المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سنن النسائي المسَمَّى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعة الفقير إلى مولاه الغني - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ٣

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح

سنن النسائي

المسَمَّى

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير

محمد بن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبي الوَلَّوِي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا الله عنه وعن والديه آمين

الجزء الثالث

دار المعراج الدولية للنشر

ص: 1

شرح سنن النسائى

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

طبعت بمطابع

الفاروق الحديثة للطباعة والنشر

خلف 60 شارع راتب باشا حدائق شبرا

ت: 647526 - 2055688 القاهرة

ص: 3

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولى

1416 هـ-1996 م

دار المعراج الدولية للنشر

الرياض 11421 - ص. ب. 858 - هاتف وفاكس 4026278

المملكة العربية السعودية

بيروت- ص. ب. 6366/ 14 - هاتف 831331 - فاكس 603333

القاهرة - ص. ب. 1289 - هاتف 3900318 - فاكس 3926250

ص: 4

‌88 - باب كَيْفَ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواب سؤال من سأل بكيف المسح على العمامة؟

"باب" بالتنوين، ويحتمل الإضافة إلى جملة "كيف المسح" الخ، لقصد لفظه.

وكيف: كلمة يستفهم بها عن حال الشيء، وصفته، يقال: كيف زيد؟ ويراد به السؤال عن صحته، وسقمه، وعسره، ويسره، وغير ذلك، وتأتي للتعجب، والتوبيخ، والإنكار، وللحال ليس معه سؤال، وقد تتضمن معنى النفي، وكيفيةُ الشيء: حاله، وصفته. قاله في المصباح.

ويحتمل أن يكون معنى "كيف" في قول المصنف الحالَ المجردَ عن السؤال، فمعنى "باب كيف المسح على العمامة": باب صفة المسح على العمامة، وهذا معنى أوضح من المعنى الأول، وأقرب إلى الفهم. والله أعلم.

وظاهر هذه الترجمة يفيد أن المصنف يرى أن معنى الباب المتقدم، أعني "باب المسح على العمامة"، هو المسح على الناصية مع الإكمال على العمامة، تقييدا للمطلق هناك، أعني حديث بلال رضي الله عنه

"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخمار".

بحديث المغيرة المذكور هنا وهو قوله "مسح بناصيته وجانبي عمامته" وقد تقدم هناك أن الراجح هو جواز المسح على العمامة فقط، لثبوت الأحاديث بذلك، ولا داعي الى التقييد المذكور، فتبصر.

109 -

أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: ثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو

ص: 5

بْنُ وَهْبٍ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ قَالَ: خَصْلَتَانِ لَا أَسْأَلُ عَنْهُمَا أَحَدًا بَعْدَ مَا شَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: كُنَّا مَعَهُ فِي سَفَرٍ، فَبَرَزَ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ جَاءَ فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَجَانِبَيْ عِمَامَتِهِ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، قَالَ: وَصَلَاةُ الإِمَامِ خَلْفَ الرَّجُلِ مِنْ رَعِيَّتِهِ، فَشَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَاحْتَبَسَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَقَدَّمُوا ابْنَ عَوْفٍ فَصَلَّى بِهِمْ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى خَلْفَ ابْنِ عَوْفٍ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا سَلَّمَ ابْنُ عَوْفٍ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَضَى مَا سُبِقَ بِهِ.

رجال الإسناد: سته

1 -

(يعقوب بن إبراهيم) بن كثير بن زيد بن أفلح بن منصور بن مزاحم العبدي مولى عبد القيس، أبو يوسف الدورقي

(1)

الحافظ

(1)

الدورقي بفتح الدال، وسكون الواو، اختلف في هذه النسبة فقيل: إلى بلد، قيل: بفارس وقيل: بخوزستان، وهو الأصح، وقيل: نسبة إلى لباس القلانس الدورقية، وقيل: كان الإنسان إذا نسك في ذلك الزمان قيل له: دورقي، وكان أبو يعقوب قد تنسك فقيل له دورقي، ونسب يعقوب وأخوه أحمد إلى نسبة أبيهما، أفاده في اللباب.

ص: 6

البغدادي، رأى الليث، وروى عن الدراوردي، وابن أبي حازم، وأبي معاوية، وحفص بن غياث، وهشيم، ويحيى القطان، وابن علية، وابن مهدي، والطُّفَاويّ، ومروان بن معاوية، ومعتمر بن سليمان، ويحيى ابن أبي زائدة، ويحيى بن بكير، وأبي أسامة، وروح بن عبادة، وبهز ابن أسد، وشعيب بن حرب، ويزيد بن هارون، وأبي عاصم، وغيرهم.

وروى عنه الجماعة، وروى النسائي أيضا عن أبي بكر بن علي الرازي، وزكرياء السِّجْزي عنه، وأخوه أحمد بن إبراهيم، وابن سعد، ومات قبله، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن هارون الروياني، وابن أبي الدنيا، والصغاني، وابن أبي داود، والبغوي، وابن صاعد، وابن خزيمة والسَّرَّاج، والمحاملي، وابن مخلد، وهو آخر من روى عنه، في آخرين.

قال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات.

وقال الخطيب: كان ثقة متقنا صنف المسند. قال السراج: ولد سنة 166 ومات سنة 252 وفيها أرخه غير واحد، قال الحافظ، وقال سلمة: كان كثير الحديث ثقة. اهـ تهذيب التهذيب جـ 11 ص 381، 382 أخرج عنه الجماعة. وفي (ت) ثقة من العاشرة.

2 -

(هُشَيْم)

(1)

بن بَشير

(2)

بن القاسم بن دينار السلمي، أبو معاوية ابن أبي خازم

(3)

الواسطي. قيل: إنه بخاري الأصل.

روى عن أبيه، وخاله القاسم بن مهران وعبد الملك بن عمير، ويعلى بن عطاء، وعبد العزيز بن صهيب، وسليمان التيمي،

(1)

مصغرا.

(2)

بوزن عظيم.

(3)

بمعجمتين.

ص: 7

وإسماعيل بن أبي خالد، وعمرو بن دينار، وعبيد الله بن أبي بكر بن أنس، وعاصم الأحول، وحصين بن عبد الرحمن، وحميد الطويل، وسيار أبي الحكم، وخالد الحذاء، والأعمش، وعبد الله بن أبي صالح السمان، وعبد الملك بن أبي سليمان، وعمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وإسماعيل بن سالم، ومُجَالد، والعوام بن حوشب، وعطاء بن السائب، وأبي الزبير، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبي إسحاق الشيباني، ويحيى بن أبي إسحاق الحضرمي، ويوسف بن عُبيد، وعبد الحميد بن جعفر، ومغيرة بن مقسم، ومنصور ابن زاذان، وهشام بن حسان، وأبي حُرَّة واصل بن عبد الرحمن، وخلق.

روى عنه مالك بن أنس، وشعبة، والثوري، وهم أكبر منه، وابنه سعيد بن هشيم، وابن المبارك، ووكيع، ويزيد بن هارون، ومُعَلَّى بن منصور، وإسماعيل بن سالم الصائغ، وإسحاق، ومحمد: ابنا عيسى الطباع، ويحيى بن يحيى، وسعيد بن سليمان الواسطي، وسريج بن يونس، وسعيد بن منصور، وعلي بن المديني، وابن أبي شيبة، وأحمد ابن حنبل، وعمرو بن عوف، ومحمد بن الصباح الدولابي، وأحمد ابن منيع، ومسدد، وأبو خيثمة، وداود بن رُشَيد، وزياد بن أيوب الطوسي، وعلي بن حجر، وعلي بن مسلم، وعمرو بن زرارة وعمرو الناقد، وقتيبة بن سعيد، ويحيى بن أيوب المقابري، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، والحسن بن عرفة، وإبراهيم بن مبشر، وآخرون.

قال الفضل بن زياد: سألت أحمد أين كتَبَ هشيم عن الزهري؟ قال بمكة. وقال عمرو بن عون، عن هشيم: سمعت من الزهري نحوا من مائة حديث، فلم أكتبها، وقال الحسين بن محمَّد بن فهم: أخبرني الهروي: أن هشيما كتب عن الزهري صحيفة بمكة فجاءت الريح،

ص: 8

فحملت الصحيفة، فطرحتها فلم يجدوها، وحفظ هشيم منها تسعة.

وقال أبو القاسم البغوي، عن يحيى بن أيوب المقابري: سمعت أبا عبيدة الحداد يقول: قدم علينا هشيم البصرة، فذكرناه لشعبة، فقال: إن حدثكم عن ابن عباس، وابن عمر فصدقوه. وقال علي بن معبد

الرقى: جاء رجل من أهل العراق فذاكر مالكا بحديث، فقال: وهل بالعراق أحد يحسن الحديث إلا ذاك الواسطي يعني هشيما.

وقال عمرو بن عوف: سمعت حماد بن زيد يقول: ما رأيت في المحدثين أنبل من هشيم، وقال إسحاق الزيادي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال: اسمعوا من هشيم، فنعم الرجل هشيم، وقال محمَّد بن عيسى بن الطباع: قال عبد الرحمن بن مهدي: كان هشيم أحفظ للحديث من سفيان الثوري، قال: سمعت وكيعا يقول: نَحُّوا عَنِّي هشيما، وهاتوا من شئتم، يعني في المذاكرة، وقال الحارث بن شريح البقال: سمعت يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي يقولان: هُشَيم في حُصَين أثبث من سفيان، وشعبة، وفي رواية عن ابن مهدي: هشيم أثبت منهما ألا أن يجتمعا.

وقال أبو داود: وقال أحمد: ليس أحد أصح حديثا عن حصين من هشيم. وقال علي بن حجر: هشيم في أبي بشر مثل ابن عيينة في الزهري، وقال عنبسة بن سعد الرازي، عن ابن المبارك من غَيَّر الدهرُ حفظه، فلم يغير حفظ هشيم، وقال أحمد بن سنان، عن ابن مهدي: حفظ هشيم أثبت عندي من حفظ أبي عوانة، وكتاب أبي عوانة أثبت من حفظ هشيم، وقال عمار: إذا اختلف أبو عوانة، وهشيم، فالقول قول هشيم، لم يعد عليه خطأ، وقال العجلي: هشيم واسطي ثقة. وكان يدلس. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن هشيم، ويزيد بن هارون؟

ص: 9

فقال: هشيم أحفظهما. قال: وسالت أبي عن هشيم؟ فقال: ثقة،

وهو أحفظ من أبي عوانة، قال: وسئل أبو زرعة عن هشيم، وجرير؟

فقال: هشيم أحفظ.

وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث ثبتا يدلس كثيرا، فما قال في

حديث "أنا"، فهو حجة، ومالم يقل فليس بشيء، وقال سليمان بن

إسحاق الجَلاَّب عن إبراهيم الحربي، كان حفاظ الحديث أربعة: هشيم

شيخهم يحفظ هذه الأحاديث المقاطيع، يعني المقطوعة حفظا عجيبا

وقال الحربي: كان يحدث بالمعنى. وقال محمَّد بن حاتم المؤدب: قيل

لهشيم: كم تحفظ؟ قال كنت أحفظ في اليوم مائة ولو سئلت عنها بعد

شهر لأجبت، وقال يزيد بن هارون: مارأيت أحفظ من هشيم إلا

الثوري، وقال عثمان بن أبي شيبة: مارأيت يزيد. يثني على أحد مايثني

على هشيم، وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي مَن أروى الناس عن

يونس؟ قال: هشيم، وكان بعض الناس يقول: وهيب، فبلغني عن

هشيم أنه قال: كان وهيب يحضر مسألتي عن يونس، قال أحمد:

وكان هشيم كثير التسبيح، ولازمته أربعًا أو خمسًا ماسألته عن شيء هيبة

له إلا مرتين، وقال الحسين بن الحسن الرومي: مارأيت أحدا أكثر ذكرا

لله عز وجل من هشيم، وقال معروف الكرخي. رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في

المنام، وهو يقول لهشيم جزاك الله تعالى عن أمتي خيرًا.

وقال حنبل: سمعت أحمد يقول: قال هشيم في حديث "الحرم

يبعث يوم القيامة ملبدا" والناس يقولون: ملبيا. وقال نصر بن حماد:

سألت هشيما متى ولدت؟ قال في سنة [104]، وقال ابن سعد: أخبرني

ابنه سعيد أنه ولد في سنة خمس. وقال ابن سعد: ومات في شعبان سنة

[183]

وفيها أرخه غير واحد.

ص: 10

قال الحافظ: قال أحمد بن حنبل: لم يسمع هشيم من يزايد ابن أبي زياد، ولا من عاصم بن كليب، ولا من ليث بن أبي المشرقي، ولا من موسى الجهني، ولا من محمَّد بن جحادة، ولا من الحسن بن عبيد الله ولا من أبي خلدة، ولا من سَيَّار، ولا من علي بن زيد وقد حدث عنهم.

وقال ابن معين: سماعه من الزهري، وهو صغير، وقال أبو حاتم: لا يسئل عن هشيم في صلاحه وصدقه وأمانته، وقال عبد الرزاق عن ابن المبارك: قلت لهشيم: لِمَ تدلس، وأنت كثير الحديث؟ فقال: كبيراك قد دلسا: الأعمش وسفيان.

وذكر الحاكم: أن أصحاب هشيم، اتفقوا على أن لا يأخذوا عنه تدليسا، ففطن لذلك، فجعل يقول في كل حديث يذكره ثنا حصين، ومغيرة، فلما فرغ قال: هل دلست لكم اليوم؟ قالوا: لا، قال: لم أسمع من مغيرة مما ذكرت حرفا، إنما قلت: حدثني حصين وهو مسموع لي، وأما مغيرة فغير مسموع لي، وقال الخليلي: حافظ متقن، تغير بآخر موته

(1)

أقل الرواية عن الزهري، ضاعت صحيفته، وقيل: إنه ذاكر شعبة بحديث الزهري، ولم يكن شعبة كتب عن الزهري، فأخذ شعبة الصحيفة، فألقاها في دجلة، فكان هشيم يروي عن الزهري من حفظه، وكان يدلس، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان مدلسا، وقال أبو داود: وقيل ليحيى بن معين في تساهل هشيم، فقال: ما أدراه

ما يخرج من رأسه، قال: وبلغني عن أحمد، قال: كان ابن علية أعلم بالفقه من هشيم. وقال يحيى بن معين: لم يلق أبا إسحاق السبيعي، وإنما كان يروي عن أبي إسحاق الكوفي، وهو عبد الله بن ميسرة وكنيته أبو عبد الجليل، فكناه هشيم كنية أخرى، ولم يسمع هشيم من القاسم بن أيوب، ولم يسمع من بيان بن بشر، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: لم

(1)

هكذا نسخة "تت" ولعل الصواب تغير بآخره، أو تغير قبل موته. والله أعلم.

ص: 11

يسمع من زاذان، والد منصور، ولا من خليل، ولا من خالد بن جعفر، وقال أحمد: كل شيء روى عن جابر الجعفي مدلس إلا حديثين: حديث ابن أبي سبرة، وحديث ابن عباس مر بقدر تغلي. وقال أبو أحمد الفاكهي ثنا أبو يحيى بن أبي ميسرة، سمعت سعيد بن منصور، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقلت: يا رسول الله ألزم أبا يوسف، أو هشيمًا؟ قال: هشيما، تابعه محمَّد بن عبد الرحمن الشامي عن سعيد بن منصور نحوه.

وقال يحيى بن أيوب المقابري: سمعت نصر بن بسام يقول: رأيت معروفا الكرخي، فسمعته يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم، وهشيم بين يديه، وهو يقول: جزاك الله تعالى عن أمتي خيرا. وقال محمَّد بن نصر: سمعت يحيى بن يحيى يقول: ما رأيت في الشيوخ أحفظ من هشيم.

قال محمَّد بن نصر: لا أعلم إسحاق سمع منه حرفا، فإنما يروي هشام المخزومي عنه اهـ تهذيب التهذيب جـ 11 ص 59 - 64 أخرج له الجماعة. وفي (ت) ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي [7].

3 -

(يونس بن عبيد) بن دينار العبدي مولاهم، أبو عبيد البصري، رأى أنسا وروى عن إبراهيم التيمي، وثابت البناني، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وعبد الرحمن بن أبي بكرة، والحكم بن الأعرج، وزياد بن جبير، وأبي معشر: زياد بن كليب، ومحمد بن زياد الجُمَحي ونافع مولى ابن عمر، وعمرو بن سعيد الثقفي، وحميد بن هلال، وشعيب بن الحبحاب، وعطاء بن أبي رباح، وعمار بن أبي عمار، وعبيدة بن خداش، وجرير بن يزيد، وحصين بن أبي الحر، وعطاء بن فروخ، وجماعة.

وعنه ابنه عبد الله، وشعبة، والثوري، ووهيب، وسفيان بن

ص: 12

حسين، وأبو جعفر الرازي، والقاسم بن مطيب، والحمادان، ويزيد ابن زريع، وعبد الله بن عيسى الخزاز، وخارجة بن مصعب، وإبراهيم ابن طهمان، وهشيم، وخالد بن عبد الله الواسطي، وأبو شهاب الحناط، وعبد الوهاب الثقفي، وعبد الوارث بن سعيد، وأبو همام بن الزبرقان، وابن علية، وبشر بن المفضل، ومحمد بن أبي عدي، وعبد الأعلي بن عبد الأعلى، وآخرون.

قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، قال: ما كتبت شيئا قط.

ومات سنة 141 - فحمله بنو العباس على أعناقهم، وقال أحمد، وابن معين، والنسائي: ثقة، وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: يونس أحب إليك في الحسن، أو حميد؟ فقال: كلاهما. وقال ابن

المديني: يونس بن عبيد أثبت في الحسن من ابن عون. وقال أبو زرعة: يونس أحب إليَّ في الحسن من قتادة، لأن يونس من أصحاب الحسن، وقتادة ليس من أقران يونس، ويونس أحب الي من هشام بن حسان، وكذا قال أبو حاتم، وزاد هو ثقة أكبر من سليمان التيمي، ولا يبلغ التيمي منزلة يونس. وقال سلمة بن علقمة: جالست يونس بن عبيد فما استطعت أن آخذ عليه كلمة، وقال عارم، عن حماد بن زيد: كان يونس بن عبيد يحدثنا، ثم يستغفر ثلاثا. وقال الأصمعي عن مؤمل بن إسماعيل: جاء رجل شامي إلى سوق الخَرَّازين، فقال: عندك مُطْرَف

(1)

بأربعمائة، فقال يونس: عندنا بمائتين، ثم قام إلى الصلاة، وركع فوجد ابن أخيه قد باع المطرف من الشامي بأربعمائة، فقال يونس: يا عبد الله: هذا المطرف الذي عرضت عليك بمائتين، فإن شئت خذه، وخذ مائتين، وإن شئت فدعه، قال من أنت؟ قال يونس بن عبيد،

(1)

والمطرف: ثوب من خز له أعلام، ويقال: ثوب مربع من خز، وأطرفته إطرافا جعلت في طرفيه علمين فهو مطرف وربما جعل اسما برأسه غير جار على فعل، وكسرت الميم تشبيها بالآلة والجمع مطارف اهـ المصباح.

ص: 13

قال: فوالله إنا نكون في نحر العدو، فإذا اشتد علينا الأمر قلنا: اللهم رب يونس فرج عنا، فيفرج عنا، فقال يونس سبحان الله، سبحان الله.

وقال سعيد بن عامر: قال يونس بن عبيد: هان علي أن آخذ ناقصا، وغلبني أن أعطي راجحا. وقال سعيد بن عامر عن سلام بن أبي مطيع، أو غيره: قال: ما كان يونس بأكثرهم صلاة، ولا صوما، ولكن لا والله ما حضر حق من حقوق الله سبحانه وتعالى إلا وهو متهيأ له. وقال أحمد بن سعيد الدارمي: سمعت النضر بن شميل، وسعيد ابن عامر، يقولان: غلا الخَزُّ في موضع، وكان يونس خزازًا، فعلم بذلك، واشترى متاعا بثلاثين ألفا، ثم قال بعد لصاحبه: هل كنت علمت أن المتاع غلا هناك؟ قال: لا، ولو علمت لم أبع، فقال: هلم إليَّ مالي، وخذ مالك، فرده عليه، وقال بشر بن المفضل: جاءت امرأة بمطرف خز إلى يونس بن عبيد، فألقته إليه تعرضه عليه في السوق، فنظر إليها، فقال لها بكم؟ فقالت بستين درهما، فألقاه إلى جار له، فقال: كيف تراه؟ قال بعشرين ومائة؟ قال: إلى ذاك ثمنه، فقال لها: استأمري أهلك في بيعه بخمس وعشرين ومائة. وقال غسان بن المفضل عن إسحاق بن إبراهيم: نظر يونس بن عبيد إلى قدميه عند موته فبكى، فقيل له؟ فقال: قدماي لم تغير في سبيل الله تعالى، وعبد الملك بن سليمان جاره قال: ما رأيت رجلا قط كان أشد استغفارا من يونس. وقال حماد بن زيد: سمعته يقول: عمدنا إلى ما فيه صلاح الناس، فكتبناه، وعمدنا إلى ما يصلحنا فتركناه، وقال حسن أبو جعفر: قلت ليونس بن عبيد: مررت بقوم يختصمون في القدر، فقال: لو همتهم ذنوبهم ما اختصموا في القدر.

وقال خويل بن واقد الصَّفَّار: سمعت رجلا سأل يونس بن عبيد؛ فقال جار لي معتزلي مريض أعيده؟

(1)

فقال: أما لحسبة فلا. وقال

(1)

لعله أعود بالواو.

ص: 14

حرب بن ميمون، عن خويل ختن شعبة: سمعت يونس بن عبيد يقول لابنه: أنهاك عن الربا، والسرقة، وشرب الخمر، ولأن تلقى الله تعالى بهذا أحب إلى من أن تلقاه برأي عمرو بن عبيد، وأصحابه. وقال مخلد بن حسين عن هشام بن حسان: ما رأيت أحدا يطلب بعلمه الله تعالى إلا يونس بن عبيد. وقال ضمرة عن ابن شوذب: اجتمع يونس ابن عبيد، وابن عون فتذاكرا الحلال والحرام، فكلاهما قال: ما أعلم في مالي درهما حلالا

(1)

، وقال ابن عائشة عن شيخ له التَقَى يونس، وأيوب، فلما ولى يونس، قال أيوب: قبح الله العيش بعدك.

وقال حماد بن زيد: ولد قبل الجارف. وقال حميد بن الأسود: كان يونس أسن من ابن عون بسنة وقال فهد بن حبان: مات سنة 139.

قال الحافظ: وفيها أرخه عمرو بن علي، وأبو موسى، وخليفة بن خياط، وابن أبي عاصم، وجماعة. وقال سفيان بن حسن: حدثني الثقة يونس بن عبيد، وقال ابن حبان في الثقات: كان من سادات أهل زمانه علما، وفضلا، وحفظا، وإتقانا، وسنة، وبغضا لأهل البدع مع التقشف الشديد، والفقه في الدين، والحفظ الكثير، وقال ابن أبي خيثمة: قلت لابن معين: سمع يونس من نافع؟ قال: لا.

قال: وحدثنا عبيد الله بن عمر عن يزيد بن زريع، قال: ما منعني أن أحمل عن يونس أكثر مما حملت عنه إلا أني لم أكتب عنه إلا ما قال سمعت، أو سألت، أو حدثنا الحسن، وقال الترمذي: قال البخاري: ما أراه

(2)

من نافع، ولا أعرف ليونس من عطاء بن أبي رباح سماعًا، وقال أحمد، وأبو حاتم: لم يسمع من نافع شيئا اهـ تهذيب التهذيب جـ 11 ص 442 - 445 وفي (ت) ثقة ثبت فاضل ورع من الخامسة. أخرج له الجماعة

(1)

علقه الحافظ الذهبي رحمه الله علي هذا الكلام، ما نصه: والظن بهما أنهما لا يعرفان في ما لهما أيضا درهما حراما. اهـ سير أعلام النبلاء جـ6 ص 293.

(2)

هكذا في نسخ "تت" ولعل الصواب: ما أراه سمع من نافع.

ص: 15

4 -

(ابن سيرين) هو محمَّد بن سيرين الأنصاري، أبو بكر بن أبي عمرة، البصري، ثقة، ثبت، عابد كبير القدر، كان لا يرى الرواية بالمعنى، من الثالثة، مات سنة [110] اهـ ت وتقدم 87/ 108.

5 -

(عمرو بن وهب الثقفي) قال في تهذيب التهذيب: عمرو بن وهب الثقفي روى عن المغيرة بن شعبة حديث المسح على الخفين، وفيه غير ذلك وعنه محمَّد بن سيرين.

قال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجلي: بصري ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث اهـ تت جـ 8 ص 117 وفي (ت) ثقة [3] أخرج له أبو داود والمصنف.

6 -

(المغيرة بن شعبة) بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك ابن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس، أبو عيسى ويقال أبو محمَّد، الثقفي تقدم، 87/ 107.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، ومنها أن رواته كلهم ثقات أجلاء.

ومنها: أنهم ما بين كوفي، وهو شيخ المؤلف، وواسطي، وهو هشيم، وبصريين، وهما يونس، وابن سيرين، والصحابي، بصري كوفي؛ لأنه ولي امرة البصرة، ثم الكوفة

ومنها: أن شيخ المصنف من التسعة الذين اتفق أصحاب الأصول بالرواية عنهم بدون واسطة، وقد تقدموا غير مرة، ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم يونس وابن سيرين وعمرو بن وهب.

شرح الحديث

(قال) المغيرة بن شعبة رضي الله عنه (خصلتان) تثنية خصلة بفتح

ص: 16

الخاء، وهي كما في اللسان عن الليث: حالات الأمر، تقول: في فلان خصلة حسنة، خصلة قبيحة، وخصال أي بالكسر، وخَصَلات أي بفتحتين كريمة اهـ. وهو مبتدأ أي حالتان من الأمور وخبره جملة قوله:(لا أسال عنهما أحدا) من الناس (بعد ما شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم) يفعلهما، يعني أنه لا يحتاج في تحقيق هاتين الخصلتين إلى سؤال أحد من الناس لكونه على علم وبصيرة فيهما، حيث رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهما.

فأما الخصلة الأولى: فهي المسح على الخفين أشار إليها حيث (قال: كنا معه في سفر) وقد تقدم في حديث [79] أنها غزوة تبوك (فبرز) أي خرج إلى البراز، قال في اللسان: البَرَاز بالفتح: المكان الفضاء من الأرض البعيد الواسع، وإذا خرج الإنسان إلى ذلك الموضع، قيل: قد بَرَزَ، يَبرُز، بُرُوزا، يعني من باب قعد، أي خرج إلى البراز اهـ جـ 5 ص 309 (لحاجته) متعلق ببرز، أي لقضاء حاجته، من البول والغائط (ثم جاء) بعد قضاء حاجته (فتوضأ، ومسح بناصيته) أي مقدم رأسه، وتقدم تفسيرها (وجانبي عمامته) يعني أنه أكمل المسح على عمامته بمسح جانبيها، وهذا هو كيفية المسح على العمامة التي ترجم الصنف بها، حيث قال:"باب كيف المسح على العمامة" وهذه إحدى الكيفيات في مسح الرأس، وقد تقدم تحقيق المسألة في "باب المسح على العمامة"(ومسح على خفيه) وهذه هي الخصلة الأولى، ويحتمل أن تكون الأولى مجموع المسح على الناصية، وجانبي العمامة، ومسح الخفين. والخصلة الثانية ذكرها حيث (قال) المغيرة رضي الله عنه (وصلاة الإمام خلف الرجل من رعيته) فعيلة بمعني مفعول. قال في اللسان: الرَّعيَّة العَامَّة، ورَعَى الأميرُ رَعيَّتَه رِعاية، ورَعيتُ الإبل أرعاها رَعْيًا، ورَعَاهُ يَرْعَاهُ، رَعْيًا ورعاية: حَفِظه، وكل من ولي أمر

ص: 17

قوم، فهو راعيهم، وهم رعيته فعيلة بمعنى مفعول اهـ. يعني اقتداء الأمير بصلاة واحد من أتباعه.

فإن قلت: على ماذا يعطف قوله: وصلاة الإمام الخ قلت: على ما فُهمَ مما قبله، فكأنه قال: المسح، وصلاة الرجل. (فشهدت) أي حضرت (من) فعل (رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان في سفر) هي نفس غزوة تبوك التي رآه فيها يمسح على ناصيته، وجانبي عمامته، وخفيه، فالقضية واحدة، فإنه لما تأخر عليهم قدموا عبد الرحمن بن عوف كما بينه بقوله (فحضرت الصلاة) وهي الصبح كما ثبت ذلك في الروايات الأخرى (فاحتبس) أي تأخر (عليهم) أي الصحابة (النبي صلى الله عليه وسلم فأقاموا الصلاة) أي أقام المؤذن الصلاة برضاهم، ولذا أسنده إليهم (وقدموا) عبد الرحمن (بن عوف) رضي الله عنه (فصلى بهم) أي شرع يصلي بهم (فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم) بعد قضاء حاجته، ووضوئه على الوجه المتقدم، فوجدهم قد صلوا بعض الصلاة (فصلى خلف) عبد الرحمن (ابن عوف ما بقي من) تلك (الصلاة) وهي ركعة، (فلما سلم ابن عوف، قام النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى ما سبق به) بالبناء للمفعول، والجار والمجرور نائب فاعله، وهي ركعة، وفي رواية لمسلم، "فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقمت معه فصلينا الركعة التي سبقتنا"، وفي رواية أبي داود:"فصلى الركعة التي سبق بها، ولم يزد عليها شيئا". أي لم يزد على الركعة التي صلاها بعد تسليم عبد الرحمن شيئا، والمراد أنه لم يسجد سجدتي السهو. أفاده في المنهل جـ 2 ص 114. والله ولي التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى في درجته: حديث الباب صحيح، وهو من أفراده.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له: أخرجه هنا

ص: 18

88/ 109، وفي الكبرى أيضا، عن زياد بن أيوب، عن إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن محمَّد بن سيرين، عن عمرو بن وهب، قال: كنا عند المغيرة، فسئل عن المسح؟، "قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما كان في السحر ضرب عنق راحلتي"

وذكر الحديث بطوله في المسح على الخفين، وغير ذلك.

قال أبو الحجاج المزي حديث زياد بن أيوب في رواية ابن الأحمر عن النسائي، ولم يذكره أبو القاسم اهـ يعني ابن عساكر في أطرافه، فيكون هذا مما استدركه المزي عليه.

المسألة الثالثة: فيما يستفاد من هذا الحديث: دل الحديث على مشروعية مسح الناصية مع العمامة، وعلى مسح الخفين، وعلى اقتداء الفاضل بالمفضول، وعلى جواز صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف بعض أصحابه، وعلى بيان حال المسبوق، وأنه يصلي مع الإمام ما أدركه ثم يصلي ما بقي عليه بعد سلام الإمام، ولا يسقط ذلك عنه، وعلى طلب اتباع المسبوق للإمام في ركوعه وسجوده، وجلوسه، وإن لم يكن موضع جلوس للمأموم، وعلى أن المأموم إنما يفارق الإمام بعد سلام الإمام، وعلى أن الأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت حيث إنهم فعلوها في أول الوقت، ولم ينتظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدحهم على ذلك، حيث قال لهم بعد أن سلم "قد أصبتم، أو قد أحسنتم" كما في رواية أبي داود، وعلى أن من بادر إلى الطاعة يشكر، وعلى أنه يطلب من الجماعة أن يقدموا أحدهم يصلي بهم إذا تأخر الإمام الراتب عن أول الوقت، وعلى فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حيث قدموه للصلاة بهم. أفاده في المنهل جـ 2 ص 107. والله تعالى أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 19

‌89 - بَابُ إِيِجَابِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على أن الواجب في الوضوء غسل الرجلين لمن لم يلبس الخفين، لا مسحهما، خلافا لمن زعم ذلك، وقد تقدم ذلك في شرح حديث عثمان رضي الله عنه، في الباب [68] في الحديث [84]، وسنذكر طرفًا منه في المسائل الآتية آخر الباب إن شاء الله.

110 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَأَنْبَأَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: "وَيْلٌ لِلْعَقِبِ مِنَ النَّارِ".

111 -

أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَأَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمًا يَتَوَضَّئُونَ فَرَأَى أَعْقَابَهُمْ تَلُوحُ، فَقَالَ:"وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ".

ص: 20

رجال الإسنادين

رجال الإسناد الأول: سبعة

1 -

(قتيبة) بن سعيد بن جَميل بن طَريف بن عبد الله الثقفي مولاهم، أبو رجاء البغلاني، وبغَلان من قرَى بَلْخ، قال ابن عدي: اسمه يحيى، وقتيبة لقبه، وقال ابن منده: اسمه علي، روى عن مالك، والليث، وابن لهيعة، ورشدين بن سعد، وداود بن عبد الرحمن العطار، وخلف بن خليفة، وعبد الرحمن ابن أبي الموالي، وبكر بن مضر، والمفضل بن فَضَالة، وعبد الوارث بن سعيد، وحماد بن زيد، وآخرين.

روى عنه الجماعة سوى ابن ماجه، وروى له الترمذي أيضا، وابن ماجه بواسطة أحمد بن حنبل، وأحمد بن سعيد الدارمي، وأبي بكر ابن أبي شيبة ومحمد بن يحيى الذهلي، وروى عنه أيضا علي بن المديني، ونعيم بن حماد، وأبو بكر الحميدي، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ويحيى بن معين، ويحمى بن عبد الحميد الحماني، وماتوا قبله، وأبو خيثمة: زهير بن حرب، والحسن بن عرفة، وأبو العباس محمَّد بن إسحاق السَّرَّاج، وهو آخر من حدث عنه، وآخرون.

قال الأثرم عن أحمد، أنه ذكر قتيبة، فأثنى عليه، وقال: هو آخر من سمع من ابن لهيعة.

وقال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة، وزاد النسائي: صدوق، وقال أحمد بن محمَّد بن زياد الكرميني: قال قتيبة بن سعيد: ما رأيت في كتابي من علامة العمرة فهو علامة أحمد، ومن علامة الخضرة فهو علامة يحيى بن معين، وقال محمَّد بن حميد بن فروة: سمعت قتيبه: يقول تحدرت إلى العراق أول خروجي سنة 172،

ص: 21

وكنت يومئذ ابن 23 سنة وقال الفرهياني: قتيبة صدوق ليس أحد من الكبار إلا وقد حمل عنه بالعراق، قال: وسمعت عمرو بن علي يقول: مررت بمنى على قتيبة فجزته ولم أحمل عنه فندمت، وقال الحاكم: قتيبة، ثقة مأمون، والحديث الذي رواه عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل في الجمع بين الصلاتين موضوع.

ثم روى بإسناده إلى البخاري، قال: قلت لقتيبة مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل؟ قال: مع خالد المدائني، قال محمَّد بن إسماعيل: وكان خالد المدائني هذا يدخل الأحاديث على الشيوخ، وقال أبو سعيد بن يونس: لم يحدث به إلا قتيبة، ويقال: إنه غلط، وأن الصواب عن أبي الزبير، وقال الخطيب: هو منكر جدا من حديثه، وقال أحمد بن سيار المروزي: كان ثبتا فيما روى، صاحب سنة وجماعة، سمعته يقول: ولدت سنة 150 ومات لليلتين خلتا من شعبان سنة 240 وكان كتب الحديث عن ثلاث طبقات، وقال موسى بن هارون: ولد سنة مات الأعمش سنة 48 قال الحافظ قلت: الأول أثبت، وقد سبق من حكايته عن رحلته ما يدل على أنه ولد قبل سنة 55 فلعل ذلك كان في أولها، وما اعتمده الحاكم من الحكم على ذلك بأنه موضوع ليس بشيء، فإن مُقتضى ما استأنس به من الحكاية التي عن البخاري: أن خالد أدخل هذا الحديث على الليث، ففيه نسبة الليث مع إمامته وجلالته إلى الغفلة، حتى يدخل عليه ما ليس من حديثه والصواب ما قاله أبو سعيد بن سعيد بن يونس: أن يزيد بن أبي حبيب غَلَط من قتيبة، وأن الصحيح عن أبي الزبير، وكذلك رواه مالك، وسفيان عن أبي الزبير عن أبي الطفيل، لكن في متن الحديث الذي رواه قتيبة التصريح بجمع التقديم في وقت الأولى، وليس ذلك في حديث

ص: 22

مالك، وإذا جاز أن يغلط في رجل من الإسناد، فجائز أن يغلط في لفظه من المتن، والحكم عليه مع ذلك بالوضع بعيدا جدًّا، والله أعلم.

وقال ابن حبان في الثقات: مات قتيبة يوم الأربعاء مستهل ذهبان سنة [40]، وقال مسلمة بن قاسم: خراساني ثقة مات سنة إحدى وأربعين، وقال ابن القطان الفاسي: لا يعرف له تدليس، وفي الزهرة رَوَى عنه البخاري ثلاثمائة وثمانية أحاديث، ومسلم: ستمائة وثمانية وستين اهـ تهذيب التهذيب [جـ 8 ص 358، 361] أخرج له الجماعة، وفي (ت) ثقة ثبت من العاشرة.

2 -

(يزيد بن زريع) بتقديم الزاي مصغرا البصري، أبو معاوية ثقة ثبت من الثامنة مات سنة 182، وتقدم في باب 87 حديث 108.

3 -

(شعبة) بن الحجاج بن الورد أبو بسطام الواسطي البصري الحجة المثبت 7 تقدم 24/ 26.

4 -

(مؤمل بن هشام) اليشكري، أبو هشام البصري، رَوَى عن إسماعيل بن علية، وكان صهره، وعن أبي معاوية الضرير، ويحيى بن عباد الضبعي.

روى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وأبو حاتم، وابن أبي داود البُجَيْري، وابن خزيمة، ومحمد بن علي الحكيم الترمذي، وأبو بكر محمَّد بن هارون الروياني، ويحيى بن محمَّد بن صاعد، وأبو عروبة، وآخرون. قال أبو حاتم: صدوق، وقال أبو داود، والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، قال أبو القاسم بن عساكر مات في ربيع الأول سنة 253 قال الحافظ: وقال مسلمة بن قاسم: ثقة، أخرج له البخاري، وأبو داود، والنسائي. اهـ تهذيب التهذيب [جـ 10/ ص 383، 384] وفي (ت) ثقة من العاشرة.

ص: 23

5 -

(إسماعيل) بن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم أبو بشر

(1)

البصري المعروف بابن علية بضم العين المهملة وفتح اللام وتشديد الياء روى عن عبد العزيز بن صهيب، وسليمان التيمي، وحميد الطويل، وعاصم الأحول، وأيوب، وابن عون، وأبي ريحانة، والجريري، وابن أبي نجيح، ومعمر، وعوف الأعرابي، وأبي التّيَّاح، حديثا واحدا ويونس بن عبيد، وخلق كثير. وعنه شعبة، وابن جريج، وهما من شيوخه، وبقية، وحماد بن زيد وهما من أقرانه، وإبراهيم بن طهمان، وهو أكبر منه، وابن وهب، والشافعي، وأحمد ويحيى، وعلى، وإسحاق، والفلاس، وأبو معمر الهذلي، وأبو خيثمة، وابنا

أبي شيبة. وعلي بن حجر، وابن نمير، وخلق، آخرهم أبو عمران موسى بن سهيل،

(2)

بن كثير الوشاء

(3)

، قال علي بن الجعد، عن شعبة: إسماعيل بن علية ريحانة الفقهاء، وقال يونس بن بكير عنه: ابن علية سيد المحدثين. وقال ابن مهدي: ابن علية أثبت من هشيم، وقال القطان: ابن علية أثبت من وهيب، وقال حماد بن سلمة: كنا نشبهه بيونس بن عبيد، وقال عفان: كنا عند حماد بن سلمة فأخطأ في حديث، وكان لا يرجع إلى قول أحد، فقيل له: قد خولفت فيه، فقال: من؟ قالوا حماد بن زيد، فلم يلتفت، فقال له إنسان: إن ابن علية يخالفك، فقام فدخل ثم خرج، فقال: القول ما قال إسماعيل.

وقال أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، وقال أيضا: فاتني مالك، فأخلف الله علي سفيان، وفاتني حماد بن زيد، فأخلف الله

(1)

بكسر الباء وسكون الشين.

(2)

وفي ت سهل مكبرا اهـ.

(3)

بفتح الواو وتشديد المعجمة. اهـ.

ص: 24

إسماعيل ابن علية، وقال أيضا كان حماد بن زيد، لا يعبأ إذا خالفه الثقفي، ووهب، وكان يَفْرَق من إسماعيل ابن علية إذا خالفه.

وقال غندر نشأت في الحديث يوم نشأت، وليس أحد يقدم على إسماعيل ابن علية، وقال ابن محرز عن يحيى بن معين: كان ثقة مأمونا، صدوقا، مسلما ورعا، تقيا، وقال قتيبة: كانوا يقولون: الحفاظ أربعة: إسماعيل ابن علية، وعبد الوارث، ويزيد بن زريع، ووهيب. وقال الهيثم بن خالد: اجتمع حفاظ أهل البصرة، فقال أهل الكوفة لأهل البصرة نَحُّوا عنا إسماعيل، وهاتوا من شئتم، وقال زياد ابن أيوب: ما رأيت لابن علية كتابا قط، وكان يقال: ابن علية يعد الحروف، وقال أبو داود السجستاني: ما أحد من المحدثين إلا قد أخطأ إلا إسماعيل ابن علية، وبشر بن المفضل، وقال النسائي: ثقة ثبت، وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتا في الحديث حجة، وقد ولي صدقات البصرة وولي ببغداد المظالم في آخر خلافة هارون.

وعُلَيَّة: أمه، وقال الخطيب: زعم علي بن حجر أن علية جدته، أمُّ أمه. قال أحمد، وعمرو بن علي: ولد سنة 110 ومات سنة 193 وكذا قال زياد بن أيوب وغير واحد في تاريخ وفاته، وقال يعقوب بن شيبة: إسماعيل: ثبت جدًّا. توفي يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة.

قال الحافظ: كان يقول: من قال ابن علية فقد اغتابني، وقال ابن المديني: ما أقول إن أحدًا أثبت في الحديث من ابن علية. وقال أيضًا: بت عنده ليلة فقرأ ثلث القرآن: ما رأيته ضحك قط، وقال أحمد بن سعيد الدارمي: لا يعرف لابن علية غلط إلا في حديث جابر في المدبر جعل اسم الغلام اسم المولى، واسم المولى اسم الغلام، وقال ابن

ص: 25

وضاح: سألت أبا جعفر البستي عنه؟ فقال: بصري ثقة، وهو أحفظ من الثقفي، وحكى ابن شاهين في الثقات عن عثمان بن أبي شيبة: ابن علية أثبت من الحمادين، ولا أقدم عليه أحدا من البصريين، لا يحيى، ولا ابن مهدي، ولا بشر بن المفضل، وقال العيشي: ثنا الحمادان أن ابن المبارك كان يُتاجِر، ويقول: لولا خمسة ما اتجرت: السفيانان وفضيل، وابن السماك، وابن علية فيَصلهم فقدم سنة فقيل له: قد ولي ابن علية القضاء فلم يأته، ولم يصله، فركب ابن علية إليه، فلم يرفع به رأسًا، فانصرف، فلما كان من غد كتب إليه رقعة يقول: قد كنت منتظرًا لبرِّك، وجئتك فلم تكلمني، فما رأيته مني؟ فقال ابن المبارك: يَأبَى هذا الرجل إلا أن تنشر له العصا، ثم كتب إليه:

يَا جَاعلَ العلْم لَهُ بَازيًا

يَصْطادُ أمْوَالَ المَسَاكين

احْتَلتَ للدُّنيَا وَلذَّاتهَا

بحيلَة تَذْهَبُ بالدِّين

فَصرْتَ مَجْنُونًا بهَا بَعْدَ مَا

كُنْتَ دَوَاَء للمَجَانين

أيْنَ روَايَاتُكَ فيمَا مَضَى

عَن ابْن عَون وابْن سيرين

أيْنَ روَايَاتُكَ في سَرْدهَا

في تَرْك أبْوَاب السَّلاطين

إنْ قُلتَ أكْرهْتُ فَذَا بَاطلٌ

زَلَّ حمَارُ العلم في الطِّين

فلما وقع علي هذه الأبيات قام من مجلس القضاء فوطىء بساط الرشيد وقال: الله الله ارحم شيبتي، فإني لا أصبر على القضاء، قال: لعل هذا المجنون أغراك، ثم أعفاه فوجه إليه ابن المبارك بالصرة، وقيل: إن ابن المبارك إنما كتب إليه بهذه الأبيات لما ولي صدقات البصرة، وهو الصحيح، وقال إبراهيم الحربي: دخل ابن علية على الأمين، فحكى قصة فيها أن إسماعيل روى حديث "تجيء البقرة، وآل عمران، كأنهما غمامتان تحاجان عن صاحبهما"، فقيل له ألهما لسان؟ قال: نعم، فكيف تكلم؟. فشنعوا عليه أنه يقول القرآن مخلوق وهو لم يقله، وإنما

ص: 26

غلط، فقال للأمين أنا تائب إلى الله، وقال علي بن خشرم: قلت لوكيع: رأيت ابن علية شرب النبيذ حتى يحمل على الحمار يحتاج من يرده، فقال وكيع إذا ريت البصري يشرب النبيذ فاتهمه، وإذا رأيت الكوفي يشربه فلا تتهمه، قلت: وكيف ذاك؟ قال الكوفي يشربه تدينا والبصري يتركه تدينا، وقال المفضل بن زياد: سألت أحمد بن حنبل عن وهيب وابن علية؟ قال: وهيب أحب إلى، ما زال ابن علية وضيعا من الكلام الذي تكلم به إلى أن مات: قلت: أليس قد رجع، وتاب على رؤوس الناس؟ قال بلى إلى أن قال: وكان لا ينصف بحديث بالشفاعات

(1)

وكان منصور بن سلمة الخزاعي يحدث مرة فسبقه لسانه، فقال ثنا إسماعيل بن علية، ثم قال: لا، ولا كرامة، بل أردت زهيرا، ثم قال: ليس من قارف الذنب كمن لم يقارفه، أنا والله استتبت ابن علية، قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: هذا من الجرح المردود، وقال عبد الصمد بن يزيد مردويه: سمعت ابن علية يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات سنة ثلاث أو سنة 194 وقاله في 4 أبو موسى العنزي في تاريخه، ونقله عنه البخاري في تاريخه، وخليفة، وابن أبي عاصم، وإسحاق القراب الحافظ،

والكلاباذي، وغيرهم أخرج له الجماعة. اهـ تهذيب التهذيب [جـ 2 ص 275، 279]، وفي (ت) ثقة حافظ [8].

6 -

(محمَّد بن زياد) القرشي الجمحي مولاهم أبو الحارث المدني، سكن البصرة.

روى عن الفضل بن العباس، ومحيصة بن مسعود، وأبي هريرة، وعائشة، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن الحارث بن نوفل،

(1)

لعله بحديث الشفاعات.

ص: 27

وزبيد بن الصلت.

وروى عنه ابنه الحارث، وخالد الحذاء، والحسين بن واقد المروزي، وأيوب السختياني، وإبراهيم بن طهمان، وهشام بن حسان، ويونس ابن عبيد، وشعبة، والربيع بن مسلم، والحمادان، وعبد الله بن المختار، وعثمان بن عبد الرحمن الجمحي، والقاسم بن الفضل الحداني، وآخرون.

قال إبراهيم بن هانئ، عن أحمد: ثقة، وقال أبو طالب: سألت أحمد عنه فقال: من الثقات، وليس أحد أروى عنه من حماد بن سلمة، ولا أحسن حديثًا

وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: محلهُ الصدق، وهو أحب إلينا من محمَّد بن زياد الألهاني، وقال الآجري: أثنى عليه أبو داود، وقال الترمذي، والنسائي: ثقة.

قال الحافظ: وكذا وثقه ابن الجنيد، وذكره ابن حبان في الثقات، وعندي أن روايته عن الفضل بن عباس مرسلة، أخرج له الجماعة. اهـ تهذيب التهذيب [جـ 9 ص 169، 170] وفي (ت) ثقة ثبت ربما أرسل من الثالثة.

7 -

(أبو هريرة) الدوسي اليماني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختلف في اسمه، وصحح الترمذي عن شيخه البخاري، أنه عبد الله بن عمرو تقدم 1/ 1.

رجال الإسناد الثاني: تسعة

1 -

(محمود بن غيلان) العدوي مولاهم، أبو أحمد المروزي، نزيل بغداد ثقة من العاشرة، مات سنة 239 وقيل غير ذلك، تقدم في 33/ 37.

ص: 28

2 -

(وكيع) بن الجراح بن مَليح الرُّؤَاسي بضم الراء وهمزة ثم مهملة، أبو سفيان، الكوفي.

ثقة حافظ عابد من كبار التاسعة، مات في آخر سنة ست، أو أول سنة 197 وله 70 سنة وتقدم 97/ 31.

3 -

(سفيان) بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهب بن منقذ بن نصر بن الحكم بن الحارث بن مالك بن ملكان بن ثور ابن عبد مناة بن أد بن طابخة على الصحيح، وقيل: هو من ثور همدان، الثوري أبو عبد الله الكوفي، أحد الأعلام. عن زياد بن علاقة، وحبيب بن أبي ثابت، والأسود بن قيس، وحماد بن أبي سليمان، وزيد بن أسلم، وخلائق.

وعنه الأعمش، وابن عجلان من شيوخه، وشعبة، ومالك من أقرانه، وابن المبارك، ويحيى القطان، وابن مهدي، وخلق، قيل رَوى عنه عشرون ألفا، قال ابن المبارك: ما كتبت عن أفضل من سفيان، قال العجلي: كان لا يسمع شيئا إلا حفظ، قال علي بن الفضيل: رأيت سفيان ساجدا حول البيت، فقطعت سبعة أسابيع قبل أن يرفع رأسه قال الثوري: إذا رأيت القارئ مُحَبَّبًا إلى جيرانه فاعلم أنه مداهن.

قال الخطيب: كان الثوري إماما من أئمة المسلمين، وعلما من أعلام الدين، مجمعا على إمامته مع الإتقان، والضبط، والحفظ، والمعرفة، والزهد، والورع، توفي بالبصرة سنة 161 ومولده 97 أخرج له

الجماعة تقدم في 33/ 37.

4 -

(عمرو بن علي) بن بحر بن كُنَيز الفلاس الصيرفي، أبو حفص، البصري الثقة المثبت 10 تقدم في 87/ 101، وتقدم في 4.

5 -

(عبد الرحمن) بن مهدي بن حسان، أبو سعيد البصري الثقة

ص: 29

الحجة 9 تقدم في 42/ 49.

6 -

(منصور) بن المعتمر بن عبد الله السلمي، أبو عتاب الكوفي ثقة ثبت، وكان لا يدلس، من طبقة الأعمش مات سنة 132 ت وتقدم في 2/ 2

7 -

(هلال بن يساف) بكسر التحتانية، ثم مهلمة، ثم فاء، ويقال: ابن إساف الأشجعي مولاهم الكوفي، ثقة من الثالثة تقدم في 72/ 89.

8 -

(أبو يحيى) اسمه مصْدعَ الأعرج، المُعَرْقَب مولى عبد الله بن عَمْرو، ويقال: مولى معاذ بن عفراء روى عن علي، والحسن، وابن عباس، وابن عمرو بن العاص، وعائشة، وعنه سعد بن أوس العدوي، وسعيد بن أبي الحسن البصري، وعمار الدُّهْني، وشحر بن عطية، وأبو رزين الأسدي، وهلال بن يساف؛ قال حاتم: مصدع أبو يحيى الأعرج الأنصاري، يقال: مولى ابن عفراء، وكذا قال أحمد،

وقال ابن المديني: سمعت ابن عيينة، قال عمار الدُّهْني كان مصدع عالما بابن عباس.

قال الحافظ: إنما قيل له المعرقب لأن الحجاج، أو بشر بن مروان عرض عليه سب علي، فأبى، فقطع عرقوبه، قال ابن المديني: قلت لسفيان: في أي شيء عرقب؟ قال في التشيع، قال علي: وهو الذي مر به ابن أبي طالب، وهو يقص، فقال: تعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت، وأهلكت، وقد ذكره الجوزجاني في الضعفاء، فقال زائغ جائرٌ عن الطريق، يريد بذلك ما نسب إليه من التشيع، والجوزجاني مشهور بالنصب والانحراف، فلا يقدح فيه قوله، وقال ابن حبان في الضعفاء كان يخالف الأثبات في الروايات، وينفرد

ص: 30

بالمناكير، أخرج له مسلم والأربعة. اهـ تهذيب التهذيب جـ 10 ص 157 - 158، وفي (ت) مصدع بكسر أوله وسكون ثانيه، وفتح ثالثه أبو يحيى الأعرج المعرقب مقبول من الثالثة. اهـ.

9 -

(عبد الله بن عمرو) بن العاص، السهمي، أبو محمَّد، بينه وبين أبيه إحدى عشرة سنة له سبعمائة

(1)

حديث، اتفقا على سبعة عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين، وعنه جبير بن نفير، وابن المسيب، وعروة، وطاوس، وخلائق، كان يلوم أباه على القتال في الفتنة بأدب وتؤدة، ويقول: مالي ولصفين؟ مالي ولقتال المسلمين، لوددت أني مت قبلها بعشرين سنة، قال يحيى بن بكير: مات سنة 65 وقال الليث: سنة 8، أخرج له الجماعة. اهـ، صة.

لطائف الإسنادين

الإسناد الأول: فيه من اللطائف: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، وأنهم ما بين، بلخي، وهو قتيبة، وبصريين وهم الباقون، إلا أبا هريرة فإنه مدني، ومحمد بن زياد، وإن كان مدنيا إلا أنه سكن البصرة.

وفيه الإخبار، والإنباء، والتحديث، والعنعنة.

والإسناد الثاني: فيه من اللطائف: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، إلا أبا يحيى، فمقبول.

وأنهم ما بين مروزي، وهو محمود بن غيلان، فإنه مروزي نزل بغداد، وكوفيين وهم: وكيع، وسفيان، ومنصور، وهلال، وأبو يحيى، وبصريين وهما: عمرو، وعبد الرحمن، ومصري، وهو الصحابي.

(1)

وفي مسند بقي بن مخلد له -722 - حديثا.

ص: 31

وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وهما: هلال، وأبو يحيى.

وفيه الإخبار، والتحديث. والعنعنة.

شرح الحديثين

الحديث الأول

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه أنه (قال قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم) كنية النبي صلى الله عليه وسلم، كني بابنه القاسم، أول مولود له، ولد قبل البعثة، ومات صغيرا، وقيل بعد أن بلغ سن التمييز، وقال الزبير بن بكار: حدثني محمَّد بن نضلة عن بعض المشيخة قال: ولدت خديجة القاسم، وعاش حتى مشى.

وأخرج ابن سعد من طريق محمَّد بن جبير بن مطعم، مات القاسم وله سنتان.

وروى عن قتادة نحوه، وعن مجاهد: عاش سبعة أيام، وقال الفضل العلائي: عاش سبعة عشر شهرا بعد البعثة، وقد أخرج يونس ابن بكير في زيادات المغازي عن أبي عبد الله الجعفي هو جابر، عن محمَّد بن علي بن الحسين: كان القاسم قد بلغ أن يركب الدابة، ويسير على النجيبة، فلما قبض قال العاص بن وائل: لقد أصبح محمَّد أبتر، فنزلت {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: آية 1]، عوضا عن مصيبتك يا محمَّد بالقاسم، فهذا يدل على أن القاسم مات بعد البعثة، وكذا ما أخرجه ابن ماجه، والطيالسي، والحربي من طريق فاطمة بنت الحسين، عن أبيها: قال "لما هلك القاسم، قالت خديجة: يا رسول الله: درت لبينة القاسم، فلو كان الله أبقاه حتى يتم رضاعه، قال: كان تمام رضاعه في الجنة" فقال الحربي: أرادت أنها حزنت عليه حتى دَرَّ لبنها عليه.

ص: 32

وفي سنن ابن ماجه بعد قوله: لم يستكمل رضاعه، فقالت: لو أعلم ذلك يا رسول الله لهون عليَّ أمره، فقال:"إن شئت دعوت الله، فأسمعك صوته" فقالت: بل صدق الله ورسوله" وهذا ظاهر جدًّا في أنه مات في الإسلام، ولكن في السند ضعف، وأما قول أبي نعيم: لا أعلم أحدا من متقدمينا ذكره في الصحابة، وقد ذكر البخاري في التاريخ الأوسط من طريق سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة أن القاسم مات قبل الإسلام.

لكن سيأتي في ترجمة فاطمة بنت أسد حديث "ما أعفي أحد من ضغطة القبر إلا فاطمة بنت أسد" قيل: ولا القاسم قال: "ولا القاسم وإبراهيم". وكان إبراهيم أصغرهما، وهذا أثر فاطمة بنت الحسين يدل

على خلاف رواية هشام بن عروة اهـ الإصابة [جـ 3 ص 254].

(ويل للعقب من النار) الويل: مصدر، لا فعل له من لفظه، ومثله: ويح، ووَيْب وَوْيس، وَوْيه، وَعْول، ولا يثنى ولا يجمع، ويقال: ويلة، ويجمع على ويلات، وإذا أضيف، فالأحسن فيه النصب، ولا يجوز غيره عند بعضهم، وإذا أفردته اختير الرفع، ومعناه: الفضيحة والحسرة، وقال الخليل: شدة الشر، وابن المفضل: الحزن، وغيرهما: الهلكة، وقال الأصمعي: هي كلمة تفجع، وقد تكون ترحما، ومنه ويل أمه، مسعر حرب.

ومحله رفع بالابتداء خبره الجار والمجرور، فإن كان عَلَمًا لواد في جهنم يهوي به الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره كما ورد في بعض الروايات

(1)

وفي بعضها أنه جبل فيها، فمسوغه ظاهر، ولا فالمسوغ كونه دعاء، وقد حول عن المصدر المنصوب للدلالة على الدوام

(1)

أخرجه الترمذي، وقال حديث غريب، وابن حبان في صحيحه، وسيأتي قريبا أنه ضعيف.

ص: 33

والثبات، ومثله يجوز فيه ذلك لأنه غير مخبر عنه، وقيل: لتخصص النكرة فيه بالداعي كما تخصص "سلام" في سلام عليك بالمسلّم، فإن المعنى سلامي عليك، وكذلك المعنى ها هنا دعائي على العقب بالهلاك ثابت لها.

أفاد نحو هذا التقرير العلامة الآلوسي في روح العاني عند تفسير قوله {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ}

(1)

[جـ 1 ص 302].

والعقب -بفتح العين، وكسر القاف- مؤخر القدم، وهي أنثى، والسكون للتخفيف جائز، والجمع أعقاب أفاده في المصباح.

والمعنى أنه دعا على أصحاب الأعقاب التي لم يصبها الماء في الوضوء، أو أخبر بهذا الوعيد الشديد، وقال البغوي: معناه: ويل لأصحاب الأعقاب المقصرين في غسلها نحو {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: آية 82] وقيل: أراد أن الأعقاب تختص بالعذاب إذا قصر في غسلها اهـ زهر.

وقال السندي: والمراد بالعقب الجنس، والجمع في الحديث الثاني لأنه جاء في قوم تسامحوا في غسل الرجلين ولا حاجة إلى حمل الجمع على معنى التثنية، والمراد ويل لأعقابهم أو أعقاب من يصنع صنيعهم اهـ

قال الحافظ: وإنما خصت بالذكر لصورة السبب كما في حديث عبد الله بن عمرو الآتي، فيلتحق بها ما في معناها من جميع الأعضاء التي قد يحصل التساهل في إسباغها.

وفي رواية الحاكم وغيره من حديث عبد الله بن الحارث "ويل للأعقاب، وبطون الأقدام من النار " اهـ فتح [جـ 1 ص 321].

وقوله (من النار) قال العلامة العيني كلمة "من" للبيان كما في قوله

(1)

البقرة آية 79

ص: 34

تعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: آية 30]، ويحتمل أن تكون بمعنى "في" كما في قوله تعالى {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: آية 9] أي في يوم الجمعة اهـ عمدة [1/ 383]، وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

شرح الحديث الثاني

(عن عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله عنهما، أنه (قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتوضئون) وذلك في سفر كما في الصحيحين، ولفظ مسلم "رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا في الطريق، تعجل قوم عند العصر، فتوضئوا" الحديث.

(فرأى أعقابهم) جمع عَقب، وتقدم وجه الجمع عن السندي في الحديث الذي قبله (تلوح) أي تظهر، وتُضيء، يقال: لاح، يلوح، لَوْحا بالفتح، ولُؤُوحا بالضم والهمز، ولَوَحَانا، بالتحريك، وليَاحا:

إذا بَدَا، وظهر، أفاده في اللسان.

والمعنى أن تلك الأعقاب تظهر للعين من بين سائر الرجل بأنها لم يمسها الماء (فقال) صلى الله عليه وسلم (ويل للأعقاب من النار) ويل مرفوع بالابتداء سوغه كونه مصدرا في معنى الدعاء كما في "سلام عليكم"، وهي كلمة تقابل ويح، تقال: لمن وقع فيما لا يستحقه ترحما عليه، وعن أبي سعيد

الخدري رضي الله عنه "ويل: واد في جهنم، لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حره، وقيل: ويل صديد أهل النار

(1)

.

وهي من المصادر التي لا أفعال لها، وهي كلمة عذاب وهلاك.

(1)

الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه: بلفظ "ويل واد في جهنم يهوي به الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعرها" جـ 16 ص 508. وفيه دراج، عن أبي الهيثم، وهو ضعيف.

ص: 35

وقوله: (للأعقاب) جار ومجرور خبر المبتدإ، وهو جمع عقب مثال كَبد، وهو المستأخر الذي يمسك مؤخر شراك النعل، وقال أبو حاتم: عَقب وعُقْب: مثال كَبد وصُفْر، وهي مؤنثة، ولم يكسروا العين كما في كَبد، وكَتف، وقال النضر بن شُميل: العقب: يكون في المتن والساقين مختلط باللحم يمشق منه مشقا، ويهذب، ويُنَقَّى من اللحم، ويسوى منه الوَتَر، وأما العصب فالعلياء الغليظ ولا خير فيه.

وقال الليث: العقب مؤخر القدم فهو من العصب لا من العقب، وقال الأصمعي: العقب: ما أصاب الأرض من مؤخر الرجل إلى موضع الشراك. وفي المخصص: عرش القدم: أصول سُلَامِيَاتهَا المنتشرة

القريبة من الأصابع وعَقبُها: مؤخرها الذي يفصل عن مؤخر القدم وهو موقع الشراك من خلفها. قاله العلامة العيني في عمدته [جـ1 ص 382]

(من النار) بيان للويل، أو بمعنى "في" أي ويل لها في النار.

(أسبغوا الوضوء) أي بالغوا في إتمامه.

يقالط سَبَغَ الشيء يَسبُغ سُبُوغًا أي من باب دخل: طال إلى الأرض واتسع، وأسبغه هو، وسبغ الشعر سبوغا، وسبغت الدرع، وكل شيء طال إلى الأرض فهو سابغ. أفاده في اللسان.

قال السندي: رحمه الله فيه دليل على أن التهديد كان لتسامحهم في الوضوء لا لنجاسة على أعقابهم، فيلزم من الحديث بطلان المسح على الرجلين على الوجه الذي يقول به من يجوز المسح عليها، وهو أن يكون على ظاهر القدمين.

وهذا ظاهر، فتعين الغسل، وهو المطلوب، وأما القول بالمسح على وجه يستوعب ظاهر القدم وباطنه، وكذا القول بأن اللازم أحد الأمرين

ص: 36

إما الغسل وإما المسح على الظاهر، وهم قد اختاروا الغسل فلزمهم استيعابه فورد الوعيد لتركهم ذلك فهو ما لم يقل به أحد فلا يضر احتماله لبطلانه باتفاق اهـ كلام السندي.

وقال العلامة العيني: عند قول البخاري "ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا" ما نصه: قال القاضي عياض: معناه نغسل كما هو المراد في الآية بدليل تباين الروايات، وليس معناه ما أشار إليه بعضهم أنه دليل على أنهم كانوا يمسحون فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمرهم بالغسل وقالوا أيضا: لو كان غسلا لأمرهم بالإعادة لما صلوا، وهذا لا حجة فيه لقائله لأنه عليه الصلاة والسلام قد أعلمهم بأنهم مستوجبون النار على فعلهم بقوله "ويل للأعقاب من النار" وهذا لا يكون إلا في الواجب، وقد أمرهم بالغسل بقوله "أسبغوا الوضوء" ولم يأت أنهم صلوا بهذا الوضوء، ولا أنها كانت عادتهم قبل، فيلزم أمرهم بالإعادة.

وقال الطحاوي ما ملخصه: إنهم كانوا يمسحون عليها مثل مسح الرأس، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعهم عن ذلك وأمرهم بالغسل فهذا يدل على انتساخ ما كانوا يفعلونه من المسح، وفيه نظر؛ لأن قوله نمسح على أرجلنا يحتمل أن يكون معناه نغسل غسلا خفيفا مبقعا حتى كأنه مسح، والدليل عليه ما في الرواية الأخرى "رأى قوما توضئوا، وكأنهم تركوا من أرجلهم شيئا فهذا يدل على أنهم كانوا يغسلون، ولكن غسلا قريبا من المسح، فلذلك قال لهم: "أسبغوا الوضوء" وأيضا إنما يكون الوعيد على ترك الفرض، ولو لم يكن الغسل في الأول فرضا عندهم لما توجه الوعيد؛ لأن المسح لو كان هو المشهور فيما بينهم كان يأمرهم بتركه، وانتقالهم إلى الغسل بدون الوعيد، ولأجل ذلك قال القاضي عياض: معناه نغسل كما ذكرناه آنفا، والصواب أن يقال: إن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسباغ الوضوء ووعيده وإنكاره عليهم في ذلك الغسل يدل على أن

ص: 37

وظيفة الرجلين هو الغسل الوافي لا الغسل المشابه بالمسح، كغسل هؤلاء، وقول عياض: وقد أمرهم بالغسل بقوله "أسبغوا الوضوء" غير مسلم لأن الأمر بالإسباغ أمر بتكميل الغسل، والأمر بالغسل فهم من الوعيد، لأنه لا يكون إلا في ترك الواجب، فلما فُهِمَ ذلك من الوعيد، أكده بقوله:"أسبغوا الوضوء" ولهذا ترك العاطف فوقع هذا تأكيدا عاما يشمل الرجلين وغيرهما من أعضاء الوضوء؛ لأنه لم يقل: أسبغوا الرجلين؛ بل قال: "أسبغوا الوضوء" والوضوء هو غسل الأعضاء الثلاثة، ومسح الرأس، ومطلوبية الإسباغ غير مختصة بالرجلين، فكما أنه مطلوب فيهما، فكذلك مطلوب في غيرهما.

فإن قلت: لم ذكر الإسباغ عاما، والوعيد خاصا؟ قلت: لأنهم ما قصروا إلا في وظيفة الرجلين، فلذلك ذكر لفظ الأعقاب فيكون الوعيد في مقابلة ذلك التقصير الخاص اهـ كلام العيني في عمدته [جـ 1 ص 383]. والله ولي التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديثى الباب

المسألة الأولى: في درجتهما:

أما حديث أبي هريرة فهو متفق عليه. وأما حديث عبد الله بن عمرو عن طريق أبي يحيى الأعرج فأخرجه مسلم. وقد أخرجاه عن طريق يوسف بن ماهَك عن عبد الله بن عمرو بلفظ: " تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها، فأدركنا، وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثًا" هذا لفظ البخاري ونحوه لمسلم.

ص: 38

المسألة الثانية في بيان مواضع ذكر المصنف لهما، وفيمن أخرجهما معه.

أما حديث أبي هريرة فأخرجه المصنف هنا -89/ 110 - وفي الكبرى -79/ 113 - عن قتيبة، عن يزيد بن زريع، عن شعبة، وعن مؤمل بن هشام، عن ابن علية، عن شعبة، عن محمَّد بن زياد، عنه.

وأخرجه البخاري في الطهارة، عن آدم، عن شعبة به.

وأخرجه مسلم في الطهارة أيضا عن قتيبة، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب ثلاثتهم عن وكيع، عن شعبة به.

وأما حديث عبد الله بن عمرو. فأخرجه المصنف هنا -89/ 111 - وفي الكبرى -79/ 114 - عن محمود بن غيلان، عن وكيع -وعن عمرو بن علي، عن ابن مهدي- كلاهما عن سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عنه. وفي -106/ 142 - وفي الكبرى -92/ 137 - عن قتيبة، عن جرير، عن منصور به ببعضه "أسبغوا الوضوء".

وأخرجه مسلم في الطهارة عن زهير بن حرب، وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن جرير، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن شعبة، ثلاثتهم، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي

يحيى به.

وأخرجه أبو داود في الطهارة عن مسدد، عن يحيى القطان، عن سفيان به.

وأخرجه ابن ماجه في الطهارة أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعلي ابن محمَّد كلاهما عن وكيع به. أفاده أبو الحجاج المزي رحمه الله.

ص: 39

المسألة الثالثة: في ذكر مذاهب العلماء في غسل الرجلين:

قال العلامة ابن رشد في بداية المجتهد: ما نصه:

اتفق العلماء على أن الرجلين من أعضاء الوضوء، واختلفوا في نوع طهارتهما: فقال قوم: طهارتهما الغسل، وهم الجمهور، وقال قوم: فرضهما المسح، وقال قوم: بل طهارتهما تجوز. بالنوعين: الغسل، والمسح، وأن ذلك راجع إلى اختيار المكلف.

وسبب اختلافهم القراءتان المشهورتان في آية الوضوء: أعني قراءة من قرأ "وأرجلكم" بالنصب عطف على المغسول، وقراء ة من قرأ وأرجلكم" بالخفض عطفا على الممسوح وذلك أن قراءة النصب ظاهرة في الغسل، وقراءة الخفض ظاهرة في المسح، كظهور تلك في الغسل، فمن ذهب إلى أن فرضهما واحد من هاتين الطهارتين على التعيين إما الغسل، وإما المسح ذهب إلى ترجيح ظاهر إحدى القراءتين على القراءة الثانية، وصرف بالتأويل ظاهر القراءة الثانية إلى معنى ظاهر القراءة التي ترجحت عنده، ومن اعتقد أن دلالة كل واحدة من القراءتين على ظاهرها أيضا جعل ذلك من الواجب المخير ككفارة اليمين، وغير ذلك، وبه قال الطبري، وداود.

وللجمهور تأويلات في قراء الخفض أجودها أن ذلك عطف على اللفظ لا على المعنى إذ كان ذلك موجودًا في كلام العرب مثل قول الشاعر: (من الكامل):

لعِبَ الزَّمَانُ بِهَا وَغَيَّرَهَا

بَعْدِي سَوَافي

(1)

المُور وَالقَطْرِ

بالخفض، ولو عطف على المعنى لرفع القطر.

وأما الفريق الثاني، وهم الذين أوجبوا المسح فإنهم تأولوا قراءة

(1)

السوافي جمع سافية، وهي الريح الشديد التي تسفي التراب أي تطيره والمور بالضم الغبار.

ص: 40

النصب على أنها عطف على الموضع كما قال الشاعر (من الوافر):

فَلَسْنَا بالجبَالِ وَلَا الحَديدَا

وقد رجح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه عليه الصلاة والسلام إذ قال في قوم لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء "ويل للأعقاب من النار" قالوا: فهذا يدل على أن الغسل هو الفرض لأن الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب، وهذا ليس فيه حجة؛ لأنه إنما وقع الوعيد على أنهم تركوا أعقابهم دون غسل، ولا شك أن من شرع في الغسل ففرضه الغسل في جميع القدم كما أن من شرع في المسح ففرضه المسح عند من يخير بين الأمرين. وقد دل على هذا ما جاء في أثر أخرجه مسلم

(1)

أيضا أنه قال: "فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى ويل للأعقاب من النار" وهذا الأثر، وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح، فهو أدل على جوازه منه على منعه. لأن الوعيد انما تعلق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة، بل سكت عن نوعها، وذلك دليل على جوازها، وجواز المسح هو أيضا مروي عن بعض الصحابة، والتابعين ولكن من طريق المَعْنَى فالغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل إذ كانت القدمان لا يُنقَّى دنسهما غالبا إلا بالغسل. وينقى دنس الرأس بالمسح، وذلك أيضا غالب، والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابا للعبادات المفروضة حتى يكون الشرع لاحظ فيها معنيين: معنى مصلحيا، ومعنى عباديا وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة، وبالعبادي ما رجع إلى زكاة النفس، وكذلك اختلفوا في الكعبين هل يدخلان في المسح أو في الغسل عند من أجاز المسح؟.

(1)

الصواب أن هذا متفق عليه.

ص: 41

وأصل اختلافهم الاشتراك الذي في حرف "إلى" أعني في قوله تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: آية 6] وقد تقدم القول في اشتراك هذا الحرف في قوله تعالى {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائة: آية 6] لكن الاشتراك وقع هنالك من جهتين من اشتراك اسم "اليد"، ومن اشتراك حرف "إلى"، وهنا من قبيل اشتراك حرف "إلى" فقط.

