل.

وأجابوا عن قصّة المرأة باحتمال أنه كان يحصل لها البرء بغير الكحل، كالتضميد بالصبر ونحوه. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن صفيّة بنت أبي عبيد أنها أحدّت على ابن عمر، فلم تكتحل حتى كادت عيناها تزيغان، فكانت تقطر فيهما الصبر.

ومنهم من تأول النهي على كحل مخصوص، وهو ما يقتضي التزيّن به؛ لأن محض التداوي قد يحصل بما لا زينة فيه، فلم ينحصر فيما فيه زينة.

ص: 293

وقالت طائفة من العلماء: يجوز ذلك، ولو كان فيه طيب، وحملوا النهي على التنزيه؛ جمعًا بين الأدلّة

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بالمنع مطلقًا هو الصواب؛ لقوة أدلته. واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم "إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) قال في "الفتح": كذا في الأصل بالنصب على حكايته لفظ القرآن

(2)

، ولبعضهم بالرفع، وهو أوضح. وقال ابن دقيق العيد: فيه إشارة إلى تقليل المدّة بالنسبة لما كان قبل ذلك، وتهوين الصبر عليها، ولهذا قال بعده (وَقَد كَانَتْ إِحدَاكُنَّ فِي الجَاهِلِيةِ تَرْمِي بِالبَعرَةِ عِنْدَ رَأْسِ الْحَولِ) وفي التقييد بالجاهليّة إشارة إلى أن الحكم في الإسلام صار بخلافه، وهو كذلك بالنسبة لما وصف من الصنيع، لكن التقدير بالحول استمرّ في الإسلام بنصّ قوِله تعالى:{وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} ، ثم نسخت بالآية التي قبلُ، وهي:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . (قَالَ: حُمَيْدٌ) هو ابن نافع، راوي الحديث، وهو موصول بالإسناد المبدوء به (فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ) هي بنت أبي سلمة - رضي اللَّه تعالى عنهما - (وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ؟) أي بيّني لي المراد بهذا الكلام الذي خوطبت به هذه المرأة (قَالَتْ زَيْنَبُ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (كَانَتِ الْمَرأَةُ، إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا) قال في "الفتح": هكذا في هذه الرواية لم تسنده زينب، ووقع في رواية شعبة، مرفوعًا كله، لكنه باختصار، ولفظه:"فقال: لا تكتحل، قد كانت إحداكن تمكث في شرّ أحلاسها، أو شرّ بيتها، فإذا كان حولٌ، فمرّ كلبٌ رمت ببعرة، فلا، حتى تمضي أربعة أشهر وعشرٌ".

قال الحافظ: وهذا لا يقتضي إدراج رواية الباب؛ لأن شعبة من أحفظ الناس، فلا يقضى على روايته برواية غيره بالاحتمال، ولعل الموقوف ما في رواية الباب من الزيادة التي ليست في رواية شعبة. انتهى

(3)

.

لكن تعقّب هذا الزرقاني في "شرح الموطّإ" حيث قال بعد نقل كلام الحافظ هذا: وقد يرد عليه أن ذلك ليس بالاحتمال، فقد صرّح هو في "شرح نخبته" تبعًا لغيره بأن مما يُعرف به الإدراج مجيء رواية مبيّنة للقدر المدرج، وما هنا من ذلك، فإن رواية مالك عن شيخه، عن حميد بيّنت أن التفسير من زينب، وكون شعبة من الحفّاظ لا يقتضي أنه لا يروي ما فيه المدرج، فلم يزل الحفّاظ يروونه كثيرًا، كابن شهاب وغيره انتهى

(4)

.

(1)

"فتح" 10/ 612. "كتاب الطلاق".

(2)

وقد تقدّم أن الأولى أن يكون منصوبًا على الظرفيّة لعامل مقدّر، هو خبر المبتدإ: أي إنما هي تربّيسيرة، أو نحو ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

(3)

"فتح" 10/ 613.

(4)

"شرح الزرقاني على الموطّإ" 3/ 233.

ص: 294

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ادعوه من الإدراج في رواية شعبة لا يظهر لي وجهه، فإن أصل الحديث مرفوع، لا إدراج فيه، وإنما التفسير الواقع في رواية مالك بطوله من زينب - رضي اللَّه تعالى عنها -، فلا إدراج في رواية شعبة، وقد تقدّمت رواية شعبة، ونحوها رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ المذكورة، في -55/ 3528 و 352 - فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(دَخَلَتْ حِفْشًا) بكسر الحاء المهملة، وسكون الفاء، بعدها شين معجمة-: سيأتي تفسيره

(وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسّ طِيبًا، وَلَا شَيْئًا، حَتَّى تَمُرَّ بِهَا) وفي رواية: "لها"(سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤتَى بِدَابَّةٍ) بالتنوين (حِمَارٍ) بالجرّ على البدل (أَوْ شَاةٍ، أَو طَيْرٍ)"أو" فيهما للتنويع، لا للشكّ، وإطلاق الدابّة على ما ذُكر هو بطريق الحقيقة اللغويّة، لا العرفيّة (فَتَفْتَضُّ بِهِ) بفاء، ثم مثنّاة، ثم ضاد معجمة مشدّدة، سيأتي تفسير مالك له قريبًا. والباء في "به" سببيّة. وجوّز الكرمانيّ أن تكون للتعدية، أو تكون زائدة، أي تفتضّ الطائر بأن تكسر بعض أعضائه انتهى. لكن يردّه ما يأتي من تفسير الافتضاض صريحًا (فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ، إِلاَّ مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ) بالبناء للفاعل، أي تخرج تلك المعتدّة من حفشها (فَتُعْطَى) بالبناء للمفعول (بَعْرَةً) بفتح الموحّدة، وسكون المهملة، ويجوز فتحها (فَتَرْمِي بِهَا) وفي رواية مطرّف، وابن الماجشون، عن مالك:"ترمي ببعرة من بعر الغنم، أو الإبل، فترمي بها أمامها، يكون ذلك إحلالاً لها"، وفي رواية ابن وهب:"فترمي ببعرة من بعر الغنم من وراء ظهرها"، ووقع في رواية شعبة المذكورة:"فإذا كان حول، فمرّ كلبٌ رمت ببعرة". وظاهره أن رميها البعرة يتوقّف على مرور الكلب، سواء طال زمن انتظار مروره، أم قصر، وبه جزم بعض الشرّاح. وقيل: ترمي بها من عرض، من كلب، أو غيره، ترمي من حضرها أن مقامها حولًا أهون عليها من بعرة ترمي بها كلبًا أو غيره.

وقال عياضٌ: يمكن الجمع بأن الكلب إذا مرّ افتضّت به، ثم رمت البعرة. قال الحافظ: ولا يخفى بعده، والزيادة من الثقة مقبولة، ولا سيّما إذا كان حافظًا، فإنه لا منافاة بين الروايتين حتى يحتاج إلى الجمع.

واختلف في المراد برمي البعرة، فقيل: هو إشارة إلى أنها رمت العدّة رمي البعرة. وقيل: إشارة إلى أن الفعل الذي فعلته من التربّص، والصبر على البلاء الذي كانت فيه لما انقضى، كان عندها بمنزلة البعرة التي رمتها؛ استحقارًا له، وتعظيمًا لحقّ زوجها. وقيل: بل ترميها على سبيل التفاؤل بعدم عودها إلى مثل ذلك. قاله في "الفتح".

(وَتُرَاجِعُ) بضمّ المثناة الفوقيّة، من المراجعة (بَعْدُ) أي بعد ما ذُكر من الافتضاض،

ص: 295

والرمي (مَا شَاءَتْ، مِنْ طِيبٍ، أَو غَيْرهِ) مما كانت ممنوعة منه في تلك المدّة.

(قَالَ: مَالِكٌ) إمام دار الهجَرة رحمه الَله تعالى، مفسّرًا معنى قوله (تَفْتَضُّ: تَمْسَحُ بِهِ) وفي رواية "الموطّإ": "تمسح به جلدها". قال في "الفتح": وأصل الفضّ الكسر، أي تكسر ما كانت فيه، وتخرج منه بما تفعله بالدابّة. ووقع في رواية النسائيّ:"تقبص" بقاف، ثم موحّدة، ثم مهملة خفيفة، وهي رواية الشافعيّ، والقبص الأخذ بأطراف الأنامل. قال الأصبهانيّ، وابن الأثير: هو كناية عن الإسراع، أي تذهب بعَدْو، وسرعة إلى منزل أبويها؛ لكثرة حيائها؛ لقبح منظرها، أو لشدّة شوقها إلى التزويج؛ لبعد عهدها به. والباء في قوله:"به" سببيّة، والضبط الأول أشهر. قال ابن قتيبة: سألت الحجازيين عن الافتضاض، فذكروا أن المعتدّة، كانت لا تمسّ ماءً، ولا تقدّم ظفرًا، ولا تُزيل شعرًا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر، ثم تفتضّ، أي تكسر ما هي فيه من العدّة بطائر تمسح به قبلها، وتنبذه، فلا يكاد يَعيش بعد ما تفتضّ به.

وهذا لا يخالف تفسير مالك، لكنه أخصّ منه؛ لأنه أطلق الجلد، وتبيّن أن المراد به جلد القبل. وقال ابن وهب: معناه أنها تمسح بيدها على الدابّة، وعلى ظهره. وقيل: المراد تمسح به، ثم تفتضّ، أي تغتسل، والافتضاض: الاغتسال بالماء العذب؛ لإزالة الوسخ، وإرادة النقاء، حتى تفسير بيضاء نقية كالفضّة، ومن ثمّ قال الأخفش: معناه تتنظّف، فتنتفي من الوسخ، فتشبه الفضّة في نقائها وبياضها. والغرض بذلك الإشارة إلى إهلاك ما هي فيه، ومن الرمي الانفصال منه بالكلّيّة. انتهى.

(فِي حَدِيثِ مُحَمَّدٍ: قَالَ مَالِكٌ: الْحِفْشُ الْخُصُّ) يعني أن شيخه محمد بن سلمة زاد في روايته تفسير مالك للحفش. وفي رواية يحيى بن يحيى، عن مالك:"والحفش البيت الرديء"، وفي رواية القعنبيّ، عنه:، "الصغير جدًّا". وهما بمعنى، فرداءته لصغره.

و"الحفش" -بكسر المهملة، وسكون الفاء، بعدها شين معجمة-: فسره مالك بالخصّ، وهو -بضمّ الخاء المعجمة، وتشديد الصاد المهملة-: البيت من القصب، والجمع أَخصاص، مثل قُفْل وأَقفال. وفسّره أبو داود في روايته من طريق مالك بالبيت الصغير، وهو أعم مما ذكره المصنّف. وقال الشافعيّ: الحِفش: البيت الذليل الشعث البناء. وقيل: هو شيء من خوص يُشبه القفّة، تجمع فيه المعتدّة متاعها من غزل، أو نحوه. وظاهر سياق القصّة يأبى هذا، ففي الرواية الآتية من طريق يحيى الأنصاريّ، عن حميد بن نافع:"عمدت إلى شرّ بيت لها، فجلست فيه". ولعلّ أصل الحفش ما ذُكر، ثم استعمل في البيت الصغير الحقير على طريق الاستعارة. قاله في "الفتح". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 296

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه، وبقيّة مسائله في -55/ 3527 - "باب عدّة المتوفى عنها زوجها"، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه

أنيب".

‌64 - (مَا تَجْتَنِبُهُ الْحَادَّةُ مِنَ الثِّيَابِ الْمُصْبَغَةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الحادّة": اسم فاعل، من حدّت المرأة، ثلاثيًّا، ويقال لها: الْمُحِدّة، من الإحداد رباعيًّا: إذا تركت الزينة لموت زوجها.

و"المصبّغة": اسم مفعول من التصبيغ، قال في "اللسان": وثيابٌ مُصَبَّغَةٌ: إذا صُبِغت، شُدِّدّ للكثرة انتهى. وقال الفيّوميّ: صبَغتُ الثوب صَبْغًا، من بابي نفع، وقَتَل، وفي لغة من باب ضرب. قال: والصّبْغ، بكسر الصاد، والصَّبْغَةُ، والصّبَاغُ أيضًا، كله بمعنى، وهو ما يُصبغ به، ومنهم من يقول: الصِّبَاغ جمع صِبْغِ، مثلُ بِئْرٍ وبِئَارٍ. انتهى بتصرّف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3561 -

(أَخْبَرَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ، فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تَحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، وَلَا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمْتَشِطُ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا، إِلاَّ عِنْدَ طُهْرِهَا، حِينَ تَطْهُرُ، نُبَذًا مِنْ قُسْطٍ، وَأَظْفَارٍ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حُسين بن محمد) بن أيوب الذارع السعديّ، أبو عليّ البصريّ، صدوق [10] 97/ 1355.

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(هشام) بن حسّان القُردسيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقة [6] 188/ 300.

4 -

(حفصة) بنت سيرين، أم الْهُذيل الأنصاريّة البصريّة، ثقة [3] 22/ 390.

ص: 297

5 -

(أمّ عطيّة) نُسيبة -بالتصغير، ويقال: بفتح النون- بنت كعب، ويقال: بنت الحارث الأنصاريّة صحابيّة، مشهورة، ثم سكنت البصرة، تقدّمت في -7/ 368. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) الأنصاريّة - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحِدُّ) تقدّم أنه بضم أوله، أو فتحها، من الإحداد، أو الحدّ (امْرَأَةٌ عَلَى مَيْتٍ، فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تَحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرِ وَعَشْرًا، وَلَا تَلبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، وَلَا ثَؤبَ عَصْبٍ) هكذا نَسخ "المجتبى" التي بين يدي كلها بلفظ: "ولا ثوب عصب" بواو العطف، "لا" النافية، فيكون عطفًا على الممنوع، وهذا غلطٌ فاحشٌ، والصواب، كما في "الكبرى": "إلا ثوب عصب"، باداة الاستثناء، فهو مستثنىً من الممنوع، فيكون لبسها له جائزًا. فتنبّه.

و"العَصَب" -بفتح العين، وسكون الصاد المهملتين- قال في "المحكم": هو

ضرب من برود اليمن، يُعصب غَزله، أي يُجمَع، ثم يُصبغ، ثم يُنسج. وقال ابن الأثير: العَصب برودٌ يمنيّةٌ، يُعصب غزلها: أي يُجمع، ويُشدّ، ثم يُصبغ، ويُنسج، فيأتي مَوْشِيًّا؛ لبقاء ما عُصب منه أبيض لم يأخذه صِبْغ، يقال: بُرْدٌ عَصْبٌ، وبُرُودُ عَصب، بالتنوين والإضافة. وقيل: هي برودٌ مخطّطةٌ. والعصب: الفَتْلُ، والعَصّاب الْغَزَّالَ، فيكون النهي للمعتدّة عما صُبغ بعد النسج. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "إلا ثوب عَصْبٍ -بمهملتين، مفتوحة، ثم ساكنة، ثم موحّدة- وهو بالإضافة، وهي برود اليمن، يُعصب غزلها، أي يُربط، ثم يُصبغ، ثم ينسج معصوبًا، فيخرج موشى؛ لبقاء ما عُصِب به أبيض لم ينصبغ، وإنما يُعصب السُّدَى، دون اللُّحْمَة. وقال صاحب "المنتهى": العصب هو المفتول من برود اليمن.

وذكر أبو موسى المدينيّ في "ذيل الغريب" عن بعض أهل اليمن أنه من دابّة بحريّة، تُسمى فرس فرعون، يُتّخذ منها الخرز وغيره، ويكون أبيض. وهذا غريب. وأغرب منه قول السهيليّ: إنه نبات لا ينبت إلا باليمن، وعزاه لأبي حنيفة الدِّينَوَريّ. وأغرب منه

(1)

"النهاية" 31/ 245.

ص: 298

قول الداوديّ: المراد بالثوب العصب الخضرة، وهي الْحِبَرَة، وليس له سلف في أن العصب الأخضر. انتهى

(1)

.

(وَلَا تَكْتَحِلُ) أي لا تستعمل الكحل (وَلَا تَمْتَشِطُ) أي لا تسرّح شعرها بالْمُشط. يقال: مَشَطتُ الشعر مَشْطًا، من بابي قتل، وضرب: سَرَّحْتُهُ، والتثقيل مبالغة. وامتشطت المرأةُ: مشَطتْ شعرها، والْمُشط الذي يُمْشَط به بضمّ الميم، وتميم تكسرها، وهو القياس؛ لأنه آلة، والجمع أمشاط. قاله الفيّوميّ (وَلَا تَمَسُّ) بفتح الميم، وضمها، يقال: مَسِسْتُهُ مَسًّا، من باب تَعِبَ، وفي لغة من باب قتل: أفضيتُ إليه بيدي من غير حائل. قاله الفيّوميّ (طِيبًا، إِلاَّ عِنْدَ طُهْرِهَا، حِينَ تَطْهُرُ، نُبَذًا) وفي نسخة: "نُبْذة". و"النُّبَذُ" -بضمّ أوله، وفتح ثالثه-: جمع نُبْذة -بضم، فسكون-: ومعناها القطعة. قال القرطبيّ: قال القاضي أبو الفضل: النبذة: الشيء اليسير، وأدخل فيه الهاء؛ لأنه بمعنى القطعة.

(مِنْ قُسْطٍ، وَأَظْفَارٍ") قال ابن الأثير: الْقُسط: ضرب من الطيب. وقيل: هو العود.

والقسط عقارٌ معروفٌ في الأدوية طيّب الريح، تبخّر به النساء والأطفال، وهو أشبه بالحديث؛ لإضافته إلى الأظفار

(2)

. قال: و"الأظفار": جنس من الطيب، لا واحد له من لفظه. وقيل: واحده ظفر. وقيل: هو شيء من العطر أسود. والقطعة منه شَبيهةٌ بالظفر انتهى

(3)

.

وقال النوويّ: القُسط والأظفار: نوعان معروفان من الْبَخُور، وليسا من مقصود الطيب، رُخّص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة، تتبع به أثر الدم، لا للتطيّب. وقال الحافظ: المقصود من التطيّب بهما أن يُخلطا في أجزاء أُخر من غيرهما، ثم تُسحَق، فتصير طيبًا، والمقصود بهما هنا -كما قال الشيخ- أن تتبع بهما أثر الدم؛ لإزالة الرائحة، لا للتطيّب. وزعم الداودي أن المراد أنها تسحق القسط، وتُلقيه في الماء آخر غسلها؛ لتذهب رائحة الحيض. وردّه عياضٌ بأن ظاهر الحديث يأباه، وأنه لا يحصل منه رائحة طيّبة، إلا من التبخّر به. كذا قال. وفيه نظر انتهى

(4)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ: وإنما رُخّص لها في هذا؛ لقطع الروائح الكريهة، والتنظيف، لا على معنى التطيّب، مع أن القسط والأظفار ليس من مؤنّث الطيب

(1)

"فتح" 15/ 615 - 616. "كتاب الطلاق".

(2)

"النهاية" 4/ 60.

(3)

"النهاية" 3/ 157.

(4)

"فتح" 10/ 616.

ص: 299

المستعمل نفسه في ذلك. وظاهره أنها تتبخرت بذلك. وقال الداوديّ: تَسْحَقُ القُسْطَ والأَظفارَ، وتُلقيه في الماء آخر غسلها، والأول أظهر؛ لأن القسط والأظفار لا يحصل منهما شيء إلا من بَخُورهما، ويقال: قُسط -بالقاف، والكاف- وأكثر ما يُستعمل القُسط، والأظفار مع غيرهما فيما يُتبخّر به، لا بمجرّدهما انتهى. ووقع في كتاب البخاريّ:"قسط أظفار"، وهو خطأ، إذ لا يضاف أحدهما للآخر؛ لأنهما لا نسبة بينهما. وعند بعضهم:"قسط ظفار" وهذا له وجهٌ، فإن ظَفَارِ مدينة باليمن، نُسب إليها الْقُسْط، وما في مسلم أحسن. قال: وعلى هذا فينبغي ألا يُصرف للتعريف والتأنيث، ويكون كـ "حَذَامِ"، و"قَطَامِ"، أو يكون مبنيًّا على الكسر، على القول الثاني في "حذام"، و"قطام". انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أم عطيّة - رضي اللَّه تعالى عنها - متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-64/ 3561 و 65/ 3563 و 68/ 3569 - وفي "الكبرى" 64/ 5728 و 65/ 5730 و 68/ 5736. وأخرجه (خ) في "الحيض" 313 و"الجنائز" 1279 و5340 و5341 و 5343 (م) في "الطلاق" 938 (د) في "الطلاق" 2352 (ق) في "الطلاق" 2087 "أحمد" في "مسند البصريين" 20270 و"مسند القبائل" 26759 (الدارمي) في "الطلاق" 2286. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما تجتنبه الحادّة من الثياب الْمُصَبّغَة. (ومنها): جواز لبس الثوب المعصوب، أي الذي ربط غزله، ثم صُبغ، ونُسج. (ومنها): وجوب الإحداد على الزوج المتوفّى. (ومنها): أن مدة الإحداد أربعة أشهر وعشر. (ومنها): عدم جواز الاكتحال والامتشاط للحادّة. (ومنها): عدم استعمال الطيب، إلا شيئًا يسيرًا من القسط عند طهارتها من المحيض. (ومنها): أنه يؤخذ من مفهومه جواز لبس ما ليس بمصبوغ، من الثياب البيض، ونحوها. (ومنها): أنه يدلّ على جواز استعمال ما فيه منفعة لها، من جنس ما مُنِعت منه، إذا لم يكن

(1)

"المفهم" 4/ 289 - 290.

ص: 300

للتزيّن،، أو التطيّب، كالتدهّن بالزيت في شعر الرأس، أو غيره

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم فيما تجتنبه الحادّة من اللباس:

قال الإمام ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادّة لبس الثياب المعصفرة، ولا المصبّغة، إلا ما صُبغ بسواد، فرخّص في المصبوغ بالسواد عروة بن الزبير، ومالكٌ، والشافعيّ، وكرهه الزهريّ، وكره عروة العصب، وأجازه الزهريّ،. وأجاز مالك غليظه. قال النوويّ: والأصحّ عند أصحابنا تحريمه مطلقًا، وهذا الحديث حجة لمن أجازه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: معلوم لدى كلّ منصف أن من كان الحديث حجته، حجّ خصمه، فمن أيّده الحديث من الرجال، لا يستطيع أن يقاومه ألف أبطال.

قال ابن المنذر: رخّص العلماء في الثياب البيض، ومنع بعض متأخري المالكيّة البيض الذي يتزيّن به، وكذلك جيّد السواد. وجوّز الشافعيّة كلّ ما صبغ، ولا تقصد منه الزينة، ويجوز لها لبس الحرير في الأصحّ، ويحرم حليّ الذهب والفضّة، وكذلك اللؤلؤ، وفي اللؤلؤ وجه أنه يجوز. قاله النوويّ

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تحريم أنواع الحليّ عليها هو الصواب، لما أخرجه أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "سننه"، بإسناد صحيح: من طريق الحسن بن مسلم، عن صفيّة بنت شيبة، عن أم سلمة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"المتوفى عنها زوجها، تلبس المعصفر من الثياب، ولا الْمُمَشَّقَة، ولا الْحُلِيّ، ولا تختضب، ولا تكتحل". وهو الحديث الآتي للمصنّف بعد هذا، لكن ليس فيه "ولا الحليّ".

والحاصل أنها تمتنع من أنواع الطيب، إلا قطعة من القسط عند اغتسالها من محيضها، ولا تلبس الثياب المصبوغة، إلا المعصوب، فيجوز لها لبسه، ولا المعصفر، ولا تلبس الممشَّقة، أي المصبوغة بالمشق، وهو المغرة

(3)

، ولا تستعمل الخضاب بالحناء وغيره، ولا الاكتحال، ولا تلبس أنواع الحليّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3562 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي بُدَيْلٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفِيَّةَ

(1)

"فتح" 10/ 616.

(2)

"شرح مسلم" 10/ 355 - 356.

(3)

"المغرة" بفتح الميم، والغين، وتسكّن تخفيفًا: الطين الأحمر. قاله في "المصباح".

ص: 301

بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَابِ، وَلَا الْمُمَشَّقَةَ، وَلَا تَخْتَضِبُ، وَلَا تَكْتَحِلُ» ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) المعروف أبوه بابن عُليّة البصريّ، نزيل دمشق، وقاضيها، ثقة [10] 22/ 479.

2 -

(يحيى بن أبي بُكير) واسم أبيه نَسْر: هو الكرمانيّ، كوفيّ الأصل، نزيل بغداد، ثقة [9] 115/ 1066.

3 -

(إبراهيم بن طهمان) أبو سعيد الخراسانيّ، سكن نيسابور، ثم مكة، ثقة يُغرب، وتكلّم فيه بالإرجاء، ويقال: إنه رجع عنه [7] 7/ 409.

4 -

(بُديل) -مصغّرًا -: هو ابن ميسرة العُقَيليّ البصريّ، ثقة [5] 55/ 859.

5 -

(الحسن بن مسلم) بن يَنّاق -بفتح التحتانيّة، وتشديد النون-: هو المكيّ الثقة [5] 61/ 2574.

6 -

(صفيّة بنت شيبة) بن عثمان بن أبي طلحة العبدريّة، لها سماع من النبيّ صلى الله عليه وسلم، على ما أثبته البخاريّ في "صحيحه" 159/ 251.

7 -

(أم سلمة) هند بنت أبي أميّة المخزوميّة، أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى - عنها 123/ 183. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وصحابيّة، عن صحابيّة؛ لأن الأصحّ أن صفيّة لها صحبة، وإلا ففيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أمية المخزوميّة، أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها - (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَاب)"المعصفَر": اسم مفعول من عَصْفَرتُ الثوبَ: إذا صبغتَه بالعُصْفُر، وهو بضم العينَ المهملة، والفاء، بينهما صاد مهملة ساكنة: نبتٌ معروف يصبغ به (وَلَا الْمُمَشَّقَةَ) بفتح الشين المعجمة المشدّدة، على صيغة اسم المفعول، من التفعيل: المصبوغ بطين أحمر، يسقى المِشْقَ، والتأنيث باعتبار موصوفها الثياب. قاله السنديّ. وقال الفيّوميّ:

ص: 302

الْمِشْقُ وزان حِمْلٍ: الْمَغرَةُ، وأمشقتُ الثوبَ إمشاقًا: صبغتُه بالمِشْقِ، وقالوا: ثوبٌ ممشَقٌ بالتثقيل، والفتح، ولم يذكروا فعله. وقال أيضًا: الْمَغَرَةُ: الطين الأحمر، بفتح الميم، والغين، والتسكين تخفيفٌ، والأمغر في الخيل: الأشقر انتهى.

زاد في رواية أبي داود: "ولا الحليّ". وهو بضم أوله، وكسر اللام، وتشديد الياء، جمع حَلْي، كفلس وفُلُوس، أو الحَلْي جمع، واحده حَلْيَةٌ، كظَبْيَةٍ: ما يُتَزَيَّن به من مصوغ المعدنيّات، أو الحجارة. أفاده في "القاموس".

(وَلَا تَخْتَضِبُ) أي لا تلوّن يدها، وغيرها بالحنّاء ونحوه (وَلَا تَكْتَحِلُ) أي لا تستعمل الكحل، وذكر في "القاموس" "الكحل" بالضمّ: الإثمِد، كالكحال، ككتاب، وكلُّ ما وُضِع في العين يُستشفَى به، وكحلُ السودان الْبَشْمَةُ، وكحلُ فارس: الأَنْزروتُ، وكحل خَوْلانَ الخُضُضُ انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا صحيح.

[تنبيه]: ضعّف ابن حزم هذا الحديث، وقال: لا يصحّ لأجل إبراهيم بن طهمان، فإنه ضعيف انتهى. وقد أخطأ في هذا، فإن إبراهيم من رجال "الصحيحين"، ومن تكلّم فيه إنما تكلّم لأجل الإرجاء، ويقال: إنه رجع عنه، فالحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-64/ 3562 - وفي "الكبرى" 64/ 5729. وأخرجه (د) في "الطلاق" 2304 (أحمد) 6/ 302. (البيهقيّ) 7/ 440. (ابن حبّان) في "صحيحه" 1328.

وقد سبق بيان فوائد الحديث ومذاهب العلماء في الحديث الذي قبله. وللَّه الحمد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 303

‌65 - (بَابُ الْخِضَابِ لِلْحَادَّةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قال في "القاموس": خَضَبَهُ يَخضِبه -بكسر الضاد-: لوّنه، كخَضَّبَه -بالتشديد- انتهى. وقال في "اللسان": الخِضابُ -بالكسر-: ما يُختضَب به من حِنّاء، وكَتَم، ونحوه. واختضب بالحنّاء، ونحوه، وخضَبَ الشيءَ يَخضبه خَضْبًا -من باب ضرب- وخضّبه -بالتشديد: غير لونه بحمرة، أو صفرة، أو غيرهما. قال الأعشى:[من الطويل]:

أَرَى رَجُلًا مِنْكُمْ أَسِيفًا كَأَنَّمَا

يَضُمُّ إِلَى كَشْحَيْهِ كَفًّا مُخَضَّبَا

واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3563 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ، تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ، فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَخْتَضِبُ، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن منصور": هو الجوّاز المكيّ الثقة، من أفراد المصنّف. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"عاصم": هو ابن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ الثقة [4].