وقد اختلفوا في الكتب ما هو؟ وذلك لاشتراك اسم الكعب، واختلاف أهل اللغة في دلالته، فقيل: هما العظمان اللذان عند معقد الشراك، وقيل: هما العظمان الناتئان في طرف الساق، ولا خلاف فيما أحسب في دخولهما في الغسل عند من يرى أنهما عند معقد الشراك إذ كان جزءا من القدم لذلك قال قوم: إنه إذا كان الحد من جنس المحدود دخلت الغاية فيه، أعني الشيء الذي يدل عليه حرف "إلى"، وإذا لم يكن من جنس المحدود لم يدخل فيه مثل قوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: آية 187] اهـ كلام ابن رشد في بدايته [جـ 1 ص 15، 16].

وقال القرطبي في "جامع الأحكام"، عند قوله تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ما نصه: قرأ نافع، وابن عا مر، والكسائي {وأرجلكم} بالنصب، وروى الوليد بن مسلم عن نافع أنه قرأ {وأرجلُكُم} بالرفع، وهي قراءة الحسن والأعمش سليمانَ، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة {وأرجلكم} بالخفض، وبحسب هذه القراءات اختلف الصحابة والتابعون، فمن قرأ بالنصب جعل العامل اغسلوا، وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح، وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء، وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

واللازم من قوله في غير ما حديث وقد رأى قومًا يتوضؤون، وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته "ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء".

ص: 42

ثم إن الله حددهما فقال {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} كما قال في اليدين {إِلَى الْمَرَافِقِ} فدل على وجوب غسلهما، والله أعلم.

ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء، قال ابن العربي: اتفقت العلماء على وجوب غسلهما، وما علمت من ردّ ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة الخفض.

قلت قد رُويَ عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان، وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال: اغسلوا وجوهكم وامسحوا برؤسكم وأرجلكم فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما، فسمع ذلك أنس بن مالك فقال: صدق الله، وكذب الحجاج، قال الله تعالي، {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: آية 6] قال: وكان إذا مسح رجليه بلّهما، وروي عن أنس أيضا أنه قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل وكان عكرمة يمسح رجليه، وقال: ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح، ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلا، ويُلغَى ما كان مسحا، وقال قتادة:

افترض الله غسلتين ومسحتين.

وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين، قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه: إن المسح والغسل واجبان جميعا، فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب، والقراءتان بمنزلة آيتين.

وقال ابن عطية: وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح في الرجلين هو الغسل.

ص: 43

قلت

(1)

: هو الصحيح، فإن لفظ المسح مشترك يطلق بمعنى المسح، ويطلق بمعنى الغسل، قال الهروي: أخبرنا الأزهري، أخبرنا أبو بكر محمَّد بن عثمان بن سعيد الدَّاريّ، عن أبي حاتم، عن أبي زيد الأنصاري، قال: المسح في كلام العرب يكون غسلا، ويكون مسحا، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه: قد تمسح، ويقال: مسح الله ما بك: إذا غسلك، وطهرك من الذنوب.

فهذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعنى الغسل، فترجح قول من قال: إن المراد بقراءة الخفض الغسل، وبقراءة

(2)

النصب التي لا احتمال فيها، وبكثرة الأحاديث الثابتة بالغسل، والتوعد على ترك غسلها في أخبار صحاح لا تحصى كثرة أخرجها الأئمة.

ثم إن المسح في الرأس إنما دخل بين ما يغسل لبيان الترتيب على أنه مفعول قبل الرجلين، التقدير فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برؤسكم، فلما كان الرأس مفعولا قبل الرجلين قدم عليهما في التلاوة، والله أعلم، لا أنهما مشتركان مع الرأس، لتقدمه عليهما في صفة التطهير.

وقد روى عاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: قرأ الحسن، والحسين رحمة الله عليهما عَليَّ "وأرجلكم" أي بالجر فسمع علي ذلك، وكان يقضي بين الناس فقال "وأرجلكم" أي بالنصب هذا من المقدم والمؤخر من الكلام.

وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: اغسلوا الأقدام إلى الكعبين، وكذا روي عن ابن مسعود، وابن عباس أنهما قرءَا

(1)

القائل هو القرطبي.

(2)

أي بدليل قراءة النصب.

ص: 44

{وأرجلكم} بالنصب وقد قيل: إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيدا لمسحهما لكن إذا كان عليهما خفان، وتلقينا هذا القيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفان، فبين صلى الله عليه وسلم بفعله الحال التي تغسل فيه الرجل، والحال التي تمسح فيه، وهذا حسن.

وقد قيل: إن قوله تعالى: "وأرجلكم" معطوف على اللفظ دون المعنى، وهذا أيضا يدل على الغسل فإن المراعى المعنى، لا اللفظ، وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب، وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال الله تعالى {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن: آية 35]، بالجر لأن النحاس الدخان، وقال:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} [البروج: آية 21، 22][البروج: آية 21، 22] بالجر

(1)

، قال إمرؤ القيس (من الطويل):

كبيرُ أنَاسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّل

(2)

فخفض مزمل بالجوار وأن المزمل الرجل وإعرابه الرفع.

قال زهير: (من الكامل)

لَعِبَ الزَّمَانُ بِها وَغَيَّرَهَا

بَعْدي سَوَافِي

(3)

الموُرِ والقَطْرِ

قال أبو حاتم: كان الوجه القطر بالرفع، ولكنه جره على جوار المور، كما قالت العرب هذا جحر ضب خَرِبٍ فجروه، وإنما هو رفع. وهذا مذهب الأخفش، وأبي عبيدة، ورده النحاس وقال: هذا القول غلط عظيم، لأن الجوار لا يكون في الكلام أن ينقاس عليه، وإنما هو غلط ونظيره الإقواء.

(1)

وهي قراءة ابن كثير.

(2)

صدر البيت: كَأن أبَانَا في أفَانين دَقّه .. والبجاد: الكساء المخطط، والمزمل المدثر في الثياب. والمعنى أن ما لبسه الخيل من المطر، وأحاط به إلى رأسه كشيخ في كساء مخطط.

(3)

السوافي جمع سافية وهي الريح الشديدة التي تسفي التراب أي تطيره. والمور بالضم التراب.

ص: 45

قلت

(1)

: والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين الغسل ما قدمناه، وما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم "ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار" فخوفنا بذكر النار على مخالفة مراد الله عز وجل، ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب، ومعلوم أن المسح ليس شأنه الاستيعاب ولا خلاف بين القائلين بالمسح أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما عندهم، وإنما ذلك يدرك بالغسل لا بالمسح.

ودليل آخر من جهة الإجماع، وذلك أنهم اتفقوا على أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه، واختلفوا فيمن مسح قدميه، فاليقين ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه.

ونقل الجمهور كافة عن كافة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة واثنين وثلاثا حتي ينقيها، وحسبك بهذا حجة في الغسل مع ما بيناه فقد وضح وظهر أن قراءة الخفض المعنى فيها الغسل لا المسح كما ذكرناه، وأن العامل في قوله {وَأَرْجُلَكُمْ} قوله {فَاغْسِلُوا} .

والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما تقول: أكلت الخبز واللبن أي وشربت اللبن، ومنه قول الشاعر:

عَلفْتُهَا تبْنًا وَمَاءً بَارِدًا

(2)

...........

وقال الآخر (من الكامل):

وَرآيْتُ زَوْجَكِ في الوَغَى

مُتَقلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا

(1)

القائل هو القرطبي.

(2)

رجز مشهور لم يعرف قائله وعجز البيت: ...........

حتَّى غَدَت هَمَّالةً عَيْنَاهَا

وبعضهم أورد له صدرا وجعل المذكور هكذا:

لما حَطَطْتُ الرَّحْلَ عَنْهَا وَاردَا .. عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَاردَا

اهـ من هامش القرطبي بتغيير يسير.

ص: 46

وقال آخر (من الكامل أيضًا):

وَأَطفَلتْ بِالجَلهَتَيْن ظبَاؤُهَا وَنَعَامُهَا

(1)

وقال آخر:

شَرَّابُ ألبْانٍ وَتَمْرٍ وَأقِطْ

التقدير: علفتها تبنا وسقيتها ماء، ومتقلدا سيفا وحاملا رمحا، وأطفلت بالجلهتين ظباؤها، وفرخت نعامها، والنعام لا يطفل إنما يَفرخ، وأطفلت كان لها أطفال والجلهتان: جنبتا الوادي. وشراب ألبان

وآكل تمر، فيكون قوله: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم عطف بالغسل على المسح حملا على المعنى.

والمراد الغسل اهـ جامع الأحكام [جـ 6 ص 91، 94].

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله العلامة القرطبي تقرير حسن جدًّا والله أعلم.

وقال العلامة ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام: ما نصه: قوله (ثم غسل كلتا رجليه) صريح في الرد على الروافض في أن واجب الرجلين المسح، وقد تبين هذا من حديث عثمان، وجماعة وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أحسن ما جاء فيه حديث عمرو بن عَبَسَة، بفتح العين والباء، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما منكم من أحد يقرب وَضُوءه" إلى أن قال:"ثم يغسل رجليه كما أمره الله عز وجل" فمن هذا الحديث انضم القول إلى الفعل، وتبين أن المأمور به الغسل في الرجلين. اهـ[جـ 1/ ص 182].

(1)

البيت للبيد، ورواه في اللسان هكذا:

فعلا فروع الآيهقان وأطفلت

بالجلهتين ظباؤها ونعامها

ص: 47

قال الجامع عفا الله عنه: حديث عمرو هذا أخرجه مسلم وهو نص في تفسير الآية من أن المراد بها الغسل سواء قرئت بالنصب أو بالجر، والله أعلم.

وكتب العلامة الصنعاني في حاشيته في هذا المحل ما نصه:

أقول: اختلف الناس في الواجب في الرجلين على أربعة أقوال، وهي الاحتمال المتعقلة التي تعقل في المسألة: الغسل، والمسح، والجمع، والتخيير: فالأكثر على الغسل، وذهبت الرافضة

(1)

إلى أنه المسح، وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين. وذهب بعض

الظاهرية إلى وجوب الجمع بين المسح والغسل، وذهب ابن جرير الطبري وآخرون إلى التخيير بين الأمرين، كخصال الكفارة. ودليل الجمهور الأحاديث الثابتة في فعله وتعليمه صلى الله عليه وسلم، وبحديث "ويل للأعقاب من النار" واستدل من قال بإيجاب المسح بقراءة {وأرجلكم} بالجر عطفا على {برؤسكم} وأجاب الجمهور بأنها قرئت بالنصب عطفا على أيديكم وبأنه معطوف على محل برؤسكم، وبأنها تحمل قراءة الجر في الآية على مسح الخفين، وقراءة النصب على غسل الرجلين، وقرر هذا ابن العربي بما فيه بعض الطول، وأيد مذهب الجمهور من جهة المعنى بأن الغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح، كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل، إذ كانت القدمان لا ينقى درنهما غالبا إلا بالغسل، وينقى درن الرأس بالمسح، وذلك أيضا غالب. والمصالح المعقولة لا تمنع أن تكون أسبابا للعبادات المفروضة حتى يكون الشرع لحفظ معنيين معنى مصلحي، ومعنى عبادي وأعني بالمصلحي ما يرجع

(1)

هم فرقة من الشيعة بايعوا زيد بن علي ثم قالوا له تبرأ من الشيخبن فأبى وقال: كانا وزيري جدي فتركوه ورفضوه وارفضوا عنه أفاده في "ق".

ص: 48

إلى الأمور المحسوسة، وبالعبادي ما يرجع إلى زكاة النفس. انتهى.

واستدل موجب الجمع بأنه الأحوط، واستدل المخير بأنه ليس إحدى القراءتين بأولى بالعمل من الأخرى، ولا شك أن ما ذهب إليه الجمهور أقوى دليلا لتعارض قراءة النصب، والقول، والفعل النبوي، وليس مع قراءة الجر سنة فعلية، ولا قولية. وأما الجمع، فلم تأت السنة به، ولا مَعْنَى للمسح مع الغسل فإنه إتيان بما لا حاجة إليه، وبما دخل معناه تحت الغسل.

وقد بسط العاملي في شرح الأربعين القول في ترجيح مذهب الإمامية، وذكر مناظرة بين الفريقين، فأما الآية فلا تنهض لأحد الفريقين للاحتمال، ولكن البيان في السنة فإنه لم يأت فيها المسح، ولكن العاملي على قواعد أهل مذهبه يدفع الأحاديث الصحيحة، أو يعارضها بروايات غير ثابتة عند خصمه، فلا تقوم الحجة بها عليه، وإنما أشرنا إلى كلامه لأنه قد أبدى قوة ساعده في المسألة، فلا يغتر به الناظر اهـ ما كتبه الصنعاني رحمه الله [جـ 1/ ص 182، 183].

وقال الحافظ رحمه الله: وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة وضوئه أنه غسل رجليه، وهو المبين لأمر الله، وقد قال في حديث عمرو بن عبَسَةَ الذي رواه ابن خزيمة وغيره مطولا في فضل الوضوء "ثم غَسَل قدميه كما أمره الله".

ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا عن علي، وابن عباس، وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك.

قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين، رواه سعيد بن منصور. وادعى الطحاوي، وابن حزم أن المسح منسوخ والله أعلم اهـ فتح [جـ 1 ص 320].

ص: 49

قال الجامع عفا الله عنه: فتحصل من هذا كله أن الراجح هو مذهب الجمهور، فالواجب في الرجلين الغسل، ولا يجوز المسح إلا لمن لبس الخفين، والله أعلم.

المسألة الرابعة: ذكر العلامة العيني في هذا الحديث من الفوائد على طريق السؤال والجواب: قال رحمه الله: "الأسئلة والأجوبة":

منها ما قيل: والرَّجُل له رجلان، وليس له أرجل، فالقياس أن يقال على رجلينا: أجيب بأن الجمع إذا قوبل بالجمع يفيد التوزيع، فتوزع الأرجل على الرجال.

ومنها ما قيل: فعلى هذا يكون لكل رَجُل رجل؟ أجيب بأن جنس الرجل يتناول الواحد، والاثنين، والعقل يعين المقصود، سيما فيما هو محسوس.

ومنها ما قيل: إن المسح على ظهر القدم، لا على الرجل كلها، أجيب بأنه أطلق الرجل وأريد به البعض، أي ظهر القدم، ولقرينة العرف الشرعي، إذ المعهود مسح ذلك، وهذا فيه نظر؛ لأنهم ما كانوا يمسحون مثل مسح الرأس، وإنما كانوا يغسلون، ولكن غسلا خفيفا، فلذلك أطلقوا عليه المسح، وقد حققناه قريبا.

ومنها ما قيل: لم خص الأعقاب بالعذاب؟ أجيب بأنها العضو التي لم تغسل، وفي "الغريبين": وفي الحديث "ويل للعقب من النار" أي لصاحب العقب المقصّر عن غسلها، كما قال "واسأل القرية" أي أهل القرية، وقيل: إن العقب يخص بالمؤلم من العقاب، إذا قصر في غسلها، وفي المنتهى في اللغة "ويل للأعقاب من النار" أراد التغليظ في إسباغ الوضوء، وهو التكميل، والإتمام.

ومنها ما قيل: ما الألف واللام في الأعقاب؟ أجيب بأنها للعهد: أي

ص: 50

الأعقاب التي رآها كذلك لم يمسها الماء، أو يكون المراد الأعقاب التي صفتها هذه، لا كل الأعقاب. ومنها ما قيل: إن اللام للاختصاص النافع، إذا المشهور أن اللام تستعمل في الخير "وعلى" في الشر، نحو {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: آية 286].

وأجيب بأنها للإختصاص ها هنا نحو {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] ونحو {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 10]، قلت: وقد تستعمل اللام في موضع "على"، وقالوا: إن اللام في "وإن أسأتم فلها" بمعنى عليها.

ومنها ما قيل: كيف أخر الصحابة رضي الله عنهم الصلاة عن الوقت الفاضل، أجيب بأنهم إنما أخروها عنه طمعا أن يصلوها مع النبي صلى الله عليه وسلم لفضل الصلاة معه، فلما خافوا الفوات استعجلوا فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنها ما قيل: رَوَى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال:"ويل للأعقاب من النار" وكذلك حديث مسلم عن عبد الله بن عمرو الذي مضى ذكره عن قريب، وفيه "فانتهينا إليهم، وأعقابهم تلوح، لم يمسها الماء" فقال عليه الصلاة والسلام: "ويل للأعقاب من النار" وهذان الحديثان تصريح بأن الوعيد وقع على عدم استيعاب الرجل بالماء، وحديث البخاري يدل على أن المسح لا يجزئ عن الغسل في الرجل وأجيب بأنه تُرَّدُ الأحاديث إلى معنى واحد، ويكون معنى قوله:"لم يسمها الماء" أي بالغسل، وإن مسها بالمسح، فيكون الوعيد وقع على الاقتصار على المسح دون الغسل. اهـ عمدة القارئ [جـ 1 ص 384]. والله تعالى أعلم.

ص: 51

‌90 - باب بِأَيِّ الرِّجْلَيْنِ يَبْدَأُ بِالْغَسْلِ؟

أي هذا باب ذكر الحديث الذي يجاب به من سأل بأي الرجلين يبدأ المتوضئ في حال غسله؟

فالجار والمجرور الأول يتعلق بالفعل بعده، وكذا الثاني إلا أن الباء فيه بمعنى "في" أي في الغسل.

112 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الأَشْعَثُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَذَكَرَتْ:"أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي طُهُورِهِ وَنَعْلِهِ وَتَرَجُّلِهِ".

قَالَ شُعْبَةُ: ثُمَّ سَمِعْتُ الأَشْعَثَ بِوَاسِطٍ يَقُولُ: يُحِبُّ التَّيَامُنَ. فَذَكَرَ شَأْنَهُ كُلَّهُ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ بِالْكُوفَةِ يَقُولُ: يُحِبُّ التَّيَامُنَ مَا اسْتَطَاعَ.

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(محمَّد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، ثقة من العاشرة مات سنة 245 وتقدم في 53/ 67.

2 -

(خالد) بن الحارث بن عُبَيد بن سُليم الهُجَيمي، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت من الثامنة، مات سنة 186 ومولده سنة 120، تقدم

ص: 52

47/ 42.

3 -

(شعبة) بن الحجاج، أبو بسطام الإمام الحجة البصري، تقدم 88/ 106.

4 -

(الأشعث) بن أبي الشعثاء المحاربي الكوفي، ثقة من السادسة، وثقه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، وقدمه أحمد على سماك بن حرب، وقال العجلي: من ثقات شيوخ الكوفيين، وليس بكثير

الحديث إلا أنه شيخ غال. ووثقه أبو داود، والبزار، وابن حبان، وابن شاهين. وقال ابن سعد: توفي في إمارة يوسف بن عمر بالكوفة. مات سنة -125 - أخرج له الجماعة.

5 -

(أبو الشعثاء) سليم بن الأسود بن حنظلة الكوفي، المحاربي، ثقة باتفاق من كبار الثالثة وثقة أحمد، وابن معين، والعجلي، وابن سعد، وابن حبان، وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة. مات في زمن

الحجاج، وأرخه ابن قانع سنة 85 أخرج له الجماعة.

6 -

(مسروق) بن الأجدع بن مالك بن أمية بن عبد الله بن مرة بن سلامان بن معمر بن الحارث بن سعد الهمداني الوادعي، أبو عائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم من الثانية مات سنة 2 ويقال سنة 63 أخرج له الجماعة، وفي "تت" مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية ابن عبد الله بن مر بن سلامان بن معمر بن الحارث بن سعد بن عبد الله ابن وداعة الهمداني الوادعي الكوفي العابد أبو عائشة الفقيه. قال له عمر ما اسمك؟ فقال: مسروق بن الأجدع، قال: الأجدع شيطان، أنت مسروق بن عبد الرحمن. قال أبو السفر: ما ولدت همدانية مثل مسروق. وقال الشعبي: ما رأيت أطلب للعلم منه. وذكره إبراهيم في أصحاب عبد الله بن مسعود الذين كانوا يعلمون الناس السنة، وعن الشعبي: كان مسروق أعلم بالفتوى من شريح. وكان شريح أعلم بالقضاء. وعن أبي إسحاق حج مسروق، فلم ينم إلا ساجدًا. وقالت

ص: 53

امرأة مسروق: كان يصلي حتى تَرم قدماه. وعن ابن المديني: ما أقدّم على مسروق من أصحاب عبد الله أحدًا، صلى خلف أبي بكر، ولقي عمر، وعليا، ولم يرو عن عثمان شيئًا. ووثقه ابن معين، والعجلي، وابن سعد، وابن حبان، وغيرهم.

7 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنه، تقدمت في 5/ 5.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف، ومنها أن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين بصريين، وهم الثلاثة الأولون، وكوفيين، وهم الثلاثة الباقون، ومدنية، وهي الصحابية. ومنها أن فيه رواية الراوي عن أبيه، ومنها أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، وهما: سُليم، ومسروق وهما من كبار التابعين، كما أن شعبة والأشعث قرينان وهما من كبار أتباع التابعين، كما قال الحافظ في الفتح.

ومنها: أن صحابيته ممن أكثر الرواية عنه صلى الله عليه وسلم روت 2210 حديثًا.

ومنها: أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

قال الأشعث: (سمعت أبي) سليم بن الأسود، قال العلامة العيني رحمه الله: اختلف النحاة في سمعت: هل يتعدى إلى مفعولين، على قولين: أحدهما: نعم، وهو مذهب الفارسي، قال: لكن لابد أن يكون الثاني مما يسمع، كقولك سمعت زيدا، يقول: كذا، ولو قال: سمعت زيدا أخاك لم يجز.

والصحيح أنه لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، والفعل الواقع بعد المفعول في موضع الحال: أي سمعته حال قوله كذا اهـ عمدة [1/ 25].

(يحدث) أي حال كونه محدثا (عن مسروق) بن الأجدع، (عن عائشة رضي الله عنها جملة دعائية لا محل لها من الإعراب (وذكرت) عائشة رضي الله عنها، والجملة حال من عائشة بتقدير "قد" على رأي

ص: 54

البصريين، ومفعول يحدث محذوف، أي يحدث الناس بحديثها، ويحتمل كون الواو زائدة فيكون الفعل بتقدير حرف مصدري مفعول يحدث، أي أنها ذكرت (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن) أي استعمال اليمين في الأشياء (ما استطاع) قال النووي: فيه إشارة إلى شدة محافظته على التيامن. اهـ.

وما مصدرية ظرفية، أي مدة استطاعته على ذلك، تعني بذلك ملازمته في غالب أفعاله الاختيارية التي هي أمن باب التكريم والتشريف، لحديثها الآخر عند أبي داود وغيره، قالت "كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه، وما كان من أذى" فدل أن ما ليس من باب التشريف يكون باليسرى (في طهوره) أي يبدأ في وضوئه بغسل اليد اليمنى، والرجل اليمنى، وفي غسله بالشق الأيمن والطهور بضم الطاء المهملة، وفتحها روايتان بمعنى، وهو مصدر مضاف إلى الفاعل، وقيل بضم الفعل، وبالفتح اسم لما يتطهر به، وعليه فيقدر مضاف، أي لاستعمال طهوره، وقال سيبويه: الطهور بالفتح يقع على الماء، والمصدر معا اهـ المنهل [جـ 1 ص 126].

(ونعله) أي يبدأ في لبس النعل بالرجل اليمنى، والنعل: بفتح فسكون، هي التي تلبس في الرجل عند المشي، وهي مؤنثة جمعها أنْعُل، ونِعَال، مثل سهم، وأسهُم، وسِهام، وهو على حذف مضاف: أي لبس نعله.

وفي (ق) النعل: ما وقيت به القدم من الأرض كالنعلة، مؤنثة جمعها: نعال ونَعِلَ، كفرِح، وتنعل، وانتعل: لبسها، اهـ.

وفي روايات البخاري كلها "في تنعله" بفتح التاء المثناة من فوق، وفتح النون، وتشديد العين، وهكذا ذكره الحميدي، والحافظ عبد الحق في كتابيهما: الجمع بين الصحيحين، وفي رواية مسلم "في نعله"

كالمصنف على إفراد النعل، وفي بعض الروايات "نعليه"، بالتثنية،

ص: 55

قال النووي: وهما صحيحان، ولم يُرَ في شيء من نسخ بلادنا غيرُ هذين الوجهين، قال العلامة العيني: الروايات كلها صحيحة اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه:

وجه صحة الإفراد أنه مفرد مضاف، فيعم؛ لأن المفرد المضاف إلى معرفة يفيد العموم، كما في قوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] أي كل أمر لله تعالى، كما تقرر في الأصول.

(وترجله) قال في اللسان: الترجل، والترجيل: تسريح الشعر، وتنظيفه، وتحسينه، اهـ[جـ 11 ص 270] وفي المصباح: ورجّلت الشعر ترجيلا: سرّحته، سواء كان شعرك أو شعر غيرك اهـ[جـ 1 ص 221]، وقال العيني: أي في تمشيطه الشعر، وهو تسريحه، وهو أعم من أن يكون في الرأس، أو في اللحية اهـ[جـ 2 ص 328] أي يبدأ في تسريح شعره بالشق الأيمن من الرأس.

(قال شعبة) بن الحجاج (سمعت الأشعث) بن سليم (بواسط) قال في اللسان: و"واسط ": موضع بين الجزيرة ونجد، يُصرَف ولا يصرف، و"واسط": موضع بين البصرة، والكوفة، وصف به لتوسطه ما بينهما، وغلبت الصفة وصار اسمًا.

قال سيبويه: سموه واسطا لأنه مكان بين البصرة، والكوفة، فلو أرادوا التأنيث، قالوا: واسطة، ومعني الصفة فيه، وإن لم يكن في لفظه لام

(1)

.

وقال الجوهري: وواسط: بلد، سمي بالقصر الذي بناه الحجاج بين الكوفة والبصرة، وهو مذكر مصروف؛ لأن أسماء البلدان الغالب عليها التأنيث وترك الصرف، إلا مني والشام، والعراق، وواسطا،

ودابقا، وفَلحًا، وهَجَرا، فإنها تذكر، وتصرف، قال: ويجوز أن تريد بها

(1)

يعني ال التي للمح الوصفية كما في الحارث، والفضل، والعباس، يعني أن معنى الوصفية موجودة في واسط، وإن لم يلمح إليها بأل.

ص: 56

البقعة، أو البلدة، فلا تصرفه اهـ لسان [جـ 7 ص 432] وقال ابن الأثير: واسط: خمسة مواضع: واسط العراق، وهي مدينة مشهورة، وواسط الرَّقَّة، وواسط نوقان

(1)

وهي قرية على باب نُوقان طوس، يقال لها: واسط اليهود، وواسط مرزاباذ، وهي قرية بالقرب من مطيراباذ، وواسط بلخ، وهي قرية من قرى بلخ. اهـ لباب باختصار.

(يقول) جملة حالية من الأشعث (يحب التيامن فذكر "شأنه كله") أي إن الأشعث: اقتصر في المرة الثانية على ذكر شأنه كله (ثم سمعته) بعد ذلك (بالكوفة) بالضم: مدينة مشهورة بالعراق: قيل سميت كوفة لاستدارة بنائها؛ لأنه يقال: تكوف القوم: إذا اجتمعوا، واستداروا. قاله في المصباح.

وقال ياقوت في معجمه: الكوفة بالضم: العصر المشهور بأرض بابل من سواد العراق، ويسميها قوم خَدَّ العَذْراء: قال أبو بكر محمَّد بن القاسم: سميت الكوفة لاستدارتها أخذا من قول العرب: رأيت كوفانًا وكَوْفانا بضم الكاف وفتحها، للرُّمَيْلة المستديرة، وقيل: سميت الكوفة لاجتماع الناس بها، من قولهم: قد تكوف الرمل، وقيل: غير ذلك، وأما تمصيرها، وأوليته، فكانت في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السنة التي مُصِّرَت فيها البصرة، وهي سنة 17: بعد البصرة بعامين سنة 19 وقيل 18 اهـ معجم البلدان باختصار [جـ 4 ص 490].

(يقول) الأشعث جملة حالية من مفعول سمعته.

(يحب التيامن ما استطاع) أي إنه اقتصر على هذه الجملة في المرة الثالثة.

وحاصل ما أشار إليه شعبة رحمه الله أنه سمع هذا الحديث من الأشعث بن سليم ثلاث مرات، ففي المرة الأولى سمعه يقول:"كان يحب التيامن ما استطاع في طهوره ونعله وترجله" وفي المرة الثانية سمعه يقول "يحب التيامن في شأنه كله"، وفي المرة الثالثة سمعه يقول "يحب التيامن ما استطاع"، والشأن الحال والخطب، وهو بالهمزة الساكنة،

(1)

ونوقان إحدى مدينتى طوس. اهـ "ق".

ص: 57

وتخفف: بقلبها ألفا لكثرة الاستعمال.

وأكده بقوله (كله) ليدل على التعميم لأن التأكيد يرفع المجاز، فيمكن أن يقال: حقيقة الشأن: ما كان فعلا مقصودا، وما يستحب فيه التياسر، ليس من الأفعال المقصودة، بل هي إما تروك، وإما غير مقصودة أفاده في الفتح [جـ 1 ص 324].

وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: هو عام مخصوص؛ لأن دخول الخلاء والخروج من المسجد، ونحوهما يبدأ فيها باليسار اهـ.

وقال البدر العيني: هذا عام مخصوص بالأدلة الخارجية اهـ.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه: أخرجه هنا -90/ 112 - وفي الكبرى -18/ 116 - عن محمَّد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن الأشعث، عن أبيه، عن مسروق، عنها. وفي الكبرى في الزينة عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن شعبة به.

أخرجه الجماعة، فأما البخاري فأخرجه في الطهارة عن حفص بن عمر، وفي الصلاة عن سليمان بن حرب، وفي اللباس عن أبي الوليد، وعن حجاج بن منهال، وفي الأطعمة عن عبدان، عن عبد الله بن

المبارك، خمستهم عن شعبة، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن أبيه به.

وأما مسلم: فأخرجه في الطهارة عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة به. وعن يحيى بن يحيى، عن أبي الأحوص، عن أشعث به.

وأما أبو داود فأخرجه في اللباس عن حفص بن عمر، ومسلم بن إبراهيم، كلاهما عن شعبة به.

وأما الترمذي فأخرجه في آخر الصلاة عن هناد بن السري، عن أبي الأحوص به وقال: حسن صحيح، وفي الشمائل عن أبي موسى، عن غندر، عن شعبة به.

ص: 58

وأما ابن ماجه فأخرجه في الطهارة -42: 1 - عن هناد به و-42: 1 - عن سفيان بن وكيع عن عمر بن عبيد، عن أشعث به.

أفاده المزي [جـ 12 ص 324] وأخرجه أحمد، وابن حبان.

المسألة الثالثة: أنه وقع اختلاف في ألفاظ هذا الحديث فعند البخاري في الطهارة "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، في شأنه كله".

قال الحافظ: كذا للأكثر من الرواة بغير واو، وفي رواية أبي الوقت بإثبات الواو، وهي التي اعتمدها صاحب العمدة.

وعند مسلم "يحب التيمن في شأنه كله، في نعليه، وترجله، وطهوره".

وعند البخاري في الأطعمة من طريق عبد الله بن المبارك، عن شعبة أن أشعث شيخه كان يحدث به تارة مقتصرا على قوله "في شأنه كله" وتارة على قوله "في تنعله الخ" وزاد الإسماعيلي من طريق غندر، عن شعبة، أن عائشة أيضا كانت تجمله تارة، وتبينه أخرى، قاله في الفتح [جـ 1 ص 325].

وعند ابن حبان "كان يحب التيامن في كل شيء حتى في الترجل، والانتعال".

وفي رواية ابن منده "كان يحب التيامن في الوضوء، والانتعال" أفاده في العمدة [جـ 2 ص 331].

المسألة الرابعة: قال ابن المنذر: أجمعوا على أن لا إعادة على من بدأ بيساره في وضوئه قبل يمينه.

وروينا عن علي، وابن مسعود رضي الله عنها، أنهما قالا "لا تبال

ص: 59

بأي شيء بدأت" زاد الدارقطني أبا هريرة، ونقل المرتضى الشيعي عن الشافعي في القديم وجوب تقديم اليمين على اليسرى ونُسب المرتضى في ذلك إلى الغلط، فكأنه ظن أن ذلك لازم من وجوب الترتيب عند الشافعي، وقال النووي: أجمع العلماء على أن تقديم اليمنى في الوضوء سنة من خالفها فاته الفضل، وتم وضوءه.

والمراد من قوله "العلماء": أهل السنة؛ لأن مذهب الشيعة الوجوب. وقد صحف العمراني في البيان، والبندنيجي في التجريد: الشيعة بالشين المعجمة بالسبعة من العدد، في نسبتهما القول بالوجوب إلى الفقهاء السبعة، وفي كلام الرافعي أيضا ما يوهم أن أحمد بن حنبل قال بوجوبه، وليس كذلك، لأن صاحب المغني قال: لا نعلم في عدم الوجوب خلافًا.

فإن قلت: روى أبو داود، والترمذي بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال:"إذا توضأتم فابدؤا بميامنكم" وفي أكثر طرقه "بأيامنكم" جمع أيمن "إذا لبستم وإذا توضأتم" قلت: الأمر فيه للاستحباب.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي هريرة المذكور أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة، كما قاله الحافظ في بلوغه. فالذي يظهر لي أن الأمر للوجوب؛ لأنه لا صارف له إلى الاستحباب، إلا أن يصح

الإجماع المذكور والله أعلم.

وقال النووي: واعلم أن الابتداء باليسار، وإن كان مجزئا فهو مكروه نص عليه الشافعي رضي الله عنه في الأم، وقال أيضا: ثم اعلم أن من الأعضاء في الوضوء ما لا يستحب فيه التيامن، وهو الأذنان، والكفان والخدان، بل يطهران دفعة واحدة، فإن تعذر ذلك كما في الأقطع ونحوه قدم اليمين.

ص: 60

ومما روي في هذا الباب: عن ابن عمر قال: "خير المسجد المُقَدَّم، ثم ميامن المسجد" وقال سعيد بن المسيب: يصلي في الشق الأيمن من المسجد، وكان إبراهيم يعجبه أن يقوم على يمين الإمام، وكان أنس يصلي في الشق الأيمن، وكذا عن الحسن، وابن سيرين اهـ عمدة القارئ [جـ 2 ص 330].

المسألة الخامسة: في بعض ما يستفاد من الحديث:

ومما يستفاد من حديث الباب: استحباب البداءة بالرجل اليمنى في التنعل، وبالشق الأيمن ني تسريح شعر الرأس، وغسله، وحلقه، ولا يقال: هو من باب الإزالة فيبدأ فيه بالأيسر، بل هو من باب العبادة

والتزين

(1)

، وفيه البداءة باليد اليمنى والرجل اليمنى في الوضوء، وبالشق الأيمن في الغسل، واستدل به على استحباب الصلاة عن يمين الإمام وفي ميمنة المسجد، وفي الأكل والشرب باليمين، وقد أورده

البخاري في هذه المواضع كلها.

قال النووي رحمه الله: قاعدة الشرع المستمرة: استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم، والتزيين، وما كان بضدهما استحب فيه التياسر، أفاده الحافظ [جـ 1 ص 325].

وعبارة النووي في شرح مسلم: هذه قاعدة مستمرة في الشرع، وهي أن ما كان من باب التكريم والتشريف كلبس الثوب، والسروايل، والخف، ودخول المسجد، والسواك، والاكتحال، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، وترجيل الشعر، وهو مشطه، ونتف الإبط، وحلق الرأس، والسلام من الصلاة، وغسل أعضاء الطهارة، والخروج من

(1)

وقد ثبت الإبتداء بالشق الأيمن في الحلق. أنه صلى الله عليه وسلم ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه" الحديث أخرجه مسلم.

ص: 61

الخلاء، والأكل والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، وغير ذلك، مما هو في معناه يستحب التيامن فيه.

وأما ما كان بضده كدخول الخلاء، والخروج من المسجد، والإمتخاط والاستنجاء، وخلع الثوب والسراويل والخف، وما أشبه ذلك فيستحب التياسر فيه، وذلك كله لكرامة اليمين وشرفها، والله أعلم اهـ[جـ 2 ص 160].

وقال في المنهل: ومما يطلب استعمال اليد اليسرى فيه حمل النعل، فما يقع من بعض أهل العلم، وغيرهم من حملهم كتبهم بشمائلهم، ونعالهم بأيمانهم مخالف للسنة المطهرة، قال في شرح المشكاة: وكثيرا ما رأينا عوام طلبة العلم يأخذون الكتاب باليسار، والنعال باليمين، إما لجهلهم، أو غفلتهم اهـ[ج 9 ص 126].

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 62

‌91 - غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ بِالْيَدَيْنِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية غسل الرجلين باليدين.

113 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ -يَعْنِى عُمَارَةَ- قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَيْسِيُّ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَأُتِيَ بِمَاءٍ، فَقَالَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الإِنَاءِ فَغَسَلَهُمَا مَرَّةً، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ مَرَّةً مَرَّةً، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ بِيَمِينِهِ كِلْتَيْهِمَا.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(محمَّد بن بشار) بن عثمان العبدي، أبو بكر الملقب ببندار، الحجة المثبت البصري 10 تقدم مات سنة 252 وله بضع 80 سنة. (ع).

2 -

(محمَّد) هو بن جعفر الملقب بغندر البصري ثقة صحيح الكتاب إلا أن فيه غفلة من التاسعة مات 3 أو 194. (ع) تقدم في 21/ 22.

3 -

(شعبة) بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم، أبو بسطام الواسطي، ثم البصري، ثقة، حافظ، متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال، وذب عن السنة، وكان عابدا، من السابعة، مات سنة ستين ومائة، وتقدم في 86/ 106 (ع).

ص: 63

4 -

(أبو جعفر المدني) عُمير بن يزيد بن عمير بن حبيب، بن خماشة ويقال: حباشة، الأنصاري الخطمي بفتح الخاء وسكون الطاء- نزيل البصرة، أمه بنت عقبة بن الفاكه بن سعد، لجديه عمير بن حبيب، ولفاكه بن سعد صحبة. روى عن أبيه، وخاله عبد الرحمن بن عقبة، وأبي أمامة بن سهل بن حنيف، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن كعب القرظي، وعمارة بن خزيمة بن ثابت، والحارث بن فضيل الخطمي، وعمارة بن عثمان بن حنيف. وعنه هشام الدستوائي، وعدي بن الفضل، وشعبة، وروح بن القاسم، وحماد بن سلمة، ويوسف السمتي، ويحيى القطان. قال ابن معين، والنسائي: ثقة، وذكره ابن

حبان في الثقات، وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان أبو جعفر، وأبوه وجده، قوما يتوارثون الصدق بعضهم، عن بعض.

قال الحافظ: قلت: وقال أبو الحسن بن المديني: هو مدني قدم البصرة، وليس لأهل المدينة عنه أثر، ولا يعرفونه، ووثقه ابن نمير، والعجلي فيما نقله ابن خلفون، وقال الطبراني في الأوسط: ثقة اهـ تهذيب التهذيب [جـ 8 ص 151] روى له الأربعة. وفي (ت) صدوق من السادسة.

5 -

(عمارة بن عثمان بن حنيف) بحاء مضمومة، ونون مفتوحة مصغرا الأنصاري، المدني، روى عن خزيمة بن ثابت، والقيسي، وروى عنه أبو جعفر الخطمي، قال الحافظ: قلت: هو معروف النسب، لكن لم أر فيه توثيقا، وقرأت بخط الذهبي في الميزان: أنه لا يعرف. اهـ تهذيب التهذيب [جـ 7 ص 420] أخرج له الصنف فقط، وفي (ت) مقبول من الثالثة.

6 -

(القيسي) صحابي، روى عنه عمارة بن عثمان بن حنيف،

ص: 64

ويقال هو عبد الرحمن بن أبي قراد اهـ ت، وفي تهذيب التهذيب: القيسي: عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء وعنه عمارة بن عثمان بن حنيف، قلت هو من رواية شعبة عن أبي جعفر الخطمي عن عمارة، ورواه يحيى القطان، عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة

(1)

عن عبد الرحمن بن أبي قراد، قال أبو زرعة: حديث يحيى القطان، هو الصحيح اهـ[جـ 12 ص 330] وفي أسد الغابة: القيسي: منسوب إلى قيس، روى عمارة بن عثمان بن حنيف عن القيسي "انه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سفر، قال فأتي بماء، فقال على يديه من الإناء فغلسهما مرة، ثم غسل وجهه وذراعيه مرة، وغسل رجليه بيمينه كلاهما" أخرجه أبو موسى وقال: هذا حديث حسن مختلف في إسناده اهـ[جـ 4 ص 230].

لطائف الإسناد

أنه من سداسياته، وأن رواته ما بين بصريين، وهم الأربعة الأولون، ومدني، وهو عمارة. وفيه أن شيخ المصنف: أحد من اتفق الستة في الرواية عنه من دون واسطة، وقد تقدم غير مرة، وفيه الإخبار في موضعين، والتحديث في ثلاثة مواضع، والسماع في موضع، وفيه قوله: يعني عمارة، فصل بين ما سمعه من شيخه، وبين ما زاد هو للإيضاح، وقد تقدم غير مرة.

شرح الحديث

(حدثني القيسي) رضي الله عنه، (أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأتي) بالبناء للمجهول، ونائب فاعله قوله:(بماء) أو ضمير النبي صلى الله عليه وسلم والجار متعلق به (فقال على يديه من الإناء) أي صب عليهما من الماء الذي في الإناء، قال ابن الأنباري: قال: يجيء بمعنى تكلم، وضرب

(1)

سيأتي في المسائل: أن أبا جعفر رواه عن عمار بن خزيمة، والحارث بن فضيل عن عبد الرحمن فتنبه.

ص: 65

وغلب، ومات، ومال، واستراح، وأقبل، ويعبر بها عن التهيؤ للأفعال، والاستعداد لها، يقال: قال، فأكل، وقال، فضرب، وقال فتكلم، ونحوه، كقال بيده: أخذ، وبرجله: مشى، أو ضرب وبرأسه: أشار، وبالماء على يده: صبه، وبثوبه: رفعه قال الشاعر:

وَقَالتْ لهُ العَيْنَانِ: سَمْعًا وَطاعَةً.

أي أومأت، وروي في حديث السهو: ما يقول ذو اليدين؟: قالوا: صَدَقَ، روي أنهم أومئوا برؤوسهم، أي نعم، ولم يتكلموا. اهـ (ق) بزيادة من شرحه التاج [جـ 8 ص 91].

(فغسلهما مرة، وغسل وجهه وذراعيه مرة مرة، وغسل رجليه، بيديه كلتيهما) هكذا في النسخة الهندية: بيديه بالتثنية، وكلتيهما بالجر تأكيدا ليديه، وهذه النسخة هي التي توافق ترجمة المصنف حيث ترجم بقوله: غسل الرجلين باليدين، وفي النسخة المصرية: وغسل رجليه بيمينه، كلتاهما، وعليها فقدله:"كلتاهما" يكون تأكيدًا لرجليه على لغة من يلزم المثنى والملحقَ به الألف مطلقا: رفعا، ونصبا، وجرا، فيقول: جاء الزيدان كلاهما، ورأيت الزيدين كلاهما، ومررت بالزيدين كلاهما. وهي لغة كنانة، وبني الحارث بن كعب، وبني العنبر، وبني هجيم، وبطون من ربيعة بن بكر بن وائل، وزبيد، وخثعم، ووعذرة، قال الشاعر [من الطويل]:

تَزَوَّدَ منَّا بَيْنَ أذناهُ طعْنَةً

دَعَتْهُ إلى هَالِي التُّرَابِ عَقيمُ

انظر منحة الجليل على شرح ابن عقيل للمحقق محمَّد محيى الدين عبد الحميد [جـ 1 ص 58] وعلى هذه النسخة يكون المعنى: أنه غسل رجليه كلتيهما بيده اليمنى، فقط. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

ص: 66

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث القيسي: ضعيف لجهل عمارة ابن عثمان كما تقدم.

المسألة الثانية: حديث الباب من أفراد المصنف أخرجه هنا -91/ 113 - ولم يخرجه من أصحاب الأصول غيره.

المسألة الثالثة: الرواية التي أشار إليها أبو زرعة أخرجها المصنف في الباب 16/ 1 قال: حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا: أبو جعفر الخطمي، عمير بن يزيد، قال: حدثني الحارث ابن فضيل، وعمارة بن خزيمة بن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي قراد: قال: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخلاء وكان إذا أراد الحاجة أبعد".

وأخرجه أيضا ابن ماجه: في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة، وابن بشار، عن يحيى بن سعيد بالسند المذكور، ولفظه:"حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فذهب لحاجته فأبعد". والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 67

‌92 - الأَمْرِ بِتَخْلِيلِ الأَصَابِعِ

أي هذا باب ذكر الحديث المبين للأمر بتخليل الأصابع، والتخليل: مصدر خلّل، ويقال: خَلَّل الرّجُلُ لحيته: أوصل الماء إلى خِلالها، وهي البشرة التي بين الشعر، وكأنه مأخوذ من تخللتُ القومَ: إذا دخلت

بين خَلَلهم وخلالهم، أفاده في المصباح.

114 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ، وَكَانَ يُكْنَى أَبَا هَاشِمٍ (ح) وَأَخْبَرَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَوَضَّأْتَ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ".

رجال الإسناد: ثمانية

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) بن مخلد بن إبراهيم بن مطر، أبو يعقوب، الحنظلي المعروف بابن راهويه

(2)

، المروزي، نزيل نيسابور، أحد الأئمة طاف البلاد.

(1)

وفي نسخة "وأنبأنا".

(2)

قال أبو الفضل أحمد بن سلمة: سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: قال لي عبد الله بن طاهر: لم قيل لك ابن راهويه؟ وما معني هذا؟ وهل تكره أن يقال لك هذا؟ قال: اعلم أيها الأمير أن أبي ولد في طريق مكة، فقالت المراوزة: راهويه، بأنه ولد في الطريق، وكان أبي يكره هذا، وأما أنا فلست أكرهه. اهـ من هامش الخلاصة.

ص: 68

روى عن ابن عيينة، وابن علية، وجرير، وبشر بن المفضل، وحفص بن غياث، وسليمان بن نافع العبدي، ولأبيه رؤية، ومعتمر ابن سليمان، وابن إدريس، وابن المبارك، وعبد الرزاق، والدراوردي، وعتاب بن بشير، وعيسى بن يونس، وأبى معاوية، وغندر، وبقية، وشعيب بن إسحاق، وخلق.

وعنه الجماعة، سوى ابن ماجه، وبقية بن الوليد، ويحيى بن آدم، وهما من شيوخه، وأحمد بن حنبل، وإسحاق الكوسج، ومحمد بن رافع، ويحيى بن معين، وهؤلاء من أقرانه، والذهلي، وزكرياء السجزي، ومحمد بن أفلح، وأبو العباس السرّاج وهو آخر من حدث عنه.

قال محمَّد بن موسى الباشاني

(1)

، ولد سنة 161، وكان سمع من ابن المبارك، وهو حدث، فترك الرواية عنه لحداثته، وقال موسى بن هارون: كان مولد إسحاق سنة 166 فيما أرى قال وهب بن جرير: جزى الله إسحاق بن راهويه عن الإسلام خيرا. وقال نعيم بن حماد: إذا رأيت الخراساني يتكلم في إسحاق فاتهمه في دينه.

وقال أحمد: لم يَعْبُر الجسر إلى خراسان مثله، وقال أيضا: لا أعرف له بالعراق نظيرا، وقال مرة لما سئل عنه: إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين، وقال محمَّد بن أسلم الطوسي لما مات: كان أعلم الناس، ولو عاش الثوري لاحتاج إلى إسحاق.

وقال النسائي: إسحاق أحد الأئمة، وقال أيضا: ثقة مأمون. وقال ابن خزيمة: والله لو كان في التابعين لأقروا له بحفظه وعلمه وفقهه.

وقال أبو داود الخفاف،: سمعت إسحاق يقول: لكأني انظر إلى مائة ألف حديث في كتبي، وثلاثين ألفا أسردها.

(1)

الباشاني: نسبة إلى باشان: من قرى هراة اهـ لباب.

ص: 69

وقال: أملى علينا إسحاق أحد عشر ألف حديث من حفظه، ثم قرأها علينا، فما زاد حرفا، ولا نقص حرفا. وقال أبو حاتم: ذكرت لأبي زرعة إسحاق، وحفظه للأسانيد، والمتون، فقال أبو زرعة: ما رؤي أحفظ من إسحاق؛ قال أبو حاتم: والعجب من إتقانه، وسلامته من الغلط، مع ما رزق من الحفظ؛ وقال أحمد بن سلمة: قلت لأبي حاتم: إنه أملى التفسير عن ظهر قلب، فقال أبو حاتم: وهذا أعجب، فإن ضبط الأحاديث المسندة أسهل، وأهون من ضبط أسانيد التفسير، وألفاظها وقال إبراهيم بن أبي طالب: أملى المسند كله من حفظه مرة، وقرأه من حفظه مرة وقال الآجري: سمعت أبا داود يقول: إسحاق بن راهويه تغير قبل أن يموت بخمسة أشهر. وسمعت منه في ذلك الأيام فرميت به. ومات سنة 7 أو 238 وقال حسين

(1)

القَبَّاني: مات ليلة النصف من شعبان سنة 238 وقال البخاري: مات وهو ابن 77 سنة

(2)

قال الحافظ: قلت: وفي تاريخ البخاري: مات ليلة السبت لأربع عشرة خلت من شعبان من السنة، وفي الكنى للدولابي: مات ليلة نصف شعبان قال: وفي ذلك يقول الشاعر (من البسيط)

يَا هَدَّةً مَّا هُددْنَا ليْلَةَ الْأَحَد

في نِصْفِ شَعْبَانَ لَا تُنْسَى مَدَى الأَبَدِ

وساق الدولابي نسبه إلى حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، فقال: إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن عبد الله بن بكر بن عبيد الله ابن غالب بن عبد الوارث بن عبد الله بن عطية بن مرة بن كعب بن همام ابن تميم بن مرة بن عمرو بن حنظلة. وقال ابن حبان في الثقات: كان إسحاق من سادات أهل زمانه فقها وعلما وحفظا، وصنف الكتب،

(1)

هو الحسين بن محمَّد العبدي أبو علي القباني، بفتح القاف وتشديد الباء الموحدة اهـ من هامش تهذيب التهذيب.

(2)

وفي "ت" وهو ابن -72 - سنة.

ص: 70

وفرّع على السنن، وذب عنها، وقمع من خالفها، وأورد الذهبي في الميزان حديث إسحاق، عن شبابة، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر، فزالت الشمس صلى الظهر والعصر، ثم ارتحل".

وقال: رواه مسلم عن عمرو الناقد، عن شبابة، لفظه "إذا كان في سفر، وأراد الجمع أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر، ثم يجمع بينهما" تابعه الزعفراني، عن شبابة، إلى أن قال: ولا ريب أن إسحاق

كان يحدث الناس من حفظه، فلعله اشتبه عليه.

والله أعلم اهـ تهذيب التهذيب [جـ 1 ص 216، 219]. وأخرج له الجماعة. وفي (ت) ثقة، حافظ مجتهد، قرين أحمد بن حنبل ذكر أبو داود أنه تغير قبل موته بيسير.

2 -

(يحيى بن سليم) القرشي الطائفي، أبو محمَّد، ويقال أبو زكرياء المكي، الحَذاّء، الخزّاز، قال ابن سعد: طائفي سكن مكة. روى عن عبيد الله بن عمر العمري، وموسى بن عقبة، وداود بن أبي هند، وابن جريج، وإسماعيل بن أمية، وعبد الله بن عثمان بن خثيم، وعثمان بن الأسود، وعثمان بن كثير، والثوري، وعمران القصير، وغيرهم.

روى عنه وكيع، وهو من أقرانه، والشافعي، وابن المبارك، ومات قبله، وأبو بكر ابن أبي شيبة، وبشر بن عبيس، وإسحاق بن راهويه، والحميدي، وقتيبة، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، وهشام بن عمارة، والحسين بن حريث، ويوسف بن محمَّد العصفري، ومحمد بن عبد الملك ابن أبي الشوارب، وأحمد بن عبدة الضبي، والحسين بن محمَّد الزعفراني، والحسن بن عرفة، وآخرون.

ص: 71

قال الميموني عن أحمد بن حنبل: سمعت منه حديثا واحدا، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: يحيى بن سليم كذ وكذا، والله إن حديثه، يعني فيه شيء، وكأنه لم يحمده، وقال في موضع آخر: كان قد أتقن حديث ابن خثيم، فقلنا له: أعطنا كتابك، فقال: أعطوني رهنا، وقال الدوري عن ابن معين: ثقة: وقال أبو حاتم: شيخ صالح محله الصدق ولم يكن بالحافظ، يكتب حديثه، ولا يحتج به.

وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس، وهو منكر الحديث عن عبيد الله بن عمر. وقال الدولابي: ليس بالقوي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يخطىء. مات سنة 3 أو 194 وقال البخاري عن أحمد بن محمَّد بن القاسم بن أبي بَزَّةَ مات سنة 95 وهو مكي، كان يختلف إلى الطائف فنسب إليه. قال الحافظ: قلت: وقال الشافعي: فاضل كنا نعده من الأبدال.

وقال العجلي: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: سني، رجل، صالح، وكتابه لا بأس به، وإذا حدث من كتابه فحديثه حسن، وإذا حدث حفظا، فيعرف، وينكر. وقال النسائي في الكنى: ليس بالقوي. وقال العجلي: قال أحمد بن حنبل: أتيته فكتبت عنه شيئا، فرأيته يخلط في الأحاديث، فتركته، وفيه شيء قال أبو جعفر: ولين أمره.

وقال الساجي: صدوق يهم في الحديث، وأخطأ في أحاديث رواها عبيد الله بن عمر، لم يحمده أحمد. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالحافظ عندهم. وقال الدارقطني: سيىء الحفظ، وقال البخاري في تاريخه في ترجمة عبد الرحمن بن نافع ما حدث الحميدي، عن يحيى بن سليم، فهو صحيح "تت"[جـ 11 ص 226، 227]، أخرج له الجماعة. وفي (ت) صدوق سيء الحفظ من التاسعة.

ص: 72

3 -

(إسماعيل بن كثير) الحجازي، أبو هاشم، المكي، روى عن عاصم بن لقيط بن صبرة، وسعيد بن جبير، ومجاهد وغيرهم. وعنه الثوري، وابن جريج، ويحيى بن سليم الطائفي، ومِسْعَرَ بن كدَام، وغيرهم. قال أحمد، والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: ثقة كثير الحديث وقال أبو حاتم: صالح الحديث.

وقال الحافظ: ذكره ابن حبان في الثقات. وقال يعقوب بن شيبة، ويعقوب بن سفيان، والعجلي: مكي ثقة، وصحح حديثه في الوضوء ابن خزيمة، وابن الجارود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم،

وغيرهم. وقال الآجري عن أبي داود: كان من تَبَالةَ

(1)

، وهو صاحب مجاهد. تت [جـ 2 ص 326]، أخرج له الأربعة وفي (ت) ثقة 6.

4 -

(محمَّد بن رافع) بن أبي زيد، واسمه سابور، القشيري، مولاهم، أبو عبد الله النيسابوري، الزاهد. روى عن ابن عيينة، وأبي معاوية الضرير، وأبي أحمد الزُّبيْريّ، وأبي داود الحَفَري، وأبي داود الطيالسي، وحسين بن علي الجعفي، وأبي أسامة، وأبي عامر العقدي، وأزهر بن سعد السمان، وزيد بن الحباب، ومحمد بن إسماعيل بن أبي فديك، وأبي النضر، وحسين بن محمَّد، وعبد الرزاق فأكثر عنه، وعبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان، وإبراهيم بن عمر الصنعاني، وإسحاق بن سليمان الرازي، وأبي المنذر: إسماعيل بن عمر، وإسحاق بن عيسى بن الطبَّاع، وحُجَين بن المثنى، وزكرياء بن عدي، وسريج بن النعمان، وشبابة بن سوّار، وقُرَاد أبي نوح، ومصعب بن المقدام، ومحمد بن الحسن بن أَتش، وهشام بن سعيد الطالقاني، ويحيى بن آدم، ويحيى بن إسحاق السَّيْلَحيني، وأبي بكر

(1)

بفتح التاء، والموحدة، ولام: موضع بنواحي مكة. اهـ لب اللباب جـ 2 ص 165.

ص: 73

الحنفي، وأبي بكر بن أبي أويس، وخلق كثير.

وروى عنه الجماعة، سوى ابن ماجه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وإبراهيم بن أبي طالب، ومحمد بن يحيى الذهلي، وابن خزيمة، وأبو العباس السراج، وأبو بكر بن أبي داود، ومحمد بن عقيل الخزاعي، وحاجب بن أحمد الطوسي، وغيرهم.

قال عبد الله بن عبد الوهاب الخوارزمي عن أحمد: محمَّد بن يحيى أحفظ، ومحمد بن رافع أورع، وقال البخاري: ثنا محمَّد بن رافع بن سابور، وكان من خيار عباد الله، وقال النسائي: أنا محمَّد بن رافع الثقة المأمون، وقال ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة: شيخ صدوق، قدم علينا، وكان قد رحل مع أحمد. وقال زكرياء بن دلويه: بعث طاهر بن عبد الله ابن طاهر إلى محمَّد بن رافع بخمسة آلاف، فردها. قال زكرياء: وكان يخرج إلينا في الشتاء الشاتي، وقد لبس لحافه الذي يلبسه بالليل. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات سنة 245 وكان ثبتا فاضلا، وفيها أرخه البخاري، وغيره. قال الحافظ: قال الحاكم: هو شيخ عصره بخراسان في الصدق، والرحلة، حدثنا ابن صالح، حدثنا ابن رجاء، قال: قلت لعثمان بن أبي شبية: تعرف محمَّد بن رافع؟ فقال: ذاك الزاهد، وقال جعفر بن أحمد بن نصر الحافظ: ما رأيت من المحدثين أهيب منه، كان يستند فيأخذ الكتاب، فيقرأ بنفسه، فلا ينطق أحد ولا يتبسم، سمعت محمَّد بن صالح يقول: سمعت أحمد بن سلمة يقول: سمعت مسلم بن الحجاج، يقول: محمَّد بن رافع ثقة مأمون، صحيح الكتاب، وقال ابن صالح: وثنا محمَّد بن شاذان، حدثنا محمَّد بن رافع الثقة المأمون. وقال أحمد بن سيار في ذكر مشايخ نيسابور: محمَّد بن رافع كان ثقة حسن الرواية عن أهل اليمن. وقال النسائي في مشيخته، ومسلمة في الصلة: ثقة ثبت، وفي الزهرة: روى

ص: 74

عنه البخاري 17 حديثا، ومسلم 362 حديثا "تت"[جـ 9 ص 162] أخرج له الجماعة. وفي (ت) ثقة عابد 11.

5 -

(يحيى بن أدم) بن سليمان الأموي، مولى آل أبي معيط، أبو زكرياء الكوفي.

روى عن عيسى بن طهمان، وفطر بن خليفة، وإسرائيل، والثوري، وجرير بن حازم، والحسن بن حي، والحسن بن عياش، وزهير بن معاوية، وأبي الأحوص، وعمار بن رزيق، وفضيل بن مرزوق،

ومفضل بن مهلهل، وورقاء، ووهيب، وأبي بكر بن عياش، وخلق. وعنه أحمد، وإسحاق، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، والحسن على الخلال، وأحمد بن أبي رجاء الهروي، وأبو كريب، والمسندي،

وابنا أبي شيبة، وعبدة بن عبد الله الصفار، وعباس بن حسين القنطري ومحمد بن رافع، ومحمود بن غيلان، وهارون الحمال، والحسن بن علي بن عفان العامري، وآخرون.

قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، وكذا قال النسائي. وقال الآجري سئل أبو داود عن معاوية بن هشام، ويحيى بن آدم؟ فقال: يحيى بن آدم واحد الناس. وقال أبو حاتم: كان يتفقه، وهو ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة كثير الحديث، فقيه البدن، ولم يكن له سن متقدم، سمعت علي بن المديني يقول: يرحم الله تعالى يحيى بن آدم أيّ علم كان عنده؟ وجعل يطريه، وقال أبو أسامة: ما رأيت يحيى بن آدم إلا ذكرت الشعبي، وقال ابن سعد وغيره: مات

(1)

في ربيع الأول سنة 203.

قال الحافظ: تتمة كلام ابن سعد: وكان ثقة، وقال العجلي: كان

(1)

بفم الصلح في النصف من ربيع الأول، في خلافة المأمون اهـ تهذيب الكمال.

ص: 75

ثقة جامعا للعلم، عاقلا، ثبتا في الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال كان متقنا يتفقه. وقال ابن شاهين في الثقات: قال يحيى ابن أبي شيبة: ثقة صدوق، ثبت، حجة، ما لم يخالف من هو فوقة، مثل، وكيع تت [جـ 11 ص 175، 176] أخرج له الجماعة. وفي (ت) ثقة حافظ فاضل من كبار 9.

6 -

(سفيان) بن سعيد بن مسروق، الثوري الحجة المثبت 7، تقدم 89/ 111.

7 -

(عاصم بن لقيط) بفتح اللام، وكسر القاف بن صبرة بفتح الصاد المهملة وكسر الموحدة، العقيلي بالتصغير ثقة من الثالثة وتقدم 71/ 87.

8 -

(عن أبيه) لقيط بن صبرة الصحابي المشهور، ويقال: إن صبرة جده، واسم أبيه عامر، وهو أبو رزين العقيلي، والأكثر على أنهما اثنان، وقد تقدم الكلام في هذا محققا في 71/ 87 فأرجع إليه.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته عن طريق إسحاق، ومن سداسياته عن طريق محمَّد بن رافع، فهو عال في الأول برجل، ومنها أن رواته كلهم ثقات، إلا يحيى بن سليم فإنه صدوق سيئ الحفظ كما قال الحافظ في

التقريب، وسبق الكلام عليه قريبًا.

ومنها: أنهم ما بين نيسابوريين، وهما إسحاق، ومحمد بن رافع، ومكيين: وهما يحيى، وإسماعيل، وكوفيين: وهما: يحيى، وسفيان. ويمنيين: وهما: عاصم، وأبوه لقيط. كما بينه ابن حبان في كتابه: مشاهير علماء الأمصار. ص 58، وص 124 قال في عاصم بعد أن عده من التابعيين اليمانيين: كان يسكن الطائف في آخر أيامه.

ص: 76

وفيه (ح) للتحويل من سند إلى آخر، فإنه انتقل من إسحاق، عن يحيى، عن إسماعيل إلى محمَّد بن رافع عن يحيى، عن سفيان، عن أبي هاشم، وهو إسماعيل بن كثير، فإسماعيل ملتقى الإسنادين جميعا، والسند الأول عال، والثانى نازل كما مر آنفا، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، والإنباء، والقول، وفيه رواية الابن عن أبيه.

شرح الحديث

(عن عاصم بن لقيط) بفتح اللام، وكسر القاف (عن أبيه) لقيط بن صبرة بفتح الصاد المهملة وكسر الباء وسكنها بعضهم، الصحابي المشهور رضي الله عنه.

قال ابن حبان: أبو رزين العقيلي، اسمه لقيط بن عامر بن صبرة بن المنتفق، وهو الذي يقال له: وافد بني المنتفق، له صحبة، ومن قال: لقيط بن صبرة: فقد نسبه إلى جده اهـ مشاهير علماء الأمصار ص 58.

وقد تقدم في [72/ 87]، أن الحافظ رحمه الله رجح كونهما اثنين: لقيط بن عامر، ولقيط بن صبرة، فأرجع إليه.

(قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا توضأت) أي شرعت في الوضوء (فأسبغ الوضوء) أمر من الإسباغ، وهو الإكمال.

قال في اللسان: وإسباغ الوضوء: المبالغة فيه، وإكماله اهـ أي أكمل الوضوء، ولا تترك شيئا من فرائضه، وسننه، ومستحباته (وخلل بين الأصابع) أمر من التخليل. قال في اللسان: وخَلّل فلان أصابعه بالماء: أسال الماء بينها في الوضوء وكذلك خلل لحيته إذا توضأ، فأدخل الماء بين شعرها، وأوصل الماء إلى بشرته بأصابعه.

وقال أيضا: التخليل تفريق شعر اللحية، وأصابع اليدين. والرجلين في الوضوء، وأصله من إدخال الشيء في خلَال الشيء، وهو وسطه اهـ[جـ 1 ص 213].

ص: 77

والمعنى: بالغ في تنظيف اليدين، والرجلين بتفريق أصابعها، فإطلاق الأصابع يشمل أصابع اليدين والرجلين كما قاله السندي [جـ1 ص 79]. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث الباب: صحيح كما تقدم في الباب [71 ح 87].

المسألة الثانية: فيمن أخرجه: أخرج حديث الباب: المصنف، وأبو داود، وابن ماجه، والشافعي، وأحمد، وابن الجارود، وابن خزيمة، وابن حبان والحاكم، والبيهقي وتقدم تمام البحث في هذا في [71/ 87].

المسألة الثالثة: في الأحاديث الواردة في تخليل الأصابع:

منها: حديث الباب، وهو صحيح كما عرفت، ومنها حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا توضأت فخلل أصابع يديك، ورجليك" رواه أحمد، وابن ماجه والترمذي، والحاكم، وفيه صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف.

قال الحافظ: لكن حسنه البخاري؛ لأنه من رواية موسى بن عقبة عن صالح وسماع موسى منه قبل أن يختلط اهـ تلخيص الحبير [1/ 94].

ومنها: حديث المستورد بن شَدَّاد قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ، يدلك أصابع رجليه بخنصره" رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وفي رواية له "يخلل" بدل "يدلك"، وفي إسناده ابن لهيعة، لكن تابعه الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث. أخرجه البيهقي، وأبو بشر الدولابي، والدارقطني في غرائب مالك من طريق ابن وهب عن الثلاثة، وصححه ابن القطان. وكذا الشيخ الألباني، في صحيح ابن

ص: 78

ماجه رقم 446. وحديث عبد الله بن زيد بن عاصم "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فجعل يقول: هكذا، يدلك" رواه أحمد.

ومنها: حديث عثمان "أنه خلل أصابع قدميه ثلاثًا، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت" رواه الدارقطني. وحديث الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ، رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده ضعيف. وحديث عائشة: رواه الدارقطني، وفيه عمرو بن قيس، وهو منكر الحديث. وحديث

وائل بن حجر، رواه الطبراني في الكبير، وفيه ضعف، وانقطاع.

وحديث ابن مسعود، رواه زيد بن أبي الزرقاء عن الثوري، عن أبي مسكين واسمه حسن بن مسكين، عن هزيل بن شرحبيل، عن عبد الله مرفوعًا، بلفظ "ليُنْهكَنَّ أحدكم أصابعه قبل أن تُنْهِكَه النارُ" قال ابن أبي حاتم: رفعه منكر.

قال الحافظ: وهو في جامع الثوري موقوف، وكذا في مصنف عبد الرزاق، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن أبي مسكين موقوفا، وجاء ذلك عن علي، وابن عمر، موقوفا. وحديث

أبي أيوب. رواه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف. وحديث أبي هريرة بلفظ "خللوا أصابعكم، لا يخللها الله يوم القيامة بالنار" وحديث أبي رافع عند أحمد، والدارقطني، من حديث معمر بن محمَّد بن عبيد الله

ابن أبي رافع قال البخاري: هو منكر الحديث.

المسألة الرابعة: في مذاهب العلماء في حكم تخليل الأصابع: ذهب المالكية إلى أن تخليل أصابع اليدين واجب، بخلاف أصابع الرجلين، فإن تخليلها مندوب، وذلك لإيجابهم تدليك كل عضو، ولتفرق أصابع اليدين اعتبر كل أصبع كعضو مستقل، يلزم تدليكه، وأما أصابع الرجلين فلشدة اتصالها اعتبرت كعضوا واحد، فلا يلزم تخليلها.

ص: 79

وذهب غيرهم إلى أن تخليل أصابع اليدين، والرجلين مسنون، وحملوا أحاديث الباب على الندب جمعا بينها وبين سائر الروايات التي حكي فيها صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم، فإنها لم يذكر فيها التخليل.

ومحل هذا كله: إذا وصل الماء إلى ما بين الأصابع بدون تخليل، وإلا فيجب اتفاقا.

قال الترمذي رحمه الله بعد تخريج حديث لقيط بن صبرة: والعمل على هذا عند أهل العلم: أنه يخلل أصابع رجليه في الوضوء، وبه يقول أحمد، وإسحاق، وقال إسحاق: يخلل أصابع يديه، ورجليه في الوضوء اهـ[جـ 1 ص 150] من نسخة الشارح المباركفوري.

وقال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: قال أصحابنا من سنن الوضوء تخليل أصابع الرجلين في غسلهما. قال: وهذا إذا كان الماء يصل إليهما من غير تخليل، فلو كانت الأصابع ملتفة لا يصل الماء إليها إلا بتخليل، فحيئذ يجب التخليل لا لذاته، لكن لأداء فرض الغسل.

قال الشوكاني: والأحاديث قد صرحت بوجوب التخليل، وثبت من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله، ولا فرق بين إمكان وصول الماء بدون تخليل، وعدمه، ولا بين أصابع اليدين، والرجلين، فالتقييد بأصابع الرجلين، أو بعدم إمكان وصول الماء لا دليل عليه اهـ نيل [جـ 1 ص 232].

وقد اعترض عليه العلامة محمود محمَّد خطاب في المنهل بما نصه:

أقول قد علمت أن في كل حديث من أحاديث التخليل مقالا، فلا تنتهض دليلا على الوجوب، وعلى فرض صحتها فهي محمولة على الندب جمعا بينها وبين سائر الروايات الصحيحة الكثيرة التي لم يذكر فيها التخليل، وقد سيقت لبيان صفة الوضوء، فلذا ذهب الجمهور إلى استحباب تخليل أصابع اليدين والرجلين اهـ المنهل [جـ 2 ص 89، 90].

ص: 80

قال الجامع عفا الله عنه:

وفيما قاله نظر لا يخفى، بل الراجح ما قاله الشوكاني، فإن الحديث صح قولا وفعلا كما مر قريبا ولا صارف للأمر عن الوجوب فالحق وجوبه.

وأما قوله: وقد سيقت لبيان صفة الوضوء، فهذا غير صحيح: فإن كثيرا من الأحاديث التي سيقت لبيان صفة الوضوء، ما استوفت جميع صفة الوضوء بمفرداتها، بل كلما زادت رواية أخذنا بها، فصارت مشروعة، فالبيان حصل بمجموعها، وها هنا أيضا حصلت زيادة على الروايات الأخرى التي أطلقت فيلزم الأخذ بها سواءً فتبصر والله أعلم.

المسألة الخامسة: في كيفية التخليل: ذهب بعضهم إلى أن تخليل أصابع الرجلين يكون بخنصر اليسرى، ويكون من أسفل القدم، مبتدئا بخنصر رجله اليمنى، ويختم بخنصر اليسرى.

وذهب بعضهم إلى أنه يستحب أن يخلل بخنصر يده اليمنى من تحت الرجل.

وذهب بعضهم إلى التخيير في ذلك، قال إمام الحرمين: لست أرى لتعيين اليد اليمنى أو اليسرى في ذلك أصلا، إلا النهي عن الاستنجاء باليمين، وليس تخليل الأصابع مشابها له، فلا حَجر على المتوضئ في استعمال اليمين أو اليسار، فإن الأمر كذلك، في غسل الرجلين وخَلَلُ الأصابع جزء منها، ولم يثبت عندي في تعيين إحدى اليدين شيء. وقيل يخلل ما بين كل أصبعين من أصابع رجليه بأصبع من أصابع يده ليكون بماء جديد ويترك الإبهامين فلا يخلل بهما لما فيه من العسر، وهذه الأقوال محكية في مذهب الإمام الشافعي ذكرها النووي في مجموعه.

قال بعد ذكر الأقوال: فحصل من مجموع هذا أن التخليل من أسفل الرجل، ويبدأ من خنصر اليمين، وفي الأصبع التي يخلل بها أوجه:

ص: 81

الأشهر أنها خنصر اليسرى، والثاني: خنصر اليمنى. والثالث: أنه يخلل ما بين كل أصبعين من أصابع رجليه بأصبع من أصابع يده، والرابع: أنه لا يتعين في استحباب ذلك يد، وهو الراجح المختار. اهـ

المجموع بتصرف واختصار [جـ 1 ص 425].

قال الجامع عفا الله:

ما رجحه الإمام النووي هو الذي لا يترجح غيره عندي، لعدم نص قاطع بتعيين اليمين، أو اليسار، بل هو أمر موسع فيه كما قال إمام الحرمين، والله أعلم.

هذا في تخليل أصابع الرجل، وأما أصابع اليدين، فقال النووي رحمه الله: لم يتعرض له الجمهور، وجاء فيه حديث ابن عباس، ونقل الترمذي: استحبابه عن إسحاق بن راهويه، ويدل عليه حديث لقيط بن صبرة، فإن الأصابع تشملها، وعلى هذا، فيكون تخليلها بالتشبيك بينها اهـ المجموع بتغيير، واختصار.

قال الجامع عفا الله عنه:

قد أسلفنا تحقيق العلامة الشوكاني في هذا الموضوع فالراجح وجوب التخليل في أصابع اليدين والرجلين، والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 82

‌93 - عَدَدُ غسْل الرِّجْلَيْنِ

أي هذا باب يذكر فيه الحديث الدال على عدد غسل الرجلين.

115 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي حَيَّةَ الْوَادِعِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا تَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا، وَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(محمَّد بن آدم) بن سليمان، الجهني المصيصي. رَوَى عن ابن المبارك، وحفص بن غياث، وأبي خالد الأحمر، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة. وعبدة بن سليمان، ومروان بن معاوية، وأبي معاوية الضرير، وعلي بن هاشم بن البريد، ويحيى بن أبي عنَبَةَ، وعبد الرحيم بن سليمان وعمرو بن عبيد الطنافسي، ومحمد بن فضيل بن غَزْوان، وغيرهم.

روى عنه أبو داود، والنسائي، وأبو حاتم، وأبو عبد الملك البسري، والفضل بن العباس الحلبي، وأبو علي الحسين بن إبراهيم بن فيل

ص: 83

الأنطاكي، وعبد الله بن محمَّد بن بشر بن صالح، وعمرو بن بحر الأسدي، وأبو يوسف الصَّفَّار، ومحمد بن عبد الرحيم الديباجي، وأبو بكر بن أبي داود، وآخرون، وقال ابن أبي داود: كان يقال: إنه من الأبدال. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ثقة، وفي موضع آخر: صدوق، لا بأس به. وقال ابن عساكر: مات سنة 250 وقال الحافظ: قلت: وقال مسلمة في الصلة: ثقة، ووهم صاحب الزهرة، فقال: محمَّد بن إبراهيم بن آدم بن سليمان، وذكر وفاته في سنة 50 كما تقدم تت [جـ 9 ص 34، 35] أخرج له المصنف، وأبو داود. وفي (ت) صدوق من العاشرة.

2 -

(ابن أبي زئدة) هو يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، واسمه خالد ابن ميمون بن فيروز، الهمداني، الوادعي، أبو سعيد، الكوفي.

روى عن أبيه، والأعمش، وابن عون، وعاصم الأحول، وهشام ابن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وداود بن أبي هند، وحارثة ابن أبي الرجال، وإسماعيل بن أبي خالد، وعبد الرحمن بن الغسيل، وحسين بن الحارث الجدلي، وعكرمة بن عمار، وعبد الله بن عمر العمري، وأبي مالك الأشجعي، وحجاج بن أرطاة، وإسرائيل، وعبد الملك بن حميد بن أبي غَنيَّة، ومسعر، وهاشم بن هاشم بن عُتْبَةَ ابن أبي وقاص، وموسى الجهني، وجماعة.

وعنه يحيى بن آدم، وأبو داود الحَفَري، وأحمد بن حنبل، ويحيى ابن معين، وابنا أبي شيبة، وعلي بن المديني، وداود بن رشيد، ويحيى ابن يحيى النيسابوري، وإبراهيم بن موسى، وأبو كريب، وشجاع بن مخلد، وسريج بن يونس، وأحمد بن منيع، وسويد بن سعيد، وعلى ابن مسلم الطُّوسي، وسهل بن عثمان العسكري، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، وهارون بن معروف، وهناد بن السري، والحسن بن عرفة،

وآخرون.

ص: 84

قال إبراهيم بن موسى، عن أبي خالد الأحمر: كان جيد الأخذ.

وقال أيضا عن الحسن بن ثابت: نزلت بأفقه أهل الكوفة، يعنيه، وقال عمرو الناقد، عن ابن عيينة: ما قدم علينا مثل ابن المبارك، ويحيى بن أبي زائدة. وقال الحارث بن سريج، عن يحيى القطان: ما خالفني أحد بالكوفة أشد علي من ابن أبي زائدة. وقال أحمد، وابن معين: ثقة. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: إسماعيل بن زكريا أحب إليك، أو يحيى بن أبي زائدة؟ قال: يحيى أحب إلى. قلت: هما أخوان عندك؟ قال: لا، وقال ابن المديني: هو من الثقات، وقال أيضا: لم يكن بالكوفة بعد الثوري أثبت منه.

وقال أيضا: انتهى العلم إليه في زمانه. وقال ابن نمير: كان في الإتقان أكثر من ابن إدريس، وقال أبو حاتم: مستقيم الحديث. ثقة صدوق. وقال النسائي: ثقة ثبت. وقال العجلي: ثقة. وهو ممن جمع له الفقه، والحديث، وكان على قضاء المدائن، ويعد من حفاظ الكوفيين للحديث، متقنا، ثبتا، صاحب سنة، ووكيع إنما صنف كتبه على كتب يحيى بن أبي زائدة. وذكر ابن أبي حاتم: أنه أول من صنف الكتب بالكوفة. وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: يحيى بن أبي زائدة في الحديث مثل العروس المعطرة. وقال الدُّوري عن ابن معين: كان يحيى بن زكريا كيسا. ولا أعلمه أخطأ إلاَّ في حديث واحد، عن سفيان، عن أبي إسحاق. عن قبيصة بن بُرْمَة: قال: قال عبد الله: "ما أحب أن يكون عبيدكم مؤدبيكم" وإنما هو عن واصل، عن قبيصة وقال الغلابي عن ابن معين: نحو ذلك. وقال حنبل، عن محمَّد بن داود: سمعت عيسى بن يونس، وسئل عن يحيى بن أبي زائدة؟ فقال: ثقة ورأيت زكريا بن أبي زائدة يجىء به إلى مجالد. وقال زياد بن أيوب: كان يحدث حفظا وقال علي بن المديني: مات سنة 182، وقال

ص: 85

ابن سعد، وغيره: مات بالمدائن وهو قاض بها سنة 83 وفيها أرخه غير واحد. زاد يعقوب بن شيبة: وبلغ من السنن يوم مات 63 سنة.

وقال ثقة حسن الحديث، ويقولون: إنه أول من صنف الكتب بالكوفة، وكان يعد في فقهاء محدثي أهل الكوفة، وكانت وفاته في جمادى الأولى. وقال خليفة، وابن حبان مات سنة ثلاث، أو أربع،

وقال ابن قانع: مات سنة أربع.

قال الحافظ: قلت: وقال ابن أبي حاتم في العلل سألت أبي، وأبا زرعة عن حديث رواه ابن أبي زائدة، عن يحيى بن سعيد، عن مسلم بن يسار، عن ابن عمير في العبث بالحصى، فقالا: وهم ابن أبي زائدة، وإنما هو مسلم بن أبي مريم، عن علي بن عبد الرحمن، عن ابن عمير. قال أبو زرعة: يحيى قلما يخطئ، فهذا أخطأ أتى بالعظائم انتهى، وهذا يرد على الذي ذكره ابن معين: قال عمر بن شَبَّةَ: ثنا أبو نعيم، ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وما هو بأهل أن يحدث عنه، عن ابن أبي خالد، قوله: قال: ولو كان فقيها ما حدث به عنه. وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله تعالى، وقال ابن شاهين في الثقات: قيل ليحيى بن معين: إن زكريا بن عدي لم يحدث عنه، قال: هو خير من زكرياء بن عدي، ومن أهل قريته. تت [جـ 11 ص 208، 210] أخرج له الجماعة وفي (ت) ثقة من كبار التاسعة.

3 -

(زكرياء بن

(1)

أبي زائدة) خالد بن ميمون بن فيروز، وقال بحشل: اسم أبي زائدة هبيرة، الهمداني، الوادعي

(2)

مولاهم، أبو يحيى، الكوفي.

(1)

في المغني: زكرياء بمد وقصر. اهـ.

(2)

في لب اللباب: الوادعي: بكسر الدال المهملة ثم عين مهملة نسبة إلى وادعة بطن من همدان اهـ.

ص: 86

روى عن أبي إسحاق السبيعي، وعامر الشعبي، وفراس، وسماك ابن حرب، وسعد بن إبراهيم، وخالد بن سلمة، ومصعب بن شيبة. وعبد الملك بن عمير، وغيرهم.

وعنه ابنه يحيى، والثوري، وشعبة، وابن المبارك، وعيسى بن يونس، والقطان، ووكيع، وأبو أسامة، وأبو نعيم، وغيرهم. قال القطان: ليس به بأس، وليس عندي مثل إسماعيل بن أبي خالد. وقال صالح بن أحمد، عن أبيه: إذا اختلف زكرياء، وإسرائيل، فإن زكرياء أحب إلى في أبي إسحاق، ثم قال: ما أقربهما، وحديثهما عن أبي إسحاق لين، سمعا منه بآخره، وقال عبد الله عن أبيه: ثقة، حلو الحديث، ما أقربه من إسماعيل بن أبي خالد. وقال عباس: عن ابن معين: صالح. وقال عثمان عنه: زكريا أحب إلى في كل شيء، وابن أبي ليلى، ضعيف، وقال العجلي: كان ثقة، إلا أن سماعه من أبي إسحاق بآخره، ويقال: إن شريكا أقدم سماعا منه، وقال أبو زرعة: صويلح يدلس كثيرًا عن الشعبي، وقال أبو حاتم: لين الحديث، كان يدلس، وإسرائيل أحب إلى منه، ويقال: إن المسائل التي كان يرويها عن الشعبي، لم يسمعها منه إنما أخذها عن أبي حريز، وقال الآجري عن أبي داود: وزكريا أرفع منه يعني من أجلح مائة درجة، قال أبو داود: وزكريا ثقة، إلا أنه يدلس. قال يحيى بن زكرياء: لو شئت سميت لك من بين أبي وبين الشعبي، وقال النسائي: ثقة.

قال ابن نمير: مات سنة 147 وقال أبو نعيم: مات سنة 48. وقال محمَّد بن سعد، وعمرو بن علي: سنة 49. قال الحافظ: وقال ابن حبان في الثقات: اسم أبي زائدة: فيروز، وقيل: خالد. مات سنة 48 أو 49. وقال أبو بكر البرديجي: ليس به بأس. وقال يعقوب بن سفيان، وأبو بكر البزار: ثقة.

ص: 87

وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال ابن قانع: كان قاضيا بالكوفة. اهـ تت [جـ 3 ص 329] أخرج له الجماعة. وفي (ت) ثقة، وكان يدلس، وسماعه من أبي إسحاق بآخره [6].

4 -

(أبو اسحاق) عمرو بن عبد الله الهمداني، السَّبيعي بفتح المهملة وكسر الموحدة مكثر ثقة عابد، من الثالثة اختلط بآخره، مات سنة 129 وقيل قبل ذلك وتقدم 37/ 42.

5 -

(أبو حية الوادعي) بن قيس الكوفي، قيل: اسمه عمرو بن نصر، وقيل: عبد الله، وقيل: عامر بن الحارث، وقال أبو أحمد الحاكم، وغيره: لا يعرف اسمه مقبول من الثالثة تقدم في 79/ 96.

6 -

(علي) بن أبي طالب الهاشمي أبو الحسن، رابع الخلفاء الراشدين، رضي الله عنه تقدم 74/ 91.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، ومنها أن رواته كلهم ثقات، إلا أبا حية فمقبول، وأنهم كلهم كوفيون، إلا شيخ المصنف فمصيصي.

وفيه رواية تابعي، عن تابعي، أبو إسحاق، عن أبي حية، وفيه الإخبار، والعنعنة، والتحديث. وأن رجاله ممن أخرج لهم الجماعة إلا شيخه فأخرج عنه هو وأبو داود فقط، وإلا أبا حية: فالأربعة.

شرح الحديث

(عن ابن أبي زائدة) يحيى بن زكرياء بن خالد بن ميمون، أبي سعيد الكوفي، أنه قال (حدثني أبي) زكرياء بن خالد (وغيره) أي غير أبيه (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي (عن أبي حية) بن قيس (الوادعي) بكسر الدال نسبة إلى وادعة بن عمرو، بطن من همدان أفاده

ص: 88

في اللباب [جـ 3 ص 344] أنه (قال: رأيت عليا) رضي الله عنه (توضأ) جملة حالية؛ لأن "رأى" بصرية وجملة قوله (فغسل كفيه ثلاثا) تفصيل، وتوضيح لمعنى توضأ (وتمضمض، واستنشق ثلاثا) راجع لكل من التمضمض، والاستنشاق، لما تقدم للمصنف "ثم تمضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا"(وغسل وجهه ثلاثا، وذراعيه) قال في المصباح: الذراع: اليد من كل حيوان، لكنها من الإنسان من المرفق إلى أطراف الأصابع اهـ[جـ 1 ص 207](ثلاثا ثلاثا) أي كل واحد منهما، وفي الرواية السابقة 75/ 92 "وغسل يده اليمنى ثلاثا ويده الشمال ثلاثا".

(ومسح برأسه) أي مرة واحدة لما تقدم في [75/ 92]"ومسح برأسه مرة واحدة"(وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا) وتقدم قوله: "ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا، ورجله الشمال ثلاثا"(ثم قال) علي رضي الله عنه (هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني أنه مثله، أو أطلقه مبالغة.

وموضع الترجمة قوله: "وغسل رجليه ثلاثا، ثلاثا". والله أعلم.

مسائل: تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجة الحديث:

حديث الباب صحيح بشواهده، وقد قدمنا في [79/ 96] أن ابن السكن وغيره صححوا حديث أبي حية، وقد تابعه في روايته عن علي رضي الله عنه: عبد خير، والحسين بن علي رضي الله عنهما.

المسألة الثانية: فيمن أخرجه من الستة:

حديث علي رضي الله عنه أخرجه المصنف وأبو داود، والترمذي، وقد تقدم تفاصيل ذلك كله في [79/ 96].

ص: 89

المسألة الثالثة: في فوائد الحديث:

يستفاد من الحديث: مشروعية غسل الكفين ثلاثا، والمضمضة ثلاثا، وغسل الوجه ثلاثا، وغسل الذراعين ثلاثا، ومسح الرأس، مرة واحدة وغسل الرجلين ثلاثا، ثلاثا، وحرص الشخص على متابعة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعليمها للجاهل؛ لأن عليا رضي الله عنه توضأ تعليما للناس.

وقد تقدمت بقية فوائده. في [79/ 96] فأرجع إليها.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 90

‌94 - بَابُ حَدِّ الغُسْلِ

أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على حد غسل الرجلين.

وقال السندي: ما نصه: ذكر فيه حديث عثمان الدال على أن اليد إلى المرفق والرجل إلى الكعب أو الدال على أن الغسل يثلث دون المسح اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه:

الأولى ما ذكرته من أن المراد بحد الغسل حد غسل الرجلين؛ لأنه تقدم له نظير هذا في غسل اليدين حيث قال "باب صفة الوضوء""باب غسل اليدين""باب حد الغسل" ثم ذكرالأبواب المتعلقة بالمسح، ثم قال

"باب إيجاب غسل الرجلين" إلى أن قال "عدد غسل الرجلين""باب حد الغسل" فأراد بحد الغسل في الأول غسل اليدين، وفي الثاني غسل الرجلين. والله أعلم.

116 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ اللَّيْثِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ

ص: 91

غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ:"مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

رجال الإسناد: ثمانية

1 -

(أحمد بن عمرو بن السرح) هو أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرح بمهملات، أبو الطاهر المصري، ثقة من العاشرة، مات سنة 250 تقدم في 35/ 39.

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمَّد بن يوسف مولى بني أمية، أبو عمرو المصري، قاضيها، ثقة، فقيه من العاشرة مات سنة 250، وله 96، سنة، وتقدم في 9/ 9 وفي 80/ 97.

3 -

(ابن وهب) هو عبد الله بن وهب بن مسلم، القرشي، مولاهم، أبو محمَّد، المصري، الفقيه، ثقة، حافظ، عابد، من التاسعة مات سنة 197. وله 72 سنة وتقدم في 9/ 9.

4 -

(يونس) بن يزيد بن أبي النِّجَاد، الأيلي، بفتح الهمزة، وسكون التحتانية، بعدها لام، أبو يزيد، مولى آل أبي سفيان، ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وَهَما قليلًا، وفي غير الزهري خطأ، من كبار السابعة، مات سنة 159، على الصحيح، وقيل بعدها سنة 160، وتقدم في 9/ 9.

ص: 92

5 -

(ابن شهاب) محمَّد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب ابن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب، القرشي، الزهري، وكنيته: أبو بكر، الفقيه الحافظ، متفق على جلالته، وإتقانه وثبته،

وهو من رؤوس الطبقة الرابعة، مات سنة 125، وقيل: قبل ذلك بسنة أو بسنتين، وتقدم في 1/ 1.

6 -

(عطاء بن يزيد الليثي) المدني، نزيل الشام، ثقة من الثالثة، مات سنة 5/ أو 107، وقد جاوز 80 وتقدم في 68/ 84.

7 -

(حمران) بضم أوله ابن أبان مولى عثمان بن عفان، اشتراه في زمن أبي بكر الصديق، ثقة من الثانية مات سنة 75 وقيل غير ذلك، وتقدم في 68/ 84.

8 -

(عثمان) بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، الأموي أمير المؤمنين، ذو النورين، أحد السابقين الأولين، والخلفاء الأربعة، والعشرة المبشرة، استشهد في ذي الحجة بعد عيد الأضحى سنة 35، وكانت خلافته 12 سنة، عمره 80، وقيل أكثر، وقيل: أقل، وتقدم في 68/ 84.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين مصريين، وهم الثلاثة الأولون، وأيلي، وهو يزيد. ومدنيين: وهم الباقون. وأن فيه التحديث، والإخبار، والعنعنة. وأن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم ابن شهاب، وعطاء، وحمران.

شرح الحديث

(أن حمران مولى عثمان أخبره) أي أخبر عطاء (أن عثمان) بن عفان

ص: 93

رضي الله عنه (دعا بوضوء) بفتح الواو، لا غير؛ لأن المراد الماء الذي يتوضأ به (فنوضأ) من ذلك الماء (فغسل كفيه) الفاء تفسيرية لأن قوله: توضأ مجمل، فصله قوله: غسل. إلخ. وفي الرواية المتقدمة في [68/ 84]. "فأفرغ على يديه" وقلنا هناك، الراد كفيه (ثلاث مرات) صفة لمصدر محذوف: أي غسلا ثلاثا أفاده العيني.

ثم إن الظاهر أنه غسل الكفين معا. قال الإمام ابن دقيق العيد: غسلُهما قدر مشترك بين كونه غسلهما مجموعتين، أو مفترقتين، والفقهاء اختلفوا أيهما أفضل؟ اهـ جـ 1 ص 168 وكتب العلامة الصنعاني: ما نصه: قوله أفضل، أقول: إن غسلهما مجموعتين أعون على إذهاب ما عساه فيهما، لقوة الدلك.، وغسل كل واحدة على حدة فيه زيادة عمل بإفراد كل واحدة بطهارة، والأظهر أن الوجهين متكافئان، والمكلف مخير اهـ عدة [جـ 1 ص 168].

قال الجامع عفا الله عنه:

بل الأظهر غسلهما معا، كما أسلفنا قريبا.

وفيه استحباب غسل الكفين قبل إدخالهما الإناء، ولو لم يكن عقب النوم، وهو إجماع بين العلماء لمن لم يستيقظ، وقد مر الخلاف في وجوب غسلهما عقب النوم في 1/ 1.

(ثم مضمض) أي حرك الماء في فمه، وأصل المضمضة، كما قال الفارابي صوت الحية، ونحوها، ويقال: هو تحريكها لسانها. قاله في المصباح.

وقال الحافظ: أصل المضمضة في اللغة التحريك، ثم اشتهر استعماله في وضع الماء في الفم وتحريكه وأما معناه في الوضوء الشرعي، فأكمله أن يضع الماء في الفم، ثم يديره، ثم يمجه اهـ وقال ابن دقيق: قال

ص: 94

بعض الفقهاء: المضمضة أن يجعل الماء في فمه، ثم يمجه، فأدخل المج في حقيقة المضمضة، فعلى هذا لو ابتلع الماء لم يكن مؤديا للسنة، وهذا الذي يكثر في أفعال المتوضئيين، أعني الجعل، والمج، ويمكن أن يكون ذكر ذلك بناء على أنه الأغلب والعادة، لا أنه يتوقف تأدية السنة على مجه اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه:

إدخال المج في مفهوم المضمضة ليس بشيء؛ لأن المضمضة كما أسلفنا هو التحريك، ولم يرد في السنة زيادة على معناه اللغوي، فلا ينبغي زيادته في مفهومها، والله أعلم.

(واستنشق) أي جعل الماء في أنفه، وجذبه بنَفَسه، ليزول ما فيه من الأوساخ، وأصل الاستنشاق: شم الريح مع قوة، كما تقيده عبارة اللسان ثم إنه لم يرد في طرق هذا الحديث تقييد المضمضة، والاستنشاق بعدد غير طريق يونس عن الزهري، فيما ذكره ابن المنذر، وكذا فيما ذكره أبو داود، من وجهين آخرين عن عثمان رضي الله عنه فإن في أحدهما "فتمضمض ثلاثا، واستنثر ثلاثا"، وفي الآخر "ثم تمضمض، واستنثر ثلاثا" أفاده العيني [جـ 2 ص 300].

(ثم غسل وجهه) عطفه بثم إشارة إلى أن غسل الوجه يتأخر عن المضمضة، والاستنشاق. قال العلامة ابن دقيق العيد: فيه دليل على الترتيب بين غسل الوجه، والمضمضة والاستنشاق، وتأخيره عنهما، فيؤخذ منه الترتيب بين المفروض، والمسنون. اهـ إحكام ج 1 ص 171.

قلت: هذا: إذا قلنا: بسنيتهما، وقد عرفت أن الراجح وجوبهما، فتنبه. وكتب العلامة الصنعاني على قوله: فيؤخذ منه الترتيب: الخ: ما نصه: إلا أنه قد ورد ما يعارضه، فأخرج أحمد، وأبو داود من

ص: 95

حديث المقدام بن معدي كرب، قال:"أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ، فغسل كفيه ثلاثا، ثم غسل ذراعيه ثلاثا، ثم مضمض، واستنشق ثلاثا" وعليه ترجم ابن تيمية، يعني المجد عبد السلام صاحب المنتقى "باب جواز تأخيرهما من غسل الوجه واليدين" وأخرج عن الرُّبيِّع بنت معوذ مثله، إلا أنها قالت:"فغسل وجهه ثلاثا، ثم تمضمض".

وقال النووي: إنهم يتأولون هذه الرواية على أن لفظة "ثم" ليست هنا للترتيب، بل لعطف جملة على جملة؛ لأن المراد ذكر الجمل، لا صفة الترتيب، ولهذا لم يذكر غسل الرجلين في هذه الرواية انتهى.

قال الصنعاني: قلت: قد روى أبو داود في رواية المقدام: "غسل رجليه ثلاثا" وذهب ابن تيمية إلى ترجيح رواية تقدم المضمضة، فإنها عن علي، وعثمان، وهما أقعد بمعرفة أحواله صلى الله عليه وسلم، ولأن روايتهما أخرجها الشيخان.

وما أخرجاه مقدم على غيره كما عرف في أصول الحديث اهـ كلام الصنعاني في العدة [جـ 1 ص 171، 172].

وسيأتي تمام البحث في وجوب الترتيب، وعدمه في المسائل آخر الباب إن شاء الله تعالى.

(ثلاث مرات) وهذا التثليث مستحب بالإجماع (ثم يده اليمنى) مؤنث اليمين، ضد اليسار. وأنثه لأن اليد مؤنثة (إلى المرفق) بفتح الميم وكسر الفاء، وعكسه، لغتان، وهو موصل الذراع بالعضد (ثلاث مرات) أي غسلا ثلاث مرات (ثم غسل يده اليسرى) تأنيث اليسار (مثل ذلك) أي ثلاث مرات. ولا خلاف في وجوب غسل اليدين للنص، والجمهور على وجوب غسل الرفق، وخالف في ذلك زفر من الحنفية،

ص: 96

وداود الظاهري. وقد تقدم ترجيح وجوب دخولهما في الغسل في شرح حديث عبد الله بن زيد في الباب 80/ 97.

(ثم مسح برأسه) بزيادة الباء، وفي رواية للبخاري:"رأسه" بلاباء وهي رواية أبي داود. وقد تقدم الكلام في هذه الباء، وفي معنى المسح، وأن مسح جميع الرأس واجب في شرح حديث عثمان في الباب 68/ 84 (ثم غسل رجله اليمنى) وفي الرواية السابقة قدمه اليمنى. ورجل الإنسان التي يمشي بها من أصل الفخد إلى القدم وهي: أنثى، وجمعها: أرْجُل، ولا جمع لها غير ذلك. قاله في المصباح. [جـ 1 ص 220].

(إلى الكعبين) تثنية كعب. قال في المصباح: الكتب من الإنسان: اختلف فيه أئمة اللغة، فقال أبو عمرو بن العلاء، والأصمعي، وجماعة: هو العظم الناشز في جانب القدم عند ملتقى الساق، والقدم، فيكون لكل قدم كعبان عن يمنتها، ويسرتها، وقد صرح بهذا الأزهري، وغيره. وقال ابن الأعرابي، وجماعة: الكعب: هو المفصل بين الساق، والقدم، والجمع كعوب، وأكعب، وكعاب.

قال الأزهري: الكعبان: الناتئان في منتهى الساق مع القدم عن يمنة القدم ويسرتها. وذهب الشيعة إلى أن الكعب في ظهر القدم، وأنكره أئمة اللغة كالأصمعي، وغيره اهـ[2/ 535].

قلت: وتقدم عن محمَّد بن الحسن مثل مذهب الشيعة إلا أن ذلك في تفسير حديث المحرم "وإذا لم يجد النعلين، فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل الكعبين" لا أنه فسر به آية الوضوء، كما حققه العلامة بدر الدين

العيني في العمدة.

وقد ذكر الحافظ في الفتح: أنه مروي عن مالك أيضا، والكلام في

ص: 97

دخول الكعبين في وجوب الغسل كالكلام في المرفقين قد مر تحقيقه في الباب 80 في الحديث 97.

(ثلاث مرات) فيه دليل على استحباب التكرار في غسل الرجلين ثلاثا، وبعض الفقهاء لا يرى ذلك، وقد استدلوا بما في بعض الروايات "فغسل رجليه حتى أنقاهما" ولم يذكر عددا.

وأكدوا ذلك أيضا من جهة المعنى: بأن الرجل لقربها من الأرض في المشي عليها تكثر فيها الأوساخ. والأدران، فيُحَالُ الأمر فيها على مجرد الإنقاء من غير اعتبار العدد. قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله: والرواية التي ذكر فيها العدد زائدة على الرواية التي لم يذكر فيها، فالأخذ بها متعين. والمعنى المذكور، لا ينافي اعتبار العدد، فليعمل بما دل عليه لفظ الحديث اهـ إحكام [جـ 1 ص 184].

قال الجامع: هذا الكلام في غاية التحقيق (ثم غسل رجله اليسرى مثل ذلك) أي إلى الكعبين، ثلاث مرات (ثم) بعد وضوئه على هذه الكيفية (قال) عثمان رضي الله عنه (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ) جملة حالية من المفعول، لأن "رأى" هنا بصرية فلا تنصب مفعولين كما تقدم.

(نحو وضوئي هذا) أي مثله (ثم قال) عثمان رضي الله عنه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ نحو وضوئي هذا) أي مثله في الكيفية والكمية.

قال العلامة ابن دقيق العيد: لفظة "نحو" لا تطابق لفظة "مثل" فإن لفظه "مثل" يقتضي ظاهرها المساواة من كل وجه، إلا في الوجه الذي يقتضي التغاير بين الحقيقتين، بحيث يخرجها عن الوحدة ولفظة "نحو" لا تعطي ذلك، ولعلها استعلمت بمعنى المثل مجازا، أو لعله لم يترك مما يقتضي المثلية إلا ما لا يقدح في المقصود، فقد يظهر في الفعل

ص: 98

المخصوص أن فيه أشياء ملغاة عن الاعتبار في المقصود من الفعل.

فإذا تركت هذه الأشياء لم يكن الفعل مماثلا حقيقة لذلك الفعل، ولم يقدح تركها في المقصود منه، وهو رفع الحدث، وترتب الثواب.

وإنما احتجنا إلى هذا، وقلنا به لأن هذا الحديث ذكر لبيان فعل يقتدى به، ويحصل الثواب الموعود عليه، فلابد أن يكون الوضوء المحكي المفعول محصلا لهذا الغرض، فلهذا قلنا: إما أن يكون استعمل "نحو" في غير حقيقتها أي بمعنى "مثل" أو يكون ترك ما علم قطعا أنه لا يخل بالمقصود، فاستعمل "نحو" في حقيقتها مع عدم فوات المقصود. والله أعلم.

ويمكن أن يقال: إن الثواب يترتب على مقارنة ذلك الفعل، تسهيلا وتوسيعا على المخاطبين من غير تضييق، وتقييد بما ذكرناه أوّلا، إلا أن الأول أقرب إلى مقصود البيان.

ثم قال: هذا الثواب الموعود به يترتب على مجموع أمرين:

أحدهما: الوضوء على النحو المذكور والثاني: صلاة ركعتين بعده بالوصف المذكور بعده في الحديث، والمرتب على مجموع أمرين لا يلزم ترتبه على أحدهما إلا بدليل خارج.

وقد أدخل قوم هذا الحديث في فضل الوضوء، وعليهم في ذلك هذا السؤال الذي ذكرناه، ويجاب عنه: بأن كون الشيء جزءا مما يترتب عليه الثواب العظيم كاف في كونه ذا فضل، فيحصل المقصود من كون الحديث دالا على فضيلة الوضوء، ويظهر بذلك الفرق بين حصول الثواب المخصوص، وحصول مطلق الثواب، فالثواب المخصوص يترتب على مجموع الوضوء على النحو المذكور، والصلاة الموصوفة بالوصف المذكور. ومطلق الثواب قد يحصل بما دون ذلك. اهـ إحكام الأحكام [جـ 1 ص 184، 189].

ص: 99

(ثم قام فركع ركعتين) وهاتان الركعتان مستحبتان، كما تقدم في الباب 68/ 84 وقوله:(لا يحدث فيهما نفسه) جملة في محل نصب صفة لركعتين، وتقدم في 68/ 84 زيادة "بشيء" والمراد أنه لا يحدث نفسه بشيء من أمور الدنيا.

لما في رواية الترمذي الحكيم في هذا الحديث "لا يحدث نفسه بشيء من الدنيا".

وهي في الزهد لابن المبارك أيضا، والمصنَّف لابن أبي شيبة قاله في الفتح [جـ 1 ص 312]، وقال العلامة ابن دقيق العيد: قوله:"لا يحدث فيهما نفسه" إشارة إلى الخواطر، والوساوس الواردة على

النفس، وهي على قسمين: أحدهما: ما يهجُم هجما يتعذر دفعه عن النفس. والثاني: ما تسترسل معه النفس، ويمكن قطعه ودفعه. فيمكن أن يحمل هذا الحديث على هذا النوع الثاني.

فيخرج عنه النوع الأول لعسر اعتباره. ويشهد لذلك لفظة "يحدث نفسه" فإنه يقتضي تكسبا منه، وتفعلا، لهذا الحديث

(1)

، ويمكن أن يحمل على النوعين معا، إلا أن العسر إنما يجب دفعه عفا يتعلق بالتكاليف.

والحديث إنما يقتضي ترتب ثواب مخصوص على عمل مخصوص.

فمن حصل له ذلك العمل: حصل له ذلك الثواب، ومن لا فلا.

وليس ذلك من باب التكاليف حتى يلزم دفع العسر عنه. نعم لابد وأن تكون تلك الحالة ممكنة الحصول.

أعني الوصف المرتب عليه الثواب المخصوص، والأمر كذلك فإن المتجردين عن شواغل الدنيا الذين غلب ذكر الله عز وجل على قلوبهم وغمرها تحصل لهم تلك الحالة، وقد حكى بعضهم ذلك. اهـ إحكام [جـ 1 ص 190، 192].

(1)

أي حديث النفس.

ص: 100

ثم إن تلك الخواطر منها ما يتعلق بالدنيا، والمراد دفعه مطلقا، ومنها ما يتعلق بالآخرة فإن كان أجنبيا أشبه أحوال الدنيا، وإن كان من متعلقات الصلاة كالتفكر في معاني القرآن والأذكار فلا، أفاده في الفتح جـ 1 ص 313.

(غفر له ما تقدم من ذنبه) قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله: ظاهره العموم في جميع الذنوب، وقد خصوا مثله بالصغائر.

وقالوا: إن الكبائر إنما تكفر بالتوبة وكأن المستند في ذلك أنه ورد مقيدا في مواضع، كقوله صلى الله عليه وسلم "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر" فجعلوا هذا القيد في هذه الأمور مقيدا للمطلق في غيرها. اهـ إحكام جـ 1 ص 192، 193.

وقال العلامة الصنعاني في حاشيته عليه: ما نصه: اتفقت كلمتهم في أحاديث الترغيب الموعود فيها بالغفران على أعمال من البر أنه خاص بغفران الصغائر دون الكبائر، فإنها لا تغفر إلا بالتوبة كقوله:{وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 68 - 70}، فلو كان لها مكفر غير التوبة لذكر، وبأنه صلى الله عليه وسلم قيد كثيرا من غفران الذنوب بأنواع من الطاعات بقيد "ما اجتنبت الكبائر" فدل على أنها لا تكفر الكبائر بالطاعات غير التوبة، ودلت الآية على أنها لا تكفر الصغائر إلا بشرط اجتناب الكبائر.

فههنا دعويان: إحداهما: أن الصغائر لا تكفر بالطاعات إلا بشرط اجتناب فاعلها الكبائر، والثانية: أن الكبائر لا تكفر إلا بالتوبة.

أما دليل الأولى فإنه {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية النساء 31.

وحديث "الصلوات الخمس" إلى آخره، أخرجه أحمد، ومسلم،

ص: 101

والترمذي، من حديث أبي هريرة، وهذه أمهات الطاعات، فهذا قيدت بذلك فاعتبار التقييد في غيرها بالأولى.

وأما دليل الثانية: فهذا الحديث أيضا، فإنها إذا اشترط اجتناب الكبائر في التكفير للصغائر دل أنها لا تكفر بطاعة سوى التوبة كما دلت لذلك الآيات المصرحة بذلك، وقد سلف بعضها.

فقول الشارح المحقق: وكأن المستند في ذلك أي فيما قيد من الحكمين، وإن كان صريح كلامه في أحدهما، فالثاني يدل له المقام.

وقوله: وكأن، فيه، إشارة إلى أن للمناقشة مجالا في هذا بأن يقال: مقادير الطاعات مختلفة، لا يعلم قدر كل طاعة إلا الله، فيجوز أن يكون من الطاعات ما يكفر الكبائر كما ورد في الحج أنه "يخرج منه كيوم ولدته أمه" وغيره مما لم يقيد بذلك القيد كما ورد في المريض "أنه لا يزال به البلاء حتى يتركه يمشي، وليس عليه خطيئة " فحمل هذه المطلقات على تلك المقيدات لا يتم، إلا إذا علم تساويهما في قدر الجزاء عند الله، وهو لا يعلم إلا بإعلام الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحينئذ فيجوز أن بعض الطاعات تكفر الكبائر، فلا يتم اطراد التقييد، وكأنه لذلك نسبه إليهم بقوله: فقالوا، على أنه لا يخفى عليك أن هذا كله مشي معهم على ظاهر قولهم: أن هذه الطلقات مقيدات بما قيد به بعض الطاعات من قيد اجتناب الكبائر، وعلم من الأصول أنه لا يلحق المطلق بالمقيد إلا إذا اتحد سببهما وحكمهما، وهنا الاختلافات أوضح من الشمس، ولا سبيل إلى القياس لما سمعت من عدم الجامع وتعيينه. اهـ عدة جـ 1 ص 192، 193.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الصنعاني رحمه الله أخيرًا هو الذي يترجح عندي، وحاصله عدم تقييد النصوص بقيد اجتناب الكبائر، بل

ص: 102

الطاعات التي أطلق الشارع عليها بأنها تكفر الذنوب، ولم يقيدها بشيء فإنها تكفر مطلقا، لما ذكر من التعليل ولأن هذا من باب الفضل والكرم فلله أن يجعل لبعض الطاعات خصوصية ليست لغيرها، وإن كانت مفضولة وإنما التقييد يجري في الأحكام التكليفية كما لا يخفى. والله أعلم.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجة الحديث: حديث الباب متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان المواضع التي ذكره المصنف فيها، وفيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم.

أخرجه المصنف هنا وفي الباب 68، وفي الباب 69 وقد ذكرنا تفصيله في الباب 68.

وأخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والدراقطني، والبيهقي كما تقدم تفصيله هناك.

المسألة الثالثة: في ذكر اختلاف العلماء في وجوب الترتيب:

قال العلامة ابن رشد في بدايته: اختلفوا في وجوب ترتيب أفعال الوضوء على نسق الآية فقال قوم: هو سنة، وهو الذي حكاه المتأخرون من أصحاب مالك عن المذهب، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وداود.

وقال قوم: هو فريضة، وبه قال الشافعي، وأحمد، وأبو عبيد، وهذا كله في ترتيب المفروض مع المفروض، وأما ترتيب الأفعال المفروضة مع الأفعال المسنونة، فهو عند مالك مستحب، وقال أبو حنيفة: هو سنة: وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما: الاشتراك الذي في واو العطف، وذلك أنه قد يعطف بها الأشياء المرتبة بعضها على بعض، وقد يعطف بها غير المرتبة، وذلك ظاهر من استقراء كلام

ص: 103

العرب، ولذلك انقسم النحويون فيها قسمين، فقال نحاة البصرة: ليس تقتضي نسقًا ولا ترتيبًا، وإنما تقتضي الجمع فقط، وقال الكوفيون: بل تقتضي النسق والترتيب، فمن رأى أن الواو في آية الوضوء تقتضي الترتيب قال بإيجاب الترتيب، ومن رأى أنها لا تقتضي الترتيب لم يقل بإيجابه.

والسبب الثاني: اختلافهم في أفعاله عليه الصلاة والسلام، هل هي محمولة على الوجوب، أو على الندب؟ فمن حملها على الوجوب قال: بوجوب الترتيب؛ لأنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه توضأ قط إلا مرتبًا، ومن حملها على الندب، قال: إن الترتيب سنة، ومن فرق بين المسنون، والمفروض من الأفعال، قال: إن الترتيب الواجب إنما ينبغي أن يكون في الأفعال الواجبة، ومن لم يفرق قال: إن الشروط الواجبة قد تكون في الأفعال التي ليست واجبة اهـ بداية المجتهد جـ 1 ص 16 - 17.

وقال النووي في شرح المهذب: ما حاصله: إن الترتيب واجب عند الشافعي.

وهو محكي عن عثمان بن عفان، وابن عباس، ورواية عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، وبه قال قتادة، وأبو ثور، وأبو عبيد، وإسحاق بن راهويه، وهو المشهور عن أحمد.

وقالت طائفة لا يجب حكاه البغوي عن أكثر العلماء، وحكاه ابن المنذر عن علي، وابن مسعود رضي الله عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، ومكحول، والنخعي، والزهري، وربيعة، والأوزاعي، ومالك، وأصحابهما، والمزني، وداود، واختاره أبو نصر البندنجي من الشافعية.

واحتج لهم بآية الوضوء، والواو لا تقتضي ترتيبًا، فكيفما غسل

ص: 104

المتوضئ أعضاءه كان ممتثلا للأمر، قالوا: روى

(1)

ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه، ثم يديه، ثم رجليه، ثم مسح رأسه".

واحتج من أوجب الترتيب بالأحاديث الصحيحة المستفيضة عن جماعات من الصحابة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وكلهم وصفوه مرتبا مع كثرتهم، وكثرة المواطن التي رأوه فيها، وكثرة اختلافهم في صفاته في مرة ومرتين، وثلاث، وغير ذلك، ولم يثبت فيه مع اختلاف أنواعه صفة غير مرتبة، وفعله صلى الله عليه وسلم بيان للوضوء المأمور به، ولو جاز ترك الترتيب لتركه في بعض الأحوال لبيان الجواز كما ترك التكرار في أوقات اهـ المجموع باختصار، وتغيير جـ 1 ص 443، 446.

قال الجامع عفا الله عنه:

الراجح عندي قول من قال بوجوب الترتيب لما أخرجه المصنف

(2)

في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "فابدأوا بما بدأ الله" بلفظ الأمر، وهو عند مسلم بلفظ الخبر فإنه عام، لا يقتصر على سببه عند الجمهور، كما تقرر في الأصول، وآية الوضوء مندرجة تحت ذلك العموم كما أفاده الشوكاني ج 1 ص 218.

ولأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم بيان للآية لأن الراجح أن الآية مجملة كما قدمنا تحقيقه في المسألة السابعة من الباب 68 من الحديث 84 فارجع إليه، فهذا كان الفعل بيانا للإجمال دل على الوجوب فتفطن. والله أعلم.

وبقية مباحث الحديث تقدمت في الباب 68/ 84.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

حديث ضعيف كما قاله النووي في المجموع [1/ 446].

(2)

في الباب 163 في الحديث 2962.

ص: 105

‌95 - بَابُ الوُضُوءِ في النَّعْلِ

أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على مشروعية الوضوء في النعل.

والنعل: بالفتح: الحذاء وهي مؤنثة وتطلق على التاسومة، والجمع: أنعُل، ونِعَال. مثل سهم، وأسهم، وسهام قاله في المصباح ج 2 ص 613 وقال السندي: أراد بالوضوء غسل الرجل، فإنه المتعارف في الوضوء دون المسح، وقوله: في النعل، أي وقت لبس النعل، أي إذا كان الإنسان لابسَ نعلين في رجليه يجب عليه غسل رجليه، ولا يجوز له الاكتفاء بالمسح على النعلين، كما في الخفين اهـ ج 1 ص 80.

وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: "باب غسل الرجلين في النعلين، ولا يمسح على النعلين" ثم أورد حديث ابن عمر الآتي.

وسيأتي تحقيق المسألة في المسائل آخر الباب إن شاء الله تعالى.

117 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: رَأَيْتُكَ تَلْبَسُ هَذِهِ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، وَتَتَوَضَّأُ فِيهَا؟ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُهَا وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا.

رجال الإسناد: ثمانية

1 -

(محمَّد بن العلاء) بن كريب الهمداني، أبو كريب الكوفي

ص: 106

الحافظ أحد الأثبات، المكثرين. عن هشيم، وابن المبارك، وابن عيينة، وابن إدريس وخلق، وعنه الجماعة. قال ابن عقدة: ظهر له بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث، قال البخاري: مات سنة 248 وقيل:

سنة 247 ثقة حافظ من [10]، ع.

2 -

(ابن إدريس) هو عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي الزَّعَافري بفتح الزاء المعجمة والعين وكسر الفاء أبو محمَّد الكوفي، أحد الأعلام.

عن أبيه وعمه داود، وسهيل بن أبي صالح، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وخلق. وعنه أحمد، وإسحاق، وابن معين، وعبد الله ابن أبي شيبة وأبو خيثمة، وزياد بن أيوب، وخلق.

قال ابن معين: ثقة في كل شيء. قال أبو حاتم: ثقة حجة إمام من أئمة المسلمين، قال النسائي: ثقة ثبت، وقال عبد الرحمن بن أحمد: كان نسيج وحده وقال ابن عمار: كان من الصالحين، وإذا لحن عنده رجل لم يحدثه، ومن كلامه: عجبت لمن انقطع إلى رجل ويدع أن ينقطع إلى من له السماوات والأرض. قال ابن سعد: مات سنة 192 أخرج له الجماعة. وفي (ت) ثقة فقيه، عابد من [8].

3 -

(عبيد الله) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، العمري، أبو عثمان المدني، أحد الفقهاء السبعة

(1)

، والعلماء الأثبات عن أبيه، وخاله، خبيب بن عبد الرحمن، والقاسم، وسالم، ونافع، وعطاء، والزهري، وخلق، وعنه شعبة، والسفيانان، والليث، ومعمر، وخلق كثير. قال النسائي: ثقة ثبت، وقال ابن معين:

(1)

هكذا في الخلاصة، وتهذيب التهذيب "أحد الفقهاء السبعة" أي عند بعضهم، وإلا فالفقهاء السبعة غيره، وقد تكرر في هذا الكتاب ذكرهم غير مرة.

ص: 107

عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة، الذهب المشتبك بالدُّرّ. وقال أحمد: هو أثبت من مالك في نافع، قال الخطيب: حدث عنه أيوب، وعبد الرزاق، وبين وفاتيهما ثمانون سنة. قال الهيثم بن عدي: مات سنة 148 وأخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة ثبت [5].

4 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة المثبت الفقيه أبو عبد الله [7]، تقدم 19/ 20.

5 -

(ابن جريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، الأموي مولاهم، أبو الوليد، وأبو خالد المكي، الفقيه، أحد الأعلام. عن ابن أبي مليكة، وعكرمة مرسلا، وعن طاوس مسألة، ومجاهد، ونافع، وخلق. وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري أكبر منه، والأوزاعي، والسفيانان، وخلق.

قال ابن المديني: لم يكن في الأرض أحد أعلم بعطاء من ابن جريج.

وقال أحمد: إذا قال: أخبرنا، وسمعت، حسبك به. وقال ابن معين: ثقة، إذا روى من الكتاب، قال أبو نعيم: مات سنة 150، أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة فقيه فاضل، يدلس ويرسل [6].

6 -

(المقبري) سعيد بن أبي سعيد كيسان أبو سعد المدني، أرسل عن أم سلمة، وروى عن أبيه، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأنس، وخلق وعنه عمرو بن شعيب، وأيوب بن موسى، وعبيد الله بن عمر،

والليث، وهو أثبت الناس فيه.

قال ابن خراش: ثقة جليل. قال الواقدي: اختلط قبل موته بثلاث سنين قال ابن سعد: مات سنة ثلاث وعشرين وقال أبو عبيد: سنة 125 أخرج له الجماعة، وفي "ت" ثقة [3]، تغير قبل موته بأربع سنين.

والمقبري: بفتح الميم، وضم الباء وفتحها نسبة إلى المقبرة لمجاورته

ص: 108

لمقبرة المدينة، وقيل: لأن عمر جعله على حفر القبور بالمدينة أفاده النووي في تهذيب الأسماء جـ 1 ص 219.

7 -

(عبيد بن جريج) التيمي مولاهم المدني، عن ابن عمر فرد حديث، وعن أبي هريرة، وعنه المقبري، وزيد بن أسلم، وثقه النسائي، أخرج له الجماعة. وفي "ت" ثقة من -3 - .

8 -

(ابن عمر) عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن، أحد العبادلة، وأحد المكثرين، تقدم في 15/ 15.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، اتفق الجماعة بإخراج أحاديثهم، وأنهم ما بين كوفيين، وهما أبو كريب محمَّد ابن العلاء، وابن إدريس، ومكي، وهو ابن جريج، ومدنيين، وهم

الباقون.

ومنها: أن شيخه أحد المشايخ الذين اتفق أصحاب الأصول في الأخذ عنهم بلا واسطة، وتقدموا غير مرة. ومنها أن فيه رواية تابعي، عن تابعي: سعيد، عن عبيد، ومنها أن فيه الإخبار، والتحديث،

والعنعنة، والقول.

شرح الحديث

(عن عبيد الله) بن عمر العمري "ومالك وابن جريج" بالجر عطفا على عبيد الله، يعني أن ابن إدريس يروي عن عبيد الله، ومالك بن أنس، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ويروي الثلاثةُ (عن) سعيد ابن أبي سعيد -كيسان- (المقبري) بفتح الميم، وسكون القاف، وفتح الباء وضمها نسبة إلى مقبرة المدينة لمجاورته لها، أو لأن عمر جعله على حفر القبور بها. كما مر آنفًا عن النووي (عن عبيد بن جريج) التيمي

ص: 109

المدني. أنه (قال: قلت لابن عمر: رأيتك تلبس) من باب تعب، لبسا بالضم. كما في الصباح (هذه النعال) بكسر النون جمع نعل بفتح فسكون، ويجمع على أنعل أيضا. مثل سهم، وسهام، وأسهم، وهي الحذاء، وهي مؤنثة، وتطلق على التاسومة أفاده في المصباح.

(السبتية) نسبة إلى سبت بكسر السين، وسكون الباء الموحَّدة وفي آخره تاء مثناة من فوق وهو جلد البقر المدبوغ بالقرظ، وقال أبو عمرو: كل مدبوغ فهو سبت، وقال أبو زيد: هى السبت مدبوغة وغير مدبوغة وقيل السبتية: التي لا شعر عليها، وقيل: التي عليها الشعر. وفي المحكم: خص بعضهم به جلود البقر مدبوغة، أو غير مدبوغة.

وفي التهذيب للأزهري: إنما سميت سبتية لأن شعرها قد سبت عنها، أي حلق، وأزيل، يقال: سبت رأسه: إذا حلقه، وفي الغريبين: سميت سبتية لأنها انسبتت بالدباغَ: أي لانت.

وفي كتاب ابن التين عن الداودي: نسبة إلى سوق السبت، وقيل: هى سود لا شعر فيها اهـ عمدة القاري جـ 2 ص 322.

وفي اللسان: وقال الأزهري: وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن السبت ما لا شعر عليه. وفي الحديث: أن عبيد بن جريج قال لابن عمر: رأيتك تلبس النعال السبتية، فقال:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس عليها شعر، ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها "، قال: إنما اعترض عليه؛ لأنها نعال أهل النعمة، والسعة قال الأزهري: كأنها سميت سبتية؛ لأن شعرها قد سبت عنها أي حلق، وأزيل بعلاج من الدباغ معلوم عند دباغيها اهـ لسان جـ 2 ص 36، 37.

(وتتوضأ فيها) أي في النعال أي تغسل رجليك، وهما في النعلين (قال) ابن عمر رضي الله عنهما مجيبا عن هذا السؤال بذكر مستنده

ص: 110

(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها) ينتعل النعال السبتية (ويتوضأ فيها) أي يغسل رجليه فيها، إذ المراد بالوضوء الغسل بدليل قوله: فيها لأن "في" للظرفية، ولو أراد المسح لقال: عليها. أفاده العيني ج 2 ص 333، وقال السندي: ومعنى يتوضأ فيها: أي يتوضأ في حال لبسها، والمتبادر الوضوء المعتاد في حال لبسها اهـ جـ 1 ص 81.

وحاصل المعنى أن ابن عمر يقول: إنما أفعل هذا اتباعًا للنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يلبس النعال السبتية، ويتوضأ فيها. والله أعلم، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث ابن عمر هذا حديث متفق عليه.

المسألة الثانية: في ذكر من أخرجه من أصحاب الأصول. أخرجه البخاري، ومسلم، والمصنف، وأبو داود، والترمذي في الشمائل، وابن ماجه.

فأما البخاري: فأخرجه في الطهارة 31 عن عبد الله بن يوسف.

وفي اللباس 37/ 2 عن القعنبي- كلاهما عن مالك عن سعيد المقبري. عن عبيد بن جريج، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وأما مسلم: فأخرجه في الحج 5/ 1 عن يحيى بن يحيى، عن مالك بالسند المذكور. و 5/ 2 عن هارون بن سعيد الأيلي، عن ابن وهب، عن أبي صخر، عن يزيد بن قسيط، عن عبيد بن جريج قال: حججت مع ابن عمر بين حج وعمرة ثنتي عشرة مرة، وساق الحديث، وفيه المخالفة لرواية المقبري في قصة الإهلال.

وأما المصنف فأخرجه هنا (95) عن أبي كريب، عن ابن إدريس، عن مالك وعبيد الله بن عمر، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ثلاثتهم

ص: 111

عن المقبري بقصة النعال

(1)

مختصرة وأخرج قصة الاستلام، وقصة الإهلال في الحج (56/ 7)، و (158/ 1) بهذا الإسناد، وزاد فيه ابن إسحاق معهم في قصة الإهلال، وفي الزينة (63) عن يحيى بن حكيم، عن أبي قتيبة سلم بن قتيبة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن زيد بن أسلم عنه بقصة الصبغ.

وأما أبو داود فأخرجه في المناسك (21/ 3) عن القعنبي، عن مالك، عن سعيد المقبري، عن عبيد بن جريج به.

وأما الترمذي فأخرجه في الشمائل (11/ 4) عن إسحاق بن موسى، عن معن، عن مالك، بقصة النعال.

وأما ابن ماجه فأخرجه في اللباس (34/ 1) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر بقصة التصفير.

ورواه عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، عند أبي داود، والنسائي عن زيد بن أسلم عن ابن عمر. قاله أبو الحجاج المزي في الأطرف جـ 6/ ص 6.

فأبو داود، في اللباس (17) عن القعنبي، عن الدراوردي، عنه به.

والنسائي في الزينة (17/ 1) عن يعقوب بن إبراهيم، عن الدراوردي بمعناه و (30) عن محمَّد بن علي بن ميمون عن القعنبي، عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه نحوه: أن ابن عمر كان يصبغ ثيابه بالزعفران

الحديث رواه يحيى بن حكيم المقوم، وفي الزينة (63) عن أبي قتيبة سلم ابن قتيبة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن زيد بن أسلم، عن عبيد بن جريج، عن ابن عمر.

(1)

وكتب الحافظ في النكت على قوله: بقصة النعال ما نصه: قلت: أخرجه النسائي في حديث مالك عن قتيبة عنه عن سعيد عن ابن عمر مختصرا. وليس فيه قصة النعال اهـ ج 6 ص 6.

ص: 112

ورواه عقبة بن مكرم، عن أبي قتيبة، عن عبد الرحمن بن محمد الله، عن زيد بن أسلم، قال: قال رجل يقال له: عبيد لابن عمر، ولم يقل عن عبيد أفاده المزي في الأطراف جـ 5 ص 348.

المسألة الثالثة: قد وعدتُ في أول الباب تحقيق مسألة المسح على النعلين، وأقوال العلماء في ذلك. فأقول:

اختلف العلماء في المسح على النعلين، فذهب قوم إلى أن المسح على النعلين جائز كما يمسح على الخفين، وخالفهم في ذلك آخرون.

قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: باب غسل الرجلين في النعلين، ولا يمسح على النعلين". فقال الحافظ: وأشار بذلك إلى ما روي عن علي، وغيره من الصحابة أنهم مسحوا على نعالهم في الوضوء ثم صلوا، وروي في ذلك حديث مرفوع أخرجه أبو داود، وغيره من حديث المغيرة بن شعبة لكن ضعفه عبد الرحمن بن مهدي وغيره من الأئمة اهـ فتح جـ 1 ص 322.

قال الجامع عفا الله عنه:

حديث أبي داود هو حديث أوس بن أبي أوس الثقفي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كظامة

(1)

قوم، فتوضأ ومسح على نعليه، وقدميه".

وقال البدر العيني، رحمه الله: قوله: "ومسح على نعليه، وقدميه" ظاهره يقتضي جواز المسح على النعلين، والقدمين، لكن المراد منه: أنه كان في الوضوء التطوع لا في الوضوء من حدث، يؤيده ما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وترجم عليه "باب ذكر الدليل على أن مسح النبي صلى الله عليه وسلم على النعلين كان في وضوء التطوع لا من حدث" بسنده عن سفيان عن السدي، عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه،

(1)

يعني الميضأة كما فسر به بعضهم.

ص: 113

أنه دعا بكوز من ماء، ثم توضأ وضوءا خفيفا، ومسح على نعليه، ثم قال: هكذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم للطاهر ما لم يحدث

(1)

.

وقال ابن حبان في صحيحه: هذا إنما كان في الوضوء النفل، ثم استدل عليه بحديث أخرجه بسنده عن النزّال بن سَبْرَة عن علي، أنه توضأ، ومسح برجليه، وقال "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت، وهذا وضوء من لم يحدث".

وقال البيهقي: معنى مسح على نعليه: أي غسلهما في النعل، وهذا أيضا جواب حسن لأنا قد ذكرنا أن المسح قد يجىء بمعنى الغسل.

وجواب آخر أن الذي نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل رجليه جم غفير.

والذي نقل أنه مسح على نعليه قليل، والقضية واحدة، والعدد الكثير أولى بالحفظ من العدد اليسير مع فضل من حفظ على من لم يحفظ اهـ كلام العيني كما نقله عنه في المنهل جـ 2 ص140.

وقال الطحاوي بعد تخريج الحديث

(2)

: فذهب قوم إلى المسح على النعلين كما يمسح على الخفين، وقالوا قد شد ذلك ما روى بسنده عن أبي ظبيان أنه رأى عليا بال قائمًا، ثم دعا بماء فتوضأ، ومسح على نعليه، ثم دخل السجد فخلع نعليه، ثم صلى.

وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا نَرَى المسحَ على النعلين، وكان من الحجة لهم في ذلك أنه قد يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على نعلين تحتهما جوربان، وكان قاصدا بمسحه ذلك إلى جوربيه لا إلى نعليه وجورباه مما لو كانا عليه بلا نعلين جاز له أن يمسح عليهما فكان مسحه ذلك مسحًا أراد به الجوربين، فأتى ذلك على الجوربين والنعلين، فكان

(1)

الحديث صححه الألباني قاله محقق ابن خزيمة ج 1 ص 100.

(2)

أي حديث أوس بن أبي أوس المتقدم عن أبي داود.

ص: 114

مسحه على الجوربين وهو الذي تطهر به، ومسحه على النعلين فَضْل.

قال: وقد بين ذلك ما حدثنا علي بن معبد بسنده، عن أبي موسى "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على جوربيه، ونعليه" وكذلك أخرجه بسنده عن المغيرة عن مسح النبي صلى الله عليه وسلم على نعليه كيف كان منه.

وقد روي عن ابن عمر في ذلك وجه فأخرجه بسنده عن نافع أن ابن عمر كان إذا توضأ ونعلاه في قدميه مسح على ظهور قدميه بيديه، ويقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يصنع هكذا، فأخبر ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد كان في وقت ما كان يمسح على نعليه يمسح على قدميه، فقد يحتمل أن يكون ما مسح على قدميه هو الفرض، وما مسح على نعليه كان فضلا.

فحديث ابن أبي أوس: يحتمل عندنا ما ذكر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسحه على نعليه أن يكون كما قال أبو موسى، والمغيرة، أو كما قال ابن عمر، فإن كان كما قال أبو موسى، والمغيرة فإنا نقول بذلك؛ لأنا لا نرى بأسا بالمسح على الجوربين إذا كانا صفيقين، قد قال ذلك أبو يوسف، ومحمد، وأما أبو حنيفية: فإنه كان لا يرى ذلك حتى يكونا صفيقين، ويكونا مجلدين، فيكونان كالخفين، وإن كان كما قال ابن عمر، فإن في ذلك إثبات المسح على القدمين، فقد ثبت ذلك، فعلى أي المعنيين كان وجه الحديث، فليس في ذلك ما يدل على جواز المسح على النعلين اهـ ملخصا اهـ المنهل ج 2 ص141.

وقال الطيبي معنى قوله: والنعلين هو أن يكون قد لبس النعلين فوق الجوربين، وكذا قال الخطابي في المعالم.

قال المباركفوري: قلت هذا المعنى هو الظاهر اهـ تحفة ج 1 ص 327.

ص: 115

قال الجامع عفا الله عنه:

هذا الذي قاله الطيبي، والخطابي، والمباركفوري هو الذي يترجح عندي. والله أعلم.

المسألة الرابعة: في حكم لبس النعال السبتية: قال أبو عمر: لا أعلم خلافا في جواز لبسها في غير المقابر وحكى

(1)

عن ابن عمر أنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لبسها، وإنما كره قوم لبسها في المقابر لقوله صلى الله عليه وسلم لذلك الماشي بين المقابر "ألق سبتيتك" وقال قوم: يجوز ذلك، ولو كان في المقابر، لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا وضع الميت في قبره انه يسمع قرع نعالهم" وقال الحكيم الترمذي في نوادر الأصول: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال لذلك الرجل "الق سبتيتك" لأن الميت كان يسأل، فلما صَرَّ

(2)

نعل ذلك الرجل شغله عن جواب الملكين، فكاد يهلك، لولا أن ثبته الله تعالى. اهـ عمدة القارى ج 2 ص 324.

قال الجامع عفا الله عنه:

في كلام الحكيم الترمذي عندي نظر؛ لأنه ما ذكر مستنده فيه فتنبه.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

وكان الأولى لأبي عمر أن يعبر بصيغة الجزم لأن حديث ابن عمر رضي الله عنه صحيح، كما

قدمنا.

(2)

صَرَّ: أي صَوَّتَ.

ص: 116

‌96 - بَابُ المَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ

أي هذا باب في ذكر الأحاديث الدالة على مشروعية المسح على الخفين، والظاهر أن الباب للمسح في الحضر بدليل الباب التالي، حيث جعله في السفر، والمناسبة بين الأبواب واضحة، لا تحتاج إلى بيانها، وقدم أبواب المسح على الخفين على أبواب الغسل، لأن المسح من توابع الوضوء وقدمها على أبواب التيمم لأن التيمم خلف عن الكل، والمسح خلف عن الجزء، والجزء مقدم على الكل. قاله في المنهل ج 1 ص 101، والمسح: كالمنع: إمرار اليد على الشيء السائل، أو المتلطخ لإذهابه، كالتمسيح والتمسح قاله في (ق).

وقال في المنهل: والمسح: لغة إمرار اليد على الشيء، واصطلاحا إصابة اليد المبتلة، أو ما يقوم مقامها أعلى الخف، في المدة الشرعية. وقد عدي المسح بعلى: إشارة إلى موضعه، وهو أعلى الخف، دون أسفله وداخله على ما سيأتي اهـ ج 1 ص 101.

والخف: الذي يلبس، قاله في اللسان ومثله في المصباح، وفي المعجم الوسيط: ما يلبس في الرجل من جلد رقيق.

وقال في المنهل: والخف الشرعي، ما يستر الكتب، ويمكن تتابع المشي فيه فرسخا فأكثر، وثُنِّيَ لأنه لا يجوز المسح على أحدهما دون الآخر. والمسح على الخفين من خصائص هذه الأمة اهـ ج 1 ص101.

118 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَمْسَحُ؟ فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ

ص: 117

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ.

وَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللهِ يُعْجِبُهُمْ قَوْلُ جَرِيرٍ، وَكَانَ إِسْلَامُ جَرِيرٍ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِيَسِيرٍ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(قتيبة) بن سعيد بن جميل بن طريف أبو رجاء الثقفي البغلاني ثقة ثبت 10 تقدم في 1/ 1، 89/ 110.

2 -

(حفص) بن غياث بن طلق بن معاوية، النخعي الكوفي، أبو عُمَر القاضي ثقة، فقيه، تغير حفظه قليلا في الآخر من الثامنة مات سنة 4 أو 195، وقد قارب الثمانين. وتقدم في 86/ 105.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران الأسدي، الكاهلي، أبو محمَّد الكوفي ثقة حافظ عارف بالقراءة، ورع لكنه يدلس من الخامسة، مات 147 أو 8، وكان مولده أول سنة 61 أو تقدم في 17/ 18.

4 -

(إبراهيم) بن يزيد بن قيس بن الأسود، النخعي، أبو عمران الكوفي، الفقيه، ثقة إلا أنه يرسل كثيرا من الخامسة، مات سنة 96، وهو ابن 50 أو نحوها، وتقدم في 29/ 33.

5 -

(همام) بن الحارث بن قيس بن عمرو النخعي، الكوفي. عن عمر، وعمار، وعنه إبراهيم النخعي، وسليمان بن يسار. وَثَّقَهُ ابن معين. قال ابن حبان: مات سنة 65، وأخرج له الجماعة. وفي (ت) ثقة عابد من الثانية.

6 -

(جرير بن عبد الله) بن جابر البجلي صحابي مشهور، مات سنة 51، وقيل بعدها. وتقدم في 43/ 51.

ص: 118

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات أجلاء، وهم كوفيون، إلا شيخ المصنف فبغلاني، وفيه رواية ثلاثة من التابعين، بعضهم عن بعض، الأعمش، وإبراهيم، وهمام. وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

قال الإمام النسائي رحمه الله: (أخبرنا قتيية) بن سعيد البغلاني (قال حدثنا حفص) بن غياث بن طلق، أبو عمر، الكوفي (عن الأعمش) سليمان بن مهران الكوفي.

(عن إبراهيم) بن يزيد، أبي عمران النخعي، الكوفي (عن همام) ابن الحارث النخعي، الكوفي (عن جرير بن عبد الله) البجلي رضي الله عنه (أنه) أي جريرا (توضأ، ومسح علي خفيه، فقيل له: أتمسح؟) أي قال له قائل منكرا فعله هذا عليه، وقد بين الطبراني، في حديثه: من طريق جعفر بن الحارث عن الأعمش أن القائل له ذلك، هو همام بن الحارث المذكور، وله من طريق زائدة عن الأعمش "فعاب عليه ذلك رجل من القوم" أفاده في الفتح ج 1 ص 590، والعمدة ج 3 ص 368 وسيأتي قريبا إن شاء الله عن شهر بن حوشب أنه القائل له في ذلك، فيحتمل أن كلا منهما قال له ذلك.

قال الجامع عفا الله عنه: وإنما أنكر ذلك عليه لاعتقاده، أن المسح على الخفين منسوخ بآية المائدة (فقال) جرير، ردا على المنكر، ومبينا له مستنده في ذلك.

(قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح) قال إبراهيم النخعي (وكان أصحاب

ص: 119

عبد الله) يعني ابن مسعود رضي الله عنه (يعجبهم قول جرير) بن عبد الله هذا، لكونه مبينا لآية المائدة بأنها لمن لم يلبس الخفين، وذلك لتأخر إسلامه كما بينه بقوله:(وكان إسلام جرير قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بيسير) أي بزمن قليل.

يعني أن أصحاب عبد الله إنما أعجبهم قول جرير هذا؛ لأنه يدل على أن المراد بآية المائدة التي أوجبت غسل الرجلين على من لم يلبس الخفين، وأما هو فله المسح، وذلك: لتأخر رؤيته مسح النبي صلى الله عليه وسلم على خفيه.

لأنه من جملة من أسلموا في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أسلم في السنة التي توفي فيها صلى الله عليه وسلم. أسلم في رمضان سنة عشر من الهجرة، والآية نزلت في غزوة بني المصطلق سنة أربع، أو خمس، كما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى.

فعند الترمذي من رواية شهر بن حوشب، قال:"رأيت جرير بن عبد الله توضأ، ومسح على خفيه. فقلت له في ذلك؟ فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، ومسح على خفيه. فقلت له: أقبل المائدة أم بعد المائدة؟ فقال ما أسلمت إلا بعد المائدة".

قال الترمذي: هذا: حديث مفسر؛ لأن بعض من أنكر المسح على الخفين تأول أن مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الخفين كان قبل نزول المائدة، وذكر جرير في حديثه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين بعد نزول المائدة اهـ سنن الترمذي ج 1 ص 84.

وفي رواية أبي داود "أن جريرا بال، ثم توضأ، فمسح على الخفين، وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح. قالوا: إنما كان ذلك قبل نزول المائدة، قال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة" اهـ سنن أبي داود ج 1 ص 118.

ص: 120

قال البدر العيني: فلو كان إسلام جرير متقدما على نزول المائدة لاحتمل كون حديثه في مسح الخف منسوخا بآية المائدة، فلما كان إسلامه متأخرا علمنا أن حديثه يعمل به، وهو مبين أن المراد بآية المائدة غير صاحب الخف، فتكون السنة مخصصة للآية. وفي سنن البيهقي عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه قال: ما سمعت في المسح على الخفين أحسن من حديث جرير رضي الله عنه. وقد ورد مؤرخا بحجة الوداع في حديث الطبراني من رواية محمَّد بن سيرين عنه اهـ كلام العيني ج 3 ص 368 وصرح الحافظ في الفتح بأن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع.

وقال السندي ما نصه: والمراد أنه أسلم بعد نزول المائدة، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين حال إسلامه، وعُلِم به أن المسح حكم باق لا أنه منسوخ بآية المائدة كما زعمه من لا يقول به، ولذلك يعجبهم حديث جرير، وكُلُّ من تأخر إسلامه بعد نزول المائدة

(1)

، وإلا فرؤيته قبل نزولها لا يكفي في المطلوب، وتأخر الإسلام لا يقتضي تأخر الرؤية.

بقي أن حديث جرير من أخبار الآحاد فلا يعارض القرآن، وغيره من أحاديث الباب يجوز أن يكون قبل نزول المائدة، فلا دلالة فيها على بقاء الحكم بعد نزولها، إلا أن يقال: القرآن يحتمل المسح على قراءة الجر، فيحمل على مسح الخفين توفيقا بين الأدلة، أو يقال: تواتر عدم نسخه بعمل الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم، فإن كثيرا منهم عملوا به، ومثله يكفي في إفاده التواتر ونسخ افص، والله أعلم اهـ كلام السندي ج 1 ص 81.

وكتب العلامة محمود محمَّد خطاب السبكي في شرح سنن أبي داود عند قوله (قالوا إنما كان ذلك قبل نزول المائدة) ما نصه: أي قال من أنكر

(1)

هكذا عبارة السندي، وفيها ركاكة، ولعل الصواب: يعجبهم حديث جرير، لكون كل من رؤيته، وإسلامه بعد نزول المائدة.

ص: 121

على جرير مسحه على خفيه، إنما المسح عليها كان قبل نزول المائدة التي ذكر فيها الوضوء وأراد بهذا القول أن المسح على الخفين كان رخصة، ثم نسخ بهذه الآية، فقال جرير ردا عليهم: ما أسلمت إلا بعد نزول آية المائدة، وليس المراد جميع سورة المائدة؛ لأن منها ما تأخر نزوله عن إسلامه، كآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإنها نزلت يوم عرفة في حجة الوداع وإسلام جرير كان في رمضان سنة عشر من الهجرة، أما آية الوضوء التي هي قوله تعالى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فنزلت في غزوة بني المصطلق، وكانت سنة خمس أو أربع، فلو كان إسلام جرير متقدما على نزول المائدة لاحتمل كون حديثه في مسح الخف منسوخا بهذه الآية، فلما كان إسلامه متأخرا علمنا أن حديثه غير منسوخ يعمل به، وهو مبين أن المراد بالآية غير صاحب الخف، فيكون حديثه مخصصًا للآية. اهـ المنهل ج 1 ص 119. والله أعلم، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث جرير رضي الله عنه هذا من طريق همام متفق عليه.

المسألة الثانية: في ذكر تعدد مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا -96/ 118 - وفي الكبرى 85/ 121 - عن قتيبة، عن حفص بن غياث، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، عنه، وفي 23/ 774، والكبرى 11/ 850 عن محمَّد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن الأعمش، به.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه من أصحاب الأصول وغيرهم: أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه.

ص: 122

فأما البخاري: فأخرجه في الصلاة (25/ 1) عن آدم، عن شعبة، عن الأعمش به.

وأما مسلم فأخرجه في الطهارة 2/ 22 عن يحي بن يحيى، وإسحاق، وأبي كريب، ثلاثتهم عن أبي معاوية، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي معاوية ووكيع، وعن ابن أبي عمر، عن سفيان، وعن منجاب بن الحارث، عن علي بن مسهر كلهم عن الأعمش به.

وأما الترمذي: فأخرجه في الطهارة 70/ 1 عن هناد، عن وكيع، عن الأعمش به.

وأما ابن ماجه: فأخرجه في الطهارة 84/ 1 عن علي بن محمَّد، عن وكيع، عن الأعمش به.

وأخرجه أيضا أبو داود عن طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن جرير.

والحديث أخرجه البيهقي من عدة طرق، وابن خزيمة، والدارقطني، والحاكم في المستدرك، وصححه، والطبراني في الأوسط، من طريق محمَّد بن سيرين، عن جرير.

وفي سنن البيهقي: عن إبراهيم بن أدهم، قال: ما سمعت في المسح على الخفين. أحسن من حديث جرير، رضي الله تعالى عنه اهـ المنهل ج 1 ص 121.

المسألة الرابعة: فيما يستفاد من الحديث: من فوائد هذا الحديث:

الدلالة على مشروعية المسح على الخفين، وعلى أنه يطلب ممن رأى شيئًا يخالف الشرع بحسب ظنه أن لا يسكت عليه، وإن كان الفاعل فاضلًا عالمًا، بل يبادر إلى الإنكار عليه بالتي هي أحسن، وعلى أنه يطلب ممن أنكر عليه شيء، وكان يعتقد صحة ما فعل أن يبين مستنده في ذلك،

ص: 123

وعلى أن للمنكر أن يرد دليل المُدَّعي، وعلى أن المطلوب من المدعي أن يمنع ما رد به دليله، حتى يَسْلَم دليله من الطعن، وعلى أنه يجوز الاستدلال بالتاريخ عند الحاجة إليه، فقد استدل جرير بتاريخ إسلامه على بقاء حكم المسح على الخفين، وأنه لم ينسخ. أفاده في النهل ج 1 ص 120.

المسألة الخامسة: في مذاهب العلماء في المسح على الخفين: قال الإمام أبو الوليد ابن رشد ني كتابه بداية المجتهد: فأما الجواز: يعني جواز المسح على الخفين- ففيه ثلاثة أقوال: القول المشهور أنه جائز على الإطلاق، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار.

والقول الثاني: جوازه في السفر دون الحضر.

والقول الثالث: منع جوازه بإطلاق، وهو أشدها. والأقاويل الثلاثة مروية عن الصدر الأول، وعن مالك. والسبب في اختلافهم ما يظن من معارضة آية الوضوء، وهذا الخلاف كان بين الصحابة في الصدر الأول، فكان منهم من يرى أن آية الوضوء ناسخة لتلك الآثار.