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق البحث فيه مستوفًى في الباب الماضي، واستدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- به على ما ترجم له واضحٌ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌66 - (بَابُ الرُّخْصَةِ لِلْحَادَّةِ أَنْ تَمْتَشِطَ بِالسِّدْرِ)

3564 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ الضَّحَّاكِ، يَقُولُ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ

ص: 304

أَسِيدٍ، عَنْ أُمِّهَا أَنَّ زَوْجَهَا تُوُفِّيَ، وَكَانَتْ تَشْتَكِي عَيْنَهَا، فَتَكْتَحِلُ الْجِلَاءَ، فَأَرْسَلَتْ مَوْلَاةً لَهَا، إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَسَأَلَتْهَا عَنْ كُحْلِ الْجِلَاءِ، فَقَالَتْ: لَا تَكْتَحِلُ، إِلاَّ مِنْ أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ، دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ، وَقَدْ جَعَلْتُ عَلَى عَيْنِي صَبِرًا، فَقَالَ:«مَا هَذَا، يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟» ، قُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ صَبِرٌ، يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ، قَالَ:«إِنَّهُ يَشُبُّ الْوَجْهَ، فَلَا تَجْعَلِيهِ إِلاَّ بِاللَّيْلِ، وَلَا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ، وَلَا بِالْحِنَّاءِ، فَإِنَّهُ خِضَابٌ» ، قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ، أَمْتَشِطُ، يَا رَسُولَ اللهِ؟ ، قَالَ:«بِالسِّدْرِ، تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ» ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أحمد بن عمرو بن السرح) أبو الطاهر المصريّ، ثقة [10] 35/ 39.

2 -

(ابن وهب) هو عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقة ثبت عابد [9] 9/ 9.

3 -

(مخرمة) بن بُكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ، أبو الْمِسْوَر المدنيّ، صدوق، وروايته عن أبيه وجادة من كتابه، قاله أحمد، وابن معين، وغيرهما. وقال ابن المدينيّ: سمع من أبيه قليلًا [7] 28/ 438.

4 -

(أبوه) بُكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ، المدنيّ، نزيل مصر، ثقة [5] 135/ 211.

5 -

(المغيرة بن الضحّاك) بن عبد اللَّه بن خالد بن حِزَام القرشيّ الأسديّ الحزاميّ المدنيّ، مقبول [6] ، لم يرو عنه غير بُكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ، وذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرد به المصنّف، وأبو داود، وله عندهمما حديث الباب فقط.

6 -

(أمّ حكيم بنت أَسِيد) لا يعرف حالها [6]. تفرد بها المصنّف، وأبو داود بحديث الباب فقط.

7 -

(أمها) مجهولة.

8 -

(أم سلمة) - رضي اللَّه تعالى عنها - المذكورة قبل باب. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أُم حَكِيم بنت أسيد) بفتح الهمزة، وكسر السين (عَنْ أُمِّهَا) لا يُعرف اسمها، ولا حالها (أَنَّ زَوْجَهَا تُوُفِّيَ، وَكَانَتْ تَشْتَكِي عَيْنَهَا) وفي رواية أبي داود: "عينيها" بالتثنية (فَتَكْتَحِلُ الْجِلَاءَ) بكسر الجيم، والمدّ. قال الخطّابيّ: كُحل الجِلاء: هو الإثمد، وسُمّي جِلاءَ؛ لأنه يجلو البصر انتهى. وقال ابن الأثير: هو بالكسر والمدّ: الإثمد. وقيل: هو بالفتح، والمدّ، والقصر: ضرب من الكُحل، فأما الْحُلاءُ -بضمّ الحاء المهملة، والمدّ: فَحُكاكة حَجَر على حجر، يُكتَحَل بها، فيتأذّى البصر، والمراد في

ص: 305

الحديث الأول انتهى

(1)

(فَأَرْسَلَتْ مَوْلَاةً لَهَا، إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (فَسَأَلَتْهَا عَنْ كُحْلِ الْجِلَاءِ) أي عن حكم استعماله (فَقَالَتْ: لَا تَكْتَحِلُ، إِلاَّ مِنْ أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنهُ) فيه دليلٌ على أنَّ الاكتحال يجوز للضرورة، وهو مخالف للأحاديث الصحيحة المتقدّمة، من أنه صلى الله عليه وسلم نهى تلك المرأة عن أن تكحل بنتها للضرر، لكن الحديث ضعيف، كما سيأتي (دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ) عبد اللَّه بن عبد الأسد المخزوميّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، توفّي في جمادى الآخرة بعد أحد (وَقَد جَعَلْتُ عَلَى عَيْنِي صَبْرًا) قال الفيّوميّ: الصَّبِر: الدواء الْمُرُّ بكسر الباء في الأشهر، وسكونها للتخفيف لغة قليلة. ومنهم من قال: لم يُسمع تخفيفه في السَّعَة. وحكى ابن سِيدَه في "كتاب مُثلّث اللغة" جواز التخفيف، كما في نظائره بسكون الباء مع فتح الصاد، وكسرها، فيكون فيه ثلاث لغات. انتهى (فَقَالَ:"مَا هَذَا، يَا أُمِّ سَلَمَةَ؟ ") أي ما هذا التلطّخ، وأنت في العدّة؟، قاله إنكارًا عليها (قُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ صَبْرٌ، يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ) أي إنه دواء محضٌ، ولم أستعمله للتطيّب (قَالَ:"إِنَّهُ يَشُبُّ الْوَجْهَ) - بفتح أوله، وضمّ ثانيه، وتشديد الموحّدة- من شبّ النار: إذا أوقدها، فتلألأت ضياء ونورًا: أي يضيء الوجه، ويزيد في لونه (فَلَا تَجْعَلِيهِ، إِلاَّ بِاللَّيلِ) زاد في رواية أبي داود: "وتنزعيه بالنهار" (وَلَا تَمْتَشِطِي بِالطيبِ) قال الطيبيّ: حال من "المشط"؛ لأن التقدير: لا تستعملي المشط مطيّبًا، وكذا قوله: "بالسدر" انتهى (وَلَا بِالْحِنَّاءِ، فَإِنَّهُ خِضَابٌ، قُلتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ، أَمتَشِطُ، يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ: "بِالسِّدْرِ) أي امتشطي به.

قال الشوكانيّ: فيه دليلٌ على أنه لا يجوز للمرأة أن تمتشط بشيء من الطيب، أو بما فيه زينة، كالحنّاء، ولكنّها تمتشط بالسدر انتهى

(2)

. (تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ) -بضمّ التاء، وكسر اللام المشدّدة، من التغليف: أي تكثرين منه على شعرك، حتى يصير غلافًا له، كتغطية الغلاف المغلوف. وقال الشوكانيّ: الغلاف في الأصل: الغشاوة، وتغليف الرأس أن يجعل عليه من الطيب، أو السدر ما يشبه الغلاف، قال في "القاموس": تغلّف الرجلُ، واغتلف حصل له غلاف انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

"النهاية" 1/ 290.

(2)

"نيل الأوطار" 6/ 315.

(3)

"نيل الأوطار" 6/ 315 - 316.

ص: 306

حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا ضعيف؛ لجهالة أم حكيم، وأمها.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-66/ 3564 - وفي "الكبرى" 66/ 5731 وأخرجه (د) في "الطلاق"2305. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌67 - (النَّهْيُ عَنِ الْكُحْلِ لِلْحَادَّةِ)

3565 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ -وَهُوَ ابْنُ مُوسَى- قَالَ حُمَيْدٌ: وَحَدَّثَتْنِي زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَتِي رَمِدَتْ، أَفَأَكْحُلُهَا؟ ، وَكَانَتْ مُتَوَفًّى عَنْهَا، فَقَالَ: «أَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» ، ثُمَّ قَالَتْ: إِنِّي أَخَافُ عَلَى بَصَرِهَا، فَقَالَ: «لَا، إِلاَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، تَحِدُّ عَلَى زَوْجِهَا سَنَةً، ثُمَّ تَرْمِي عَلَى رَأْسِ السَّنَةِ بِالْبَعْرَةِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، "الربيع بن سليمان" المراديّ المؤذّن المصريّ، فإنه من رجال الأربعة، وهو ثقة. و"حميد": هو ابن نافع الآتي في السند التالي.

وقوله: "رَمِدت" -بفتح الراء، وكسر الميم- من باب تَعِبَ. والرمَدُ بالتحريك: هَيَجان العين. قاله في "القاموس".

وقوله: "أفأكحلها" بضم الحاء المهملة، من باب قتل.

وقوله: "ألا أربعة أشهر وعشرًا" -بفتح الهمزة، وتخفيف اللام- هي أداة تحضيض، و"أربعة الخ" منصوب بفعل مقدّر، أي ألا تصبر هذه المدة التي خُفّفت عن الحول، المخفّف عما عليه أهل الجاهليّة.

وقوله: "لا إلا أربعة أشهر وعشرًا" هي "لا" الناهية، و"إلاّ" الاستثنائيّة، أي لا تكحُليها إلا إذا أتقت هذه المدّة. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق الكلام عليه قريبًا.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر صنيع المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يقتضي أنه لا يرى الكحل للحادّة، ولو اضطرّت إليه، حيث أطلق الترجمة، وهو مذهب طائفة من أهل

ص: 307

العلم؛ لظاهر حديث الباب، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأذن لتلك المرأة مع أنها مضطرّة إلى ذلك، وذهب الجمهور إلى خلافه، فجوّزه للضرورة.

قال العلامة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-: قال طائفة من أهل العلم من السلف والخلف، منهم: أبو محمد ابن حزم: لا تكتحل، ولو ذهبت عيناها، ليلاً، ولا نهارًا، ويساعد قولَهم حديث أم سلمة المتّفق عليه: أن امرأة توفّي عنها زوجها، فخافوا على عينها، فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاستأذنوه في الكحل، فما أذن فيه، بل قال:"لا" مرّتين، أو ثلاثًا، ثم ذكر لهم ما كانوا يفعلونه في الجاهليّة من الإحداد البليغ سنة، ويصبرون على ذلك، أفلا يصبرون أربعة أشهر وعشرًا. ولا ريب أن الكحل من أبلغ الزينة، فهو كالطيب، أو أشدّ منه. وقال بعض الشافعيّة: للسوداء أن تكتحل. وهذا تصرّف مخالفٌ للنصّ، والمعنى، وأحكام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا تفرّق بين السُّود والبِيض، كما لا تفرّق بين الطوال والقصار، ومثل هذا القياس بالرأي الفاسد هو الذي اشتدّ نكير السلف له، وذمّهم إياه.

وأما جمهور العلماء، كمالك، وأحمد، وأبي حنيفة، والشافعيّ، وأصحابهم، فقالوا: إن اضطرّت إلى الكحل بالإثمد تداويًا، لا زينة، فلها أن تكتحل به ليلًا، وتمسحه نهارًا. وحجتهم حديث أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - المتقدّم في الباب الماضي، فإنها قالت في كحل الجلاء: لا تكتحل إلا لما لا بدّ منه، يشتدّ عليك، فتكتحلين بالليل، وتغسلينه بالنهار. قال: وذكر أبو عمر في "التمهيد" له طرقًا يشدّ بعضها بعضًا، ويكفي احتجاج مالك به، وأدخله أصحاب السنن في كتبهم، واحتجّ به الأئمة، وأقلّ درجاته أن يكون حسنًا.

ولكن حديثها هذا مخالفٌ في الظاهر لحديثها المسند المتّفق عليه، فإنه يدلّ على أن المتوفّى عنها لا تكتحل بحال، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأذن للمشتكية عينها في الكحل، لا ليلًا، ولا نهارًا، ولا من ضرورة، ولا غيرها، وقال:"لا" مرّتين، أو ثلاثًا، ولم يقل: إلا أن تضطَرّ. وقد ذكر مالك، عن نافع، عن صفيّة ابنة عبيد، أنها اشتكت عينها، وهي حادّ على زوجها عبد اللَّه بن عمر، فلم تكتحل حتى كادت عيناها تَرْمَصَان.

قال أبو عمر: وهذا عندي، وإن كان ظاهره مخالفا لحديثها الآخر؛ لما فيه من إباحته بالليل، وقوله في الحديث الآخر:"لا" مرّتين، أو ثلاثًا على الإطلاق أن ترتيب الحديثين -واللَّه أعلم- على أن الشكاة التي قال فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا" لم تبلغ - واللَّه أعلم- منها مبلغًا لا بدّ لها فيه من الكحل، فلذلك نهاها، ولو كانت محتاجةً مضطرّة، تخاف ذهاب بصرها، لأباح لها ذلك، كما فعل بالتي قال لها: "اجعليه بالليل،

ص: 308

وامسحيه بالنهار"، والنظر يشهد لهذا التأويل؛ لأن الضرورات تنقل المحظورات إلى حال المباح في الأصول، ولهذا جعل مالك فتوى أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - تفسيرًا للحديث المسند في الكحل؛ لأن أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - روته، وما كانت لتخالله إذا صحّ عندها، وهي أعلم بتأويله ومخرجه، والنظر يشهد لذلك؛ لأن المضطرّ إلى شيء لا يُحكم له بحكم المرفّه المتزيّن بالزينة، وليس الدواء، والتداوي من الزينة في شيء، وإنما نهيت الحادّة عن الزينة، لا عن التداوي، وأم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها - أعلم بما روت مع صحّته في النظر، وعليه أهل الفقه، وبه قال مالكٌ، والشافعيّ، وأكثر الفقهاء انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: إذا تأملت ما تقدّم لك بالإنصاف علمت أن ما قاله المانعون هو الحقّ؛ لأمرين:

[أحدهما]: ضعف حديث أم سلمة المذكور، وما تقدّم من تحسين ابن القيّم له فيه نظر لا يخفى.

[الثاني]: مخالفته لحديثها الصحيح المتفق عليه، مخالفة يكون الجمع بينهما تكلّفا باردا، وتعسفًا ماردًا.

فإن تلك المرأة ذكرت له صلى الله عليه وسلم أنها تخاف على عين ابنتها، إن لم تكحلها، فقال:"لا"، وكرر ذلك، فدلّ على أن الضرورة في هذا لا تبيح هذا المحظور.

على أن هذا المرض ليس مما يتعين دفعه بهذا المحظور، بل الأدوية كثيرة، فلولا أنه صلى الله عليه وسلم علم أنه لا يوجد له دواء إلا هذا لأباح لها.

والحاصل أن القول بعدم جواز الكحل مطلقًا هو الصواب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3566 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهَا، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَتْهُ عَنِ ابْنَتِهَا، مَاتَ زَوْجُهَا، وَهِيَ تَشْتَكِي، قَالَ: «قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَحِدُّ السَّنَةَ، ثُمَّ تَرْمِي الْبَعْرَةَ، عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عبد اللَّه بن يزيد": هو أبو يحيى المقرئ المكيّ. و"سفيان": هو ابن عيينة. و"يحيى بن سعيد": هو الأنصاريّ.

والحديث متّفق عليه، وقد سبق البحث فيه مستوفًى قريبًا. واللَّه تعالى أعلم

(1)

"زاد المعاد" 5/ 702 - 704.

ص: 309

بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3567 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْدَانَ بْنِ عِيسَى بْنِ مَعْدَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَعْيَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، مَوْلَى الأَنْصَارِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ، جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدْ خِفْتُ عَلَى عَيْنِهَا، وَهِيَ تُرِيدُ الْكُحْلَ، فَقَالَ: «قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ، تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» ، فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ: مَا رَأْسُ الْحَوْلِ؟ قَالَتْ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِذَا هَلَكَ زَوْجُهَا، عَمَدَتْ إِلَى شَرِّ بَيْتٍ لَهَا، فَجَلَسَتْ فِيهِ، حَتَّى إِذَا مَرَّتْ بِهَا سَنَةٌ، خَرَجَتْ، فَرَمَتْ وَرَاءَهَا بِبَعْرَةٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن معدان بن عيسى بن معدان": هو الحرّانيّ، ثقة [12] 16/ 649، من أفراد المصنّف.

و"ابن أعين": هو الحسن بن محمد بن أعين، نسب لجدّه، أبو عليّ الحرّانيّ، صدوق [9] 16/ 649.

وقوله: "عَمَدَت" أي قصدت، يقال: عَمَدتُ للشيء عَمْدًا، وعَمَدتُ إليه، من باب ضرب: قصدتُ، وتعمّدتُهُ: قصدت إليه أيضًا. قاله الفيّوميّ.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم القول فيه غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3568 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ أُمَّ سَلَمَةَ، وَأُمَّ حَبِيبَةَ، أَتَكْتَحِلُ فِي عِدَّتِهَا مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا، فَقَالَتْ: أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ؟ ، فَقَالَ: «قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، أَقَامَتْ سَنَةً، ثُمَّ قَذَفَتْ خَلْفَهَا بِبَعْرَةٍ، ثُمَّ خَرَجَتْ، وَإِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، حَتَّى يَنْقَضِيَ الأَجَلُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "حماد": هو ابن زيد. و"يحيى": هو الأنصاريّ.

وقوله: "فقالت" أي قالت كل واحدة منهما. وقوله: "حتى ينقضي الأجل" أي تصبر إلى انقضاء الأجل المضروب شرعًا على المتوفّى عنها زوجها.

والحديث متفق عليه، وقد سبق غير مرّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 310

‌68 - (الْقُسْطُ، والأَظْفَارُ لِلْحَادَّةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "القُسْط" -بالضمّ-: عُود يُتبخّر به، لغةٌ في الكُسْط. وقال الليث: القُسْطُ عُود يُجاءُ به من الهند، يُجعل في الْبَخُور والدواء، قال أبو عمرو يقال لهذا البخور قُسْطٌ، وكُسْطٌ، وكُشْطٌ، وأنشد ابن بَرِّيّ لبشر بن أبي خازم:

وَقَدْ أُوقِرْنَ مِنْ زَبَدِ وَقُسْطٍ

وَمِنْ مِسْكٍ أَحَمَّ وَمِن سَلَامِ

قاله في "لسان العرب"

(1)

.

وقال ابن الأثير: "القُسْط": ضرب من الطيب. وقيل: هو العُود. و"القُسط": عَقَّار معروف في الأدوية، طيب الريح، تُبخّر به النفساء، والأطفال. وهو أشبه بالحديث؛ لإضافته إلى الأظفار. انتهى

(2)

.

و"الأظفار" -بفتح الهمزة-: جنس من الطيب، لا واحد له من لفظه. وقيل: واحده ظُفْر، وهو شيء من العطر، أسود، والقطعة منه شبيهة بالظفر. قاله الأزهريّ. وقال ابن سِيده: الظُّفْر ضَرب من العود أسود مُقْتَلَفٌ من أصله على شكل ظُفر الإنسان، يوضع في الدُّخْنَة

(3)

، والجمع أظفار، وأظافير. وقال صاحب "العين": لا واحد له من لفظه. انتهى

(4)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3569 -

(أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ -هُوَ الدُّورِيُّ- قَالَ: حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا، عِنْدَ طُهْرِهَا، فِي الْقُسْطِ، وَالأَظْفَارِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "العبّاس بن محمد الدُّوريُّ": هو أبو الفضل البغداديّ، خُوَارَزْميّ الأصل، ثقة حافظ [11] 102/ 135. من رجال الأربعة.

و"الأسود بن عامر": هو أبو عبد الرحمن الشاميّ، نزيل بغداد، الملقّب بشاذان، ثقة [9] 7/ 407.

و"زائدة": هو ابن قُدامة الثقفيّ، أبو الصلت الكوفيّ، ثقة ثبت [7] 74/ 91.

و"هشام": هو ابن حسان المتقدّم قبل ثلاثة أبواب. و"حفصة": هي بنت سيرين

(1)

"لسان العرب" 7/ 379.

(2)

"النهاية" 4/ 60.

(3)

بضمّ، فسكون، وزان غُرْفة: بَخُورٌ، كالذَّريرة، يدخن بها البيوت. قاله في "المصباح".

(4)

"لسان العرب" 4/ 518.

ص: 311

تقدمت قبل بابين.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم قبل ثلاثة أبواب، ودلالته على الترجمة واضحة.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌69 - (بَابُ نَسْخِ مَتَاعِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِمَا فُرِضَ لَهَا مِنَ الْمِيرَاثِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أراد بمتاع المتوفّى عنها هنا ما دلّت عليه الآية من الوصيّة لها بالسكنى إلى تمام الحول. يعني أن تمتع الأزواج بالسكنى التي يوصي بها الزوج المتوفى منسوخ بما فرض اللَّه تعالى لها من نصيبها من الميراث، وهو الربع، أو الثمن، على ما يأتي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3570 -

(أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السِّجْزِيُّ، خَيَّاطُ السُّنَّةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ النَّحْوِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} ، نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، مِمَّا فُرِضَ لَهَا مِنَ الرُّبُعِ، وَالثُّمُنِ، وَنَسَخَ أَجَلَ الْحَوْلِ، أَنْ جُعِلَ أَجَلُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "خيّاط السنّة": لقب شيخ المصنّف -رحمهما اللَّه تعالى-، لُقب به؛ لأنه كان يَخِيط أكفان أهل السنّة. قاله الخزرجيّ في "الخلاصة" ص 122. وهو السِّجْزيّ -بكسر، فسكون- نزيل بغداد، ثقة حافظ [12] 189/ 1161 من أفراد المصنّف. و"إسحاق": هو ابن راهويه.

وقوله: "نُسخ ذلك بآية الميراث" ببناء الفعل للمفعول، يعني أن الوصيّة بالمتاع للأزواج نُسخ بنصيبهنّ من الميراث، وذلك الربع عند عدم الفرع الوارث، والثمن عند وجوده.

وقوله: "ونُسخ أجل الحول الخ" ببناء الفعل للمفعول أيضًا. يعني أنه كما نسخ الوصيّة بآية الميراث، كذلك نُسخ الأجل المحدود بالحول في عدّة المتوفّى عنها زوجها

ص: 312

بأربعة أشهر وعشر.

والحاصل أن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - بين في كلامه هذا أن ما دلّت عليه هذه الآية من الوصيّة للأزواج، ووجوب العدّة حولًا قد نسخ، فالأول نُسخ بآية الميراث، حيث قال اللَّه تعالى:{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} الآية [النساء: 12]. والثاني نسخ بأربعة أشهر وعشر، كما قال اللَّه تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} الآية [البقرة: 234]. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث أخرجه البخاريّ، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله في -61/ 3558 - واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مما يناسب هذا الباب البحثُ عن متعة المطلقة، التي أمر اللَّه تعالى بها في قوله:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} الآية [البقرة: 236] وفيه مسائل:

(المسألة الأولى): في اختلاف أهل العلم في الأمر المذكور في هذه الآية الكريمة: قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تفسيره": حمله ابن عمر، وعليّ بن أبي طالب، والحسن بن أبي الحسن، وسعيد بن جبير، وأبو قلابة، والزهريّ، وقتادة، والضحّاك بن مزاحم على الوجوب.

وحمله أبو عبيدة، ومالك بن أنس، وأصحابه، والقاضي شُريحٌ، وغيرهم على الندب.

تمسّك أهل القول الأول بمقتضى الأمر. وتمسّك أهل القول الثاني بقوله تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} ، و {عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين.

والقول الأول أولى؛ لأن عمومات الأمر بالإمتاع في قول: {متّعوهنّ} ، وإضافة الإمتاع إليهنّ بلام التمليك في قوله:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} أظهر في الوجوب منه في الندب، وقوله:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} تأكيد لإيجابها؛ لأن كلّ واحد يجب عليه أن يتّقي اللَّه في الإشراك به ومعاصيه؛ وقد قال تعالى في القرآن: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} . انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي مال إليه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- من ترجيح القول بالوجوب هو الذي يظهر لي؛ لما ذكره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب،

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 200.

ص: 313

وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في المرأة التي تستحقّ المتعة:

قال القرطبي أيضًا: واختلفوا في الضمير المتصل بقوله: {وَمَتِّعِوُهُنَّ} مَن المراد به من المطلّقات؟:

فقال ابن عبّاس، وابن عمر، وجابر بن زيد، والحسن، والشافعيّ، وأحمد، وعطاء، وإسحاق، وأصحاب الرأي: المتعة واجبة للمطلّقة قبل البناء والفرض، ومندوبة في حقّ غيرها.

وقال مالك، وأصحابه: المتعة مندوب إليها في كلّ مطلّقة، وإن دُخل بها، إلا في التي لم يُدخل بها، وقد فُرض لها، فحسبُها ما فُرض لها، ولا متعة لها. وقال أبو ثور: لها المتعة، ولكلّ مطلّقة.

وأجمع أهل العلم على أن التي لم يُفرض لها، ولم يُدخل بها لا شيء لها غيرُ المتعة.

وهذا الإجماع إنما هو في الحرّة، فأما الأمة إذا طُلّقت قبل الفرض والمسيس فالجمهور على أن لها المتعة. وقال الأوزاعيّ، والثوريّ: لا متعة لها؛ لأنها تكون لسيّدها، وهو لا يستحقّ مالًا في مقابلة تأذي مملوكته بالطلاق انتهى كلام القرطبيّ باختصار

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور من وجوب المتعة للأمة هو الأرجح؛ لعموم الآية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في مقدار المتعة:

قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قد اختلف الناس في هذا، فقال ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: أدنى ما يُجزىء في المتعة ثلاثون درهمًا. وقال ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -: أرفع المتعة خادمٌ، ثم كسوة، ثم نفقة. وقال عطاء: أوسطها الدرع، والخمار، والمِلْحفة. وقال أبو حنيفة: ذلك أدناها. وقال ابن مُحيريز: على صاحب الديوان ثلاثة دنانير، وعلى العبد المتعة. وقال الحسن: يُمتِّع كلٌّ بقدره، هذا بخادم، وهذا بأثواب، وهذا بثوب، وهذا بنفقة، وكذلك يقول مالك بن أنس، وهو مقتضى القرآن، فإن اللَّه سبحانه وتعالى لم يقدّرها، ولا حدّدها، وإنما قال:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} .

ومتّع الحسن بن عليّ بعشرين ألفًا، وزِقاق من عسل. ومتّع شُريحٌ بخمسمائة درهم. وقد قيل: إن حالة المرأة معتبرة أيضًا، قاله بعض الشافعيّة، قالوا: لو اعتبرنا حال

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 200 - 201.

ص: 314

الرجل وحده لزم منه أنه لو تزوّج امرأتين: إحداهما شريفة، والأخرى دنيئة، ثم طلّقهما قبل المسيس، ولم يُسمّ لهما أن تكونا متساويتين في المتعة، فيجب للدنيّة ما يجب للشريفة، وهذا خلاف ما قال اللَّه تعالى:{مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} . ويلزم منه أن الموسر العظيم اليسار إذا تزوّج امرأة دنية أن يكون مثلها؛ لأنه إذا طلّقها قبل الدخول والفرض لزمته المتعة على قد حاله ومهرُ مثلها، فتكون المتعة على هذا أضعاف مهر مثلها، فتكون قد استحقّت قبل الدخول أضعاف ما تستحقّه بعد الدخول من مهر المثل الذي فيه غاية الابتذال، وهو الوطء.

وقال أصحاب الرأي وغيرهم: متعة التي تطلّق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها، لا غير؛ لأن مهر المثل مستَحَقٌّ بالعقد، والمتعة هي بعض مهر المثل، فيجب لها كما يجب نصف المسمّى إذا طلّقت قبل الدخول. وهذا يردّه قوله تعالى:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} ، وهذا دليلٌ على رفض التحديد، واللَّه تعالى بحقائق الأمور عليم انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يترجّح عندي أن المتعة تعتبر بحال الزوج، كما هو نصّ القرآن الكريم، وأنها لا تُحدّد بشيء معين، لا قدرًا، ولا جنسًا، ولا نوعًا، بل يترك ذلك لاستطاعة الزوج، ومقدرته، كما هو مقتضى نصّ الآية أيضًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌70 - (الرُّخْصَةُ فِي خُرُوجِ الْمَبْتُوتَةِ مِنْ بَيْتِهَا فِي عِدّتِهَا لِسُكْنَاهَا)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: استدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بالحديث على الترجمة واضحٌ، فإنه يدلّ على جواز خروج المطلّقة طلاقًا بائنًا من بيتها، وسيأتي تمام البحث في هذه المسألة بعد بابين، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3572 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ،

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 201 - 202.

ص: 315

عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَاصِمٍ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ، أَخْبَرَتْهُ، وَكَانَتْ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَخَرَجَ إِلَى بَعْضِ الْمَغَازِي، وَأَمَرَ وَكِيلَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا بَعْضَ النَّفَقَةِ، فَتَقَالَّتْهَا، فَانْطَلَقَتْ إِلَى بَعْضِ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ عِنْدَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، طَلَّقَهَا فُلَانٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِبَعْضِ النَّفَقَةِ، فَرَدَّتْهَا، وَزَعَمَ أَنَّهُ شَيْءٌ تَطَوَّلَ بِهِ، قَالَ:«صَدَقَ» ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«فَانْتَقِلِي إِلَى أُمِّ كُلْثُومٍ، فَاعْتَدِّي عِنْدَهَا» ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ، امْرَأَةٌ يَكْثُرُ عُوَّادُهَا، فَانْتَقِلِي إِلَى عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ أَعْمَى» ، فَانْتَقَلَتْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَاعْتَدَّتْ عِنْدَهُ، حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ خَطَبَهَا أَبُو الْجَهْمِ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، تَسْتَأْمِرُهُ فِيهِمَا، فَقَالَ:«أَمَّا أَبُو الْجَهْمِ، فَرَجُلٌ أَخَافُ عَلَيْكِ قَسْقَاسَتَهُ لِلْعَصَا، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ، فَرَجُلٌ أَمْلَقُ مِنَ الْمَالِ» ، فَتَزَوَّجَتْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ بَعْدَ ذَلِكَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد الحميد بن محمد": هو أبو عمر الحرّانيّ، ثقة [11] 22/ 932 من أفراد المصنّف.

و"مَخْلد": هو ابن يزيد القرشيّ الحرّانيّ، صدوقٌ، له أوهامٌ، من كبار [9] 141/ 222.

و"عطاء": هو ابن أبي رباح.

و"عبد الرحمن بن عاصم" بن ثابت الحجازيّ، مقبول [3].

روى عن فاطمة بنت قيس، وعنه عطاء بن أبي رباح، ذكره ابن حبّان في "الثقات".

تفرّد به المصنّف بحديث الباب فقط.

وقوله: "إلى بعض مغازيه" قد تبيّن في رواية أخرى أنه خرج مع عليّ رضي الله عنه حيث بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن.