وهو مذهب ابن عباس، واحتج القائلون بجوازه بما رواه مسلم انه كان يعجبهم حديث جرير، وذلك أنه روى أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على الخفين، فقيل له: إنما كان ذلك قبل نزول المائدة، فقال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة. وقال المتأخرون القائلون بجوازه: ليس بين الآية والآثار تعارض، لأن الأمر بالغسل إنما هو متوجه إلى من لا خف له، والرخصة إنما هى للابس الخف. وقيل: إن تأويل قراءة الأرجل بالخفض، هو المسح على الخفين. وأما من فرق بين السفر والحضر: فلأن كثر الآثار والصحاح الواردة في مسحه عليه الصلاة والسلام إنما كانت في السفر، مع أن السفر مشعر بالرخصة

ص: 124

والتخفيف، والمسح على الخفين هو من باب التخفيف، فإن نزعه مما يشق على المسافر اهـ بداية المجتهد. ج 1 ص 18/ 19.

وقال الإمام النووي رحمه الله في شرح المهذب: مذهبنا ومذهب العلماء كافة جواز المسح على الخفين في الحضر والسفر، وقالت الشيعة والخوارج: لا يجوز، وحكاه القاضي أبو الطيب عن أبي بكر بن داود، وحكى المحاملي وغيره من أصحابنا عن مالك ست روايات: إحداها لا يجوز المسح، الثانية: يجوز لكنه يكره، الثالثة: يجوز أبدا، وهي الأشهر عنه، والأرجح عند أصحابه، الرابعة: يجوز مؤقتا، الخامسة: يجوز للمسافر دون الحاضر، السادسة عكسه.

وكل هذا الخلاف باطل، ومردود، وقد نقل ابن المنذر في كتاب الإجماع إجماع العلماء على جواز المسح على الخف، وتدل عليه الأحاديث الصحيحة المستفيضة في حديث مسح النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، وأمره بذلك وترخيصه فيه، واتفاق الصحابة فمن بعدهم عليه قال الحافظ أبو بكر البيهقي: روينا جواز المسح على الخفين عن عُمَر وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وحذيفة بن اليمان، وأبي أيوب الأنصاري، وأبي موسى الأشعري، وعمار بن ياسر، وجابر بن عبد الله، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد، وأبي مسعود الأنصاري، والمغيرة ابن شعبة، والبراء بن عازب، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن سمرة، وأبي أمامة الباهلي، وعبد الله بن الحارث بن جَزْء، وأبي زيد الأنصاري رضي الله عنهم.

قال النووي: ورواه خلائق من الصحابة غير هؤلاء الذين ذكرهم البيهقي، وأحاديثهم معروفة في كتب السنن، وغيرها. قال الترمذي:

ص: 125

وفي الباب عن عُمَر، وسلمان، وبريدة، وعمرو بن أمية، ويعلي بن مرة، وعبادة بن الصامت، وأسامة بن شريك، وأسامة بن زيد، وصفوان بن عسال، وأبي هريرة، وعوف بن مالك، وابن عمر، وأبي بكرة، وبلال، وخزيمة بن ثابت.

قال أبو بكر بن المنذر: روينا عن الحسن البصري، قال حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين.

قال: وروينا عن ابن المبارك، قال: ليس في المسح على الخفين اختلاف، هو جائز.

وقال جماعات من السلف: نحو هذا، وثبت في الصحيحين من رواية المغيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين في غزوة تبوك وهي من آخر أيامه صلى الله عليه وسلم.

وقد اتفق العلماء: على أن آية الوضوء المذكورة في المائدة نزلت قبل غزوة تبوك بمُدَد، وثبت في الصحيحين عن جرير البجلي رضي الله عنه قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين" زاد أبو داود في روايته: قالوا لجرير: إنما كان هذا قبل نزول المائدة، فقال جرير: وما أسلمت إلا بعد نزول المائدة، وكان إسلام جرير متأخرًا جدّا.

وروينا في سنن البيهقي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله قال: ما سمعت في المسح على الخفين حديثًا أحسن من حديث جرير.

وأما الأمر بالغسل في الآية: فمحمول على غير لابس الخف ببيان السنة، وليس للمخالفين شبهة فيها رُوح، وأما ما روي عن علي، وابن عباس، وعائشة من كراهة المسح فليس بثابت، بل ثبت في صحيح

ص: 126

مسلم وغيره عن علي رضي الله عنه، أنه روى المسح على الخف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو ثبت عن ابن عباس، وعائشة ذلك لحمل على أن ذلك قبل بلوغهما جواز المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغهما رجعا. وقد روى البيهقي معنى هذا عن ابن عباس.

وعلى الجملة المسألة غنية عن الإطناب في بسط أدلتها بكثرتها، والله أعلم.

وأما جواز المسح في الحضر: ففيه أحاديث كثيرة في الصحيح:

منها حديث حذيفة: قال: "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانتهى إلى سُبَاطة قوم فبال قائما، فتوضأ، فمسح على خفيه" رواه مسلم، وفي رواية للبيهقي "سباطة قوم بالمدينة" وعن علي رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مسح الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم" رواه مسلم.

ومنها حديث خزيمة بن ثابت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين "للمسافر ثلاث وللمقيم يوم" حديث صحيح رواه أبو داود، والترمذي، وغيرهما قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وحديث عوف بن مالك الأشجعي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في غزوة تبوك بالمسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، وللمقيم يوم وليلة" قال البيهقي: قال الترمذي: قال البخاري: هذا الحديث حسن. اهـ كلام النووي في المجموع ج 1 ص 476/ 478.

وقد ذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابه التمهيد تحقيق مسألة المسح على الخفين بأدلتها، وأنا أسوق عبارته وإن كانت طويلة لما اشتملت عليه من الفوائد، والتحقيقات.

ص: 127

قال رحمه الله في أثناء الكلام على حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه الذي تقدم للمصنف غير مرة، وهو الحديث 123، 124، الآتي قريبا ما نصه:

وفيه الحُكْم الجليل الذي به فرق بين أهل السنة، وأهل البدع، وهو المسح على الخفين، لا ينكره إلا مخذول، أو مبتدع خارج عن جماعة المسلمين أهل الفقه والأثر، لا خلاف بينهم في ذلك بالحجاز، والعراق، والشام، وسائر البلدان، إلا قوما ابتدعوا فأنكروا المسح على الخفين، وقالوا: إنه خلاف القرآن، وعسى القرآن نسخه، ومعاذ الله أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الله، بل بين مراد الله منه كما أمره الله عز وجل في قوله {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقال:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65].

والقائلون بالمسح: جمهور الصحابة والتابعين، وفقهاء المسلمين، قديما وحديثا، وكيف يتوهم أن هؤلاء جاز عليهم جهل القرآن؟ أعاذنا الله من الخذلان.

روى ابن عيينة، والثوري، وشعبة، وأبو معاوية، وغيرهم عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، قال: رأيت جريرا يتوضأ من مطهرة، ومسح على خفيه، فقيل له أتفعل هذا؟ فقال: وما يمنعني أن أفعله؟ "وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله".

قال إبراهيم: فكانوا يعني أصحاب عبد الله وغيرهم يعجبهم هذا الحديث، ويستبشرون به؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.

وعن حماد بن أبي سليمان، عن ربعي بن حراش، عن جرير بن عبد الله، قال:"وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح على خفيه بعد ما أنزلت سورة المائدة".

ص: 128

قال أبو عمر: ورَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم المسحَ على الخفين نحو أربعين من الصحابة، واستفاض، وتواتر، وأتت به الفِرَق، إلا أن بعضهم زعم أنه كان قبل نزول المائدة، وهذه دعوى لا وجود لها ولا مَعْنى.

وقد روي عن الحسن البصري رحمه الله قال: أدركت سبعين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يمسح على خفيه.

وعمل بالمسح على الخفين أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسائر أهل بدر، والحديبية، وغيرهم، من المهاجرين، والأنصار، وسائر الصحابة، والتابعين، أجمعين، وفقهاء المسلمين في جميع الأمصار، وجماعة أهل الفقه، والأثر كلهم يجيز المسح على الخفين في الحضر والسفر للرجال والنساء.

حدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمَّد بن وضاح: قال: حدثنا عبد الله بن الخيارالحمصي، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش قال: حدثني سفيان بن سعيد الثوري، قال:

مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان ابن عفان، وعلي بن أبي طالب. وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وقيس بن سعد بن عبادة، وعبد الله بن عباس، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود،

وأبو موسى الأشعري، وأبو مسعود الأنصاري، وخزيمة بن ثابت الأنصاري، والبراء بن عازب، وأبو أيوب الأنصاري وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة وصفوان بن عسال،

وفضالة بن عبيد الأنصاري، وجرير بن عبد الله البجلي.

قال أبو عمر: ممن روينا عنه أنه مسح على الخفين، وأمر بالمسح عليها في الحضر والسفر بالطرق الحسان من مصنف ابن أبي شيبة، ومصنف

ص: 129

عبد الرزاق: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد ابن أبي وقاص، وابن مسعود

(1)

وابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان والمغيرة، وسليمان،

(2)

وبلال، وخزيمة بن ثابت، وعمرو بن أمية، وعبد الله بن الحارث بن جرير

(3)

الزبيدي وأبو هريرة.

ولم يرو عن غيرهم خلاف إلا شيء لا يثبت عن عائشة، وابن عباس، وأبي هريرة.

ثم ذكر أبو عمر بسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن إدريس، عن قطر

(4)

قال: قلت لعطاء: إن عكرمة يقول: قال ابن عباس: سبق الكتابُ الخفين، قال عطاء: كذب عكرمة، أنا رأيت ابن عباس يمسح عليهما.

ورَوَى أبو زرعة، عن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة أنه كان يمسح على خفيه ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أدخل أحدكم رجليه في خفيه، وهما طاهرتان فليمسح عليهما". وذكر الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل- يقول: فيمن تأول أنه لا بأس أن يصلى خلفه إذا كان لتأويله وجه في السنة، وقال أبو عبد الله: أرأيت لو أن رجلا لم ير المسح على الخفين، فقد كان مالك لا يرى المسح على الخفين في الحضر لا ينبغي أن يصلى خلفه؟ قال: بلى؟ ثم قال: لو أنك لم تر أن تمسح وصلى بك رجل يرى المسح، ألم تكن تصلي خلفه؟ ثم قال: لو أن رجلا لم ير الوضوء من الدم الخارج من الجسد ثم صلى،

(1)

لعله أبو مسعود لأن ابن مسعود مذكور بعده.

(2)

لعله سلمان.

(3)

الصواب بن جزء.

(4)

لعله فطر بن خليفة بالفاء لا بالقاف.

ص: 130

ألم تصل خلفه؟ ثم قال: نحن نرى الوضوء من الدم، أفلا نصلي خلف سعيد بن المسيب، ومالك ممن سهل الوضوء من الدم؟ قال: بلى نصلي.

ثم قال: قد روى عن أبي هريرة أنه لا يمسح، وعن ابن عباس، وعائشة وأبي أيوب.

قيل لأبي عبد الله: فإن قاله رجل أنا أذهب إلى حديث أبي أيوب حبب إليّ الغسل.

قال: نحن لا نذهب إلى قول أبي أيوب، ولكن لو ذهب إليه ذاهب صلينا خلفه، قال: إلا أن يترك رجل المسح من أهل البدع من الرافضة الذين لا يمسحون وما أشبهه فهذا لا نصلي خلفه.

ثم ذكر بسنده عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ابن عمر رأى سعد بن أبي وقاص يمسح على خفيه، فأنكر ذلك عبد الله، فقال سعد: إن عبد الله أنكر علي أن أمسح على خفي، فقال عمر: لا يختلجن في نفس رجل مسلم أن يتوضأ على خفيه، وإن جاء من الغائط.

قال: وأخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عمر قال لعبد الله بن عمر "عمك أعلم منك" يعني سعد ابن أبي وقاص "إذا أدخلت رجليك في الخفين، وهما طاهرتان فامسح

عليهما، وإن جئت من الغائط".

قال: وأخبرنا ابن جريج قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، قال: أنكرت على سعد بن أبي وقاص، وهو أمير بالكوفة المسح على الخفين، فقال: أوَ عليَّ في ذلك بأس؟ وهو مقيم بالكوفة، قال عبد الله: فلما قال ذلك عرفت أنه يعلم من ذلك ما لا أعلم، فلم أرجع إليه شيئا، فلما

ص: 131

التقينا عند عمر، قال سعد: استفت أباك فيما أنكرتَ عليَّ في شأن الخفين، فقلت له: أرأيت أحدنا إذا توضأ، وفي رجليه الخفان في ذلك بأس أن يمسح عليهما؟ فقال عمر: لا، فقلت: وإن ذهب أحدنا إلى الغائط ليس عليه في ذلك بأس أن يمسح عليهما؟ قال ابن جريج: وأخبرنا أبو الزناد قال: سمعت ابن عمر يحدث بمثل حديث نافع إياي، وزاد عن عمر إذا أدخلت رجليك فيهما وأنت طاهر.

وكان ابن عمر يفتي بذلك، ويعمل به إلى أن مات، من رواية مالك عن نافع عنه، ومن رواية ابن جريج، ومعمر، عن ابن شهاب، عن سالم عنه.

ولا أعلم في الصحابة مخالفا، إلا شيء لا يصح عن عائشة، وابن عباس، وأبي هريرة. وقد رُويَ عنهم من وجوه خلافه في المسح على الخفين.

وكذلك لا أعلم في التابعين أحدًا ينكر ذلك، ولا في فقهاء المسلمين، إلا رواية جابر عن مالك، والروايات الصحاح بخلافه، وهي منكرة يدفعها موطَّؤهُ، وأصول مذهبه.

أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا بكير بن عامر بن أبي نعيم، عن المغيرة بن شعبة، قال:"كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فَقَضَى حاجته وتوضأ، ومسح على خفيه، فقلت: يا رسول الله نسيت؟ قال: بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي". وحدثنا عبد الله. قال: حدثنا أحمد بن جعفر، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمَّد بن عبيد، قال: حدثنا بكير بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، قال: حدثنا المغيرة بن شعبة أنه سافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، وفيه توضأ، ومسح

ص: 132

على خفيه، فقلت: يا نبي الله نسيت، لم تخلع نعليك. قال:"كلا بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي".

قال أبو عمر: وقد احتج بعض من لم ير المسح في الحضر بحديث شريح بن هانئ أنه سأل عائشة عن المسح على الخفين، فقالت سل عليا، فإنه كان يغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يمعن النظر من احتج بهذا، أو سامح بنفسه في احتجاجه ببعض الحديث، وترك بعضه، وفي هذا

الحديث المسح بالحضر والسفر. والتوقيت في ذلك أيضا. فكيف يسوغ لعاقل أن يحتج بحديث موضع الحجة منه عليه، لا له.

ثم أخرج بسنده عن شريح بن هانئ: قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن المسح على الخفين؟. فقالت: اسألوا علي بن أبي طالب، فإنه كان يغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم". وكذلك رواه أبو معاوية، عن الأعمش، عن الحكم بهذا الإسناد، مرفوعا، وكذلك رواه المقدام بن شريح، عن أبيه، مرفوعا، ومن رفعه أحفظ وأثبت، وأرفع ممن وقفه، على أن توقيفه عندي فُتْيَا به، واستعمالٌ له فكيف يكون قدحا فيه؟.

ثم أخرج بسنده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن ابن عمر قال: "لا يحيكن في صدر امرئ المسح على الخفين، وإن جاء من الغائط، فإني كنت من أشد الناس في المسح".

قال: وحدثنا عبد الوارث بن سفيان، حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمَّد بن وضاح، قال: حدثثا أبو الطاهر، أحمد بن عمرو قال: وحدثني عبد الله بن نافع، عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أسامة بن زيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل دار رجل،

ص: 133

فتوضأ، ومسح على خفيه" قال ابن وضاح: قلت لأبي علي عبد العزيز ابن عمْران بن مقلاص: أمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على خفيه في الحضر؟ قال: نعم.

ثم حدثني بهذا الحديث عن الشافعي عبد الله بن نافع بإسناد مثله.

قال ابن وضاح: وقال لي أبو مصعب: دار رجل بالمدينة. وقال زيد ابن بشر، عن ابن وهب: قد مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسفر، والحضر.

قال أبو عمر: حديث نافع هذا معروف عند أهل المدينة، ومصر. رواه ثقات الفقهاء.

حدثنا محمَّد بن محمَّد بن نصر، ومحمد بن إبراهيم بن سعد، وخلف بن أحمد: قالوا: حدثنا أحمد بن مطرف، قال: حدثنا سعيد بن عثمان، وسعيد بن جبير قالا: حدثنا محمَّد بن عبد الله بن الحكم. قال: أنبأنا عبد الله بن نافع، قال: أنبأنا داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أسامة بن زيد، قال:"دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسواف، فذهب لحاجته، ثم خرج، قال أسامة، فسألت بلَالًا ما صنع؟ قال: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته، ثم توضأ، فغسل وجهه، ويديه، ومسح برأسه، ومسح على الخفين".

قال محمَّد بن عبد الله، عن عبد الحكم: هذا صحيح في المسح بالحضر، والأسواف بالفاء: موضع بالمدينة.

ثم أخرج بسنده عن عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة بن اليمان. قال:"كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فانتهى إلى سباطة قوم، فبال قائما، فتنحيت، فدعاني، فجئت، فأتي بماء فتوضأ، ومسح على الخفين".

ص: 134

قال ابن وضاح: هكذا قال عيسى بن يونس بالمدينة، وخالفه أصحاب الأعمش، أبو معاوية: ووكيع، وسفيان، وجرير، لا يقولون: بالمدينة.

قال ابن وضاح: والسباطة: المزبلة، والمزابل لا تكون إلا في الحضر. قال أبو عمر: عيسى بن يونس: ثقة حافظ ليس يرويه غيره، وقد زاد ما حذفه غيره. وزيادة مثله واجب قبولها، وليس في الأصول ما يدفع ما جاء به، بل الناس عليه. اهـ كلام الحافظ ابن عبد البر في التمهيد ج 11 ص 134، 146، وهو كلام منقح، والله أعلم.

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله عند الكلام على حديث جرير: ما نصه: والحديث يدل علي مشروعية المسح على الخفين، وقد نقل ابن المنذر، عن ابن المبارك، قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف؛ لأن كل من روي عنه منهم إنكاره فقد روي عنه إثباته، وقال ابن عبد البر: لا أعلم من روى عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك مع أن الروايات الصحيحة مصرحة بإثباته، وقد أشار الشافعي في الأم إلى إنكار ذلك على المالكية، والمعروف المستقر عندهم الآن قولان:

الجواز مطلقا، ثانيهما للمسافر دون المقيم، وعن ابن نافع في المبسوطة أن مالكا إنما كان يتوقف فيه في خاصة نفسه مع إفتائه بالجواز.

قال ابن المنذر: اختلف العلماء أيهما أفضل: المسح على الخفين، أو نزعهما، وغسل القدمين؟ والذي أختاره أن المسح أفضل، لأجل من طعن فيه من أهل البدع، من الخوارج، والروافض. قال: وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه انتهى.

قال النووي في شرح مسلم: قد روى المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة، قال الحسن: حدثني سبعون من أصحاب رسول

ص: 135

الله "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين" أخرجه عنه ابن أبي شيبة.

قال الحافظ في الفتح: وقد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر.

وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين، منهم العشرة، وقال الإمام أحمد: فيه أربعون حديثا عن الصحابة مرفوعة. وقال ابن أبي حاتم: فيه عن أحد وأربعين.

وقال ابن عبد البر في الاستذكار: رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين نحوُ أربعين من الصحابة، وذكر أبو القاسم بن منده أسماء من رواه في تذكرته، فكانوا ثمانين صحابيا. وذكر الترمذي، والبيهقي في سننهما منهم جماعة. وقد نسب القول بمسح الخفين إلى جميع الصحابة كما تقدم عن ابن المبارك. وما روى عن عائشة، وابن عباس، وأبي هريرة في إنكار المسح، فقال ابن عبد البر: لا يثبت، قال أحمد: لا يصح حديث أبي هريرة في إنكار المسح، وهو باطل. وقد روى الدارقطني عن عائشة القول بالمسح.

وما أخرجه ابن أبي شيبة عن علي أنه قال: سبق الكتاب الخفين فهو منقطع، وقد روى عنه مسلم، والنسائي القول به بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.

وما روي عن عائشة أنها قالت: لأن أقطع رجلي أحب إلى من أن أمسح عليهما، ففيه محمَّد بن مهاجر، قال ابن حبان: كان يضع الحديث.

وأما القصة التي ساقها الأمير الحسين في الشفاء، وفيها المراجعة الطويلة بين علي وعمر، واستشهاد علي لاثنين وعشرين من الصحابة فشهدوا بأن المسح قبل المائدة، فقال ابن بهران: لم أر هذه القصة في

ص: 136

شيء من كتب الحديث. ويدل لعدم صحتها عند أئمتنا أن الإمام المهدي: نسب القول بمسح الخفين في البحر إلى علي عليه السلام، وذهبت العترة جميعا، والإمامية، والخوارج، وأبو بكر بن داود الظاهري إلى أنه لا يجزي المسح عن غسل الرجلين، واستدلوا بآية المائدة، وبقوله صلى الله عليه وسلم لمن علمه "واغسل رجلك" ولم يذكر المسح، وقوله بعد غسلها:"لا يقبل الله الصلاة من دونه" وقوله: "ويل للأعقاب من النار" قالوا: والأخبار بمسح الخفين منسوخة بالمائدة.

وأجيب عن ذلك: أما الآية فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم المسح بعدها كما في حديث جرير المذكور في الباب، وأما حديث "واغسل رجلك" فغاية ما فيه الأمر بالغسل، وليس فيه ما يشعر بالقصر، ولو سلم وجود ما يدل على ذلك لكان مُخَصَّصا بأحاديث المسح المتواترة.

وأما حديث "لايقبل الله الصلاة بدونه" فلا ينتهض للاحتجاج به، فكيف يصلح لمعارضة الأحاديث المتواترة مع أنا لم نجده بهذا اللفظ من وجه يعتد به.

وأما حديث "ويل للأعقاب من النار" فهو وعيد لمن مسح رجله، ولم يغسلها، ولم يرد المسح على الخفين.

فإن قلت: هو عام، فلا يقصر على السبب. قلت: لا نسلم شموله لمن مسح على الخفين، فإنه يدع رجله كلها، ولا يدع العقب فقط. سلمنا، فأحاديث المسح على الخفين مخصصة للماسح من ذلك الوعيد،

وأما دعوى النسخ فالجواب أن الآية عامة مطلقا باعتبار حالتي لبس الخف، وعدمه، فتكون أحاديث الخفين خصصة، أو مقيدة فلا نسخ، وقد تقرر في الأصول رجحان القول ببناء العام على الخاص مطلقًا.

وأما من يذهب إلى أن العام المتأخر ناسخ، فلا يتم له ذلك إلا بعد

ص: 137

تصحيح تأخر الآية، وعدم وقوع المسح بعدها. وحديث جرير نص في موضع النزاع، والقدح في جرير بأنه فارق عليا ممنوع، فإنه لم يفارقه، إنما احتبس عنه بعد إرساله إلى معاوية لأعذار، على أنه قد نقل الإمام الحافظ محمَّد بن إبراهيم الوزير الإجماع على قبول رواية فاسق التأويل في عواصمه وقواصمه من عشرة طرق، ونقل الإجماع أيضا من طرق أكابر أئمة الآل وأتباعهم على قبول رواية الصحابة قبل الفتنة وبعدها.

فالاسترواح إلى الخلوص عن أحاديث المسح بالقدح في ذلك الصحابي الجليل بذلك الأمر مما لم يقل به أحد من العشرة، وأتباعهم، وسائر علماء الإسلام، وصرح الحافظ في الفتح بأن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع، وحديث المغيرة كان في غزوة تبوك، وتبوك متأخرة بالاتفاق. وقد صرح أبو داود في سننه بأن حديث المغيرة في غزوة تبوك وقد ذكر البزار أن حديث المغيرة هذا رواه عنه ستون.

"واعلم" أن في المقام مانعًا من دعوى النسخ لم يتنبه له أحد فيما علمت.

وهو أن الوضوء ثابت قبل نزول المائدة بالاتفاق، فإن كان المسح على الخفين ثابتا قبل نزولها فورودها بتقدير أحد الأمرين: أعني الغسل مع عدم التعرض للآخر، وهو المسح، لا يوجب نسخ المسح على الخفين، لا سيما إذا صح ما قاله البعض من أن قراءة الجر في قوله في الآية:{وأرجلكم} مراد بها مسح الخفين، وأما إذا كان المسح غير ثابت قبل نزولها، فلا نسخ بالقطع. نعم يمكن أن يقال على التقدير الأول: إن الأمر بالغسل نهي عن ضده، والمسح على الخفين من أضداد الغسل المأمور به، لكن كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده محل نزاع واختلاف، وكذلك كون المسح على الخفين ضدا للغسل، وما كان بهذه المثابة حقيق بأن

ص: 138

لا يعول عليه لا سيما في إبطال مثل هذه السنة التي سطعت أنوار شموسها في سماء الشريعة المطهرة. اهـ الغرض من كلام الشوكاني في نيله ج 1 ص 267، 270.

قال الجامع عفا الله عنه: وهو كلام نفيس، وتحقيق بليغ، والله أعلم.

119 -

أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(العباس بن عبد العظيم) بن إسماعيل بن توبة العنبري، أبو الفضل المروزي، البصري، الحافظ.

عن القطان، ويزيد بن هارون، وابن مهدي، ومعاذ بن هشام، وخلق، وعنه البخاري تعليقا، والباقون. قال النسائي: ثقة مأمون، وقال محمَّد بن المثنى: من سادات المسلمين. قال البخاري: مات سنة

246 وفي (ت) ثقة حافظ من كبار 11.

2 -

(عبد الرحمن) بن مهدي بن حسان الأزدي، مولاهم، أبو سعيد البصري اللؤلؤي الحافظ الإمام العلم. عن عمر بن ذر، وعكرمة ابن عمار، وشعبة، والثوري، ومالك، وخلق.

وعنه ابن المبارك، وابن وهب أكبر منه، وأحمد، وابن معين، وعمرو بن

ص: 139

علي. قال ابن المديني: أعلم الناس بالحديث ابن مهدي، وكان يختم في كل ليلتين. قال أبو حاتم: إمام ثقة أثبت من القطان، وأتقن من وكيع. وقال أحمد: إذا حدث ابن مهدي عن رجل فهو حجة، وقال القَوَاريري: أمْلَى علينا ابن مهدي عشرين ألفا من حفظه، قال ابن سعد: مات سنة 198 بالبصرة عن 63 سنة. وكان يحج كل سنة، أخرج له الجماعة، وفي (ت) ثقة ثبت حافظ، عارف بالرجال والحديث، من التاسعة.

3 -

(حرب بن شداد) اليشكري، أبو الخطاب البصري. عن يحيى ابن أبي كثير، والحسن، وعنه ابن مهدي، وعبد الصمد بن عبد الوارث. وثقهُ أحمد.

قال ابن المثنى: توفي سنة 161 أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وفي (ت) ثقة من السابعة.

4 -

(يحيى بن أبي كثير) الطائي مولاهم أبو نصر اليمامي أحد الأعلام عن أنس، وجابر، وأبي أمامة مرسلا. وعن عبد الله بن أبي أوفى

(1)

وعكرمة، وعنه أيوب، وحسين المعلم، والأوزاعي، وخلق.

قال شعبة: يحيى بن أبي كثير أحسن حديثا من الزهري، قال أبو حاتم: إمام لا يحدث إلا عن ثقة، وقال البخاري: لم يسمع من عروة.

قال الفلاس: توفي سنة 129، أخرج له الجماعة وفي (ت) ثقة ثبت لكنه يدلس، ويرسل من الخامسة.

5 -

(عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، قيل اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل. ثقة فقيه 3 مات سنة 94، وكان مولده سنة بضع وعشرين. وتقدم في 1/ 1.

(1)

وفي التهذيب عبد الله بن أبي قتادة، وليس لإبن أبي أوفى ذكر اهـ. من هامش في الخلاصة.

ص: 140

6 -

(جعفر بن عمرو بن أمية) الضمري

(1)

المدني. عن أبيه، وأنس وعنه أبو سلمة، وأبو قلابة موثق. قال خليفة: مات سنة 5 أو 96 أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وفي (ت) ثقة من الثالثة.

7 -

(عن أبيه) عمرو بن أمية بن خويلد الضمري، أحد الأبطال، له عشرون حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بآخر، وعنه بنوه جعفر، وعبد الله، والفضل. أسلم بعد أحد، ومات بالشام في خلافة معاوية. روى له الجماعة.

لطائف هذا الإسناد

منها أنه من سباعيات المصنف، ومنها أن رواته ما بين بصريينَ: وهم العباس، وعبد الرحمن، وحرب بن شداد. ويمامي: وهو يحيى وهو أيضا نزيل البصرة. ومدنيين: وهم الباقون، وكلهم: ثقات أجلاء، وأن

شيخ المصنف ممن اتفق الستة في الرواية عنه، إلا البخاري، فعلق عنه.

ومنها أن فيه ثلاثة تابعيين، يروي بعضهم، عن بعض: يحيى، وأبو سلمة، وجعفر.

ومنها أن فيه من هو من الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو أبو سلمة.

شرح الحديث

(عن جعفر بن عمرو بن أمية) بضم الهمزة فميم مفتوحة، فياء مشددة (الضمري) بفتح الضاد، وسكون الميم، نسبة إلى ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، قاله في

(1)

بفتح الضاد وسكون الميم نسبة إلى ضمرة بن بكر كما في المغني.

ص: 141

اللباب (عن أبيه) عمرو رضي الله عنه (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، ومسح على الخفين).

وفي رواية البخاري عن طريق الأوزاعي "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه". والله ولي التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث عمرو بن أمية رضي الله عنه أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في ذكر مواضعه عند المصنف رحمه الله، وفيمن أخرجه من أصحاب الأصول، وغيرهم.

أخرج هذا الحديث المصنف هنا 96/ 119 وفي الكبرى 85/ 126 بالسند المذكور. وأخرجه البخاري، وابن ماجه:

فأما البخاري: فأخرجه في الطهارة 5: 3 عن أبي نعيم، عن شيبان ابن عبد الرحمن، قال: وتابعه حرب بن شداد، وأبان بن يزيد.

وأخرجه: في 5: 4 عن عبدان، عن ابن المبارك، عن الأوزاعي، أربعتهم عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جعفر بن عمرو، عن أبيه.

وذكره 50: 4 تعليقا: وقال: وقال معمر، عن يحيى، عن أبي سلمة عن عمرو بن أمية، يعني لم يذكر جعفرا.

وأما ابن ماجه: فأخرجه في الطهارة 89: 3 عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمَّد بن مصعب، وفي 89: 9 عن دُحَيم، عن الوليد بن مسلم كلاهما عن الأوزاعي بالسند المذكور أفاده الزي ج 8 ص 136.

وأخرجه عبد الرازق في مصنفه، وأحمد في مسنده، والدارمي، وابن خزيمة، وابن منده في كتاب الطهارة له.

ص: 142

المسألة الثالثة: قد قدمنا أن في رواية الأوزاعي زيادة المسح على العمامة، وقد ادعى الأصيلي فيما حكاه ابن بطال: أن ذكر العمامة في هذا الحديث من خطأ الأوزاعي؛ لأن شيبان، وغيره، رووه بدونها، فوجب تغليب رواية الجماعة على الواحدة، قال: وأما متابعة معمر فليس فيها ذكر العمامة، وهي أيضا مرسلة لأن أبا سلمة لم يسمع من عمرو.

قال الحافظ: قلت: سماع أبي سلمة من عمرو ممكن، فإنه مات بالمدينة سنة ستين، وأبو سلمة مدني، ولم يوصف بتدليس، وقد سمع من خلق ماتوا قبل عمرو، وقد روى بكير بن الأشج عن أبي سلمة أنه أرسل جعفر بن عمرو بن أمية إلى أبيه يسأله عن هذا الحديث، فرجع إليه فأخبره به، فلا مانع أن يكون أبو سلمة اجتمع بعمرو بعد، فسمعه منه. ويقويه توفر دواعيهم على الاجتماع في المسجد النبوي.

وقد أخرج ابن منده من طريق معمر بإثبات ذكر العمامة، فيه. وعلى تقدير تفرد الأوزاعي بذكرها لا يستلزم ذلك تخطئته؛ لأنها تكون زيادة من ثقة حافظ غير منافية لرواية رفقته فتقبل، ولا تكون شاذة، ولا معنى لرد الروايات الصحيحة بهذه التعليلات الواهية أفاده في الفتح ج 1 ص 369. وبقية مباحث الحديث تقدم في الحديث الذي قبله.

120 -

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ نَافِعٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبِلَالٌ الأَسْوَافَ، فَذَهَبَ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ خَرَجَ.

ص: 143

قَالَ أُسَامَةُ: فَسَأَلْتُ بِلَالاً مَا صَنَعَ؟ فَقَالَ بِلَالٌ: ذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثُمَّ صَلَّى.

رجال الإسناد: ثمانية

1 -

(عبد الرحمن بن إبراهيم) بن عمرو بن ميمون الأموي مولى آل عثمان أبو سعيد الدمشقي القاضي دُحَيم

(1)

الحافظ. روى عن معروف الخياط التابعي، وابن عيينة، والوليد بن مسلم، وخلق.

وعنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.

قال النسائي: ثقة مأمون، قال أبو داود: حجة لم يكن بدمشق في زمنه مثله. قال ابنه عمرو: ولد سنة 170 مات سنة 245.

2 -

(سليمان بن داود) بن حماد المهري

(2)

أبو الربيع المصري: روى عن أبيه، وابن وهب، وجماعة. وعنه أبو داود، والمصنف، ووثقه.

قال ابن يونس: كان فقيها على مذهب مالك. مات سنة 253. وفي (ت) ثقة 11.

3 -

(ابن نافع) هو عبد الله بن نافع الصائغ مولى بني مخزوم، أبو محمَّد المدني، روى عن أبي أسامة الليثي

(3)

ومالك. وعنه قتيبة،

وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم. وثقه ابن معين، والنسائي. قال ابن

سعد: مات سنة 206 من كبار 10.

(1)

بتصغير دُحَيم وهو بلغتهم الخبيث، قاله في اللباب.

(2)

بفتح الميم وسكون الهاء. نسبة إلى مهرة بن حميدان قبيلة من قضاعة.

(3)

هكذا نسخة الخلاصة والصواب كما في تهذيب التهذيب عن أسامة الليثى.

ص: 144

4 -

(داود بن قيس) القرشي، مولاهم، أبو سليمان المدني الدباغ روى عن إبراهيم بن حُنَين، وعمرو بن شعيب. وعنه أبو عامر العقدي وابن وهب، والقعنبي، وعثمان بن عمر بن فارس. قال ابن المديني: له نحو ثلاثين حديثا. وثقه أبو حاتم. قيل: مات قبل الستين ومائة. أخرج له البخاري تعليقا، ومسلم والأربعة. وفي (ت) ثقة فاضل [5].

5 -

(زيد بن أسلم) العدوي مولى عمر، أبو عبد الله، أو أبو أسامة المدني ثقة عالم، وكان يرسل، من الثالثة، مات سنة 136 وتقدم في 64/ 80.

6 -

(عطاء بن يسار) الهلالي، أبو محمَّد المدني مولى ميمونة، ثقة فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، من صغار الثالثة، مات سنة 94، وقيل بعد ذلك. وتقدم في 64/ 80.

7 -

(أسامة بن زيد) بن حارثة بن شراحيل، الكلبي، الأمير، أبو محمَّد، وأبو زيد صحابي مشهور، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، وابن حاضنته أم أيمن، له 128 حديثًا، اتفق الشيخان على 15 وانفرد كل منهما بحديثين. روى عنه ابن عباس، وإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، وعروة، وأبو وائل، وكثيرون، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم على جيش فيهم أبو بكر وعمر، وشهد مؤتة، توفي بوادي القرى، وقيل: بالمدينة سنة 54، وهو ابن 75.

8 -

(بلال) بن رباح المؤذن، وهو ابن حمامة، وهي أمه، أبو عبد الله مولى أبي بكر من السابقين الأولين شهد بدرا والمشاهد، مات بالشام سنة 17، أو 18 وقيل سنة 20، وله بضع وستون سنة

(1)

.

لطائف الإسناد

منها أنه من سباعيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، وأنهم

(1)

تقدم في 86/ 104.

ص: 145

مدنيون، إلا شيخيه، فإن عبد الرحمن دمشقي، وسليمان مصري، وأن فيه رواية صحابي، عن صحابي، أسامة، عن بلال، ورواية تابعي، عن تابعي: زيد عن عطاء.

وفيه قوله: "واللفظ له" يعني أن لفظ الحديث المذكور لسليمان بن داود، وأما عبد الرحمن فرواه بلفظ آخر.

شرح الحديث

(عن أسامة بن زيد) رضي الله عنه أنه: قال (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلال، الأسواف) بفتح الهمزة، وسكون السين، وآخره فاء: موضع بالمدينة، وقال ابن الأثير، هو اسم لحرم المدورة الذي حرمه صلى الله عليه وسلم. أفاده في اللسان. وقال البيهقي: الأسواف حائط بالمدينة. اهـ السنن الكبرى ج 1 ص 375.

قال الجامع عفا الله عنه: الصواب في "الأسواف" ضبط آخره بالفاء، وهو الذي في النسخة الهندية، ووقع في النسخة المصرية تحريف حيث جعل آخره قافا جمع سوق (فذهب لحاجته) أي لقضاء حاجته من

البول ونحوه (ثم خرج) قال أسامة: فسألت بلالا ما صنع؟ فقال بلال: (ذهب النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته ثم) بعد قضاء حاجته (توضأ فغسل) الفاء تفسيرية لأن مدخولها تفصيل لما أجمل في قوله "توضأ"(وجهه ويديه، ومسح برأسه، ومسح على الخفين) وهذا موضع الترجمة (ثم صلى) بذلك الوضوء. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث أسامة: حديث صحيح.

المسألة الثانية: فيمن أخرجه هو مما انفرد به المصنف من أصحاب الأصول، أخرجه هنا 96/ 120 وفي الكبرى 127 بالسند المذكور. وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه برقم 185، عن يونس بن عبد الأعلى،

ومحمد بن عبد الله بن الحكم، كلاهما عن عبد الله بن نافع، به. والبيهقي في السنن الكبرى.

ص: 146

المسألة الثالثة في فوائده: منها: الابتعاد عن الناس عند قضاء الحاجة، وشدة تتبع الصحابة أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله ليستنوا بها، ومشروعية المسح في الحضر؛ لأن ذلك كان بالمدينة. وقد أشبعنا الكلام فيما يتعلق بالمسح في المسائل آخر شرح حديث جرير في أول الباب.

121 -

أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

رجال الإسناد: ثمانية

1 -

(سليمان بن داود) المهري أبو الربيع المصري السابق في السند الذي قبله.

2 -

(الحارث بن مسكين) بن محمَّد بن يوسف، مولى بني أمية، أبو عمرو المصري قاضيها ثقة فقيه، من العاشرة، مات سنة 250، وله 96 سنة وتقدم في 9/ 9.

3 -

(ابن وهب) هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم، أبو محمَّد المصري الفقيه، ثقة حافظ عابد، من التاسعة مات سنة 97، وله 72 سنة وتقدم في 9/ 9.

4 -

(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاري مولاهم المصري، أبو أيوب ثقة فقيه حافظ من السابعة، مات قديما قبل 150 وتقدم 63/ 79.

ص: 147

5 -

(أبو النضر) سالم بن أبي أمية مولى عمر بن عبيد الله التيمي المدني ثقة ثبت وكان يرسل، من الخامسة، مات سنة 129 أخرج له الجماعة.

6 -

(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقة مكثر، من الثالثة، مات سنة 94، وكان مولده سنة بضع وعشرين. وتقدم في 1/ 1.

7 -

(عبد الله بن عمر) بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمن الصحابي الجليل رضي الله عنه، وتقدم في 12/ 12.

8 -

(سعد بن أبي وقاص) مالك بن وهيب

(1)

بن عبد مناف بن زهرة ابن كلاب الزهري، أبو إسحاق، أحد العشرة، وأول من رَمَى بسهم في سبيل الله ومناقبه كثيرة، مات بالعقيق سنة 55 على المشهور، وهو آخر العشرة وفاة، أخرج له الجماعة.

لطائف الإسناد

منها أنه من سباعياته كالسابق، ومنها أن رواته ثقات أجلاء، وأنهم ما بين مصريين: وهم مَن قَبل أبي النضر، ومدنيين وهم منه إلى آخره.

ومنها قوله: قراءة عليه وأنا أسمع، وقد مر غير مرة سبب هذه العبارة وهو ما حصل بين النسائي، والحارث من التنافر فمنعه من القراءة عليه، فسمع منه بقراءة غيره عليه مختفيا.

ومنها قوله: "واللفظ له" وقد مضى في الحديث الذي قبله.

ومنها أن فيه أبا سلمة بن عبد الرحمن، وهو أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وقد مر مرارا.

ومنها أن فيه عبد الله بن عمر، وهو أحد العبادلة الأربعة، واحد

(1)

بالضم مصغرا، وقد تبدل الواو همزة، فيقال: أهيب كما في الخلاصة.

ص: 148

المكثرين السبعة رَوَى 2630 حديثا.

ومنها أن فيه سعد بن أبي وقاص، وهو أحد العشرة، وأول من رمى في سبيل الله بسهم. وآخر من مات من العشرة، على الأصح.

وفيه رواية تابعي، عن تابعي، أبو النضر عن أبي سلمة ورواية صحابى، عن صحابي، عبد الله، عن سعد، كما في السند السابق.

شرح الحديث

(عن سعد بن أبي وقاص) رضي الله عنه (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين) زاد في رواية البخاري: وأن عبد الله بن عمر، سأل عمر عن ذلك؟ فقال: نعم، إذا حدثك سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تسأل عنه غيره.

مسائل تتعلق بحديث سعد رضى الله عنه

المسألة الأولى في درجته: حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا 96/ 121 وفي الكبرى 128، بالسند المذكور.

المسألة الثالثة فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم:

أخرجه البخاري في الطهارة 50/ 1 عن أصبغ، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سالم أبي النضر، عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمر، عن سعد أفاده المزي.

وأخرجه أيضا مالك، وأحمد، وابن خزيمة، قاله في الفتح.

المسألة الرابعة: أنه قد تقدم حديث سعد هذا في المسائل آخر شرح حديث جرير، وفيه قصة ذكرها الحافظ أبو عمر بن عبد البر، في التمهيد،

ص: 149

قال بسنده عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن ابن عمر رأى سعد بن أبي وقاص يمسح على خفيه، فأنكر ذلك عبد الله، فقال سعد: إن عبد الله أنكر علي أن أمسح على خُفَّيَّ، فقال عمر، لا يختلجن في نفس رجل مسلم أن يتوضأ على خفيه وإن جاء من الغائط.

قال: وأخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، قال: أنكرت على سعد بن أبي وقاص، وهو أمير بالكوفة المسح على الخفين، فقال: أو علي في ذلك بأس؟ وهو مقيم بالكوفة، قال عبد الله فلما قال ذلك عرفت أنه يعلم من ذلك ما لا أعلم، فلم أرجع إليه شيئا، فلما التقينا عند عمر، قال سعد: استفت أباك فيما أنكرت علي في شأن الخفين، فقلت له: أرأيت أحدنا إذا توضأ، وفي رجليه الخفان في ذلك بأس أن يمسح عليهما؟ فقال عمر: لا، فقلت: وإن ذهب أحدنا إلى الغائط ليس عليه في ذلك بأس أن يمسح عليهما؟ قال ابن جريج: وأخبرنا أبو الزبير قال سمعت ابن عمر يحدث بمثل حديث نافع إياي، وزاد عن عمر: إذا أدخلت رجليك فيهما، وأنت طاهر، اهـ كلام أبي عمر في التمهيد ج 11 ص 140، 141.

وفي رواية البخاري: إن عبد الله بن عمر سأل عمر عن ذلك، فقال نعم، إذا حدثك سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تسأل عنه غيره.

المسألة الخامسة: في فوائده منها: الدلالة على أن الصفات الموجبة للترجيح إذا اجتمعت في الراوي كانت من جملة القرائن التي إذا حفت خبر الواحد قامت مقام الأشخاص التعددة، وقد يفيد العلم عند البعض دون البعض، وعلى أن عمر كان يقبل خبر الواحد وما نقل عنه من التوقف إنما كان عند وقوع ريبة له في بعض المواضع، واحتج به من قال: بتفاوت رتب العدالة، ودخول الترجيح في ذلك عند التعارض، ويمكن

ص: 150

إبداء الفارق في ذلك بين الرواية والشهادة، وفيه تعظيم عظيم من عمر لسعد، وفيه أن الصحابي القديم الصحبة قد يخفى عليه من الأمور الجلية في الشرع ما يطلع عليه غيره، لأن ابن عمر أنكر المسح على الخفين مع قديم صحبته وكثرة روايته، ويحتمل أن يكون ابن عمر إنما أنكر المسح في الحضر، لا في السفر لظاهر القصة: وهي أن ابن عمر قدم الكوفة على سعد، وهو أميرها، فرآه يمسح على الخفين، فأنكر ذلك عليه، فقال له سعد: سل أباك. رواه مالك في الموطأ. ومع ذلك فالفائدة بحالها. أفاده في الفتح ج 1 ص 366.

وفيه الإنكار على أهل الفضل، والعلم، إذا ظهر منهم ما ينكر عليهم، وإن كان المنكر مفضولا. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

122 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(قتيبة) بن سعيد، أبو رجاء الثقفي البغلاني ثقة ثبت 10 تقدم في 1/ 1، وفي 89/ 10.

2 -

(إسماعيل بن جعفر) بن أبي كثير الزُّرَقي مولاهم، أبو إسحاق المدني القارئ أحد الكبار، يروي عن عبد الله بن دينار، والعلاء بن

ص: 151

عبد الرحمن، وربيعة، وحميد، وعنه قتيبة، وعلي بن حجر، ويحيى ابن يحيى، له نحو خمسمائة حديث. وثقه أحمد بن حنبل توفي سنة 180 أخرج له الجماعة. وفي (ت) ثقة ثبت 8.

3 -

(موسى بن عقبة) الأسدي مولاهم المدني، يروي عن أم خالد بنت خالد، وعروة، وعقلمة بن وقاص، وطائفة، وعنه يحيى الأنصاري، وابن جريج، ومحمد بن فليح، وخلق. قال مالك: عليكم بمغازي ابن عقبة، فإنه ثقة، وهي أصح المغازي.

وقال ابن معين

(1)

: ثقة في روايته عن نافع شيء، ووثقه أحمد، وأبو حاتم. قال القطان: مات سنة 141 أخرج له الجماعة وفي (ت) ثقة فقيه إمام في المغازي من [5].

4 -

(أبو النضر) سالم بن أبي أمية المتقدم في السند السابق.

5 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن السابق أيضا.

6 -

(سعد بن أبي وقاص) رضي الله عنه السابق.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، ففيه العلو من السند السابق؛ لأن هناك الوسائط بينه وبين أبي النضر ثلاث، وهنا واسطتان.

ورواته كلهم ثقات أجلاء، وكلهم مدنيون، إلا شيخه، فبغلاني، وكلهم من رجال الستة، وفيه رواية ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض، موسى، عن أبي النضر، عن أبي سلمة، وفي قوله "وهو ابن جعفر" القاعدةُ المشهورةُ، وذلك أن قتيبة لم ينسب شيخه حين حدث به النسائيَّ، فلما أراد النسائي أن ينسبه أتى بقوله:"وهو" لئلا يكون زائدًا على شيخه وقد تقدمت هذه القاعدة غير مرة.

(1)

وفي التقريب لم يصح أن ابن معين لينه اهـ.

ص: 152

شرح الحديث

(عن سعد بن أبي وقاص) مالك بن أهيب، رضي الله عنه (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين) أي في بيان حكمه (أنه لا بأس به) أي لا مانع من صحته، قال في العجم الوسيط: البأس: الشدة في الحرب، والحربُ، والعذابُ الشديد، والخوف، يقال: لا بأس عليه، ويقال: لا بأس به، أي لا مانع، ولا بأس فيه: لا حرج. جمعه أبؤس. اهـ ص 36. والمعنى: أنه لا مانع من جواز المسح على الخفين.

ومباحث الحديث مضى في الحديث الذي قبله. وبالله الوفيق.

123 -

أَخْبَرَنَا عَلِىُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ تَلَقَّيْتُهُ بِإِدَاوَةٍ، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَغْسِلَ ذِرَاعَيْهِ، فَضَاقَتْ بِهِ الْجُبَّةُ، فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ أَسْفَلِ الْجُبَّةِ، فَغَسَلَهُمَا، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى بِنَا.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(علي بن خشرم) بمعجمتين وزان جعفر، المروزي، ثقة من صغار العاشرة، مات سنة 257 أو بعدها، وقد قارب المائة اهـ. تقدم في 8/ 8.

ص: 153

2 -

(عيسى) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي -بفتح المهملة وكسر الموحدة- أخو إسرائيل، كوفي، نزل الشام مرابطا، ثقة، مأمون، من الثامنة، مات سنة 187، وقيل سنة 91. تقدم في 8/ 8.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران، أبو محمَّد الأسدي الكاهلي، الكوفي ثقة حافظ عارف بالقراءة، ورع، لكنه يدلس، من [5]، مات 147 تقدم 17/ 18.

4 -

(مسلم) بن صُبَيح بالتصغير الهمداني، أبو الضحى، الكوفي العطار، وقيل: مولى آل سعيد بن العاص. وثقه ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي، والعجلي، وابن حبان، وابن سعد، وقال: كان كثير

الحديث، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقال ابن زبر: مات سنة مائة، وفي "ت": مشهور بكنيته، ثقة فاضل، من الرابعة. أخرج له الجماعة.

5 -

(مسروق) بن الأجدع بن مالك الهمداني، الوادعي، أبو عائشة الكوفي. ثقة فقيه عابد مخضرم، من الثانية، مات سنة 2 ويقال 63، تقدم في 90/ 112.

6 -

(المغيرة بن شعبة) بن مسعود بن معتب الثقفي الصحابي المشهور ولي إمرة البصرة ثم الكوفة، مات سنة 50 على الصحيح تقدم في 16/ 17

لطائف الإسناد

منها أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، وأنهم كوفيون إلا شيخه، فمروزي، وأن فيه رواية ثلاثة من التابعين، بعضهم، عن بعض: وهم الأعمش، ومسلم، ومسروق، وأن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

ص: 154

شرح الحديث

(عن المغيرة بن شعبة) رضي الله عنه، أنه (قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته) تقدم للمصنف في الحديث 79 أن ذلك في غزوة تبوك، يعني أنه ابتعد لأجل قضاء حاجته من البول والغائط (فلما رجع تلقيته) أي استقبلته (بإداوة) بالكسر: الإناء، يعني إناء فيه ماء للطهارة، وفي الرواية السابقة "فلما قضى حاجته، قال: أمعك ماء؟ فأتيته بمطهرة" الحديث (فصببت عليه) الماء للوضوء، فيه الاستعانة على الوضوء بصب الخادم. وقد تقدم البحث فيه باب صب الخادم الماء على الرجل للوضوء 63.

(فغسل يديه، ثم غسل وجهه، ثم ذهب) أي قصد وتوجه (ليغسل ذراعيه، فضاقت به الجبة) بضم الجيم، وتشديد الباء، قال في المعجم الوسيط: ثوب سابغ واسع الكمين، مشقوق المقدم، يُلْبَس فوق

الثياب، والدرع اهـ ص 104.

والمعنى أنه أراد تشميرها ليغسل ذراعيه، فضاق عليه كُمَّاها (فأخرجهما) أي الذراعين (من أسفل الجبة، فغسلهما، ومسح على خفيه) وهذا هو محل الترجمة.

ففيه مشروعية المسح على الخفين، ونقل الحافظ في النكت الظراف، عن ابن أبي حاتم أنه ذكر في العلل، عن أبيه، أن إبراهيم بن موسى الرازي قال لهم: إن هذا أصح شيء ورد في المسح على الخفين اهـ نكت ج 8 ص 491.

(ثم صلى بنا) قد تقدم أن الذي صلى بالناس هو عبد الرحمن بن عوف، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، والمغيرة، وقد صلى عبد الرحمن ركعة فصليا ما بقي معه، ثم قاما، فقضيا ما سبقا به. فلعل هذه صلاة أخرى، أو تكون الباء بمعنى مع أي صلى معنا. والله أعلم، وعليه التكلان.

ص: 155

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث متفق عليه.

المسألة الثانية: في تكرار المصنف له، وفيمن أخرجه من أصحاب الأصول معه: فأما المصنف فأخرجه هنا 96/ 123، وفي الكبرى، في الزينة، عن أحمد بن حرب، عن أبي معاوية، عن الأعمش، بنحوه.

وأخرجه البخاري، ومسلم، وابن ماجه:

فأما البخاري: فأخرجه في الجهاد 89 عن موسى بن إسماعيل، وفي اللباس 10 عن قيس بن حفص، كلاهما، عن عبد الواحد بن زياد، وفي الصلاة 7 عن يحيى، عن أبي معاوية، و 25: 2 عن إسحاق بن إبراهيم بن نصر، عن أبي أسامة مختصرا.

وأما مسلم فأخرجه في الطهارة 22: 8 عن أبي بكر، وأبي كريب كلاهما، عن أبي معاوية و 22: 9 عن إسحاق بن إبراهيم، وعلي بن خشرم، كلاهما عن عيسى بن يونس، أربعتهم

(1)

عن الأعمش، عن أبي الضحى، مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن المغيرة رضي الله عنه.

وأما ابن ماجه: فأخرجه في الطهارة 1/ 39 عن هشام بن عمار، عن عيسى بن يونس به. أفاده الزي في تحفته ج 8/ 491.

المسألة الثالثة في فوائده: منها: مشروعية المسح على الخفين، وجواز استخدام الحر برضاه، وخدمة الصغير للكبير، وجواز لبس الضيق من الثياب، ولا سيما في السفر لأنه أعون، قال ابن عبد البر: بل هو مستحب في الغزو للتشمير والتأسي به صلى الله عليه وسلم ولا بأس به عندي في الحضر اهـ.

(1)

قوله: أربعتهم: أي عبد الواحد بن زياد، وأبو أسامة، وأبو معاوية، وعيسى بن يونس.

ص: 156

124 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى

(1)

، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِيهِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَاتَّبَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا مَاءٌ، فَصَبَّ عَلَيْهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ، فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(قتيبة بن سعيد) بن جَميل بفتح الجيم بن طريف، الثقفي أبو رجاء البغلاني، قيل: اسمه: يحيى، وقيل: علي. مات سنة 240 عن 90 سنة. ع ثقه ثبت 10، تقدم في 1/ 1.

2 -

(الليث بن سعد) بن عبد الرحمن، الفهمي، أبو الحارث المصري، ثقة ثبت فقيه، إمام مشهور، من السابعة، مات في شعبان سنة 175، تقدم 31/ 35.

3 -

(يحيى) بن سعيد بن قيس الأنصاري المدني، أبو سعيد القاضي، ثقة ثبت من الخامسة مات سنة 144، أو بعدها، تقدم في 22/ 23.

4 -

(سعد بن إبراهيم) بن عبد الرحمن بن عوف، ولي قضاء المدينة، وثقه أحمد، وابن معين، والعجلي والنسائي، وأبو حاتم، وكان شعبة يقول: حدثني حبيبي سعد. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث.

وقال ابن المديني: لم يحدث سعد بالمدينة، فلذا لم يكتب عن أهلها، وفي "ت": كان ثقة فاضلًا عابدًا من الخامسة، مات سنة 125، وقيل:

(1)

وفي النسخة الهندية وهو ابن سعيد.

ص: 157

بعدها، وهو ابن 72 سنة اهـ. أخرج له الجماعة.

5 -

(نافع بن جبير) بن مطعم بن عدي بن نوفل، بن عبد مناف النوفلي، أبو محمَّد، أو أبو عبد الله، المدني، وثقه ابن سعد، والعجلي، وأبو زرعة، وابن خراش، وابن حبان، وفي "ت": ثقة فاضل من الثالثة، مات سنة 99. أخرج له الجماعة

6 -

(عروة بن المغيرة) بن شعبة الثقفي أبو يعفور

(1)

الكوفي، ثقة، من الثالثة مات بعد التسعين. تقدم في 63/ 79.

7 -

(المغيرة) بن شعبة بن مسعود بن معتب الثقفي، الصحابي البصري، ثم الكوفي، رضي الله عنه. تقدم في 16/ 17.

لطائف الإسناد

منها أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات أجلاء، وكلهم ممن اتفق أصحاب الأصول في إخراج أحاديثهم، وأنهم ما بين بغلاني، وهو قتيبة، ومصري، وهو الليث، ومدنيين: وهم يحيى، وسعد، ونافع،

وكوفيين، وهما عروة، وأبوه المغيرة.

وأن فيه أربعة من التابعين، يروي بعضهم، عن بعض: يحيى، وسعد، ونافع، وعروة، وفيه رواية الشخص عن أبيه، وفيه الإخبار والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن المغيرة) بن شعبة رضي الله عنه (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج لحاجته) أي قضاء حاجته من البول والغائط (فاتبعه المغيرة) بأمره، لما تقدم للمصنف في الباب [66] عنه قال:"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقرع ظهري بعصى كانت معه، فعدل، وعدلت معه" الحديث،

(1)

بفتح الياء وسكون العين المهملة وضم الفاء.

ص: 158

وفي الكبرى له: قال "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما كان في سحر ضرب عنق راحلتي"

الحديث وفي الباب الآتي: فقال "تَخَلَّفْ يا مغيرة، وامضوا أيها الناس" الحديث وفي قوله "فاتبعه المغيرة" التفات على رأي بعضهم، إذ الظاهر أن يقول: فاتبعته (بإداوة) بالكسر: إناء صغير، يحمل فيه الماء، جمعه أدَاوَى بفتح الهمزة، والدال، والواو، أفاده في المعجم الوسيط.

(فيها ماء) وعند أحمد: أن ذلك الماء أخذه المغيرة من أعرابية صبته له من قربة كانت من جلد ميتة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "سلها، فإن كانت دبغتها فهو طهور" وأنها قالت: إي والله لقد دبغتها. أفاده في الفتح ج 1 ص 367 (فصب عليه حتى فرغ من حاجته) غاية للصب، أي صب عليه الماء حتى أخذ كفايته منه بمعنى أنه لم يسرف في الصب، بل بقدر الحاجة. وعند البخاري "حيث فرغ من حاجته" قعليه يكون المعنى أنه صب عليه وقت فراغه من حاجته من البول والغائط.

بمعنى أنه لم يطل مدة ما بينهما والله أعلم (فتوضأ) أي غسل وجهه، ويديه، مسح برأسه كما فسرته الروايات الآخر، وأما رجله: فبينه بقوله (ومسح على الخفين) يعني أنه ما غسله بل اكتفى بمسحه، وهذا محل الترجمة. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في مواضع تكراره عند المصنف.

قال الحافظ أبو الحجاج المزي رحمه الله: حديث عروة بن المغيرة عن أبيه: أخرجه النسائي في الطهارة [63] عن سليمان بن داود الحراني،

ص: 159

والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن وهب، عن مالك، ويونس، وعمرو ابن الحارث، ثلاثتهم، عن الزهري، عن عباد بن زياد، عن عروة، عن أبيه وهو أتم، و [96: 7] عن قتيبة، عن الليث بن سعد، عن يحيى، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع بن جبير، عن عروة، عن أبيه، مختصرا.

وفي الكبرى في الطهارة [108: 1]، عن عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، عن عمه، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، و [108: 2] عن إبراهيم بن الحسن، عن حجاج بن محمَّد، عن ابن جريج كلاهما، عن الزهري، عن عباد، عن عروة، عن أبيه، قال أبو الحجاج: حديث النسائي عن عبيد الله بن سعد، وعن إبراهيم بن الحسن في رواية ابن الأحمر، ولم يذكره أبو القاسم اهـ تحفة ج 8 ص 485.

المسألة الثالثة: في بيان من أخرجه من أصحاب الأصول.

أخرج حديث عروة عن أبيه المغيرة (خ م د ق) وقد مر تخريج

روايات هؤلاء كلهم في الباب 66 في الحديث 82 فأرجع إليه.

المسألة الرابعة: في بعض فوائد الحديث: منها: الإبعاد عند قضاء الحاجة، والتواري عن الأعين، واستحباب الدوام على الطهارة، لأمره صلى الله عليه وسلم المغيرة أن يتبعه بالماء، مع أنه لم يستنج به، وإنما توضأ به حين رجع، وجواز الاستعانة بغيره في صب الماء، ولم يصح ما يدل على خلافه، وجواز الانتفاع بجلود الميتة، إذا دبغت لأن ماء الإداوة كان من قربة من جلد ميتة، وفيه الرد على من زعم أن المسح على الخفين منسوخ بآية الوضوء التي في المائدة؛ لأنها نزلت في غزوة المريسيع، وكانت هذه في غزوة تبوك، وهي بعدها باتفاق، وفيه خدمة أهل الفضل والعلم، وجواز استخدام الحر برضاه. وفيه غير ذلك، وقد ذكرنا فوائد كثيرة في الباب 66 فإن أحببت فارجع إليه.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 160

‌97 - بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية المسح على الخفين في حال كون الشخص خارجا عن محل إقامته، وفُهم من هذا أن الباب السابق موضوع للمسح في الحضر، ويدل عليه البابان الآتيان حيث جعل التوقيت للمسافر، والمقيم في باب، فباب. والله أعلم.

125 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَقَالَ:"تَخَلَّفْ يَا مُغِيرَةُ، وَامْضُوا أَيُّهَا النَّاسُ". فَتَخَلَّفْتُ وَمَعِي إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ، وَمَضَى النَّاسُ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ ذَهَبْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ رُومِيَّةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ، فَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ يَدَهُ مِنْهَا فَضَاقَتْ عَلَيْهِ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ.

ص: 161

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(محمَّد بن منصور) بن ثابت بن خالد الخزاعي، المكي الجوَّاز بالجيم المكي وتشديد الواو ثم زاي ثقة من العاشرة، مات سنة 252.

2 -

(سفيان) بن عيينة أبو محمَّد الهلالي مولاهم الكوفي، ثم المكي، ثقة ثبت حجة 8، تقدم في 1/ 1.

3 -

(إسماعيل بن محمَّد بن سعد) بن أبي وقاص، الزهري المدني، أبو محمَّد قال ابن معين: ثقة حجة، ووثقه النسائي، والعجلي، وأبو حاتم، وابن خراش، وذكره ابن حبان في الثقات. وفي "ت": ثقة حجة، من الرابعة، مات سنة 134، أخرج له الجماعة، إلا ابن ماجه.

4 -

(حمزة بن المغيرة بن شعبة) الثقفي قال العجلي: تابعي ثقة.

وذكره ابن حبان في الثقات. وفي "ت": ثقة من الثالثة. أخرج له مسلم والمصنف، وابن ماجه.

5 -

(المغيرة) بن شعبة رضي الله عنه، تقدم في 16/ 17.

لطائف الإسناد

منها أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين مكيين، وهما شيخه، وسفيان، ومدني، وهو إسماعيل، وكوفي، وهو المغيرة، والظاهر أن ابنه حمزة كوفي أيضًا. والله أعلم.

وفيه رواية تابعي، عن تابعي، إسماعيل، عن حمزة، وفيه رواية الابن، عن أبيه، وفيه الإخبار، والتحديث، والسماع، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن المغيرة) رضي الله عنه، أنه (قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر) هو في غزوة تبوك كما تقدم (فقال: تخلف يا مغيرة) أي تأخر عن أصحابك لتخدمني، وفي الرواية السابقة "فقرع ظهري بعصا، كانت معه فعدل، فعدلت" الحديث، وفي الكبرى "فلما كان في سحر ضرب

ص: 162

عنق راحلتي" الحديث، فيحمل على أنه صلى الله عليه وسلم جمع له بين القول والفعل والله أعلم.

(وامضوا أيها الناس) أي واصلوا السير إلى أمامكم. قال المغيرة (فتخلفت) أي تأخرت عن الناس (ومعي إداوة من ماء) جملة حالية من الفاعل (ومضى الناس، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته) أي لقضاء ما يحتاج إليه من البول والغائط (فلما رجع ذهبت) أي توجهت (أصب عليه) من ماء الإداوة (وعليه جبة) جملة حالية من الضمير المجرور. والجبة بضم الجيم وتشديد الباء ثوب سابغ واسع الكمين مشقوق من خلفه يلبس فوق الثياب كما تقدم عن المعجم الوسيط (رومية) أي منسوبة إلى الروم بالضم: بلد، وجيل من الناس، واحدة رومي، قاله في المعجم أيضا.

وتقدم في الحديث 82 "وعليه جبة شامية" وفي رواية أبي داود "وعليه جبة من صوف من جباب الروم" ولا تنافي لأن الشام وقت ذاك تحت سيطرة الروم، فيحتمل أن يكونوا يعملون فيها الجباب.

(ضيفة الكمين) تثنية كم بضم الكاف، وتشديد الميم، قال في المعجم: الكم مدخل اليد، ومخرجها من الثوب، جمعه أكمام، وكِمَمَة (فأراد أن يخرج يده) يعني أنه أراد أن يشمر ليمكنه غسل ذراعيه، ولأبي داود "ثم حسر عن ذراعيه، فضاق كُمَّا جبته، فأدخل يديه، فأخرجهما من تحت الجبة، فغسلهما إلى المرفق" والمراد بيده الجنس فيشمل اليدين.

(فأخرج يده من تحت الجبة، فغسل وجهه ويديه) وفي الرواية السابقة [82]"فغسل وجهه وذراعيه" فأفادت أن المراد هنا باليد الذراعان.

(ومسح برأسه) وفي الرواية المتقدمة 158 ومسح بناصيته، وعلى العمامة، وفي 109 "ومسح بناصيته وجانبي رأسه" (ومسح على

ص: 163

خفيه) وهذا محل الترجمة، حيث إنه دل على مشروعية المسح على الخفين، وكان ذلك في السفر. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث من رواية حمزة بن المغيرة أخرجه مسلم، وأصله متفق عليه من رواية عروة بن المغيرة.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف.

أخرجه المصنف في هذا الكتاب في موضعين: هنا 97 عن محمَّد بن منصور، عن سفيان، عن إسماعيل بن محمَّد، عن حمزة عن أبيه، وفي 87/ 2 عن عمرو بن علي، وحميد بن مسعدة وكلاهما، عن يزيد ابن زريع. وأخرجه في الكبرى في موضع 108/ 3 عن قتيبة بن سعيد، عن ابن أبي عدي كلاهما

(1)

عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني، عن حمزة بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه، أفاده في تحفة الأشراف ج 8 ص 475.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول: أخرجه مسلم، وابن ماجه.

فأما مسلم فأخرجه في الطهارة 23/ 1 عن محمَّد بن عبد الله بن بزيع، عن يزيد بن زريع، عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني، عن عروة بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه.

قال أبو مسعود: كذا يقول مسلم في حديث ابن بزيع، عن ابن زريع، عن عروة بن المغيرة، وخالفه الناس، فقالوا: حمزة بن المغيرة بدل عروة بن المغيرة. وأخرجه في الصلاة 22/ 5 عن محمَّد بن رافع، وحسن الحلواني، كلاهما عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن الزهري، عن إسماعيل بن محمَّد بن سعد، عن حمزة بن المغيرة بن

(1)

أي يزيد بن زريع، وابن أبي عدي.

ص: 164

شعبة. وأخرجه ابن ماجه في الصلاة 82 عن محمَّد بن المثنى، عن ابن أبي عدي، عن حميد الطويل بقصة الصلاة خلف عبد الرحمن بن عوف فحسب.

"تنبيه" أما فوائد الحديث، واختلاف العلماء في حكمه، وتحقيق كل قول بدليله، فقد مضى في الأحاديث السابقة في الباب الماضي، وفي الباب 82 وفي 108 وفي 109 فلا نطيل الكتاب بإعادتها.

"تنبيه آخر" يوجد في هامش النسخة الهندية في هذا المحل: ما معناه: وجد في نسخة هذه الزيادة "المسح على الجوربين والنعلين" ثم أورد الحديث، وسأذكر نصه، ثم كتب في آخره كذا في نسخة، وعزاه في الأطراف لأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ثم قال: حديث النسائي في رواية ابن الأحمر، ولم يذكره أبو القاسم. اهـ ما في هامش الهندية.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن هذا من السنن الكبرى وذلك لأمرين:

(الأول): أن رواية ابن الأحمر المشهورة للكبرى، لا للصغرى، فإنها لم تشتهر إلا عن طريق ابن السني، وإن لم أجزم أن ابن الأحمر لم يروها انظر ما تقدم عن محقق عمل اليوم والليلة للمصنف في المقدمة

(الثاني): أن محقق تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف: الشيخ عبد الصمد شرف الدين: كتب عند قول الحافظ أبي الحجاج المزي (س فيه) ما نصه: (س فيه)(الطهارة) 86، فهذا مما يؤيد أيضا أنه من الكبرى وكذا مما يؤيد هذا أن الحافظ الزيلعي قال في نصب الراية: ما نصه: وقال النسائي في سننه الكبرى: لا نعلم أحدا تابع أبا قيس على هذه الرواية الخ، فهذا نص من هذا الحافظ أن هذا الحديث من الكبرى لا من الصغرى وعلى أية حال، فكتابته هنا أولى احتياطا، فأقول: قال رحمه الله تعالى:

ص: 165

‌المَسْحُ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ

(1)

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية المسح على الجوربين والنعلين.، والجوربان: تثينة جورب: بفتح الجيم وسكون الواو، وفتح الراء آخره باء موحدة.

قال ابن منظور: والجورب: لفافة الرجل، معرب، وهو بالفارسية كورب، والجمع جواربة، زادوا الهاء لمكان المعجمة، ونظيره من العربية القَشَاعِمَة

(2)

وقد قالوا: الجوارب: كما قالوا في جمع الكيلج الكَيالج

(3)

ونظيره من العربية الكواكب.

واستعمل ابن السكيت منه فعلا، فقال يصف مُقْتنصَ الظباء: وقد تَجْورَب جَوْرَبَين: يعني لبسهما، وجوربته فتجورب: أي ألبسته الجورب فلبسه. اهـ لسان ج 1 ص 263.

والنعلان: تثنية نعل: قال في (ق) النعل يعني بفتح النون وسكون العين: ما وقيت به القدم من الأرض كالنعلة، مؤنثة جمعه: نعال اهـ.

وفي النهاية: النعل: مؤنثة، وهي تلبس في المشي، وتسمى الآن بالتاسومة اهـ. وفي المصباح: النعل الحذاء وهي مؤنثة وتطلق على التاسومة

(4)

والجمع: أنعل، ونعال، مثل سهم وأسهم وسهام ورَجُل ناعل: معه نعل فإذا لبس النعل قيل: نَعَل يَنعَل بفتحتين، وتنَعَّل. اهـ.

(1)

قال الجامع: حيث لم أطمئن في كون هذا الباب من المجتبى، لم أجعل له رقم التسلسل ولا للحديث، وإنما شرحته احتياطًا.

(2)

القشاعمة جمع قشعَم، كجعفر يأتي لمعان، منها: الرجل المسن، والحرب، والمنية، والداهية.

(3)

الكيلجة: مكيال معروف، كما في القاموس.

(4)

قلت: ظاهره أن التاسومة غير الحذاء، وما في النهاية يدل على أنهما شيء واحد.

ص: 166

- أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَالنَّعْلَيْنِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ أَبَا قَيْسٍ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَالصَّحِيحُ عَنِ الْمُغِيرَةِ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(إسحاق بن ابراهبم الحنظلي) المعروف بابن راهويه المروزي نزيل نيسابور، ثقة ثبت حجة 10 تقدم في 2/ 2.

2 -

(وكيع) بن الجراح بن مليح أبو سفيان الكوفي الثقة الجليل 9 تقدم في 23/ 35.

3 -

(سفيان) بن سعيد بن مسروق أبو عبد الله الثوري الكوفي الإمام العلم ثقة حجة 7، تقدم في 33/ 37.

4 -

(أبو قيس) عبد الرحمن بن ثروان، بمثلثة مفتوحة وراء ساكنة، الأودي الكوفي، صدوق ربما خالف، من السادسة، مات سنة 120. أخرج له الجماعة، إلا مسلما.

5 -

(هُزَيل بن شُرَحبيل) الأودي الكوفي، ثقة مخضرم من الثانية (خ 4)، وهزيل بالزاي، وفي كثير من النسخ بالذال، وهو خطأ قال

ص: 167

السيوطي في ألفية الأثر:

ابْنُ شُرَحْبيلَ فَقُلْ هُزَيْلُ

بالزَّاي منْ غَيْرُهُ هُذَيْلُ

وهو بصيغة التصغير، وشرحبيل بضم الشين وفتح الراء وكسر الباء.

6 -

(المغيرة بن شعبة) رضي الله عنه المتقدم قريبًا.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواتهم كلهم ثقات، إلا أبا قيس فمختلف فيه، وسيأتي الكلام فيه، فصدوق، وأنهم كوفيون، إلا شيخ المصنف فمروزي ثم نيسابوري، وفيه التحديث، والإخبار، والإنباء، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن المغيرة بن شعبة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين) أي مسح على النعلين، والجوربان تحتهما قاصدا مسح الجوربين، لا النعلين، فكان مسحه على الجوربين هو الذي تطهير به، وأما مسحه على النعلين، ففضل. قاله في المنهل ج 2 ص 134.