وقوله: "فتقالّتها" أي اعتبرتها قليلة، لا تتناسب مع شرفها، ولا تسدّ حاجتها.

وقوله: "وزعم أنه شيء تطوّل به" أي أن ذلك الذي أعطاها على يد وكيله من النفقة، ليس واجبًا عليه، وإنما هو إحسان منه، وتطوّع.

وقوله: "إلى أم كلثوم لا هكذا في هذه الرواية، والمشهور في سائر الروايات أنها أم شريك.

قال الحافظ في "الإصابة": أم كلثوم غير منسوبة، وقع في النسائيّ في قصّة فاطمة بنت قيس:"اعتدّي عند أم كلثوم"، بدل أم شريك، فليحرر. انتهى

(1)

.

(1)

"الإصابة" 13/ 279.

ص: 316

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن ما في سائر الروايات هو المحفوظ؛ لأن هذه الرواية في سندها عبد الرحمن بن عاصم، وهو مجهول عين، لم يرو عنه غير عطاء بن أبي رباح، ولعله كان سيء الحفظ، فأخطأ في اسمها. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "عُوّادها" -بضمّ المهملة، وتشديد الواو- جمع عائد، كالزوّار وزنًا ومعنًى. وقوله: قَسْقاسته للعصا" -بفتح القاف، فسكون، المهملة: أي تحريكه للعصا. قال في "القاموس": القَسْقَاسةُ: العصا، أو قَسْقَاسَةُ العصا، وقَسْقَسَتُهُ تحريكه. وتَقَسْقَسَ الصوتَ: تسقعه، وقَسْقَسَ: أسرع، وبالكلب: صاح به، وقال: قُوسْ قُوسْ، والشيءَ: حرّكه، وأَدْأَبَ السيرَ فيه. انتهى.

وهو هنا كناية عن كثرة ضربه للنساء، كما فُسّر في الروايات الأخرى.

وقوله: "أملق من المال": قال ابن الأثير: أي فقير منه، قد نَفِدَ ماله، يقال: أملَقَ الرجلُ، فهو مملِقٌ، وأصل الإملاق: الإنفاق، يقال: أملق ما معه إملاقًا، مَلَقَه مَلْقًا: إذا أخرجه من يده، ولم يحبسه، والفقر تابعٌ لذلك، فاستعملوا لفظ السبب في موضع المسبّب، حتى صار به أشهر. انتهى

(1)

.

والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله في 8/ 3223 - باب "تزويج المولى العربيّة". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3573 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، فَزَعَمَتْ فَاطِمَةُ، أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَفْتَتْهُ فِي خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِهَا، فَأَمَرَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى، فَأَبَى مَرْوَانُ أَنْ يُصَدِّقَ فَاطِمَةَ، فِي خُرُوجِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ بَيْتِهَا، قَالَ عُرْوَةُ: أَنْكَرَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"حُجين بن المثنّى": هو أبو عمير اليماميّ، نزيل بغداد، وولي قضاء خراسان، ثقة [9] 180/ 1150.

وقوله: "تحت أبي عمرو بن حفص" هذا الصحيح الذي قاله جمهور الرواة، وقلبه بعضهم، فقال: أبو حفص بن عمرو، واسمه عبد الحميد، وقيل: أحمد، وقيل: اسمه

(1)

"النهاية" 41/ 357.

ص: 317

كنيته، وقد تقدّم البحث في ذلك مستوفًى في -8/ 3223 - "تزويج المولى العربيّة. وللَّه الحمد والمنّة.

والحديث أخرجه مسلم، وسبق الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3574 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ فَاطِمَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلَاثًا، وَأَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ، فَأَمَرَهَا فَتَحَوَّلَتْ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. وشيخ المصنّف أحد التسعة الذين روى أصحاب الكتب الستة عنهم بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة. و"حفص": هو ابن غياث بن طلق النخعيّ الكوفيّ القاضي الفقيه. و"هشام": هو ابن عروة.

وقولها: "طلّقني ثلاثًا" هو على حذف مضاف، أي آخر تطليقات ثلاث، كما تبينه الرواية التي قبل هذه، وكما يأتي بعد بابين، بلفظ:"فأرسل إليها بتطليقة، وهي بقية طلاقها"، فلا يصحّ استدلال من استدلّ بهذه الرواية على جواز جمع الطلاق الثلاث بلفظ واحد، وإنما لهم أدلّة أخرى سبق البحث عنه مستوفًى في -7/ 3430 - من "كتاب الطلاق".

وقولها: "أن يُقتَحمَ عليّ" بالبناء للمفعول: أي أن يُدخل عليها بقوة، يقال: اقتَحَم عقبةً، أو وَهْدَةً: رمى بنفسه فيها، وكأنه مأخوذ من اقتَحَمَ الفرسُ النهرَ: إذا دخل فيه، وتقحّم مثله. قاله الفيّوميّ.

والمعنى أنها تخاف أن يدخل عليها قهرًا فاجر يفجُر بها، أو سارق يأخذ متاعها، أو نحو ذلك.

والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3575 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مَاهَانَ بَصْرِيٌّ، عَنْ هُشَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، وَحُصَيْنٌ، وَمُغِيرَةُ، وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَذَكَرَ آخَرِينَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، فَسَأَلْتُهَا عَنْ قَضَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: طَلَّقَهَا زَوْجُهَا الْبَتَّةَ، فَخَاصَمَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ، قَالَتْ: فَلَمْ يَجْعَلْ لِي سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةً، وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه

ص: 318

يعقوب بن ماهان، أبي يوسف البناء البغداديّ، صدوق [10] 1/ 1442، فإنه من

أفراده.

[تنبيه]: قوله: "بصريّ" خبر لمحذوف: أي هو بصريّ، ولعله كان سكن البصرة، وإلا فهو بغداديّ، كما ذكرنا آنفًا. واللَّه تعالى أعلم.

و"هشيم": هو ابن بشير الواسطيّ. و"سيّارٌ": هو ابن أبي سيّار وردان، وقيل: ورد، وقيل: غير ذلك، أبو الحكم العنزيّ. و"حُصين": هو ابن عبد الرحمن السلميّ، أبو الهُذَيل الكوفيّ. و"مُغيرة": هو ابن مقسم الضبيّ الكوفيّ.

وقوله: "وذكر آخرين " بصيغة التثنية، هكذا نسخ "المجتبى"، وهو الذي في "تحفة الأشراف" 12/ 464 - وهو الصواب. ووقع في "الكبرى" 3/ 399 - :"وذكر آخر" بلفظ الإفراد.

والظاهر أنه أراد بالآخرين أشعث بن سوّار، ومُجالد بن سعيد، فإن مسلمًا -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أخرج الحديث في "صحيحه" من طريق هشيم، عن الخمسة المذكورين عند المصنّف، وزاد هذين، وكل هؤلاء السبعة عن الشعبيّ، عن فاطمة بنت قيس - رضي اللَّه تعالى عنها -.

وإنما أبهمهما المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- إشارة إلى ضعفهما، فإنه كثيرًا ما يفعل نحو هذا في الراوي الضعيف إذا أراد أن يذكره مع ثقة في السند يعطفه مبهمًا، كما يفعل ذلك في ابن لهيعة، وقد تقدّم هذا في مقدمة هذا الشرح، وفي مواضع أُخَرَ منه، فتنبّه لهذه القاعدة، فإنها مهمّة جدًّا. واللَّه تعالى أعلم.

وقولها: "البتّة" المراد به هنا أنه بت طلاقها بهذه الطلقة الثالثة، لا أنه طلّقها بلفظ البتّة. فتنبّه.

والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3576 -

(أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْجَوَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمَّارٌ -هُوَ ابْنُ رُزَيْقٍ- عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، قَالَتْ: طَلَّقَنِي زَوْجِي، فَأَرَدْتُ النُّقْلَةَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«انْتَقِلِي إِلَى بَيْتِ ابْنِ عَمِّكِ، عَمْرِو ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَاعْتَدِّي فِيهِ» .

فَحَصَبَهُ الأَسْوَدُ، وَقَالَ وَيْلَكَ، لِمَ تُفْتِي بِمِثْلِ هَذَا؟ ، قَالَ عُمَرُ: إِنْ جِئْتِ بِشَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ، أَنَّهُمَا سَمِعَاهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِلاَّ لَمْ نَتْرُكْ كِتَابَ اللَّهِ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} ).

ص: 319

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"أبو بكر بن إسحاق": هو محمد بن إسحاق الصاغاني، نزيل بغداد الثقة الثبت. و"أبو الجوّاب": هو الأحوص بن جوّاب الضبيّ الكوفيّ. و"أبو إسحاق": هو عمرو ابن عبد اللَّه السبيعيّ الكوفيّ.

وقولها: "فأرادت النقلة" -بضمّ النون، وسكون القاف-: اسم بمعنى الانتقال.

وقوله: "فحصبه الأسود" أي رمى الأسود بن يزيد الشعبيَّ بالحصباء -وهي دُقَاقُ الحصى- حين حدّث بهذا الحديث، منكرًا عليه؛ لأن عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه - أنكره على فاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، ورواية مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" أصرح في هذا، ولفظه من طريق أبي أحمد الزبيريّ، قال: حدثنا عمار بن رُزَيق، عن أبي إسحاق، قال: كنت مع الأسود بن يزيد، جالسا في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدث الشعبي، بحديث فاطمة بنت قيس، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لم يجعل لها سكنى، ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كَفًّا من حصى، فحصبه به، فقال: ويلك تحدث بمثل هذا؟، قال عمر: لا نترك كتاب اللَّه، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت، أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال اللَّه عز وجل:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} .

وقوله: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ} الآية هو من كلام عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -، ذكره استدلالًا على ما أنكره على فاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، من نفيها النفقة والسكنى.

والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق بيان ذلك، وسيأتي الجواب عن إنكار عمر رضي الله عنه، وكذا ما تقدّم عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، وغيرهما بعد بابين، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌71 - (بَابُ خُرُوجِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِالنَّهَارِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا نسخ "المجتبى" بلفظ: "المتوفّى عنها"، ولفظ "الكبرى":"المبتوتة"، وهو واضح، حيث إن حديث الباب صريح فيه، ولما هنا أيضًا

ص: 320

وجهٌ، وهو أن الحديث لما دلّ على جواز خروج المطلّقة، مع أن زوجها حيّ، وهو ينفق عليها، إن كانت رجعية، بلا خلاف، أو بائنة، على خلاف، فمن باب أولى خروج من مات عنها زوجها التي لا تجد من ينفق عليها، ولا من يتولّى شأنها.

قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: والحديث في المطلّقة، والمصنّف أخذ منه حكم المتوفّى عنها زوجهاد لأن المطلّقة مع أنها تُجرَى عليها النفقة من الزوج فيما دون الثلاث باتفاق، وفي الثلاث على الاختلاف، إذا جاز لها الخروج لهذه العلّة المذكورة في الحديث، فجواز الخروج للمتوفّى عنها زوجها بالأولى، ولا أقلّ من المساواة، لاشتراكه هذه العلّة بينهما بالسويّة، ولكون إثبات الحكم بالحديث في المتوفّى عنها زوجها أدقّ، دون المطلّقة عدل عن الترجمة في "المجتبى" إلى ما ترى؛ لكونه يُراعي الدقّة في الترجمة. وقد ترجم في "الكبرى":"باب خروج المبتوتة بالنهار". واللَّه تعالى أعلم انتهى كلام السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3577 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ

(2)

، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: طُلِّقَتْ خَالَتُهُ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى نَخْلٍ لَهَا، فَلَقِيَتْ رَجُلاً، فَنَهَاهَا، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«اخْرُجِي، فَجُدِّي نَخْلَكِ، لَعَلَّكِ أَنْ تَصَدَّقِي، وَتَفْعَلِي مَعْرُوفًا» ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عبد الحميد بن محمد) بن الْمُسْتَامن أبو عمر الحرّانيّ، إمام مسجدها، ثقة [11] 22/ 932.

2 -

(مَخْلَد) بن يزيد القرشيّ الحَرّانيّ، صدوق له أوهام، من كبار [9] 141/ 222.

3 -

(ابن جريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل يدلّس ويرسل [6] 28/ 32.

4 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوقٌ يدلّس [4] 31/ 35.

5 -

(جابر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم

(1)

"شرح السنديّ" 6/ 211.

(2)

وفي رواية أبي داود تصريح ابن جريج بالإخبار، ولفظ:"أخبرني أبو الزبير".

ص: 321

رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، ومخلد، فحرّانيان. (ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله تعالى عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِر) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما. وفي رواية مسلم: "قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول

"، فانتفت تهمة التدليس في كلّ من ابن جريج، وأبي الزبير (قَالَ: طُلِّقَتْ خَالَتُهُ) فيه التفات، إذ الظاهر أن يقول: "خالتي"، كما في رواية أحمد. وفي رواية أبي داود: "طُلّقت خالتي ثلاثًا"، فدلّ على أن طلقتها كانت بائنة (فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى نَخْلٍ لَهَا) وفي رواية أبي داود: "فخرجت تُجدّ نخلا لها"، وهو -بفتح التاء، وضم الجيم، بعدها دال مهملة: أي تقطف، وتقطع ثمر نخلها (فَلَقِيَتْ رَجُلًا، فَنَهَاهَا) ظنًّا منه أن خروج المعتدّة من بيتها غير جائز (فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية أبي داود: "فذكرت ذلك له"، أي ذكرت نهي الرجل لها عن الخروج (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (اخْرُجِي) أمر إباحة (فَجُدِّي نَخْلَكِ) بضم الجيم، أي اقطفي ثمر نخلك (لَعَلَّكِ أَنْ تَصَدَّقِي) أصله تتصدّقي بتاءين، فحذف منه إحداهما؛ تخفيفًا، كما في قوله عز وجل: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ}، وقوله: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}، قال ابن مالك في "خلاصته":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَر"

(وَتَفْعَلِي مَعْرُوفًا) هو من عطف العامّ على الخاصّ؛ إذ المعروف يعمّ الصدقة، وغيرها، كقضاء الديون، ونحوه. ولفظ أبي داود:"أو تفعلي معروفًا"، بـ "أو" التي للتنويع.

ووجه استدلال المصنّف رحمه الله تعالى على جواز خروج المتوفّى عنها، أو المبتوتة نهارًا من هذا الحديث هو أن جداد النخل في غالب العرف لا يكون إلا نهارًا، وقد نُهي عن جداد الليل، ونخل الأنصار قريبٌ من دورهم، فهي إذا خرجت بُكرة للجداد أمكنها أن تُمسي في بيتها؛ لقرب المسافة. أفاده الخطّابيّ -رحمه الله تعالى-

(1)

.

قال القرطبيّ: قوله: "فلعلّك أن تصدّقي الخ" ليس تعليلًا لإباحة الخروج لها بالاتفاق، وإنما خرج هذا مخرج التنبيه لها، والحض على فعل الخير انتهى

(2)

.

(1)

"معالم التنزيل" 3/ 197.

(2)

"المفهم" 4/ 279.

ص: 322

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي فيما قاله نظر، فما المانع أن يكون تعليلًا، مع أن سياق الحديث ظاهر فيه، فليُتأمّل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-71/ 3577 - وفي "الكبرى" 71/ 5744. وأخرجه (م) في "الطلاق" 1483 (د) في "الطلاق" 2297 (ق) في "الطلاق" 2034 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 14035 (الدارمي) في "الطلاق" 2288. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعيّة خروج المتوفّى عنها زوجها من بيتها أثناء العدّة نهارًا. (ومنها): جواز خروج المبتوتة من بيتها نهارًا. (ومنها): الحثّ على التصدّق، وفعل الخير. (ومنها): أن النساء كالرجال في فعل الخير؛ لأنهنّ شقائق الرجال، قال اللَّه عز وجل:{وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} الآية. (ومنها): مشروعيّة العناية بحفظ المال، واقتنائه لفعل الخير، والمواساة به. (ومنها): استحباب الصدقة من التمر عند جداده، والهدية منه. و (منها): استحباب التعريض لصاحب التمر بفعل ذلك، وتذكيره بالمعروف، والبرّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في خروج المعتدّة من بيتها:

قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا الحديث دليل لمالك، والشافعيّ، وأحمد، والليث على قولهم: إن المعتدّة تخرج بالنهار في حوائجها، وإنما تلزم منزلها بالليل، وسواء عند مالك كانت رجعيّةً، أو بائنةً. وقال الشافعيّ في الرجعيّة: لا تخرج ليلًا، ولا نهارًا، وإنما تخرج نهارًا المبتوتة. وقال أبو حنيفة: ذلك في المتوفّى عنها زوجها. وأما المطلّقة، فلا تخرج ليلًا ولا نهارًا.

وقال الجمهور بهذا الحديث

(1)

إن الجداد بالنهار عرفًا، وشرعًا، أما العرف، فهو

(1)

هكذا نسخة "المفهم" والعبارة فيها ركاكة، ولعل الصواب: وقال الجمهور المراد بهذا الحديث الخروج نهارًا؛ لأن الجداد بالنهار الخ.

ص: 323

عادة الناس في مثل ذلك الشغل، وأما الشرع، فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن جداد الليل. ولا يقال: فيلزم من إطلاقه أن تخرج بالليل، إذ قد يكون نخلها بعيدًا، تحتاج إلى المبيت فيه، لأنا نقول: لا يلزم ذلك من هذا الحديث؛ لأن نخلهم لم يكن الغالب عليها البعد من المدينة، بحيث يُحتاج إلى المبيت، وإنما هي بحيث يُخرَج إليها، ويُرجَع منها في النهار. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن المتوفّى عنها زوجها، والمطلّقة طلاقًا بائنًا لهنّ الخروج لحوائجهنّ مطلقًا، ليلًا، أو نهارًا، ثم يعدن إلى بيوتهنّ؛ لإطلاق حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه -، فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال لها:"اخرجي، فجدّي" ما قيّده، لا بليل، ولا بنهار، فيعمل بعمومه، وأما المطلّقة طلاقًا رجعيًّا، فلا تخرج مطلقًا، إلا لما استثناه اللَّه تعالى في كتابه حيث قال سبحانه وتعالى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} الآية

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌72 - (بَابُ نَفَقَةِ الْبَائِنَةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا عبارة المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا، وفي "الكبرى""البائنة" بالهاء، وهو صفة للمرأة، والذي في كتب اللغة أن صفة المرأة بغير هاء، وأما بالهاء، فهو صفة للتطليقة. قال في "اللسان": وبانت المرأة عن الرجل، وهي بائنٌ: انفصلت عنه بطلاق، وتطليقة بائنة، بالهاء لا غير، وهي فاعلة بمعنى مفعولة، أي تطليقة ذات بينونة، ومثله عيشة راضية، أي ذات رضًا انتهى. ونحوه في "القاموس". وفي "المصباح": وبانت المرأة بالطلاق، فهي بائنٌ، بغير هاء، وأبانها زوجها بالألف، فهي مبانةٌ. قال ابن السكّيت في "كتاب التوسعة": وتطليقة بائنة،

(1)

"المفهم" 4/ 279.

(2)

انظر ما كتبه ابن حزم في "المحلّى" -10/ 282 - 303 - في هذه المسألة، وإن كنت لا أوافقه في بعض أبحاثه، لكنه -رحمه اللَّه تعالى- أجاد في كثير منه.

ص: 324

والمعنى مُبانةٌ، قال الصَّغَانيّ: فاعلةٌ بمعنى مفعولة انتهى.

فعلى هذا فكان حقّ العبارة: "نفقة البائن"، أي المرأة التي طلّقت طلاقًا بائنًا، ويحتمل أن يكون التقدير:"باب نفقة المرأة ذات التطليقة البائنة". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3578 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو سَلَمَةَ، عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، قَالَتْ: طَلَّقَنِي زَوْجِي، فَلَمْ يَجْعَلْ لِي سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةً، قَالَتْ: فَوَضَعَ لِي عَشْرَةَ أَقْفِزَةٍ، عِنْدَ ابْنِ عَمٍّ لَهُ، خَمْسَةُ شَعِيرٍ، وَخَمْسَةُ تَمْرٍ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: «صَدَقَ» ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَدَّ فِي بَيْتِ فُلَانٍ، وَكَانَ زَوْجُهَا طَلَّقَهَا، طَلَاقًا بَائِنًا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"محمد بن جعفر": هو المعروف بغندر. و"أبو بكر بن أبي الجهم": هو أبو بكر بن عبد اللَّه بن أبي الجهم العدويّ، نُسب لجدّه، ثقة [4] 17/ 1533. ولا يُعرف اسمه.

[تنبيه]: هذا الذي ذكرته من أن هذا الراوي هو أبو بكر بن أبي الجهم هو الذي وقع في "الكبرى"، وهو الصواب، كما في "تحفة الأشراف" -12/ 469 - فإنه أورد الحديث في ترجمة أبي بكر بن أبي الجهم، عن فاطمة بنت قيس.

ووقع في نسخ "المجتبى" هنا: بدله "أبو بكر بن حفص"، وهو تصحيف فاحش، وقد تقدّم على الصواب في -15/ 3222 - . واللَّه تعالى أعلم.

وقولها: "عشرة أقفزة": جمع قفيز -بفتح، فكسر-: مكيالٌ، وهو ثمانية مكاكيك، ويجمع على قُفْزان -بضمّ، فسكون- بوزن غُفْران. و"المكاكيك": جمع مَكُّوك -بفتح، فتشديد كاف-: مكيالٌ، وهو مذكر، وهو ثلاث كَيْلَجات، والكَيلَجة: مَنًا، وسبعة أثمان منًا، وربما جُمع مكاكيّ على البدل، ومنعه ابن الأنباريّ. أفاده في "المصباح".

وقولها: "فقلت له ذلك": تعني أنها ذكرت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما جرى لها مع زوجها، من الطلاق، وما أعطاها من النفقة، وأنه ادّعى أنها لا تستحقّ عليه شيئًا، وإنما أعطاها ذلك تطوّعًا.

وقولها: "فقال: صدق" تعني أنه صلى الله عليه وسلم صدّق زوجها فيما ادّعاه، من أنها لا تستحقّ عليه شيئًا، من النفقة، ولا غيرها.

وقوله: "وكان زوجها الخ" هذا من كلام الراوي، والظاهر أنه من أبي بكر بن أبي الجهم.

والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه غير مرّة.

ص: 325

ودلالته على الترجمة واضحة، حيث إنه بين أنه لا نفقة للبائن، وسيأتي اختلاف العدماء في حكم نفقة البائن في شرح حديث الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

* * *

‌73 - (نَفَقَةُ الْحَامِلِ الْمَبتُوتَةِ)

3579 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ شُعَيْبٍ، قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، طَلَّقَ ابْنَةَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ

(1)

، وَأُمُّهَا حَمْنَةُ بِنْتُ قَيْسٍ الْبَتَّةَ، فَأَمَرَتْهَا خَالَتُهَا، فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ بِالاِنْتِقَالِ، مِنْ بَيْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَسَمِعَ بِذَلِكَ مَرْوَانُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَأَمَرَهَا

(2)

أَنْ تَرْجِعَ إِلَى مَسْكَنِهَا، حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُخْبِرُهُ، أَنَّ خَالَتَهَا فَاطِمَةَ أَفْتَتْهَا بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَفْتَاهَا بِالاِنْتِقَالِ، حِينَ طَلَّقَهَا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَفْصٍ، الْمَخْزُومِيُّ، فَأَرْسَلَ مَرْوَانُ قَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ، إِلَى فَاطِمَةَ، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ؟ ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَبِي عَمْرٍو، لَمَّا أَمَّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِىَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، عَلَى الْيَمَنِ، خَرَجَ مَعَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ، وَهِيَ بَقِيَّةُ طَلَاقِهَا، فَأَمَرَ

(3)

لَهَا الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ بِنَفَقَتِهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى الْحَارِثِ، وَعَيَّاشٍ تَسْأَلُهُمَا النَّفَقَةَ الَّتِي أَمَرَ لَهَا بِهَا زَوْجُهَا، فَقَالَا: وَاللَّهِ مَا لَهَا عَلَيْنَا نَفَقَةٌ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ حَامِلاً، وَمَا لَهَا أَنْ تَسْكُنَ فِي مَسْكَنِنَا، إِلاَّ بِإِذْنِنَا، فَزَعَمَتْ فَاطِمَةُ، أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَصَدَّقَهُمَا، قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَيْنَ أَنْتَقِلُ؟ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ:«انْتَقِلِي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» ، وَهُوَ الأَعْمَى الَّذِي عَاتَبَهُ اللَّهُ عز وجل فِي كِتَابِهِ، فَانْتَقَلْتُ عِنْدَهُ، فَكُنْتُ

(4)

أَضَعُ ثِيَابِي عِنْدَهُ، حَتَّى أَنْكَحَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، زَعَمَتْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ).

(1)

وفي نسخة: "ابنة ابن سعيد بن زيد". والصواب الأول.

(2)

وفي نسخة: "يأمرها".

(3)

وفي نسخة: "وأمر".

(4)

وفي نسخة: "وكنت".

ص: 326

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -؛ رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وأبيه، فقد تفرد بهما هو وأبو داود، وابن ماجه، وهو حمصيان ثقتان. و"شعيب": هنا هو بن أبي حمزة دينار الحمصيّ.

وقوله: "وسمع بذلك مروان": هو ابن الحكم الأمويّ.

وقوله: "عاتبه اللَّه عز وجل الخ" الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والمراد به قوله عز وجل:{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} الآية.

وقوله: "حتى أنكحها" فيه التفات، إذ الظاهر أن تقول: حتى أنكحني، ويحتمل أن يكون حكايته لقول الراوي عنها.

وقوله: "زعمت" جملة معترضة بين الفعل، وهو "أنكحها"، والمفعول، وهو "أسامة"، أي زعمت فاطمة ذلك. والمراد بالزعم هنا القول المحقّق.

والحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله في -8/ 3223 - "تزويج المولى العربيّة". وبقي البحث في اختلاف العلماء في هذا الحديث بين طاعن في ثبوته، ومجيب عن ذلك، وفي حكم النفقة، والسكنى للبائن، فنذكرهما في مسألتين:

(المسألة الأولى): في بيان ما وجّه إلى حديث فاطمة بنت قيس - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا، من المطاعن، والجواب عنه:

وقد أشبع الكلام في هذه المسألة العلاّمة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه الممتع "زاد المعاد"، وقد ذكر قبل ذكر المطاعن وأجوبتها كون حديثها مواففا لكتاب اللَّه عز وجل، فقال:

[موافقة هذا الحكم لكتاب اللَّه عز وجل]:

قال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} - إلى قوله: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 1 - 3].

فأمر اللَّه سبحانه وتعالى الأزواج الذين لهم عند بلوغ الأجل الإمساكُ، والتسريح بأن لا يُخرجوا أزواجهم من بيوتهم، وأمر أزواجهنّ أن لا يخرجوهن، فدلّ على جواز إخراج من ليس لزوجها إمساكها بعد الطلاق، فإنه سبحانه وتعالى ذكر لهؤلاء المطلقات أحكامًا متلازمة، لا ينفك بعضها عن بعض:

[أحدها]: أن الأزواج لا يخرجوهن من بيوتههنّ.

[والثاني]: أنههنّ لا يخرجن من بيوت أزواجهنّ.

[والثالث]: أن لأزواجهن إمساكهنّ بالمعروف قبل انقضاء الأجل، وترك الإمساك، فيُسرّحوهنّ بإحسان.

ص: 327

أوالرابع،: إشهاد ذوي عدل، وهو إشهادٌ على الرجعة إما وجوبًا، وإما استحبابًا، وأشار سبحانه إلى حكمة ذلك، وأنه في الرجعيّات خاصّةً بقوله:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} ، والأمر الذي يُرجى إحداثه ههنا هو المراجعة. هكذا قال السلف، ومن بعدهم. قال ابن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية، عن داود الأوديّ، عن الشعبيّ:{لَاتَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} ، قال: لعلّك تَنْدمُ، فيكون لك سبيل إلى المراجعة. وقال الضحّاك:{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} ، قال: لعله أن يراجعها في العدّة. وقاله عطاء، وقتادة، والحسن، وقد تقدّم قول فاطمة بنت قيس: أيُّ أمر يحدث بعد الثلاث؟.

فهذا يدلّ على أن الطلاق المذكور هو الرجعيّ الذي ثبتت فيه هذه الأحكام، وأن حكمة أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، اقتضته لعل الزوج أن يندم، ويزول الشرّ الذي نزغه الشيطان بينهما، فتتبعها نفسه، فيراجعها، كما قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: لو أن الناس أخذوا بأمر اللَّه في الطلاق، ما أتبع رجل نفسه امرأة يُطلّقها أبدًا. ثم ذكر سبحانه وتعالى الأمر بإسكان هؤلاء المطلّقات، فقال:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6]، فالضمائر كلّها يتّحد مفسّرها، وأحكامها كلها متلازمة، وكان قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة"

(1)

، مشتقًّا من كتاب اللَّه عز وجل، ومفسّرًا له، وبيانًا لمراد المتكلّم به منه، فقد تبيّن اتحاد قضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، وكتاب اللَّه عز وجل، والميزان العادل معهما أيضًا، لا يُخالفهما، فإن النفقة إنما تكون للزوجة، فإذا بانت منه صارت أجنبيّة حكمها حكم سائر الأجنبيّات، ولم يبق إلا مجرّد اعتدادها منه، وذلك لا يوجب لها نفقة، كالموطوءة بشبهة، أو زنى، ولأن النفقة إنما تجب في مقابلة التمكن من الاستمتاع، وهذا لا يمكن استمتاعه بها بعد بينونتها، ولأن النفقة لو وجبت لها عليه لأجل عدّتها، لوجبت للمتوفّى عنها من ماله، ولا فرق بينهما البتّة، فإن كلّ واحدة منهما قد بانت عنه، وهي معتدّة منه، قد تعذّر منهما الاستمتاع، ولأنها لو وجبت لها السكنى، لوجبت لها النفقة، كما يقوله من يوجبها، فأما أن تجب لها السكنى دون النفقة، فالنصّ، والقياس يدفعه. ثم قال -رحمه اللَّه تعالى-:

[ذكر المطاعن التي طُعن بها على حديث فاطمة بنت قيس - رضي اللَّه تعالى عنها - قديمًا وحديثًا]:

(فأولها): طعن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه -، فروى مسلم

(1)

حديث صحيح تقدم للنسائيّ برقم 3431، وبرقم آخر 3404، 6/ 144.