وقال الطيبي معنى قوله "والنعلين" هو أن يكون قد لبس النعلين فوق الجوربين، وكذا قال الخطابي في المعالم.

قال العلامة المباركفوري: هذا المعنى هو الظاهر، قال الطحاوي في شرح معاني الآثار في باب المسح على النعلين تحتهما جوربان، وكان قاصدًا بمسحه ذلك إلى جوربيه لا نعليه، وجورباه لو كانا عليه بالنعلين جاز له أن يمسح عليهما، فكان مسحه ذلك أراد به الجوربين، فأتى ذلك على الجوربين، والنعلين، فكان مسحه على الجوربين، هو الذي تطهير به. ومسحه على النعلين فضل انتهى كلام الطحاوي.

وأما قول ابن ملك في شرح قوله "والنعلين": أي ونعليهما، فيجوز

ص: 168

المسح على الجوربين بحيث يمكن متابعة المشي عليهما انتهى، وكذا قول أبي الوليد: إن معنى الحديث أنه مسح على جوربين منعلين، لا أنه جورب على الانفراد، ونعل على الإنفراد، انتهى فبعيد.

قال الحافظ ابن القيم في تهذيب السنن بعد ذكر قول أبي الوليد هذا: ما لفظه: هذا التأويل مبني على أنه يستحب مسح أعلى الخف وأسفله، والظاهر أنه مسح على الجوربين الملبوسين عليهما نعلان منفصلان هذا هو المفهوم منه، فإنه فصل بينهما، وجعلهما شيئين، ولو كانا جوربين منعلين لقال مسح على الجوربين المنعلين، وأيضا فإن الجلد في أسفل الجورب لا يسمى نعلا في لغة العرب، ولا أطلق عليه أحد هذا الاسم، وأيضا المنقول عن عمر بن الخطاب في ذلك أنه مسح على سيور النعل التي على ظاهر القدم مع الجورب، فأما أسفله، وعقبه، فلا، انتهى كلام ابن القيم. اهـ تحفة الأحوذي ج 1 ص 328.

(قال أبو عبد الرحمن) النسائي (ما نعلم أحدا تابع أبا قيس) عبد الرحمن ابن ثروان الأودي الراوي عن هزيل (على هذه الرواية، والصحيح عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين) يريد المصنف بهذا إعلال هذه الرواية بمخالفة أبي قيس للجمهور الذين رووا حديث المغيرة، فإنهم رووه "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين" وسيأتي تحقيق المسألة، مع تصحيح رواية أبي قيس هذه في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث: صححه الترمذي، وتبعه العلامة المحقق أحمد محمَّد شاكر، ومحدث العصر الشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني. وضعفه الجمهور، ومنهم المصنف، وأبو داود،

وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى.

ص: 169

المسألة الثانية: في بيان مَوضع تخريج المصنف له: أخرجه هنا فقط.

وقد تقدم أن الذي يميل إليه القلب، ويترجح عندي أن هذا الحديث من السنن الكبرى لا من الصغرى للأمور التي تقدمت وإنما شرحته احتياطا.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول، وغيرهم: أخرج حديث المغيرة عن طريق هزيل بن شرحبيل أبو داود، والترمذي، وابن ماجه:

فأما أبو داود: فأخرجه في الطهارة 61 عن عثمان بن أبي شيبة.

وأما الترمذي، فأخرجه فيه أيضا 74 عن هناد بن السري، ومحمود ابن غيلان.

وأما ابن ماجه: فأخرجه فيه أيضًا عن علي بن محمَّد أربعتهم عن وكيع، عن سفيان، عن أبي قيس الأودي، عن هُزَيل بن شُرَحْبيل، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. أفاده الحافظ المزي، تحفة ج 8 ص 493.

وكذا أخرجه أحمد، والبيهقي، والطحاوي، وابن حبان، وابن حزم في المحلى. أفاده المحقق أحمد شاكر.

المسألة الرابعة: في اختلاف المحدثين في صحة هذا الحديث: اختلف العلماء في حديث أبي قيس الأودي، عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة: على قولين:

الأول: أنه صحيح، وممن قال بهذا الإمام الترمذي في جامعه حيث قال: حديث حسن صحيح. وإليه يميل رأي الشيخ ابن دقيق العيد كما يأتي قريبا، وهو الذي رجحه العلامة أحمد شاكر، ومحدث العصر

الألباني تبعا لجمال الدين القاسمي.

وسيأتي ما قالوه في المسألة التالية إن شاء الله تعالى.

ص: 170

وممن أخرجه من أصحاب الصحاح ابن حبان في النوع الخامس والثلاثين من القسم الرابع. كما بينه الحافظ الزيلعي في نصب الراية ج 1 ص 184. وهو في تقريب الإحسان ص 314.

والقول الثاني: إنه ضعيف: وممن قال بهذا المصنفُ كما سبق، وأبو

داود، قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية: وقال أبو داود في سننه: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث؛ لأن المعروف عن المغيرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين" قال: وروى أبو موسى الأشعري أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه مسح على الجوربين" وليس بالمتصل، ولا بالقوي، قال: ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب، وأبو مسعود، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسهل ابن سعد، وعمرو بن حريث، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عباس انتهى.

وذكر البيهقي حديث المغيرة هذا، وقال: إنه منكر، ضعفه سفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، ومسلم بن الحجاج، والمعروف عن المغيرة حديث المسح على الخفين، ويروى عن جماعة أنهم فعلوه. انتهى.

قال النووي: كل واحد من هؤلاء لو انفرد قدم على الترمذي، مع أن الجرح مقدم على التعديل، قال: واتفق الحفاظ على تضعيفه، ولا يقبل قول الترمذي: إنه حسن صحيح انتهى.

وقال الشيخ تقي الدين في الإمام: أبو قيس الأودي، اسمه عبد الرحمن بن ثروان، أخرج له البخاري في صحيحه، وذكر البيهقي في سننه أن أبا محمَّد يحيى بن منصور، قال: رأيت مسلم بن الحجاج

ضعف هذا الخبر، وقال: أبو قيس الأودي، وهزيل بن شرحبيل لا

ص: 171

يحتملان، وخصوصًا مع مخالفتهما الأجلة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة، فقالوا:"مسح على الخفين" وقال: لا نترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس، وهزيل، قال: فذكرت هذه الحكاية عن مسلم لأبي العباس محمَّد بن عبد الرحمن الدغولي، فسمعته يقول: سمعت علي بن محمَّد ابن شيبان، يقول: سمعت أبا قدامة السرخسي يقول: قال عبد الرحمن ابن مهدي: قلت لسفيان الثوري: لو حدثتني بحديث أبي قيس، عن هزيل ما قبلته منك، فقال سفيان: الحديث ضعيف، ثم أسند عن البيهقي، عن أحمد بن حنبل، قال: ليس يروى هذا الحديث إلا من رواية أبي قيس الأودي.

وأبَى عبدُ الرحمن بن مهدي أن يحدث بهذا الحديث، وقال: هو منكر، وأسند البيهقي أيضا عن علي بن المديني، قال: حديث المغيرة ابن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأهل البصرة، ورواه هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة إلا أنه قال:"ومسح على الجوربين" فخالف، وأسند أيضا عن يحيى بن معين، قال: الناس كلهم يروونه على الخفين، غير أبي قيس، قال الشيخ: ومن يصححه يعتمد بعد تعديل أبي قيس على كونه ليس مخالفا لرواية الجمهور مخالفة معارضة، بل هو أمر زائد على ما رووه، ولا يعارضه، ولا سيما وهو طريق مستقل برواية هزيل، عن المغيرة لم يشارك المشهورات في سندها. اهـ نصب الراية ج 1 ص 184، 185.

المسألة الخامسة: في إتمام الكلام على رأي من صحح الحديث، ومذاهب العلماء في حكم المسح على الجوربين.

وقد كتب علامة الشام محمَّد جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى في هذه المسألة رسالة قيمة فصّل فيها الكلام تفصيلًا حسنًا، وبين فيها ما ورد من الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة، ومذاهب العلماء على وجه التحقيق والتدقيق.

ص: 172

ثم قدم على رسالته العلامة المحقق أحمد محمَّد شاكر المصري مقدمة بديعة في بابها، كاملة في نصابها، وكذا كتب عليها العلامة محدث العصر ناصر الدين الألباني تحقيقات قيمة، فدونك خلاصة ما كتبوا:

تقديم العلامة أحمد محمَّد شاكر رحمه الله تعالى:

قال رحمه الله: والأدلة التي بني المؤلف يعني القاسمي: عليها رسالته ثلاثة أحاديث: حديث ثوبان، وحديث المغيرة بن شعبة، وحديث أبي موسى الأشعري، فكتبت هذه الكلمة، أبَيّن فيها الدلائل على صحة هذه الأحاديث الثلاثة. وزدت عليها دليلا رابعا، وهو حديث أنس بن مالك.

1 -

أما حديث ثوبان: فهو في مسند الإمام أحمد (ج 5 ص 277 طبعة الحلبي) رواه عن يحيى بن سعيد، عن ثور، عن راشد بن سعد، عن ثوبان

(1)

وكذلك رواه أبو داود (ج 1 ص 56 من عون المعبود، عن الإمام أحمد بن حنبل بهذا الإسناد. وكذلك رواه الحاكم في المستدرك ج 5 ص 169، من طريق الإمام أحمد، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وثور: هو ابن يزيد الكلاعي الحمصي، وهو ثقة معروف. وراشد بن سعد الحمصي: ثقة أيضًا، ترجم له البخاري في التاريخ الكبير 2/ 1/ 266، فلم يذكر فيه جرحا. وهذا أمارة توثيقه عنده، وترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1/ 2/ 483، وروى توثيقه عن يحيى بن معين، وأبي حاتم.

وأما تعليل الإمام أحمد هذا الحديث بالانقطاع بين راشد وثوبان فقد نقل مثله ابن أبي حاتم في المراسيل (ص 22) عن عبد الله بن أحمد بن

(1)

نص الحديث: عن ثوبان قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين).

ص: 173

حنبل، عن أبيه، قال:(راشد بن سعد لم يسمع من ثوبان) ولكن يعارض هذا أن البخاري جزم في التاريخ الكبير بأنه سمع منه، فقال في ترجمته:(سمع ثوبان، ويعلى بن مرة) وكفى بهذا حجة في إثبات سماعه من ثوبان، فقد تبين أنه حديث متصل صحيح الإسناد.

2 -

وأما حديث المغيرة بن شعبة: فهو في مسند الإمام أحمد (ج 4 ص 252) طبعه الحلبي، ورواه أيضا أبو داود (ج 1 ص 61، 62 من عون المعبود) والترمذي (رقم 99 ج 1 ص 27، بشرح أحمد محمَّد شاكر) ج 1 ص 100 من شرح المباركفوري، وابن حبان في صحيحه (ج 2 ص 505 من مخطوطة الإحسان المصورة عندي، وابن ماجه رقم: 559 ص 185 من طبعة فؤاد عبد الباقي).

وابن حزم في المحلى (ح 2 ص 81، 82) والبيهقي في السنن الكبرى (ج 1 ص 283 و 284) كلهم

(1)

من طريق سفيان الثوري، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة، وقال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح) وقال أبو داود بعد روايته: كان عبد الرحمن ابن مهدي لا يحدث بهذا الحديث؛ لأن المعروف عن المغيرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين" وكلام العلماء الذين أرادو إعلال هذا الحديث يدور كله حول كلمة عبد الرحمن بن مهدي هذه.

والحديث صحيح، وإسنادُه كلهم ثقات.

أبو قيس: هو الأودي، واسمه عبد الرحمن بن ثروان بفتح الثاء المثلثة وسكون الراء وهو ثقة، وثقه ابن معين، وقال العجلى ثقة ثبت.

(1)

قال العلامة الألباني قلت: وابن خزيمة أيضا في صحيحه رقم 198 طبع دار القلم في بيروت، وكذا ابن أبي شيبة في المصنف 1 - 188 والطحاوي في مشكل الآثار 1 - 98 - طبع القاهرة اهـ. من هامش الرسالة.

ص: 174

وأخرج له البخاري في صحيحه، وأما قول الإمام أحمد يخالف في حديثه، فما هو بجرح له، إنما يريد به تعليل هذا الحديث، بأنه خالف غيره من الرواة، وسيأتي بيان أن هذه المخالفة غير قادحة، وأنها لا

تصلح تعليلا للحديث.

(وهزيل بن شرحبيل الأودي): تابعي قديم، يقال إنه أدرك الجاهلية، وهو ثقة دون خلاف، مترجم في طبقات ابن سعد 6: 122، والكبير للبخاري 4/ 2/ 245 والإصابة 6:303.

وقد تكلم الإمام ابن القيم في شأن هذا الحديث، وهذه المسألة، كلاما قويا جيدا، وإن كنت لا أوافقه على تضعيف حديث المغيرة هذا فقال في تعليقه على مختصر المنذري (تهذيب السنن ج 1 ص 121، 122) وقال النسائي: ما نعلم أحدا تابع هزيلا

(1)

على هذه الرواية، والصحيح عن المغيرة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين". وقال البيهقي: قال أبو محمد، يعني يحيى بن منصور: رأيت مسلم بن الحجاج ضعف هذا الخبر، وقال: أبو قيس الأودي، وهزيل بن شرحبيل، لا يحتملان هذا، مع مخالفتهما جملة الذين رووا هذا الخبر، عن المغيرة، فقالوا:"مسح على الخفين"، وقال: لا يترك ظاهر القرآن بمثل حديث أبي قيس وهزيل: قال: فذكرت هذه الحكاية عن مسلم لأبي العباس الدغولي؟ فسمعته يقول: سمعت علي بن مخلد بن سنان يقول: سمعت أبا قدامة السرخسي يقول: قال عبد الرحمن بن مهدي: قلت لسفيان الثوري: لو رجل حدثني بحديث أبي قيس، عن هزيل ما قبلته منه. فقال سفيان: الحديث ضعيف، أو وَاهٍ أو كلمة نحوها، وقال عبد الله بن أحمد: حدث أبي بهذا الحديث، فقال أبي: ليس

(1)

هكذا في نسخة ابن القيم، والذي في غيره أن النسائي: ما نعلم أحدا تابع أبا قيس.

ص: 175

يروى هذا الا من حديث أبي قيس، قال: أبَى عبدُ الرحمن بن مهدي أن يحدث به، يقول: هو منكر، وقال علي بن المديني: حديث المغيرة بن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأهل البصرة، ورواه هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة، إلا أنه قال:"ومسح على الجوربين"، وخالف الناس، وقال الفضل بن عتبان: سألت يحيى ابن معين عن هذا الحديث؟

فقال: الناس كلهم يروونه: عَلَى الخفين، غير أبي قيس، قال ابن المنذر: يُرْوَى المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: علي، وعمار، وأبي مسعود الأنصاري، وأنس، وابن عمر، والبراء، وبلال، وعبد الله بن أبي أوفى، وسهل بن سعد. وزاد أبو داود: وأبو أمامة، وعمرو بن حريث، وعمر وابن عباس، فهولاء ثلاثة عشر صحابيا.

والعمدة في الجواز على هؤلاء، رضي الله عنهم، لا على حديث أبي قيس. مع أن المنازعين في المسح متناقضون، فإنهم لو كان هذا الحديث في جانبهم لقالوا: هذه زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، ولا يلتفتون إلى ما ذكروه هنا من تفرد أبي قيس، فهذا كان الحديث مخالفا لهم أعلوه بتفرد روايه، ولم يقولوا زيادة الثقة مقبولة، كما هو موجود في تصرفاتهم.

والإنصاف: أن تكتال لمنازعك بالصاع الذي تكتال به لنفسك، فإن في كل شيء وفاء وتطفيفا، ونحن لا نرضى هذه الطريقة، ولا نعتمد على حديث أبي قيس وقد نص أحمد على جواز المسح على الجوربين، وعلل رواية أبي قيس. وهذا من إنصافه، وعدله رحمه الله، وإنما عمدته، هؤلاء الصحابة، وصريح القياس، فإنه لا يظهر بين الجوربين

ص: 176

والخفين فرق مؤثر يصح أن يحال الحكم عليه.

هذا نص كلام ابن القيم رحمه الله. ونحن

(1)

نخالفه في تعليل حديث أبي قيس عن هزيل. لأن رواية أصحاب المغيرة في هذا الحديث المسح على الخفين لا تنفي صحة رواية هزيل بن شرحبيل عنه المسح على الجوربين.

فهذه واقعة، وهذه واقعة.

وقد قلت في شرحي للترمذي ج 1 ص 168: الصواب صنيع الترمذي في تصحيح هذا الحديث، وهو حديث آخر غير حديث المسح على الخفين وقد روى الناس عن المغيرة أحاديث المسح في الوضوء، فمنهم من روى المسح على الخفين، ومنهم من روى المسح على العمامة، ومنهم من

روى المسح على الجوربين.

وليس شَيءٌ منها بمخالف للآخر، إذ هي أحاديث متعددة، وروايات عن حوادث مختلفة، والمغيرة صحب النبي صلى الله عليه وسلم نحو خمس سنين، فمن المعقول أن يشهد من النبي صلى الله عليه وسلم وقائع متعددة في وضوئه، ويحكيها، فيسمع بعض الرواة منه شيئا، ويسمع غيره شيئا آخر. وهذا واضح بديهي.

وأزيد على ذلك: أن العلماء جمعوا بين الأحاديث التي صحت في صفة صلاة الكسوف على أوجه متعددة بأن هذا اختلاف وقائع، لا اختلاف رواية.

مع علمهم بأن وقوع الكسوف والخسوف قليل. فأولى أن يجمع بذلك في صفة الوضوء الذي يتكرر كل يوم مرارا. كما هو بديهي.

(1)

هذا من كلام العلامة أحمد شاكر.

ص: 177

وقد تكلف العلامة المباركفوري في شرحه للترمذي (ج 1 ص 100، 102) في تضعيف هذا الحديث تكلفًا شديدًا، ويراه المنصف المدقق غير سديد.

ومن أعجب ما صنع أنه رد على القائلين بأن رواية هزيل هذه زيادة من ثقه، فتقبل فقال: فيه نظر، فإن الناس كلهم رووه عن المغيرة بلفظ.

"مسح على الخفين" وأبو قيس يخالفهم جميعا، فيروي، عن هزيل، عن المغيرة بلفظ "مسح على الجوربين والنعلين"، فلم يزد على ما رووا بل خالف ما رووا، نعم لو روى بلفظ:"مسح على الخفين والجوربين والنعلين"، لصح أن يقال: إنه روى أمرا زائدا، هكذا قال، وهي انتقال نظر، فليس المراد أنه روى زيادة في لفظ الحديث، بل أراد القائلون بأنها زيادة: أنه روى حكما آخر زائدا علي ما رواه غيره، فَرَوَوْا هم المسح على الخفين، وروى هو المسح على الجوربين ولم ينف رواية المسح على الخفين، فروايته على الحقيقة زيادة على روايات غيره. وهذا واضح.

ثم إن الحكم على رواية هذا الحديث بتخطئة الرواة الثقات حكم دون دليل كما بينا، وقد تابعه على روايته هذه عمل الصحابة الذين حكى ابن القيم الحجة بعملهم. فهو لم يرو حكما شاذا مخالفا لم يقل به أحد، بل روى عملا ثبت أن الصحابة هؤلاء عملوا به، وأخذوا بحكمه.

3 -

وأما حديث أبي موسى الأشعري: فهو في سنن ابن ماجه، برقم 560، (طبعة فؤاد عبد الباقي) وقد أعلوه بعلتين:

أولاهما: أن راويه عيسى بن سنان الحنفي الفلسطيني ضعفه أحمد، وابن معين، وغيرهما. ولكن ذكره ابن حبان في الثقات، فمثل هذا يحتمل ضعفه، ويكون أقرب إلى الحسن منه إلى الضعف خصوصا، وأن البخاري سكت عن هذا الحديث، ولو كان ضعيفا عنده لأبان عن

ص: 178

ذلك كما سيأتي. وثانيهما: أن التابعي راويه عن أبي موسى، وهو الضحاك بن عثمان بن عرزب لم يسمع من أبي موسى. وهذه دعوى عريضة، ذكرها ابن أبي حاتم، عن أبيه، في ترجمة الضحاك هذا 2/ 1/ 459، فقال: روى عن أبي موسى الأشعري مرسل. ولكن البخاري وهو الحجة في هذا ترجمه في الكبير 2/ 2/ 334، وقال: سمع من أبي موسى. ثم أشار إلى هذا الحديث في ترجمته، إشارته الموجزة كعادته وسكت عنه، ولم يذكر له علة. فدل على أنه حديث مقبول عنده على الأقل.

وبعد فإن هناك حديثا آخر عن أنس بن مالك صريح الدلالة صحيح الإسناد: فروى الدُّولابي في الكنى والأسماء (ج 1 ص 181)، قال: أخبرني أحمد بن شعيب، عن عمرو بن علي، قال: أخبرني سهل بن زياد أبو زياد الطحان، قال: حدثنا الأزرق بن قيس، قال:"رأيت أنس ابن مالك أحدث، فغسل وجهه ويديه، ومسح على جوربين من صوف، فقلت: أتمسح عليهما؟ فقال: إنهما خفان، ولكنهما من صوف".

وهذا إسناد صحيح أحمد بن شعيب: هو النسائي الحافظ صاحب السنن: عمرو بن علي: هو الفلاس، الحافظ الحجة. أبو زياد سهل ابن زياد الطحان ثقة ترجمه البخاري في الكبير 2/ 2/ 103، 104 وابن حاتم في الجرح والتعديل 2/ 1/ 197 فلم يذكرا فيه جرحا، فهو ثقة عندهما.

وذكره ابن حبان في الثقات، في لسان الميزان ج 3 ص 118.

وذكر أن الأزدي قال فيه: منكر الحديث، دون بيان سبب الجرح، والأزدي ينفرد بجرح كثير من الثقات، فلا يؤبه لتجريحه إذا تفرد به،

ص: 179

والأزرق بن قيس: تابعي ثقة مأمون مترجم في التهذيب.

وهذا الحديث موقوف على أنس، من فعله، وقوله، ولكن وجه الحجة فيه أنه لم يكتف بالفعل، بل صرح بأن الجوربين (خفان، ولكنهما من صوف)

وأنس بن مالك صحابي من أهل اللغة، قبل دخول العُجْمَة واختلاط الألسنة فهو يبين أن معنى الخف أعم من أن يكون من الجلد وحده، وأنه يشمل كل ما يستر القدم ويمنع وصول

(1)

الماء إليها إذ أن الخفاف كانت في الأغلب من الجلد. فأبان أنس أن هذا الغالب ليس حصرا للخف في أن يكون من الجلد، وأزال الوهم الذي قد يدخل على الناس من واقع الأمر في الخفاف إذ ذاك ولم يأت دليل من الشارع يدل على حصر الخفاف في التي تكون من الجلد فقط.

وقول أنس في هذا أقوى حجة ألف مرة من أن يقول مثله مؤلف من مؤلفي اللغة كالخليل، والأزهري، والجوهري، وابن سيدَهْ، وأضرابهم، لأنهم ناقلون للغة، وأكثر نقلهم يكون من غير إسناد، ومع ذلك يحتج بهم العلماء. فأولى، ثم أولى إذا جاء التفسير اللغوي من مصدر أصلي من مصادر اللغة، وهو الصحابي العربي من الصدر الأول، بإسناد صحيح إليه.

وقد أشار الإمام ابن القيم إلى مثل هذا المعنى إن لم يكن صريحا تماما

(1)

قال العلامة الألباني قلت: لعل هذا القول سبق قلم من العلامة أحمد شاكر رحمه الله، فإنه ليس في أثر أنس المذكور هذا القيد أو الشرط، بل هو أعم من ذلك، بدليل أن الصوف لا يمنع وصول الماء إلى القدم كما هو معلوم بالتجربة فأرى أن الصواب حذف هذا القول من سياق كلام العلامة رحمه الله، لأنه لا دليل عليه كما سبق، ولانه أليق بموضرع رسالة العلامة القاسمي رحمه الله تعالى الذي اختار جواز المسح على الجورب الرقيق وهو الحق وهذا القول ينافيه كما لا يخفى.

ص: 180

فيما نقلنا عنه آنفا من قوله: وإنما عمدته هؤلاء الصحابة وصريح القياس: فإنه لا يظهر بين الجوربين والخفين فرق مؤثر يصح أن يحال الحكم عليه. فجعل ابن القيم أن الجوربين مقيسان على الخفين قياسًا جليا من غير فرق مؤثر يصح أن يحال الحكم عليه. ولكن المعنى في حديث أنس أدق. فليس الأمر قياسا للجوربين على الخفين، بل هو أن الجوربين داخلان في مدلول كلمة (الخفين) بدلالة الوضع اللغوي للألفاظ علي المعاني. والخفان ليس علهيما موضع خلاف، فالجوربان من مدلول كلمة (الخفين) فيدخلان فيهما بالدلالة الوضعية اللغوية، وقد ثبت من غير وجه عن أنس: أنه مسح على الجوربين. فهو يؤيد رواية الدولابي التي ذكرها، وانظر المحلى لابن حزم بتحقيقنا. ج 2 ص

84، 85. والحمد لله رب العالمين اهـ تقديم العلامة أحمد شاكر لرسالة القاسمي ص 4، 15.

نص رسالة العلامة جمال الدين القاسمي، رحمه الله

قال رحمه الله بعد خطبة بَيَّن فيها سبب تأليفه لهذه الرسالة ما نصه:

بيان أن مرد الأحكام الشرعية إلى الكتاب الكريم لأنه أصل الأصول.

اعلم أن أصل كل حكم شرعي هو الكتاب الكريم لأنه أصل الأصول، ومأخذ المآخذ، وكلي الكليات، فلا يمكن لحكم ما من الأحكام الشرعية إلا وأن يرجع إليه، ويصدر منه، حتى إن السنة النبوية أصلها كتاب الله تعالى؛ لأنها تفصيل لمجمله، وإيضاح لمبهمه، وطريق من طرق الإستنباط منه، لكل سنة بحث عن أصلها باحث خبير فإنه يجدها في كتاب الله تعالى، مدلولا عليها إما من نص آية أو ظاهرها، أو مفهومها أو إشارتها، أو عمومها، إلى غير ذلك من وجوه الاستنباط التي يعلمها

ص: 181

المجتهد، يذكر بعضها في فن الأصول.

إذا علمت ذلك فمسألتنا هذه مسألة المسح على الجوربين أصلها في الكتاب الكريم إما من عموم المسح في آية الوضوء، وإما من عمومات أخَر.

فأما العموم الأول: فسنده قراءة الجر في قوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] فإن ظاهرها أن الفرض في الرجلين هو المسح، كما روى ذلك عن ابن عباس، وأنس، وعكرمة، والشعبي وقتادة، وجعفر الصادق، وعلماء سلالته رضي الله عنهم أجمعين، فعلى مذهب هؤلاء الأئمة يكون مفاد الآية وجوب المسح على الرجلين مباشرة أو بما عليها من خف، أو جورب، أو تساخين، فيظهر كون الآية مَأخَذًا للسنة على هذه القراءة.

وأما على قول الجمهور: إن فرض الرجلين هو الغسل. وصرف قراءة الجر إلى قراءة النصب بالأوجه المعروفة في مواضعها فيكون مأخذ مسح الجوربين من الكتاب العزيز عمومات أخر في آياته مثل {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] وآية {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وآية {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] وآية {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ونظائرها مما لا يحصى، وقد تعدد وجوه الاستنباط، ويترجح بعضها بقوة التفرع والارتباط ولا يخفى وجوه الترجيح على الراسخين، والله الموفق والمعين

بيان الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الجوربين والتساخين:

اعلم أن أحاديث هذا الباب منها ما يستفاد جواز المسح على الجوربين من عمومه، ومنها ما يستفاد من خصوصه.

ص: 182

فمن النوع الأول، وهو ما يستفاد من عمومه وإطلاقه جواز السح على الجوربين حديث ثوبان رضي الله عنه.

قال الإمام أحمد رحمه الله في مسنده: في مسند ثوبان رضي الله عنه: حدثنا يحيى بن سعيد، عن ثور، عن راشد بن سعد، عن ثوبان قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا علي العصائب والتساخين" رواه أبو داود في سننه.

قال العلامة ابن الأثير في النهاية (العصائب) هى العمائم لأن الرأس يعصب بها، والتساخين كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما، ولا واحد لهما من لفظهما.

أقول

(1)

رجال الحديث ثقات مرضيون، كما يعلم من مراجعة أسمائهم من كتب الرجال.

ومن النوع الثاني: وهو ما ورد نصا في الجوربين: حديثا المغيرة، وأبي موسى. فأما حديث المغيرة: فرواه الإمام أحمد في مسنده في مسند الكوفيين في حديث المغيرة بن شعبة قال: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل

(2)

بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح علي الجوربين والنعلين" ورواه أبو داود في سننه في باب المسح علي الجوربين، وأخرجه الترمذي وابن ماجه كلاهما في باب المسح على الجوربين، والنعلين.

وأما حديث أبي موسى: فرواه ابن ماجه في سننه قال: حدثنا محمَّد ابن يحيى، حدثنا معلي بن منصور، وبشر بن آدم، حدثنا عيسى بن

(1)

القائل هو القاسمي.

(2)

بالزاي كزبير: تابعي أدرك الجاهلية. اهـ ق.

ص: 183

يونس، عن عيسى بن سنان، عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب

(1)

عن أبي موسى الأشعري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين".

ذكر ما ورد على هذه الأحاديث الثلاثة من الشبه، والجواب عنها

الشبهة الأولى:

قالوا: في إسناد حديث ثوبان الأول راشد بن سعد عن ثوبان، وقد قال الخلال في علله: إن أحمد بن حنبل قال: لا ينبغي أن يكون راشد ابن سعد سمع من ثوبان؛ لأنه مات قديما اهـ. أي فيكون معللا

بالانقطاع، لسقوط راو بين راشد وثوبان.

والجواب: أن هذا إنما يتأتي على مذهب من يشترط في الاتصال ثبوت السماع، وقد أنكر الإمام مسلم ذلك في مقدمة صحيحة إنكارا شديدا، ورأى أنه قول مخترع وأن المتفق عليه أن يكفي للإتصال إمكان

(2)

اللقاء والسماع، وعليه فالانقطاع في الحديث غير مقطوع به، ويرجع الأمر إلى رجال سنده، فإذا كان رجاله ثقات كان صحيحا، أو

(1)

براء ثم زاي كجعفر، تابعي. اهـ ق.

(2)

قال العلامة الألباني: وهذا الإمكان متحقق، فقد ذكر البخاري أن راشد بن سعد شهد صفين مع معاوية، ومن المعلوم أن وقعة صفين كانت سنة 36 ووفاة ثوبان سنة 54 فقد عاصره 18 سنة وإذا تذكرنا أن العلماء وثقوه دون خلاف يذكر، وأنه لم يرم بالتدليس، ينتج من ذلك أن الإسناد متصل، وأن إعلاله بالإنقطاع مردود لأنه قائم على مذهب من يشترط في الإتصال ثبوت السماع. وهو مرجوح كما أشار إليه المؤلف رحمه الله تعالى ومما يقوي ما ذكر أن البخاري أثبت سماع راشد من ثوبان كما تقدم في كلام أحمد شاكر رحمه الله تعالى، وذلك دليل قاطع على لقيه إياه؛ لأن البخاري رحمه الله تعالى، من القائلين بإشتراط ثبوت (*) السماع في الإتصال وأنه لا تكفي فيه المعاصرة، فتأمل. اهـ كلام الألباني.

(*) الصواب ثبوت اللقاء.

ص: 184

حسنًا جيدًا صالحًا للاحتجاج به، ولذا أخرجه الإمام أحمد في مسنده معولا على الاحتجاج به وتبليغه سنة يعمل بها. وخرجه أيضا أبو داود وسكت عليه، وما سكت عليه فهو صالح للاستدلال به، إذ لا جرح في رواته ولا علة ظاهرة فيه فاستوفَى شروط الحسن. والحسن كالصحيح في الاحتجاج به، والعمل بما فيه. وبالجملة فقصارى أمر هذا الحديث أن يكون حسنا وصالحا ويكفي ذلك. على أن مجرد الإنقطاع ليس قادحا، فقد وقع في مسلم بضعة عشر حديثا منقطعة، وإن تبين وصلها من وجه آخر؛ لأن مقطوع الثقة ليس كغيره، ولذلك قبل من المراسيل مراسيل الثقات، كما تقرر في موضعه.

وتسميتنا لذلك بالحسن جري على قول بعضهم كما في التدريب إن الحسن هو الذي فيه ضعف قريب محتمل. وعلى قول البغوي: إن ما في السنن من الحسان فإن هذين القولين متجهان فيما نراه، وإن اشتهر تفسير الحسن بغيرهما.

قال الإمام النووي في التقريب: وقد جاء عن أبي داود أنه يذكر في سننه الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهن شديد بينه، وما لم يذكر فيه شيئا فهو صالح. قال النووي: فعلى هذا ما وجدنا في كتابه مطلقا ولم يصححه غيره ولا ضعفه فهو حسن عند أبي داود لأن الصالح للاحتجاج لا يخرج عنهما، بل قال ابن رشيد: إن ما سكت عليه أبو داود قد يكون عنده صحيحا، وإن لم يكن كذلك عند غيره. انظر التدريب.

وبعد فإن رجال حديث ثوبان كلهم ثقات مرضيون كما يعلم من مراجعة أسمائهم من طبقات الرجال. وقد عرفت الجواب عن شبهة الانقطاع فيه، فقوي، وحسن، وصلح للاحتجاج به. والحمد لله.

ص: 185

الشبهة الثانية:

بحث بعضهم بأن الدليل من هذا الحديث أخص من الدعوى؛ لأن الحديث يدل على جواز المسح على التساخين في حالة البرد خاصة؛ لأنه جواب السائل في تلك الحالة.

والجواب:

أنه تقرر في الأصول أن اللفظ العام على سبب خاص يحمل على عمومه، ولا يخص بالسبب الذي ورد فيه، قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي: والدليل عليه هو أن الحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم دون السبب، فوجب أن يعتبر عمومه.

وحاصل القاعدة في هذا أن اللفظ الذي يستقل بنفسه يعتبر حكمه، فإن كان خاصا حمل على خصوصه، وإن كان عاما حمل على عمومه، ولا يخص بالسبب الذي ورد فيه. وما يقال في العام يقال في المطلق، لاشتراكهما في الأحكام، كما تقرر في الأصول، وتقرر أيضا أن ترك الاستفصال في حكايته الحال، ينزل منزلة العموم في المقال. ولا يقال: إن الفعل المثبت لا عموم له كما أطلقه الأصوليون؛ لأنه يقال: إن إطلاقهم مقيد بغير نحو أمر أو نهى؛ لأن هذا ليس حكايته لفعله حتى يقال: إنه لم يقع إلا على صفة واحدة، بل حكايته لصدور أمر بشيء، أو نهي عنه عاما في أقسامه البتة كما اختاره ابن الحاجب، وبسطه في المطولات.

ثم إن ما ورد من مسحه صلى الله عليه وسلم على الجوربين، وهما من التساخين غير مقيد بحالة لا أمرا منه ولا فعلا، وكذا ما صح من مسحه صلوات الله عليه في الوضوء على عمامته، وهي من العصائب غير مقيد بحالة دون أخرى، وسيأتي مزيد لهذا البحث إن شاء الله.

ص: 186

الشبهة الثالثة:

في حديث المغيرة الثاني قالوا: إن فيه شذوذا، بيانه أن المروزي قال إن الإمام أحمد ذكر أبا قيس أحد رواته فقال: ليس به بأس أنكروا عليه حديثين: حديث المغيرة في المسح، فأما ابن مهدي فأبى أن يحدث به.

وأما وكيع فحدث به. وقال أبو داود في سننه: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث؛ لأن المعروف عن المغيرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين" اهـ. قال السندي: فكان يراه ضعيفا شاذا، والشاذ ما رواه المقبول مخالفا لمن هو أولى منه.

والجواب: من وجوه:

الأول: أن تضعيفه بما ذكر يعارضه تصحيح الترمذي له، فقد قال بعد تخريجه له في سننه هذا حديث حسن صحيح، وهو قول غير واحد من أهل العلم. وتصحيح الترمذي مقدم على تضعيف غيره؛ لأن الترمذي من الطبقة التي تأخرت عن تلك، ووقفت على كل ما قيل فيه، ورأت أن الحق في تصحيحه، وكذا صححه ابن حبان، وهو ممن استقرأ وسبر أيضا

(1)

.

الثاني: قال العلامة المحقق علاء الدين المارديني في رد قول البيهقي أبو قيس الأودي، وهزيل بن شرحبيل لا يحتملان مع مخالفتها الأجلة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة فقالوا:"مسح على الخفين" ما مثاله:

(1)

قال المحدث العلامة ناصر الدين الألباني حفظه الله: قلت هذا الوجه لا يستقيم إلا لو كان الترمذي وابن حبان من الأئمة المتثبتين في التصحيح مثل الإمام أحمد ومسلم وغيرهما ممن ضعفوا الحديث، ففي هذه الحالة تصح المعارضة، ويسلم الجواب من الإعتراض لتأخر الترمذي عنهم. لكنهما متساهلان فلا يعتمد عليهما، فالجواب ضعيف، لكن الحديث صحيح الإسناد وما أعلوه به مردود كما تقدم في بيان الشيخ أحمد شاكر، فقد أجاد كل الإجادة. اهـ كلام الألباني بإختصار. ص 30.

ص: 187

هذا الخبر أخرجه أبو داود وسكت عنه، وصححه ابن حبان، وقال الترمذي حسن صحيح، وأبو قيس عبد الرحمن بن ثروان وثقه ابن معين وقال العجلي: ثقة ثبت، وهزيل وثقة العجلي، وأخرج لهما معا البخاري في صحيحه، ثم إنهما لم يخالفا الناس مخالفة معارضة بل رويا أمرا زائدا على ما رووه بطريق مستقل غير معارض، فيحمل على أنهما حديثان، ولهذا صُحِّحَ الحديثُ كما مر اهـ.

وهكذا قال شيخ الإسلام الشيخ منصور الحنبلي في شرح الإقناع: وتكلم بعضهم في الحديث أي حديث المغيرة، لأن المعروف عن المغيرة "الخفين" قال في المبدع: وهذا لا يصلح مانعا لجواز رواية اللفظين فيصح المسح على ما تقدم أي الجوربين. وكذا قال العلامة ملاّ على القاري في شرح المشكاة: قيل: المعروف من رواية المغيرة المسح على الخفين. وأجيب بأنه لا مانع من أن يروي المغيرة اللفظين وقد عضده فعل الصحابة اهـ وسيأتي تسميتهم وبلوغ ستة عشر صحابيا.

الثالث: وهو جوابنا عن دعوى شذوذه علما أن الشذوذ مختلف في معناه، وأنه ليس بعلة على الإطلاق ولا بمتفق عليها.

توضيحه: أن السيوطي قال في التدريب في شرح قول النووي في حد الصحيح وهو ما اتصل إسناده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة ما مثاله: قيل لم يفصح بمراده من الشذوذ هنا، وقد ذكر في نوعه ثلاثة أقوال: أحدها: مخالفة الثقة لأرجح منه. والثاني: تفرد الثقة مطلقا. والثالث: تفرد الراوي مطلقا قال ورد الأخيرين فالظاهر أنه أراد هنا الأول.

قال شيخ

(1)

الإسلام: وهو مشكل لأن الإسناد إذا كان متصلا

(1)

يريد الحافظ ابن حجر العسقلاني.

ص: 188

ورواته كلهم عدولا ضابطين فقد انتفت عنه العلل الظاهرة ثم إذا انتفى كونه معلولا فما المانع من الحكم بصحته؟ فمجرد مخالفة أحد رواته لمن هو أوثق منه، أو أكثر عددا، لا يستلزم الضعف، بل يكون من باب صحيح وأصح. قال: ولم أر مع ذلك من أحد من أئمة الحديث اشتراط نفي الشذوذ المعبر عنه بالمخالفة وإنما الموجود من تصرفاتهم تقديم بعض ذلك على بعض في الصحة.

وقال الإمام النووي في بحث الشاذ فإن لم يخالف الراوي بتفرده غيره وإنما روى أمرًا لم يروه غيره، فإن كان عدلا حافظا موثوقا بضبطه كان تفرده صحيحا وإن لم يوثق بحفظه، ولم يبعد عن درجة الضابط كان ما انفرد به حسنا، وإن بَعْدُ كان شاذًا منكرًا مردودًا. اهـ.

وبه يعلم أن الشذوذ ليس علة قادحة في صحة المروي، بل هي على هذا التفصيل، وإن كان عدلا، حافظا موثوقا بضبطه، كان تفرده صحيحًا.

وممن اعترض جعل الشذوذ قادحا في صحة الحديث الإمام ابن دقيق العيد، فقد قال العراقي: أما السلامة من الشذوذ والعلة فقال ابن دقيق العيد في الاقتراح: إن أصحاب الحديث زادوا ذلك في حد الصحيح، قال وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء، فإن كثيرا من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء، وقال ابن الصلاح: وقد يختلفون في صحة بعض الأحاديث لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه، أو لاختلافهم في اشتراط بعضها. اهـ.

فأفاد أن اشتراط السلامة من الشذوذ ليس بمتفق عليه، بل هو مختلف فيه، ولذا حدّ الإمام الخطابي الصحيح بأنه: ما اتصل سنده وعدلت نقلته. قال العراقي: فلم يشترط ضبط الراوي، ولا السلامة من الشذوذ والعلة.

ص: 189

وحكى أن مثل هذه الشروط مردها إلى اجتهاد المجتهدين في تحري المأثور، ولذلك تفاوتت مستنداتهم ومخرجاتهم بتفاوت شروطهم.

كما بسطناه في مقدمة كتاب حياة البخاري، وكل ما يبحث عن تصحيحه باعتبار السند وقواعد المصطلح فذاك من حيث رعاية صحته سندا، وأما من حيث تصحيحه باعتبار أمر أجنبي عنه، وهو المسمى بالصحيح لغيره، فذاك نوع آخر على ما سيأتي بيانه.

الشبهة الرابعة:

قول الإمام النووي في شرح المهذب: واحتج أصحابنا بأنه لا يمكن متابعة المشي عليه فلم يجز كالخرقة قال: والجواب عن حديث المغيرة من أوجه: أحدها أنه ضعيف ضعفه الحفاظ، وقد ضعفه البيهقي، ونقل تضعيفه عن سفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، ومسلم بن الحجاج، وهؤلاء هم أعلام أئمة الحديث، وإن كان الترمذي قال: حديث حسن صحيح فهؤلاء مقدمون عليه، بل كل واحد من هؤلاء لو انفرد قدم على الترمذي باتفاق أهل المعرفة.

الثاني: أنه لو صح يحمل على الذي يمكن متابعة المشي عليه جمعا بين الأدلة، وليس في اللفظ عموم يتعلق به.

الثالث: حكاه البيهقي رحمه الله عن الأستاذ أبي الوليد النيسابوري أنه حمله على أنه مسح على جوربين منعلين، لا أنه جورب منفرد ونعل منفردة فكأنه قال: مسح على جوربيه المنعلين. اهـ.

والجواب عن ذلك: أما قول الإمام النووي: واحتج أصحابنا بأنه لا

ص: 190

يمكن متابعة المشي عليه: فهذا قد يراه المقلد حجة، أما المحدث والأصولي فعنده الحجة الكتاب والسنة وما رجع إليهما من بقية الأدله، وقانون المناظرة يقضي بأن يدفع القوي بالأقوي، والحديث بمثله أو بآية، لا برأي، أو قياس، وإلا فيكون ذهابًا إلى ما رمي به أهل الرأي، وليس ثمة في الباب آية ترد هذا الحديث، ولا حديث يرده، لا بل ثمة ما يؤيده من الكتاب والسنة كما مر، وهذا هو الحجة المعروفة في الأصول.

وأما قوله: إنه ضعيف ضعفه الحفاظ، ثم نقل تضعيفه عمن ذكره، فجوابه ما قدمناه قبل في الوجه الثالث من درء الشبهة الثالثة من معارضة ذلك بتصحيح من صححه على أن سند تضعيفه هو دعوى شذوذه، وقد أوضحنا أن الشذوذ ليس علة مضعفة على إطلاقها، بل من كان عدلا ضابطا كان تفرده صحيحا، لا سيما وقد عضده ما رُوي بمعناه من حديث التساخين المتقدم، وما قواه من عمل الصحابة كما سيأتي.

ولذا صححه الإمام الترمذي، ولا يخفى أن المضعفين له مهما كثروا فإن حجة تضعيفهم شذوذه، وقد عرفت ما فيها. فليس المقام مقام ترجيح بالكثرة والقلة، بل المقام مقام استدلال، واحتجاج، وانطباق على القواعد المرعية، وإلا فإن الكثرة ليست من الحجج والبراهين المعروفة، ولذا قال الأصوليون في بحث خبر الآحاد: إن عمل أكثر بخلافه، أي بخلاف خبر الآحاد لا يمنع وجوب العمل به؛ لأن عمل

الأكثر ليس بحجة، وعللوه بأن الحجة هي الإجماع، وعمل الأكثر ليس بإجماع؛ لأن الإجماع اتفاق مجتهدي الأمة بخلاف خبر الواحد فإنه حجة بنفسه.

على أنا لو أردنا أن نكاثر من ضعفه لكاثرنا بأضعاف ما عنده، فإن

ص: 191

المسح على الجوربين أثر عن الصحابة منهم عمر بن الخطاب، وعلي، وأبو مسعود، والبراء، وأنس، وأبو أمامة، وسهل، وعمرو بن حريث، وابن عباس، وابن عمر، وابن أبي وقاص، وعمار، وبلال، وابن أبي أوفي، والمغيرة، وأبو موسى رضي الله عنهم.

ومن التابعين عن قتادة، وابن المسيب، وابن جريج، وعطاء، والنخعي، والحسن، وخِلَاس، وابن جبير، ونافع رحمهم الله تعالى. وسيأتي إسناد ذلك إليهم، فذهاب هؤلاء الأخيار رضي الله عنهم إلى العمل به مما يعضد صحة حديث المغيرة، ويقويه، ويصححه بلا ريب؛ لأنه إن لم يكن هو سندهم فغيره مما هو في معناه، وهذا يتوقف فيه من له أدنى مسكة، على أن حديث الجوربين قد تلقاه بالقبول أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وداود الظاهري، وابن حزم، وهؤلاء كلهم أئمة الفقه والإجتهاد، وجميعهم احتج به في الفقه المدون عنه، وقد عرف في فن مصطلح الحديث أن الحديث يحكم له بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول، وإن لم يكن له إسناد صحيح.

قال أبو الحسن بن الحصار في تقريب المدارك علي موطأ مالك: قد

يعلم صحة الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله، أو بعض أصول الشريعة، فيحمله ذلك على قبوله والعمل به اهـ ويسمى هذا الصحيح لغيره، والصحيح لغيره نظير الصحيح لذاته في الاحتجاج به والعمل بمقتضاه، والأخذ بعمومه، وخصوصه، وإطلاقه، وتقييده. ولمعرفة صحة الحديث من جهة غير السند طرق ومدارك يدريها المجتهد كما قرره ابن الحصار.

وبهذا نجيب عفا نقول بصحته مما لم يخرجه الإمام البخاري، وذلك أن البخاري إنما خرج ما صح من طريق السند، ولم يخرج ما صح

ص: 192

مطلقا، ولذا قال البخاري ما أدخلت في كتابي إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحالة الطول، وكذا قال مسلم: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هنا، إنما وضعت ما أجمعوا عليه، ولذا قال النووي في التقريب: ولم يستوعبا الصحيح، ولا التزماه. على أن ظاهر كلامهما أنهما تركا ما صح من جهة السند أيضا الذي هو وجهة المحدث خيفة الطول، فأحرى أن يكونا تركا ما صح لغير السند، وهو الصحيح لغيره وذلك لأن الصحيح لغيره ليس له قاعدة مطردة، وإنما هو أمر يعرفه سديد الرسوخ في الأصول والفروع، النَّهم بدرس الهدي النبوي، ومعرفة سر التشريع، ودرك حقيقة الفقه في الدين.

وقد كان بعض المحققين يسمي هذه الطريقة بطريقة (قبول الأخبار) بالاستدلال ليعادل ما بحثه الأصوليون في مسألة (رد الخبر بالاستدلال) كما تراه مبسوطا في المسودة وغيرها من مطولات الأصول، وعبارة المسودة: مما يرجح فيه الخبر، ويقدم أن يعتضد بعموم كتاب، أو سنة، أو قياس، أو معنى عقلي.

وقد ذهب كثير من أئمة الأصول إلى أن الحديث المتلقى بالقبول يفيد العلم، والحديث الذي عضده عمل الصحابة وكذا ما اختلفوا فيه بين أخذ به ومؤول، وما يوافق مشروعا موافقة تصحح المشابهة بينهما، كما تراه في جمع الجوامع وغيره، ومطولات مصطلح الحديث.

إذا تقرر هذا فحديث الجوربين مما تُلُقِّيَ بالقبول، وعضده عمل الصحب عليهم رضوان الله، ووافق آية {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] على قراءة الجر والنصب إذا رجعت إليه، ويندرج تحت قاعدة رفع الحرج، ويوافق مسح الخف، وجميع هذه مما يصحح المروي أيما تصحيح.

ص: 193

وبالجملة فقد اجتمع في حديث الجوربين الصحتان معا: صحته من حيث السند، كما صرح به الترمذي، وابن حبان، وكما حققناه من درء الشذوذ المزعوم فيه، وصحته من غير السند، وهي الأمور التي سردت الآن، ومتى صح الحديث فليس إلا السمع والطاعة.

وأما قول الإمام النووي: إنه لو صح يحمل على الذي يمكن متابعة المشي عليه جمعا بين الأدلة، فمطلوب البيان من جهة الجورب، فأين الدليل على اشتراط أن يمكن تتابع المشي عليه فيه؟ ومعلوم أن الجورب غير الخف، ولكل حكمه، وإذا أطلق الدليل في الأصول فلا ينصرف إلا إلى الكتاب والسنة وما رجع إليهما، ولا تعارض إلَّا بين دليلين متكافئين، وهناك يتلمس الجمع وإلا فإن المدار على الأقوى فالأقوى اتفاقا، وليس في الباب إلا إطلاق الجوربين وعموم التساخين في حديثهما.

وأما قوله: وليس في اللفظ عموم يتعلق به، فيقال فيه: هذا إشارة إلى ما ذكر في الأصول من أن الفعل المثبت لا عموم له، فحكايته لا تقتضي العموم لا للأقسام، ولا لجهات الوضع، ولا للأزمان. إلا أن

هذا على مذهب من لم يقل بعموم المشترك، ولا بعموم جهات الوضع فأما من ذهب إلى العموم فيهما فقد ذهب إلى العموم فيه. كذلك قيد المحققون دعوى العموم فيه بما إذا لم يوجد في ظاهر اللفظ دليل العموم كلام الاستغراق "كالجوربين" و"التساخين" فإنه يفيد العموم، ودليلهم أن المحكي عنه صلى الله عليه وسلم واقع على صفة معينة فيكون في معنى المشترك، فإن رجح بعض الوجوه فذاك، وإن ثبت التساوي فالبعض بفعله، والباقي بالقياس عليه.

وقد اعترض بأن فعله صلى الله عليه وسلم إنما وقع بحال معين. وأجيب بعدم التسليم لجواز أن تتعدد جهات وقوع الفعل كما أوضحه العلامة الفناري في

ص: 194

فصول البدائع.

وأما قوله: إن البيهقي حكى عن النيسابوري أنه حمله على أنه مسح على جوربين منعلين لا أنه جورب منفرد، ونعل منفردة، وكأنه قال مسح على جوربيه المنعلين، فيعني بذلك ما قاله البيهقي في سننه، وقد حكى ذلك، ثم قال بعده وقد وجدت لأنس أثرا يدل على ذلك فأسند عنه أنه مسح على جوربين أسفلهما جلود وأعلاهما خز اهـ. وتعقبه العلامة علاء الدين المارديني في الجوهر النقي بقوله: الحديث أي حديث المغيرة، ورد بعطف النعلين على الجوربين وهو يقتضي المغايرة، فلفظه مخالف لهذا التأويل، وكون أنس مسح على الجوربين منعلين لا يلزم منه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك، فلا يدل فعل أنس على تأويل الحديث بما لا يحتمله لفظه اهـ.

وقال ابن الهمام في فتح القدير في رد هذا التأويل: إن تخصيص الجواز بوجود النعل حينئذ قصر للدليل أعني الحديث والدلالة عن مقتضاه بغير سبب اهـ أي بغير ما يدعو له من لفظه ولا من مقتضاه، فإن صريحه أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين، وعلى النعلين كلا على انفراده، وأيده في النعلين أحاديث كثيرة في دواوين السنة:

1 -

فروى الإمام أبو داود في سننه عن أوس بن أبي أوس الثقفي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه وقدميه).

2 -

وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أوس بن أوس قال: رأيت أبي يوما توضأ فمسح على النعلين، فقلت له: أتمسح عليها؟ فقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.

3 -

وأخرج الإمام أحمد أيضا عن أوس قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه، ثم قام إلى الصلاة).

ص: 195

4 -

وأخرج الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره عن أوس أيضا قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم، فتوضأ، ومسح على قدميه" أي نعليه، ليوافق روايته السابقة.

5 -

وأخرج الطبراني عن عباد بن تميم، عن أبيه، قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، ويمسح على رجليه".

6 -

وروى الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره عن حذيفة، قال:"أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قوم، فبال عليها، ثم دعا بماء فتوضأ، ومسح على نعليه".

7 -

وروى البزار بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه، ويمسح عليهما، ويقول: كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل أورده الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الهداية، وقال السيوطي في التدريب: صحح أبو الحسن علي بن محمَّد بن عبد الملك بن القطان صاحب كتاب "الوهم والإيهام" حديث ابن عمر هذا المخرج في مسند البزار.

8 -

روى البيهقي بإسناد جيد عن ابن عمر، قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها يعني النعال السبتية، ويتوضأ فيها، ويمسح عليها"، نقله الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الهداية.

9 -

وروى الشيخان البخاري، ومسلم، عن عبيد بن جريج، عن عبد الله بن عمر، أنه قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس السبتية التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها، فأحب أن ألبسها".

ومعنى قوله: يتوضأ فيها أنه يمسح عليها كما أوضحته رواية البزار، والبيهقي قبل، والروايات يفسر بعضها بعضا.

ص: 196

وأما قول البخاري: معناه غسل الرجلين في النعلين، فرده الحافظ،

والإسماعيلي، كما نقله العيني، وذلك لمخالفته لما روى عن ابن عمر نفسه.

10 -

وروى الدارمي في مسنده عن عبد خير قال: "رأيت عليا توضأ، ومسح على نعلين، فوسع، ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما".

11 -

وروى ابن خزيمة من طريق عبد خير عن علي رضي الله عنه أنه دعا بكوز من ماء، ثم توضأ وضوءا خفيفا، ومسح على نعليه، ثم قال "هكذا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم للطاهر ما لم يحدث، وتبعه ابن حبان على ذلك، وقال في حديث أوس المتقدم: هذا كان في النفل.

فهذه الآثار كلها تدل على أن المسح على النعلين إنما كان عليها دون شيء آخر معها كجورب. وجميعها يفسر حديث المغيرة بما ذكرناه قبل، ولهذا اتفقوا على عدم اشتراط النعل في الجوربين، وجوزوا كونهما ثخينين، وإن لم يكونا منعلين كما سيأتي، فسقط ما قاله النيسابوري، وكذا غيره.

الشبهة الخامسة:

ما ورد على حديث أبي موسى الأشعري فقد قال أبو داود في سننه:

روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه مسح على الجوربين" وليس بالمتصل، ولا بالقوي، قال السندي في حواشيه على أبي داود قوله: وليس بالمتصل، أي لأنه من رواية الضحاك بن عبد الرحمن، عن أبي موسى، ولم يثبت سماعه منه وقوله: ولا بالقوي، أي لأنه من رواية عيسى بن سنان، عن الضحاك، وقد ضعفه أحمد، وابن معين،

ص: 197

وأبو زرعة، والنسائي، وغيرهم. اهـ، وقال الحافظ ابن حجر: حديث أبي موسى الذي أشار إليه أبو داود أخرجه ابن ماجه، وفي إسناده ضعف، وانقطاع، كما قال أبو داود اهـ.

والجواب: ما قاله العلامة المحقق علاء الدين المارديني في الجوهر النقي في الرد على البيهقي: من أن التضعيف بعدم ثبوت سماع الضحاك من أبي موسى هو على مذهب من يشترط للإتصال ثبوت السماع قال: ثم هو معارض بما ذكره عبد الغني فإنه قال في الكمال: سمع الضحاك من أبي موسى. قال: وابن سنان وثقه ابن معين، وضعفه غيره. وقد أخرج الترمذي في الجنائز حديثا في سنده عيسى بن سنان هذا وحسنه. اهـ.

وقال الذهبي في الميزان: هو -أي ابن سنان- ممن يكتب حديثه.

قال: وقواه بعضهم، وقال العجلي: لا بأس به اهـ وبالجملة وإن وجد من ضعفه فقد وجد من وثقه. ومن الأئمة من لا يترك حديث المضعف حتى يجمعوا على تركه. ولا يقال: إن الجمهور على أن الجرح مقدم على التعديل لأنه مقيد بأن يكون الجرح مفسرا لا مجملا، وبأن يُبنَى على أمر مجزوم به لا بطريق اجتهادي كما قاله الإمام ابن دقيق العيد، ونقله عنه السيوطي في التدريب

(1)

فالمسألة تحتاج إلى دقة، فإنها ليست على إطلاقها كما توهم. ومع ذلك فقد يتأيد الحديث ويعضد بأن يروى من وجه آخر بلفظه، أو معناه، وقد وجد مروي أبي موسى هذا بلفظه في حديث المغيرة، وبمعناه في حديث ثوبان في التساخين، فأصبح من الحسن لغيره، وهو كالحسن لذاته، وكلاهما يعمل به ويحتج بمقتضاه. انظر مطولات المصطلح.

(1)

ص 113.

ص: 198

وبالجملة فمهما أعلت هذه الأحاديث بما أعلت به من انقطاع، أو شذوذ فقد تبين: بما برهنا عليه أن منها الصحيح لذاته على قول الترمذي، كما تقدم، ومنها الصحيح لغيره. وقد نبه في الأصول على أن الحديث المعلل إذا عضده ضعيف، أو قول صحابي، أو فعله، أو قول الأكثر من العلماء، أو قياس، أو انتشار له من غير نكير، أو عمل أهل العصر على وفقه كان المجموع حجة؛ لأنه يحصل من اجتماع

الضعيفين قوة مفيدة للظن. انظر جمع الجوامع وشرحه في بحث المرسل، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.

بيان أن الجورب معروف في اللغة والشرع لا سبيل إلى صرفه إلى غير المعروف

في المصباح: والجورب فوعل وهو معرب، والجمع جواربه بالهاء، وربما حذفت، اهـ فلم يحده لأنه بديهي معروف لكل أحد، ولا حد للبديهيات. وفي القاموس وشرحه مثله، وقال أبو بكر بن العربي: الجورب: غشاآن للقدم من صوف يتخذ للوقاء اهـ وفي التوضيح: للحطاب المالكي: الجوارب: ما كان على شكل الخف من كتان، أو قطن، أو غير ذلك، وفي الروض المربع للبهوتي الحنبلي الجورب ما يلبس في الرجل على هيئة الخف من غير الجلد. اهـ.

وقال العيني: الجورب هو الذي يلبسه أهل البلاد الشامية الشديدة البرد، وهو يتخذ من غزل الصوف المفتول يلبس في القدم إلي ما فوق الكتب. انتهى، وقال الحلبي في شرح المنية: الجورب ما يلبس في الرجل لدفع البرد ونحوه مما لا يسمى خفا ولا جرموقا اهـ. والجورموق: قال الفقهاء هو الموق، وهو كما في القاموس: خف غليظ يلبس فوق الخف وقال ابن سيده والموق ضرب من الخفاف. وقال الجوهري: الموق:

ص: 199

خف قصير يلبس فوق الخف، فارسي معرب.

ومثل الجورب لا يحتاج إلى أن يعضد معناه اللغوي والشرعي المعروف لكل أحد بنقل العلماء في معناه، لأنه من باب توضيح الواضحات، ولكن دعانا لهذا ما رأيناه في بعض الكتب من زعم أن الجورب خف يلبس على الخف إلى الكتب للبرد، ولصيانة الخف الأسفل من الدرن والغساله.

وتقييد آخر له بكونه من جلد، وهذا غلط على اللغة، والعرف، والفقه، أيضا؛ لأن هذا المزعوم هو الجرموق لا الجورب. ومن الغريب قول الجزولي من فقهاء المالكية: اختلف في الجورب والجرموق هل هما اسمان لمسمى واحد؟ وكأن الاختلاف ما نقل في التوضيح أن الإمام مالكا رضي الله عنه فسر الجر موق بأنه جورب مجلد من تحته ومن فوقه، فتوهم منه أن الجورب لا يكون إلا كذلك مع أن الجورب إذا جلد على هذه الصفة وسمى جرموقا لا يلزم منه أن يكون كل جورب جرموقا؛ لأن الجورب يشمل الجلد وغيره لولا شموله لما احتيج إلى تقييده إذا أريد به نوع خاص.

وبالجملة فاللغة والعرف على أن الجورب هو مطلق ما يلبس في الرجل من غير الجلد منعلا كان أو لا.

ومن المقرر أن كل اسم ورد منصوصا عليه في الكتاب أو السنة وعلق عليه حكم من الأحكام فإنه يجب أن لا يوقع ذلك الحكم إلا على ما اقتضاه ذلك الاسم وأن لا يتعدى به الوضع الشرعي فيه، وبالله التوفيق.

ص: 200

ذكر من روي عنه المسح على الجوربين من الصحابة رضي الله عنهم

قال الإمام أبو داود في سننه (في باب المسح على الجوربين ومسح على الجوربين: علي بن أبي طالب، وابن مسعود، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وعمرو بن حريث. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عباس. اهـ وزاد في شرح الإقناع: عمارا، وبلالا، وابن أبي أوفى رضي الله عنهم.

فالجملة أربعة عشر صحابيا، وكذا المغيرة، وأبو موسى لروايتهما المتقدمتين، فكان المجموع ستة عشر صحابيا. وقد أسند ابن حزم في المحلى إلى بعض من سميناهم فعل المسح، وعبارته: "والمسح على كل ما لبس في الرجلين مما يحل لباسه مما يبلغ فوق الكعبين سنة، سواء كانا خفين أو جوربين، إذا لبس على وضوء جاز المسح عليه للمقيم يوما وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، ثم لا يحل له المسح. وبعد أن خرج أحاديث المسح على الجوربين قال: وممن قال بالمسح على الجوربين جماعة من السلف. ثم أسند عن كعب بن عبد الله قال: رأيت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بال، فسمح على نعليه وجوربيه. وعن أبي الجُلَاس

(1)

عن ابن عمر أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه. وعن إسماعيل، عن أبيه قال: رأيت البراء بن عازب يمسح على جوربيه ونعليه. وعن إبراهيم بن همام بن الحارث، عن أبي مسعود البدري أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه، وعن عاصم الأحول قال: رأيت أنس ابن مالك مسح على جوربيه. وعن ابن عمر قال: بال عمر بن الخطاب يوم جمعة، ثم توضأ، ومسح على الجوربين، والنعلين، وصلى بالناس

(1)

بضم الجيم وتخفيف اللام.

ص: 201

الجمعة، وعن أبي وائل، عن أبي مسعود أنه مسح على جوربين له من شعر، وعن يحيى البكَّاء، قال: سمعت ابن عمر يقول: المسح على الجوربين كالمسح على الخفين.

ما روي عن أعلام الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من جواز المسح على الجوربين، وإن كانا رقيقين

قال الإمام النووي في شرح المهذب: وحكى أصحابنا (الشافعية) عن عمر، وعلي رضي الله عنهما جواز المسح على الجورب، وإن كان رقيقا. وحكوه عن أبي يوسف، ومحمد، وإسحاق، وداود، ثم قال النووي: واحتج من أباحه وإن كان رقيقا بحديث المغيرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على جوربيه، ونعليه" وعن أبي موسى مثله مرفوعا انتهى كلامه، وفيه من الزيادة عن ما قبله التصريح بالجواز عنهم، ولو كان يفهم ذلك من إطلاق المأثور، قيل لأن الأصل في المطلق حمله على

مطلقه حتي يود ما يقيده، كما أن العام له حكمه حتى يخصصه دليل، وسيأتي إيضاح ذلك مما قاله الإمام ابن حزم عليه الرحمة والرضوان.

بيان أن أقوال الصحابة، وفتاويهم أولى بالأخذ من غيرها والرد على من زعم رفع ثقته بالمأثور عنهم

هذا بحث عظيم يجب على كل من شدا

(1)

طرفا من العلم أن يلقي السمع إليه، ذلك لأن كثيرا من الناس إذا ذكر له مذهب صحابي في مسألة مَّا تراه لا يرفع له رأسا، اتكاء على أنه ليس ممن لقن العمل به، وربما تطاول فقال: إنه ليس ممن دون مذهبه. ولما كان هذا مما لا يستهان به في الدين، إذ مثل هذا القول منكر عند الراسخين وجب إزاحة اللبس فيه إرشادًا للمتقين.

(1)

أي جمع قطعة منه.

ص: 202

وذلك لأن الصحابة رضوان الله عليهم في المقام الأسنى، والمحل الأعلى في كل علم وعمل، وفضل، ونبل.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين) كما أن الصحابة سادة الأمة، وأئمتها وقادتها فهم سادات المفتين والعلماء، قال مجاهد العلماء أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم، ونقل رحمه الله عن الشافعي، أنه قال في الصحابة: هم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل، وأمر استدرك به علم، وأراؤهم لنا أحمد، وأولى بنا من رأينا

الخ.

إذا علمت هذا تبين لك أن ما جاء في (جمع الجوامع) للسبكي من أن في تقليد الصحابي قولين: أحدهما المنع لارتفاع الثقة بمذهبه إذ لم يدون، وعزو شارحه ذلك لإمام الحرمين الجويني، والمحققين (يعني مقلدة الجويني وأتباعه) كلام مجمل لا يغتر بظاهره، ويؤخذ من كلام غير واحد من الأئمة رده بل السبكي نفسه رد ذلك وقال كما نقله عنه الزركشي وتراه في حواشيه: إن تحقق ثبوت مذهبه أي الصحابي جاز تقليده اتفاقا.

وقد سئل العز بن عبد السلام عمن صح عنده مذهب أبي بكر، أو غيره من علماء الصحابة في شيء فهل يعدل إلى غيره، أم لا؟ فأجاب بأنه إذا صح عن أحد من الصحابة مذهب في حكم من الأحكام، فلا يجوز العدول عنه إلا بدليل أوضح من دليله. قال: ولا يجب على المجتهدين تقليد الصحابة في مسائل الخلاف، بل لا يحل ذلك في وضوح أدلتهم على أدلة الصحابة اهـ.

وقال ابن تيمية في بعض فتاوبه: وأما أقوال الصحابة فإن انتشرت، ولم تنكر في زمانهم، فهي حجة عند جماهير العلماء، وإن تنازعوا رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة

ص: 203

بعضهم له باتفاق العلماء، وإن قال بعضهم قولا، ولم يقل بعضهم بخلافه، ولم ينتشر، فهذا فيه نزاع، وجمهور العلماء يحتجون به كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في المشهور عنه، والشافعي في أحد قوليه.

والنصوص في العناية بأقوال الصحابة أوفر من أن تحصر، نقول هذا تمهيدا للأقوال المأثورة في المسح على الجوربين في كتاب السنن لأبي داود وغيره، فإنها حجة في هذا الباب على كل من خالف كيف كان حالها، لأنها على ما فصله ابن تيمية، وقرره الأصوليون- إما منتشرة غير منكرة وما كان كذلك فهو حجة باتفاق، وإما أنها قال بها بعضهم ولم ينتشر ما يخالفه، والجمهور يحتجون بذلك، وقد علم أنه ليس ثَمَّ مخالف فينتشر قوله إذ لم يرد عنهم فيه إلا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو عملهم به على ما عرفت من روايات متعددة.

ومن الجلي في باب الأحكام أن حكما بلغ عدد رواته والقائلين به والعاملين به ستة عشر لو كانوا من طبقة غير الصحابة لما توقف في قبوله فكيف وكلهم من طبقة الصحابة عليهم رحمة الله ورضوانه.

هذا كله على فرض أنه لم يرو في الباب- أي باب المسح على الجوربين إلا قولهم فقط، وإلا فقد قدمنا ما رُوي فيه من الأحاديث التي هي الحجة في هذا الباب والمرد عند التنازع (وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل).

وإنما هذه الجملة ينبغي أن ينتبه لها الذين يأبون إلا التقليد ليعلموا أن من آثر التقليد فالأحرى به تقليد الصحابة لأنهم الأعلم، وأجمع الأصوليون على أنه يقدم. في باب التقليد- الأعلم.

قال ابن القيم في إعلام الموقعين: فلا يدرى ما عذر المقلد في ترجيح أقوال غير الصحابة على أقوالهم، فكيف إذا منع الأخذ بقول الصحابة، فكيف إذا صار يرمي بالابتداع من عمل بها؟ لا جرم أنه أخذ بالمَثَل

ص: 204

المشهور: رمتني بدائها، وانسلت اهـ.

وأما شبهة عدم الوثوق بما يؤثر مذهبا للصحابة إذ لم يدون مذهبهم فأوهى من بيت العنكبوت، لأن كلامنا فيما نقل عنهم في الكتب الموثوق بها المتداولة في الأيدي من كتب السنة، والفقه، لا سيما الصحيحان وكتب السنن، فقد حفظت من الزيادة والنقص بقوة العناية بها شرحا وضبطا ووفرة النسخ المخطوطة المعلم عليها بسماعات الحفاظ في معظم المكتبات مما لا يوجد نظيره في كتب أئمة الفقه المشهورة مذاهبهم.

ولا ريب أن ذلك من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قيض الله لسنته من حفظها كما فعل ذلك بتنزيله الكريم، وله الحمد والمنة.

على أن المعول عليه منذ انتشر التأليف والتصنيف هو النقل عن الموجود الذي تثق به النفس -سواء كان مقابلا كله على أصله أو لا- ما دام يغلب على الظن صحته ويطمئن له القلب، هو المسمى بالوجادة ولذا اعترض الإمام المقبلي في العلم الشامخ على تصريحهم بعدم اعتماد الوجادة بأن هذا يناقضه، إذ هو أي قولهم المذكور- وجادة ليس إلا، قال: وأما الوثوق فهو شرط في كل طريق اهـ.

بل على الوجادة المذكورة اعتماد القضاة والمفتين، والمستنبطين، إذ يتعذر إسناد كل كتاب إلى مؤلفه وضبطه عنه بالسماع والقراءة في كل الطبقات، على أن كتب الحديث وجد فيها من الضبط، والتلقي، والشرح لها، وتعداد نسخها المصححة تفاخرا بقراءتها وتشرفا بسماعها وتلقيها والإجازة لها ما لم يوجد عشر عشره في مؤلفات الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولو أريد نسخ كتاب من مؤلفات الأئمة، أو طبعه يحول دون الظفر بنسخ كاملة منه ما يحول، ولا يرى غالبا بعد التنقيب إلا أجزاء متفرقة أو نسخة مخرومة، مع أن حق مقلدة أئمتها أن ينسخوا

ص: 205

منها في كل قرن الألوف وأن يخدموها بالقراءة والإقراء والنشر والشروح ولقد حرصت مرة على أن أظفر بنسخة مخطوطة من رسالة الإمام الشافعي، أو بشرح لها لأقابل بها المطبوعة وأنسخ الشرح فلم أجد لها من أثر في مكتبة من مكاتب القطر الشامي، أين هذا من من نسخ كتب الصحيحين والسنن المخطوطة التي ملأت منها مكاتب الدنيا، ولا يعيي الظفر بجيداتها على طالب ما. أفليس الوثوق إذن بكتب السنة وما فيها من المرفوع والموقوف (وهو أقوال الصحابة وفتاويهم) أقوى في النفس من غيرها؟ اللهم فَبَلَى.

ومما يؤيد ما قدمنا في الوجادة ما في تدريب الراوي للسيوطي شرح تقريب النواوي في أواخر بحث الصحيح

(1)

وعبارته: عن الإمام ابن برهان في الأوسط ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لا يتوقف العمل بالحديث على سماعه، بل إذا صح عنده النسخة جاز له العمل بها وإن لم يسمع، وحكى الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني الإجماع على جواز النقل من الكتب المعتمدة، وأنه لا يشترط اتصال السند إلى مصنفيها. وقال إلكيا الطبري في تعليقه: من وجد حديثا في كتاب صحيح جاز له أن يرويه ويحتج به.

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في جواب سؤال: وأما الاعتماد في كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها فقد اتفق العلماء في هذا العصر على جواز الاعتماد عليها، والاستناد إليها؛ لأن الثقة قد حصلت بها كما تحصل بالرواية، ولذلك اعتمد الناس على الكتب المشهورة في النحو، واللغة، والطب، وسائر العلوم، لحصول الثقة بها وبُعْد التدليس اهـ.

فتأمل أقوال الأئمة علي اعتماد ما في كتب الفقه، وغيرها تعلم أنه إذا

(1)

ص 49.

ص: 206

وجد فيها نقل عن صحابي، أو حكايته مذهب له أنه يوثق به، ويعمل به بلا ارتياب، ويكون أولى من غيره في باب التقليد لمن شاءه، فافهم، ولا تكن أسير التقليد.

من روي عنه المسح على الجوربين من التابعين

لا يخفى أنه إذا لم يوجد في مسألة أثر مرفوع، ولا موقوف، ووجد للتابعين قول، أو فتوى في شأنها كان ذلك مما يعتبر، أو يؤثر لا سيما في باب تقليد الأعلم والأفضل عند المقلدة، وقد روى محمَّد بن سعد أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال للحسن: أرأيت ما تفتي به الناس، أشيء سمعته، أم رأيك؟ فقال الحسن: لا والله ما كل ما نفتي به سمعناه، ولكن رأينا لهم خير من رأيهم لأنفسهم اهـ.

وقد روي عن التابعين في المسح على الجوربين عدة آثار: أخرج الإمام ابن حزم رضي الله عنه في كتابه "المحلى" عن قتادة، عن سعيد ابن المسيب، قال: الجوربان بمنزلة الخفين في المسح، وعن ابن جريج، قلت لعطاء: أيمسح على الجوربين قال: نعم امسحوا عليهما مثل الخفين وعن إبراهيم النخعي أنه كان لا يرى بالمسح على الجوربين بأسا. وعن الفضل بن دكين قال: سمعت الأعمش وسئل عن الجوربين: أيمسح عليهما من بات فيهما؟ قال: نعم. وعن قتادة عن الحسن وخلاس بن عمرو أنهما كانا يريان الجوربين في المسح بمنزلة الخفين، ثم عدّ من التابعين سعيد بن جبير ونافعا (ثم قال ابن حزم): وهو قول سفيان الثوري، والحسن بن حي، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وأبي ثور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وداود بن علي (الظاهري) وغيرهم اهـ.

ص: 207

بيان أقوال الفقهاء المشهورين في المسح على الجوربين مذهب المالكية في المسح على الجوربين

قال الإمام ابن القاسم في المدونة: كان مالك يقول في الجوربين يكونان على الرجل وأسفلهما جلد مخروز، وظاهرهما جلد مخروز: أنه يمسح عليهما. ثم رجع فقال: لا يمسح عليهما. قال ابن القاسم: وقوله الأول أحب إلى إذا كان عليهما جلد كما وصفت لك. اهـ قال ابن يونس: وهو أي قول مالك الأول- الصواب؛ لأنه إذا كان عليه جلد مخروز يبلغ الكعبين فهذا كالخف (نقله المواق في التاج والإكليل). وفي اختيار ابن القاسم القول الذي رجع عنه إمامه مالك، وتصريحه بأنه أحب إليه. وقول ابن يونس: إنه الصواب أكبر اعتبار في أن أصحاب الأئمة، كانوا يتجافون التقليد البحت، ولا يعولون إلا على الدليل، ويصبح ذلك مذهبا لهم في الحقيقة. وهكذا كان أمر صاحبي أبي حنيفة معه. وهكذا أصحاب الشافعي، فإن المزني كثيرا ما ينفرد بقول عن أستاذه الشافعي. وقد نقل النووي في آخر شرح خطبة المهذب عن إمام الحرمين أن المزني إذا انفرد برأي، فهو صاحب مذهب وقد اختار كثير من أصحاب الشافعي بعض مسائله التي رجع عنها، وأفتوا بها بعده. قال إمام الحرمين: المرجوع عنه ليس مذهبا للراجع، فإذا علمت حال القديم، ووجدنا أصحابنا أفتوا بهذه المسائل على القديم حملنا ذلك على أنه أداهم اجتهادهم إلى القديم لظهور دليله، وهم مجتهدون فأفتوا به اهـ فتأمل قوله: وهم مجتهدون، تعلم غلط ما يهرف به البعض من أنهم مجتهدون في المذهب، لا مطلقًا، فإنهم مجتهدون على الإطلاق، وليس كل مجتهد ذا أتباع، ومذهب مدون، على أنه لو خرج على قواعد الإمام لم يكن مذهبا له. قال الإمام النووي: وقد سبق اختلافهم في أن المخرج هل ينسب إلى الشافعي؟ والأصح أنه لا ينسب اهـ.

ص: 208

ما روي عن الإمام الشافعي، وأصحابه في المسح على الجوربين

قال الإمام الترمذي في سننه (في باب المسح على الجوربين والنعلين) ما مثاله: وهو (أي المسح على الجوربين) قول غير واحد من أهل العلم وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد،

وإسحاق، قالوا: يمسح على الجوربين، وإن لم يكونا منعلين، إذا كانا ثخينين اهـ.

ومعلوم أن الإمام الترمذي روى عن أصحاب الإمام الشافعي، ولذا قال في آخر كتابه السنن: ما كان فيه من قول الشافعي فأكثره ما أخبرني به الحسن بن محمَّد الزعفراني، عن الشافعي، وما كان من الوضوء، والصلاة، فحدثنا به أبو الوليد المكي، عن الشافعي، ومنه ما حدثنا أبو إسماعيل، قال: حدثنا يوسف بن يحيى القرشي البويطي، عن الشافعي، وذكر فيه أشياء عن الربيع، عن الشافعي، وقد أجاز لنا الربيع ذلك، وكتب به إلينا اهـ. وقال الإمام الشيرازي في المهذب: وإن لبس جوربا جاز المسح عليه بشرطين:

أحدهما: أن يكون صفيقا، لا يشف.

والثاني: أن يكون منعلا.

قال شارحه النووي وهكذا قطع به جماعة منهم الشيخ أبو حامد، المحاملي، وابن الصباغ، وغيرهم، ونقل المزني أنه لا يمسح على الجوربين إلا أن يكونا مجلدي القدمين، ثم قال النووي والصحيح، بل الصواب ما ذكره القاضي أبو الطيب القفال وجماعات من المحققين أنه إن أمكن متابعة المشي جاز كيف كان، وإلا فلا. اهـ.

ص: 209

مذهب الحنفية

قال الإمام الكاساني في بدائع الصنائع: وأما المسح على الجوربين فإن كانا مجلدين، أو منعلين يجزيه بلا خلاف عند أصحابنا، وإن لم يكونا مجلدين ولا منعلين، فإن كانا رقيقين يشفان الماء، لا يجوز المسح عليهما بالإجماع، وإن كانا ثخينين، لا يجوز عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد يجوز. ورُويَ أنه مسح على جوربيه في مرضه، ثم قال لعواده: فعلت ما كنت أمنع الناس منه. فاستدلوا به على رجوعه، ثم قال: احتج أبو يوسف، ومحمد بحديث المغيرة بن شعبة "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح علي الجوربين"، ولأن الجواز في الخف لرفع الحرج لما يلحقه من المشقة بالنزع، وهذا المعنى موجود في الجورب اهـ.

مذهب الحنابلة

في الإقناع وشرحه: ويصح المسح على جورب صفيق أو غيره وإن كان غير مجلد أو منعل، أو كان من خرق وأمكنت متابعة المشي عليه. ثم قال: وحديث المغيرة "مسح صلى الله عليه وسلم على الجوربين والنعلين" يدل على أنهما كانا غير منعلين؛ لأنه لو كانا كذلك لم يذكر النعلين؛ لأنه

لا يقال: مسح على الخف ونعله اهـ.

ما قاله الإمام ابن رشد المالكي

قال رحمه الله في كتابه (بداية المجتهد): واختلفوا في المسح على الجوربين، وسبب اختلافهم اختلافُهُم في صحة الآثار الواردة عنه عليه الصلاة والسلام أنه مسح على الجوربين، والنعلين، واختلافهم أيضا هل يقاس على الخف غيره، أم هي عبادة لا يقاس عليها، ولا يتعدى بها محلها، فمن لم يصح عنده الحديث، أو لم يبلغه، ولم ير القياس على الخف قصر المسح عليه، ومن صح عنده الأثر، وجواز القياس على الخف أجاز المسح على الجوربين اهـ.

ص: 210

عادة ابن رشد في كتابه المذكور إيضاح مدارك المجتهدين، إلا أن كل مسألة تعددت فيها الدارك وتشعبت عنها الأقوال فالحق في واحد منها قطعا، وهو ما صح برهانه، وقوي مدركه. وقد صح البرهان هنا في المسح على الجوربين، وقوي مدركه بما نقلناه قبل، وننقله بعد، ولذا قال الإمام النووي في حديث صوم ست من شوال في مسلم في رده على الإمام مالك في كراهتها ما مثاله: إذا ثبتت السنة تترك، لترك بعض الناس، أو أكثرهم أو كلهم لها اهـ. وهكذا يقال في المسح على الجوربين ولا يترك بعد ثبوته لخلاف من خالف، ولقياس من قاس لأنه لا اجتهاد في مقابلة نص ونبرأ إلى الله من دفع النصوص بالأقيسة والآراء.

قال الإمام ابن القيم: من لم يقف مع النصوص، فإنه تارة يزيد في النص ما ليس منه، ويقول هذا قياس، ومرة ينقص منه بعض ما يقتضيه ويخرجه عن حكمه، ويقول هذا تخصيص، ومرة يترك النص جملة، ويقول: ليس العمل عليه. أو يقول هذا خلاف القياس، أو خلاف الأصول. ثم قال: ونحن نرى أنه كلما اشتد توغل الرجل في القياس اشتدت مخالفته للسنن، ولا نرى خلاف السنن والآثار إلا عند أصحاب الرأي والقياس، فلله كم من سنة صحيحة صريحة قد عطلت به، وكم من أثر درس حكمه بسببه، فالسنن والآثار عند الآرائيين، والقياسيين خاوية على عروشها، معطلة أحكامها، معزولة عن سلطانها، وولايتها، لها الاسم، ولغيرها الحكم، وإلا فلماذا ترك حديث المسح على الجوربين (إلى آخر ما قاله، وعدده فانظره) أي مع أنه ثبت في السنة بل اقتضاه القياس أيضا كما ستراه في كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

ص: 211

مذهب الظاهرية

قال الإمام ابن حزم نور الله مرقده في كتابه المحلى: اشتراط التجليد لا معنى له؛ لأنه لم يأت به قرآن، ولا سنة، ولا قياس، ولا قول صاحب، والمنع من المسح على الجوربين خطأ لأنه خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاف الآثار، ولم يخص عليه السلام في الأخبار التي ذكرنا خفين من غيرهما اهـ.

يؤيده أن كل المروي في المسح على الجوربين مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه قيد ولا شرط، ولا يفهم ذلك لا من منطوقه، ولا من مفهومه، ولا من إشارته، وجلي أن النصوص تحمل على عمومها إلى ورود مخصص، وعلى إطلاقها حتى يأتي ما يقيدها، ولم يأت هنا مخصص ولا مقيد لا في حديث ولا أثر، هذا أولا، وثانيا قدمنا أن الإمام أبا داود روى في سننه عن عدة من الصحابة المسح على الجوربين مطلقا غير مقيد كما قدمناه وهكذا كل من نقل عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين المسح على الجوربين لم يروه بقيد ولا شرط مما يدل على أن تقييده لم يكن معروفا في عصرهم التي هي خير القرون، وثالثا الجورب بين بنفسه في اللغة والعرف، كما نقلنا معناه عن أئمة اللغة، والفقه، ولم يشترط أحد في مفهومه، ومسماه نعلا ولا ثخانة. وإذا كان موضوعه في الفقه، واللغة مطلقا، فيصدق بالجورب الرقيق، والغليظ وغيره، والله أعلم.

ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية

قال رحمه الله في فتاويه: يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما سواء كانت مجلدة، أو لم تكن في أصح قولي العلماء، ففي السنن "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على جوربيه ونعليه" وهذا الحديث إذا ثبت

ص: 212

فالقياس يقتضي ذلك، فإن الفرق بين الجوربين والنعلين إنما هو كون هذا من صوف، وهذا من جلود، ومعلوم أن مثل هذا الفرق غير مؤثر في الشريعة، فلا فرق بين أن يكون جلودا، أو قطنا، أو كتانا، أو صوفا، كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه، وغايته أن الجلد أبقى من الصوف، فهذا لا تأثير له، كما لا تأثير لكون الجلد قويا، بل يجوز المسح على ما يبقى، وما لا يبقى. وأيضا فمن المعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا كالحاجة إلى المسح على هذا سواء، ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقا بين المتماثلين، وهذا خلاف العدل، والاعتبار الصحيح الذي جاء به الكتاب والسنة وما أنزل الله به من كتبه وأرسل به رسله، ومن فرق يكون هذا ينفذ الماء منه، وهذا

لا ينفذ منه فقد ذكر فرقا طرديا عديم التأثير، ولو قال قائل: يصل الماء إلى الصوت أكثر من الجلد، فيكون المسح عليه أولى للصوق الطهور به أكثر كان هذا الوصف أولى بالاعتبار من ذلك الوصف وأقرب إلى الأوصاف المؤثرة، وذلك أقرب إلى الأوصاف الطردية وكلاهما باطل، وخروق الطعن لا تمنع جواز المسح ولو لم تستر الجوارب إلا بالشد جاز المسح عليها، وكذلك الزربول الطويل الذي لا يثبت بنفسه، ولا يستر إلا بالشد اهـ.

قال رحمه الله في فتوى أخرى: يجوز المسح على الزربول الذي يغطي الكعبين إذا ثبت بنفسه بلا شراع، وإن كان لا يثبت إلا بالتزرير أو السيور يجوز المسح عليه أيضا، فإنه يستر محل الفرض بنفسه، وهكذا الجورب الذي لا يثبت إلا بالخيوط، ولو ثبت بشيء منفصل عنه كالجورب الذي لا يثبت إلا بالنعل فإنه يجوز المسح عليه سواء كان من لبد، أو قطن، أو كتان أو جلود، ولا حاجة إلى اعتبار شروط لا أصل لها في الشرع، ويعود على مقصود الرخصة بالإبطال اهـ. وقال أيضا

ص: 213

في فتوى أخرى: يجوز المسح على اللفائف

(1)

وهو أن يلف على الرجل لفائف من البرد، أو خوف الحفاء، أو من جراح بها، ونحو ذلك، وهي بالمسح أولى من الخف والجورب، فإن تلك اللفائف إنما تستعمل للحاجة في العادة، وفي نزعها ضرر إما بإصابة البرد، أو التأذي بالحفاء وإما التأذي بالجرح، فإذا جاز المسح على الخفين، والجوربين فعلى اللفائف بطريق الأولى اهـ. وقال في خلال فتوى له: معلوم أن البلاد الباردة يحتاج فيها من يمسح التساخين والعصائب وهي العمائم ما لا يحتاج إليه في أرض الحجاز، فأهل الشام والروم ونحو هذه البلاد أحق بالرخصة في هذا، وهذا من أهل الحجاز، ثم قال: فإن منعوا من المسح عليها ضيقوا تضييقا يظهر خلافه للشريعة بلا حجة معهم أصلا. اهـ. كلامه رحمه الله.

الخاتمة

لا يخفى أن الرخص المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي نعمة عظمى في كل حال، وعلى أي حال، وإنما يظهر تمام نعمة تشريعها في بعض الأحوال مثل رخصة المسح علي الجوربين في أيام البرد، وأوقات السفر، وحالات المرض، أو تشقق القدم، أو قشف الرجلين أو تورمهما مما يعرض، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم السَّريِّة الذين شكوا إليه ما أصابهم من البرد أن يسمحوا على العصائب والتساخين كما قدمنا، وقال من صحب عكرمة رضي الله عنه إلى واسط: ما رأيته غسل رجليه، إنما يمسح عليهما حتى خرج منها. رواه ابن جرير في تفسيره، وتقدم عن البدائع للقاساني أن أبا حنيفة رضي الله عنه رجع إلى قول أبي يوسف ومحمد في المسح

(1)

قال القاسمي رحمه الله: اللفائف يشملها عموم حديث ثوبان المتقدم أنه عليه السلام "أمرهم بالمسح على التساخين" وقد أسلفنا أن التساخين لغة كل ما يسخن به القدم فتذكر اهـ.

ص: 214

على الجوربين في آخر عمره، وذلك أنه مسح على جوربيه في مرضه، ثم قال لعواده: فعلت ما كنت أنهى الناس عنه، فاستدلوا به على رجوعه اهـ. ورجوع أبي حنيفة رضي الله عنه من فضله وانصافه، وللمجتهدين من تغير الاجتهاد والرجوع إلى ما فيه قوة وسداد ما عرف عنهم أجمعين وعد من مناقبهم، ومن أكبر العبر في هذه القصة قصة رجوع الإمام أبي حنيفة أن يرجع إمام، ويصرح برجوعه، ويأبى ألد الخصوم الرجوع، للحق، ولو تلي عليه من البراهين ما يلين له الحديد، ويصدع الجلاميد.

ولا غَرْوَ فالأئمة المجتهدون لهم من اللطف، والكمال ومحاسن الأخلاق، والإنصاف، والاعتراف بالحق ما سارت به الركبان. وليعتبر أيضا بالإمام الشافعي لما رحل من العراق إلى مصر، وأعاد البحث في مذهبه القديم كيف رجع عن كثير من مسائله، وعد ذلك من أسمى فضائله، وسبب ذلك التقوى وإيثار الأخرى فإنها تَزعُ المتقي عن إيثار الهوى والدنيا. وهكذا فعل الإمام أبو حنيفة في رجوعه إلى القول بالمسح على الجوربين. وقد يظن قوم أن التشدد في العزائم ومجافاة الرخص من التقوى، وحاشا لله، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا تشددوا على أنفسكم، فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع، والديار، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم". رواه أبو داود. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه". رواه أحمد، والطبراني، وهو حديث صحيح. وعنه صلى الله عليه وسلم:"إن الله تعالى يحب أن تقبل رخصه كما يحب العبد مغفرة ربه" رواه الطبراني بإسناد ضعيف. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته". رواه أحمد، وابن حبان، والبيهقي، عن ابن عمر. وقال صلى الله عليه وسلم:"هلك المتنطعون".

ص: 215

رواه مسلم. نعم يوجد من خيار العباد ذوي الجد والاجتهاد من لا يأخذ إلا بالعزائم، لا زهدا في المأثور، ولا رغبة عن المرخص فيه المبرور، بل تربية للنفس على الأفضل، وأخذا بها إلى الأمثل، والأكمل، وهو ما يسميه الفقهاء بالاحتياط، والخروج من الخلاف إيثارا لما يكون فيه إجماع وائتلاف. وأصله في السنة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تورم قدماه، فقيل له: أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: "أفلا أكون عبد شكورا"؟.

جعلنا الله من عباده الشاكرين، وفقهنا في الدين، وحشرنا مع الذين أنعم عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين والحمد الله رب العالمين. اهـ ما كتبه العلامة محمَّد جمال الدين القاسمي رحمه الله،

ببعض زيادة مما كتبه العلامة الألباني، وهو بحث منقح وتدقيق مصحح، لا يحتاج إلى تعليق، ولا يقبل الاستدراك والتشقيق عند من له إنصاف وتحقيق، والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 216

‌98 - بابُ التَّوْقِيتِ فِي المسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ للْمسَافِرِ

أي هذا باب ذكر ما يدل على التوقيت في المسح على الخفين للمسافر من الحديث.

والتوقيت: مصدر وقَّت الشيء: إذا جعل له حدّا.

قال في المصباح: الوقت مقدار من الزمان مفروض لأمر مّا، وكل شيء قدرت له حينا فقد وقته توقيتا، وكذلك ما قدرت له غاية، والجمع أوقات، وَوَقَّتَ الله الصلاة توقيتا، وَوَقَتَهَا يَقتها من باب وعد: حدد لها وقتا، ثم قيل لكل شيء محدود موقت ومؤقت. اهـ باختصار.

وإنما قدم التوقيت للمسافر موافقة للحديث حيث قدم التوقيت له على التوقيت للمقيم.

126 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، قَالَ: رَخَّصَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ.

127 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرُّهَاوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، وَزُهَيْرٌ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، قَالَ: سَأَلْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ عَنِ

ص: 217

الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَنْ نَمْسَحَ عَلَى خِفَافِنَا، وَلَا نَنْزِعَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ، إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ.

رجال الإسنادين

الإسناد الأول: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد، أبو رجاء الثقفي البغلاني ثقة ثبت 10 تقدم في 1/ 1.

2 -

(سفيان) بن عيينة بن ميمون الهلالي مولاهم، الكوفي ثم المكي الثقة حجة 8 تقدم في 1/ 1.

3 -

(عاصم) بن بَهْدَلَة

(1)

، وهو ابن أبي النجود بنون وجيم الأسدي مولاهم الكوفي، أبو بكر المقرئ صدوق له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في الصحيحين مقرون، من السادسة، قال ابن سعد: كان ثقة، إلا أنه كان كثير الخطأ في حديثه. وقال أحمد: كان رجلا صالحا قارئًا للقرآن، وكان خيرًا ثقة. وقال ابن معين: لا بأس به. وقال العجلي: كان صاحب سنة وقراءة، وكان رأسا في القراءة. وقال أبو زرعة: ثقة، وقال أبو حاتم: محله الصدق صالح الحديث. وقال النسائي: لا بأس

به. وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه اضطراب، وهو ثقة. وقال العقيلي: لم يكن فيه إلا سوء الحفظ. وقال الدارقطني: في حفظه شيء. مات سنة 128 (ع).

4 -

(زر) بكسر أوله، وتشديد الراء بن حُبيش بمهملة وموحدة

(1)

بفتح الباء وسكون الهاء، وهي أمه، وقيل: أبوه قاله ابن أبي داود أفاده في الخلاصة.

ص: 218

ومعجمة مصغرًا ابن حُبَاشَة -بضم المهلمة بعدها موحدة، ثم معجمة- ابن أوس بن بلال، وقيل: هلال. أبو مريم. ويقال: أبو مطرف الكوفي مخضرم أدرك الجاهلية. وثقه ابن معين، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. مات سنة 1 أو 2 أو 83، وهو ابن 127 سنة (ع). وفي (ت) ثقة جليل مخضرم.

5 -

(صفوان بن عَسَّال) بمهملة، المرادي صحابي معروف نزل الكوفة (ت س ق) وفي تهذيب التهذيب: الجَمَلي، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، وروى عنه، وسكن الكوفة، وروى عنه زر بن حبيش، وعبد الله بن سلمة المرادي، وحذيفة بن أبي حذيفة، وأبو الغريف، وعبد الله بن خليفة وغيرهم. اهـ، أخرج له الترمذي، والمصنف، وابن ماجه.

الإسناد الثاني: فية عشرة

1 -

(أحمد بن سليمان) بن عبد الملك، أبو الحسين الرُّهاوي، ثقة حافظ من الحادية عشرة، مات سنة 261 (س). تقدم في 38/ 42.

(الرهاوي) بضم الراء وفتح الهاء، وآخره واو: نسبة إلى مدينة من بلاد الجزيرة ينسب إليها كثير من العلماء قاله في اللباب ج 2 ص 45.

2 -

(يحيى بن أدم) بن سليمان، الكوفي، أبو زكريا، مولي بني أمية ثقة حافظ فاضل من كبار التاسعة، مات سنة 203 (ع).

3 -

(سفيان الثوري) الإمام العلم الثقة الحجة تقدم غير مرة.

4 -

(مالك بن مغول) بكسر أوله، وسكون المعجمة، وفتح الواو، ابن عاصم بن غزية بن حارثة بن حديج بن بجيلة البجلي، أبو عبد الله الكوفي، قال أحمد: ثقة ثبت. ووثقه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي وغيرهم. وفي "ت" ثقة ثبت، من كبار السابعة، مات سنة 159، على الصحيح. (ع)

ص: 219

5 -

(زهير) بن معاوية بن حديج، أبو خيثمة الجعفي الكوفي نزيل الجزيرة ثقة ثبت الا أن سماعه عن أبي إسحاق بآخره من السابعة، مات سنة 2، أو 3 أو 174، وكان مولده سنة 100، (ع). تقدم 38/ 42.

6 -

(أبو بكر بن عياش) بتحتانية، ومعجمة ابن سالم الأسدي الكوفي المقرئ الحناظ بمهملة ونون مشهور بكنيته، والأصح أنها اسمه، وقيل: اسمه محمَّد، أو عبد الله، أو سالم، أو شعبة، أو رؤبة أو مسلم، أو خداش، أو مطرف، أو حماد، أو حبيب، عشرة أقوال.

ثقة عابد إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح، من السابعة مات سنة 194، وقيل: قبل ذلك بسنة، أو سنتين، وقد قارب المائة أخرج له مسلم في المقدمة، والباقون

(1)

.

7 -

(وسفيان بن عيينة). 8 - وعاصم، 9 - وزر، 10 - وصفوان هم الذين تقدموا في السند الأول.

لطائف الإسنادين

منها أن الأول: عال لأنه خماسي، والثاني نازل لأنه سداسي.

ومنها أنهم ثقات غير عاصم، فصدوق له أوهام، وابن عياش، فقد ساء حفظه لما كبر.

ومنها أنهم كوفيون إلا شيخيه: فقتيبة بغلاني، وأحمد رهاوي، وفيه من صيغ الأداء الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث الأول

(عن صفوان بن عسال) المرادي الصحابي رضي الله عنه أنه (قال رخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم) أي يسر علينا. قال في المصباح: والرخصة: التسهيل في الأمر والتيسير، يقال: رخص الشرع لنا في كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا: إذا يسره وسهله اهـ ج 1 ص 224.

(1)

ستأتي له ترجمة مطولة في 112/ 152 أخرت إلى هناك سهوًا.

ص: 220

وقال في شرح مراقي السعود: الرخصة لغة: السهولة واللين والمسامحة، واصطلاحا: الحكم المتغير من حيث تعلقه بالمكلف، من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام سبب الحكم الأصلي، كما إذا تغير من حرمة الفعل، أو الترك إلى الحل.

فخرج بالتغير: ما كان باقيا على حكمه الأصلي، كالصلوات الخمس، وبالسهولة: نحو الحدود والتعازير مع تكريم الآدمي المقتضي للمنع من ذلك، وحرمة الاصطياد بالإحرام بعد إباحته قبله، وبالعذر: ما تغير إلى سهولة لا لعذر، كحل ترك تجديد الوضوء بعد حرمته، وبقيام السبب للحكم الأصلي: النسخُ، كإباحة ترك ثبات الواحد من المسلمين لعشرة من الكفار في القتال بعد حرمته، وسببها قلة المسلمين في صدر الإسلام، وقد زالت لكثرتهم بعد ذلك، وعذرها مشقة الثبات المذكور اهـ ج 1 ص 56.

(-إذا كنا مسافرين أن لا ننزع) يقال: نزعته من موضعه نزعا من باب ضرب: قلعته، وانتزعته مثله، قاله في المصباح.

(خفافنا) بالكسر ككتاب: جمع خف بالضم، أفاده في المصباح

(ثلاثة أيام ولياليهن) منصوب على الظرفية متعلق بننزع أي رخص في حالة كوننا مسافرين، في عدم نزع الخف. مقدار هذه المدة.

شرح الحديث الثاني

(عن زر) بكسر الزاي، ابن حبيش بالتصغير أنه (قال: سألت صفوان بن عسال) المرادي رضي الله عنه (عن) توقيت (المسح على الحفين؟ فقال) مجيبا عن ذلك (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نمسح على خفافنا و) أن (لا ننزعها ثلاثة أيام) أي مع لياليهن، كما هو في الرواية السابقة. قال السندي: ظاهره أن اعتبار المدة من وقت اللبس، لا من وقت المسح، أو الحدث اهـ ج 1 ص 84 (من غائط) متعلق بنزع، أي يأمرنا بأن لا ننزعها من هذه الأشياء الثلاثة قال في المصباح: الغائط:

ص: 221

المُطمَئنّ

(1)

الواسع من الأرض، والجمع غيطان، وأغواط، وغُوط، ثم أطلق الغائط على الخارج المستقذر من الإنسان، كراهة لتسميته باسمه الخاص؛ لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في المواضع المطمئنة، فهو من مجاز المجاورة، ثم توسعوا فيه حتى اشتقوا منه، وقالوا: تغوط الإنسان اهـ. ج 2 ص 457.

وقال في اللسان: الغوط أي بفتح فسكون عمق الأرض الأبعد، ومنه قيل للمطمئن من الأرض: غائط ولموضع قضاء الحاجة غائط؛ لأن العادة أن يقضي في المنخفض من الأرض حيث هو أستر له، ثم اتسع فيه حتى صار يطلق على النجو نفسه، قال أبو حنيفة الدينوري من بواطن الأرض المنبتة الغيطان، الواحد منها غائط، وكل ما انحدر في الأرض، فقد غاط، قال: وقد زعموا أن الغائط ربما كان فرسخا كانت به الرياض ويقال: أتى فلان الغائط، والغائط: المطمئن من الأرض الواسع والتغويط: كناية عن الحدث، والغائط: اسم العذرة نفسها؛ لأنهم كانوا يلقونها بالغيطان، وقيل: لأنهم كانوا إذا أرادوا ذلك أتوا الغائط، وقضوا الحاجة، فقيل مَنْ قضى حاجته: قد أتى الغائط، يكنى به عن العذرة. اهـ ج 7 ص 36.

(وبول) هو الماء الخارج من القبل، وفي المعجم الوسيط: البول: سائل تفرزه الكليتان، فيجتمع في المثانة حتى تدفعه، جمعه أبوال اهـ. ص 177.

يقال: بال الإنسان، والدابة، يبول، بَوْلا، ومَبَالا، فهو بائل، ثم استعمل البول في العين، وجمع على أبوال اهـ المصباح يعني أن البول مصدر استعمل استعمال الأسماء فجمع على أفعال، وقوله: في العين

أي الشيء وهو الماء الخارج من القبل.

(1)

بصيعة اسم الفاعل: المنخفض.

ص: 222

(ونوم) قال في "المعجم الوسيط": النوم فترة راحة للبدن، والعقل، تغيب خلالها الإرادة، والوَعي جزئيا، أو كليا، وتتوقف فيها جزيئا الوظائف البدنية. اهـ ج 2 ص 965.

وقوله: (إلا من جنابة) أي لكن نزعها من جنابة، فالاستثناء منقطع، أو معنى قوله: من غائط وبول ونوم: أي من كل حدث، إلا من جنابة فالاستثناء متصل أفاده السندي.

وحاصل المعنى: أنه رخص لهم في المسح على الخفاف، وعدم نزعها عند الوضوء لأجل الغائط، والبول، والنوم، وأمرهم بنزعها للاغتسال من الجنابة. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث صفوان بن عسَّال رضي لله عنه

المسألة الأولى: في درجته: هو حديث صحيح بشواهده، قال الحافظ في التلخيص: قال الترمذي عن البخاري: حديث حسن، وصححه الترمذي، والخطابي، ومداره عندهم على عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش عنه، وذكر ابن منده أبو القاسم أنه رواه عن عاصم: أكثر من أربعين نفسا، وتابع عاصما عليه عبد الوهاب بن بَخْت وإسماعيل بن أبي خالد، وطلحة بن مصرف، والمنهال بن عمرو ومحمد ابن سوقة، وذكر جماعة معه، ومراده أصل الحديث؛ لأنه في الأصل طويل مشتمل على التوبة، والمرء مع من أحب، وغير ذلك، لكن حديث طلحة عند الطبراني بإسناد لا بأس به، وقد روى الطبراني أيضا حديث المسح من طريق عبد الكريم أبي أمية، عن حبيب بن أبي ثابت، عن زر، وعبد الكريم ضعيف، رواه البيهقي من طريق أبي روق، عن أبي الغريف، عن صفوان بن عسال ولفظه: "ليمسح أحدكم إذا كان مسافرًا على خفيه إذا أدخلهما طاهرتين ثلاثة أيام ولياليهن، وليمسح

ص: 223

المقيم يوما وليلة" ووقع: "أو ريح"، وذكر أن وكيعا تفرد بها، عن مسعر، عن عاصم. اهـ تلخيص ج 1 ص 157.

وقال العلامة المحقق الألباني في إروائه بعد ذكر من أخرجه من الأئمة ما نصه: وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قال محمَّد بن إسماعيل يعني البخاري، هذا أحسن شيء في هذا الباب. قلت: وأخرجه ابن خزيمة أيضا، وابن حبان في صحيحيهما كما في نصب الراية (1/ 164، 182، 183) والحديث إنما سنده حسن عندي؛ لأن عاصمًا هذا في حفظه ضعف، لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن، نعم قد تابعه طلحة بن مصرف عند الطبراني في الصغير (ص 39) وطلحة ثقة إلا أن الراوي عنه أبا جناب الكلبي مدلس، وقد عنعنه، وكذلك تابعه حبيب ابن أبي ثابت عند الطبراني، كما ذكره الزيلعي- ولعله في الكبير لكن الراوي عنه عبد الكريم بن أبي المخارق ضعيف. وخالفه المنهال بن

عمرو، فقال: عن زر بن حبيش الأسدي، عن عبد الله بن مسعود قال:"كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من مراد يقال له: صفوان بن عسال فقال: يا رسول الله إني أسافر بين مكة والمدينة، فأفتني عن المسح على الخفين؟ فقال" فذكره بدون الاستثناء.

قلت: فجعله من مسند ابن مسعود، وهو شاذ وفي الطريق إلى المنهال الصعق بن حزن، وهو صدوق يهم، كما قال الحافظ. وللحديث طريق آخر من رواية أبي رَوْق، عطية بن الحارث قال: ثنا أبو الغريف، عبد الله بن خليفة، عن صفوان بن عسال، دون الاستثناء أيضا. أخرجه أحمد، والطحاوي، والبيهقي، وسنده ضعيف، أبو الغريف هذا قال أبو حاتم: ليس بالمشهور، وقد تكلموا فيه، وهو شيخ من نظراء أصبغ ابن نباته كما في الجرح ج 2/ 2/ 213، وأصبغ عنده لين الحديث.

(تنبيه) ادعى ابن تيمية

(1)

أن لفظ (ونوم) مدرجة في هذا

(1)

ذكر ذلك في بعض رسائله المنشورة في شذرات البلاتين، وهي مخترعات الشيخ حامد رحمه الله. اهـ من هامش الإرواء.

ص: 224

الحديث، وهي دعوى مردودة، فهي ثابتة عند الجميع ثبوت ما قبلها، ولم أجد من سبقه إلى هذه الدعوى على خطئها. ومن فوائد هذه الزيادة أنها تدل على أن النوم مطلقا ناقض للوضوء: كالغائط، والبول، وهو مذهب جماعة من العلماء منهم الحنابلة، وهو الصواب. انتهى كلام الألباني في إروائه ببعض اختصار ج 1 ص 140، 141.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي في تحقيق القول في نقض الوضوء بالنوم، وأن الراجح عدم القول بالنقض مطلقًا جمعًا بين النصوص المختلفة في الباب إن شاء الله تعالى في نواقض الوضوء.

المسألة الثانيه: في المواضع التي ذكره فيها النسائي في سننه: قال أبو الحجاج المزي: حديث "أتيت صفوان بن عسّال أسأله عن المسح على الخفين" الحديث أخرجه النسائي في الطهارة (114)، عن عمرو بن علي، وإسماعيل بن مسعود، كلاهما عن يزيد بن زريع، وفي (113) عن محمَّد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، كلاهما عن شعبة وفي (98/ 2) وعن أحمد بن سليمان، عن يحيى بن آدم، عن سفيان الثوري، ومالك بن مغول، وزهير بن معاوية، وأبي بكر بن عياش، وسفيان بن عيينة وفي 98/ 1، عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة ستتهم عن عاصم، بقصة المسح، وأخرجه في التفسير في الكبرى عن محمَّد ابن النضر بن مساور، عن حماد بن زيد، عن عاصم، عن زرّ، عنه. اهـ ج 4 ص 192، 193. ببعض تصرف.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم: أخرجه الترمذي، وابن ماجه.

فأخرجه الترمذي بطوله، وفيه قصة الهوى، وقصة باب التوبة، في الدعوات (103/ 1) عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، و 103/ 2 عن أحمد بن عبدة الضبي، عن حماد بن زيد كلاهما عن عاصم بن أبي

ص: 225

النجود، عن زر بن حبيش، عنه به، وقال حسن صحيح، وفي الزهد (50/ 3) عن محمود بن غيلان، عن يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عاصم ببعضه:"جاء أعرابي جَهْوَريُّ الصوت، فقال: يا محمَّد، الرجل يحب القوم، ولما يلحق بهم؟ فقال: المرء مع من أحب"، وفي (50/ 4) عن أحمد بن عبدة الضبي، عن حماد بهذه القصة، نحو حديث محمود، وفي الطهارة (71/ 2) عن هناد، عن أبي الأحوص،

عن عاصم بقصة المسح.

وأخرجه ابن ماجه في الطهارة (62/ 5) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة بقصة المسح، وفي الفتن (22/ 3) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن عاصم بقصة التوبة. أفاده المزي ج 4 ص 192، 193.

وأخرجه أحمد 4/ 239، 340، والشافعي 1/ 33، والدارقطني 2/ 1 والطحاوي 1/ 49، والطبراني ص 50 والبيهقي 1/ 114، و 276 و 282 و 289 أفاده الألباني في الإرواء ج 1 ص 140.

المسألة الرابعة: من فوائد حديث الباب سماحة الشريعة الإسلامية، وسهولتها في مواضع الحرج حيث إنها أباحت المسح على الخفين.

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع ج 1 ص 480 ما حاصله: وفي هذا الحديث فوائد:

(إحداها): جواز المسح على الخف.

(الثانية): أنه مؤقت (الثالثة) أن وقته للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة (الرابعة) أنه لا يجوز المسح في غسل الجنابة، وما في معناه من الأغسال الواجبة والمسنونة (الخامسة) جوازه في جميع أنواع الحدث الأصغر (السادسة) أن الغائط، والبول، والنوم، ينقض

ص: 226

الوضوء وهو محمول على نوم غير ممكن مقعدته (السابعة) أنه يؤمر بالنزع للجنابة في أثناء المدة حتى لو غسل الرجل في الخف، ثم أحدث، وأراد المسح لم يجز. وفيه غير ذلك من الفوائد. والله أعلم. اهـ كلام النووي.

المسألة الخامسة: في مذاهب العلماء في تحديد وقت المسح: قال النووي أيضاج 1 ص 483 ما نصه: (فرع): في مذاهب السلف في توقيت مسح الخف: مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وأصحابهم، وجمهور العلماء من الصحابة، والتابعين، فمن بعدهم أنه مؤقت للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وللمقيم يوم وليلة.

قال أبو عيسى الترمذي: التوقيت ثلاثا للمسافر، ويوما وليلة للمقيم هو قول عامة العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم.

وقال الخطابي: التوقيت هو قول عامة الفقهاء. قال ابن المنذر:

وممن قال بالتوقيت: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو زيد الأنصاري، وشريح، وعطاء، والثوري، وأصحاب الرأي، وأحمد، وإسحاق، وحكي أيضا عن الحسن بن صالح، والأوزاعي، وأبي ثور.

وقالت طائفة: لا توقيت، ويمسح ما شاء حكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، والشعبي، وربيعة، والليث، وأكثر أصحاب مالك، وهو المشهور عن مالك، وفي رواية عنه أنه مؤقت. وفي رواية مؤقت للحاضر دون المسافر. قال ابن المنذر: وقال سعيد بن جبير: يمسح من غدوه إلى الليل. واحتج من قال: لا توقيت بما أخرجه أبو داود وغيره عن أبي بن عمَارة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: "نعم" قال: يوما؟ قال: "يوما" قال: ويومين؟ قال: "ويومين"، قال: وثلاثة قال: "نعم، وما شئت" وفي رواية حتى بلغ سبعا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم ما بدا لك".

ص: 227

وبما أخرجه أبو داود أيضا من حديث خزيمة بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسح على الخفين للمسافر ثلاث، وللمقيم يوم وليلة" زاد في رواية "ولو استزدناه لزادنا".

وبحديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ أحدكم، ولبس خفيه، فليصل فيهما، وليمسح عليهما، ثم لا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة".

وبحديث عقبة بن عامر قال: خرجت من الشام إلى المدينة يوم الجمعة فدخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: متى أولجت خفيك في رجليك؟ قلت: يوم الجمعة، قال: فهل نزعتهما؟ قلت: لا،

قال: أصبت السنة. وفي رواية قال: لبستهما يوم الجمعة. واليوم يوم الجمعة ثمان. قال: أصبت السنة. رواه البيهقي، وغيره. وعن ابن عمر أنه كان لا يوقت في الخفين وقتا.

واحتج الجمهور بأحاديث كثيرة صحيحة في التوقيت. منها حديث علي رضي الله عنه الآتي في الباب التالي، وهو حديث صحيح، رواه مسلم.

وبحديث صفوان بن عسال المذكور في الباب وهو صحيح أيضا كما بيناه.

وبحديث أبي بكرة: أن النبي كل صلى الله عليه وسلم سئل عن المسح على الخفين؟ فقال: "للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة"، وهو حديث حسن. قال البيهقي: قال الترمذي: قال البخاري: هو حديث حسن، وبحديث خزيمة بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين: "للمسافر ثلاث، وللمقيم يوم" حديث صحيح، رواه أبو داود، والترمذي وغيرهما، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وبحديث عوف بن مالك الأشجعي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في غزوة

ص: 228

تبوك بالمسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر وللمقيم يوم وليلة" قال البيهقي: قال: الترمذي: قال البخاري: هذا الحديث حسن، والأحاديث في التوقيت كثيرة.

قال النووي: وأما الجواب عن احتجاج الأولين بحديث أبي بن عمارة فهو أنه حديث ضعيف بالاتفاق اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه:

قال الحافظ في التلخيص ج 1 ص 162 ما معناه: حديث أبي بن عمارة رواه أبو داود، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم في المستدرك قال أبو داود: ليس بالقوي، وضعفه البخاري، فقال: لا يصح، وقال أبو داود: اختلف في إسناده، وليس بالقوي، وقال أبو زرعة الدمشقي عن أحمد: رجاله لا يعرفون، وقال أبو الفتح الأزدي: هو حديث ليس بالقائم، وقال ابن حبان: لست أعتمد على إسناد خبره، وقال الدارقطني: لا يثبت. وقد اختلف فيه على يحيى بن أيوب اختلافا كبيرا وقال ابن عبد البر: لا يثبت، ليس له إسناد قائم، ونقل النووي في شرح المهذب اتفاق الأئمة على ضعفه. قلت: وبالغ الجوزقاني فذكره في الموضوعات. اهـ تلخيص.

قال النووي: ولو صح لكان محمولا على جواز المسح أبدا بشرط مراعات التوقيت لأنه إنما سأل عن جواز المسح، لا عن توقيته، فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم:"الصعيد الطيب وضوء المسلم، ولو إلى عشر سنين" فإن معناه أن له التيمم مرة بعد أخرى، وإن بلغت مدة عدم الماء عشر سنين، وليس معناه أن مسحة واحدة تكفيه عشر سنين، فكذا هنا.

والجواب عن حديث خزيمة أنه ضعيف بالاتفاق، وضعفه من وجهين: أحدهما: أنه مضطرب. والثاني أنه منقطع، قال شعبة: لم

ص: 229

يسمع إبراهيم من أبي عبد الله الجَدَلي.

قال البخاري: ولا يعرف للجدلي سماع من خزيمة. قال البيهقي: قال الترمذي: سألت البخاري عن هذا الحديث؟ فقال: لا يصح. ولو صح لم تكن فيه دلالة لأنه ظن أن لو استزاده لزاده، والأحكام لا تثبت بهذا. اهـ كلام النووي. ج 1 ص 485.

قال الجامع عفا الله عنه:

وقد اعترض الحافظ على النووي في دعواه الاتفاق على ضعف حديث خزيمة، ونصه في التلخيص: حديث خزيمة بن ثابت "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن، ولوا استزدناه لزادنا". رواه أبو داود بزيادته، وابن ماجه بلفظ "ولو مضى السائل على مسألته لجعلها خمسا" ورواه ابن حبان باللفظين جميعا. ورواه الترمذي، وغيره بدون الزيادة، قال الترمذي: قال البخاري: لا يصح عندي لأنه لا يعرف للجدلي سماع من خزيمة، وذكر الترمذي أيضا عن يحيى بن معين أنه قال: صحيح. وقال ابن دقيق العيد: الروايات متضافرة متكاثرة برواية التيمي له عن عمرو بن ميمون، عن الجدلي، عن خزيمة. وقال ابن أبي حاتم في العلل: قال أبو زرعة: الصحيح من حديث التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن الجدلي، عن خزيمة مرفوعا والصحيح عن النخعي، عن الجدلي بلا واسطة. وادعى النووي في شرح المهذب الاتفاق على ضعف هذا الحديث وتصحيح ابن حبان له يرد عليه مع نقل الترمذي عن ابن معين أنه صحيح أيضا كما تقدم، والله أعلم.

"تنبيه" رواية النخعي ليس فيها الزيادة المذكورة، وقال في الإمام: أصح طرقه رواية زائدة سمعت منصورا يقول: كنا في حجرة إبراهيم النخعي، ومعنا إبراهم التيمي، فذكرنا المسح على الخفين، فقال

ص: 230

التيمي: ثنا عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجَدلي، عن خزيمة. فذكره بتمامه. أخرجها البيهقي، ورواها حسين بن علي الجعفي، عن زائدة، بلا زيادة الاستزادة. أخرجه الطبراني. اهـ كلام الحافظ. ج 1 ص 161.

قال النووي: وأما حديث أنس فضعيف، رواه البيهقي وأشار إلى تضعيفه. وأما الرواية عن عمر، فرواها البيهقي، ثم قال: قد روينا عن عمر التوقيت، فإما أن يكون رجع إليه حين بلغه التوقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون قوله الموافق للسنة الصحيحة المشهورة أولى، والمروي عن ابن عمر يجاب عنه بهذين الجوابين. والله أعلم. اهـ كلام النووي ج 1 ص 485.

قال الجامع عفا الله عنه:

الحاصل أن الراجح مذهب من يقول بالتوقيت، لقوة دليله. والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 231

‌99 - التَّوْقيتُ فِي المَسْحِ عَلَى الخُفيَّيْنِ

أي هذا باب يذكر فيه الحديث الدال على مشروعية تحديد المسح على الخفين للمقيم. وتقدم الكلام على معنى التوقيت في الباب السابق.

128 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا

(1)

عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا

(2)

الثَّوْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ، يَعْنِى فِي الْمَسْحِ.

129 -

أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتِ: ائْتِ عَلِيًّا فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنِّي. فَأَتَيْتُ عَلِيًّا فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمَسْحِ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ يَمْسَحَ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثًا.

(1)

و

(2)

في نسخة "أنْبَأنَا".

ص: 232

رجال الإسنادين أما الإسناد الأول: ففيه ثمانية

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) بن مَخْلد الحنظلي أبو محمَّد المروزي المعروف بابن راهويه ثقة حجة، 10 تقدم 2/ 2.

2 -

(عبد الرزاق) بن همام الصنعاني ثقة 9، تقدم في 61/ 77.

3 -

(الثوري) سفيان بن سعيد بن مسروق الكوفي الإمام العلم الحجة 7 تقدم في 33/ 37.

4 -

(عمرو بن قيس المُلَائي) بضم الميم، وتخفيف اللام، والمد، أبو عبد الله. الكوفي وثقه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، وأبو زرعة، والعجلي، وقال: من كبار الكوفيين متعبد. وقال ابن حبان: كان من ثقات أهل الكوفة ومتقنيهم، وعباد أهل بلده وقرائهم. وفي "ت" ثقة متقن عابد، من السادسة، مات سنة بضع وأربعين ومائة. أخرج له البخاري في الأدب المفرد، الباقون.

وقوله (الملائي): نسبة إلى الملاءة التي تستتر بها النساء.

قال السمعاني: وظني أن هذه النسبة إلى بيعها

(1)

.اهـ اللباب ج 3 ص 277.

5 -

(الحكم بن عتيبة) بالمثناة، ثم الموحدة مصغرا، أبو محمَّد الكندي الكوفي ثقة ثبت فقيه إلا أنه ربما دلس، من الخامسة، مات سنة 113 أو بعدها وله- نيف وستون سنة تقدم في 86/ 104.

6 -

(القاسم بن مخيمرة) بالمعجمة مصغرا، أبو عروة الهمداني بفتح فسكون الكوفي نزيل الشام، وثقه ابن سعد، وابن معين، والعجلي، وابن خراش، وغيرهم. وفي "ت" ثقة فاضل. من الثالثة، مات سنة

مائة. علق عنه البخاري، وأخرج له الباقون.

(1)

وفي "تت" كان يبيع الملاءة.

ص: 233

7 -

(شريح بن هانئ) بن يزيد الحارثي المذحجي أبو المقدام الكوفي مخضرم ثقة قتل مع ابن أبي بكرة بسجستان. تقدم في 8/ 8.

8 -

(علي) بن أبي طالب، أبو الحسن الهاشمي أحد الخلفاء الأربعة رضي الله عنه تقدمت ترجمته 74/ 91.

لطائف هذا الإسناد

منها أنه من ثمانياته.

ومنها أن رواته كلهم ثقات، وأنهم كوفيون إلا إسحاق فمروزي، وعبد الرزاق فصنعاني.

ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين يروى بعضهم، عن بعض: وهم الحكم، والقاسم، وشريح.

ومنها بأن فيه الإخبار، والإنباء

(1)

، والعنعنة، والقول.

رجال الإسناد الثاني: سبعة

1 -

(هناد بن السري) بن مصعب، أبو السري، الزاهد، الكوفي ثقة 10، تقدم في 23/ 25.

2 -

(أبو معاوية) محمَّد بن خازم بمعجمتين- الضرير الكوفي، عمي وهو صغير، ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهم في حديث غيره، من كبار التاسعة، مات سنة 195 - وله -82 - سنة، وقد رمي بالإرجاء، تقدم في 26/ 30.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران الأسدي، الكاهلي، أبو محمَّد، الكوفي، ثقة حافظ من -5 - تقدم في 17/ 18. وأما (4) و (5) و (6) فقد سبق ذكرهم في السند السابق.

7 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي لله عنها، تقدمت ترجمتها في 5/ 5.

(1)

أي كما في بعض النسخ.

ص: 234

لطائف هذا الإسناد

منها أنه من سباعياته، وأن رجاله كلهم ثقات، أجلاء، وأنهم كوفيون إلا عائشة رضي الله عنه، فمدنية.

ومنها أنه أعلى من السند الأول لأنه سباعي بخلاف الأول، فثماني.

ومنها أن فيه رواية أربعة من التابعين بعضهم عن بعض وهم الأعمش، والحكم، والقاسم، وشريح.

ومنها أن فيه الإخبار، والعنعنة، والقول.

شرح الحديث الأول

(عن علي رضي الله عنه أنه (قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي قدر مدة المسح (للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن) وجعل مدة المسح (يوما وليلة للمقيم) قال المصنف، أو أحد الرواة مفسرا لهذا الحديث (يعني) أي يقصد علي رضي الله عنه بقوله: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ (في المسح) أي تقدير مدة المسح.

وحاصل معنى الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت مدة المسح للمسافر بثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم بيوم وليلة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث الثاني

(عن شريح) بصيغة التصغير. (بن هانئ) الحارثي الكوفي التابعي، أنه (قال: سألت عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها قال المجد: رضي عنه، وعليه، يرضى، رضًا ورضْوانا -يعني بالكسر فيهما- ويضمان، ومرضاة: ضد سخِط، فهو راض، ورضيّ ورَض اهـ "ق" باختصار، ومعنى رضي الله عنها: قبل عملها وجازاها عليه.

(عن المسح على الخفين) أي عن حكمه، أو عن مدته (فقالت) مرشدة إلى الأعلم به (ائت عليا، فإنه) الفاء للتعليل، أي لأنه (أعلم

ص: 235

بذلك) أي بحكم المسح، أو مدته (مني) وفيه أنه ينبغي للعالم إذا سئل عن مسألة، وهناك من هو أعلم بالحكم منه أن يرشد السائل إليه، نصيحة له؛ لأن الدين النصيحة. قال شريح:(فأتيت عليا، فسألته عن) حكم (المسح) أو عن وقته (فقال) مجيبا عن المسألة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأمرنا) أي أمر إباحة لا إيجاب (أن يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثًا) أي من الأيام والليالي، وإنما ذَكَّرَ ثلاثا مع أن اليوم مُذكَّر؛ لأن محل وجوب التأنيث مع المذكر والتذكير مع المؤنث إذا ذكر المعدود بعد اسم العدد، فأما إذا حذف كما في هذا المحل، وكما في حديث "وأتبعه ستا من شوال"- أو قدم كما في قولك: مسائل تسع، ورجال تسعة جاز الوجهان، كما نقله النووي عن النحاة. انظر حاشية الخضري على شرح ابن عقيل ج 2 ص 135. وبالله التوفيق.

مسائل تتعلق بحديث علي رضي الله عنه

المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند الصنف:

أخرجه هنا 99/ 128 - ، 129 - بهذين الإسنادين، وفي الكبرى 131 بالإسناد الثاني.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول، وغيرهم.

أخرجه مسلم في الطهارة (24/ 1) عن إسحاق، عن عبد الرزاق عن الثوري عن عمرو بن قيس، وفي (24/ 2) عن إسحاق، عن زكريا بن عدي، عن عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة.، و (24/ 3) عن زهير بن حرب، عن أبي معاوية، عن الأعمش- ثلاثتهم عن الحكم، عن القاسم به.

وأخرجه ابن ماجه في الطهارة (86/ 1) عن محمَّد بن بشار بندار، عن غندر، عن الحكم، عن القاسم، به. أفاده المزي في الأطراف ج 7 ص 384، 385. وأخرجه أحمد.

ص: 236

المسألة الرابعة: في فوائد هذا الحديث:

من فوائده: مشروعية المسح على الخفين، وتحديد وقته، وكونه ثلاثا للمسافر، ويوما وليلة للمقيم، وسؤال أهل العلم فيما يجهله من أمور الدين، وإرشاد العالم السائل إلى من هو أعلم بالفتوى منه لأن ذلك من النصيحة، لحديث مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال:"الدين النصحية ثلاثا".

المسألة الخامسة: أنه تقدم في الباب السابق تحقيق الخلاف في توقيت المسح وعدمه. وأن الجمهور على التوقيت، وهو الحق.

قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: وثبت التوقيت عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وحذيفة والمغيرة، وأبي زيد الأنصاري: هؤلاء من الصحابة. وروي عن

جماعة من التابعين: منهم شريح القاضي، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز.

وقال أبو عمر بن عبد البر: وأكثر التابعين والفقهاء على ذلك، وهو الأحوط عندي؛ لأن المسح ثبت بالتواتر، واتفق عليه أهل السنة والجماعة، واطمأنت النفس إلى اتفاقهم، فلما قال أكثرهم: لا يجوز

المسح للمقيم أكثر من خمس صلوات يوم وليلة، ولا يجوز للمسافر أكثر من خمس عشرة صلاة ثلاثة أيام ولياليها، فالواجب لحى العالم أن يؤدي صلاته بيقين، واليقين الغسل حتى يُجمعُوا على المسح، ولم

يجمعوا فوق الثلاث للمسافر، ولا فوق اليوم للمقيم اهـ التمهيد ج 11 ص 153.

وقال الشوكاني بعد ما ذكر ما تقدم من الأقوال: فالحق توقيت المسح بالثلاث للمسافر، واليوم والليلة للمقيم. اهـ نيل ج 1 ص 276.

قال الجامع عفا الله عنه: والحاصل أن الراجح هو ما عليه الجمهور

ص: 237

لقوة الدليل، كما أسلفت في الباب السابق. والله أعلم.

المسألة السادسة: في اختلاف العلماء في ابتداء مدة المسح: قال النووي في المجموع ج 1 ص 486: ماحاصله: مذهبنا ومذهب أبي حنيفة، وأصحابه، وسفيان الثوري، وجمهور العلماء، وهو أصح الروايتين عن أحمد، وداود: أن ابتداء المدة من أول حدث بعد لبس الخف، فلو أحدث ولم يمسح حتى مضى من بعد الحدث يوم وليلة أو ثلاثة إن كان مسافرا انقضت المدة، ولم يجز المسح بعد ذلك حتى

يستأنف لبسها على طهارة، وما لم يحدث لا تحسب المدة، فلو بقي بعد اللبس يوما على طهارة اللبس، ثم أحدث استباح بعد الحدث يوما وليلة إن كان حاضرا، وثلاثة أيام ولياليها إن كان مسافرًا.

وقال الأوزاعي، وأبو ثور: ابتداء المدة من حين يمسح بعد الحدث، وهو رواية عن أحمد، وداود، وهو المختار الراجح دليلا، واختاره ابن المنذر، وحكي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحكى الماوردي، والشاشي عن الحسن البصري أن ابتداءها من اللبس. واحتج القائلون من حين المسح بقوله صلى الله عليه وسلم "يمسح المسافر ثلاثة أيام"، وهي أحاديث صحاح، كما سبق، وهذا تصريح بأنه ثلاثة ولا يكون ذلك إلا إذا كانت المدة من المسح.

واحتج القائلون: من أول الحدث بعد اللبس برواية رواها الحافظ القاسم بن زكريا المطرزي في حديث صفوان "من الحدث إلى الحدث" وهي زيادة غريبة ليست ثابتة.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي رجحه النووي رحمه الله مع مخالفته لمذهبه هو عين التحقيق من هذا الإمام المحقق الجليل، حيث دار مع الدليل أينما دار، وما تجمد على المذهب، وهذا هو الذي يجب على

ص: 238

المسلم أن يلتزمه، ويتمسك به، وهو الذي كان عليه السلف الصالحون من الصحابة، والتابعين، كانوا إذا وقع بينهم اختلاف في أي مسألة ردوه إلى كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يأخذون ما وافق النص، ولا يعدلون عنه، قال الله تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59]. فنصيحتي لمقلدي المذاهب أن يقارنوا أقوال الأئمة بالنصوص الصحيحة، فيأخذوا ما اتفق معها، ولا يتجمدوا على قول إمامهم، ولا يتعصبوا له، بل التحمس يكون للحق، وهذه هي وصية الأئمة كلهم لأتباعهم كما هو مشهور في تراجمهم رحمهم الله تعالى. والله أعلم.

المسألة السابعة: في اختلاف العلماء في الخف المخرّق: قال النووي في المجموع ما حاصله: أنه الصحيح الجديد في مذهب الشافعي أنه لا يجوز المسح على الخف المخرق في محل الفرض، وبه قال معمر بن

راشد، وأحمد بن حنبل، وحكى ابنُ المنذر عن سفيان الثوري، وإسحاق ويزيد بن هارون، وأبي ثور: جواز المسح على جميع الخفاف، وعن الأوزاعي إن ظهرت طائفة من رجله مسح على خفيه وعلى ما ظهر من رجليه. وعن مالك رضي الله عنه: إن كان الخرق يسيرا مسح، وإن كان كثيرا لم يجز المسح. وعن أبي حنيفة وأصحابه إن كان الخرق قدر ثلاثة أصابع لم يجز المسح، وإن كان دونه جاز، وعن الحسن البصري إن ظهر أكثر من أصابعه لم يجز.

قال ابن المنذر: بقول الثوري أقول لظاهر إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين قولا عاما يدخل فيه جميع الخفاف.

واحتج القائلون: بالجواز على اختلاف مذاهبهم بما احتج به ابن المنذر، وبأنه جوز المسح رخصة وتدعوا الحاجة إلى المخرق، وبأنه لا تخلو الخفاف عن الخرق غالبا، وقد يتعذر خرزه، لا سيما في السفر،

ص: 239

فعفي عنه، للحاجة، وبأنه خف يحرم على المحرم لبسه وتجب به الفدية فجاز المسح عليه كالصحيح.

واحتج القائلون: بالمنع بأن ما انكشف من الرجل حكمه الغسل وما استتر حكمه المسح، والجمع بينهما لا يجوز فغلب حكم الغسل، كما لو انكشفت إحدى الرجلين واستترت الأخرى. اهـ كلام النووي بتغيير يسير.

وقال العلامة ابن رشد في بدايته بعد ذكر ما تقدم من الأقوال ما نصه: وقال الثوري: كانت خفاف المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخروق كخفاف الناس، فلو كان في ذلك حظر لورد ونقل عنهم، قلت: هذه المسألة هي مسكوت عنها فلو كان فيها حكم مع عموم الابتلاء به لبينه صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، اهـ بداية ج 1 ص20.

وكتب العلامة محدث العصر الألباني في رسالته

(1)

"إتمام النصح في أحكام المسح" كلاهما حسنا أحببت إيراده هنا لتحقيقه المسألة تَمَام تحقيق.

قال: وأما المسح على الخف، أو الجورب المخرق فقد اختلفوا فيه اختلافا كثيرا، فأكثرهم يمنع منه على اختلاف طويل بينهم تراه في مبسوطات الكتب الفقهية، والمحلى. وذهب غيرهم إلى الجواز، وهو الذي نختاره. وحجتنا في ذلك أن الأصل الإباحة، فمن منع، واشترط السلامة من الخرق، أو وضع له حدا فهو مردود، لقوله صلى الله عليه وسلم:"كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" متفق عليه. وأيضا فقد صح عن الثوري أنه قال: امسح عليها ما تعلقت به رجلك، هل كانت خفاف

المهاجرين والأنصار الا مخرقة، مشققة، مرقعة؟. أخرجه عبد الرزاق في المصنف (753) ومن طريقه البيهقي (1/ 83) وقال ابن حزم

(1)

ص 84 - 86 والرسالة مطبوعة مع رسالة العلامة محمَّد جمال الدين القاسمي "المسح على الجوربين".

ص: 240

(2/ 100) فإن كان في الخفين، أو فيما لبس على الرجلين خرق صغير أو كبير طولا أو عرضا فظهر منه شيء من القدم، أقل القدم أو أكثرها، فكل ذلك سواء، والمسح على كل ذلك جائز، ما دام يتعلق بالرجلين منهما شيء، وهو قول سفيان الثوري، وداود، وأبي ثور، وإسحاق بن راهويه، ويزيد بن هارون، ثم حكى أقوال العلماء المانعين منه على ما بينها من اختلاف وتعارض، ثم رد عليها، وبين أنها مما لا دليل عليها سوى الرأي وختم ذلك بقوله: لكن الحق في ذلك ما جاءت به السنة المبينة للقرآن من أن حكم القدمين اللتين ليس عليهما شيء ملبوس يُمسَحُ عليه أن يغسلا، وحكمهما إذا كان عليهما شيء ملبوس أن يمسح على ذلك الشيء، بهذا جاءت السنة {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أمر بالمسح على الخفين وما يلبس في الرجلين ومسح على الجوربين أن من الخفاف والجوارب وغير ذلك مما يلبس على الرجلين المخرقَ خرقا فاحشا أو غير فاحش. وغير المخرق، والأحمر والأسود والأبيض والجديد والبالي، فما خص عليه السلام بعض ذلك دون بعض، ولو كان حكم ذلك في الدين يختلف لما أغفله الله تعالى أن يوحي به، ولا أهمله رسول الله صلى الله عليه وسلم المفترض عليه البيان، حاشاه من ذلك فصح أن حكم ذلك المسح على كل حال، والمسح لا يقتضي الاستيعاب في اللغة التي بها خوطبنا.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اختياراته (ص 13) ويجوز على اللفائف في أحد الوجهين حكاه ابن تميم وغيره وعلى الخف المخرق ما دام اسمه باقيا والمشي فيه ممكنا وهو قديم قولي الشافعي واختيار أبي البركات وغيره من العلماء.

قلت: ونسبه الرافعي في شرح الوجيز (2/ 370) للأكثرية، واحتج

ص: 241

له بأن لقول بامتناع المسح يضيق باب الرخصة، فوجب أن يمسح.

ولقد أصاب رحمه الله. اهـ كلام العلامة الألباني.

قال الجامع عفا الله عنه:

هذا تحقيق نفيس حقيق بالقبول، وما عداه قول لا يؤيده منقول، والحاصل أن الراجح جواز المسح على جميع أنواع الخف، سالمها، ومخرقها، لعموم الأدلة في الجميع، والله أعلم.

المسألة الثامنة: في اشتراط الطهارة في لبس الخف.

قال العلامة ابن رشد في بدايته ص (21، ج 1): وأما شرط المسح على الخفين، فهو أن تكون الرجلان طاهرتين يطهر الوضوء، وذلك شيء مجمع عليه إلا خلافا شاذا. وقد روي عن ابن القاسم عن مالك ذكره ابن لبابة في المنتخب، وإنما قال به الأكثر لثبوته في حديث المغيرة، وغيره، إذ أراد ينزع الخف عنه، فقال عليه الصلاة والسلام:"دعهما، فإني أدخلتهما، وهما طاهرتان"، والمخالف

حمل هذه الطهارة على الطهارة اللغوية.

واختلف الفقهاء من هذا الباب فيمن غسل رجليه ولبس خفيه، ثم أتم وضؤه هل يمسح عليهما؟ فمن لم ير أن الترتيب واجب، ورأى أن الطهارة تصح لكل عضو قبل أن تكمل الطهارة لجميع الأعضاء قال بجواز ذلك، ومن رأى أن الترتيب واجب وأنه لا تصح طهارة العضو إلا بعد طهارة جميع الأعضاء لم يُجزْ ذلك، وبالقول الأول قال أبو حنيفة، وبالقول الثاني قال الشافعي، ومالك إلا أن مالكا لم يمنع ذلك من جهة الترتيب، وإنما منعه من جهة أنه يرى أن الطهارة لا توجد للعضو إلا بعد كمال جميع الطهارة، وقد قال عليه الصلاة والسلام "وهما طاهرتان"

ص: 242

فأخبر عن الطهارة الشرعية. وفي بعض روايات حديث المغيرة "إذا أدخلت رجليك في الخف وهما طاهرتان فامسح عليهما" وعلى هذه الأصول يتفرع فيمن لبس أحد خفيه بعد أن غسل إحدى رجليه، وقبل أن يغسل الأخرى، فقال مالك: لا يمسح على الخفين لأنه لابس للخف قبل تمام الطهارة، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة، والثوري والمزني والطبري، وداود: يجوز له المسح، وبه قال جماعة من أصحاب مالك: منهم مطرف، وغيره، وكلهم أجمعوا أنه لو نزع الخف الأول بعد غسل الرجل الثانية ثم لبسها جاز له المسح اهـ كلام ابن رشد.

قال الجامع عفا الله عنه: والراجح عندي قول من اشترط لبسهما على طهر كامل لظاهر قوله: "وهما طاهرتان"، والله أعلم.

المسألة التاسعة: في نواقض مسح الخف: قال ابن رشد في بدايته ج 1 ص 22: فأما نواقض هذه الطهارة، فإنهم أجمعوا على أنها نواقض الوضوء، واختلفوا هل نزع الخف ناقض لهذه الطهارة أم لا؟ قال قوم: إن نزعه وغسل قدميه فطهارته باقية، وإن لم يغسلهما وصلى أعاد الصلاة بعد غسل قدميه، وممن قال بذلك مالك، وأصحابه، والشافعي، وأبو حنيفة، إلا أن مالكا رأى أنه إن أخر ذلك استأنف الوضوء على رأيه في وجوب الموالاة. وقال قوم: طهارته باقية حتى يحدث حدثا ينقض الوضوء وليس عليه غسل، وممن قال بهذا القول داود، وابن أبي ليلى: وقال الحسن بن حي: إذا نزع خفيه فقد بطلت طهارته، وبكل واحد من هذه الأقوال الثلاثة قالت طائفة من فقهاء التابعين، وهذه المسألة هي مسكوت عنها، يعني أنه لم يرد نص بتبيينها- وسبب اختلافهم هل المسح على الخفين هو أصل بذاته في الطهارة، أو بدل من غسل القدمين عند غيبوبتهما في الخفين؟ فإن قلنا: هو أصل

ص: 243

بذاته فالطهارة باقية وإن نزع الخفين، كمن قطعت رجلاه بعد غسلهما، وإن قلنا: إنه بدل، فيحتمل أن يقال: إذا نزع الخف بطلت الطهارة، وإن كنا لا نشترط الفور، ويحتمل أن يقال: إن غسلهما أجزأت الطهارة إذا لم يشترط الفور. وأما اشتراط الفور من حيث نزع الخف فضعيف، وإنما هو شيء يتخيل. فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا الباب. اهـ كلام ابن رشد رحمه الله.

وكتب العلامة الألباني في الرسالة المتقدمة ما نصه:

اختلف العلماء أيضا فيمن خلع الخف ونحوه بعد أن توضأ ومسح عليه على أقوال ثلاثة: الأول: أن وضوءه صحيح ولا شيء عليه. الثاني: أن عليه غسل رجليه فقط. الثالث: أن عليه إعادة الوضوء. وبكل من هذه الأقوال: قد قال به طائفة من السلف، وقد أخرج الآثار عنهم بذلك عبد الرزاق في المصنف (1/ 210/ 809 - 813) وابن أبي شيبة (187 - 188) والبيهقي (1/ 289 - 290).

ولا شك أن القول الأول هو الأرجح؛ لأنه المناسب لكون المسح رخصة وتيسيرًا من الله، والقول بغيره ينافي ذلك، كما قال الرافعي في المسألة التي قبلها كما تقدم، ويترجح على القولين الآخرين بمرجح آخر بل مرجحين: الأول: أنه موافق لعمل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، فقد قدمنا بالسند الصحيح عنه رضي الله عنه أنه أحدث، ثم توضأ، ومسح على نعليه، ثم خلعهما، ثم صلى. والآخر موافقته للنظر الصحيح، فإنه لو مسح على رأسه ثم حَلَق لم يجب عليه أن يعيد المسحَ بَلْهَ الوضوء، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال في اختياراته ص 15: ولا ينتقض وضوء الماسح على الخف والعمامة بنزعهما، ولا بانقضاء المدة، ولا يجب عليه مسح رأسه، ولا غسل

ص: 244

قدميه، وهو مذهب الحسن البصري كإزالة الشعر الممسوح على الصحيح من مذهب أحمد، وقول الجمهور، وهو مذهب ابن حزم أيضا فراجع كلامه في ذلك ومناقشته لمن خالف فإنه نفيس (المحلى 2/ 105) وأما ما رواه ابن أبي شيبة (1/ 187) والبيهقي (1/ 289) عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في- الرجل يمسح على خفيه، ثم يبدو له أن ينزع خفيه قال: يغسل قدميه. ففيه يزيد بن عبد الرحمن الدالاني، قال الحافظ: صدوق يخطئ كثيرا، وكان يدلس. وروى البيهقي عن أبي بكرة نحوه. ورجاله ثقات غير علي بن محمَّد القرشي، فلم أعرفه. ثم روى عن المغيرة بن شعبة مرفوعا:"المسح على الخفين ثلاثة أيام وليالها للمسافر ويوما وليلة للمقيم ما لم يخلع". وقال: تفرد به عمر بن رديح وليس بالقوي.

قلت: هذه الزيادة "ما لم يخلع" منكرة لتفرد هذا الضعيف بها، وعدم وجود الشاهد لها. اهـ كلام المحقق الألباني.

قال الجامع عفا الله عنه:

كلام العلامة الألباني هذا في غاية الحسن، والتحقيق. والله أعلم.

المسألة العاشرة: في مذاهب العلماء في انتهاء مدة المسح هل ينقض أم لا؟

كتب العلامة الألباني في رسالته أيضا ما نصه:

انتهاء المدة هل ينقض الوضوء؟ للعلماء في ذلك أقوال أشهرها قولان في مذهب الشافعي. الأول: يجب استئناف الوضوء. الثاني: يكفيه غسل القدمين. والثالث: لا شيء بل طهارته صحيحة يصلي بها ما لم يحدث، قاله النووي رحمه الله قلت: وهذا القول الثالث أقواها. وهو الذي اختاره النووي خلافا لمذهبه أيضا، فقال: - رحمه

ص: 245

الله - (1/ 527) وهذا المذهب حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وقتادة، وسليمان بن حرب، واختاره ابن المنذر، وهو المختار الأقوى، وحكاه أصحابنا عن داود.

قلت: وحكاه الشعراني في الميزان (1/ 150) عن الإمام مالك، وحكى النووي عنه غيرَه فليحقق. وهو الذي ذهب إليه ابن تيمية تبعا لابن حزم، وذكر هذا -يعني ابن حزم- في القائلين به إبراهيم النخعي وابنَ أبي ليلي، ثم قال (2/ 94): وهذا هو القول الذي لا يجوز غيره، لأنه ليس في شيء من الأخبار أن الطهارة تنتقض عن أعضاء الوضوء، ولا عن بعضها بانقضاء وقت المسح، وإنما نهى النبي عليه السلام عن أن يمسح أحد أكثر من ثلاث للمسافر أو يوم وليلة للمقيم. فمن قال غير هذا فقد أقحم في الخبر ما ليس فيه، وقَوَّلَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، فمن فعل ذلك واهمًا فلا شيء عليه، ومن فعل ذلك عامدًا بعد قيام الحجة عليه فقد أتى كبيرة من الكبائر، والطهارة لا ينقضها إلا الحدث، وهذا قد صحت طهارته، ولم يحدث فهو طاهر، والطاهر يصلي ما لم يحدث أو ما لم يأت نص جلي في أن طهارته انتقضت وإن لم يحدث، وهذا الذي انقضى وقت مسحه لم يحدث، ولا جاء نص في أن طهارته انتقضت، لا عن بعض أعضائه، ولا عن جميعها، فهو طاهر يصلي حتى يحدث فيخلع خفيه حينئذ، وما على قدميه، ويتوضأ، ثم يستأنف المسح توقيتا آخر وهكذا أبدا وبالله تعالى التوفيق. اهـ كلام العلامة الألباني حفظه الله تعالى.