ص: 328

في "صحيحه" عن أبي إسحاق، قال كنت مع الأسود بن يزيد، جالسًا، في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدّث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كَفًّا من حصى، فحصبه به، فقال: ويلك تُحدّث بمثل هذا؟، قال عمر: لا نترك كتاب اللَّه، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت، أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال اللَّه عز وجل:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} .

قالوا: فهذا خبر عمر يُخبر أن سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن لها النفقة والسكنى، ولا ريب أن هذا مرفوع، فإن الصحابيّ إذا قال:"من السنة كذا"، كان مرفوعًا، فكيف إذا قال:"من سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ "، فكيف إذا كان القائل عمر بن الخطاب؟ وإذا تعارضت رواية عمر رضي الله عنه، ورواية فاطمة، فرواية عمر رضي الله عنه أولى، ولا سيّما، ومعها

(1)

ظاهر القرآن، كما سنذكر. وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، قال: كان عمر بن الخطّاب إذ ذُكر عنده حديث فاطمة بنت قيس قال: ما كنّا نغيّر في ديننا بشهادة امرأة.

[ذكر طعن عائشة في خبر فاطمة بنت قيس - رضي اللَّه تعالى عنهما -]:

في "الصحيحين" من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، قال: تزوّج يحيى بن سعيد بن العاص، بنت عبد الرحمن بن الحكم، فطلّقها، فأخرجها من عنده، فعاب ذلك عليهم عروة، فقالوا: إن فاطمة قد خَرَجت، قال عروة: فأتيت عائشة، فأخبرتها بذلك، فقالت: ما لفاطمة بنت قيس خير في أن تذكر هذا الحديث.

وقال البخاري: فانتقلها عبد الرحمن، فأرسلت عائشة أم المؤمنين، إلى مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة، اتَّقِ اللَّهَ وارددها إلى بيتها، قال مروان: إن عبد الرحمن بن الحكم غلبني، وقال: أوما بلغك شأن فاطمة بنت قيس؟، قالت: لا يضرّك أن لا تذكر حديث فاطمة، فقال مروان بن الحكم: إن كان بكِ شرّ، فحسبك ما بين هذين من الشر.

ومعنى كلامه: إن كان خروج فاطمة لما يقال من شرّ كان في لسانها، فيكفيك ما بين يحيى بن سعيد بن العاص، وبين امرأته من الشرّ.

وفي "الصحيحين": عن عروة أنه قال لعائشة: ألم تري إلى فلانة بنت الحكم، طلّقها زوجها البتة، فخرجت، فقالت: بئس ما صنعت، قال: ألم تسمعي في قول

(1)

أي مع رواية عمر.

ص: 329

فاطمة؟ قالت: أما إنه ليس لها خير في ذكر هذا الحديث.

وفي حديث القاسم، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -يعني في قولها: لا سكنى ولا نفقة. وفي "صحيح البخاريّ": عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - أنها قالت لفاطمة: ألا تتّقي اللَّه، تعني في قولها: لا سكنى ولا نفقة. وفي "صحيحه" أيضًا: عنها: إن فاطمة كانت في مكان وحش، فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص النبيّ صلى الله عليه وسلم لها.

وقال عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني ابن شهاب، عن عروة، أن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنكرت ذلك على فاطمة بنت قيس، تعني انتقال المطلّقة ثلاثًا.

وذكر القاضي إسماعيل، حدّثنا نصر بن عليّ، حدثني أبي، عن هارون، عن محمد ابن إسحاق، قال: أحسبه عن محمد بن إبراهيم، أن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - قالت لفاطمة بنت قيس: إنما أخرجك هذا اللسان.

[ذكر طعن أسامة بن زيد - رضي اللَّه تعالى عنهما - على حديث فاطمة]:

روى عبد اللَّه بن صالح كاتب الليث، قال: حدثني الليث بن سعد، حدثني جعفر، عن ابن هرمز، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كان محمد بن أسامة بن زيد يقول: كان أسامة إذا ذكرت فاطمة شيئًا من ذلك، يعني انتقالها في عدّتها رماها بما في يده

(1)

.

[ذكر طعن مروان على حديث فاطمة]:

روى مسلم في "صحيحه" من حديث الزهريّ، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة حديث فاطمة هذا أنه حدّث به مروان، فقال مروان: لم نسمع هذا إلا من امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها.

[ذكر طعن سعيد بن المسيّب]:

روى أبو داود في "سننه" من حديث ميمون بن مهران، قال: قدمت المدينة، فدُفِعتُ إلى سعيد بن المسيّب، فقلت: فاطمة بنت قيس طُلِّقت، فخرجت من بيتها، فقال سعيد: تلك امراة فَتنت الناس، إنها كانت امرأة لَسِنَةً، فوُضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى.

[ذكر طعن سليمان بن يسار]:

روى أبو داود في "سننه" أيضًا، قال في خروج فاطمة: إنما كان من سؤء الخلق.

[ذكر طعن الأسود بن يزيد]:

تقدّم حديث مسلم: أن الشعبيّ حدّث بحديث فاطمة، فأخذ الأسود كفّا من

(1)

في سنده عبد اللَّه بن صالح كاتب الليث، صدوق كثير الغلط، وكانت فيه غفلة.

ص: 330

حصباء، فحصبه به، وقال: ويلك تُحدّث بمثل هذا؟ وقال النسائيّ: ويلك، لم تفتي بمثل هذا؟، قال عمر لها: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإلا لم نترك كتاب ربّنا لقول امرأة.

[ذكر طعن أبي سلمة بن عبد الرحمن]:

قال الليث: حدّثني عُقيلٌ، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، فذكر حديث فاطمة.

ثم قال: فأنكر الناس عليها ما كانت تُحدّث من خروجها قبل أن تَحِلّ، قالوا: وقد عارض رواية فاطمة صريح رواية عمر في إيجاب النفقة والسكنى، فروى حمّاد بن سلمة، عن حمّاد بن أبي سليمان، أنه اخبر إبراهيم النخعيّ بحديث الشعبيّ، عن فاطمة بنت قيس، فقال له إبراهيم: إن عمر أُخبر بقولها، فقال: لسنا بتاركي آية من كتاب اللَّه، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم، لقول امرأة لعلها أوهمت، سمعتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم -يقول:"لها السكنى والنفقة". ذكره أبو محمد في "المحلّى"، فهذا نصّ صريحٌ، يجب تقديمه على حديث فاطمة؛ لجلالة رواته، وترك الصحابة عليه، وموافقته لكتاب اللَّه.

[ذكر الأجوبة عن هذه المطاعن، وبيان بطلانها]:

وحاصلها أربعة:

[أحدها]: أن راويتها امرأة، لم تأت بشاهدين يُتابعانها على حديثها.

[الثاني]: أن روايتها تضمّنت مخالفة القرآن.

[الثالث]: أن خروجها من المنزل لم يكن لأنه لا حقّ لها في السكنى، بل لأذاها أهل زوجها بلسانها.

[الرابع]: معارضة روايتها برواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ونحن نبين ما في كلّ واحد من هذه الأمور الأربعة -بحول اللَّه تعالى وقوّته- هذا مع أن في بعضها من الانقطاع، وفي بعضها من الضعف، وفي بعضها من البطلان ما سننبّه عليه، وبعضها صحيح عمن نُسب إليه بلا شكّ.

فأما الطعن الأول، وهو كون الراوي امرأة، فمَطْعَنٌ باطل بلا شكّ، والعلماء قاطبةً على خلافه، والمحتجّ بهذا من أتباع الأئمة أول مبطل له، ومخالف له، فإنهم لا يختلفون في أن السنن تؤخذ عن المرأة كما تؤخذ عن الرجل، هذا وكم من سنّة تلقاها الأئمة بالقبول عن امرأة واحدة من الصحابة، وهذه مسانيد نساء الصحابة بأيدي الناس، لا تشاء أن ترى فيها سنّة تفرّد بها امرأة منهنّ إلا رأيتها، فما ذنب فاطمة بنت قيس دون

ص: 331

نساء العالمين، وقد أخذ الناس بحديث فُريعة بنت مالك بن سنان، أخت أبي سعيد الخدريّ في اعتداد المتوفّى عنها في بيت زوجها، وليست فاطمة بدونها علمًا، وجلالةً، وثقةً، وأمانةً، بل هي أفقه منها بلا شكّ، فإن فُريعة لا تعرف إلا في هذا الخبر، وأما شهرة فاطمة، ودعاؤها من نازعها من الصحابة إلى كتاب اللَّه، ومناظرتها على ذلك، فأمرٌ مشهور، وكانت أسعد بهذه المناظرة ممن خالفها، كما مضى تقريره.

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يختلفون في الشيء، فتروي لهم إحدى أمهات المؤمنين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، فيأخذون به، ويرجعون إليه، ويتركون ما عندهم له، وإنما فُضّلن على فاطمة بنت قيس بكونهنّ أزواج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإلا فهي من المهاجرات الأُوَل، وقد رضيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لِحِبّه، وابن حِبّه أُسامة بن زيد رضي الله عنهم، وكان هو الذي خطبها له، وإذا شئت أن تعرف مقدار حفظها وعلمها، فاعرفه من حديث الدجّال الطويل الذي حدّث به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المنبر، فوعته فاطمة، وحفظته، وأدّته كما سمعته، ولم يُنكره عليها أحدٌ مع طوله، وغرابته، فكيف بقصّة جرت لها، وهي سببها، وخاصمت فيها، وحُكم فيها بكلمتين، وهي "لا نفقة، ولا سكنى"، والعادة توجب حفظ مثل هذا، وذِكْرَه، واحتمالُ النسيان فيه أمر مشتركٌ بينها وبين من أنكر عليها، فهذا عمر قد نسي تيمّم الجنب، وذكّره عمار بن ياسر أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لهما بالتيمّم من الجنابة، فلم يَذكُره عمر رضي الله عنه، وأقام على أن الجنب لا يصلّي حتى يجد الماء.

ونسي قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، حتى ذكرته به امرأة، فرجع إلى قولها

(1)

.

ونسي قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، حتى ذُكّر به.

فإن كان جواز النسيان على الراوي يوجب سقوط روايته سقطت رواية عمر التي عارضتم بها خبر فاطمة، وإن كان لا يوجب سقوط روايته بطلت المعارضة بذلك، فهي باطلة على التقديرين، ولو رُدّت السننُ بمثل هذا، لم يبق بأيدي الأمة منها إلا اليسير، ثم كيف يُعارِض خبر فاطمة، ويطعن فيه بمثل هذا من يرى قبول خبر الواحد العدل، ولا يشترط للرواية نصابًا، وعمر رضي الله عنه أصابه في مثل هذا ما أصابه في ردّ خبر أبي موسى في الاستئذان حتى شهد له أبو سعيد، ورده خبر المغيرة بن شعبة في إملاص المرأة حتى شهِد له محمد بن مسلمة، وهذا كان تثبيتًا منه رضي الله عنه عنه حتى لا يركب

(1)

انظر تفسير ابن كثير 1/ 467 - فقد قال عن الحديث: إسناده جيد قويّ، مع أن في سنده مجالد بن سعيد، وليس بالقويّ، وقد تغيّر في آخر عمره.

ص: 332

الناس الصعب والذَّلُول في الرواية عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد قَبِلَ خبر الضحّاك بن سفيان الكلابيّ وحده، وهو أعرابيّ، وقبل لعائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - عدّة أخبار تفرّدت بها.

وبالجملة، فلا يقول أحد: إنه لا يُقبل قولُ الراوي الثقة العدل حتى يشهد له شاهدان، لا سيما إن كان من الصحابة.

فصل:

وأما المطعن الثاني، وهو أن روايتها مخالفة للقرآن، فنجيب بجوابين: مجمل، ومفصّل، أما المجمل، فنقول: لو كانت مخالفةً كما ذكرتم، لكانت مخالفةً لعمومه، فتكون تخصيصًا للعامّ، فحكمها حكم تخصيص قوله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] بالكافر، والرقيق، والقاتل، وتخصيص قوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، ونظائره، فإن القرآن لم يُخصّ البائن بأنها لا تُخرَج، ولا تَخرُج، وبأنها تسكن من حيث يسكن زوجها، بل إما أن يعمّها، ويعُمّ الرجعيّة، وإما أن يخصّ الرجعيّة.

فإن عمّ النوعين، فالحديث مخصّص لعمومه، وإن خصّ الرجعيات، وهو الصواب للسياق الذي من تدبّره، وتأمله قطع بأنه في الرجعيّات من عدّة أوجه قد أشرنا إليها، فالحديث ليس مخالفًا لكتاب اللَّه، بل موافقٌ له، ولو ذُكر أمير المؤمنين رضي الله عنه بذلك، لكان أوّل راجع إليه، فإن الرجل كما يذهَلُ عن النصّ يذهل عن دلالته وسياقه، وما يقترن به مما يتبيّن المراد منه، وكثيرًا ما يذهلُ عن دخول الواقعة المعيّنة تحت النصّ العامّ، واندراجه تحتها، فهذا كثيرٌ جدًّا، والتفطّن له من الفهم الذي يؤتيه اللَّه من يشاء من عباده، ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من ذلك بالمنزلة التي لا تُجهل، ولا تستغرقها عبارة، غير أن النسيان والذهول عُرْضةٌ للإنسان، وإنما الفاضل العالم من إذا ذُكّر ذَكَرَ، ورجع.

فحديث فاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها - مع كتاب اللَّه على ثلاث أطباق، لا يخرج عن واحد منها، إما أن يكون تخصيصًا لعامّه. الثاني: أن يكون بيانًا لما لم يتناوله، بل سكت عنه. الثالث: أن يكون بيانًا لما أريد به، وموافقًا لما أرشد إليه سياقُه، وتعليلُه، وتنبيهه، وهذا هو الصواب، فهو إذن موافقٌ له، لا مخالف، وهكذا ينبغي قطعًا، ومعاذَ اللَّه أن يحكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بما يُخالف كتاب اللَّه تعالى، أو يعارضه. وقد أنكر الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- هذا من قول عمر رضي الله عنه، وجعل يتبسّم ويقول: اين في كتاب اللَّه إيجاب السكنى، والنفقة للمطلّقة ثلاثًا، وأنكرته قبله الفقيهة الفاضلة فاطمة،

ص: 333

وقالت: بيني وبينكم كتاب اللَّه، قال اللَّه تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، وأيّ أمر يحدث بعد الثلاث، وقد تقدّم أن قوله:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2]، يشهد بأن الآيات كلها في الرجعيّات.

فصل:

وأما المطعن الثالث، وهو أن خروجها لم يكن إلا لفحش من لسانها، فما أبرده من تأويل، وأسمجه، فإن المرأة من خيار الصحابة رضي الله عنهم، وفضلائهم، ومن المهاجرات الأُول، وممن لا يحملها رقّة الدين، وقلّة التقوى على فُحش، يوجب إخراجها من دارها، وأن يمنع حقّها الذي جعله اللَّه لها، ونهى عن إضاعته، فيا عجبا: كيف لم ينكر عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الفُحْش؟ ويقول لها: اتق اللَّه، وكُفّي لسانك عن أذى أهل زوجك، واستقرّي في مسكنك؟ وكيف يعدِل عن هذا إلى قوله:"لا نفقة لك، ولا سكنى"، وإلى قوله:"إنما السكنى والنفقة للمرأة التي إذا كان لزوجها عليها رجعة؟ "

(1)

، فيا عجبا كيف يُترك هذا المانع الصريح الذي خرج من بين شفتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويُعلّل بأمر موهوم لم يعلّل به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم البتّة، ولا أشار إليه، ولا نبّه عليه؟ هذا من المحال البيّن. ثم لو كانت فاحشة اللسان، وقد أعاذها اللَّه من ذلك، لقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسمعت، وأطاعت: كُفّي لسانك حتى تنقضي عدّتك، وكان من دونها يسمع، ويُطيع؛ لئلا يخرج من سكنه.

فصل:

وأما المطعن الرابع: وهو معارضة روايتها برواية عمر رضي الله عنه، فهذه المعارضة تُورد من وجهين: أحدهما: قوله: "لا ناع كتاب ربّنا، وسنّة نبيّنا"، وأن هذا من حكم المرفوع. الثاني: قوله: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لها السكنى والنفقة".

ونحن نقول: قد أعاذ اللَّه أمير المؤمنين من هذا الكلام الباطل الذي لا يصحّ عنه أبدًا. قال الإمام أحمد: لا يصحّ ذلك عن عمر. وقال أبو الحسن الدارقطنيّ: بل السنّة بيد فاطمة بنت قيس قطعًا، ومن له إلمامٌ بسنّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يشهد شهادة اللَّه أنه لم يكن عند عمر رضي الله عنه سنة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن للمطلّقة ثلاثًا السكنى والنفقة، وعمر كان أتقى للَّه، وأحرص على تبليغ سنن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تكون هذه السنّة عنده، ثم لا يرويها أصلًا، ولا يبيّنها، ولا يبلّغها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وأما حديث حمّاد بن سلمة، عن حمّاد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن عمر

(1)

حديث صحيح، تقدّم تخريجه قريبًا.

ص: 334

- رضي الله عنه، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"لها السكنى والنفقة"، فنحن نشهد باللَّه شهادة نُسأل عنها إذا لقيناه أن هذا كذبٌ على عمر رضي الله عنه، وكذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن لا يَحمِل الإنسان فرط الانتصار للمذاهب، والتعصّب لها على معارضة سنن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة بالكذب البحت، فلو يكون عند عمر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم -لخرِسَت فاطمة، وذووها، ولم ينسبوا بكلمة، ولا دعت فاطمة إلى المناظرة، ولا احتيج إلى ذكر إخراجها لبذاء لسانها، ولما فات هذا الحديث أئمة الحديث، والمصنّفين في السنن، والأحكام، المنتصرين للسُّنَنَ فقط، لا لمذهب، ولا لرجل، هذا قبل أن نصل به إلى إبراهيم، ولو قُدّر وصولنا بالحديث إلى إبراهيم لانقطع نُخاعُهُ، فإن إبراهيم لم يولد إلا بعد موت عمر رضي الله عنه بسنين، فإن كان مخبر أخبر به إبراهيم، عن عمر رضي الله عنه، وحَسّنَا به الظنّ، وكان قد روي له قول عمر رضي الله عنه بالمعنى، وظنّ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو الذي حكم بثبوت النفقة والسكنى للمطلّقة، حتى قال عمر رضي الله عنه: لا ندع كتاب ربّنا لقول امرأة، فقد يكون الرجل صالحًا، ويكون مُغفّلاً، ليس تحمّل الحديث، وحفظه، وروايته من شأنه. وباللَّه التوفيق.

وقد تناظر في هذه المسألة ميمون بن مهران، وسعيد بن المسيّب، فذكر له ميمون خبر فاطمة، فقال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس، فقال له ميمون: لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما فتنت الناس، وإن لنا في رسول اللَّه أسوة حسنة، مع أنها أحرم الناس عليه، ليس لها عليه رجعةٌ، ولا بينهما ميراث. انتهى.

ولا يُعلم أحد من الفقهاء -رحمهم اللَّه تعالى- إلا وقد احتجّ بحديث فاطمة بنت قيس هذا، وأخذ به في بعض الأحكام كمالك، والشافعيّ، وجمهور الأمة يحتجّون به في سقوط نفقة المبتوتة، إذا كانت حائلًا، والشافعيّ نفسه احتجّ به على جواز جمع الثلاث؛ لأن في بعض الفاظه، فطلّقني ثلاثًا، وقد بيّنّا أنه إنما طلّقها آخر ثلاث، كما أخبرت به عن نفسها. واحتجّ به من يرى جواز نظر المرأة إلى الرجال. واحتجّ به الأئمة كلّهم على جواز خطبة الرجل على خطبة أخيه إذا لم تكن المرأة قد سكنت إلى الخاطب الأول. واحتجّوا به على جواز بيان ما في الرجل إذا كان على وجه النصيحة لمن استشاره أن يزوّجه، أو يُعامله، أو يسافر معه، وأن ذلك ليس بغيبة. واحتجّوا به على وقوع الطلاق في حال غيبة أحد الزوجين عن الآخر، وأنه لا يشترط حضوره، ومواجهته به. واحتجّوا به على جواز التعريض بخطبة المعتدّة البائن، وكانت هذه الأحكام كلها حاصلة ببركة روايتها، وصدق حديثها، فاستنبطتها الأمة منها، وعمِلت بها، فما بال

ص: 335

روايتها تُردّ في حكم واحد من أحكام هذا الحديث، وتُقبل فيما عداه؟، فإن كانت حفظته، قبلت في جميعه، وإن لم تكن حفظته وجب أن لا يُقبل في شيء من أحكامه. وباللَّه التوفيق.

[فإن قيل]: بقي عليكم شيء واحدٌ، وهو أن قوله سبحانه وتعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} إنما هو في البوائن، لا في الرجعيّات، بدليل قوله عقبه:{وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فهذا في البائن، إذ لو كانت رجعيّة، لما قيّد النفقة عليها بالحمل، ولكان عدم التأثير، فانها تستحقّها حائلًا كانت، أو حاملًا، والظاهر أن الضمير في {أَسْكِنُوهُنَّ} هو والضمير في قوله:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} واحد.

[فالجواب]: أن مورد هذا السؤال إما أن يكون من الموجبين النفقة والسكنى، أو ممن يوجب السكنى دون النفقة، فإن كان الأول، فالآية على زعمه حجة عليه؛ لأنه شرط في إيجاب النفقة عليهنّ كونهنّ حوامل، والحكم المعلّق على الشرط ينتفي عند انتفائه، فدلّ على أن البائن الحائل لا نفقة لها.

[فإن قيل]: فهذه دلالة على المفهوم، ولا يقول بها.

[قيل]: ليس ذلك من دلالة المفهوم، بل من انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه، فلو بقي الحكم بعد انتفائه لم يكن شرطًا.

وإن كان ممن يوجب السكنى وحدها، فيقال له: ليس في الآية ضمير واحد يخصّ البائن، بل ضمائرها نوعان: نوع يخصّ الرجعيّة قطعًا، كقوله:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]. ونوع يحتمل أن يكون للبائن، وأن يكون للرجعيّة، وأن يكون لهما، وهو قوله:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} ، وقوله:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} ، فحمله على الرجعيّة هو المتعيّن؛ لتتّحد الضمائر ومفسّرها، فلو حُمل على غيرها لزم اختلاف الضمائر، ومفسّرها، وهو خلاف الأصل، والحمل على الأصل أولى.

[فإن قيل]: فما الفائدة في تخصيص نفقة الرجعيّة بكونها حاملًا؟.

[قيل]: ليس في الآية ما يقتضي أنه لا نفقة للرجعيّة الحائل، بل الرجعيّة نوعان، قد بيّن اللَّه حكمهما في كتابه: حائل، فلها النفقة بعقد الزوجيّة، إذ حكمها حكم الأزواج. أو حامل، فلها النفقة بهذه الآية إلى أن تضع حملها، فتصير النفقة بعد الوضع نفقة قريب، لا نفقة زوج، فيخالف حالها قبل الوضع حالها بعده، فإن الزوج يُنفق عليها

ص: 336

وحده، إذا كانت حاملًا، فإذا وضعت صارت نفقتها على من تجب عليه نفقة الطفل، ولا يكون حالها في حال حملها كذلك، بحيث تجب نفقتها على من تجب عليه نفقة الطفل، فإنه في حال حملها جزء من أجزائها، فإذا انفصل كان له حكم آخر، وانتقلت النفقة من حكم إلى حكم، فظهرت فائدة التقييد، وسرّ الاشتراط. واللَّه أعلم بما أراد من كلامه. انتهى كلام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي حققه العلاّمة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- تحقيق نفيس جدًّا.

وحاصله أن حديث فاطمة بنت قيس - رضي اللَّه تعالى عنها - حديث صحيح يجب العمل به؛ فإن المطاعن التي وُجّهت إليه غير مقبولة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في حكم نفقة المبتوتة:

قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف الناس في النفقة للمبتوتة إذا لم تكن حاملًا:

فأباها قومٌ، وهم أهل الحجاز، منهم مالك، والشافعيّ، وتابعهم على ذلك أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد. وحجتهم هذا الحديث، قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة:"ليس لك عليه نفقة"، وهو مرويّ من وجوه صحاح، متواترة عن فاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها -.

وممن قال: إن المبتوتة لا نفقة لها، إن لم تكن حاملًا: عطاء بن أبي رباح، وابن شهاب، وسعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسار، والحسن البصريّ. وبه قال الليث بن سعد، والأوزاعيّ، وابن أبي ليلى.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوريّ، والحسن بن حيّ: لكلّ مطلّقة السكنى، والنفقة، ما دامت في العدّة، حاملًا كانت، أو غير حامل، مبتوتة، أو رجعيّة. وهو قول عثمان البَتِّيِّ، وابن شُبْرُمة.

وحجتهم في ذلك أن عمر بن الخطاب، وعبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قالا في المطلّقة ثلاثًا: لها السكنى والنفقة ما كانت في العدّة.

وقالت طائفة: المطلّقة المبتوتة إن لم تكن حاملًا لا سكنى لها، ولا نفقة، منهم: الشعبيّ، وميمون بن مهران، وعكرمة، ورواية عن الحسن. وروي ذلك عن عليّ، وابن عبّاس، وجابر بن عبد اللَّه. وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور،

(1)

"زاد المعاد في هدي خير العباد" 5/ 528 - 542.

ص: 337

وداود.

ثم قال أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-بعد أن ذكر أقوال من ردّ حديث فاطمة، أو تأوله-: ما نصّه:

لكن من طرق الحجة، وما يلزم منها قول أحمد بن حنبل، ومن تابعه أصحّ، وأحجّ؛ لأنه لو وجب السكنى عليها، وكانت عبادة تعبّدها اللَّه بها، لزمها ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولم يُخرجها عن بيت زوجها إلى بيت أم شريك، ولا إلى بيت أم مكتوم؛ ولأنه أجمعوا أن المرأة التي تبذو على أحمائها بلسانها، تؤدّب، وتقصر على السكنى في المنزل الذي طُلّقت فيه، وتُمنع من أذى الناس، فدلّ ذلك على أن من اعتلّ بمثل هذه العلّة في الانتقال، اعتلّ بغير صحيح من النظر، ولا متّفقٌ عليه من الخبر، هذا ما يوجبه عندي التأمّل لهذا الحديث مع صحّته. وباللَّه تعالى التوفيق.

وإذا ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس -وقد طُلّقت طلاقًا باتا -: لا سكنى لك، ولا نفقة، وإنما السكنى والنفقة لمن عليها رجعة؛ فأيّ شيء يعارض به هذا؟ هل يُعارض إلا بمثله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي هو المبيّن عن اللَّه مراده من كتابه، ولا شيء عنه عليه السلام يدفع ذلك، ومعلوم أنه أعلم بتأويل قول اللَّه عز وجل:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} من غيره صلى الله عليه وسلم، وأما الصحابة، فقد اختلفوا كما رأيت، منهم من يقول: لها السكنى والنفقة، منهم: عمر، وابن مسعود، ومنهم من يقول: لها السكنى، ولا نفقة، منهم ابن عمر، وعائشة، ومنهم من يقول: لا سكنى لها، ولا نفقة، وممن قال ذلك: عليّ، وابن عباس، وجابر، وكذلك اختلاف فقهاء الأمصار على هذه الثلاثة الأقوال، على ما ذكرنا، وبيّنّا -والحمد للَّه-. انتهى المقصود من كلام ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي حقّقه الحافظ أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى- من ترجيح القول بما دلّ عليه حديث فاطمة بنت قيس - رضي اللَّه تعالى عنها - هو الحقّ الذي لا مرية فيه.

والحاصل أن الصحيح أنه لا سكنى، ولا نفقة للمبتوتة، إلا أن تكون حاملًا؛ لحديث فاطمة - رضي اللَّه تعالى عنها -. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"الاستذكار" 18/ 69 - 76. و"التمهيد" 19/ 147.

ص: 338

‌74 - (الأَقْرَاءُ)

3580 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ أَبِي حُبَيْشٍ حَدَّثَتْهُ، أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَشَكَتْ إِلَيْهِ الدَّمَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، فَانْظُرِي إِذَا أَتَاكِ قُرْؤُكِ فَلَا تُصَلِّي، فَإِذَا مَرَّ قُرْؤُكِ، فَلْتَطْهُرِي" قَالَ: "ثُمَّ صَلِّي مَا بَيْنَ الْقُرْءِ إِلَى الْقُرْءِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو ثقة، وغير "المنذر بن المغير"، فإنه تفرد به هو، وأبو داود، ووثّقه ابن حبّان.

وقوله: "أن فاطمة بنت أبي حبيش" واسم أبيها قيس بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدية، مهاجرة جليلة، وهي غير فاطمة بنت قيس التي تقدمت قصتها في الأبواب الماضية، وقد سبق ترجمة فاطمة هذه في "الطهارة" برقم 134/ 201.

وقوله: "إنما ذلك عرق" بكسر الكاف على خطاب المرأة، إنما ذلكِ الدم الزائد على العادة السابقة، وذلك لأنه الدم الذي اشتكته، عرق -بكسر، فسكون-: زاد الدارقطنيّ، والبيهقيّ:"انقطع": أي دم عرق انقطع، فسال، لا دم حيض، فإنه من الرحم، والمراد أنه لا يمنع صلاة، ولا صومًا، ولا قربان زوج؛ لأنه ليس بالحيض الذي يمنع من هذه الأشياء.