قال الجامع عفا الله عنه: وهذا الذي اختاره هؤلاء الأئمة: ابن المنذر وابن حزم، والنووي، وابن تيمية، وحققه الألباني، هو الراجح عندي لوضوح دليله، والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 246

‌100 - صِفَةُ الوُضُوءِ مِنْ غيْر حَدَثٍ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على كيفية الوضوء من غير أن يحصل للشخص ما يوجب الوضوء، بل أراد تجديده، لكونه عبادة موجبة لمحو الذنوب والخطايا كما تقدم ذلك في حديث عبد الله الصنابحي في الباب (85)، في (ح 103) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضاء العبد المؤمن

فتمضض

" الحديث. فإنه عام يدخل فيه المحدث وغيره.

وسيأتي تحقيق المسألة في المسائل الآتية آخر الباب إن شاء الله تعالى.

130 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ قَعَدَ لِحَوَائِجِ النَّاسِ، فَلَمَّا حَضَرَتِ الْعَصْرُ أُتِيَ بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَخَذَ مِنْهُ كَفًّا فَمَسَحَ بِهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَ فَضْلَهُ فَشَرِبَ قَائِمًا، وَقَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ هَذَا، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ وَهَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ.

ص: 247

رجال الإسناد: ستة

1 -

(عمرو بن يزيد) أبو بُرَيد -بموحدة وراء مصغرا- الجَرْمي بفتح الجيم صدوق من الحادية عشرة.

وفي تهذيب التهذيب (ج 8/ ص 120): عمرو بن يزيد أبو يزيد

(1)

الجرمي البصري، روى: عن أمية بن خالد، وبهز بن أسد، وأبي داود الطيالسي، وعبد الصمد بن عبد الوارث، ومحمد بن أبي عدي، وسيف بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن مهدي، وغندر، وروح بن عبادة، وغيرهم. وعنه النسائي وأبو حاتم وأبو بكر البزار، وأحمد بن حماد بن سفيان، وأبو بكر محمَّد بن الحسن بن مكرم، وعُمر بن محمَّد ابن بجير، وعبد الله بن محمَّد بن ناجية، وأحمد بن محمَّد بن الجهم، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أغرب. اهـ تهذيب التهذيب. تفرد به المصنف.

2 -

(بهز بن أسد) العمي

(2)

أبو الأسود البصري ثقة، ثبت، من التاسعة، مات بعد المائتين، وقيل: قبلها. تقدم في 24/ 28.

3 -

(شعبة) بن الحجاج أبو بسطام الواسطي، ثم البصري، الثقة، الحجة من -7 - ، تقدم في 24/ 26.

4 -

(عبد الملك بن ميسرة) الهلالي أبو زيد، العامري، الكوفي الزرّاد. وثقه ابن معين، وابن خراش، والنسائي، وأبو حاتم، وابن حبان، وابن سعد، والعجلي، وابن نمير، وذكره البخاري فيمن مات في العشر الثاني من المائة الثانية. وفي "ت" ثقة من الرابعة. أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.

(1)

وتقدم في التقريب: أنه أبو بريد بالموحدة، وهو الذي في الخلاصة، وهو الصواب.

(2)

(العمي) بفتح العين وتشديد الميم نسبة إلى العم وهو بطن من تميم قاله في اللباب ج 2 ص 359.

ص: 248

5 -

(النَّزَّال بن سَبْرَة) -بفتح المهملة، وسكون الموحدة الهلالي الكوفي، ثقة من الثانية، وقيل: إن له صحبة.

وفي تهذيب التهذيب: مختلف في صحبته. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، ويقال: مرسل، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وسراقة ابن مالك وأبي مسعود الأنصاري. وعنه عبد الملك بن ميسرة الزرَّاد

(1)

والشعبي، وإسماعيل بن رجاء، والضحاك بن مزاحم. قال العجلي: كوفي تابعي، ثقة، من كبار التابعين، وذكره ابن حبان في الثقات. وذكره مسلم في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، وكذا ابن سعد، وقال: كان ثقة، وله أحاديث، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: النزال ثقة لا يسأل عنه، وقال: وقال أبي: لا بأس به. وقال الحاكم عن الدارقطني: تابعي كبير. وقال ابن عبد البر: ذكروه فيمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولا أعلم له رواية إلا عن علي، وابن مسعود، وهو معدود في كبار التابعين. أخرج له الترمذي في الشمائل، والباقون سوى مسلم.

6 -

(علي) بن أبي طالب رضي الله عن. تقدمت ترجمته في 47/ 91.

لطائف هذا الإسناد

منها أنه من سداسيات المصنف.

ومنها أن رواته كلهم ثقات إلا شيخه فقال في التقريب: صدوق، ووثقه المصنف كما تقدم قريبًا.

ومنها أن الثلاثة الأولين بصريون، والباقون كوفيون.

ومنها أن فيه رواية صحابي، عن صحابي إن صحت صحبة النزال،

(1)

(الزراد) بفتح الزاي والراد المشددة وفي آخره دال مهملة نسبة إلى صنعة الدروع من الزرد أفاده في اللباب ج 2 ص 63.

ص: 249

وإلا فرواية تابعي، عن تابعي، وهما عبد الملك، والنزال، وهذا هو الذي مال إليه الحافظ في الإصابة (ج 3 ص 523) حيث قال بعد ذكر الخلاف المتقدم في صحبته: والمعروف أنه مخضرم اهـ.

ومنها أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، والسماع.

شرح الحديث

(عن النزال بن سبرة قال: رأيت عليا رضي الله عنه صلى الظهر) وعند ابن حبان: قال: صليت مع علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- الظهر ثم انطلق إلى مجلس له كان يجلسه في الرَّحْبَة فقعد،

وقعدنا حوله، حتى حضرت العصر .... (ثم قعد لحوائج الناس) أي لينظر في مهماتهم من تعليم أمور الدين، وإصلاح ذات البَيْن، وفصل الخصومات، ونحو ذلك.

والحوائج: جمع حاجة على غير قياس. وذكر الأصمعي أنه مولد، والجمع حاجات، وحَاجٌ ذكره في الفتح ج 12 ص 187.

وقال في اللسان ج 2 ص 242: الحاجة والحائجة: المَأْرَبَةُ، معروفة.

قال: وجمع الحاجة حَاجٌ، وحِوَج -يعني بكسر ففتح- وجمع الحائجة: حوائج. وقال الأزهري: الحاجُ -يعني بتخفيف الجيم- جمع الحاجة، وكذلك الحوائج، والحاجات.

وقال غيره: وجمع الحاجة: حاجٌ، وحاجات، وحوائج على غير قياس كأنهم جمعوا حائجة، وكان الأصمعي ينكره، ويقول: هو مولد، قال الجوهري: وإنما أنكره لخروجه عن القياس، وإلا فهو كثير في كلام العرب. قال ابن برّي: إنما أنكره الأصمعي لخروجه عن قياس جمع حاجة، قال: والنحويون يزعمون أنه جمع لواحد لم ينطق به، وهو حائجة. قال: وذكر بعضهم أنه سمع حائجة لغة في الحاجة، قال:

ص: 250

وأما قوله: إنه مولد فإنه خطأ منه؛ لأنه قد جاء ذلك في حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أشعار العرب الفصحاء.

وذكر ابن السكيت في كتابه الألفاظ باب الحوائج: يقال في جمع حاجة حاجات، وحاج، وحوَج، وحوائج. وقال سيبويه في كتابه، في ما جاء فيه تَفَعَّل، واستفعل بمعنى، يقال: تنجز فلان حوائجه، واستنجز حوائجه. وذهب قوم من أهل اللغة إلى أن حوائج يجوز أن يكون جمع حوجاء، وقياسها حواج، مثل صَحَار، ثم قدمت الياء على الجيم، فصار حوائج، والمقلوب في كلام العرب كثير. والعرب تقول: بُدَاءَاتُ حوائجك، في كثير من كلامهم. وكثيرا ما يقول ابن السكيت: إنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين، والرواحات، وإنما غَلَّطَ الأصمعيَّ

(1)

في هذه اللفظة كما حكى عنه حتى جعلها مولدة كونها خارجة عن القياس؛ لأن ما كان على مثل الحاجة مثل غارة وحارة لا يجمع على غوائر وحوائر، فقطع بذلك على أنها مولدة، غير فصيحة، على أنه قد حكَى الرقاشي، والسجستاني عن عبد الرحمن، عن الأصمعي، أنه رجع عن هذا القول، وإنما هو شيء كان عرض له

من غير بحث، ولا نظر، قال: وهذ الأشبه به لأن مثله لا يجهل ذلك إذ كان موجودا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام العرب الفصحاء، وكأن الحريري لم يمر به إلا القول الأول عن الأصمعي، دون الثاني. والله أعلم. اهـ لسان.

(فلما حضرت العصر) أي حضر وقت صلاتها (أتي) بالبناء للمجهول، أي جاءه الناس (بتور) بفتح التاء وسكون الواو. قال في اللسان ج 4 ص 96: التَّور من الأواني: مذكر، قيل: هو عربي، قيل: دخيل. قال الأزهري: التور: إناء معروف تذكّره العرب، تشرب فيه. اهـ لسان.

(1)

الأصمعي بالنصب مفعول مقدم، والفاعل قوله: كونها خارجة عن القياس.

ص: 251

(من ماء) بيان للتور؛ لأنه إناء يحتمل أن يكون ظرفا للماء وغيره، فبين أن مظروفه الماء (فأخذ) علي رضي الله عنه (منه) أي من الماء الذي في التور (كفا) أي مقدار ملاء الكف. قال في المصباح: الكف من الإنسان وغيره: أنثى، قال ابن الأنباري: وزعم من لا يوثق به أن الكف مذكر، ولا يعرف تذكيرها من يوثق بعلمه، وأما قولهم: كف مُخَضَّب فَعَلَى مَعنَى ساعد مُخَضَّب، وجمعها كفوف وأكف: مثل فلس وفلوس، وأفلس. وقال الأزهري: الكف: الراحة مع الأصابع، سميت بذلك؛ لأنها تكف الأذى عن البدن اهـ ج 2 ص 536.

(فمسح به وجهه وذراعيه ورأسه ورجليه) أي بعد المضمضة، والاستنشاق، لما يأتي، وفي رواية عند البخاري "ثم أتي بماء فشرب، وغسل وجهه، ويديه، وذكر رأسه، ورجليه" قال الحافظ: في الفتح ج 12 ص 187: كذا هنا وفي رواية بهز: "فأخذ منه كفا فمسح وجهه، وذراعيه، ورأسه، ورجليه" وكذلك عند الطيالسي: "فغسل وجهه، ويديه، ومسح على رأسه ورجليه" ومثله في رواية عمرو بن مرزوق عند الإسماعيلي، ويؤخذ منه أنه في الأصل: ومسح على رأسه ورجليه، وأن آدم توقف في سياقه، فعبر بقوله: وذكر رأسه ورجليه. ووقع في رواية الأعمش "فغسل يديه، ومضمض، واستنشق، ومسح بوجهه، وذراعيه، ورأسه" وفي رواية علي بن الجعد، عن شعبة عند الإسماعيلي:"فمسح بوجهه، ورأسه، ورجليه" ومن رواية أبي الوليد عن شعبة ذكر الغسل، والتثليث في الجميع، وهي شاذة مخالفة لرواية أكثر أصحاب شعبة، والظاهر أن الوهم فيها من الراوي عنه أحمد بن إبراهيم الواسطي شيخ الإسماعيلي فيها فقد ضعفه الدارقطني. والصفة التي ذكرها هي صفة إسباغ الوضوء الكامل، وقد ثبت في آخر الحديث قول علي:"وهذا وضوء من لم يحدث" كما سيأتي بيانه. اهـ فتح.

ص: 252

(ثم أخد فضله) أي ما بقي من الماء الذي توضأ منه.

قال المجد: الفَضلة -يعني بفتح الفاء-: البقية، كالفَضل -أي بالفتح- والفُضالة بالضم، وقد فَضَل كنصر وحَسب اهـ "ق" ص 1348، وفي المصباح ج 2 ص 475: فضل فضلا من باب قتل: بقي، وفي لغة: فَضلَ يَفضَل من باب تعب، وفَضُل يفضُل بالضم لغة ليست بالأصل، ولكنها على تداخل اللغتين، ونظيره في السالم نَعمَ يَنعُم، ونَكلَ يَنكُل، وفي المعتل: دِمتَ تَدُوم، ومتَّ تموُت. اهـ.

والمعنى: أن عليا رضي الله عنه أخذ ما بقي في الإناء من وَضوئه (نشرب) منه حال كونه (قائما)، هذا هو المحفوظ في الروايات كلها من أن شربه كان بعد الفراغ من الوضوء. ووقع في رواية عند البخاري: أنه شرب مرتين، مرة قبل الوضوء، ومرة بعده، قال الحافظ: والذي وقع هنا من ذكر الشرب مرة قبل الوضوء ومرة بعد الفراغ منه لم أره في غير رواية آدم. اهـ فتح ج 12 ص 187.

(وقال) علي رضي الله عنه بعد شربه قائما (إن ناسا يكرهون هذا) أي الشرب حال القيام. ولفظ البخاري إن ناسا يكرهون الشرب قائما. ولفظ ابن حبان الإنكار على من يكره الشرب قائما لثبوته من فعله صلى الله عليه وسلم كما بينه بقوله: (وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) أي الشرب قائما، بعد الوضوء على الكيفية المذكورة، وعند البخاري "وإن النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت"، قال الحافظ: أي من الشرب قائما، وصرح به الإسماعيلي في روايته فقال:"شرب فضلة وضوئه قائما كما شربت" ولأحمد، ورأيته من طريقين آخرين عن علي "أنه شرب قائما فرأى الناس كأنهم أنكروه فقال: ما تنظرون؟ إن أشرب قائما فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائمًا، وإن شربت قاعدًا فقد رأيته يشرب قاعدًا. اهـ فتح ج 12 ص 187.

ص: 253

واستدل بهذا الحديث على جواز الشرب قائمًا، وقد عارضته أحاديث صحيحة صريحة في النهي عنه وقد مر تحقيق الكلام في هذه المسألة في باب 79/ 96 فأرجع إليه تزدد علمًا.

(و) قال علي رضي الله عنه (هذا) أي الوضوء على هذه الكيفية (وضوء من لم يحدث) أي لم يحصل منه ما يوجب الوضوء من النواقض.

وحاصل المعنى: أن الاكتفاء بكف من ماء للمضمضة، والاستنشاق، ومسح الوجه واليدين، والرأس، والرجلين، لمن أراد تجديد الوضوء من غير أن يحدث، وأما وضوء المحدث فيحتاج إلى تعميم جميع ما

يغسل بالماء. قال السندي: ولعل ما جاء من مسح الرجل من بعض الصحابة إن صح محله غير حالة الحدث. اهـ ج 1 ص 16. وبالله تعالى التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث علي رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري في الصحيح، إلا أنه ليس فيه قول علي رضي الله عنه:"وهذا وضوء من لم يحدث" قال الحافظ بعد ذكر أن هذه الزيادة وقعت في رواية النسائي والإسماعيلي: وهي على شرط الصحيح. اهـ فتح ج 12 ص 187.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا 100/ 130 وفي الكبرى 133 - بهذا السند.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم:

أخرجه (خ) فأخرجه في الأشربة (16/ 1) عن أبي نعيم عن مسعر،

ص: 254

وفي (16/ 2) عن آدم، عن شعبة- كلاهما عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة عن علي رضي الله عنه.

وأما أبو داود: فأخرجه فيه أيضا عن مسدد، عن يحيى، عن مسعر- بقصة الشرب خاصة.

وأخرجه (ت) في الشمائل (32/ 4) عن أبي كريب ومحمد بن طريف، كلاهما عن محمَّد بن فضيل، عن الأعمش، عن عبد الملك به أفاده المزي ج 7 ص 452 وأخرجه ابن خزيمة ج 1 ص 12، وابن حبان ج 2 ص 197. وأخرجه أحمد، وأبو داود الطيالسي كما في الفتح ج 12 ص 187.

المسألة الرابعة: في بعض فوائده: يستفاد من هذا الحديث أن الإمام ينبغي له أن يتفرغ في بعض الأوقات لقضاء حوائج الناس وأن يجلس في مكان ظاهر بحيث لا يخفى على الغريب، ومشروعية تجديد الوضوء من غير أن يحدث، وأن صفة وضوئه يخالف صفة وضوء من أحدث، وهي الاكتفاء بمسح أعضائه، وجواز الشرب قائمًا، وقد مر تحقيقه، واستحباب الشرب من فضل وضوئه. والله تعالى أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه، توكلت، وإليه أنيب".

ص: 255

‌101 - الوُضُوءُ لِكُلِّ صَلاةٍ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على مشروعية الوضوء عند إرادة كل صلاة.

131 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ ذَكَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِإِنَاءٍ صَغِيرٍ فَتَوَضَّأَ. قُلْتُ: أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْتُمْ؟ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّى الصَّلَوَاتِ مَا لَمْ نُحْدِثْ، قَالَ: وَقَدْ كُنَّا نُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(محمَّد بن عبد الأعلى) الصنعاني، البصري، ثقة، من العاشرة، مات سنة 245 تقدم في 5/ 5.

2 -

(خالد) بن الحارث بن عُبيد بن سُليم الهُجَيمي، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت، من الثامنة، مات سنة 186 ومولده سنة 120 تقدم في 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الواسطي البصري -7 - تقدم في 24/ 26.

4 -

(عمرو بن عامر) الأنصاري الكوفي، ثقة، من الخامسة.

ص: 256

5 -

(أنس) بن مالك الأنصاري الصحابي الجليل، رضي الله عنه. تقدم في 6/ 6.

لطائف الإسناد

منها أنه من خماسياته.

ومنها أن رواته كلهم ثقات أجلاء، وأنهم بصريون إلا عمرو بن عامر، فإنه كوفي.

ومنها أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

"تنبيه" قال في المنهل ج 2 ص 162 وقد اختلف المحدثون في عمرو ابن عامر الراوي في هذا السند، فصرح المصنف -يعني أبا داود- أنه البجلي، ويؤيده قول شيخه -محمَّد بن عيسى- هو أبو أسد بن عمرو، فإن والد أسد بن عمرو بجلي، والذي في الترمذي أنه الأنصاري، قال بسنده: ثنا سفيان بن سعيد، عن عمرو بن عامر الأنصاري قال: سمعت أنس بن مالك، وذكر الحديث وهذا هو الظاهر وذلك أن عمرو ابن عامر الأنصاري من الطبقة الخامسة، ومن شيوخه أنس بن مالك، ومن تلامذته شعبة، والثوري، وشريك. روى له الجماعة ووثقه أبو حاتم، والنسائي، وابن حبان، وعمرو بن عامر البجلي من الطبقة السادسة، ومن كان منها لم يثبت لقاؤه أحدا من الصحابة، ولم يذكر أن من شيوخه أنسًا.

قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة عمرو بن عامر البجلي: وذكر الآجري، عن أبي داود الذي يروي عن أنس هو والد أسد بن عمرو، وكذا قال ابن عساكر في الأطراف في الرواة عن أنس عمرو بن عامر الأنصاري والد أسد بن عمرو فكأنه تبع في ذلك أبا داود، وذلك وهم فإن والد أسد بجلي، وهو متأخر عن طبقة الأنصاري، وعليه فإن

ص: 257

كان عمرو بن عامر هذا بجليا فلا يصح قوله: سألت أنس بن مالك لأنه لم يلق أنسا، وسبب الخطأ في هذا أن المصنف ذكر الحديث بسنده عن محمَّد بن عيسى، عن شريك، وشريك سيىء الحفظ، كثير الوهم والخطأ، فنعت عمرو بن عامر بالبجلي خطأ منه ولم يتنبه لذلك محمَّد بن عيسى والمصنف. اهـ المنهل.

قال الجامع عفا الله عنه: لكن قال الحافظ بعد نقل ما تقدم: قلت: مثل أبي داود لا يرد قوله بلا دليل. اهـ تت ج 8 ص 60.

وقال في الفتح ج 1 ص 378: وعمرو بن عامر كوفي أنصاري، وقيل: بجلي، وصحح المزي أن البجلي راو آخر غير هذا الأنصاري. اهـ.

قلت: الذي يترجح عندي: هو ما صححه المزي. والله أعلم.

شرح الحديث

(عن أنس) بن مالك رضي الله عنه (أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي) بالبناء للمفعول (بإناء صغير، فتوضأ) من الماء الذي في ذلك الإناء.

قال عمرو بن عامر الأنصاري (قلت) لأنس (أكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة؟) أي مفروضة، قاله في الفتح. (قال) أنس (نعم) قال في القاموس: ونعم: بفتحتين، وقد تكسر العين، ونَعَام، عن المعافى بن زكريا: كلمة كبلى إلا أنه في جواب الواجب. اهـ ص 1502.

وقال الفيومي: وقولهم في الجواب: نعم معناها التصديق إن وقعت بعد الماضي، نحو هل قام زيد، والوعد إن وقعت بعد المستقبل، نحو هل تقوم قال سيبويه: نعم: عدَة وتصديق. قال ابن بَابَ شَاذ: يريد أنها عدة في الاستفهام، وتصديق للإخبار، ولا يريد اجتماع الأمرين فيها في كل حال.

قال النَّيليُّ: وهي تُبقي الكلام على ما هو عليه من إيجاب، أو نفي،

ص: 258

لأنها وضعت لتصديق ما تقدم من غير أن ترفع النفي وتبطله، فإذا قال القائل: ما جاء زيد، ولم يكن قد جاء، وقلت في جوابه: نعم، كان التقدير نعم ما جاء، فصدقت الكلام على نفيه، ولم تبطل النفي، كما تبطله "بلى"، وإن كان قد جاء: قلت في الجواب: بلى، والمعنى: قد جاء، فنعم تبقي النفي على حاله ولا تبطله، وفي التنزيل:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ولو قالوا: نعم كان كفرا، إذ معناه نعم لست بربنا لأنها لا تزيل النفي بخلاف بلى، فإنها للإيجاب بعد النفي. اهـ المصباح ج 2 ص 614 والمعنى هنا: نعم كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة.

قال الحافظ: ما حاصله أي لكل صلاة مفروضة، زاد الترمذي من طريق حميد، عن أنس "وطاهرًا أو غير طاهر". وظاهره أن تلك كانت عادته، لكن حديث سويد يدل على أن المراد الغالب، قال الطحاوي: يحتمل أن ذلك كان واجبا عليه خاصة، ثم نسخ يوم الفتح، لحديث بريدة، يعني الذي أخرجه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم "صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد"، وأن عمر سأله، فقال:"عمدا فعلته"، وقال: ويحتمل أنه كان يفعله استحبابا، ثم خشي أن يظن وجوبه، فتركه لبيان الجواز، قلت: وهذا أقرب، وعلى تقدير الأول فالنسخ كان قبل الفتح بدليل حديث سويد بن النعمان فإنه كان في خيبر، وهي قبل الفتح بزمان اهـ فتح ج 1 ص 378.

قال الجامع عفا الله عنه: وحديث سويد الذي أشار إليه الحافظ هو ما أخرجه البخاري في الطهارة 53/ 1 والمصنف فيه 124/ 186، وابن ماجه فيه 66/ 5، ولفظ البخاري قال:"خرجنا مع رسول الله عام خيبر، حتي إذا كنا بالصهباء صلى لنارسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فلما صلى دعا بالأطعمة فلم يؤت إلا بالسويق، فأكلنا، وشربنا، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغرب، فمضمض، ثم صلى لنا المغرب، ولم يتوضأ".

ص: 259

وقال السندي ما نصه: قوله: يتوضأ لكل صلاة، أي يعتاد ذلك، وإن كان يجمع بين الصلاتين وأكثر بوضوء واحد أيضا. ويحتمل أن جواب أنس حسبما اطلع عليه، ولعله لم يطلع على خلافه وإن كان

ثابتا. اهـ ج 1 ص 85.

قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح عندي هو ما قال الحافظ: إنه الأقرب، وهو أنه فعله لبيان الجواز. والله أعلم.

قال عمرو لأنس (فأنتم؟) زاد الترمذي: "ما كنتم تصنعون؟ " والخطاب للصحابة (قال) أنس رضي الله عنه: (كنا) معاشر الصحابة (نصلي الصلوات) المتعددة، لا جميع صلوات اليوم، ويحتمل المعنى الثاني؛ لأن القضية جزئية. قاله السندي ج 1 ص 85 وقال في المنهل: ولعل ذلك كان يقع منهم أحيانا، وإلا فقد ثبت أنهم يتوضئون لكل صلاة تحصيلا للفضيلة. اهـ ج 2 ص 163.

(ما) مصدرية ظرفية (لم نحدث) أي مدة عدم حصول شيء ينافي صحة الصلاة من البول والغائط ونحوهما منا

(قال) أنس: (وقد كنا نصلي الصلوات بوضوء) واحد.

قال الجامع عفا الله عنه:

جملة "قال" الثانية ليست عند غير المصنف، وهي مؤكدة للجملة الأولى. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث أنس رضي الله عنه أخرجه البخاري.

ص: 260

المسألة الثانية: في بيان موضعه عند المصنف: أخرجه هنا: 101/ 131 بهذا السند فقط.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم.

أخرجه (خ د ت ق). فأخرجه (خ) في الطهارة 56/ 1 عن مسدد، عن يحيى -، و 56/ 1 عن محمَّد بن يوسف- كلاهما عن سفيان الثوري، عن عمرو بن عامر الأنصاري، عن أنس رضي الله عنه.

وأخرجه (د) في الطهارة أيضا 66/ 1 عن محمَّد بن عيسى، عن شريك، عن عمرو، عن أنس. نحوه.

وأخرجه (ت) في الطهارة 44/ 2 عن ابن بشار، عن يحيى، وعبد الرحمن، كلاهما، عن سفيان، عن عمرو، عن أنس، وقال: صحيح.

وأخرجه (ق) في الطهارة: 72/ 1 عن سويد بن سعيد، عن شريك، نحوه. أفاده المزي، تحفة ج 1 ص 292. وأخرجه الطحاوي، والبيهقي. أفاده في المنهل ج 2 ص 165.

المسألة الرابعة: في فوائد هذا الحديث:

منها: مشروعية الوضوء لكل صلاة، طاهرا، وغير طاهر.

ومنها: جواز أداء صلوات كثيرة بوضوء واحد.

ومنها: أن فيه دلالة على وجوب الوضوء عند الحدث لمن يريد الصلاة

المسألة الخامسة: في مذاهب العلماء في وجوب الوضوء لكل صلاة:

وقد اختلفوا في ذلك: فذهبت طائفة من الظاهرية، والشيعة إلى وجوب الوضوء لكل صلاة في حق المقيمين دون المسافرين، واحتجوا بحديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه الآتي.

ص: 261

وذهبت طائفة إلى أن الوضوء واجب لكل صلاة مطلقا، ولو من غير حدث، وروي ذلك عن ابن عمر، وأبي موسى، وجابر بن عبد الله، وعَبيدَة السلماني، وأبي العالية، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم، والحسن، وحكى ابن حزم في كتاب الإجماع هذا المذهب عن عمرو بن عبيد.

وقال النووي في شرح مسلم: وحكى أبو جعفر الطحاوي، وأبو الحسن بن بطال في شرح صحيح البخاري عن طائفة من العلماء أنهم قالوا: يجب الوضوء لكل صلاة، وان كان متطهرا واحتجوا بقول الله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، وما أظن هذا المذهب يصح، ولعلهم أرادوا استحباب تجديد الوضوء عند كل صلاة. انتهى. وروينا عن إبراهيم النخعي أنه لا يصلي بوضوء واحد أكثر من خمس صلوات.

ومذهب أكثر العلماء من الأئمة، وأكثر أصحاب الحديث، وغيرهم أن الوضوء لا يجب إلا من حدث، واستدلوا بالأحاديث الصحيحة، كحديثي

(1)

الباب، وحديث سويد المتقدم، وفي معناها أحاديث كثيرة، كحديث الجمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة، وسائر الأسفار، والجمع بين الصلوات الفائتة يوم الخندق، وغير ذلك. (وأما) الآية الكريمة: فالراد بها -والله أعلم- إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وأنتم محدثون. واستدل الدارمي على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لا وضوء إلا من حدث. وحكى الشافعي عمن لقيه من أهل العلم أن التقدير: إذا قمتم من النوم.

فإن قلت: ظاهر الآية يقتضي التكرار؛ لأن الحكم المذكور، وهو قوله {فَاغْسِلُوا} معلق بالشرط، وهو إذا قمتم إلى الصلاة، فيقتضي

(1)

يعني حديث أنس، وحديث بريدة بن الحصيب.

ص: 262

تكرار الحكم عند تكرر الشرط، كما هو القاعدة عندهم: قلنا: المسألة مختلف فيها، والأكثر على أنه لا يقتضيه لفظًا.

وقال الزمخشري: فإن قلت: ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة محدث وغير محدث، فما وجهه؟ قلنا: يحتمل أن يكون الأمر للوجوب، فيكون الخطاب للمحدثين خاصة، وأن يكون للندب. فإن قلت: هل يجوز أن يكون الأمر شاملا للمحدثين وغيرهم: لهؤلاء على وجه الوجوب، ولهؤلاء على وجه الندب؟ قلت: لا؛ لأن تناول الكلمة الواحدة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية.

وقال الطحاوي رحمه الله قد يجوز أن يكون وضوءه صلى الله عليه وسلم لكل صلاة على ما روى بريدة لإصابة الفضل، لا لأنه كان واجبا عليه. اهـ.

ويدل عليه ما رواه هو، وابن أبي شيبة من حديث أبي غطيف الهذلي، قال: صليت مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الظهر فانصرف في مجلس في داره فانصرفت معه حتى إذا نودي بالعصر دعا بوضوء، فتوضأ، ثم خرج، وخرجت معه فصلى العصر ثم رجع إلى مجلسه، ورجعت معه، حتى إذا نودي بالمغرب دعا بوضوء، فتوضأ، فقلت: له أي شيء هذا يا أبا عبد الرحمن، الوضوء عندكم صلاة؟ فقال، وقد فطنت لهذا مني؟: ليست بسنة، إن كان لكافيا وضوئي لصلاة الصبح، صلواتي كلها ما لم أحدث، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من توضأ على طهر كتب الله له بذلك عشر حسنات"، ففي ذلك رغبت، يا ابن أخي.

قال الجامع:

حديث ابن عمر هذا ضعفه العلماء لأن في سنده عبد الرحمن الإفريقي ضعيف، وأبا غطيف مجهول. انظر الترمذي مع شرحه جـ 1 ص 193.

ص: 263

وقال الطحاوي: وقد روى أنس بن مالك ما يدل على ما ذكرنا، فأخرج حديث أنس المذكور في الباب، ثم قال: فهذا أنس قد علم حكم ما ذكرنا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ير ذلك فرضا. اهـ أي بل كان ذلك لإصابة الفضل، وإلا لما وسعه، ولا غيره أن يخالفوه.

وقال ابن شاهين: لم يبلغنا أن أحدا من الصحابة والتابعين كانوا يعمدون الوضوء لكل صلاة إلا ابن عمر. وفيه نظر؛ لأنه روى ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن ابن عون، عن ابن سيرين: "كان الخلفاء

يتوضؤون لكل صلاة" وفي لفظ: "كان أبو بكر، وعمر، وعثمان، يتوضؤون لكل صلاة".

وقال بعضهم: يمكن حمل الآية على ظاهرها من غير نسخ، ويكون الأمر في حق المحدثين على الوجوب، وفي حق غيرهم. للندب، لكن قد علمت أن هذا لا يصح لما تقدم من أنه يكون من باب الالغاز. ذكره العيني في شرح البخاري. اهـ. المنهل ج 2 ص 163 - 165 بتغيير يسير.

قال الجامع عفا الله عنه: فتحصل من مجموع ما تقدم أن المذهب القوي هو ما عليه الجمهور من أنه لا يجب الوضوء إلا من حدث، وأما التجديد من دون حدث فمن باب الاستحباب؛ لأن الوضوء عبادة

مطلوبة لتكفير الذنوب، ولا يختص ذلك بالمحدث فقط، لعموم الدليل كما تقدم في حديث عبد الله الصنابحي الباب 85 حديث 103.

"تنبيه" حديث "الوضوء على الوضوء نور على نور" قال الحافظ المنذري: لا يحضرني له أصل من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله من كلام بعض السلف اهـ. ترغيب ج 1 ص 99. وقال الحافظ العراقي: لم أجد له أصلا اهـ وقال الحافظ: هو حديث ضعيف رواه رزين في مسنده. وقال السبكي لم أجد له إسنادًا. ذكره في تخريج أحاديث الإحياء ج 1 ص 302.

ص: 264

المسألة السادسة: قال الإمام النووي في شرح مسلم: قال أصحابنا: ويستحب تجديد الوضوء، وهو أن يكون على طهارة، ثم يتطهر ثانيًا من غير حدث، وفي شرط استحباب التجديد أوجه:

أحدها: أنه يستحب لمن صلى به صلاة سواء أكانت فريضة أم نافلة.

الثاني: لا يستحب إلا لمن صلى فريضة.

الثالث: يستحب لمن فعل به ما لا يجوز إلا بطهارة كمس المصحف، وسجود التلاوة.

الرابع: يستحب، وإن لم يفعل به شيئا أصلا بشرط أن يتخلل بين التجديد والوضوء زمن يقع بمثله تفريق، ولا يستحب تجديد الغسل على المذهب الصحيح المشهور، وحكى إمام الحرمين وجها أنه يستحب، وفي استحباب تجديد التيمم وجهان أشهرهما لا يستحب. اهـ كلام النووي. ج 3 ص 177.

قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي استحباب تجديد الوضوء، وإن لم يفعل به شيئًا أصلا لإطلاق الدليل كما تقدم تحقيقه في حديث الصنابحي. والله أعلم.

المسألة السابعة: أنه قد وردت أحاديث في الترغيب في المحافظة على الوضوء وتجديده:

منها حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن". رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما قال الحافظ المنذري: ولا علة له سوى وهم أبي بلال الأشعري.

(1)

(1)

قال العلامة الألباني: بل له علة أخري وهي الإنقطاع بين سالم بن أبي الجعد، وثوبان، ولكن الحديث صحيح، فإن له طرقا أخرى موصولة عند الدارمي، وأحمد، والطبراني، وابن حبان أيضا، وله بعض الشواهد كما ذكره المؤلف -يعني المنذري- بعد اهـ.

ص: 265

ورواه ابن حبان في صحيحه من غير طريق أبي بلال، وقال في أوله: "سددوا وقاربوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة

" الحديث. ورواه ابن ماجه أيضا من حديث ليث وابن أبي سليم- عن مجاهد،

عن عبد الله بن عمرو.

ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، ومع كل وضوء بسواك". رواه أحمد بإسناد حسن.

ومنها حديث عبد الله بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه قال: "أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فدعا بلالا، فقال: يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ إنني دخلت البارحة الجنة، فسمعت خشخشتك

(1)

أمامي؟ " فقال بلال: يا رسول الله ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، ولا أصابني حدث قط إلا توضأت عنده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بهذا". رواه الترمذي، وأحمد وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي. اهـ الترغيب والترهيب ج 1ص 86 - 87. بزيادة من تعليق الألباني.

132 -

أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ طَعَامٌ، فَقَالُوا: أَلَا نَأْتِيكَ بِوَضُوءٍ؟ فَقَالَ: "إِنَّمَا أُمِرْتُ بِالْوُضُوءِ إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ".

(1)

الخشخشة حركة لها صوت كصوت السلاح، أي صوت مشيتك.

ص: 266

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(زياد بن أيوب) بن زياد البغدادي، أبو هاشم، طوسي الأصل، يلقب دَلُّوَيْه، وكان يغضب، ولقبه أحمد "شعبة الصغير" ثقة حافظ، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين وله 86 سنة، أخرج له الجماعة، إلا مسلمًا، وابن ماجه. وفي "تت": قال أبو إسحاق الأصفهاني: ليس على بسيط الأرض أحد أوثق من زياد بن أيوب. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال في موضع آخر: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الدارقطني: ثقة مأمون. قال صاحب الزهرة: روى عنه البخاري حديثين.

2 -

(ابن علية) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم أبو بشر البصري، ثقة حافظ، من الثامنة، مات سنة 193، وهو ابن 83. تقدم في 18/ 19.

3 -

(أيوب) بن أبي تميمة: كيسان السختياني، بفتح المهلملة بعدها معجمة ثم مثناة ثم تحتانية وبعد الألف نون، أبو بكر البصري، ثقة ثبت حجة، من كبار الفقهاء العباد، من الخامسة، مات سنة 131، وله 65 سنة. تقدم في 42/ 48.

4 -

(ابن أبي مليكة) عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، بالتصغير، زهير بن عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، أبو بكر، ويقال أبو محمَّد التيمي المكي، كان قاضيا لابن الزبير ومؤذنا له. قال ابن سعد: ولاه ابن الزبير قضاء الطائف، وكان ثقة كثير الحديث. وقال العجلي: مكي تابعي ثقة. وقال ابن حبان في الثقات: أدرك ثمانين من الصحابة. وفي "ت" أدرك ثلاثين من الصحابة، ثقة، فقيه، من الثالثة. مات سنة -117 - أخرج له الجماعة.

5 -

(ابن عباس) عبد الله الحبر البحر ترجمان القرآن رضي الله عنهما تقدم في 27/ 31

ص: 267

لطائف الإسناد

منها أنه من خماسيات المصنف.

ومنها أن رواته كلهم ثقات أجلاء، وكلهم بصريون إلا زيادا فبغدادي، وابن أبي مليكة فمكي.

ومنها أن فيه رواية تابعي، عن تابعي: أيوب، عن ابن أبي مليكة.

ومنها أن صحابيه هو أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة، وقد تقدم غير مرة

ومنها أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن ابن عباس) رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء) قال في المصباح: والخلاء بالمد مثل الفضاء، والخلاء أيضا: المتوضأ. اهـ. ومثله في (ق) لكن تعقبه الشارح بقوله: فيه نظر، فإن الخلاء في الأصل مصدر، ثم استعمل في المكان الخالي، ثم في المتخذ لقضاء الحاجة لا للوضوء. وقد مر الكلام فيه في الباب 18 - فانظره هناك (فقرب إليه) بتضعيف العين، والبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله (طعام) بوزن كلام: اسم لما يؤكل. أفاده في المصباح. والمعنى أنهم قدموا إليه صلى الله عليه وسلم شيئا مما يؤكل (فقالوا) له (ألا) هي هنا للعرض لأن من معانيها العرض والتحضيض، ومعناهما: طلب الشيء، لكن العرض طلب بلين، والتحضيض طلب بحث، وتختص ألا هذه بالفعلية نحو "ألا تحبون أن يغفر الله لكم" "ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم". انظر مغني اللبيب ج 1 ص 66. (نأتيك بوضوء) بفتح الواو: الماء الذي يتوضأ به. قاله في المصباح (فقال) صلى الله عليه وسلم لهم (إنما أمرت بالوضوء) بضم الواو لأنه اسم للفعل (إذا قمت إلى الصلاة) أي إنما أمرني الله تعالى بالوضوء عند إرادة القيام لأداء الصلاة.

ص: 268

قال السندي رحمه الله تعالى: والظاهر أن المراد وضوء الصلاة، لا غسل اليدين، والمراد بالأمر أعم من أمر الوجوب والندب، والقصر إضافي، أي ما أمرت بالوضوء عند الطعام، لا أمر ندب، ولا أمر وجوب فلا يشكل الحديث بالوضوء لطواف، أو لمس مصحف. اهـ ج 1 ص 85.

قال الجامع:

هذا الكلام في غاية من الحسن، وسيأتي الكلام في حكم الوضوء عند الطواف، ومس المصحف في محله، إن شاء الله تعالى.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حدثنا ابن عباس صحيح.

المسألة الثانية: في بيان موضعه من هذا الكتاب: هذا الحديث ليس له ذكر في هذا الكتاب إلا في هذا الموضع.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول.

أخرجه (د ت): فأخرجه أبو داود في الأطعمة 11 - عن مسدد.

وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن منيع، كلاهما عن إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس رضي الله عنهما. أفاده في تحفة ج 5 ص 43.

المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من الحديث أن البول والغائط ونحوهما من نواقض الوضوء، وأن الإنسان لا يؤمر بالوضوء إلا عند إرادة الصلاة، وهذا هو الواضح من الحديث، كما قدمنا ولهذا أتى به المصنف في هذا الباب، وأخرجه أبو داود، والترمذي، في الأطعمة، استدلالا به على عدم مشروعية غسل اليدين قبل الطعام، وكأنهما حملا الوضوء على الوضوء اللغوي، ولكن الظاهر صنيع المصنف. والله أعلم.

وقد قدمنا تحقيق الخلاف في حكم الوضوء عند القيام للصلاة في الحديث السابق فارجع إليه. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

ص: 269

133 -

أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ صَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَعَلْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ، قَالَ:"عَمْدًا فَعَلْتُهُ يَا عُمَرُ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(عبيد الله بن سعيد) بن يحيى اليشكري، أبو قُدَامة السرخسي، نزيم نيسابور، ثقة مأمون سني، من العاشرة، مات سنة 241 تقدم في 15/ 15.

2 -

(يحيى) بن سعيد بن فروخ -بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وسكون الواو ثم معجمة، التميمي، أبو سعيد القطان البصري، ثقة متقن حافظ إمام قدوة، من كبار التاسعة، مات سنة 198 وله 78. تقدم في 4/ 4.

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الحجة المثبت الكوفي من -7 - تقدم في 33/ 37.

4 -

(علقمة بن مرثد) بفتح الميم، وسكون الراء، بعدها مثلثة، الحضرمي، أبو الحارث الكوفي قال أحمد: ثبت في الحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. ووثقه النسائي، وابن حبان، ويعقوب بن سفيان، وقال خليفة: مات في آخر ولاية خالد القسري على العراق. وفي "ت" ثقة من السادسة. أخرج له الجماعة.

ص: 270

5 -

(ابن بريدة) هو سليمان بن بريدة بن الحصيب، الأسلمي، المروزي قاضيها، وثقه ابن معين، وأبو حاتم. قال مسلم في الطبقة: مات هو وأخوه في يوم واحد، وولدا في يوم واحد. وفي "ت" ثقة من الثالثة، مات سنة 105، وله 90 سنة (م 4).

6 -

(بريدة) بن الحُصَيب، بمهملتين، مصغرًا، بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، أبو عبد الله، وقيل غير ذلك. أسلم قبل بدر، ولم يشهدها، وشهد خيبر، وفتح مكة، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه، وسكن المدينة، ثم انتقل إلى البصرة، ثم إلى مرو، فمات بها. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه ابناه عبد الله، وسليمان، وعبد الله بن أوس الخزاعي، والشعبي، والمليح بن أسامة، وغيرهم. توفي سنة -63 - أخرج له الجماعة.

لطائف الإسناد

منها أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين نيسابوري وهو شيخه، وبصري، وهو يحيى، وكوفي، وهو سفيان، ومروزيين: وهما سليمان وأبوه بريدة، فإنه مدني، ثم بصري، ثم مروزي. وفيه رواية الابن عن أبيه.

شرح الحديث

(عن ابن بريدة) سليمان (عن أبيه) بريدة بن الحصيب رضي الله عنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة) أي مفروضة، يعني طاهرا أو غير طاهر كما تقدم في حديث أنس (فلما كان يوم الفتح)"كان" هنا يحتمل أن تكون تامة "ويوم" فاعلها، أي فلما جاء يوم الفتح، ويحتمل أن تكون ناقصة واسمها محذوف أي فلما كان الزمن يوم الفتح. والمراد بيوم الفتح يوم فتح مكة المكرمة الذي حصل به أعظم فتوح الإسلام، وأعز الله به دينه ورسوله وجنده وحرمه، واستبشر به أهل السماء، ودخل الناس في دين الله أفواجا وكان ذلك في السنة الثامنة

ص: 271

من الهجرة، كما هو معروف في التواريخ والسير (صلى) رسول الله صلى الله عليه وسلم (الصلوات) زاد الترمذي "كلها"، وعند أبي داود:"خمس صلوات"، وعندهما "ومسح على خفيه"(بوضوء واحد) على خلاف عادته الغالبة، فإنه كان يتوضأ لكل صلاة، كما تقدم في حديث أنس رضي الله عنه، ولذا استغرب عمر رضي الله عنه هذا الفعل منه كما بينه قوله (فقال له عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (فعلت شيئا لم تكن تفعله) هو تأديته صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس بوضوء واحد.

وقال السندي: أي لم تكن تعتاده، وإلا فقد ثبت أنه كان يفعله قبل ذلك أحيانا، وقد فعله بالصهباء أيام خيبر حين طلب الأزواد، فلم يوت إلا بالسويق. اهـ ج 1 ص 86.

قال الجامع عفا الله عنه: ويحتمل أن عمر وضي الله عنه لم يشهد ذلك، أو نسيه فأطلق النفي. والله أعلم.

(قال) صلى الله عليه وسلم (عمدا فعلته يا عمر) أي فعلت جمع الصلوات بوضوء واحد متعمدا لا ساهيا، لبيان الجواز.

قال السندي: لما كان وقوع غير المعتاد يحتمل أن يكون عن سهو دفع ذلك الاحتمال ليعلم أنه جائز له ولغيره. اهـ ج 1 ص 86.

وقال القاري في شرح المشكاة: الضمير راجع للمذكور، وهو جمع

الصلوات الخمس بوضوء واحد، والمسح على الخفين، وعمدا تمييز، أو حال من الفاعل، فقدم اهتماما بشرعية المسألتين في الدين واختصاصهما ردًا لزعم من لا يرى المسح على الخفين. وفيه دليل على أن من يقدر أن يصلي صلوات كثيرة بوضوء واحد لا تكره صلاته، إلا أن يدافعه الأخبثان كذا ذكره الشراح. لكن رجوع الضمير إلى مجموع الأمرين يوهم أنه لم يكن يمسح على الخفين قبل الفتح، والحال أنه ليس كذلك، فالوجه أن يكون الضمير راجعا إلى الجمع فقط، أي جمع الصلوات بوضوء واحد. انتهى كلامه. اهـ تحفة الأحوذي ج 1 ص 194.

ص: 272

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث بريدة رضي الله عنه أخرجه مسلم في صحيحه.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه من هذا الكتاب: أخرجه المصنف هنا -101/ 132 - وفي الكبرى -89/ 134 - بهذا السند.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول.

أخرجه (م د ت ق) فأما مسلم فأخرجه في الطهارة 25/ 1 عن محمَّد ابن عبد الله بن نمير، عن أبيه، و25/ 1 عن محمَّد بن حاتم، عن يحيى ابن سعيد.

وأما أبو داود: فأخرجه في الطهارة 66 عن مسدد، عن يحيى.

وأما الترمذي: فأخرجه في الطهارة أيضا -55 - عن محمَّد بن بشار، عن ابن مهدي ثلاثتهم عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه رضي لله عنه.

وأما ابن ماجه: فأخرجه في الطهارة أيضا -72/ 3 - عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمَّد، كلاهما عن وكيع، عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن سليمان نحوه. أفاده في التحفة ج 2 ص 69.

وأخرجه البيهقي والطحاوي قاله في المنهل ج 2 ص 168.

المسألة الرابعة: ذكر أبو عيسى الترمذي في جامعه أنه وقع في هذا الحديث اختلاف، ودونك عبارته بزيادة من شرحه تحفة الأحوذي ج 1 ص 194، 195:

قال: وروى هذا الحديث علي بن قادم، عن سفيان الثوري، وزاد فيه "توضأ مرة مرة"، قال: وروى سفيان الثوري هذا الحديث أيضا عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة" ورواه وكيع، عن سفيان، عن محارب، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه.

ص: 273

قال: ورواه عبد الرحمن بن مهدي، وغيره، عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وهذا أصح من حديث وكيع. أي هذا المرسل الذي رواه عبد الرحمن بن مهدي وغيره، عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة بدون ذكر "عن أبيه" أصح من حديث وكيع الذي رواه عن سفيان، عن محارب مسندا بذكر "عن أبيه" ووجه كون المرسل أصح لأن رواته أكثر.

"تنبيه" اعلم أن سفيان روى هذا الحديث عن شيخين: علقمة بن مرثد، ومحارب بن دثار، واختلاف أصحاب سفيان في روايته مرسلا، ومسندا أنما هو في روايته عن محارب، لا في روايته عن علقمة، فإن أصحابه لا يختلفون في روايته عن علقمة في الإسناد والإرسال، بل كلهم متفقون في روايته مسندا. انتهى تحفة الأحوذي ج 1 ص 195.

قال الجامع: رواية المصنف، ومسلم من طريق علقمة، فلا كلام فيها والله أعلم.

المسألة الخامسة: في فوائد هذا الحديث:

من فوائده: أنه يدل على جواز تأدية الصلوات المفروضة بوضوء واحد وعلى أنه صلى الله عليه وسلم كان يواظب قبل هذا على الوضوء لكل صلاة، عملا بالأفضل، وعلى جواز سؤال المفضول الفاضل عن بعض أعماله التي في ظاهرها مخالفة للعادة الشرعية؛ لأنها قد تكون عن نسيان فيرجع عنه، وقد تكون عمدا لمعنى خفي على المفضول فيستفيده، وعلى أنه ينبغي للمسئول إجابة السائل. أفاده في المنهل ج 2 ص 168.

وأما اختلاف العلماء في حكم المسألة: فقد تقدم في المسائل التي في آخر حديث أنس رضي الله عنه في أول الباب فارجع إليه. والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 274

‌102 - بَابُ النَّضْحِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية نضح المتوضئ فرجه بالماء، والنضح: بفتح فسكون: الرَّشّ: قال في المصباح: نضحت الثوب نضحا من باب ضرب ونفع، وهو البل بالماء والرش "وينضح من بول الغلام" أي يرش، ونضح الفرس: عَرقَ، ونضح العَرَق: خرج، وانتضح البول على الثوب: تَرَشَّشَ، ونضح البعيرُ الماء: حمله من نهر، أو بئر، لسقي الزرع، فهو ناضح، والأنثى ناضحة بالهاء، سمي ناضحا؛ لأنه ينضح العطش، أي يبله بالماء الذي يحمله هذا أصله، ثم استعمل الناضح في كل بعير، وإن لم يحمل الماء، وفي حديث "أطعمه ناضحك" أي بعيرك، والجمع نواضح، "وفيما سقي بالنضح": أي بالماء الذي ينضحه الناضح، ونضحت القربةُ نضحًا من باب نفع: رشحت.

هذا كله بالحاء المهملة، وأما إذا كان بالخاء المعجمة فهو أبلغ منه.

قال في المصباح: نَضَخْت الثوب -يعني بالمعجمة- نضخًا من بابي ضرب ونفع: إذا بَلَلْتَهُ أكثر من النضح، فهو أبلغ منه، وغيث نضاخ: أي كثير غزير، وعين نضاخة: أي فوارة غزيرة. وقال الأصمعي: لا يتصرف فيه بفعل، ولا باسم فاعل. وقال أبو عبيد: أصابني نضخ من كذا، ولم يكن فيه فَعَل، ويَفعَل منسوب إلى أحد. اهـ.

وقال في اللسان: النضح يعني بضاد معجمة فحاء مهملة: الرش نضح عليه الماء ينضح نضحا إذا ضربه بشيء فأصابه منه رشاش. ونضح عليه الماءُ: ارتش وقال الأصمعي: نضحت عليه الماء نضحا، وأصابه نضح من كذا. وحكى الأزهري عن الليث: النضح -أي بالحاء المهملة -كالنضخ- أي بالمعجمة- ربما اتفقا، وربما اختلفا.

ص: 275

ويقولون: النضح -بالمهملة- ما بقي له أثر كقولك: على ثوبه نضح دم والعين تنضح بالماء نضحا: إذا رأيتها تفور، وكذلك تنضخ -أي بالمعجمة- وقال أبو زيد: يقال: نَضَخَ عليه الماء ينضخ، فهو ناضخ، وقال الأصمعي: لا يقال من الخاء فعلت، إنما يقال: أصابه نضخ من كذا، وقال أبو الهيثم: قول أبي زيد أصح، والقرآن يدل عليه، قال الله تعالى:{{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: 66]، فهذا يشهد به. يقال: نضخ عليه الماء؛ لأن العين النضاخة هي الفعالة، ولا يقال لها: نضاخة حتى تكون ناضخة، قال ابن الفرج: سمعت جماعة من قيس يقولون: النضح والنضخ واحد، وقال أبو زيد: نضحته ونضخته بمعنى واحد، قال: وسمعت الغنوي يقول: النضح والنضخ، وهو فيما بَانَ أثره وما رَقَّ، بمعنى. قال: وقال الأصمعي: النضح الذي ليس بينه فُرَج، والنضخ أرق منه، وقال أبو ليلى: النضح، والنضخ ما رقّ، وثخن بمعنى واحد. اهـ لسان.

وقال المباركفوري: المراد بالنضح ها هنا أن يأخذ قليلا من الماء فيرش به مذاكيره بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس. وقد نضح عليه الماء ونضحه به إذا رشه عليه، كذا في النهاية.

134 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ مَاءٍ، فَقَالَ بِهَا هَكَذَا.

وَوَصَفَ شُعْبَةُ: نَضَحَ بِهِ فَرْجَهُ، فَذَكَرْتُهُ لإِبْرَاهِيمَ فَأَعْجَبَهُ.

ص: 276

قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ السُّنِّيِّ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الْحَكَمُ هُوَ ابْنُ سُفْيَانَ الثَّقَفِيُّ رضي الله عنه.

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجحدري، بصري، يكنى أبا مسعود، ثقة، من العاشرة، مات سنة 248. س. تقدم في 42/ 47.

2 -

(خالد بن الحارث) بن عُبيد بن سُليم الهجيمي، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت من الثامنة، مات سنة 186، ومولده سنة 120. تقدم في 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام العلم البصري من -7 - تقدم في 24/ 26.

4 -

(منصور) بن المعتمر بن عبد الله السلمي، أبو عتاب، بمثناة ثقيلة

(1)

ثم موحدة، الكوفي، ثقة ثبت، وكان لا يدلس، من طبقة الأعمش، مات سنة 132. تقدم في 2/ 2.

5 -

(مجاهد) بن جبر، بفتح الجيم وسكون الموحدة، أبو الحجاج المخزومي مولاهم، المكي، ثقة إمام في التفسير وفي العلم، من الثالثة مات سنة إحدى -أو اثنتين، أو ثلاث، أو أربع- ومائة، وله 83 سنة (ع) تقدم في 27/ 30.

6 -

(الحكم) بن سفيان، وقيل: سفيان بن الحكم، قيل له صحبة، لكن في حديثه اضطراب (د س ق).

وفي تهذيب التهذيب: الحكم بن سفيان، أو سفيان بن الحكم، عن النبي صلى الله عليه وسلم في نضح الفرج بعد الوضوء وعنه مجاهد، وقد اختلف عليه

(1)

قوله: بمثناة هكذا في الخلاصة وتهذيب التهذيب وفي التقريب بمثلثة ثقيلة، وهو تصحيف.

ص: 277

فيه: قيل: عنه عن الحكم، أو ابن الحكم عن أبيه. وقيل عن الحكم بن سفيان عن أبيه، وقيل: عن الحكم غير منسوب عن أبيه، وقيل: عن رجل من ثقيف، عن أبيه. هذه أربعة أقوال. وقيل: عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان من غير ذكر عن أبيه، وقيل: عن مجاهد، عن رجل من ثقيف يقال له: الحكم، أو أبو الحكم، وقيل: عن ابن الحكم، أو أبي الحكم بن سفيان، وقيل: عن الحكم بن سفيان، أو ابن أبي سفيان، وقيل: عن رجل من ثقيف، وهذه ستة أقوال ليس فيها عن أبيه.

قال البخاري: قال بعض ولد الحكم بن سفيان: انه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: قلت: وقال الخلال عن ابن عيينة: الحكم ليست له صحبة. وكذا نقله الترمذي في العلل عن البخاري. وقال ابن أبي حاتم: في العلل عن أبيه: الصحيح الحكم بن سفيان، عن أبيه: وكذا قال الترمذي في العلل عن البخاري، والذهليُّ، عن ابن المديني، وصحح إبراهيم الحربي، وأبو زرعة، وغيرهما أن للحكم صحبة فالله أعلم، وفيه اضطراب كثير. اهـ تت ج 2 ص 426.

وقال الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب ج 1 ع 318: الحكم بن سفيان الثقفي، ويقال: ابن الحكم- روى حديثه منصور عن مجاهد، فاختلف أصحاب منصور في اسمه، وهو معدود في أهل الحجاز، له حديث واحد في الوضوء مضطرب الإسناد، يقال: إنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وسماعه منه عندي صحيح لأنه نقله الثقات، منهم الثوري، ولم يخالفه من هو في الحفظ، والإتقان مثله، قال ابن إسحاق هو الحكم ابن سفيان بن عثمان بن عامر بن معتب الثقفي. اهـ كلام ابن عبد البر.

وقال الحافظ في الإصابة ج 1 ص 344: الحكم بن سفيان بن عثمان بن عامر بن معتب بن مالك بن كعب بن سعد بن عوف بن ثقيف الثقفي،

ص: 278

قال أبو زرعة، وإبراهيم الحربي: له صحبة، روى حديثه أصحاب السنن في النضح بعد الوضوء، واختلف فيه على مجاهد، فقيل هكذا، وقيل: سفيان بن الحكم، وقيل غير ذلك، وقال أحمد، والبخاري: ليست للحكم صحبة، وقال ابن المديني والبخاري وأبو حاتم: الصحيح الحكم بن سفيان عن أبيه. اهـ كلام الحافظ.

وقال في الخلاصة ج 1 ص 243: الحكم بن سفيان، أو بالعكس الثقفي قال ابن معين: صحابي له حديث. وعنه مجاهد، وفيه اضطراب. اهـ.

7 -

(أبوه) قد اختلف فيه على قولين: فمنهم من زاده، ومنهم من أسقطه:

فممن زاده شعبة كما في هذا السند، ووهيب بن خالد، وزائدة بن قدامة في رواية، وسفيان بن عيينة، فإنه مرة ذكر أباه، ومرة لم يذكره كما قال الإمام أحمد.

وممن أسقطه الثوري، وعمار بن رزيق كما يأتي للمصنف، ومعمر، وزائدة، وأبو عوانة، وروح بن القاسم، وجرير بن عبد الحميد، وزكريا بن أبي زائدة.

قال الجامع عفا الله عنه:

والحاصل أنهم اختلفوا في زيادة عن أبيه على قولين: وأكثرون على إسقاطه، ولهذا قال ابن عبد البر: سماعه -أي الحكم- منه -أي من النبي صلى الله عليه وسلم عندي صحيح لأنه نقله الثقات، منهم الثوري إلى آخر ما تقدم.

وقال أبو داود بعد ذكر الحديث عن طريق الثوري: وافق سفيان جماعة على هذا الإسناد.

وقال البيهقي: بعد تخريج الحديث عن طريق الثوري أيضا: كذا

ص: 279

رواه الثوري، ومعمر، وزائدة، عن منصور، ورواه شعبة كما أخبرنا أبو الحسن المقرئ ثنا الحسن بن محمَّد بن إسحاق، ثنا يوسف بن يعقوب، ثنا حفص بن عمر، ثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن رجل يقال له: الحكم أو أبو الحكم من ثقيف، عن أبيه، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم "توضأ ثم أخذ حفنة من ماء فانتضح بها"، وكذلك رواه وهيب، عن منصور. ورواه أبو عوانة، وروح بن القاسم، وجرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان مسندا، ولم يذكروا أباه، قال أبو عيسى: سألت محمدًا -يعني بن إسماعيل البخاري- عن هذا الحديث، فقال: الصحيح ما روى شعبة، ووهيب، وقالا، عن أبيه وربما قال ابن عيينة في هذا الحديث: عن أبيه. قال الإمام أحمد: رواه ابن عيينة، عن منصور، فمرة ذكر فيه أباه، ومرة لم يذكره. اهـ كلام البيهقي في السنن ج 1 ص 161.

قال الجامع:

وسيأتي تمام الكلام فيه في الحديث الآتي، إن شاء الله تعالى.

لطائف هذا الإسناد

منها أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات غير أنه وقع الاختلاف في الحكم بن سفيان اختلافا كثيرا، حتى ضعف بسببه الحديث، وأنهم ما بين بصريين: وهم: إسماعيل، وخالد، وشعبة، وكوفي: وهو منصور، ومكي: وهو مجاهد، ويمني: وهو الحكم، عدَّه ابن حبان في مشاهير الصحابة في اليمن في كتابه مشاهير علماء الأمصار ص 58.

ومنها أن إسماعيل ممن انفرد المصنف بالرواية عنه، وأن خالدًا وشعبة ومنصورًا، ومجاهدًا ممن اتفق أصحاب الأصول بتخريج أحاديثهم، وأن الحكم ممن أخرج له المصنف، وأبو داود، وابن ماجه، وأنه لا رواية

ص: 280

له عندهم إلا هذا الحديث في النضح بعد الوضوء. ومنها أن فيه الإخبار في أوله، والتحديث في ثانيه، والعنعنة في الباقي.

شرح الحديث

(عن الحكم) بن سفيان الثقفي (عن أبيه) تقدم أنهم اختلفوا في إثبات عن أبيه، وممن أثبته شعبة، ووهيب، وزائدة، في رواية، وسفيان بن عيينة في بعض الأحيان،. وسيأتي مزيد بسط لذلك إن شاء الله.

(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ حفنة) بفتح فسكون ملء كف قاله السندي. وفي المصباح: حَفَنت له حَفْنا من باب ضرب، وحَفْنَة: وهي ملء الكفين، والجمع حفنات، مثل سجدة وسجدات. اهـ. وقال المجد في (ق) الحفنة: ملء الكف. اهـ. وقال بن منظور: وملء كل كف حفنة، قال: وقال الجوهري: الحفنة: ملء الكفين من طعام. اهـ لسان باختصار.

قال الجامع:

تفسير الحفنة بملء الكف، أو بملء الكفين محتمل في الحديث، لكن الظاهر الأول لأنه ورد في رواية فأخذ كفا من ماء والله أعلم (فقال) أي رش بتلك الحفنة؛ لأن "قال" تطلق على جميع الأفعال. قال ابن منظور: قال ابن الأثير: العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده: أي أخذ، وقال برجله: أي مشى، وقال بالماء على يده: أي قلب، وقال بثوبه: أي رفعه، وكل ذلك على المجاز والاتساع، كما روي في حديث السهو قال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق، روي أنهم أومؤوا برؤوسهم أي نعم، ولم يتكلموا. اهـ لسان باختصار.

وقال المجد: قال ابن الأنباري: "قال" يجيىء بمعنى تكلم،

ص: 281

وضرب، وغلب، ومات، ومال، واستراح، وأقبل، ويعبر بها عن التهيوء للأفعال والاستعداد لها، يقال: قال فأكل، وقال فضرب، وقال فتكلم، ونحوه. اهـ" (هكذا) أي رش رشا مثل هذا الرش، فهو مفعول مطلق لقوله: "قال": قال خالد (ووصف شعبة) ابن الحجاج أي بَيَّنَ معنى قوله: فقال بها هكذا بأنه (نضح) أي رش (به) أي بما أخذه من الماء (فرجه) أي الثوب الذي على فرجه لما عند الطبراني في

المعجم الكبير: ثم أخذ كفا من ماء فنضح به ثيابه. ج 3 ص 243. ويحتمل أن يكون بعد الوضوء وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون قبله بعد الاستنجاء.

وقال في المنهل: وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك تشريعا لأمته لدفع الوسواس، لأنه قد يتخيل الإنسان بعد الوضوء أنه خرج من فرجه بلل فيحصل له الشك، فهذا فعل ذلك انقطع عنه سبيل الوسواس.

وقال الخطابي: الانتضاح ها هنا الاستنجاء بالماء، وكان من عادة أكثرهم أن يستنجوا بالحجارة لا يمسون الماء، وقد يتأول الانتضاح على رش الفرج بالماء بعد الاستنجاء ليندفع بذلك وسوسة الشيطان، اهـ وذكر النووي: أن رش الفرج بالماء بعد الاستنجاء هو المراد من الحديث عند الجمهور. اهـ المنهل ج 2 ص 152. وقال السندي: قيل هو (أي النضح) الاستنجاء بالماء، وعلى هذا معنى "إذا توضأ" أي أراد أن يتوضأ وقيل رش الفرج بالماء بعد الاستنجاء ليدفع به وسوسة الشيطان، وعليه الجمهور، وكأنه يؤخر أحيانًا إلى الفراغ من الوضوء. والله أعلم. اهـ ج1 ص 86، 87.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر هو ما قاله الجمهور. والله اعلم.

قال منصور (فذكرته) أي هذا الحديث (لإبراهيم) بن يزيد بن قيس

ص: 282

النخعي الكوفي (فأعجبه) أي استحسنه؛ لأن أعجب بالألف رباعيا بمعنى استحسن.

قال في المصباح: وعَجبت من الشيء عَجَبا من باب تعب، وتعجبت، واستعجبت، وهو شيء عجيب أي يُعجَب منه، وأعجبني حسنه، وأعجِب زيد بنفسه بالبناء للمفعول: إذا ترفع، وتكبر، ويستعمل التعجب على وجهين: أحدهما: ما يحمده الفاعل، ومعناه الاستحسان والإخبار عن رضاه. والثاني ما يكرهه، ومعناه الإنكار والذم له، ففي الاستحسان يقال: أعجبني بالألف، وفي الذم والإنكار: عجبت وزان تَعبت. اهـ عبارة المصباح ج 2 ص 393.

(قال الشيخ ابن السني) راوي هذا السنن عن أبي عبد الرحمن النسائي. هو الحافظ الإمام الثقة، أبو بكر، أحمد بن محمَّد بن إسحاق ابن إبراهيم بن أسباط الدينوري، مولى جعفر بن أبي طالب صاحب عمل اليوم والليلة، كان، دينا، صدوقا، مات سنة 364، عن بضع وثمانين سنة. اهـ طبقات الحفاظ ص 379. وقد تقدمت ترجمته في مقدمة هذا الشرح وافية، فارجع إليها

والسني: بضم السين المهملة وتشديد النون نسبة إلى السنة ضد البدعة. قاله في اللباب ج 2 ص 149.

والدِّينَوري: بكسر الدال المهملة وسكون الياء وفتح النون وآخره راء نسبة إلى الدينور بلدة من بلاد الجبل، عند قرميسين. قاله في اللباب، ج 1 ص 526.

"تنبيه" ذكر الحافظ السيوطي في طبقات الحفاظ تبعا للذهبي أن ابن

السني هذا هو الذي اختصر المجتبى من السنن الكبرى للنسائي وهذا خلاف ما ذكره في مقدمة زهر الربى في شرح المجتبى من أن المجتبى من

ص: 283

اختصار النسائي نفسه، وهو الذي قاله الأكثرون، وهو الراجح، وقد أشبع الكلام على هذا محقق عمل اليوم والليلة للمصنف الدكتور فاروق حماده في دراساته، ونقلته في مقدمة هذا الشرح (قال أبو عبد الرحمن) النسائي (الحكم) المذكور في هذا السند (هو ابن سفيان الثقفي) بفتحتين نسبة إلى ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، وقيل: إن اسم ثقيف قسي، نزلوا الطائف، وانتشروا في البلاد في الإسلام. اهـ. لباب ج 1 ص 240.

ومراد المصنف بهذا الإشارة إلى أنه وقع اختلاف في اسمه واسم أبيه إلا أن الراجح هو الحكم بن سفيان.

وقد ذكر الاختلافات العلامةُ ابن الأثير في أسد الغابة ج 2 ع 32، 33. فقال: الحكم بن سفيان بن عثمان بن عامر بن معتب ابن مالك بن كعب بن سعد بن عوف بن ثقيف الثقفي، وقيل: سفيان ابن الحكم، وقيل: أبو الحكم الثقفي، وقيل: ابن أبي سفيان، أخبرنا أبو أحمد عبد الوهاب بن علي بن الأمين بإسناده إلى سليمان بن الأشعث، قال: حدثنا محمَّد بن كثير، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان الثقفي، أو سفيان بن الحكم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا بال توضأ ثم انتضح". ورواه زائدة عن منصور على الشك، ورواه روح بن القاسم، وشعبة، وشيبان، ومعمر، وأبو عوانة وزائدة، وجرير بن عبد الحميد، وإسرائيل، وهريم بن سفيان مثل سفيان على الشك، وقال شعبة وأبو عوانة وجرير عن الحكم أو أبي الحكم ورواه عامة أصحاب الثوري على الشك إلا عفيف بن سالم والفريابي فإنهما روياه فقالا: الحكم بن سفيان من غير شك. ورواه وهيب بن خالد عن

ص: 284

منصور، عن الحكم عن أبيه، ورواه مسعر عن منصور، فقال: عن رجل من ثقيف ولم يسمه، وممن رواه ولم يشك سلام بن أبي مطيع وقيس بن الربيع، وشريك قالوا: عن الحكم بن سفيان ولم يشكوا.

أخرجه الثلاثة. اهـ كلام ابن الأثير.

قال الجامع عفا الله عنه:

الصحيح من هذه الأقوال ما ذكره المصنف، وهو الذي رجحه ابن المديني، وأبو حاتم، والبخاري، كما قدمناه.

"تنبيه" هذا الذي ذكرناه من ذكر أبي عبد الرحمن بعد ابن السني هو الذي في النسخة الهندية، وأما النسخة المصرية، فلم يذكر فيها أبو عبد الرحمن، بل جعل هذا الكلام لابن السني، والظاهر ما في الهندية والله أعلم. ومنه التوفيق، وعليه التكلان.

136 -

أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَحْوَصُ بْنُ جَوَّابٍ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ، عَنْ مَنْصُورٍ (ح) وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا قَاسِمٌ - وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْجَرْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ سُفْيَانَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وَنَضَحَ فَرْجَهُ.

قَالَ أَحْمَدُ: فَنَضَحَ فَرْجَهُ.

ص: 285

رجال الإسنادين: تسعة

1 -

(العباس بن محمَّد) بن حاتم بن واقد الدوري، أبو الفضل البغدادي، خواززمي الأصل، ثقة حافظ، من الحادية عشرة، مات سنة 271، وقد بلغ -88 - سنة، والدوري: بضم الدال وسكون الواو وآخره راء نسبة إلى محلة ببغداد. أفاده في اللباب ج 1 ص 512.

2 -

(الأحوص بن جواب) بفتح الجيم وتشديد الواو، الضبي، يكنى أبا الجواب، كوفي، صدوق ربما وهم، من التاسعة، مات سنة إحدى عشرة. (م د ت س).

3 -

(عمار بن رزيق) بتقديم الراء مصغر، الضبي أو التميمي، أبو الأحوص الكوفي لا بأس به من الثامنة، مات سنة 159 (م د س ق).

4 -

(منصور) بن المعتمر، أبو عتاب الكوفي ثقة تقدم في السند السابق. وفي 2/ 2.

5 -

(أحمد بن حرب) بن محمَّد بن علي بن حيان بن مازن الطائي الموصلي، صدوق، من العاشرة مات سنة 263، وله 90 سنة (س).

6 -

(قاسم بن يزيد الجرمي) بفتح الجيم وسكون الراء، أبو يزيد الموصلي ثقة عابد، من التاسعة، مات سنة -194 - (س).

7 -

(سفيان) بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي ثقة ثبت من -7 - تقدم في 33/ 37.

8 -

(مجاهد) بن جبر، أبو الحجاج المخزومي المكي ثقة، تقدم في 27/ 31.

9 -

(الحكم) بن سفيان المتقدم في الحديث الماضي.

ص: 286

لطائف هذين الإسنادين

منها أنهما من سداسيات المصنف.

ومنها أنه كتبت بينهما (ح).

وقد قدمنا أنها مختصرة، واختلفوا مماذا اختصرَت، وقد أشار إلى ذلك السيوطي في ألفيته حيث قال:

وكَتَبُوا "ح" عنْدَ تَكْريرسَنَدْ

فَقيل: منْ صَحَّ، وَقيلَ: ذَا انْفَرَدْ

منَ الحَديثِ أوْ لتَحْويل وَرَدْ

أوْ حَائل وَقَوْلهَا لَفْظًا أسَد

ومنها أن شيخه الأول ممن أخرج له الأربعة، والأحوص ممن أخرج له (م د ت س)، وعمار ممن أخرج له (م د س ق)، وشيخه الثاني ممن انفرد هو به، وكذلك قاسم بن يزيد، وأما غيرهم فقد تقدم بيانهم في السند السابق.

شرح الحديث

(عن الحكم بن سفيان) الثقفي رضي الله عنه أنه (قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ونضح فرجه) أي رش الماء على الثوب الذي على فرجه، كما بينته رواية الطبراني المتقدمة.

قال القاضي أبو بكر بن العربي في العارضة: اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث على أربعة أقوال:

الأول: معناه إذا توضأ صب الماء على العضو صبا ولا يقتصر على مسحه فإنه لا يجزىء فيه إلا الغسل.