وقوله: "إذا أتاك قرؤك": القرء فيه لغتان: الفتح، وجمعه قُرُوء، وأقْرُؤ، مثل فلس وفُلُوس، وأفلُس، والضمّ، ويُجمع على أقراء، مثل قفل وأقفال. قال أئمة اللغة: ويطلق على الطهر والحيض، وحكاه ابن فارس أيضًا، ثم قال: ويقال: إنه للطهر، وذلك أن المرأة الطاهر كأنّ الدم اجتمع في بدنها، وامتسك، ويقال: إنه للحيض، ويقال: اقرات: إذا حاضت، وأقرأت: إذا طهرت، فهي مقرىء. قاله الفيّوميّ. وقد تقدّم بأتمّ من هذا في "الطهارة" -135/ 209 - "ذكر الأقراء"، فراجعه، تستفد. وباللَّه تعالى التوفيق.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد أورده المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في ثلاثة عشر موضعًا من هذا الكتاب، أولها في "أبواب الطهارة" -134/ 201 - "ذكر الاغتسال من الحيض"، وآخرها هذا الباب، وتقدم شرحه، وبيان مسائله غير

ص: 339

مرّة، وبقي هنا الكلام على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان معنى القرء الذي أمر اللَّه سبحانه وتعالى المطلّقات أن يتربّصنه، بقوله عز وجل:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} الآية.

(اعلم): أنّ المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- رجّح كون القرء بمعنى الحيض، حيث استدلّ بهذا الحديث، فإنه صريح فيه، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أتاك قرؤك فلا تصلي، فإذا مرّ قرؤك فلتطهري، قال: ثم صلي ما بين القرء إلى القرء".

فقد صرّح أن القرء هنا هو الحيض، لكن الأصرح في معنى الآية حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - المتقدِّم في "كتاب الطلاق" -1/ 3417 - "باب وقت الطلاق للعدّة التي أمر اللَّه عز وجل أن تُطلّق لها النساء"، حيث قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين طلّق عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - طلق امرأته، وهي حائض، فقال:"مر عبد اللَّه، فليراجعها، ثم يَدَعُها حتى تطهر من حيضتها هذه، ثم تحيض حيضة أخرى، فإذا طهرت فإن شاء فليفارقها، قبل أن يجامعها، وإن شاء فليمسكها، فإنها العدّة التي أمر اللَّه عز وجل، أن تطلق لها النساء".

فإنه أصرح في المعنى المراد من الآية المذكورة، ونحن نذكر -بعون اللَّه سبحانه وتعالى أقوال العلماء، من اللغويين، والمحدثين، والفقهاء، في هذا المعنى؛ ليتبيّن الأرجح من ذلك، فنقول:

قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف العلماء في الأقراء، فقال أهل الكوفة: هي الحيض، وهو قول عمر، وعليّ، وابن مسعود، وأبي موسى، ومجاهد، وقتادة، والضحّاك، وعكرمة، والسّدّيّ.

وقال أهل الحجاز: هي الأطهار، وهو قول عائشة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، والزهريّ، وأبان بن عثمان، والشافعيّ.

فمن جعل القرء اسمًا للحيض سماه بذلك؛ لاجتماع الدم في الرحم، ومن جعله اسمًا للطهر؛ فلاجتماعه في البدن، والذي يُحقّق لك هذا الأصل في القرء الوقت، يقال: هبّت الريح لقرئها، وقارئها: أي لوقتها، قال الشاعر [من الوافر]:

كَرِهْتُ الْعَقْرَ عَقْرَ بَنِي شَلِيلِ

إِذَا هَبَّتْ لِقارِئِهَا الرِّيَاحُ

فقيل: للحيض وقت، وللطهر وقتٌ؛ لأنهما يرجعان لوقت معلوم. وقال الأعشى في الأطهار [من الطويل]:

أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ

تَشُدُّ لأَقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا

مُوَرِّثَةِ عِزًّا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةً

لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا

ص: 340

وقال آخر في الحيض [من الرجز]:

يارُبَّ ذِي ضِغنٍ عليَّ فارِضِ

لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ

يعني أنه طعنه، فكان له دم كدم الحائض.

وقال قوم: هو مأخوذ من قرء الماء في الحوض، وهو جمعه، ومنه القرآن؛ لاجتماع المعاني، ويقال لاجتماع حروفه. ويقال: ما قرأت الناقة سَلًى قطّ، أي لم تجمع في جوفها؛ وقال عمرو بن كُلثوم:

ذِراعي عَيْطَلٍ أدْمَاءَ بِكْرِ

هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا

فكأنّ الرحم يَجمَع الدم وقت الحيض، والجسم يجمعه وقت الطهر. قال أبو عمر ابن عبد البرّ: قول من قال: إن القرء مأخوذ من قولهم: قريت الماء في الحوض ليس بشيء؛ لأن القرء مهموز، وهذا غير مهموز.

قال القرطبيّ: هذا صحيح بنقل أهل اللغة: الجوهريّ وغيره، واسم ذلك الماء قِرًى -بكسر القاف، مقصور-. وقيل: القرء الخروج، إما من طهر إلى حيض، أو من حيض إلى طهر، وعلى هذا قال الشافعيّ في قول: القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض، ولا يرى الخروج من الحيض إلى الطهر قرءًا، وكان يلزم بحكم الاشتقاق أن يكون قرءًا، ويكون معنى قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} : أي ثلاثة أدوار، أو ثلاثة انتقالات، والمطلّقة متّصفة بحالتين فقط، فتارة تنتقل من طهر إلى حيض، وتارة من حيض إلى طهر، فيستقيم معنى الكلام، ودلالته على الطهر والحيض جميعًا، فيصير المعنى مشتركًا. ويقال: إذا ثبت أن القرء الانتقال، فخروجها من طهر إلى حيض غير مراد بالآية أصلًا، ولذلك لم يكن الطلاق في الحيض طلاقًا سُنّيًّا، مأمورًا به، وهو الطلاق للعدّة، فإن الطلاق للعدّة ما كان في الطهر، وذلك يدلّ على كون القرء مأخوذًا من الانتقال، فإذا كان الطلاق في الطهر سنيًّا، فتقدير الكلام: فعدّتهنّ ثلاثة انتقالات، فأولها الانتقال من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، والذي هو الانتقال من حيض إلى طهر، لم يُجعل قُرءًا؛ لأن اللغة لا تدلّ عليه، ولكن عَرَفْنَا، بدليل آخر، أن اللَّه تعالى لم يُرد الانتقال من حيض إلى طهر، فإذا خرج أحدهما عن أن يكون مرادًا بقي الآخر، وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض مرادًا، فعلى هذا عدّتها ثلاثة انتقالات، أولها الطهر، وعلى هذا يمكن استيفاء ثلاثة أقراء كاملة إذا كان الطلاق في حالة الطهر، ولا يكون ذلك حملاً على المجاز بوجه ما. قال إلكيا الطبريّ: وهذا نظر دقيق في غاية الاتجاه لمذهب الشافعيّ، وُيمكن أن نذكر في ذلك سرًّا فهمه من دقائق حِكَمِ الشريعة، وهو أن الانتقال من الطهر إلى الحيض إنما جُعل قرءًا لدلالته على براءة الرحم، فإن

ص: 341

الحامل لا تحيض في الغالب، فبحيضها عُلم براءة رحمها، والانتقال من حيض إلى طهر بخلافه، فإن الحائض يجوز أن تحبل في أعقاب حيضها، وإذا تمادى أمد الحمل، وقَوِي الولد انقطع دمها، ولذلك تمتدح العرب يحمل نسائهم في حالة الطهر، وقد مدحت عائشة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقول الشاعر [من الكامل]:

ومُبرَّإٍ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ

وَفَسَادِ مُرْضِعَةِ وَدَاءِ مُغْيَلِ

يعني أن أمه لم تحمل به في بقيّة حيضها. فهذا ما للعلماء، وأهل اللسان في تأويل القرء.

وقالوا: قرأت المرأة قرءًا: إذا حاضت، أو طهرت، وقرأت أيضًا: إذا حملت. واتفقوا على أن القرء الوقت، فإذا قلت: والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة أوقات، صارت الآية مفسَّرَةٌ في العدد، محتمِلَةٌ في المعدود، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها، فدليلنا قول اللَّه تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق وقت الطهر، فيجب أن يكون هو المعتبر في العدّة، فإنه قال:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} يعني وقتًا تعتدّ به، ثم قال تعالى:{وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} يريد ما تعتدّ به المطلّقة، وهو الطهر الذي تطلّق فيه. وقال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه:"مره، فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، فتلك العدّة التي أمر اللَّه أن تُطلّق لها النساء". أخرجه مسلم وغيره.

وهو نصّ في أن زمن الطهر هو الذي يسمّى عدّة، وهو الذي تُطلّق فيه النساء، ولا خلاف أن من طلّق في حال الحيض لم تعتدّ بذلك الحيض، ومن طلّق في حال الطهر، فإنها تعتدّ عند الجمهور بذلك الطهر، فكان ذلك أولى. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر أن أرجح الأقوال في المعنى المراد من القرء في قول عز وجل: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} قول من قال: إنها الطهر، لا الحيضُ، وإن كان اللفظ يُطلق عليهما جميعًا، كما تقدّم بيانه عن أهل اللغة، إلا أن المراد في هذه الآية هو الطهر؛ بدليل توضيح النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك في حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - المذكور، فبيانه أوضح بيان، وأتمّه، حيث إن اللَّه سبحانه وتعالى وكل بيان معنى كتابه إليه، بقوله عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية. ولقد أجاد العلامة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- في بيان الأقوال المذكورة في معنى القرء، وأدلتها، وترجيح أنه الطهر بأدلة كثيرة في كتابه الممتع "زاد المعاد" بما لا تجده مجموعًا عند

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 113 - 115. "تفسير سورة البقرة".

ص: 342

غيره، ولولا خوف التطويل لنقلته بحروفه، فإن شئت فارجع إليه -5/ 594 - 650.

تزدد علمًا جمًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌75 - (بَابُ نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَات الثَّلَاثِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كان الأولى للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- تأخير هذا الباب عن الباب التالي؛ لأنه كالفرع له؛ إذ أن فيه بيان ثبوت أصل المراجعة، وهذا فيه بيان مانع المراجعة، وتقديم الأول على الثاني هو الأنسب كما لا يخفى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3581 -

(حَدَّثَنَا

(1)

زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ النَّحْوِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ، وَقَالَ:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} الآيَةَ، وَقَالَ {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ، فَأَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِبْلَةُ، وَقَالَ:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} ، وَذَلِكَ بِأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ

(2)

، فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَنَسَخَ ذَلِكَ، وَقَالَ:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم سندًا، ومتنًا في - 54/ 3526 - باب "ما استثني من عدّة المطلّقات"، وفي -69/ 3570 - "باب نسخ متاع المتوفّى عنها بما فرض لها من الميراث"، وتقدم هناك شرحه، وبيان مسائله بما فيه الكفاية، إن شاء اللَّه تعالى، فإن أردت الاستفادة، فراجعه، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

واستدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- به على ما ترجم له واضحٌ، حيث إن فيه بيان

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

وفي نسخة: "امرأة"

ص: 343

نسخ المراجعة بعد الطلاق الثلاث، وهذا مما خلاف فيه إِذا كان الطلاق مرتّبًا، وإنما الخلاف فيما إذا أوقعه بكلمة واحدة، فقد تقدّم أن الأرجح، أن له المراجعة؛ والجمهور على خلافه، فراجع المسألة في -7/ 3430 - تجد جوابًا شافيًا، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

ثم إن قوله: "وذلك بأن الرجل كان إذا طلّق امرأته إلى قوله: "فنسخ ذلك" يدلّ على أن هذا كان في أول الإسلام؛ لأن النسخ لا يكون إلا فيما شُرع في الإسلام، ثم أزيل؛ إذ النسخ رفع حكم شرعيّ بخطاب شرعيّ متراخ عنه.

قال الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى- في "تفسيره" عند قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآية: هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من أن الرجل كان أحقّ برجعة امرأته، وإن طلّقها مائة مرّة، ما دامت في العدّة، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات، قصرهم اللَّه إلى ثلاث طلقات، وأباح الرجعة في المرة، والثنتين، وأبانها بالكليّة في الثالثة.

وأخرج ابن مردويه، وغيره من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت: لم يكن للطلاق وقتٌ، يطلّق الرجل امرأته، ثم يراجعها، ما لم تنقض العدّة، وكان بين رجل من الأنصار، وبين أهله ما يكون بين الناس، فقال: واللَّه لأتركنّك لا أيّمًا، ولا ذات زوج، فجعل يُطلّقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مرارًا، فأنزل اللَّه عز وجل فيه:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، فوقت الطّلاق ثلاثًا، لا رجعة فيه بعد الثالثة، حتى تنكح زوجًا غيره. روي هذا الحديث مرسلًا وموصولًا، وصححه الحاكم، وقال الترمذي: المرسل أصح

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌76 - (بَابُ الرَّجْعَةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هي -بفتح الراء، وهو الأفصح، وكسرها، وسكون

(1)

راجع "تفسير ابن كثير" 1/ 279.

ص: 344

الجيم- قال الفيّوميّ: الرَّجعة بالفتح بمعنى الرجوع، وفلانٌ يؤمن بالرجعة: أي بالعَوْد إلى الدنيا. وأما الرجعة بعد الطلاق، ورجعة الكتاب، فبالفتح، والكسر، وبعضهم يقتصر في رَجْعة الطلاق على الفتح، وهو أفصح. قال ابن فارس: والرجعة: مراجعة الرجل أهله، وقد تكسر، وهو يملك الرجعة على زوجته. وطلاقٌ رِجْعَى بالوجهين أيضًا انتهى.

ثم إن استدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- على ما ترجم له بأحاديث الباب واضح، إذ هي صريحة في مشروعيّة الرجعة بعد الطلاق.

قال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: الرجعة ثابتة بالكتاب والستة، والإجماع، أما الكتاب فقدل اللَّه سبحانه وتعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} الآية، [البقرة: 228]. والمراد به الرجعة عند جماعة العلماء، وأهل التفسير. وقال تعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} الآية، [البقرة: 231] أي بالرجعة، ومعناه: إذا قاربن بلوغ أجلهنّ، أي انقضاء عدّتهنّ.

وأما السنّة، فما روى ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: طلّقت امرأتي، وهي حائض

الحديث. متفق عليه. ثم ذكر حديث طلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم حفصة - رضي اللَّه تعالى عنها - الآتي آخر الباب، إن شاء اللَّه تعالى.

قال: وأجمع أهل العلم أن الحرّ إذا طلّق امرأته دون الثلاث، أو العبد إذا طلّق دون الاثنتين، أن لهما الرجعة في العدّة. ذكره ابن المنذر.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا كله فيما إذا كانت المرأة مدخولًا بها، وأما إذا لم تكن مدخولًا بها، فلا رجعة لزوجها إليها.

قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن غير المدخول بها تَبِين بطلقة واحدة، ولا يستحقّ مطلّقها رجعتها، وذلك لأن الرجعة إنما تكون في العدّة، ولا عدّة قبل الدخول؛ لقول اللَّه سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49].

فبيّن اللَّه سبحانه وتعالى أنه لا عدّة عليها، فتبِين بمجرّد طلاقها، وتصير كالمدخول بها بعد انقضاء عدتها، لا رجعة عليها، ولا نفقة لها، وإن رغب مطلّقها فيها، فهو خاطبٌ من الخطاب، يتزوّجها برضاها بنكاح جديد، وترجع إليه بطلقتين، وإن طلّقها، ثم تزوّجها، رجعت إليه بطلقة واحدة، بغير خلاف بين أهل العلم. انتهى المقصود من

ص: 345

كلام ابن قدامة

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3570 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،، عَنْ قَتَادَةَ،، قَالَ: سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي، وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عُمَرُ، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:: «مُرْهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا

(2)

، فَإِذَا طَهُرَتْ -يَعْنِي فَإِنْ شَاءَ- فَلْيُطَلِّقْهَا» ، قُلْتُ: لاِبْنِ عُمَرَ: فَاحْتَسَبْتَ مِنْهَا؟ فَقَالَ: مَا يَمْنَعُهَا، أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ، وَاسْتَحْمَقَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا

غير مرّة. و"محمد" شيخ ابن المثنّى، هو ابن جعفر المعروف بغندر.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق في أوائل "كتاب الطلاق"، وقد استوفيت هناك - بحمد اللَّه تعالى- شرحه، وبيان مسائله، فراجعه، تستفد.

وقوله: "فاحتسبت منها" بضمير المتكلّم، وهو بتقدير استفهام، أي هل اعتددت بتلك التطليقة، أم لا. والظاهر أن "مِنْ" بمعنى الباء.

وقوله: "ما يمنعها""ما" استفهاميّة، استفهامًا إنكاريًّا، أي أيّ شيء يمنع من وقوع تلك التطليقة.

وقوله: "إن عجز، واستحمق" أي فعل فعل الجاهل الأحمق بأن أبى عن الرجعة بلا عجز، فالواو بمعنى " أو". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3583 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ح وَأَخْبَرَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالُوا: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ رضي الله عنه لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، فَإِذَا طَهُرَتْ، فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، فَإِنَّهُ الطَّلَاقُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ عز وجل بِهِ، قَالَ تَعَالَى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، وتقدموا غير مرّة. و"ابن إدريس": هو عبد اللَّه الأوديّ. و"يحيى بن سعيد": هو الأنصاريّ.

وقوله: "وأخبرنا زُهير" معطوفٌ على "ابن إدريس"، فهو موصول بالسند السابق، فالقائل: و"أخبرنا زهيرٌ" هو يحيى بن آدم، فهو يروي هذا الحديث عن زهير بن معاوية

(1)

"المغني" 10/ 547 - 548.

(2)

وفي نسخة: "فليراجعها"، وفي أخرى:"فليرجعها".

ص: 346

ابن حُديج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -. كما رواه عن عبد اللَّه بن إدريس الأديّ، عن شيوخه الثلاثة: محمد بن إسحاق، ويحيى بن سعيد، وعبيد اللَّه بن عمر، عندهم عن نافع، عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

[تنبيه]: هذا الذي ذكرته هنا بلفظ: "وأخبرنا زهير، عن موسى بن عقبة" بـ "عن" هو الذي في "الكبرى"، وهو الصواب، كما في "تحفة الأشراف" 6/ 247 - ووقع في نسخ "المجتبى" بلفظ:"وأخبرنا زهير وموسى بن عقبة" بالعطف، وهو غلط فاحش، فتنبّه. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق القول فيه في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3584 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ،، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ، إِذَا سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ طَلَّقَ

(1)

امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَيَقُولُ: أَمَّا إِنْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَهَا، حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، وَأَمَّا إِنْ طَلَّقَهَا

(2)

ثَلَاثًا، فَقَدْ عَصَيْتَ اللَّهَ، فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ، مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"إسماعيل": هو ابن عليّة. و"أيوب": هو السختيانيّ.

وقوله: "أما إن طلّقها واحدة الخ" جوابه محذوف، أي فله المراجعة، وأما قوله:"فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ" علة للجواب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3585 -

(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، مَرْوَزِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَاجَعَهَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"حنظلة": هو ابن أبي سفيان الْجُمَحيّ المكيّ.

والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3586 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِيهِ

(1)

وفي نسخة: "يطلّق".

(2)

وفي نسخة: "إن يطلّقها".

ص: 347

ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ،، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا، فَقَالَ: أَتَعْرِفُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا، فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ يَزِيدُ عَلَى هَذَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"أبو عاصم": هو الضحاك بن مخلد النبيل. و"ابن طاوس": هو عبد اللَّه.

وقوله: "ولم أسمعه يزيد على هذا"، القائل: ولم أسمعه، هو ابن طاوس، يعني أنه لم يسمع أباه يحدّث بتمام الحديث، وإنما سمعه يرويه مقتصرًا على هذا القدر.

ولفظ مسلم في "صحيحه": "قال: لم أسمعه يزيد على ذلك لأبيه". قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرحه": قوله في آخره: "لم أسمعه يزيد على ذلك لأبيه": بالباء الموحّدة، ثم الياء المثناة من تحت. ومعناه أن ابن طاوس قال: لم أسمعه، أي لم أسمع أبي طاوسًا يزيد على هذا القدر من الحديث، والقائل:"لأبيه" هو ابن جريج، وأراد تصير الضمير في قول طاوس: لم أسمع، والسلام زائدة، فمعناه: يعني أباه، ولو قال: يعني أباه لكان أوضح انتهى

(1)

.

والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3587 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ح وَأَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: نُبِّئْتُ عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ طَلَّقَ حَفْصَةَ، ثُمَّ رَاجَعَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ)

(2)

.

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(عبدة بن عبد اللَّه) الصفّار الخزاعيّ، أبو سهل البصريّ، كوفيّ الأصل، ثقة [11] 18/ 800.

2 -

(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائيّ الثقة [11] 108/ 147 من أفراد المصنّف.

3 -

(يحيى بن آدم) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكريا الكوفيّ، ثقة حافظ فاضل، من كبار [9] 92/ 114.

(1)

"شرح مسلم" 10/ 310 - 311.

(2)

يوجد في النسخة الهنديّة: ما لفظه: "آخر كتاب الطلاق".

ص: 348

4 -

(سهل بن محمد) بن الزبير، أبو سعيد، وقيل: أبو داود العسكريّ، نزيل البصرة، ثقة [10].

قال أبو حاتم: صدوق ثقة. وقال النسائيّ: ثبت. وقال مسلمة بن قاسم: ثقة. وقال أبو زرعة: كان أكيس من سهل بن عثمان. وقال أبو عوانة في "صحيحه": كان أنبل من سهل بن عثمان. وذكره ابن حبّان في "الثقات". قال ابن قانع، وأبو القاسم: مات سنة (227). تفرد به المصنّف، وأبو داود، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وله عند أبي داود آخر أيضًا.

5 -

(يحيى بن زكريا) بن أبي زائدة الهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقة متقن، من كبار [9] 144/ 226.

6 -

(صالح بن صالح) بن حيّ، ويقال: ابن صالح بن مسلم بن حيّ، ويقال: حيّان، وحيّ لقب حيّان، ثقة [6] 65/ 3345.

[تنبيه]: وقع في في هذا السند: ما نصّه: "عن صالح بن صالح -هو ابن أخي والد الحسن وعلي بن صالح الكوفي" وهذا فيه تصحيف في موضعين، والصواب: عن صالح بن صالح -وهو ابن حيّ، والد الحسن، وعليّ ابني صالح، فلفظ "أخي" مصحّفٌ من "حي" بالحاء المهملة، وتشديد الياء، بلفظ "حيّ" ضدّ الميت، ولفظ "ابن" مصحّفٌ من لفظ "ابني" بالتثنية.

والحاصل أن "حيّ" اسم جدّ صالح بن صالح، وتارة يُنسب هو إليه، فيقال: صالح ابن حي، كما مرّ في ترجمته السابق، وقوله: والد الحسن الخ بالرفع بدل من "ابن حي" أي صالح والد الحسن وعليّ ابني صالح. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

7 -

(سلمة بن كهيل) الحضرميّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة [4] 195/ 312.

8 -

(سعيد بن جبير) بن هشام الأسديّ الوالبيّ مولاهم، أبو عبد اللَّه، أو أبو محمد الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 28/ 436.

9 -

(ابن عباس) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31.

10 -

(عمر) بن الخطاب بن نُفيل العدويّ الخليفة الراشد - رضي اللَّه تعالى عنه - 60/ 75. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من ثمانيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أن معظمهم كوفيون. (ومنها): أن فيه كتابة (ح) إشارة إلى تحويل الإسناد، واختُلف في اختصارها، وقد أشار إلى ذلك السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "ألفية

ص: 349

الحديث" حيث قال:

وَكَتَبُوا (ح) عِنْدَ تَكْرِيرِ سَنَدْ

فَقِيلَ مِنْ صَحَّ وقِيلَ ذَا انْفَرَدْ

مِنَ الْحَدِيثِ أَوْ لِتَحْوِيلٍ وَرَدْ

أَوْ حَائِلٍ وَقَوْلُهَا لَفْظًا أَسَدٌّ

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عنِ عُمَرَ) هكذا أشار في النسخة الهنديّة إلى أن في بعض النسخ بلفظ "عن عمر"، وعندي أن هذا هو الصواب، وأما الذي في معظم نسخ "المجتبى" بلفظ:"عن ابن عمر"، بزيادة لفظة "ابن"، فغلط؛ لأن هذا الحديث من رواية ابن عبّاس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، فقد أخرج الحديث أبو داود برقم -2283 - ، وابن ماجه برقم 2016 - والدارميّ برقم 22164 - ، كلهم من رواية ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه، وكذا أورده الحافظ المزّيّ في "تحفة الأشراف" 8/ 42 - 43 - في مسند عمر بن الخطّّاب، لا في مسند ولده عبد اللَّه بن عمر، بل لا يوجد لابن عبّاس رواية عن ابن عمر رضي الله عنهم في الكتب الستة أصلًا، كما يظهر من مراجعة "تحفة الأشراف" في مسند ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

وهذا أيضًا هو الذي يظهر من نسخة "السنن الكبرى" للمصنّف حيث إن لفظ "ابن" وقعت فيه بين قوسين ملحقة هكذا عن [ابن] عمر، وهذا يدل على أن لفظ "ابن" ملحقة من الكاتب لما رآها في بعض النسخ، أو في نسخ "المجتبى"؛ ظنًّا منه أن الصواب إلحاقها، مع أن الصواب هو العكس.

والحاصل أن لفظ "ابن" الواقع في معظم النسخ غلط، فليُتنبه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وقال عمْرٌو) يعني منصور شيخه الثاني (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) يعني شيخيه اختلفا في لفظ "النبي"، و"رسول اللَّه"(كَانَ طَلَّقَ حَفْصَةَ) بنت عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - (ثُمَّ رَاجَعَهَا) أي بأمر اللَّه تعالى له بذلك. فقد أخرج ابن سعد مرسلًا من طريق أبي عمران الْجَوْنيّ، عن قيس بن زيد:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طلّق حفصة تطليقة، ثم ارتجعها، وذلك أن جبريل قال له: ارجع حفصةَ، فإنها صوّامة، قوّامة، وإنها زوجتك في الجنّة". وأخرج عن

(1)

عثمان بن أبي شيبة، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

هكذا النسخة، بـ "عن"، وهو محل نظر، فليحرر.

ص: 350

طلّق حفصة، ثم أُمِر أن يراجعها، فراجعها. وروى موسى بن عُلي، عن أبيه، عن عقبة ابن عامر رضي الله عنه، قال:"لما طلّق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر - رضي اللَّه تعالى - عنهما، فبلغ ذلك عمر، فحثا التراب على رأسه، وقال: ما يعبأ اللَّه بعمر، وابنته بعدها، فنزل جبريل من الغد على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن اللَّه يأمرك أن تراجع حفصة؛ رحمة لعمر". وفي رواية أبي صالح، عن أبي عمر

(1)

دخل عمر على حفصة، وهي تبكي، فقال: لعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد طلّقك، إنه كان قد طلّقك مرّة، ثم راجعك من أجلي، فإن كان طلّقك مرّة أخرى، لا أكلّمك أبدًا". أخرجه أبو يعلى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

[فإن قلت]: في سنده انقطاع، حيث وقع بلفظ "نُبّئتُ" بالبناء للمجهول، ولم يُعرف المنبّىء، فكيف يصح؟.

[قلت]: هذا بالنسبة لسهل بن محمد، في رواية المصنّف، أما سند عبدة بن عبد اللَّه فليس فيه ذلك.

بل وقع في رواية أبي داود التصريح من سهل بن محمد نفسه بأن يحيى بن زكريا أخبره، ولفظه: "حدثنا سهل بن محمد بن الزبير العسكريّ، أخبرنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة

".

وفي رواية ابن ماجه -1/ 2016 - : حدثنا سُويد بن سعيد، وعبد اللَّه بن عامر بن زُرارة، ومسروق بن الْمَرْزُبان، قالوا: حدّثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن صالح بن صالح بن حيّ

". وفي رواية الدارميّ -2264 - : حدثنا إسماعيل بن خليل، وإسماعيل بن أبان، قالا: ثنا يحيى بن أبي زائدة، عن صالح بن صالح

والحاصل أن السند متّصلٌ صحيح، والحمد للَّه. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-76/ 3587 - وفي "الكبرى" 76/ 5755. وأخرجه (د) في "الطلاق" 2283 (ق) في "الطلاق" 2016 (الدارمي) في "الطلاق" 22164. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

هكذا نسخة "الإصابة" 12/ 199 ولعل الصواب "عن ابن عمر"، فليحرر.

(2)

راجع "الإصابة" 121/ 198 - 199.

ص: 351

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعيّة الرجعة.

(ومنها): بيان ما كان يحصل للنبيّ صلى الله عليه وسلم من المشكلة الزوجيّة، حتى يؤدّي ذلك إلى أن يفارق أهله، وذلك تشريعًا لأمته، كيف يطلّقون، وكيف يراجعون، ورفعًا لدرجاته صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك من المصائب الدنيويّة التي يؤجر عليها العبد، حيث يلحقه بسببه الغمّ والهمّ. (ومنها): بيان فضيلة عمر بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه -، حيث إن اللَّه تعالى أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بمراجعة ابنته بعد طلاقها، رحمة به رضي الله عنه. (ومنها): بيان منقبة أم المؤمنين حفصة - رضي اللَّه تعالى عنها -، حيث أمر اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بمراجعتها بعد الطلاق، وأخبره بأنها زوجته في الجنّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌27 - (كِتَابُ الْخَيْلِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كان الأولى للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- تقديم هذا الكتاب إلى "كتاب الجهاد"، كما فعل في "الكبرى"، حيث ذكره عقب "كتاب الجهاد". و"الخيل": الفُرسان. وفي "المحكم": جماعة الأفراس، لا واحد له من لفظه. قال أبو عبيدة: واحدها خائل؛ لأنه يختال في مشيته. قال ابن سيده: وليس هذا بمعروف. وفي "التنزيل العزيز": {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} ، أي بفرسانك، ورَجّالتك. قاله في "اللسان".

وفي "المصباح": الخيل: معروف، وهي مؤنّثة، ولا واحد لها من لفظها، والجمع خُيُول، قال بعضهم: وتُطلَق الخيل على العراب، وعلى الْبَرَاذين، وعلى الفُرْسان، وسُمّيت خيلًا؛ لاختيالها، وهو إعجابها بنفسها مَرَحًا، ومنه خُيَلاءُ وهو الكبر، والإعجاب انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3588 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ -وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ صَالِحِ بْنِ صَبِيحٍ الْمُرِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُرَشِيِّ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ الْكِنْدِيِّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَذَالَ النَّاسُ الْخَيْلَ، وَوَضَعُوا السِّلَاحَ،

ص: 352

وَقَالُوا: لَا جِهَادَ، قَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِوَجْهِهِ، وَقَالَ:«كَذَبُوا الآنَ، الآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، وَلَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي، أُمَّةٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، وَيُزِيغُ اللَّهُ لَهُمْ قُلُوبَ أَقْوَامٍ، وَيَرْزُقُهُمْ مِنْهُمْ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَحَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ، وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يُوحَى إِلَيَّ أَنِّي مَقْبُوضٌ، غَيْرَ مُلَبَّثٍ، وَأَنْتُمْ تَتَّبِعُونِي أَفْنَادًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ» ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أحمد بن عبد الواحد) بن واقد التميميّ المعروف بابن عَبُّود الدمشقيّ، صدوق [11].

قال ابن عساكر: ذكره محمد بن يحيى بن أحمد الفقيه، فقال: ثقة. وقال النسائيّ: صالحٌ، لا بأس به. وقال العقيليّ، وابن أبي عاصم، وغيرهما: ثقة. وقال أبو الدَّحْدَاح: توفي سنة (254) زاد إبرهيم بن عبد الرحمن القرشيّ: في ليلة الجمعة، لليلتين خلتا من شوّال. تفرد به المصنّف، وأبو داود، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا الحديث، و 46، 47/ 4883 - حديث أبي بكر بن عمرو بن حزم: "هذا بيان من اللَّه ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}

وله عند أبي داود حديث واحد 3594 - "الصلح جائز بين المسلمين

".

2 -

(مروان بن محمد) الأسديّ الدمشقيّ الطاطَرِيّ، ثقة [9] 128/ 1091.

3 -

(خالد بن يزيد بن صالح بن صُبَيح) بن الْخَشْخَاش بن معاوية بن سُفيان المُزِّيّ- بضمّ الميم، وبالراء- أبو هاشم الدمشقيّ، قاضي البلقاء، قرأ القرآن على عبد اللَّه بن عامر، ثقة [7].

قال العجليّ، ودُحيم، وأبو حاتم: ثقة. زاد ابن أبي حاتم: وصدوق، وهو أمتن من خالد بن يزيد بن أبي مالك، وأوثق من ابنه عِرَاك. وقال أحمد بن رِشدين: قيل لأحمد ابن صالح: فخالد بن يزيد بن صُبيح، كأنه أرفع من هؤلاء، وأنبل، فشدّ يده، وقال: نعم. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال الدارقطنيّ: يُعتبر به. وذكره ابن حبّان في "الثقات". قال أبو زرعة الدمشقيّ: حدثني ابن عِراك بن خالد، عن أبيه، أن جدّه خالد ابن يزيد المزّيّ تُوفي قبل سعيد بن عبد العزيز بنحوِ من سنة، ابن تسع وثمانين، وتوفّي سعيد سنة (167). روى له المصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: "صُبيح" الجد الأعلى لخالد هذا بضمّ الصاد المهملة، وفتح الموحّدة بصيغة التصغير، كما نصّ عليه الحافظ ابن ماكولا في "الإكمال" 5/ 170. فما وقع في النسخ

ص: 353

المطبوعة من "المجتبى" من ضبطه بالقلم بفتح أوله، وكسر ثانيه، مكبّرا، فغلط، فليُتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

4 -

(إبراهيم بن أبي عَبْلَة) -بفتح العين المهملة، وسكون الموحّدة- واسمه شِمْر- بكسر المعجمة- ابن يقظان، أبو إسماعيل الشامّي، ثقة [5] / 21/ 535

(1)

.

5 -

(الوليد بن عبد الرحمن الْجُرَشيّ) -بضمّ الجيم، وفتح الراء-: الحمصيّ الزَّجَّاج، ثقة [4] 103/ 1364.

6 -

(جُبير بن نُفير) الحضرميّ الحمصيّ، ثقة جليل مخضرم [2] 50/ 62.

7 -

(سلمة بن نُفيل) -بنون، وفاء، مصغّرًا- السكونيّ، ثم التَّرّاغِميّ الحضرميّ، له صحبة، قاله أبو حاتم، والبخاريّ، سكن حمص، وأصله من اليمن. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعنه جُبير بن نُفير، وضمرة بن حبيب، والوليد بن عبد الرحمن الجرَشيّ، والصحيح أن بينهما جُبير بن نُفير. تفرّد به المصنّف بحديث الباب فقط. يقال: ما له غيره، لكن قال في "الإصابة": وجدت له حديثًا آخر، أخرجه الطحاويّ، وهو في زيادات أبي عوانة من "صحيحه" انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أنه مسلسلٌ بالشاميين. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: إبراهيم، عن الوليد، عن جبير بن نُفير. (ومنها): أن صحابيّه من المقلين من الرواية، فليس له إلا حديثان فقط، كما مرّ آنفًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ الْكِنْدِيِّ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رسُول اللَّهِ، أَذَالَ النَّاسُ الْخَيْلَ) -بالذال المعجمة- أي أهانوها، يقال: ذال الشيءُ يَذِيل، من باب باع: هان، وأذلته أنا: أهنته، ولم أُحسن القيام به. وإذالة الخيل: امتهانها بالعمل، والحمل عليها. أفاده في "اللسان".

والمراد هنا أنهم أهانوها، واستخفّوا بها بقلّة الرغبة فيها. وقيل: أراد أنهم وضعوا أداة الحرب عنها، وأرسلوها (وَوَضَعُوا السَّلَاحَ) أي تركوه، ولم يستعملوه في قتال

(1)

"إبراهيم بن أبي عبلة"، له عند المصنّف حديثان فقط، هذا، و21/ 535 - حديث عائشة "أعتم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة بالعتمة

" في "كتاب الصلاة".

(2)

"الإصابة" 4/ 236.

ص: 354

العدوّ (وَقَالُوا: لَا جِهَادَ، قدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) -بفتح الهمزة- جمع وِزر -بكسر الواو، وسكون الزاي-: الثِّقْلُ، ومنه وزير الملك؛ لأنه يتحمّل عنه الأثقال: أي انقضى أمر الحرب، وخفّت أثقالها، فلم يبقَ قتال. وقيل في معنى قوله تعالى:{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي إلى أن يضع الأعداء المحاربون أوزارهم، وهو سلاحهم بالهزيمة، أو الموادعة، ويقال: للكُرَاع أوزار، قال الأعشى [من المتقارب]:

وَأَعْدَدتَ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا

رِمَاحًا طِوَالاً وَخَيْلًا ذُكُورَا

وَمِنْ نَسْجِ دَاوُدَ يَحْدِي بِهَا

عَلَى أَثَرِ الْحَيّ عَيْرًا فَعَيْرَا

أفاده القرطبيّ

(1)

.

(فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَجْهِهِ) حتى يكون خطابه مواجهة؛ لأنه المؤثّر في نفوس المخاطبين (وَقَالَ: "كَذَبُوا) بتخفيف الذال المعجمة (الآنَ الآنَ) منصوب على الظرفيّة، ثم يحتمل أن يكون الأول متعلّقًا بما قبله، أي كذبوا الآن، أي في الوقت الذي تحدّثوا فيه بأنه لا جهاد. ويحتمل أن يكون الثاني تأكيدًا للأول، والعامل فيهما قوله (جَاءَ الْقِتَالُ) أي شرع اللَّه تعالى القتال الآن، فكيف يُرفع عنهم سريعًا. أو المعنى: بل الآن اشتدّ القتال، فإنهم قبل ذلك كانوا في أرضهم، واليوم جاء وقت الخروج إلى الأراضي البعيدة.

(وَلَا يَزَالُ) بالتحتانيّة، وفي نسخة:"تزال" بالفوقانيّة (مِنْ أُمَّتِي، أُمَّةٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ) أي لأجل إظهار الحقّ (ويُزِيغُ اللَّهُ) بضمّ أوّله، من الإزاغة، وهو الإمالة، والغالب استعماله في الميل عن الحقّ إلى الباطل (لَهُم قُلُوبَ أَقْوَامٍ، وَيَرْزُقُهُمْ مِنْهُمْ) قال السنديّ: والمراد يميل اللَّه تعالى لهم، أي لأجل قتالهم، وسعادتهم قلوبَ أقوام عن الإيمان إلى الكفر؛ ليقاتلوهم، ويأخذوا مالهم. ويحتمل على بعد أن المراد يميل اللَّه تعالى قلوب أقوام إليهم؛ ليعينوهم على القتال، ويرزق اللَّه تعالى أولئك الأقوام المُعِينين من هؤلاء الأمة بسبب إحسان هؤلاء إلى أولئك. فالمراد بالأمة الرؤساء، وبالأقوام الأتباع، وعلى الأول المراد بالأمة المجاهدون من المؤمنين، وبالأقوام الكفرة. واللَّه تعالى أعلم.

(حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) المراد أن تاتي علاماتها "الكبرى" وذلك طلوع الشمس من مغربها، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها، لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرًا، والريح الطيّبة التي يبعثها اللَّه تعالى في آخر الزمان، تقبض رُوح كلّ مؤمن،

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 16/ 229.

ص: 355

ويبقى شرار الناس، فيتهارجون تهارج الحُمُر

(1)

، فعليهم تقوم الساعة، كما في الحديث الطويل في "صحيح مسلم" في خبر الدجّال، من "كتاب الفتن".

(وَحَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ) أي ما وعده من قيام الساعة، فيكون العطف على سابقه، من عطف المؤكِّد على المؤكَّد.

(وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) جاء تفسير الخير في حديث آخر عند البخاريّ، وغيره من حديث عروة البارقيّ رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم". وقوله: "الأجر والمغنم" بدل من "الخير"، أو خبر مبتدإ محذوف، أي هو الأجر والمغنم. ووقع عند مسلم من رواية جرير، عن حُصين، قالوا: بم يا رسول اللَّه؟ قال: "الأجر والمغنم".

والمراد بالخيل هنا ما يُتّخذ للغزو، بأن يُقاتل عليه، أو يُرتبط لأجل ذلك؛ لقوله في الحديث الآتي: "الخيل ثلاثة

" الحديث، فقد روى أحمد من حديث أسماء بنت يزيد - رضي اللَّه تعالى عنها -، مرفوعًا: "الخيل في نواصيها الخير معقود إلى يوم القيامة، فمن ربطها عُدّةً في سبيل اللَّه، وأنفق عليها احتسابًا، كان شبعها، وجوعها، وريّها، وظمؤها، وأرواثها، وأبوالها فلاحًا في موازينه يوم القيامة

" الحديث.

قال الطيبيّ: يحتمل أن يكون الخير الذي فُسّر بالأجر والمغنم استعارة لظهوره، وملازمته. وخصّ الناصية لرفعة قدرها، وكأنه شبّهه لظهوره بشيء محسوس معقود على مكان مرتفع، فنسب الخير إلى لازم المشبّه به، وذكر الناصية تجريدًا للاستعارة. والمراد بالناصية هنا الشعر المسترسل على الجبهة. قاله الخطّابيّ وغيره. قالوا: ويحتمل أن يكون كَنَى بالناصية عن جميع ذات الفرس، كما يقال: فلانٌ مبارك الناصية. ويبعده لفظ الحديث، فقد روى مسلم من حديث جرير رضي الله عنه، قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَلْوِي ناصية فرسه بأصبعه، ويقول

" فذكر الحديث. فيحتمل أن تكون الناصية خُصّت بذلك؛ لكونها المقدم منها، إشارة إلى أن الفضل في الإقدام بها على العدو، دون المؤخّر؛ لما فيه من الإشارة إلى الإدبار. ذكره في "الفتح"

(2)

.

(وَهُوَ يُوحَى إِلَيّ أنِّي مَقْبُوضٌ) يحتمل أن يكون "هو" ضمير راجعًا إلى اللَّه تعالى، و"يوحي" -بكسر الحاء المهملة مبنيًّا للفاعل-: أي يوحي اللَّه سبحانه وتعالى إليَّ بأني سأموت قريبًا. ويحتمل أن يكون ضمير الشأن، و"يوحَى" مبنييًّا للمفعول: أي الشأن أنه يوحى إلّي كوني ميتًا عن قريب. واللَّه تعالى أعلم (غَيْرُ مُلَبَّثِ) برفع "غير" صفة

(1)

أي يجامع رجالهم نساءهم علانية مثل الحمار.

(2)

"فتح" 6/ 143 - 144.

ص: 356

لـ "مقبوض"، و"ملبث" اسم مفعول من لبّثه غيره، أو من لبّثه بالتشديد، أي غير مؤخّر في الدنيا، بل أنتقل للدار الآخرة (وَأَنْتُمْ تَتَّبِعُونِي) أي تكونون بعدي، فإن التابع يكون بعد المتبوع، أو تلحقون بي بالموت (أَفْنَادًا) -بفتح الهمزة- جمع فِنْد -بكسر الفاء، وسكون النون، بعدها دال مهملة- كحِمْل وأحمال. قال ابن الأثير: أي جماعات متفرقين، قومًا بعد قوم، واحدهم فِنْدٌ. والفِنْد: الطائفة من الليل. ويقال: هو فِنْدٌ على

حدة: أي فِئَةٌ. انتهى

(1)

.

(يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) جملة في محلّ نصب لـ "أفنادًا"(وعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ) قال ابن الأثير: بضم العين، وفتحها: أي أصلها، وموضعها، كأنه أشار إلى وقت الفتن، أي تكون الشام يومئذ أمنًا منها، وأهل الإسلام بها أسلم انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سلمة بن نُفيل - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-1/ 3588 - وفي "الكبرى" 1/ 4401. وأخرجه (الدارمي) في "المقدّمة" 55. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل الخيل. (ومنها): أن الجهاد قائم إلى قيام الساعة، والمراد قربها، وهو وقت مجيئ العلامات "الكبرى" كما مرّ بيانه آنفًا، ففيه بشرى ببقاء الإسلام، وأهله إلى يوم القيامة؛ لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين، وهم المسلمون.

وقد وردت أحاديث كثيرة بمعناه:

[فمنها]: حديث المغيرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر اللَّه، وهم ظاهرون". متّفق عليه.

[ومنها]: "حديث معاوية رضي الله عنه، مرفوعًا: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر اللَّه، لا يضرّهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر اللَّه، وهم ظاهرون على الناس". [ومنها]: حديث ثوبان رضي الله عنه، مرفوعًا: "لا تزال طائفة من أمتي، ظاهرين على

(1)

"النهاية" 3/ 475.

(2)

"النهاية" 3/ 271.

ص: 357

الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم، حتى يأتي أمر اللَّه، وهم كذلك". أخرجه مسلم.

[ومنها]: حديث جابر رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا تزال طائفة من أمتي، يقاتلون على الحقّ، ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزلُ عيسى بن مريم عليه السلام، فيقول أميرهم: تعال صلّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أميرٌ، تكرمةَ اللَّه لهذه الأمّة". أخرجه مسلم.

[ومنها]: حديث عمران بن حصين - رضي اللَّه تعالى عنهما -، مرفوعًا:"لا تزال طائفة من أمتي، يقاتلون على الحقّ، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجّال". أخرجه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم.

[ومنها]: حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على الحقّ، لا يضرّهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك". أخرجه مسلم.

[ومنها]: حديثه أيضًا مرفوعًا: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر اللَّه، قاهرين لعدوّهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تاتيهم الساعة، هم على ذلك". أخرجه مسلم. وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة في هذا المعنى. واللَّه تعالى أعلم.

(ومن فوائد الحديث أيضًا): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، حيث إنه صلى الله عليه وسلم حدّث بما سيكون بعده في أمته، من قتال بعضهم بعضًا. (ومنها): ما قال عياض: في قوله صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير" مع وجيز لفظه من البلاغة، والعذوبة ما لا مزيد عليه في الحسن، مع الجناس السهل الذي بين الخيل والخير. (ومنها): أن فيه تفضيل الخيل على غيرها من الدوابّ؛ لأنه لم يأت عنه صلى الله عليه وسلم في شيء غيرها مثل هذا القول. قاله ابن عبد البرّ. وسيأتي للمصنّف -2/ 3591 - حديث أنس رضي الله عنه: "لم يكن شيء أحبّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل". (ومنها): أن فيه إشارة إلى أن المال الذي يُكتسب باتخاذ الخيل من خير وجوه الأموال، وأطيبها، والعرب تسمّي المال خيرًا. كما قيل في قوله تعالى:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} . قاله الخطّابيّ. (ومنها): أن الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- استدلّ في "صحيحه" بقوله صلى الله عليه وسلم: "الخيل مقعود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة" أن الجهاد ماضٍ مع البرّ والفاجر. وقد سبقه إلى هذا الاستدلال الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى-، ووجه ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ذكر بقاء الخير في نواصي الخيل إلى يوم القيامة، وفسّره بالأجر والمغنم، والمغنمُ المقترنُ بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد، ولم يقيّد ذلك بما إذا كان الإمام عادلًا، فدلّ على أن لا فرق في حصول هذا الفضل بين أن يكون الغزو مع الإمام العادل، أو الجائر. أفاده في "الفتح"

(1)

.

(1)

"فتح" 6/ 144.

ص: 358

(ومنها): أن الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى- استنبط منه إثبات سهم للفرس، يستحقّه الفارس من أجله. قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: فإن أراد السهم الزائد للفارس على الراجل، فلا نزاع فيه، وإن أراد أن للفرس سهمين، غير سهم راكبه، فهو محلّ النزاع، ولا دلالة من الحديث عليه انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3589 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْبُوبُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ -يَعْنِي الْفَزَارِيَّ- عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: فَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ سَتْرٌ، وَهِيَ عَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ، فَالَّذِي يَحْتَبِسُهَا، فِي سَبِيلِ اللهِ، فَيَتَّخِذُهَا لَهُ، وَلَا تُغَيِّبُ فِي بُطُونِهَا شَيْئًا، إِلاَّ كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، غَيَّبَتْ فِي بُطُونِهَا أَجْرٌ، وَلَوْ عَرَضَتْ لَهُ مَرْجٌ

». وَسَاقَ الْحَدِيثَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمرو بن يحيى بن الحارث) الحمصيّ الثقة [21] 67/ 2329، من أفراد المصنف.

2 -

(محبوب بن موسى) أبو صالح الأنطاكيّ الفراء، صدوق [10].

قال أبو حاتم: هو أحبّ إليّ من المسيَّب بن واضح. وقال العجليّ: ثقة، صاحب سنة. وقال الآجريّ، عن أبي داود: ثقة لا يُلتفتُ إلى حكايته إلا من كتاب. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: متقنٌ فاضل. وقال الدارقطنيّ: صويلحٌ، وليس بالقويّ. مات سنة (230) وقيل:(231) وهو ابن (79) سنة. تفرد به المصنّف، وأبو داود، وله عند المصنّف في هذا الكتاب أحد عشر حديثًا: هذا وفي "كتاب قسم الفيء" 1/ 4162 و4165 و 4168 و 4169 و 41770 و 41771 و 41772 و 41773 و 41774 وفي "كتاب الزينة" - "وصل الشعر بالخرق" 68/ 5274.

3 -

(أبو إسحاق الفزاريّ) إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة الكوفيّ الإمام الحافظ الثقة، ذو التصانيف [8] 58/ 863.

4 -

(سُهيل بن أبي صالح) ذكوان، أبو يزيد المدنيّ، صدوق تغيّر حفظه بآخره، روى له البخاريّ مقرونًا وتعليقًا [6] 32/ 820.

5 -

(أبوه) أبو صالح ذكران السمّان الزيّات المدنيّ، ثقة ثبت [3] 36/ 40.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"فتح" 6/ 144 - 145.

ص: 359

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح غير شيخه، وشيخ شيخه كما مرّ آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من سهيل. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه؛ ومنها: أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا" جمع ناصية، وهي الشعر المنسدل على الجبهة (الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) متعلّقٌ بـ "معقود". وفهم منه دوام حكم الجهاد إلى يوم المعاد. وهذا الكلام جَمَعَ من أصناف البديع ما يعجز منه كلُّ بليغ، ومن سُهولة الألفاظ ما يعجب، ويُستطاب. قاله أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

(الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ) وفي رواية: "الخيل لثلاثة". ووجه الحصر في الثلاثة أن الذي يقتني الخيل، إما أن يقتنيها للركوب، أو للتجارة، وكلّ منهما، إما أن يقترن به فعل طاعة اللَّه، وهو الأول، أو معصيته، وهو الأخير، أو يتجرّد عن ذلك، وهو الثاني. قاله في "الفتح"

(2)

(فَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ) هذا هو أحد الثلاثة، أي هي سبب الأجر له عند اللَّه تعالى (وَهِيَ لِرَجُلٍ سَتْرٌ) هذا الثاني، وهو بكسر، فسكون: أي ساتر له تستره عن مذلّة سؤال الناس، أو هو بفتح، فسكون: مصدر ستر يستر، من باب قتل، وصفت بالمصدر للمبالغة، كقولهم زيد عَدْلٌ (وَهِيَ عَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ) هذا الثالث، وهو بكسر، فسكون -أي سبب اكتساب الإثم له (فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ، فَالَّذِى يَحْتَبِسُهَا) أي يرتبطها، ويقتنيها، وفي نسخة:"يحبسها"، وهو بكسر الموحّدة، من باب ضرب (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لأجل إعلاء كلمة اللَّه تعالى، والمراد به الجهاد (فَيَتَّخِذُهَا لَهُ) الضمير لـ"سبيل اللَّه" يعني أن الذي دفعه لاتخاذها هو قصد الجهاد عليها (وَلَا تُغَيِّبُ) بضمّ أوله، وتشديد الياء، من التغييب، والضمير للخيل (فِي بُطُونِهَا شَيْئًا) أي لا يستقرّ في بطنها شيء من المأكولات (إِلاَّ كُتِبَ) بالبناء للمفعول (لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ غَيَّبَتْ فِي بُطُونِهَا أَجْرٌ وَلَوْ عَرَضَتْ لَهُ مَرْجٌ) هكذا نسخ "المجتب""عرضت" بتاء التأنيث؛ وذلك نظرًا لمعنى المرج، بفتح الميم، وسكون الراء، بعدها جيم: وهي -كما في "النهاية" -: الأرض الواسعة، ذات نبات كثير، تَمْرُجُ فيه الدوابُّ، أي تُخَلَّى،

(1)

"المفهم" 3/ 703.

(2)

"فتح" 6/ 154.

ص: 360

تَسْرَح مختلطةً، كيف شاءت

(1)

. ولفظ "الكبرى": "ولو عرض" بدون التاء؛ نظرًا للفظ "مرج"، حيث إنه مذكّر. وقوله (وَسَاق الْحَدِيثَ) أي ساق الحديث بتمامه، والضير يحتمل أن يكون لأبي هريرة رضي الله عنه، أو أبي صالح، فعلى هذا يكون الحديث الآتي هو تمام الحديث، ويحتمل أن يكون لسهيل، أو من دونه، فلا يكون الحديث الآتي تمامه، وقد ساقه مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" مطوّلًا، من طريق سهيل، فقال:

وحدثني محمد بن عبد الملك الأموي، حدثنا عبد العزيز بن المختار، حدثنا سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب كنز، لا يؤدي زكاته، إلا أُحْمِيَ عليه في نار جهنم، فيُجعَل صفائح، فيُكوَى بها جنباه وجبينه، حتى يَحكُم اللَّه بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يُرَى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل، لا يؤدي زكاتها، إلا بُطِحَ لها بِقَاعٍ قَرْقَرِ

(2)

، كأوفر ما كانت، تَستَنُّ عليه

(3)

، كلما مضى عليه أُخراها، رُدّت عليه أولاها، حتى يحكم اللَّه بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنّة، وإما إلى النار، وما من صاحب غنم، لا يؤدي زكاتها، إلا بُطِح

(4)

لها بقاع قرقر، كأوفر ما كانت، فتطؤه بأظلافها، وتَنطِحه بقرونها، ليس فيها عقصاء، ولا جلحاء

(5)

، كلما مضى عليه أخراها، ردت عليه أولاها، حتى يحكم اللَّه بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنّة، وإما إلى النار"، قال سهيل: فلا أدري اذكر البقر، أم لا؟، قالوا: فالخيل يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: "الخيل في نواصيها"، أو قال: "الخيل معقود في نواصيها" -قال سهيل: أنا اشك- "الخير إلى يوم القيامة، الخيل ثلاثة، فهي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأما التي هي له أجر، فالرجل يتخذها في سبيل اللَّه، ويُعِدّها له، فلا تُغيِّب شيئًا في بطونها، إلا كتب اللَّه له أجرا، ولو رعاها في مَرْج، ما أكلت من شيء، إلا كتب اللَّه له بها أجرا، ولو سقاها من نهر، كان له بكل قطرة، تُغَيِّبها في بطونها أجر، حتى ذَكَرَ الأجر في أبوالها، وأرواثها، ولو استنت شَرَفًا

(6)

، أو شرفين، كتب له بكل

(1)

"النهاية" 4/ 315.

(2)

القاع: الأرض المستوي الواسع. والقرقر: المستوي أيضًا.

(3)

أي تجري عليه.

(4)

ألقي على وجهه.

(5)

العفصاء: ملتوية الفرنين. والجلحاء: التي لا قرن لها.

(6)

أي جرت، والشرف العالي من الأرض. وقيل: المراد طلقًا، أو طلقين.

ص: 361

خُطوة تخطوها أجر، وأما الذي هي له ستر، فالرجل يتخذها تكرما، وتجملا، ولا ينسى حقّ ظهورها وبطونها، في عسرها ويسرها، وأما الذي عليه وِزْرٌ، فالذي يتخذها أَشَرًا، وبطرا، وبَذَخًا

(1)

، ورياء الناس، فذاك الذي هي عليه وزر"، قالوا: فالحمر يا رسول اللَّه؟، قال: "ما أنزل اللَّه عليّ فيها شيئًا، إلا هذه الآية الجامعة، الفاذة:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ". انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه مسلم، كما مرّ آنفًا، وبقيّة المسائل ستأتي في الحديث التالي، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3590 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سَتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ، أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ، فِي الْمَرْجِ، أَوِ الرَّوْضَةِ، كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا ذَلِكَ، فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا، أَوْ شَرَفَيْنِ، كَانَتْ آثَارُهَا» ، -وَفِي حَدِيثِ الْحَارِثِ- «وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ، فَشَرِبَتْ مِنْهُ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ تُسْقَى، كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ، فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا، وَتَعَفُّفًا، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ عز وجل فِي رِقَابِهَا، وَلَا ظُهُورِهَا، فَهِيَ لِذَلِكَ سَتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا، وَرِيَاءً، وَنِوَاءً لأَهْلِ الإِسْلَامِ، فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ». وَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْحَمِيرِ فَقَالَ: «لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ، إِلاَّ هَذِهِ الآيَةُ الْجَامِعَةُ، الْفَاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن سلمة) المراديّ الْجَمَليّ المصريّ، ثقة ثبت [11] 19/ 20.

2 -

(الحارث بن مسكين) القاضي المصريّ الفقيه، ثقة [10] 9/ 9.

3 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن الْعُتقيّ المصريّ الفقيه، ثقة، من كبار [10] 19/ 20.

4 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة الثبت الفقيه [7] 7/ 7.

(1)

الأشر بفتحتين: المرح واللجاج، والبطر بفتحتين: الطغيان، والبذخ بفتحتين: بمعنى الأَشَر والبطر.

ص: 362

5 -

(زيد بن أسلم) العدويّ مولاهم المدنيّ، ثقة فقيه يرسل [3] 64/ 8. والباقيان ترجما في السند الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، فقد تفرد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من مالك، والباقون مصريون. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سَتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَأَطَالَ لَهَا) أي في حبلها (فِي مَرْجٍ، أَوْ رَوْضَةٍ) شكّ من الراوي، والمرج موضع الكلإ، وأكثر ما يُطلق على الموضع المطئنّ، والروضة أكثر ما يُطلق في الموضه المرتفع (فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ) -بكسر الطاء المهملة، وفيح التحتانيّة، بعدها لام-: هو الحبل الذي تُربط به، ويُطوّل لها؛ لترعى، ويقال له طِوَلٌ- بالواو المفتوحة- أيضًا. وقال ابن الأثير: الطِّوَلُ، والطِّيَل -بالكسر-: الحبلُ الطويلُ يُشدُّ أحدُ طرفيه في وَتِدٍ، أو غيره، والطرف الآخر في يد الفرس؛ ليدُور فيه، ويَرْعَى، ولا يذهب لوجهه. وطَوَّلَ، وأطال بمعنى: أي شدّها في الحبل انتهى

(1)

(فِي الْمَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ) بالنصب خبرًا لكان، واسمها ضمير يعود إلى قوله:"ما أصابت"(وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا ذَلِكَ فَاسْتَنَّتْ) من الاستنان: أي جرت. قال ابن الأثير: استنّ الفرسُ يَستنُّ استنانًا: أي عدا لمَرَحِهِ، ونشاطه شوطا، أو شوطين، ولا راكب عليه انتهى

(2)

قال أبو عُبيد: الاستنان أن يحضر الفرس، وليس عليه فارس. وقال غيره: استنّ في طيله: أي (شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ) بفتح الشين المعجمة، والراء: وهو العالي من الأرض. وقيل: المراد هنا طلَقًا، أو طلقين (كَانَتْ آثَارُهَا». وَفِي حَدِيثِ الْحَارِثِ «وَأَرْوَاثُهَا) جمع روث -بفتح، فسكون- قال الفيّوميّ: راث الفرس، ونحوه رَوْثًا، من باب قال، والخارج رَوْثٌ، تسمية بالمصدر، والروثة الواحدة منه انتهى (حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ) -بسكون الهاء، وفتحها- قال الفيّومي: النَّهْرُ: الماء الجاري الْمُتَّسِعُ، والجمع نُهُرٌ -بضمّتين-، وأنُهرٌ.

(1)

"النهاية" 3/ 145.

(2)

"النهاية" 2/ 410.

ص: 363

والنَّهَر -بفتحتين لغة، والجمع أنهارٌ، مثلُ سبب وأسباب، ثم أُطلق النهر على الأخدود، مجازًا؛ للمجاورة، فيقال: جرى النهر، وجفّ النهر، كما يقال: جرى الميزاب، والأصل جرى ماء النهر. انتهى (فَشَرِبَتْ مِنهُ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ تُسْقَى) بالبناء للمفعول: أي لم يرد صاحب الفرس أن يسقي فرسه الماء (كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ) أي فإذا كان هذا حالَهُ مع عدم الإرادة، فاستحقاقه كتابة الحسنات مع الإرادة يكون من بابٍ أولى. قال النوويّ: هذا من باب التنبيه؛ لأنه إذا كان تحصل له هذه الحسنات من غير قصد، فمع القصد أولى بإضعاف الحسنات انتهى

(1)

.

وقال السنديّ. وهذا لا يخالف حديث "إنما الاعمال بالنيّات"؛ لأن المفروض وجود النيّة في أصل ربط هذه الفرس، وتلك كافية. انتهى

(2)

.

(فَهِيَ لَهُ أجْرٌ) أي سبب لحصول الأجر العظيم، فالتنوين للتعظيم (ورجُلٌ رَبَطَهَا

تَغَنِّيًا) -بفتح المثنّاة، والمعجمة، ثم نون ثقيلة مكسورة، وتحتانيّة-: أي استغناء عن الناس، تقول: تغنّيت بما رزقني اللَّه تغَنّيًا، وتغانيت تغانِيًا، واستغنيت استغناءً: كلها بمعنى (وَتَعَفُّفًا) أي عن السؤال، والمعنى أنه يطلب بنتاجها، أو بما يحصل من أُجرتها ممن يركبها، أو نحو ذلك الغنى عن الناس، والتعفّف عن مسألتهم. وفي رواية سهيل، عن أبيه عند مسلم المتقدّمة:"وأما الذي هي له ستر، فالرجل يتّخذها تعفّفّا، وتكرّمًا، وتجمّلًا".

(وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ عز وجل فِي رِقَابِهَا، وَلَا ظُهُورِهَا) قيل: المراد حسن ملكها، وتعقد شبعها، وريهّا، والشفقة عليها في الركوب، وإنما خصّ رقابها بالذكر؛ لأنها تستعار كثيرًا في الحقوق اللازمة، ومنه قوله سبحانه وتعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ، وهذا جواب من لم يوجب الزكاة في الخيل، وهو قول الجمهور. وقيل: المراد بالحقّ إطراق فحدها، والحمل عليها في سبيل اللَّه، وهو قول الحسن، والشعبيّ، ومجاهد. وقيل: المراد بالحقّ الزكاة، وهو قول حمّاد، وأبي حنيفة، وخالفه صاحباه، وفقهاء الأمصار. قال أبو عمر: لا أعلم أحدًا سبقه إلى ذلك. ذكره في "الفتح"

(3)

.

وقال النوويّ في "شرحه": استدلّ به أبو حنيفة على وجوب الزكاة في الخيل، ومذهبه أنه إن كانت كلها ذكورًا، فلا زكاة فيها، وإن كانت إناثًا، أو ذكورًا وإناثًا وجبت الزكاة، وهو بالخيار، إن شاء أخرج عن كلّ فرس دينارًا، وإن شاء قوّمها، وأخرج ربع

(1)

"شرح مسلم" 7/ 67.

(2)

"شرح السندي" 6/ 216 - 217.

(3)

"فتح" 6/ 154 - 155.

ص: 364

عشر القيمة.

وقال مالك، والشافعيّ، وجماهير العلماء: لا زكاة في الخيل بحال؛ للحديث السابق: "ليس على المسلم في فرسه صدقة"

(1)

. وتأولوا الحديث على أن المراد أنه يجاهد بها، وقد يجب الجهاد بها إذا تعيّن. وقيل: يحتمل أن المراد بالحقّ في رقابها الإحسان إليها، والقيام بعلفها، وسائر مُؤَنها. والمراد بظهورها: إطرق فحلها إذا طُلبت عاريته، وهذا على الندب. وقيل: المراد حقّ اللَّه مما يُكسب من مال العدوّ على ظهورها، وهو خمس الغنيمة انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدّم في "كتاب الزكاة" أن الحقّ هو ما عليه الجمهور من عدم وجوب الزكاة في الخيل؛ للحديث المذكور. واللَّه تعالى أعلم.

(فَهِيَ لِذلِكَ سِترٌ) بفتح السين، وكسرها، كما تقدّم (وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا) أي تعاظمًا (وَرِيَاءً) أي إظهارًا للطاعة، والباطن بخلاف ذلك. وفي رواية سهيل المتقدّمة:"وأما الذي هي عليه وزرٌ، فالذي يتّخذها أَشَرًا، وبَطَرًا، وبَذَخًا، ورِيَاءً للناس"، والبذخ بفتحتين: بمعنى الأشر، والبطر (وَنِوَاءً لأَهْلِ الإِسْلَامِ) بكسر النون، والمدّ، وهو مصدرٌ، تقول: ناوات العدوّ مناوأةً، ونِوَاءً، وأصله من ناء: إذا نهض، ويُستعمل في المعاداة، قال الخليل: ناوأت الرجلَ: ناهضته بالعداوة. وحكى عياض عن الداوديّ شارح البخاريّ أنه وقع عنده: "ونَوًى" بفتح النون، والقصر، قال: ولا يصحّ ذلك. قال الحافظ: حكاه الإسماعيليّ عن رواية إسماعيل بن أبي أويس، فإن ثبت، فمعناه: وبُعْدًا لأهل الإسلام، أي منهم.

والظاهر أن الواو في قوله: "ورياءً، ونواءً" بمعنى: "أو"؛ لأن هذه الأشياء قد تفترق في الأشخاص، وكلّ واحد منها مذموم على حدته انتهى كلام الحافظ.

(فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ) أي سبب تحمل وزر (وَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ: لم أقف على تسمية السائل صريحًا (عَنِ الْحَمِيرِ فَقَالَ: «لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلاَّ هَذِهِ الآيَةُ الْجَامِعَةُ) أي العامّة المتناولة لكلّ خير وشرّ (الْفَاذَّةُ) -بالفاء، وتشديد الذال المعجمة-: أي المنفردة في معنها القليلة النظير. قال في "الفتح": سمّاها جامعةً لشمولها لجميع الأنواع من طاعة ومعصية، وسمّاها فاذّة؛ لانفرادها في معناها. قال ابن التين: والمراد أن الآية دلّت على أن من عمل في اقتناء الحمير طاعة رأى ثواب ذلك، وإن عمل معصيةً، رأى عقاب ذلك.

(1)

متّفقٌ عليه، وتقدّم للنسائيّ في "الزكاة" برقم 2467.

(2)

"شرح مسلم" 7/ 66.

ص: 365

({فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي مقدار أصغر نملة (خَيْرًا) منصوب على التمييز لـ"ذرّة"(يَرَهُ) أي في الآخر؛ ليجازى عليه خَيْرًا ({وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}) أي ليجازى عليه شرًا؛ إذ الجزاء من جنس العمل. وأنشدوا في معنى الآية [من الخفيف]:

إِنَّ مَنْ يَعْتَدِي وَيَكْسِبُ إِثْمًا

وَزْنَ مِثْقَالِ ذَرَّةِ سَيَرَاهُ

وَيُجَازَى بِفِعْلِهِ الشَّرِّ شَرًّا

وَبِفِعْلِ الْجَمِيلِ أَيْضًا جَزَاهُ

هَكَذَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ رَبِّي

فِي {إِذَا زُلْزِلَتِ} وَجَلَّ ثَنَاهُ

(1)

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهوالمستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-1/ 3589 و3590 و11/ 3609 - وفي "الكبرى" 1/ 4402 و 4403 و 11/ 4423. أخرجه (خ) في "المساقاة" 2371 و"الجهاد والسير" 2853 (م) في "الزكاة" 987 (ت) في "فضائل الجهاد" 1636 (ق) في "الجهاد" 2788 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7509 و 8649 و 8754 (الموطأ) في "الجهاد" 975. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل الخيل. (ومنها): بيان أن الخيل إنما يكون في نواصيها الخير والبركة، إذا كان اتخاذها في الطاعة، أو في الأمور المباحة، وإلا فهي مذمومة. (ومنها): أن فيه تحقيق إثبات العمل بظواهر العموم، وأنها ملزمة، حتى يدلّ دليل التخصيص. (ومنها): أن فيه إشارة إلى الفرق بين الحكم الخاصّ المنصوص، والعامّ الظاهر، وأن الظاهر دون المنصوص في الدلالة، ومحلّ بحث هذه المسألة فنّ أصول الفقه.

(ومنها): أن ابن بطال قال: فيه تعليم الاستنباط والقياس؛ لأنه شبّه ما لم يذكر اللَّه حكمه في كتابه، وهو الحمر، بما ذكره من عمل مثقال ذرّة من خير أو شرّ، إذ كان معناهما واحدًا، قال: وهذا نفس القياس الذي ينكره من لا فهم عنه.

(1)

راجع تفسير القرطبيّ 20/ 152.

ص: 366

وتعقبه ابن الْمُنَيِّر بأن هذا ليس من القياس في شيء، وإنما هو استدلال بالعموم، وإثبات لصيغته، خلافًا لمن أنكر، أو وقف. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌2 - (بَابُ حُبِّ الْخَيْلِ)

3592 -

(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بَعْدَ النِّسَاءِ مِنَ الْخَيْلِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث تقدّم للمصنّف سندًا، ومتنًا في "كتاب عشرة النساء" 1/ 3941 - وتقدّم شرحه، وأنه حديث ضعيف؛ لعنعنة قتادة، وهو مدلّسٌ، ولاختلاط سعيد بن أبي عروبة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌3 - (ما يُسْتَحَبُّ مِنْ شِيَةِ الْخَيْلِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: المراد بيان ما يُستحسن من ألوان الخيل. و"الشِّيَةُ" - بكسر الشين المعجمة، وفتح المثناة التحتانيّة- قال الفيّوميّ: العلامة، وأصلها وِشْيَةٌ، والجمع شِيَات، مثل عِدَات، وهي في ألوان البهائم سواد في بياض، أو بالعكس انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(1)

"فتح" 6/ 155.

ص: 367

3593 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْبَزَّازُ، هِشَامُ بْنُ سَعِيدٍ، الطَّالْقَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ شَبِيبٍ، عَنْ أَبِي وَهْبٍ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، «تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عز وجل، عَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَارْتَبِطُوا الْخَيْلَ، وَامْسَحُوا بِنَوَاصِيهَا، وَأَكْفَالِهَا، وَقَلِّدُوهَا، وَلَا تُقَلِّدُوهَا الأَوْتَارَ، وَعَلَيْكُمْ بِكُلِّ كُمَيْتٍ، أَغَرَّ مُحَجَّلٍ، أَوْ أَشْقَرَ، أَغَرَّ مُحَجَّلٍ، أَوْ أَدْهَمَ، أَغَرَّ مُحَجَّلٍ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن رافع) القشيريّ، أبو عبد اللَّه النيسابوري، ثقة عابد [11] 92/ 114.

2 -

(أبو أحمد البزّاز- بزازيين- هشام بن سعيد الطالقانيّ) نزيل بغداد، صدوق، من صغار [9].

قال الجوزجانيّ، عن أحمد: ثقة، صاحب خير وصلاح في بدنه. وقال عبد اللَّه بن أحمد: كان يحيى بن معين لا يروي عنه شيئًا. وقال ابن سعد: كان ثقة، مات قبل أن يسمع منه الناس. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في الثقات. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

3 -

(محمد بن مهاجر) بن أبي مسلم دينار الأنصاريّ الشاميّ، أخو عمرو، مولى أسماء بنت يزيد الأشهليّة، ثقة [7].

قال أحمد، وابن معين، ودُحيمٌ، وأبو زرعة الدمشقيّ، وأبو داود، والعجليّ: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة، وأخوه عمرو ثقة، ولهما أحاديث كِثَارٌ حِسَان. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان متقنًا. قال الهيثم بن خارجة وغيره: مات سنة (170) روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

4 -

(عَقِيل -بفتح العين المهملة، وكسر القاف- ابن شَبيب) - بمعجمة مفتوحة، وموحّدتين، بينهما مثناة تحتانيّة- وقيل: سعيد، مجهول [4].

روى عن أبي وهب الْجُشَميّ، وعنه محمد بن مهاجر، ذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن القطّان: مجهول الحال. وكذا قال أبو حاتم في "كتاب العلل"، واختُلف عنده في اسم أبيه، فقيل: شبيب، وقيل: سعيد. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

5 -

(أبو وهب) الْجُشَميّ، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه عَقِيل بن شبِيب. قال البغويّ:

ص: 368

سكن الشام، وله حديثان

(1)

. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديث الباب فقط. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي وَهْبٍ) الْجُشميّ، لا يُعرف اسمه (وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ) ذكره ابن السكن وغير واحد في الصحابة، وقال أبو أحمد في "الكنى": له صحبة، وحديثه في أهل اليمامة (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، تَسَمَّوْا) بفتح الميم المشدّدة، صيغة أمر من التّسمّي، وأصله "تَسَمَّيُوا" بوزن تكلّموا، فقلبت الياء ألفًا؛ لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار تَسَمَّوا، فليست الفتحة ما قبل الواو، بل ما قبلها محذوف؛ لما ذُكر، فلا يقال: كان الحقّ أن يُضم ما قبل الواو، فتنبّه، وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك في "خلاصته" حيث قال:

مِنْ وَاوِ أَوْ ياء بِتَحْرِيكٍ أُصِلْ

أَلِفًا ابْدِلْ بَعْدَ فَتْحِ مُتَّصِلْ

إِنَّ حُرِّكَ التَّالِي وَإِنْ سُكِّنَ كَفٌّ

إِعْلاُلَ غَيْرِ اللَّامِ وَهْيَ لَا يُكَفُّ

إِعْلالُهَا بِسَاكِنٍ غَيرِ أَلِفْ

أَوْ يَاءٍ التَّشْدِيدُ فِيهَا قَدْ أُلِفْ

(بِأِسْمِاءِ الأِنْبيَاءِ) - عليهم الصلاة والسلام -، وقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سمّى ولده بإبراهيم، فيستفاد منه استحباب التسمّي بأسماء الأنبياء، وأما الأمر به فما جاء إلا في هذا الحديث، وهو ضعيف، كما سيأتي، وأما قوله (وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عز وجل، عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ) فصحيح، أخرجه مسلم بلفظ:"إن أحبّ أسمائكم إلى اللَّه عبد اللَّه، وعبد الرحمن".

وإنما كان التسمّي بعبد اللَّه، وعبد الرحمن أحبّ إلى اللَّه عز وجل؛ لما فيه من الاعتراف بالعبوديّة للَّه تعالى، والمراد هما، وأمثالهما، كعبد الرحيم، وعبد العزيز، وعبد الحميد، وغير ذلك (وَارْتَبِطُوا الْخَيْلَ) أمر بالارتباط، وهو مبالغة في الربط، وهو كناية عن اعتلافها، وإعدادها للغزو عليها (وَامْسَحُوا بِنَوَاصِيهَا) جمع ناصية، وهو شعرها المنسدل على جبهتها (وَأَكْفَالِهَا) بفتح الهمزة، جمع كَفَل بفتحتين، وهو عجزها. والمقصود من المسح تنظيفها من الغبار، وتَعرّف حال سِمَنها، وقد يحصل به الأُنس للفرس بصاحبه (وَقَلِّدُوهَا) بكسر اللام المشدّدة، أمر من التقليد، أي اجعلوا القلادة في عنقها. قال القاري: أي اجعلوا ذلك ملازمًا لها في أعناقها لزوم القلائد للأعناق.

(1)

هو حديث الباب فرقه حديثين، بل جعله أبو داود ثلاثة أحاديث، وساقه المصنّف مساقًا واحدًا.

ص: 369

وقيل: معناه اجعلوا في أعناق الخيل ما شئتم (وَلَا تُقَلِّدُوهَا الأَوْتَارَ) قال ابن الأثير: أي قلّدوها طلب أعداء الدين، والدفاع عن المسلمين، ولا تقلّدوها طلب أوتار الجاهليّة، وذُحُولها

(1)

التي كانت بينكم، والأوتار جمع وِتْر بالكسر، وهو الدم، وطلب الثأر، يريد اجعلوا ذلك لازمًا لها في أعناقها لُزُوم القلائد للأعناق. وقيل: أراد بالأوتار جمع وَتَر القوس: أي لا تجعلوا في أعناقها الأوتار، فتَختَنقَ؛ لأن الخيل ربّما رَعَت الأشجار، فنشِب الأوتارُ ببعض شُعَبها، فَخَنَقَها.

وقيل: إنما نهاهم عنها؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن تقليد الخيل بالأوتار يدفع عنها العين والأذى، فتكون كالعُذوة لها، فنهاهم، وأعلمهم أنها لا تدفع ضررًا، ولا تَصرِفُ حَذَرًا انتهى

(2)

.

(وَعَلَيْكُمْ بِكُلِّ كُمَيْتٍ) بضمّ الكاف، بصيغة التصغير: هو الذي لونه بين السواد والحمرة، يستوي فيهى المذكّر والمؤتث (أَغَرَّ) هو الذي في وجهه غرّة، أي بياضٌ (مُحَجَّلٍ) بصيغة اسم المفعول، من التحجيل -بتقديم المهملة على الجيم- وهو الذي في قوائمه بياض. وقال في "النهاية": هو الذي يرتفع البياض في قوائمه إلى موضع القيد، ويُجاوز الأرسغ، ولا يُجاوز الركبتين؛ لأنها مو اضع الأَحْجَالِ، وهي الخلاخيل والقيود، ولا يكون التحجيل باليد واليدين، ما لم يكن معها رجلٌ، أو رجلان. انتهى

(3)

.

(أَوْ أَشْقَرَ) أي أحمر خالصًا. قال الفيّوميّ: الشُّقْرة من الألوان حُمْرة تعلو بياضًا في الإنسان، وحمرة صافية في الخيل. قاله ابن فارس (أَغَرَّ مُحَجَّلٍ، أَوْ أَدْهَمَ) أي أسود قال الفيّوميّ: الدُّهْمة السواد، يقال: فرسٌ أدهم، وبعيرٌ أدهم، وناقَةٌ دهماء: إذا اشتدّت وُرْقته حتى ذهب بياضه، وشاةٌ دهماء: خالصة الْحُمْرة انتهى (أَغَرَّ مُحَجَّلٍ) واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي وهب هذا ضعيفٌ؛ لجهالة عَقِيل بن شبيب، كما تقدّم في ترجمته.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-3/ 3592 - وفي "الكبرى" 4/ 4406. وأخرجه (د) في "الجهاد" 2543 و"الأدب" 4950 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 18553. واللَّه تعالى أعلم

(1)

الذَّحْلُ: الثأر، أو هو العداوة، والحقد."ق".

(2)

"النهاية" 4/ 99.

(3)

"النهاية" 1/ 346.

ص: 370

بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌4 - (الشِّكَالُ فِي الْخَيْلِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هو بكسر الشين المعجمة، وتخفيف الكاف، اختُلف في تفسيره على أقوال، سيأتي بيانها قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى أعلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3594 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، ح وَأَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَكْرَهُ الشِّكَالَ مِنَ الْخَيْلِ، وَاللَّفْظُ لإِسْمَاعِيلَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ ابن راهويه المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدريّ، أبو مسعود البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

3 -

(محمد بن جعفر) الْهُذليّ، أبو عبد اللَّه البصريّ المعروف بغندر، ثقة، صحيح الكتاب [9] 21/ 22.

4 -

(بشر) بن المفضّل بن لاحق، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت عابد [8] 66/ 82.

5 -

(شعبة) بن الحجّاج الإمام البصريّ الحجة الثبت [7] 24/ 27.

6 -

(عبد اللَّه بن يزيد) النخعيّ الكوفيّ، هذا خطأ، والصواب أنه سلم بن عبد الرحمن الآتي في السند التالي، كما قاله الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى-، قال: أخطأ شعبة في اسمه، وستأتي ترجمته هناك.

7 -

(أبو زرعة) بن عمرو بن جرير بن عبد اللَّه البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: غير ذلك، ثقة [3] 43/ 50.

8 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 371

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الثاني، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، إلى عبد اللَّه بن يزيد. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين من الرواية. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُ الشِّكَالَ مِنَ الْخَيْلِ) "الشِّكال" -بكسر الشين المعجمة-: فسره المصنّف في الرواية التالية بأن تكون ثلاثُ قوائم محجّلةً، وواحدةٌ مطلقة، أو تكون الثلاثة مطلقة، ورجلٌ محجّلة، وليس يكون الشكال إلا في رجل، ولا يكون في اليد. وفسره في رواية مسلم، فقال: والشكال أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياضٌ، وفي يده اليسرى، أو في يده اليمنى، ورجله اليسرى انتهى.

والتفسير الذي فسّر به المصنّف هو تفسير الجمهور، قال النوويّ في "شرحه" بعد أن ذكر التفسير المذكور في مسلم: وهذا التفسير أحد الأقوال في الشِّكال. وقال أبو عبيد، وجمهور أهل اللغة والغريب: هو أن يكون منه ثلاث قوائم محجّلة، وواحدة مطلقة، تشبيها بالشِّكال الذي تشكل به الخيل؛ فإنه يكون في ثلاث قوائم غالبًا. قال أبو عُبيد: وقد يكون الشِّكال ثلاث قوائم مطلقة، وواحدة محجّلة، قال: ولا تكون المطلقة من الأرجل، أو المحجّلة إلا الرجل. وقال ابن دريد: الشِّكال أن يكون مُحجّلًا من شقّ واحد في يده ورجله، فإن كان مخالفًا قيل: شِكَالٌ مخالفٌ

(1)

.

وقال في "النهاية": الشِّكال: هو أن تكون ثلاث قوائم منه محجّلةً، وواحدة مطلقة؛ تشبيهًا بالشكال الذي تُشكل به الخيل؛ لأنه يكون في ثلاث قوائم غالبًا. وقيل: هو أن تكون الواحدة محجّلةً، والثلاث مُطلقة. وقيل: هو أن تكون إحدى يديه، وإحدى رجليه من خلاف محجّلتين. وإنما كرهه لأنه كالمشكول صورةً تفاؤلًا، ويمكن أن يكون جرّب ذلك الجنس، فلم يكن فيه نجابةٌ. وقيل: إذا كان مع ذلك أغرّ زالت الكراهة؛ لزوال شبه الشِّكَال انتهى

(2)

.

وقال الحافظ وليّ الدين: اختُلف في تفسير الشّكال المنهيّ عنه على عشرة أقوال،

(1)

"شرح مسلم" 13/ 22 - 23.

(2)

"النهاية" 2/ 496.

ص: 372

فذكر الثلاثة المتقدّمة، قال:[والرابع]: أن يكون التحجيل في يد ورجل، من شِقّ واحد، فإن كان مخالفًا قيل: شِكالٌ مخالف. [والخامس]: أن الشكال بياض الرجل اليمنى. [والسادس]: أنه بياض اليسرى. [والسابع]: أنه بياض الرجلين. [والثامن]: أنه بياض اليدين. [والتاسع]: أنه بياض اليدين، ورجل واحدة [والعاشر]: بياض الرجلين، ويد واحدة. حكى هذه الأقوال السبعة المنذريّ في "حواشيه"، والثلاثة الأُوَلُ مشهورة، والثالث منها هو الذي فُسّر به الشكال في حديث أبي داود -يعني التفسير الذي تقدّم في رواية مسلم- فالأخذ به أولى؛ لأنه إما من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو من كلام الراوي، وهو أعرف بتفسير الحديث. انتهى

(1)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ -بعد ذكر الأقوال-: وليس فيها ما يوافق ذلك التفسير إلا

ما حكاه ابن دريد من الشكال المخالف، فإن صحّ أن ذلك من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فهو حقّ - واللَّه تعالى أعلم- وإن كان ذلك من قول بعض الرواة، فالمعروف عند اللغويين ما قدّمته من قول أبي عبيد.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي قاله أبو عبيد هو الذي فسّر به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في الرواية التالية.

قال: ويحتمل أن يكون كره اسم الشِّكال من جهة اللفظ؛ لأنه يُشعر بنقيض ما تراد الخيل له، وهذا كما قال:"لا أُحب العقوق"

(2)

ويحتمل أن يكرهه لما يقال: إن حوافر المشكل، وأعضاءه ليس فيها من القوّة ما فيما ليس كذلك انتهى

(3)

.

وقوله (واللَّفْظُ لإسْمَاعِيلَ) يعني أن لفظ المتن الذي ساقه هنا لشيخه إسماعيل بن مسعود، وأما شيخه إبراهيم بن راهويه، فرواه بالمعنى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 4/ 3593 و 3594 - وفي "الكبرى" 5/ 4407 و 4408. وأخرجه (م) في "الإمارة" 1875 (د) في "الجهاد" 2547 (ت) في "الجهاد" 1698 (ق) في "الجهاد"

(1)

راجع "زهر الربى" 6/ 220 - 221.

(2)

راوه أحمد 2/ 194 و 5/ 369 و430.

(3)

"المفهم" 3/ 704.

ص: 373

2790 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 6360 و 9343 و 27795 و 9804. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3595 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَرِهَ الشِّكَالَ مِنَ الْخَيْلِ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الشِّكَالُ مِنَ الْخَيْلِ، أَنْ تَكُونَ ثَلَاثُ قَوَائِمَ مُحَجَّلَةً، وَوَاحِدَةٌ مُطْلَقَةً، أَوْ تَكُونَ الثَّلَاثَةُ مُطْلَقَةً، وَرِجْلٌ مُحَجَّلَةً، وَلَيْسَ يَكُونُ الشِّكَالُ إِلاَّ فِي رِجْلٍ، وَلَا يَكُونُ فِي الْيَدِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان. و"سفيان": هو الثوريّ.

و"سلم بن عبد الرحمن" النخعيّ الكوفيّ، أخو حُصين، قيل: يكنى أبا عبد الرحيم، صدوق [6].

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال النسائيّ: ليس به بأس. ونقل ابن شاهين في "الثقات" عن أحمد بن حنبل أنه قال: ثقة. وقال العجليّ، والدارقطنيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وله عندهم حديث الباب فقط.

[تنبيه]: كون اسم هذا المترجم سلم بن عبد الرحمن، هو الذي في النسخة الهنديّة من "المجتبى"، وهو الذي في "صحيح مسلم" 13/ 22 - بنسخة "شرح النوويّ"، و"سنن أبي داود" 7/ 219 - بنسخة "عون المعبود"، و"تحفة الأشراف" 10/ 438 - 439 - وهو الصواب، ووقع في النسخ المطبوعة من "المجتبى""سالم بن عبد الرحمن" بألف بعد السين، وفي "الكبرى""مسلم بن عبد الرحمن" بزيادة ميم في أوله، وكلاهما تصحيف، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌5 - (بَابُ شُؤْمِ الْخَيْلِ)

أي هل هو على عمومه، أو مخصوص ببعض الخيل؟ وهل هو على ظاهره، أو مؤوّل؟، وسيأتي تفصيل ذلك.

ص: 374

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أشار المصنف -رحمه اللَّه تعالى- بالترجمة التي بعد هذه، حيث قال:"باب بركة الخيل" إلى أن الشؤم المذكور في حديث الباب، إنما هو في بعض الخيل، دون بعض، وهذا من دقيق فهمه، ونظره -رحمه اللَّه تعالى-، وسيأتي قريبًا بيان اختلاف أهل العلم في معنى الشؤم في الأشياء الثلاثة المذكورة في الحديث، ولكن أذكر هنا ما أراه راجحًا عندي تقريبًا للاستفادة، وهو ما قاله أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المفهم"، مرجحًا حمل الإمام مالك -رحمه اللَّه تعالى- الحديث على ظاهره، حيث قال:

وقال أبو عبد اللَّه: إن مالكًا أخذ بحديث الشؤم في الدار، والمرأة، والفرس، وحمله على ظاهره، ولم يتأوله، فذكر في "كتاب الجامع" من "العتبيّة" أنه قال: ربّ دار سكنها قومٌ، فهلكوا، وآخرون بعدهم، فهلكوا، وأشار إلى حمل الحديث على ظاهره،

ويعضد هذا حديث يحيى بن سعيد، قال: جاءت امرأةٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه، دار سكنّاها، والعدد كثير، والمال وافر، فذهب العدد، وقلّ المال، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"دعوها ذَمِيمة"

(1)

.

قال القرطبيّ: ولا يُظنّ بمن قال هذا القول: أن الذي رُخّص فيه من الطيرة بهذه الأشياء الثلاثة هو على نحو ما كانت الجاهليّة تعتقد فيها، وتفعل عندها، فإنها كانت لا تُقدِم على ما تطيّرت به، ولا تفعله بوجهِ، بناءً على أن الطيرة تضرّ قطعًا، فإن هذا ظنّ خطأ، وإنما يعني بذلك أن هذه الأشياء أكثر ما يتشاءم الناس بها؛ لملازمتهم إياها، فمن وقع في نفسه شيء من ذلك، فقد أباح الشرع له أن يتركه، ويستبدل به غيره، مما تطيب به نفسه، ويسكن له خاطره، ولم يُلزمه الشرع أن يُقيم في موضع يكرهه، أو مع امرأة يكرهها، بل قد فسح له في ترك ذلك كلّه، لكن مع اعتقاد أن اللَّه تعالى هو الفغال لما يُريد، وليس لشيء من هذه الأشياء أثرٌ في الوجود، وهذا على نحو ما ذكرناه في المجذوم.

(1)

الحديث بهذا السند ليس متصلًا، وقد أخرجه البيهقيّ -8/ 140 - بإسناد صحيح، عن عبد اللَّه بن شدّاد بن الهاد أن امرأة من الأنصار، قالت: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، سكنا دارنا هذه، ونحن كثير، فهلكنا، وحسنٌ ذات بيننا، فساءت أخلاقنا، وكثيرٌ أموالنا، فافتقرنا، فقال:"أفلا تنتقلون عنها ذميمة"، قالت: فكيف نصنع بها يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛، قال:"تبيعونها، أو تهبونها". قال البيهقيّ: هذا مرسل. وتعقّبه ابن التركماني، فقال: هذه المرأة صحابيّة، وابن شداد سمع جماعة من قدماء الصحابة، كعمر، وعليّ، ومعاذ رضي الله عنهم، وقولهم: إن فلانا قال: كذا، كالعنعنة عند جماهير أهل الحديث، فالحديث إذًا مرفوع انتهى. 8/ 140.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله ابن التركماني هو الصواب، فالحديث متّصل صحيح. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 375

[فإن قيل]: فهذا يجري في كلّ مُتطيَّر به، فما وجه خصوصيّة هذه الثلاثة بالذكر؟.

[فالجواب]: ما نبّهنا عليه من أن هذه ضروريّةٌ في الوجود، ولا بدّ للإنسان منها، ومن ملازمتها غالبًا، فأكثر ما يقع التشاؤم بها، فخصّها بالذكر لذلك.

[فإن قيل]: فما الفرق بين الدار، وبين موضع الوباء، فإن الدار إذا تُطُيِّر بها، فقد وُسِّع له في الارتحال عنها، وموضع الوباء قد مُنع من الخروج منه؟.

[فالجواب]: ما قاله بعض أهل العلم: إن الأمور بالنسبة إلى هذا المعنى ثلاثة أقسام:

[أحدها]: ما لم يقع التأذّي به، ولا اطّردت عادة به خاصّةٌ، ولا عامّةٌ، لا نادرة، ولا متكرّرةٌ، فهذا لا يُصغَى إليه، وقد أنكر الشرع الالتفات إليه، كلُقِيّ غراب في بعض الأسفار، أو صُراخ بُومة في دار، ففي مثل هذا قال صلى الله عليه وسلم:"لا طِيَرَة"، و"لا تطيَّرُوا"، وهذا القسم هو الذي كانت العرب تعتبره، وتعمل عليه، مع أنه ليس في لقاء الغراب، ولا دخول البومة دارًا ما يُشعر بأذًى، ولا مكروه، لا على جهة الندور، ولا التكرار.

[وثانيها]: ما يقع به الضرر، ولكنه يعمّ، ولا يخصّ، ويندر، ولا يتكرّر، كالوباء، فهذا لا يُقْدَمُ عليه؛ عملًا بالحزم والاحتياط، ولا يفرّ منه لإمكان أن يكون قد وصل الضرر إلى الفارّ، فيكون سفره سببًا في محنته، وتعجيلّا لهلكته، كما قدّمناه.

[وثالثها]: سببٌ يخصّ، ولا يعم، ويلحق منه الضرر بطول الملازمة، كالدار، والفرس، والمرأة، فيباح له الاستبدال، والتوكّل على اللَّه تعالى، والإعراض عما يقع في النفوس منها من أفضل الأعمال، وقد وضح الجواب. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي بينه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-، وفصّله بيان، وتفصيلٌ حسنُ جدًّا، يجمع بين أحاديث الباب المختلفة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3596 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ: الْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ، وَالدَّارِ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(محمد بن منصور) بن ثابت بن خالد الْخُزَاعيّ الْجَوّاز المكيّ، ثقة [10] 20/ 21.

3 -

(سفيان) بن عيينة بن أبي عمران الهلاليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثم

(1)

"المفهم" 5/ 629 - 631. "كتاب الرقى والطبّ".

ص: 376

المكيّ، ثقة ثبت حجة [8] 1/ 1.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم، أبو بكر المدنيّ الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

5 -

(سالم) بن عبد اللَّه العدويّ المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 23/ 490.

6 -

(أبوه) عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الثاني، فمن أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من الزهريّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه سالم أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، ومن المشهورين بالفتوى. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَالِمٍ) بن عبد اللَّه. وفي رواية البخاريّ، من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ:"أخبرني سالم". قال في "الفتح": كذا صرّح شعيب عن الزهريّ بإخبار سالم له، وشذّ ابن أبي ذئب، فأدخل بين الزهريّ، وسالم محمد بن زُبيد بن قنفذ، واقتصر شعيب على سالم، وتابعه ابن جريج، عن ابن شهاب عند أبي عوانة، وكذا عثمان بن عمر، عن يونس، عن الزهريّ، عند البخاريّ في "الطبّ"، وكذا أكثر أصحاب سفيان، عنه، عن الزهريّ، ونقل الترمذيّ عن ابن المدينيّ، والحميديّ أن سفيان كان يقول: لم يرو الزهريّ هذا الحديث إلا عن سالم انتهى. وكذا قال أحمد عن سفيان: إنما نحفظه عن سالم.

لكن هذا الحصر مردود، فقد حدّث به مالك عن الزهريّ، عن سالم، وحمزة ابني عبد اللَّه بن عمر، عن أبيهما، ومالك من كبار الحفّاظ، ولا سيّما في حديث الزهريّ. وكذا رواه ابن أبي عمر، عن سفيان نفسه، أخرجه مسلم، والترمذيّ عنه، وهو يقتضي رجوع سفيان عما سبق من الحصر، وأما الترمذيّ، فجعل رواية ابن أبي عمر هذه مرجوحة. وقد تابع مالكًا أيضًا يونس من رواية ابن وهب عنه، كما عند البخاريّ في "الطبّ"، وصالح بن كيسان عند مسلم، وأبو أويس عند أحمد، ويحيى بن سعيد، وابن أبي عَتِيق، وموسى ابن عقبة، ثلاثتهم عند النسائيّ

(1)

، كلهم عن الزهريّ، عنهما.

(1)

أي في "عشرة النساء" ص 333 رقم 402 و 403. تحقيق عمرو علي عمر.

ص: 377

ورواه إسحاق بن راشد عن الزهريّ، فاقتصر على حمزة. أخرجه النسائيّ

(1)

، وكذا أخرجه ابن خزيمة، وأبو عوانة من طريق عُقيل، وأبو عوانة من طريق شبيب بن سعيد، كلاهما عن الزهريّ. ورواه القاسم بن مبرور، عن يونس، فاقتصر على حمزة، أخرجه النسائيّ أيضًا

(2)

. وكذلك أخرجه أحمد من طريق رباح بن زيد، عن معمر، مقتصرًا على حمزة. وأخرجه النسائيّ

(3)

من طريق عبد الواحد، عن معمر، فاقتصر على سالم.

فالظاهر أن الزهريّ يجمعهما تارةً، ويُفرد أحدهما أخرى. وقد رواه إسحاق في "مسنده" عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، فقال: عن سالم، أو حمزة، أو كلاهما، وله أصل عن حمزة من غير رواية الزهريّ، أخرجه مسلم، من طريق عتبة بن مسلم، عنه. واللَّه أعلم انتهى ما في "الفتح"

(4)

.

(عَنْ أَبِيهِ) عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "الشُّؤْمُ) وفي رواية في "عشرة النساء": "إنما الشؤم". وهو -بضمّ المعجمة، وسكون الهمزة، وقد تُسهّل، فتصير واوًا (فِي ثَلَاثَةٍ: الْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ، وَالدَّارِ) وفي رواية:"في ثلاث"، و"الشؤم" مبتدأ، خبره الجار والمجرور. و"الشؤم": نقيض اليمن، وهو من باب الطيرة.

قال ابن العربيّ: والحصر فيها بالنسبة إلى العادة، لا بالنسبة إلى الخلقة انتهى. وقال غيره: إنما خُصّت بالذكر لطول ملازمتها. وقد رواه مالك، وسفيان، وسائر الرواة بحذف "إنما"، لكن رواية عثمان بن عمر:"لا عدوى، ولا طيرة، وإنما الشؤم في الثلاثة". قال مسلم: لم يذكر أحدٌ في حديث ابن عمر: "لا عدوى" إلا عثمان بن عمر.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في هذا النفي نظرٌ لا يخفى؛ لأنه لم ينفرد به عثمان، بل تابعه ابن وهب عند المصنّف في "عشرة النساء"، ولفظه:"أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، ومالك، عن ابن شهاب، عن حمزة، وسالم، عن ابن عمر: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى، ولا طيرة"، إنما الشؤم في ثلاثة: المرأة، والفرس، والدار". انتهى. واللَّه تعالى أعلم.

قال في "الفتح": ومثله في حديث سعد بن أبي وقّاص الذي أخرجه أبو داود، لكن

(1)

"عشرة النساء" ص 329 رقم 393.

(2)

"عشرة النساء" ص 330 رقم 394.

(3)

"عشرة النساء" ص 332 رقم 400.

(4)

"فتح" 6/ 149 - 150

ص: 378

فيه: "إن تكن الطيرة في شيء

" الحديث. و"الطيرة" و"الشؤم" بمعنى واحد.

وظاهر الحديث أن الشؤم والطيرة في هذه الثلاثة، قال ابن قتيبة: ووجهه أن أهل الجاهليّة كانوا يتطيّرون، فنهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم أن لا طِيَرَة، فلما أبوا أن ينتهوا بقيت الطيرة في هذه الأشياء الثلاثة.

قال الحافظ: فمشى ابن قتيبة على ظاهره، ويلزم على قوله أن من تشاءم بشيء منها نزل به ما يكره. قال القرطبيّ: ولا يُظنّ به أنه يحمله على ما كانت الجاهلية تعتقده بناء على أن ذلك يضرّ وينفع بذاته، فإن ذلك خطأ، وإنما عَنَى أن هذه الأشياء هي أكثر ما يتطيّر به الناس، فمن وقع في نفسه شيء أُبيح له أن يتركه، ويستبدل به غيره.

وقد وقع عند البخاريّ في "النكاح" في رواية عمر العسقلانيّ -وهو ابن محمد بن زيد بن عبد اللَّه بن عمر- عن أبيه، عن ابن عمر، بلفظ:"ذكروا الشؤم، فقال: إن كان في شيء ففي" ولمسلم: "إن يك من الشؤم شيء حقّ"، وفي رواية عتبة بن مسلم "إن كان الشؤم في شيء"، وكذا في حديث جابر عند مسلم، -وهي الحديث التالي للنسائيّ هنا -وهو موافق لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه عند البخاريّ بلفظ:"إن كان في شيء".

وهو يقتضي عدم الجزم بذلك، بخلاف رواية الزهريّ. قال ابن العربيّ: معناه: إن كان خلق اللَّه الشؤم في شيء مما جرى من بعض العادة، فإنما يخلقه في هذه الأشياء. قال المازريّ: مجمل هذه الرواية: إن يكن الشؤم حقًّا، فهذه الثلاث أحقّ به، بمعنى أن النفوس يقع فيها التشاؤم بهذا أكثر مما يقع بغيرها.

وجاء عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - أنها أنكرت هذا الحديث، فروى أبو داود الطيالسيّ في "مسنده" عن محمد بن راشد، عن مكحول، قال: قيل لعائشة: إن أبا هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الشؤم في ثلاثة"، فقالت: لم يحفظ، إنه دخل، وهو يقول:"قاتل اللَّه اليهود، يقولون: الشؤم في ثلاثة"، فسمع آخر الحديث، ولم يسمع أوله.

قال الحافظ: ومكحول لم يسمع من عائشة، فهو منقطع. لكن روى أحمد، وابن خزيمة، والحاكم، من طريق قتادة، عن أبي حسّان:"أن رجلين من بني عامر دخلا على عائشة، فقالا: إن أبا هريرة قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "الطيرة في الفرس، والمرأة، والدار"، فغضبت غضبًا شديدًا، وقالت: ما قاله، وإنما قال: "إن أهل الجاهليّة كانوا يتطيّرون من ذلك" انتهى.

ولا معنى لإنكار ذلك على أبي هريرة رضي الله عنه، مع موافقة من ذكرنا من الصحابة له في ذلك.

ص: 379

وقد تأوله غيرها على أن ذلك سيق لبيان اعتقاد الناس في ذلك، لا أنه إخبار من النبيّ صلى الله عليه وسلم بثبوت ذلك. وسياق الأحاديث الصحيحة المتقدّم ذكرها يُبعد هذا التأويل.

قال ابن العربيّ: هذا جواب ساقطٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يُبعث ليخبر الناس عن معتقداتهم الماضية والحاصلة، وإنما بُعث ليعلّمهم ما يلزمهم أن يعتقدوه انتهى.

وأما ما أخرجه الترمذيّ من حديث حكيم بن معاوية، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا شؤم، وقد يكون الْيُمْنُ في المرأة، والدار، والفرس" ففي إسناده ضعف، مع مخالفته للأحاديث الصحيحة.

وقال عبد الرزاق في "مصنّفه" عن معمر: سمعت من يفسّر هذا الحديث، يقول: شؤم المرأة إذا كانت غير وَلُود، وشؤم الفرس إذا لم يُغزَ عليه، وشؤم الدار جار السوء.

وروى أبو داود في "الطبّ" عن ابن القاسم، عن مالك، أنه سئل عنه؟ فقال: كم من دار سكنها ناسٌ، فهلكوا. قال المازريّ: فيحمله مالك على ظاهره، والمعنى أن قَدَرَ اللَّهِ ربّما اتفق ما يكره عند سكنى الدار، فتصير في ذلك كالسبب، فتسامح في إضافة الشيء إليه اتساعًا.

وقال ابن العربيّ: لم يُرد مالك إضافة الشؤم إلى الدار، وإنما هو عبارة عن جري العادة فيها، فأشار إلى أنه ينبغي للمرء الخروج عنها، صيانة لاعتقاده عن التعلّق بالباطل.

وقيل: معنى الحديث: أن هذه الأشياء يطول تعذيب القلب بها، مع كراهة أمرها؛ لملازمتها بالسكنى، والصحبة، ولو لم يعتقد الإنسان الشؤم فيها، فأشار الحديث إلى الأمر بفراقها؛ ليزول التعذيب.

قال الحافظ: وما أشار إليه ابن العربيّ في تأويل كلام مالك أولى، وهو نظير الأمر بالفرار من المجذوم، مع صحّة نفي العدوى، والمراد بذلك حسم المادّة، وسدّ الذريعة؛ لئلا يوافق شيء من ذلك القدر، فيعتقد من وقع له أن ذلك من العدوى، أو من الطيرة في اعتقاد من نُهي عن اعتقاده، فأُشير إلى اجتناب مثل ذلك. والطريق فيمن وقع له ذلك في الدار مثلاً أن يبادر إلى التحوّل منها؛ لأنه متى استمرّ فيها ربما حمله ذلك على اعتقاد صحّة الطيرة والتشاؤم.

وأما ما رواه أبو داود، وصححه الحاكم، من طريق إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس رضي الله عنه قال رجلٌ: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إنا كنّا في دار، كثير فيها عددنا، وأموالنا، فتحوّلنا إلى أخرى، فقلّ فيها ذلك؟ فقال:"ذروها ذميمة"، وأخرج من حديث فروة بن مُسَيك -بالمهملة، مصغّرًا- ما يدلّ على أنه هو السائل، وله شاهد من

ص: 380

حديث عبد اللَّه بن شداد بن الهاد، أحد كبار التابعين، وله رؤية بإسناد صحيح إليه، عند عبد الرزّاق، قال ابن العربيّ: ورواه مالك، عن يحيى بن سعيد منقطعًا، قال: والدار المذكورة في حديثه كانت دار مكمل -بضم الميم، وسكون الكاف، وكسر الميم، بعدها لام- وهو ابن عوف، أخو عبد الرحمن بن عوف، قال: وإنما أمرهم بالخروج منها لاعتقادهم أن ذلك منها، وليس كما ظنّوا، لكن الخالق جلّ وعلا جعل ذلك وفقًا لظهور قضائه، وأمرهم بالخروج منها؛ لئلا يقع لهم بعد ذلك شيء، فيستمرّ اعتقادهم.

قال ابن العربيّ: وأفاد وصفها بأنها ذميمة جواز ذلك، وأن ذكرها بقبيح ما وقع فيها سائغٌ، من غير أن يعتقدأن ذلك كان منها، ولا يمتنع ذمّ محل المكروه، وإن كان ليس منه شرعًا، كما يُذمّ العاصي على معصيته، وإن كان ذلك بقضاء اللَّه تعالى.

وقال الخطّابيّ: هو استثناء من غير الجنس، ومعناه إبطال مذهب الجاهليّة في التطير، فكأنه قال: إن كان لأحدكم دارٌ يكره سُكناها، أو امرأة يكره صحبتها، أو فرسٌ يكره سيره، فليفارقه، قال: وقيل: إن شؤم الدار ضيقها، وسوء جوارها، وشؤم المرأة أن لا تلد، وشؤم الفرس أن لا يُغزى عليه. وقيل: المعنى ما جاء بإسناد ضعيف، رواه الدمياطيّ في "الخيل" إذا كان الفرس ضَرُوبًا، فهو مشئوم، وإذا حنّت المرأة إلى بعلها الأول، فهي مشئومة، وإذا كانت الدار بعيدة من المسجد، لا يُسمع منها الأذان فهي مشئومة". وقيل: كان قوله ذلك في أول الأمر، ثم نُسخ ذلك بقوله تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} الآية، حكاه ابن عبد البرّ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، لا سيّما مع إمكان الجمع، ولا سيّما وقد ورد في نفس هذا الخبر نفي التطير، ثم إثباته في الأشياء المذكورة. وقيل: يحمل الشؤم على قلّة الموافقة، وسوء الطباع، وهو كحديث سعد بن أبي وقّاص رفعه:"من سعادة المرء المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الهنيء، ومن شقاوة المرء المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء"، أخرجه أحمد. وهذا يختصّ ببعض أنواع الأجناس المذكورة، دون بعض، وبه صرّح ابن عبد البرّ، فقال: يكون لقوم دون قوم، وذلك كلّه بقدر اللَّه. وقال المهلّب ما حاصله: إن المخاطب بقوله: "الشؤم في ثلاثة" من التزم التطيّر، ولم يستطع صرفه عن نفسه، فقال لهم: إنما يقع ذلك في هذه الأشياء التي تلازم في غالب الأحوال، فإذا كان كذلك، فاتركوها عنكم، ولا تُعذّبوا أنفسكم بها، ويدلّ على ذلك تصديره الحديث بنفي الطيرة، واستدلّ لذلك بما أخرجه ابن حبّان عن أنس رضي الله عنه، رفعه: "لا طيرة، والطيرة على من تطيّر، وإن تكن في شيء، ففي المرأة

" الحديث. وفي صحّته نظر؛ لأنه من رواية عتبة بن حميد، عن عبيد اللَّه بن

ص: 381

أبي بكر، عن أنس، وعتبة مختلف فيه.

[تنبيه]: اتفقت الطرق كلها على الاقتصار على الثلاثة المذكورة، ووقع عند ابن إسحاق في رواية عبد الرزّاق المذكورة: قال معمر: قالت أم سلمة: "والسيف"، قال أبو عمر: رواه جويرية عن مالك، عن الزهريّ، جمن بعض أهل أم سلمة، عن أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -. أخرجه الدارقطنيّ في "غرائب مالك"، وإسناده صحيح إلى الزهريّ، ولم ينفرد به جويرية، بل تابعه سعيد بن داود، عن مالك، أخرجه الدارقطنيّ أيضًا، قال: والمبهم المذكور هو أبو عبيدة بن عبد اللَّه بن زمعة، سمّاه عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهريّ في روايته. أخرجه ابن ماجه من هذا الوجه موصولاً، فقال: عن الزهريّ، عن أبي عبيدة بن عبد اللَّه بن زمعة، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة، أنها حدّثت بهذه الثلاثة، وزادت فيهنّ "والسيف". وأبو عبيدة المذكور هو ابن بنت أم سلمة، أمه زينب بنت أم سلمة. وقد روى النسائيّ حديث الباب من طريق ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، فأدرج فيه "السيف"، وخالف فيه في الإسناد أيضًا

(1)

. قاله في "الفتح"

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: من الغريب أن الشيخ الألباني ضعف حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - بهذا اللفظ: "الشؤم في ثلاثة"، ولفظ:"إنما الشؤم في ثلاثة"، وادّعى أنه شاذّ، وإنما المحفوظ لفظ: "إن كان الشؤم في شيء ففي

" انظر كتابه "ضعيف سنن النسائي" ص130، و"السلسلة الصحيحة" 2/ 724 - 728 رقم 993. واستدلّ على ذلك بإنكار عائشة المتقدّم، مع أنه لا يصحّ لانقطاعه.

وبالجملة فالحديث أخرجه الشيخان باللفظ المذكور، ولا سبيل إلى تضعيفه، وقد تقدّم تأويله بما لا يتعارض مع حديث لا عدوى، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف، واللَّه الهادي إلى سواء السبيل.

(1)

"ولفظه في "عشرة النساء" ص 331 - رقم 398 - : أخبرنا الحسين بن عيسى، قال: نا ابن أبي فُديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن محمد بن زيد بن قُنفُذ، عن سالم بن عبد اللَّه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن كان في شيء، ففي المسكن، والمرأة، والفرس، والسيف".

(2)

"فتح" 6/ 150 - 153.

ص: 382

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-5/ 3595 - و 3596 - وفي "الكبرى" 6/ 4409 و 4410 و"عشرة النساء" 393 و 394 و395 و 396 و 397 و 398 و 399 و 400 و 401 و 402 و 403. وأخرجه (خ) في "الجهاد" 2958 و"النكاح" 5093 و 5094 و"الطبّ" 5753 و 5772 (م) في "الطبّ" 2225 (د) في "الطبّ" 3922 (ت) في "الأدب" 2824 (ق) في "النكاح" 1995 (أحمد) في "مسند المكثرين" 6369 (الموطأ) في "الجامع" 1817. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو إثبات الشؤم في هذه الأشياء الثلاثة، وتقدّم تفسير ذلك بما فيه الكفاية، وللَّه الحمد والمنّة. (ومنها): عناية الشارع بقطع عروق الشرك التي تسبب لإفساد عقيدة المؤمن، فلا يجوز له أن ينسب النفع والضرّ إلى غير اللَّه سبحانه وتعالى، على ما كان عليه الجاهليّة، من التشاؤم ببعض الأشياء، فينسبون الضرّ إليها، دون خالقها، وهو ظلم عظيم. (ومنها): عنايته أيضًا بتخفيف ما عساه يأتي إلى نفس المؤمن أن هذا الشيء يأتيه منه الضرر، بناء على ما جرت به سنة اللَّه تعالى في خلقه، من التسبب لإيصال الضرّ إلى الناس بتقدير منه سبحانه وتعالى، فأباح له إذا اتفق له ذلك، كما في هذه الأشياء الثلاثة المذكورة في الحديث أن يبعد عنه، ويتركه؛ سدًّا للذريعة، وقطعًا لطمع الشيطان في إيصال الوسوسة بسببه إليه، فإذا اتفق للشخص ضيق من امرأة، أو فرس، أو دار، بسبب عدم الملايمة، فله أن يتخلّص منها بإبعادها عنه، وقطع الصلة بينها وبينه، حتى لا يقع في الحرج، لكن بشرط أن يعلم أن الضرّ والنفع من اللَّه وحده لا شريك له، وإنما هذه الأشياء مما جرت به العادة في التسبب لحصول الضرر.

وهذا فضل من اللَّه سبحانه وتعالى على عباده حيث ييسّر لهم التخلّص فيما يتضايقون منه، وله الحمد في الأولى والآخرة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3597 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنْ يَكُ فِي شَيْءٍ، فَفِي الرَّبْعَةِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعانيّ، ثم البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.

ص: 383

2 -

(خالد) بن الحارث الْهُجيميّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(ابن جريج) هو عبد المك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يدلّس ويرسل [6] 28/ 32.

4 -

(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تدْرُس المكيّ، صدوق يدلّس [4] 31/ 35.

5 -

(جابر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما - 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخه، وخالد، فبصريان. (ومنها): أن فيه جابرًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِرٍ) بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وقد صرح كلّ من ابن جريج، وأبي الزبير بالإخبار في "صحيح مسلم"، ولفظه: "أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يخبر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

" الحديث (أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال: "إِنْ يَكُ فِي شَيْءٍ) هكذا نسخ "المجتبى" بدون ذكر اسم "يك"، فيكون ضميرًا عائدًا إلى الشؤم، وقد صُرّح به في "الكبرى"، ولفظه:"إن يك الشؤم في شيء". و"يك" أصلها "يكون"، حذف نونها تخفيفًا، وهذا إذا جزمت، كما قال ابن مالك في "خلاصته":

وَمِنْ مُضَارعٍ لِكَانَ مُنْجزِمْ

تُحْذَفُ نُونٌ وَهْوَ حَذْفٌ مَا الْتُزِمْ

ومذهب سيبويه أنها لا تحذف عند ملاقاة ساكن، فلا يقال: لم يك الرجل، وأجازه يونس، وعليه تحمل الرواية المذكورة في "الكبرى"، وقرىء شاذًّا:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية (فَفِي الرَّبْعَةِ) -بفتح الراء، وسكون الموحّدة-: المنزل. وفي "اللسان": الربع: المنزل، ودار الإقامة، وربع القوم محلّتهم، يقال: ما أوسع رَبْعَ بني فلان. والرَّبْعَةُ أخصّ من الرَّبْع انتهى (وَالْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ) تقدّم شرح الحديث مستوفًى في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه

التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته

ص: 384

حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-5/ 3597 - وفي "الكبرى" 6/ 4412. وأخرجه (م) في "الطبّ" 2227 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 14164. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌6 - (بَابُ بَرَكَةِ الْخَيْلِ)

3598 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا النَّضْرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِى الْخَيْلِ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(محمد بن بشار) العبديّ، أبو بكر بندار البصريّ، ثقة حافظ [10] 24/ 27.

3 -

(النضر) بن شُميل المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقة ثبت، من كبار [9] 41/ 45.

4 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ، ثقة ثبت إمام [9] 4/ 4.

5 -

(شعبة) بن الحجاج المذكور قبل باب.

6 -

(أبو التياح) يزيد بن حميد الضُّبَعيّ البصريّ، ثقة ثبت [5] 53/ 67.

7 -

(أنس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه الثاني أحد التسعة الذين يروي عنهم الجماعة بلا واسطة. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير إسحاق، فمروزيّ، ثم نزيل نيسابوريّ.

ص: 385

(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِى الْخَيْلِ). جملة ممن مبتدإٍ وخبر، مستأنفة بَيَّنَ بها أن الخير ملازم لنواصي الخيل.

قال في "الفتح": قوله: "البركة في نواصي الخيل" كذا وقع، ولا بُدّ فيه من شيء محذوف يتعلّق به الجار والمجرور، وأولى ما يقدّر ما ثبت في رواية أخرى، فقد أخرجه الإسماعيليّ، من طريق عاصم بن عليّ، عن شعبة، بلفظ:"البركة تنزل في نواصي الخيل". وأخرجه من طريق ابن مهديّ، عن شعبة، بلفظ:"الخير معقود في نواصي الخيل". وعند البخاريّ في "علامات النبوّة" من طريق خالد بن الحارث، عن شعبة، بلفظ حديث عروة البارقيّ

(1)

، إلا أنه ليس فيه:"إلى يوم القيامة".

قال عياضٌ: إذا كان في نواصيها البركة، فيبعد أن يكون فيها شؤم، فيحتمل أن يكون الشؤم المتقدّم ذكره في غير الخيل التي رُبطت للجهاد، وأن الخيل التي أُعدّت له هي المخصوصة بالخير والبركة، أو يقال: الخير والشرّ يمكن اجتماعهما في ذات واحدة، فإنه فُسّر الخير بالأجر والمغنم، ولا يمنع ذلك أن يكون ذلك الفرس مما يُتشاءم به انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-6/ 3598 - وفي "الكبرى" 7/ 4414. وأخرجه (خ) في "الجهاد والسير" 2851 و "المناقب" 3645 (م) في "الإمارة" 1874 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 11715 و11881 و12340. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

(1)

هو اللفظ الآتي للمصنّف في الباب التالي: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة".

(2)

"فتح" 6/ 143. "كتاب الجهاد والسير".

ص: 386

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإتْيُوبيّ الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، - عفا اللَّه تعالى عنه - وعن والديه ومشايخه آمين:

قد انتهيت من كتابة الجزء التاسع والعشرين من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى-، المسقى "ذخيرةَ العُقْبَى في شرح المجتبى"، أو "غاية المنى في شرح المجتنى".

وذلك بحيّ الزهراء، مخطّط الأمير طلال، في مكة المكرمة زادها اللَّه تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني من خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأَعْظِمْ به تكريمًا.

وأخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة اللَّه، وبركاته".

ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الثلاثون مفتتحًا بالباب 7 "باب فَتْل ناصية الفرس" الحديث رقم 3599.

"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، اشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

ص: 387