الثاني: معناه استبرأ الماء بالنثر والتنحنح، يقال: نضحت: استبرأت، وانتضحت: تعاطيت الاستبراء له.

ص: 287

الثالث: معناه إذا توضأ رش الإزار الذي يلي الفرج ليكون ذلك مذهبا للوسواس.

الرابع: معناه الاستنجاء بالماء، إشارة إلى الجمع بينه وبين الأحجار، فإن الحجر يخفف، والماء يطهره. وقد حدثني أبو مسلم المهدي قال: من الفقه الرائق: الماء يذهب الماء، ومعناه أن من استنجى بالأحجار لا يزال البول يرشح منه، فيجد منه البلل، فهذا استعمل الماء نسب الخاطر ما يجد من البلل إلى الماء وارتفع الوسواس. انتهى كلام ابن العربي ملخصا.

وفي جامع الأصول: الانتضاح رش الماء على الثوب ونحوه، والمراد به أن يرش على فرجه بعد الوضوء ماء ليذهب عنه الوسواس الذي يعرض للإنسان أنه قد خرج من ذكره بلل، فإذا كان ذلك المكان بللا ذهب ذلك الوسواس، وقيل: أراد بالانتضاح الاستنجاء بالماء لأن الغالب كان من عادتهم أنهم يستنجون بالحجارة. انتهى. قال العلامة المباركفوري بعد نقل ما تقدم: قلت: والحق أن المرد بالانتضاح في هذا الحديث هو الرش على الفرج بعد الوضوء، كما يدل عليه ألفاظ أكثر الأحاديث الواردة في هذا الباب. اهـ تحفة الأحوذي ج 1 ص 168، 169.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى: في درجته: حديث الحكم بن سفيان ضعفوه للاضطراب المذكور، لكن قدمنا أن الأصح في اسمه أنه الحكم بن سفيان، وأن ابن معين، وأبا زرعة، وإبراهيم الحربي، وابن حبان، وابن عبد البر أثبتوا صحبته، وقد، وردت في الباب أحاديث تشهد له، وهي وإن كانت كلها ضعيفة إلا أنها يتقوى بعضها ببعض، والظاهر من صنيع المصنف ترجيح رواية سفيان حيث ذكر له متابعا، فيصح الحديث. وقال المباركفوري في تحفته: قلت: فحديث الباب ضعيف وفي الباب

ص: 288

أحاديث عديدة مجموعها يدل على أن له أصلا. ثم ذكر الأحاديث التي أشار إليها الترمذي. فارجع إليه تزدد علما. ج 1 ص 169. وصححه الشيخ الألباني، انظر صحيح النسائي ج 1 ص 30.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا 12/ 134، 135، وفي الكبرى-90/ 135.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول:

أخرجه (د ق)، فأما أبو داود فأخرجه في الطهارة -64/ 3 - عن نصر بن المهاجر، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم أو ابن الحكم، عن أبيه، و -64/ 2 - عن إسحاق ابن إسماعيل، عن سفيان -أي ابن عيينة-، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن رجل من ثقيف عن أبيه به، وفي -64/ 1 - عن محمَّد بن كثير، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن سفيان بن الحكم -أو الحكم بن سفيان- الثقفي نحوه، ولم يذكر أباه.

وأما ابن ماجه: فأخرجه في الطهارة -58/ 1 - عن ابن أبي شيبة، عن محمَّد بن بشر، عن زكريا بن أبي زائدة، عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان به، ولم يذكر أباه، وهكذا رواه عفيف بن سالم الموصلي، عن سفيان الثوري، ورواه مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان، فقال: عن الحكم بن سفيان، عن أبيه. ورواه بعضهم، عن شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن رجل من ثقيف- يقال له: الحكم، أو أبو الحكم، وكذلك رواه أبو عوانة، وجرير، عن منصور. ورواه سلام بن أبي مطيع وقيس بن الربيع، وشريك، عن منصور كما قال زكريا بن أبي زائدة. ورواه يحيى بن أبي بكير، عن زائدة بن قدامة فقال: الحكم بن سفيان أو سفيان بن الحكم- ولم يقل: عن أبيه. وكذلك قال معمر بن

ص: 289

راشد، ومُفَضل بن مهَلهَل، وإسرائيل بن يونس، وهُريم بن سفيان، عن منصور. وقال رَوح بن القاسم، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن الحكم، أو أبي الحكم بن سفيان. وقال الحسن بن صالح بن حي: عن منصور: الحكم بن سفيان، أو ابن أبي سفيان. وقال مسعر عن منصور: رجل من ثقيف، ولم يسمه. وقال وهيب بن خالد، عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم، عن أبيه، ولم ينسبه -والله أعلم- أفاده الحافظ المزي في تحفته ج 3 ص 70، 71.

وأخرجه أيضا أحمد في مسنده، والبيهقي، والطبراني.

المسألة الرابعة: قال في المنهل: دل الحديث على مشروعية رش الماء على الفرج، والسراويل بعد الفراغ من الوضوء. وقد ورد الأمر به في رواية الترمذي، وابن ماجه، عن الحسن بن علي الهاشمي، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"جاءني جبريل فقال: يا محمَّد إذا توضأت فانتضح" قال الترمذي: حديث غريب، وسمعت محمدا يقول: الحسن بن علي الهاشمي منكر الحديث. اهـ وقال المنذري: والهاشمي هذا ضعفه غير واحد من الأئمة، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء. اهـ.

وإلى طلب الانتضاح ذهب جماعة من العلماء. قال العيني: وكان ابن عمر إذا توضأ نضح فرجه، قال عبيد الله: كان أبي يفعل ذلك. وروي ذلك عن مجاهد، وميمون، وسلمة، وابن عباس، وعن هذا قال

أصحابنا: من جملة مستحبات الوضوء أن ينضح الماء على فرجه، وسراويله بعد فراغه من الوضوء، ولا سيما إذا كان به وسوسة. اهـ المنهل.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدم أن أحاديث الباب يتقوى بعضها ببعض فتصلح، فيستفاد منها استحباب النضح. والله أعلم.

ص: 290

‌103 - بَابُ الانْتِفَاعِ بِفَضْلِ الوُضُوءِ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على مشروعية الانتفاع بما بقي عن استعمال المتوضئ سواء كان الباقي في الإناء أو ما اجتمع من غسالته لأن الأحاديث تدل على كليهما.

136 -

أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَتَّابٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي حَيَّةَ، قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَ وَضُوئِهِ وَقَالَ صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا صَنَعْتُ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(أبو داود سليمان بن سيف) بن يحيى بن درهم الطائي مولاهم، الحراني، ثقة حافظ، من الحادية عشرة، مات سنة -272 - (س).

2 -

(أبو عتاب) بمهملة ومثناة ثم موحدة، سهل بن حماد الدَّلال البصري، صدوق، من التاسعة، مات سنة 208 - وقيل قبلها (م 4).

3 -

(شعبة) بن الحجاج أبو بسطام الواسطي البصري الحجة المثبت [7] تقدم في 24/ 26.

4 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله بن عبيد، ويقال علي، ويقال ابن أبي شعيرة الهمداني السبيعي بفتح المهملة وكسر الموحدة، ثقة مكثر عابد، من الثالثة، اختلط بأخرة، مات سنة -129 - ، وقيل قبل ذلك. تقدم في 39/ 42.

ص: 291

5 -

(أبو حية) بن قيس الوادعي، الكوفي، قيل اسمه عمرو بن نصر، وقيل اسمه عبد الله، وقيل اسمه عامر بن الحارث، وقال أبو أحمد الحاكم وغيره: لا يعرف اسمه، مقبول، من الثالثة. تقدم في 79/ 96.

6 -

(علي) بن أبي طالب رضي الله عنه. تقدم في 74/ 91.

لطائف الإسناد

منها أنه من سداسياته.

ومنها أن رواته ثقات غير أبي عتاب فصدوق، وأبي حية فمقبول، ومنها أن شيخه حَراني، وأبو عتاب وشعبة بصريان، وغيرهم كوفيون.

ومنها أن شيخه ممن انفرد هو به، وأبا عتاب ممن أخرج له مسلم، والأربعة، وأبا حية ممن أخرج له الأربعة، وغيرهم ممن اتفق عليهم.

ومنها أن فيه رواية تابعي، عن تابعي: أبو إسحاق، عن أبي حية.

شرح الحديث

(عن أبي حية) الوادعي أنه (قال رأيت عليا رضي الله عنه.

قال السيوطي رحمه الله في عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد

(1)

:

(فائدة) سئل الإمام أبو محمَّد بن السِّيد البطليوسي عن قولنا: "رضي الله عنه" ورضوان الله عليه، هل "عليه" هنا مبدلة من "عن" كما تبدل بعض الحروف من بعض فتسوغ فيها "على" و"عن" أم ليست مبدلة؟

فأجاب: ليست "على" هنا ببدل من "عن" التي حكم رضي أن يتعدى بها، بدليل أن عليه قد صارت خبرا عن المبتدإ، ولو كانت بدلا من "عن" لكانت من صلة الرضوان، ولم يصح أن يكون خبرا عنه، و"عن" مضمنة في الكلام، كأنه قال رضوان الله عنه سابغ عليه أو واقع عليه ونحو ذلك. اهـ عقود الزبرجد ج 1 ص 13، 14.

(توضأ) جملة حالية لأن رأى بصرية (ثلاثا ثلاثا) مفعول مطلق

(1)

هو كتاب ألفه السيوطي لإعراب مشكلات أحاديث مسند الإمام أحمد، طبع قريبا بتحقيق أحمد عبد الفتاح وسمير حسين حلبي.

ص: 292

لتوضا، أي توضأ توضؤًا ثلاثا (ثم) بعد إكمال الوضوء (قام فشرب فضل وضوئه) بفتح الواو، أي ما بقي من وضوئه من الماء (وقال) علي رضي الله عنه (صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنعت) أي فعل مثل فعلي هذا من كيفية الوضوء والشرب قائمًا. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: وقد قدمنا في الباب 79 و 96 أن ابن السكن، وغيره صححوه، وقد تابع أبا حية في روايته عن علي رضي الله عنه عبد خير، والحسين بن علي.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه من هذا الكتاب: أخرجه المصنف هنا، وفي الباب 79، وفي 93.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول: أخرجه (د ت) وقد تقدم تفاصيل ذلك كله في الباب 79/ ح 96. فارجع إليه تزدد علما.

المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من هذا الحديث مشروعية الوضوء ثلاثا ثلاثا، واستحباب الشرب من فضل الوضوء، وجواز الشرب قائمًا، لكن وردت أحاديث بمنع الشرب قائما ووجه التوفيق بينها وبين هذا الحديث تقدم في الباب المذكور، فأرجع إليه تزدد علما. ويستفاد أيضا ما ترجم له المصنف، وهو الانتفاع بفضل الوضوء وسيأتي الكلام عليه آخر الباب. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

137 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْبَطْحَاءِ وَأَخْرَجَ بِلَالٌ فَضْلَ وَضُوئِهِ، فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَنِلْتُ مِنْهُ شَيْئًا، وَرُكِزَتْ لَهُ الْعَنَزَةَ، فَصَلَّى

ص: 293

بِالنَّاسِ، وَالْحُمُرُ وَالْكِلَابُ وَالْمَرْأَةُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(محمَّد بن منصور) بن ثابت بن خالد الخزاعي، المكي، الجَوَّاز، بالجيم وتشديد الواو ثم زاى، ثقة، من العاشرة، مات سنة 252 (س) تقدم في 2/ 2.

2 -

(سفيان) بن عيينة أبو محمد الكوفي ثم المكي الثقة الحجة من [8] تقدم في 1/ 1.

3 -

(مالك بن مغول) بكسر أوله وسكون المعجمة وفتح الواو، الكوفي، أبو عبد الله، ثقة ثبت، من السابعة، مات سنة 259. على الصحيح (ع) تقدم في 98/ 127.

4 -

(عَوْن بن أبي جحيفة) السُّوَائي، بضم المهملة، الكوفي، وثقه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات. قال خليفة: مات في آخر ولاية خالد على العراق. وقال ابن قانع: مات سنة -116 - وفي "ت": ثقة من الرابعة. أخرج له الجماعة.

5 -

(أبو جيحفة) وهب بن عبد الله السوائي

(1)

ويقال: اسم أبيه وهب أيضا، مشهور بكنيته، ويقال له: وهب الخير، صحابي معروف، وصحب عليا، قيل: مات النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبلغ الحلم. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن علي، والبراء بن عازب. وعنه ابن عون، وسلمة ابن كهيل، والشعبي، وغيرهم. قال أبو نعيم: كان على شُرْطَة علي، واستعمله على خمس المتاع، ويقال: إن عليا هو الذي سماه وهب الخير. قال الواقدي: مات في ولاية بشر بن مروان. وقال غيره: سنة -74 - أخرج له الجماعة.

(1)

السوائي: بضم السين وفتح الواو: نسبة إلى سواء بن عامر بن صعصعة. اهـ لباب. ج 2 ص 152.

ص: 294

لطائف الإسناد

منها أنه من خماسيات المصنف.

ومنها أن رواته كلهم ثقات، وكلهم كوفيون إلا شيخه فمكي، وسفيان فكوفي، ثم مكي.

ومنها أن فيه رواية الراوي عن أبيه.

ومنها أن رواته ممن اتفق أصحاب الأصول فيهم إلا شيخه، فهو ممن انفرد هو به.

ومنها أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه) وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه أنه (قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم) أي اطلعت عليه، وعاينته، (بالبطحاء) قال ابن منظور: والبطحاء: مَسيل فيه دُقَاق الحصى، قال الجوهري: الأبطح: مسيل واسع فيه دقاق الحصى. وقال ابن سيده: وقيل: بطحاء الوادي: تراب لين مما جرته السيول، والجمع بطحاوات وبطاح. وقال ابن الأثير: وبطحاء الوادي، وأبطحه: حصاه اللين في بطن المسيل، ومنه الحديث:"أنه صلى الله عليه وسلم، صلى بالأبطح" ويعني أبطح مكة قال: هو مسيل واديها. اهـ لسان باختصار.

وقال النووي: والأبطح موضع معروف على باب مكة، ويقال له: البطحاء أيضا. اهـ شرح مسلم ج 4 ص 218.

(أخرج بلال) بن رباح المؤذن، وهو ابن حمامة، وهي أمه، أبو عبد الله، مولى أبي بكر، من السابقين الأولين، وشهد بدرا والمشاهد، مات بالشام سنة 17، أو 18، وقيل: سنة 20، وله بضع وستون سنة (ع).

ص: 295

والجملة حال من الفاعل (فضل وضوئه) بفتح الواو، أي الباقي من الماء الذي توضأ به.

وقال السندي: ظاهره أنه الذي بقي في الإناء بعد الفراغ من الوضوء، ويحتمل أنه المستعمل فيه، والأخير هو الأظهر في الحديث الآتي. اهـ. ج 1 ص 87. (فابتدره الناس) أي استبقوا إلى أخذه تبركا بأثره صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: كأنهم اقتسموا الماء الذي فضل عنه، ويحتمل

أن يكونوا تناولوا ما سال من أعضاء وضوئه صلى الله عليه وسلم، وفيه دلالة بينة على

طهارة الماء المستعمل. اهـ فتح ج 1 ص 353. قال أبو جحيفة (فنلت منه شيئا) أي أصبت من ذلك الماء قليلا. قال ابن منظور يقال نالني من فلان معروف ينالني أي وصل إليّ منه معروف.

وقال الجوهري: نال خيرا، ينال، نيلا، قال: وأصله نَيلَ، يَنْيَل، مثال تَعب، يتعب، وأناله غيره، والأمر منه نَل بفتح النون، وإذا أخبرت عن نفسك كسرته، اهـ لسان باختصار (وركزت) بالبناء

للمفعول، أي غرزت، وفي نسخة ورَكَزَ بالبناء للفاعل، أي غرز بلال أفاده السندي. وقال في المصباح: رَكَزت الرمحَ رَكْزًا من باب قتل: أثبته بالأرض، فارتكز، والمَرْكز وزان مسجد موضع الثبوت. اهـ.

(العنزة) بفتحتين: عصا أقصر من الرمح، ولها زجُّ

(1)

من أسفلها، والجمع عنز -أي بفتحتين -أيضا، وعنزات مثل قصبة، وقصب وقصبات، قاله في المصباح.

وقال ابن منظور: والعنزة: عصا في قدر نصف الرمح، أو أكثر شيئا فيها سنان الرمح، وقيل: في طرفها الأسفل زجّ كزجّ الرمح يَتَوَكأ عليها

(1)

الزج: بالضم: الحديدة التي في أسفل الرمح وجمعه زجاج مثل رمح ورماح، وجمع أيضا: زجَجَة مثال عنبة، قال ابن السكيت: ولا يقال: أزجة. اهـ الصباح.

ص: 296

الشيخ الكبير، وقيل: هي أطول من العصا وأقصر من الرمح. اهـ لسان.

وإنما ركزت العنزة له لتكون سترة فيصلي إليها كما بينه قوله (نصلى) النبي صلى الله عليه وسلم (بالناس) الظهر والعصر ركعتين، كما صرح به في رواية الشيخين (والحمر) بضمتين جمع حمار الذكر، والأنثى أتَان، وحِمَارة بالهاء نادر، ويجمع أيضا على حمِير. أفاده في المصباح (والكلاب) جمع كلب: كل سبع عقور، وغلب على هذا النابح قاله المجد، بل صار حقيقة لغوية فيه، لا تحتمل غيره، لذا قال الجوهري وغيره: هو معروف، ولم يحتاجوا لتعريفه لشهرته.

قال الجامع عفا الله عنه:

هذا المشهور هو المراد هنا وربما وصف به، يقال: رجل كلب، وامراة كلبة. قاله الشارح المرتضى. ويجمع أيضا على أكلب وأكالب، وكلابات. اهـ. (ق).

(والمرأة) وزان تمرة، وفيها لغة أخرى: امرأة، ويجوز نقل حركة همزة مرأة إلى الراء فتحذف، وتبقى مَرَة وزان سَنَة، وربما قيل فيها: امرأ بغير هاء اعتمادا على قرينة تدل على المسمى، قال الكسائي:

سمعت امرأة من فصحاء العرب تقول أنا امرأ أريد الخير، بغير هاء وجمعها نساء، ونسوة، من غير لفظها اهـ المصباح. ج 2 ص 570.

فقوله: والحمر الخ: مبتدأ، والواو واو الحال وخبر المبتدإ جملة قوله:(يمرون بين يديه) أي قدامه، وراء العَنَزَة، وهذا يدل على أن مرور شيء وراء السترة لا يضر. قاله السندي ج 1 ص 87.

"تنبيه" وقع هنا عند المصنف هكذا: والحمر، والكلاب، والمرأة يمرون، ووقع عند البخاري "والمرأة والحمار يمرون من ورائها" واستشكل

ص: 297

عود ضمير جمع المذكر العاقل على المؤنث وعلى غير العاقل.

وقد أجاب شراح البخاري عما وقع في البخاري، فقال ابن مالك: المشكل من هذا الحديث قوله: والمرأة والحمار يمرون فعاد الضمير للذكور العقلاء على مؤنث ومذكر غير عاقل، والوجه فيه أنه أراد المرأة والحمار وراكبه فحذف الراكب لدلالة الحمار عليه، مع نسبة مرور مستقيم إليه، ثم غَلَّبَ تذكير الراكب المفهوم على تأنيث المرأة، وعَقلَهُمَا على بهيمية الحمار، فقال: يمرون.

ومثل يقرون المخبر به عن مذكور ومعطوف محذوف، وقوعُ طَيلحَان في قول بعض العرب: راكب البعير طيلحان. يريد راكب البعير والبعيرُ طيلحان. اهـ شواهد التوضيح ص 93. وأجاب غيره بغير هذا راجع الفتح ج 1 ص 686 وعمدة القاري ج 4 ص 110.

قال الجامع عفا الله عنه:

وجواب ابن مالك أحسنها، ففي رواية المصنف نقول: غُلبَ تذكير الراكبين المفهومين على تأنيث المرأة، وعقلهم على بهيمية الحمر والكلاب. والله أعلم. ومنه التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث هذا الباب

المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث متفق عليه:

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرج المصنف هذا الحديث هنا، وفي الكبرى 91/ 135، بالسند المذكور وفي الحج 280/ 2 عن موسى بن عبد الرحمن، عن حسين الجعفي، عن زائدة، عن مالك ابن مِغْول، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه. وأخرجه عن طريق سفيان الثوري في هذا الكتاب في الزينة -121 - عن عبد الرحمن بن محمَّد بن سلام، عن إسحاق الأزرق، عنه بنحوه.

ص: 298

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول: أخرجه (خ م) فأما البخاري: فأخرجه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم (المناقب 23/ 26) عن الحسن ابن الصباح، عن محمَّد بن سابق، عن مالك بن مغول، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه.

وأما مسلم فأخرجه في الصلاة (47/ 11) عن قاسم بن زكريا، عن حسين الجعفي، عن زائدة، عن مالك، عن عون، عن أبيه،.

المسألة الرابعة: في فوائده: يستفاد من هذا الحديث طهارة الماء المستعمل، وجواز الانتفاع به، وهو الذي ترجم له المصنف، وجواز لتبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم، ومحبة الصحابة له صلى الله عليه وسلم، وتعظيمهم إياه، واستعمال العنزة للسترة، واستعانة الإمام بمن يركز له إياها، وعدم بطلان الصلاة، ولا نقصها بمرور شيء وراءها. وجواز استخدام الحر برضاه، واستحباب خدمة أهل الفضل. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

138 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: مَرِضْتُ، فَأَتَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ يَعُودَانِّي، فَوَجَدَانِي قَدْ أُغْمِي عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَبَّ عَلَيَّ وَضُوءَهُ.

رجال الإسناد: أربعة

1 -

(محمَّد بن منصور)

2 -

(سفيان) تقدما في السند السابق.

3 -

(ابن المنكدر) هو محمَّد بن المنكدر بن عبد الله بن الهُدَير

ص: 299

بالتصغير التيمي، المدني، ثقة فاضل، من الثالثة، مات سنة -130 - أو بعدها (ع).

4 -

(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام، بمهملة وراء، الأنصاري، ثم السَّلَمي، بفتحتين، صحابي ابن صحابي، غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة، بعد السبعين، وهو ابن -94 - (ع) تقدم في 31/ 35.

لطائف الإسناد

منها: أنه من رباعيات المصنف، وقد تقدم في المقدمة أنه أعلى ما وقع له، وهو التاسع من رباعيات الكتاب.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين مكي وهو شيخه، وكوفي ثم مكي، وهو سفيان، ومدنيين، وهما ابن المنكدر، وجابر.

"تنبيهان":

الأول: معنى قولي: إن هذا السند من رباعيات الصنف، وأنه أعلى ما وقع له من الأسانيد: كون الوسائط بينه، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص، فمثلا هنا: شيخه، وسفيان، وابن المنكدر، وجابر، أربع وسائط. وهذا هو أعلى ما عنده، ومثله لمسلم وأبي داود، بخلاف البخاري، والترمذي، وابن ماجه، فإن لهم ثلاثيات. وقد اعتنى بعض العلماء بجمع ثلاثيات البخاري، والترمذي، وكذا الدارمي، وعبد بن حميد، والطبراني. وقد تقدم تحقيق هذا في المقدمة فأرجع إليه.

الثاني: في تعريف الإسناد العالي، وأن طلبه أمر مستحب، وتقسيم العلو.

الإسناد العالي: هو الذي قل عدد رجاله مع الاتصال، وكذا إذا تقدم

ص: 300

سماع راويه، أو تقدمت وفاة شيخه.

وعلو الإسناد له عند المحدثين شأن كبير، وذلك أنه يفيد قوة السند، لأنه يبعد احتمال الخلل عن الحديث؛ لأن كل رجل من رجاله قد يحتمل أن يقع من جهته خلل، فهذا قَلت الوسائط تقل جهات الاحتمالات للخلل، فيكون علو السند قوة للحديث.

قال الحافظ أبو الفضل المقدسي: أجمع أهل النقل على طلبهم العلو، ومدحه، إذ لو اقتصروا على سماعه بنزول لم يرحل أحد منهم.

وقد رحل المحدثون فيه، وأتعبوا مطاياهم من أجله، ما يسمع أحدهم بحديث عن محدث في عصره حتى يرحل إليه ليسمعه منه مباشرة. قال أحمد بن حنبل: طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف، وقيل ليحيى بن معين في مرضه الذي مات فيه: ما تشتهي؟ قال: بيت خال، وسند عال.

وينقسم العلو بحسب جهته إلى خمسة أقسام: ترجع إلى قسمين: علو مسافة بقلة الوسائط، وعلو صفة، أما العلو بالمسافة: فهو ثلاثة أقسام:

القسم الأول: القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث العدد، بإسناد صحيح نظيف، وهذا علو مطلق، وهو أفضل أنواع العلو، وأجلها، قال محمَّد بن أسلم الطوسي الزاهد: قرب الإسناد قرب أو قربة إلى الله عز وجل، ووجه كلامه هذا فيما نرى: أن قرب الإسناد يفيد قوة السند كما عرفت، واستخراج المحدث لذلك يقربه إلى الله عز وجل.

القسم الثاني: القرب من إمام من أئمة الحديث، وهو علو نسبي كالعلو إلى مالك، والأوزاعي، وسفيان.

ص: 301

ووجه هذا أن هؤلاء الأئمة قد انتهى إليهم علم الحديث، وحفظه، فأصبح خوف الخلل في رواياتهم مأمونا، فرغبوا في العلو إليهم، لما فيه من قوة السند.

القسم الثالث: العلو بالنسبة إلى الكتب الحديثية المشتهرة، وهو أن يعلو إسناد المحدث بالنسبة إلى روايته عن طريق الصحيحين وبقية الستة، إذ لو روى الحديث من طريق كتاب من الستة يقع أنزل مما لو رواه من غير طريقها، وغالبا ما يكون السبب نزول الإسناد عن طريق هذه الكتب.

أما عُلُوَّا الصفة: فقد ذكرهما الحافظ أبو يعلى الحنبلي في كتاب الإرشاد إلى معرفة الحديث، واشتهرا بعده.

الأول: العلو بتقدم وفاة الراوي بأن يتقدم موت الراوي في هذا السند على موت الراوي الذي في السند الآخر، وإن كانا متساويين في العدد.

الثاني: العلو بتقدم السماع من الشيخ بأن يكون أحد الرواة سمع منه

قبل غيره إلا أنه يقع التداخل كثيرا بين هذين القسمين حتى عدهما بعض العلماء قسما واحدا.

(1)

شرح الحديث

(عن سفيان) بن عيينة أنه (قال: سمعت ابن المنكدر يقول) قال الجلال السيوطي رحمه الله: يتكرر قول الراوي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وقد اختلف هل يتعدى سمعت إلى مفعولين فجوزه الفارسي، لكن لابد أن يكون الثاني مما يسمع نحو سمعت زيدا قال كذا، فلو قلت:

سمعت زيدا أخاك لم يجز، والصحيح تعديتها إلى واحد، وما وقع بعده منصوبا فعلى الحال، والأول على تقدير مضاف، أي سمعت كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن السمع لا يقع على الذوات، ثم بين هذا المحذوف

(1)

راجع التدريب جـ 2 ص 159 - 170، وشروح الألفية العراقية في المصطلح، وشرحي لألفية السيوطي فيه.

ص: 302

بالحال المذكور، وهو يقول، وهي حال مبينة، ولا يجوز حذفها.

وقال الزمخشري في قوله: "سمعنا مناديا": "تقول: سمعت رجلا يتكلم، فتوقع الفعل على الرجل، وتحذف المسموع؛ لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالا عنه، فأغناك عن ذكره، ولولا الوصف أو

الحال لم يكن منه بد وأن يقال: سمعت كلامه.

وقال الطيبي: الأصل في سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول، سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخر القول وجعل حالا ليفيد الإبهام والتعيين وهو أوقع في النفس من الأصل. اهـ عقود الزبرجد ج 1 ص 21 (سمعت جابرا) رضي الله عنه، (يقول: مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر) رضي الله عنه (يعوداني) قال في المصباح: عُدت المريض عيادَة: زُرته فالرجل عائد وجمعه عُوَّاد، والمرأة عائدة وجمعها عُوّد بغير ألف. قال الأزهري: هكذا كلام العرب. اهـ ج 2 ص 437.

(فوجداني قد أغمى علي) أي غشي على قال في المصباح: وغمي على المريض ثلاثي مبني للمفعول فهو مَغْميّ عليه على مفعول، قاله ابن السكيت، وجماعة، وأغمي عليه إغماء بالبناء للمفعول أيضا وتقدم في غشي ما قيل فيه عن الأطباء.

وقال في مادة غشي: ويقال إن الغَشْيَ يعطّل القوى المحركة والأوْردَة الحساسة لضعف القلب بسبب وجع شديد أو برد أو جوع مفرط، وقيل الغشي: هو الإغماء، وقيل: الإغماء: امتلاء بطون الدماغ من بلغم بارد غليظ، وقيل الإغماء سهو يلحق الإنسان مع فتورالأعضاء لعلة. اهـ ج 2 ص 448.

وقال في اللسان: وغُميَ على المريض وأغمي عليه: غُشيَ عليه ثم أفاق.

وفي التهذيب: أغمي على فلان إذا ظن أنه مات، ثم يرجع حيا. اهـ ج 15. ص 134.

ص: 303

(فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، نصب عليّ وَضوءه) بفتح الواو: أي الماء الذي توضأ به، أو منه.

قال السندي: والظاهر أنه الماء الستعمل، فهذا يدل على طهارة الماء المستعمل، وحديث الخصوص غير مسموع لكون الأصل العموم. اهـ ج 1 ص 87/ 88.

وقال الحافظ: يحتمل أن يكون الراد صب علي بعض الماء الذي توضأ به، أو مما بقي منه، والأول المراد، فللمصنف في الاعتصام "ثم صب وضوءه علي" ولأبي داود "توضأ وصبه علي". اهـ فتح ج 1 ص 360.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث جابر هذا، متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه من هذا الكتاب: حديث جابر عن طريق ابن عيينة لم يذكره المصنف في المجتبى إلا في هذا الموضع. وأخرجه في الكبرى في الفرائض والتفسير عن محمَّد بن منصور، وفي الطب أيضا عن قتيبة، عن سفيان، عن محمَّد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول، وغيرهم: أخرجه (خ) في المرضَى عن عبد الله بن محمَّد، وفي الفرائض عن قتيبة - وفي الاعتصام عن علي بن عبد الله.

وأخرجه (م) في الفرائض -3/ 1 - عن عمرو الناقد. وأخرجه (د) في الفرائض عن أحمد بن حنبل. وأخرجه (ت) في الفرائض وفي التفسير عن الفضل بن الصباح البغدادي، وفي التفسير عن عبد بن

حميد، عن يحي بن آدم- وأخرجه (ق) في الجنائز -1/ 4 - عن محمَّد

ص: 304

ابن عبد الأعلى الصنعاني، وفي الفرائض -5/ 3 - عن هشام بن عمار ثمانيتهم عن سفيان، عن ابن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في مسنده ج 3/ 307.

المسألة الرابعة: في فوائد هذا الحديث: يستفاد من هذا الحديث: مشروعية عيادة المريض، واعتناء كبير القوم بتفقد أصحابه، وطهارة الماء المستعمل، وجواز الانتفاع به وهو الذي بوب عليه المصنف، رحمه

الله. وسيأتي تحقيق المسألة، وأقوال العلماء فيها، وترجيح المذهب الصحيح في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

المسألة الخامسة: في مذاهب العلماء في الماء المستعمل: قال الإمام النووي رحمه الله ما ملخصه: اختلف العلماء في طهارة الماء المستعمل وكونه ليس بمطهر فأما المسألة الأولى، وهي كونه طاهرا فقد قال بها مالك والشافعي، وأحمد، وجمهور السلف، والخلف، وخالف في ذلك أبو يوسف فقال بنجاسته. وعن أبي حنيفة ثلاث روايات: إحداها رواية محمَّد بن الحسن: طاهر، وهو المشهور عنه. والثانية: نجس نجاسة مخففة. والثالثة: نجس نجاسة مغلظة. واحتج لهما بقوله صلى الله عليه وسلم "لا يبولن

أحدكم في الماء الدائم، ثم يتوضأ منه، ولا يغتسل فيه من الجنابة". قالوا فجمع بين البول، والاغتسال. ولأنه أدى به فرض طهارة، فكان نجسا، كالمزال به النجاسة.

واحتج الأولون بحديث جابر رضي الله عنه -يعني حديث الباب- واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم "الماء طهور لا ينجسه شيء" وهو حديث صحيح وهو على عمومه، إلا ما خص لدليل. واحتج الشافعي ثم أصحابه بأن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يتوضؤون، ويتقاطر على ثيابهم، ولا يغسلونها. واحتجوا بأن الماء طاهر لاقى محلا طاهرًا،

ص: 305

فكان طاهرًا كما لو غسل به ثوب طاهر. ولأن الماء طاهر، والأعضاء طاهرة، فمن أين النجاسة.

والجواب عن حديث "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة" من أوجه: أحدها أن هذا الحديث رواه هكذا أبو داود في سننه من رواية محمَّد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ورواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ومسلم قال:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل منه" وفي رواية لمسلم "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" فقيل لأبي هريرة: كيف يفعل؟ قال: "يتناوله تناولا" فهاتان الروايتان خلاف رواية أبي داود، قال البيهقي: رواية الحفاظ من أصحاب أبي هريرة

كما رواه البخاري، ومسلم، وأشار البيهقي إلى تقديم هذه الرواية، وجعله جوابا لاستدلالهم به، لكن لا يُرتَضَى هذا الجواب، ولا الترجيح لأن الترجيح إنما يستعمل إذا تعذر الجمع بين الروايتين، وليس هو متعذرا هنا، بل الجواب المرضي أنه لا يلزم اشتراك القرينين في الحكم، قال الله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ} [الأنعام: 141]، فالأكل غير واجب، والإيتاء واجب.

وجواب آخر وهو أن النهي عن البول والاغتس الذيه ليس لأنه ينجس بمجرد ذلك، بل لأنه يقذره، ويؤدي إلى تغيره. ولهذا نص الشافعي، والأصحاب على كراهة الاغتسال في الماء الراكد وإن كان كثيرا. وعلى الجملة تعلقهم بهذا الحديث وحكمهم بنجاسة الماء به عجيب.

وأما قياسهم على المزال به نجاسة فجوابه من أوجه: أحدها لا نسلم نجاسته إذا لم يتغير، وانفصل وقد طهر المحل. الثاني: أنا حكمنا بنجاسته لملاقاته محلا نجسا بخلاف المستعمل في الحدث. الثالث: أنه

ص: 306

انتقلت إليه النجاسة. والله أعلم.

وأما المسألة الثانية وهي كونه ليس بمطهر، فقال به أبو حنيفة والشافعي، وأحمد، وهو رواية عن مالك، ولم يذكر ابن المنذر عنه غيرها.

وذهب طوائف إلى أنه مطهر، وهو قول الزهري، ومالك، والأوزاعي في أشهر الروايتين عنهما، وأبي ثور، وداود. قال ابن المنذر: وروي عن علي، وابن عمر، وأبي أمامة، وعطاء، والحسن، ومكحول، والنخعي، وإنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد في لحيته بللا: يكفيه مسحه بذلك، قال ابن المنذر: وهذا يدل على أنهم يرون المستعمل مطهرا، قال وبه أقول.

واحتج لهؤلاء بقول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] والفَعُول لما يتكرر منه الفعل، وبما رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه توضأ فمسح رأسه بفضل ماء في يده"، وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم "مسح رأسه ببلل لحيته"، وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم "اغتسل فنظر لمعة من بدنه لم يصبها الماء فأخذ شعرا من بدنه عليه ماء فأمرّة على ذلك الموضع" قالوا: ولأنه ماء لاقَىَ طاهرا فبقي مطهرا كما لو غسل به ثوب، ولأنه مستعمل

فجاز الطهارة به، كالمستعمل في تجديد الوضوء، ولأنه ما أدِّيَ به الفرض مرة لا يمتنع أن يؤدي به ثانيا، كما يجوز للجماعة أن يتيمموا من موضع واحد وكما يخرج الطعام في الكفارة ثم يشتريه، ويخرجه فيها ثانيا، وكما يصلي في الثوب الواحد مرار. قالوا: ولأنه لو لم تجز الطهارة بالمستعمل لامتنعت الطهارة؛ لأنه بمجرد حصوله على العضو يصير مستعملا، فإذا سال على باقي العضو ينبغي أن لا يرفع الحدث، وهذا متروك بالإجماع، فدل على أن المستَعْمَل مُطهِّر.

قال النووي: واحتج أصحابنا بحديث الحكم بن عمرو رضي الله عنه

ص: 307

أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة" رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، قال الترمذي: حديث حسن، وقال البخاري: ليس هو بصحيح، قالوا: ووجه الاستدلال أن المراد بفضل طهور المرأة ما سقط عن أعضائها لأنا نقول نحن والمنازعون على أن الباقي في الإناء مطهر فتعين حمله على الساقط، قال النووي: وفي صحة هذا الحديث والاستدلال به هنا نظر.

واحتجوا بحديث أبي هريرة السابق مع أبي حنيفة "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب" قالوا: والمراد نهيه لئلا يصير مستعملا، وفي هذا الاستدلال نظر؛ لأن المختار، والصواب أن المراد بهذا الحديث النهي عن الاغتسال في الدائم، وإن كان كثيرا، لئلا يقذره، وقد يؤدي تكرار ذلك إلى تغيره.

واحتجوا بالقياس على المستعمل في إزالة النجاسة، ولكن الفرق ظاهر وأقرب شيء يحتج به ما احتج به إمام الحرمين وهو عمدة المذهب أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم احتاجوا في مواطن من أسفارهم الكثيرة إلى الماء، ولم يجمعوا المستعمل لاستعماله مرة أخرى.

فإن قيل: تركوا الجمع لأنه لا يتجمع منه شيء فالجواب أن هذا لا يسلم وإن سلم في الوضوء لم يسلم في الغسل.

فإن قيل: لا يلزم من عدم جمعه منع الطهارة به، ولهذا لم يجمعوه للشرب، والطبخ، والعجن، والتبرد، ونحوها، مع جوازها به بالاتفاق. فالجواب أن ترك جمعه للشرب ونحوه للاستقذار، فإن النفوس تعافه في العادة، وإن كان طاهرا، كما استقذر النبي صلى الله عليه وسلم الضب وتركه، فقيل: أحرام هو؟ قال "لا، ولكني أعافه" وأما الطهارة به ثانية فليس فيها استقذار فتركه يدل على امتناعه.

ص: 308

ومما احتجوا به أن السلف اختلفوا فيمن وجد من الماء بعض ما يكفيه لطهارته هل يستعمله، ثم يتيمم للباقي، أم يتمم ويتركه، ولم يقل أحد يستعمله ثم يجمعه ثم يستعمله في بقية الأعضاء، ولو كان مطهرا لقالوه.

فإن قيل: لأنه لا يتجمع منه شيء، فالجواب: لا نسلم ذلك بل الحال في ذلك مختلف كما قدمته قريبا.

وأما الجواب عن احتجاجهم بالآية: فمن وجهين:

أحدهما: لا نسلم أن فعولا يقتضي التكرار مطلقا، بل منه ما هو كذلك، ومنه غيره، وهذا مشهور لأهل العربية. والثاني: المراد بطهور المطهر والصالح للتطهير، والمُعَدُّ لذلك. وأما قولهم:"توضأ النبي صلى الله عليه وسلم فمسح رأسه بفضل ماء كان في يده" فهذا الحديث رواه هكذا أبو داود في سننه، وإسناده عن عبد الله بن محمَّد بن عَقيل، عن الرُّبيِّع بنت مُعَوِّذ رضي الله عنها. وروى مسلم وأبو داود وغيرهما عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم "توضأ" فذكر صفة الوضوء إلى أن قال:"ومسح برأسه بماء غير فضل يديه، وغسل رجليه" وهذا هو الموافق لروايات الأحاديث الصحيحة في أنه صلى الله عليه وسلم أخذ لرأسه ماء جديدا. فإذا ثبت هذا فالجواب عن الحديث من أوجه:

أحدها: أنه ضعيف فإن راويه عبد الله بن محمَّد ضعيف عند الأكثرين، وإذا كان ضعيفا لم يحتج بروايته ولو لم يخالفه غيره، ولأن الحديث مضطرب عن عبد الله بن محمَّد: قال البيهقي: قد رَوَى شريك عن عبد الله في هذا الحديث فأخذ ماء جديدا فمسح رأسه مقدمه ومؤخره

الجواب الثاني: لو صح لحمل على أنه أخذ ماء جديدا وصب بعضه ومسح رأسه ببقيته ليكون موافقًا لسائر الروايات، وعلى هذا تأوله البيهقي على تقدير صحته.

ص: 309

الثالث: يحتمل أن الفاضل في يده من الغسلة الثالثة لليد، ونحن نقول به على الصحيح، وكذا في سائر نفل الطهارة.

وأما قولهم: مسح رأسه ببلل لحيته: فجوابه من وجهين:

أحدهما: أنه ضعيف.

والثاني: حمله على بلل الغسلة الثانية والثالثة، وهو مطهر على الصحيح.

وأما قولهم: اغتسل وترك لمعة ثم عصر عليها شعرا فجوابه من أوجه:

أحدها: أنه ضعيف، وقد بين الدارقطني، ثم البيهقي ضعفه، قال البيهقي: وإنما هو من كلام النخعي.

الثاني: لو صح لحمل على بلل باق من الغسلة الثالثة.

الثالث: أن حكم الاستعمال إنما يثبت بعد الانفصال عن العضو، وهذا لم ينفصل، وبدن الجنب كعضو واحد، ولهذا لا ترتيب فيه. وأما قياسهم على ما غسل به ثوب وعلى تجديد الوضوء: فجوابه: أنه لم يؤد

به فرض. وأما قياسهم على تيمم الجماعة: فجوابه: أن المستعمل ما علق بالعضو أو سقط عنه على الأصح، وأما الباقي بالأرض فغير مستعمل قطعا فليس هو كالماء.

وأما طعام الكفارة: فإنما جاز أداء الفرض به مرة أخرى لتجدد عود الملك فيه فنظيره تجدد الكثرة في الماء ببلوغه قلتين، ونحن نقول به على الصحيح، وأما الثوب فلم يتغير من صفته شيء فلا يسمى مستعملا بخلاف الماء، وتغير الصفات مؤثر فيما أدي به الفرض كالعبد يعتقه عن كفارة.

وأما قولهم: لو لم تجز الطهارة به لامتنعت الخ: فجوابه أنا لا نحكم بالاستعمال مادام مترددا على العضو بلا خلاف فلا يؤدي إلى مفسدة ولا حرج. والله أعلم. اهـ كلام النووي في المجموع ببعض تصرف ج 1 ص 151/ 156.

ص: 310

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى ما نصه: وقد ذهب إلى أن الماء المستعمل غير مطهر أكثر العترة، وأحمد بن حنبل، والليث، والأوزاعي، والشافعي، ومالك في إحدى الروايتين عنهما، وأبو حنيفة في رواية عنه.

واحتجوا بهذا الحديث -يعني حديث أبي هريرة في نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم- وبحديث النهي عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة، واحتج لهم في البحر بما روي عن السلف من تكميل الطهارة

بالتيمم عند قلة الماء، لا بما تساقط منه.

وأجيب عن الاستدلال بحديث الباب بأن علة النهي ليست كونه يصير مستعملا، بل مصيره مستخبثا بتوارد الاستعمال فيبطل نفعه، ويوضح ذلك قول أبي هريرة يتناوله تناولا، وباضطراب متنه، وبأن الدليل أخص من الدعوى؛ لأن غاية ما فيه خروج المستعمل للجنابة، والمدعَى خروج كل مستعمل عن الطهورية. وعن حديث النهي عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة بمنع كون الفضل مستعملا، ولو سلم فالدليل أخص من الدعوى لأن المدعى خروج كل مستعمل عن الطهورية، لا خصوص هذا المستعمل، وبالعارضة بما أخرجه مسلم، وأحمد من حديث ابن عباس:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة" وأخرجه أحمد أيضا، وابن ماجه بنحوه من حديثه، وأخرجه أحمد أيضا، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وصححه من حديثه بلفظ "اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها، أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله إني كنت جنبا، فقال: إن الماء لا يجنب"، وأيضا حديث النهي عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة فيه مقال.

وعن الاحتجاج بتكميل السلف للطهارة بالتيمم لا بما تساقط بأنه لا

ص: 311

يكون حجة إلا بعد تصحيح النقل عن جميعهم، ولا سبيل إلى ذلك، لأن القائلين بطهورية المستعمل منهم، كالحسن البصري، والزهري، والنخعي، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، في إحدى الروايات عن الثلاثة المتأخرين، ونسبه ابن حزم إلى عطاء، وسفيان الثوري، وأبي ثور، وجميع أهل الظاهر، وبأن المتساقط قد فني؛ لأنهم لم يكونوا يتوضئون إلى إناء، والملتصق بالأعضاء حقير لا يكفي بعض عضو من أعضاء الوضوء، وبأن سبب الترك بعد تسليم صحته عن السلف، وإمكان الانتفاع بالبقية هو الاستقذار.

وبهذا يتضح عدم خروج المستعمل عن الطهورية، وتحتم البقاء على البراءة الأصلية، لا سيما بعد اعتضادها بكليات وجزئيات من الأدلة، كحديث "خلق الماء طهورا" وحديث "مسحه صلى الله عليه وسلم رأسه بفضل ماء كان بيده". وغيرهما. اهـ كلام الشوكاني في نيله ج 1 ص 45/ 46.

قال الجامع عفا الله عنه:

وهذا الذي قاله الشوكاني هو التحقيق الذي لا يحتاج إلى التعليق عليه.

ولقد تكلم على هذه المسألة العلامة المجتهد أبو محمَّد ابن حزم في كتابه البديع "المحلى" فأفاد، وأجاد، وأسهب، وأعاد، ولولا بشاعة عباراته التي يرمي بها خصومه في رد أقوالهم، وتفنيد آرائهم من دون أن يفرق بين فلان، وفلان، وذلك غَيرَةً على النصوص، حسبما رآه هو، وإن كانوا كلهم يريدون الخير، وخدمةَ النصوص بقدر المستطاع، ولا يألون جهدا، فربما أصابوا، وربما أخطأوا، والكل مأجورون، لنقلت عبارته برمتها. فارجع إليه ج 1 ص 183 - 191.

فالحاصل أن المذهب الراجح: هو مذهب من يقول: بطهورية الماء المستعمل، وطهارته لوضوح أدلته، والله أعلم.

ص: 312

‌104 - بَابُ فَرْضِ الوُضُوءِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على كون الوضوء فرضا لا تصح الصلاة إلا به، قال في المصباح: وفرض الله الأحكام فرضا: أوجبها، فالفرض: المفروض، جمعه فروض، مثل فلس وفلوس اهـ.

ج 2 ص 469. وقال السندي: الإضافة بيانية، أي المفروض من الوضوء، أو الوضوء المفروض فالإضافة من إضافة الصفة للموصوف عند من يجيزها اهـ.

وقال ابن منظور: والفرض: السنة، فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. أي سن. وقيل: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أوجب وجوبا لازما، قال: وهذا هو الظاهر. والفرض: ما أوجبه الله عز وجل، سمي بذلك لأن له معالم وحدودا. وفرض الله علينا كذا وكذا، وافترض: أي أوجب. وقول الله عز وجل: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] أي أوجبه على نفسه بإحرامه، وقال ابن عرفة: الفرض: التوقيت، وكل مؤقت فهو مفروض. اهـ لسان ج 7 ص 202.

139 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد أبو رجاء الثقفي البغلاني ثقة. ثبت من [10]، تقدم في 1/ 1.

ص: 313

2 -

(أبو عوانة) وَضَّاح بن عبد الله اليَشْكُري الواسطي البزاز، مشهور بكنيته، ثقة ثبت، من السابعة، مات سنة خمس -أو ست- وسبعين ومائة. (ع) تقدم في 41/ 46.

3 -

(قتادة) بن دعامة بن قتادة السدوسي، أبو الخطاب، البصري، ثقة ثبت، يقال: ولد أكمه، وهو رأس الطبقة الرابعة، مات سنة بضع عشرة ومائة. (ع) تقدم في 30/ 34.

4 -

(أبو المليح) بن أسامة بن عمير، الهُذَلي، اسمه عامر، وقيل: زيد، وقيل: زياد، ثقة، من الثالثة، مات سنة 98. وقيل: 108 وقيل: بعد ذلك (ع).

5 -

(أسامة بن عمير) بن عامر بن الأقيشر الهذلي، صحابي، تفرد ولده عنه. (ع) وقال في الإصابة ج 1 ص 47.: أسامة بن عمير بن عمر ابن الأقيشر بن عبد الله بن حبيب بن يسار بن ناجية بن عمرو بن الحارث ابن كثير بن هند بن طابخة بن لحيان بن هذيل الهذلي، والد أبي المليح. قال البخاري: له صحبة، روى حديثه أصحاب السنن، وأحمد، وأبو عوانة، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم في صحاحهم، ومن حديثه "أصابتنا السماء، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين". قال خليفة: نزل البصرة، ولم يرو عنه إلا ولده. قاله جماعة من الحفاظ. اهـ كلام الحافظ في الإصابة. وفي الخلاصة: صحابي له سبعة أحاديث.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات، وكلهم بصريون، إلا قتيبة فبغلاني، وأبا عوانة فواسطي.

ومنها: أن فيه رواية الراوي عن أبيه.

ص: 314

ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي: قتادة، عن أبي المليح.

ومنها: أن الرواة ممن اتفقوا على التخريج لهم، إلا أسامة فأخرج له الأربعة.

ومنها: أن صحابيه من المقلين في الرواية وهي كما تقدم سبعة أحاديث.

شرح الحديث

(عن أبي المليح) بن أسامة بن عمير (عن أبيه) أسامة بن عمير رضي الله، أنه (قال: قال رسول الله: لا يقبل الله) قال السندي قبول الله تعالى رضاه به وثوابه عليه، فعدم القبول أن لا يثيبه عليه. اهـ ج 1 ص 88.

قال الجامع عفا الله عنه: الصواب تفسير القبول على ظاهره، على الوجه الذي يليق به، ففيه إثبات صفة القبول لله سبحانه وتعالى، وأما تفسيره بالرضا ونحوه فهو تفسير باللازم وليس معنى حقيقيًا، فتنبه.

(صلاة) نكرها ليعم الفرض والنفل، أفاده في المنهل.

(بغير طهور) بضم الطاء فعل الطهارة، وهو المراد هنا، وبفتحها اسم للماء، أو التراب، وقيل: بالفتح يطلق على الفعل والماء، فههنا يجوز الوجهان، والمعنى بلا طهور، وليس المعنى صلاة ملتبسة بشيء مغاير للطهور، إذ لابد من ملابسة الصلاة بما يغاير الطهور ضد الطهور، حملا لمطلق المغايرة على الكامل، وهو الحدث. قاله السندي ج 1 ص 88.

وقال ابن منظور: قال ابن الأثير: الطهور بالضم التطهر، وبالفتح: الماء الذي يتطهر به، كالوُضوء، والوَضوء، والسُّحور، والسَّحور، وقال سيبويه: الطهور بالفتح يقع على الماء، والمصدر معا، قال: فعلى هذا يجوز أن يكون الحديث بفتح الطاء وضمها، والمراد بها التطهر. اهـ لسان ج 4 ص 505.

ص: 315

وقال في المنهل: والطهور بضم الطاء المهملة المراد به الفعل وهو التطهر على قول الأكثرين، وقيل: يجوز فتحها، وهو بعمومه يتناول التطهر بالماء، والتراب، ثم قال بعد نقل كلام ابن الأثير المتقدم: وهذا إذا لم تعلم الرواية، وإلا اتبعت، وضبطه ابن سيد الناس بضم الطاء لا غير. اهـ المنهل ج 1 ص 208 وقال النووي: قال جمهور أهل اللغة: يقال: الطهور، والوضوء بضم أولهما: إذا أريد به الفعل الذي هو المصدر، ويقال: الطهور والوضوء بفتح أولهما: إذا أريد به الماء الذي يتطهر به، هكذا نقله ابن الأنباري، وجماعات من أهل اللغة، وغيرهم عن أكثر أهل اللغة، وذهب الخليل، والأصمعي، وأبو حاتم السجستاني وجماعة إلى أنه بالفتح فيهما. انتهى، ونقله المباركفوري ج 1 ص 23.

وقال الحافط: المراد بالطهور ما هو أعم من الوضوء والغسل، قال: والمراد بالقبول هنا ما يوافق الصحة وهو الإجزاء، وحقيقة القبول ثمرة وقوع الطاعة مجزئة رافعة لما في الذمة. ولما كان الإتيان بشروطها مظنة الإجزاء الذي القبول ثمرته عبر عنه بالقبول مجازا، وأما القبول المنفي في مثل قوله صلى الله عليه وسلم "من أتى عرافا لم تقبل له صلاة" فهو الحقيقي؛ لأنه قد يصح العمل ويتخلف القبول لمانع، ولهذا كان بعض السلف يقول: لأن تقبل لي صلاة واحدة أحب إلى من جميع الدنيا، قاله ابن عمر. قال: لأن الله تعالى قال: "إنما يتقبل الله من المتقين".اهـ فتح ج 1 ص 283.

وقال العلامة العيني: والتحقيق ها هنا أن القبول يراد به شرعا حصول الثواب، وقد يتخلف عن الصحة بدليل صحة صلاة العبد الآبق، وشارب الخمر مادام في جسده شيء منها، والصلاة في الدار المغصوبة على الصحيح عند الشافعية أيضا. وأما ملازمة القبول للصحة في قوله عليه الصلاة والسلام "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" والمراد بالحائض من بلغت سن الحيض، فإنها لا تقبل صلاتها إلا بالسترة، ولا

ص: 316

تصح ولا تقبل مع انكشاف العورة. والقبول يفسر بترتب الفرض المطلوب من الشيء على الشيء، فقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ" عام في عدم القبول في جميع المحدثين في جميع أنواع الصلاة، والمراد بالقبول وقوع الصلاة مجزأة بمطابقتها للأمر، فعلى هذا يلزم من القبول الصحة ظاهرا وباطنا، وكذلك العكس. ونقل عن بعض المتأخرين أن الصحة عبارة عن ترتب الثواب، والدرجات على العبادة، والإجزاء عبارة عن مطابقة الأمر، فهما متغايران، أحدهما أخص من الآخر، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فالقبول على هذا التفسير أخص من الصحة، فكل مقبول صحيح ولا عكس. اهـ عمدة القاري ج 2 ص 221/ 222.

وقال السندي: وغرض المصنف رحمه الله أن الحديث يدل على افتراض الوضوء للصلاة، ونوقش بأن دلالة الحديث على المطلوب يتوقف على دلالته على انتفاء صحة الصلاة بلا طهور، ولا دلالة عليه، بل على انتفاء القبول، والقبول أخص من الصحة، ولا يلزم من انتفاء الأخص انتفاء الأعم، ولذا ورد انتفاء القبول في مواضع مع ثبوت الصحة كصلاة العبد الآبق، وقد يقال: الأصل في عدم القبول هو عدم الصحة، وهو يكفي في المطلوب، إلا إذا دل دليل على أن عدم القبول لأمر آخر سوى عدم الصحة ولا دليل ها هنا. اهـ كلام السندي ج 1 ص 88.

قال الجامع عفا الله عنه: كون القبول بمعنى الصحة هو الأوضح هنا كما تقدم في كلام الحافظ، والعلامة العيني، والله أعلم.

(ولا صدقة) هي العطية التي يريد صاحبها الثواب من الله تعالى، وهي نكرة في سياق النفي فتعم الفرض، والنفل، والغرض منها طهارة النفس من رذيلة البخل، والقسوة، وعود البركة على المال، قال الله

ص: 317

تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، قاله في النهل ج 1 ص 257 (من غلول) بضم الغين المعجمة مصدر غَلَّ، يَغُلُّ من باب قعد: السرقة من مال الغنيمة قبل القسمة، ويطلق أيضا على أخذ مال الغير خفية مطلقا، من غنيمة، أو غيرها، والمراد به هنا مطلق المال الحرام أخذ خفية أم لا، وسمي غلولا لأن الأيدي يجعل فيها الغُلّ بسببه، والغُلّ: الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه.

والحاصل: أن كل مال يأخذه الشخص من غير حل ثم يتصدق به لا يقبل منه، وكذلك إن نوى التصدق عن صاحبه، ولا تسقط عنه تبعته اللهم إلا إذا رضي صاحبه، وجعله في حل من ذلك.

ويدخل فيه صدقة المرأة من مال زوجها بغير رضاه

(1)

وصدقة العبد من مال سيده بغير إذنه، وصدقة الوكيل من مال موكله، والشريك من مال شريكه، والوصي الذي وكل إليه التصدق بمال فأنفقه على نفسه، أو أخرجه في غير مصرفه، ونظار الأوقاف الذين يتناولون من ريعها من غير استحقاق، ثم يتصدقون بها، أو يصرفون ريعها في غير مصرفه. ومن هذا قالوا: إن من أخذ مال غيره بلا وجه شرعي لزمه رده لصاحبه إن كان حيا، وإلا رده على ورثته فإن لم يكن له ورثة يتصدق به عنه ويُرجى له الخلاص يوم القيامة، وكذا إذا لم يدر صاحبه، أو استولى عليه بعقد فاسد، ولم يتمكن من فسخه فإنه يتصدق به على الفقراء تخلصا من الحرام لا طمعا في الثواب. وهذا، ينافي الحديث، ولا قوله تعالى:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 227] لأنهما يدلان على

(1)

قال الجامع: هذا إذا كان على وجه الإفساد بأن كان كثيرا لا يتسامح فيه، وإلا فلا، لما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:"إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها عن غير أمره، فلها نصف أجره". وفيهما أيضا عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: "إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها، غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا" ..

ص: 318

حرمة التصدق بالبال الحرام طمعا في الأجر والثواب. اهـ المنهل ج 1 ص 207 - 208. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب

المسألة الأولى في درجته: حديث أبي المليح عن أبيه حديث صحيح.

المسألة الثانية: في مواضعه من هذا الكتاب: أخرجه المصنف في موضعين: في هذا الباب، وفي الزكاة 48 عن الحسين بن محمَّد الذَّرَّاع البصري، عن يزيد بن زريع- وعن إسماعيل بن مسعود، عن بشر بن

المفضل- كلاهما عن شعبة، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه.

المسألة الثالثة في ذكر من أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم: أخرجه (د ق) فأخرجه (د) في الطهارة -31 - عن مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه.

وأخرجه (ق) في الطهارة: 2/ 1 عن بندار عن يحيى بن سعيد، وغندر، وفي -2/ 1 - عن أبي بشر بكر بن خلف، عن يزيد بن زريع، وفي 2/ 2 عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عُبيد بن سعيد وشبابة بن سوار خمستهم عن شعبة، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه.

وأخرجه (م ت) من حديث ابن عمر، وأخرجه أيضا البيهقي، والطبراني.

المسألة الرابعة في فوائده: من فوائده وجوب الطهارة للصلاة، وأنه لا تصح بدونها، ولا فرق في ذلك بين صلاة الجنازة وغيرها، خلافا لما حكي عن الشعبي، والطبري من أنهما أجازا صلاة الجنازة بلا طهارة، فإنه باطل، لعموم هذا الحديث، وإجماع العلماء على خلافه، فلو صلَّى محدثا متعمدا بلا عذر، أثم، ولا يكفر عند الجمهور. وحكي عن أبي حنيفة أنه يكفر لتلاعبه.

ص: 319

أما المعذور كمن لم يجد ماء، ولا ما يقوم مقامه كالتراب: فالأقوى دليلا وجوب الصلاة عليه بلا إعادة. أما الوجوب فلحديث "وما أمرتكم بأمر فافعلوا منه ماستطعتم" رواه مسلم وغيره. وأما عدم الإعادة فلأنها إنما تجب بأمر جديد، والأصل عدمه، وهو قول أحمد، واختاره المزني من الشافعية. ويجب عليه

(1)

أن يقتصر في صلاته على ما لا تصح إلا به. وقيل: بوجوب الصلاة في الوقت ووجوب الإعادة عند التمكن من الطهارة، وهو مشهور مذهب الشافعية، وقول لبعض المالكية، والمعتمد عندهم سقوط الصلاة أداء وقضاء، وقيل باستحباب الصلاة، ووجوب القضاء. وقيل بحرمة الصلاة في الحال ووجوب القضاء عند التمكن، وبه قال أبو حنيفة، وقال أبو يوسف: يتشبه بالمصلي، فلا ينوي، ولا يقرأ، ويركع، ويسجد ويعيد الصلاة متى قدر على إحدى الطهارتين. قاله في المنهل ج 1 ص 209.

قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي وجوب الصلاة حالًا، ولا إعادة لقوة دليله، كما ذكرناه، والله أعلم.

المسألة الخامسة في مذاهب العلماء في وجوب الطهارة للصلاة:

قال النووي في شرح مسلم: وقد أجمعت الأمة على أن الطهارة شرط في صحة الصلاة. قال القاضي عياض: واختلفوا متى فرضت الطهارة للصلاة: فذهب ابن الجهم إلى أن الوضوء في أول الإسلام كان

سنة، ثم نزل فرضه في آية التيمم.

وقال الجمهور: بل كان قبل ذلك فرضا. قال: واختلفوا في أن الوضوء فرض على كل قائم إلى الصلاة، أم على المحدث خاصة؟

(1)

قوله ويجب أن يقتصر الخ: هذا لا دليل عليه. فهذا أوجبنا عليه أن يصلي، فله أن يصلي الصلاة بأركانها وواجباتها وسننها. فتنبه.

ص: 320

فذهب ذاهبون من السلف إلى أن الوضوء لكل صلاة فرض بدليل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية [المائدة: 6].

وذهب قوم إلى أن ذلك قد كان ثم نسخ، وقيل: الأمر به لكل صلاة على الندب، وقيل: بل لم يشرع إلا لمن أحدث، ولكن تجديده لكل صلاة مستحب، وعلى هذا أجمع أهل الفتوى بعد ذلك، ولم يبق بينهم فيه خلاف. ومعنى الآية عندهم إذا كنتم محدثين. هذا كلام القاضي رحمه الله تعالى. واختلف أصحابنا في الموجب للوضوء على ثلاثة أوجه:

(أحدها) أنه يجب بالحدث وجوبا موسعا. (والثاني) لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة. (والثالث) يجب بالأمرين، وهو الراجح عند أصحابنا. اهـ كلام النووي في شرح مسلم ج 3 ص 102/ 103.

وقال المباركفوري: وقد أجمعت الأمة على أن الطهارة شرط في صحة الصلاة، وأجمعت على تحريم الصلاة بغير طهارة من ماء، أو تراب، ولا فرق بين الصلاة المفروضة، والنافلة، والحديث دليل على

وجوب الطهارة لصلاة الجنازة أيضا؛ لأنها صلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من

صلى على الجنازة"، وقال: "صلوا على صاحبكم"، وقال "صلوا على النجاشي"، قال الإمام البخاري: سماها صلاة، وليس فيها ركوع، ولا سجود، ولا يُتكلم فيها، وفيها تكبير، وتسليم. وكان ابن عمر لا يصلي عليها إلا طاهرا انتهى تحفة الأحوذي ج 1 ص 23، 24 وقال الحافظ: ونقل ابن عبد البر الاتفاق على اشتراط الطهارة لها -يعني صلاة الجنازة- إلا عن الشعبي، قال ووافقه إبراهيم

(1)

بن علية، وهو ممن يرغب عن كثير من قوله. ونقل غيره أن ابن جرير الطبري وافقهما على ذلك، وهو مذهب شاذ. انتهى. اهـ فتح ج 3 ص 228.

(1)

هو إبراهيم بن إسماعيل بن علية، يروي عن أبيه، جهمي هالك، كان يناظر، ويقول بخلق القرآن، مات سنة 210. اهـ ميزان الاعتدال جـ 1 ص 20.

ص: 321

قال الإمام البخاري في صحيحه: إذ أحدث يوم العيد أو عند الجنازة يطلب الماء ولا يتيمم اهـ. قال الحافظ: وقد ذهب جمع من السلف إلى أنه يجزئ لها التيمم لمن خاف فواتها -يعني صلاة الجنازة- لو تشاغل بالوضوء وحكاه ابن المنذر عن عطاء، وسالم، والزهري، والنخعي، وربيعة، والليث، والكوفيين، وهي رواية عن أحمد، وفيه حديث مرفوع عن ابن عباس رواه ابن عدي وإسناده ضعيف. اهـ فتح جـ 3 ص 228.

قال الجامع: الراجح القول الأول؛ لأنها صلاة، وقد دلت النصوص على اشتراط الوضوء للصلاة عند وجود الماء، فلا يخص العموم إلا بدليل، والله أعلم.

المسألة السادسة: الحكمة في جمعه صلى الله عليه وسلم بين الصلاة، والصدقة في هذا الحديث أن العبادة نوعان: بدني، ومالي، فاختار من البدني الصلاة، لكونها تالية الإيمان في الكتاب، والسنة، ولكونها عماد الدين، والفارقة بين الإسلام والكفر، واختار من المالي الصدقة لكثرة نفعها، وعموم خيرها، ولكون كل منهما محتاجا إلى الطهارة، أما الصلاة فلاحتياجها إلى طهارة الثوب والبدن والمكان، وأما الصدقة فلاحتياجها إلى طهارة المال. أفاده في المنهل ج 1 ص 209.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ولما بين في هذا الباب أن الصلاة لا تقبل بغير طهور، وأنها غير معتد بها فلربما حمل بعضَ الناس شدةُ الاحتياط والعناية بالمحافظة على الاعتداء في الوضوء ومجاوزة الحد ذكر باب الاعتداء فيه بعده تنبيها، وإرشادا إلى سلوك طريق السداد، وهو المتابعة لما صح عنه صلى الله عليه وسلم، فقال:

ص: 322

‌105 - الاعْتِدَاءُ فِي الوُضُوءِ

أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على منع تجاوز الحد المشروع في الوضوء. والاعتداء: افتعال من العدوان، وهو تجاوز الحد.

قال ابن منظور: وعدا الأمرَ، وَتعدَّاه كلاهما: تجاوزه. وعدا طوره وقَدْرَه: جاوزه على المَثَل. ويقال: فلان ما يعدو أمرك، أي ما يجاوزه والتعدي: مجاوزة الشيء إلى غيره، يقال: عديته فتعدى، أي تجاوز وقوله تعالى:"فلا تعتدوها" أي لا تجاوزوها إلى غيرها، وكذلك قوله:{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] أي يجاوزها.

وقوله عز وجل: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج: 31]: أي المجاوزون ما حُدَّ لهم وأمروا به. وقوله عز وجل: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173]: أي غير مجاوز لما يُبَلِّغُه ويُغْنيه من الضرورة.

وأصل هذا كله مجاوزة الحد والقدر والحق. يقال: تعديت الحق، واعتديته، وعدوته: أي جاوزته. وقد قالت العرب: اعتدى فلان عن الحق، واعتدى فوق الحق، كأنّ معناه جاز عن الحق إلى الظلم. وعدى عن الأمر: جازه إلى غيره، وتركه. اهـ لسان ج 15 ص 33/ 34.

141 -

أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا يَعْلَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ عَنِ الْوُضُوءِ فَأَرَاهُ الْوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ:"هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا، فَقَدْ أَسَاءَ، وَتَعَدَّى، وَظَلَمَ".

ص: 323

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(محمود بن غيلان) العدوي مولاهم، أبو أحمد المروزي، نزيل بغداد، ثقة، من العاشرة مات سنة 239. وقيل بعد ذلك. (خ م س ق) تقدم في 33/ 37.

2 -

(يعلى) بن عبيد بن أبي أمية الكوفي، أبو يوسف، الطنافسي، ثقة إلا في حديثه عن الثوري، ففيه لين، من كبار التاسعة، مات سنة بضع ومائتين، وله (90) سنة (ع).

3 -

(سفيان) بن سعيد الثوري ثقة حجة من 7. تقدم في 33/ 37.

4 -

(موسى بن أبي عائشة) الهمداني بسكون الميم مولاهم، أبو الحسن الكوفي ثقة عابد، من الخامسة، وكان يرسل (ع).

5 -

(عمرو بن شعيب) بن محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، صدوق، من الخامسة، مات سنة - 118. (ز 4).

6 -

(شعيب) بن محمَّد المذكور صدوق، ثَبَتَ سماعه من جده، من الثالثة (ز 4).

7 -

(عبد الله) بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد، بالتصغير- بن سعد بن سهم السهمي، أبو محمَّد، وقيل: أبو عبد الرحمن، أحد السابقين المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح، بالطائف، على الراجح. (ع). تقدم في 89/ 111.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف.

ومنها: أن رواته ثقات، إلا عمرا، وأباه فهما مختلف فيهما: فممن وثق عَمْرا المصنفُ، كما في الخلاصة، وممن وثق شعيبا ابنُ حبان

ص: 324

كما في الخلاصة أيضا. وسيأتي الكلام على هذا السند في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى.

ومنها: أنهم ما بين مروزي وهو شيخه، وكوفيين: وهم الثلاثة الأولون، ومدنيين، وهم الباقون.

ومنها: أن شيخه ممن أخرج له البخاري، ومسلم، وابن ماجه، وأن يعلى، وسفيان، وموسى، وعبد الله بن عمرو ممن اتفق عليهم، وأن عمرا، وشعيبا ممن أخرج له البخاري في جزء القراءة، والأربعةُ.

ومنها: أن فيه رواية الراوي عن أبيه عن جده.

شرح الحديث

(عن عمرو بن شعيب، عن أبيه) شعيب (عن جده) عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، فالضمير لشعيب، فيكون الحديث متصل الإسناد صحيحًا، وهذا قول الأكثرين وهو الصحيح، وقيل الضمير لعمرو لما يلزم على الأول من تشتيت الضمائر، فيكون منقطعا؛ لأن محمدًا جد عمرو تابعي، ولأن شعيبا لم يسمع من جده عبد الله، وقال في المنهل: ويحتمل أن يعود الضمير على عمرو بن شعيب، فيكون المراد جده الأعلى الصحابي، وهو الظاهر، لما يلزم على الأول من تشتيت الضمائر. اهـ ج 1ص 73. وسيأتي تمام البحث في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى. أنه (قال: جاء أعرابي) أي بدوي، قال ابن منظور والأعرابي: البدوي، وهم الأعراب، والأعاريب: جمع الأعراب، وجآء في الشعر الفصيح الأعاريب، وقيل: ليس الأعراب جمعا لعرب كما كان الأنباط جمعا لنَبَط، وإنما العرب اسم جنس. والنسب إلى الأعراب: أعرابي، قال سيبويه: إنما قيل في النسب إلى الأعراب: أعرابي؛ لأنه لا واحد له على هذا المعنى، ألا ترى أنك تقول: العرب فلا يكون على هذا المعنى، فهذا يقويه. وعربي: بين العُرُوبة والعُرُوبية وهما من المصادر التي لا

ص: 325

أفعال لها. وحكى الأزهري: رجل عربي إذا كان نسبه في العرب ثابتا، وإن لم يكن فصيحا، وجمعه العرب، كما يقال: رجل مجوسي، ويهودي، والجمع بحذف ياء النسبة لليهود، والمجوس. ورجل معرب إذا كان فصيحا، وإن كان عجمي النسب ورجل أعرابي بالألف إذا كان بدويا صاحب نُجْعة

(1)

وانتواء، وارتياد للكلاء، وتتبع لمساقط الغيث، سواء كان من العرب أو من مواليهم.

والأعرابي إذا قيل له ياعربي فرح بذلك وهَشَّ له، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب له. فمن نزل البادية، أو جاور العبادتين، وظعن بظَعنهم، وانتوى با نتوائهم: فَهُم أعراب، ومن نزل بلاد الريف، واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها ممن ينتمي إلى العرب: فهم عرب، وإن لم يكونوا فصحاء. اهـ كلام ابن منظور. ج 1 ص 586.

(إلى النبي صلى الله عليه وسلم) متعلق بجاء (يسأله) الجملة صفة لأعرابي أو حال منه أي حال كونه سائلا (عن الوضوء) بضم الواو، أي عن كيفيته، ولأبي داود: فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ (فأراه) النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء (ثلاثا ثلاثا) مفعول مطلق، أو نعت لمصدر محذوف: أي توضأ توضؤًا ثلاثًا. وعند أبي داود، "فدعا بماء في إناء، فغسل كفيه ثلاثا، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل ذراعيه ثلاثا، ثم مسح برأسه، فأدخل أصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، وبالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا".

وقال السندي: قوله: فأراه ثلاثا أي غير المسح، فقد جاء في هذا الحديث أن المسح كان مرة في رواية سعيد بن منصور ذكره الحافظ ابن حجر. اهـ كلام السندي ج 1 ص 88. (ثم قال) صلى الله عليه وسلم للأعرابي السائل

(1)

النجعة وزان غرفة: طلب الكلاء في موضعه، والانتواء القصد، والإرتياد: طلب الشيء.

ص: 326

(هكذا) أي مثل ما رأيت (الوضوء) الكامل، وإنما بين له بالفعل؛ لأنه أبلغ، وأتم في الإرشاد (فمن زاد على هذا) الذي رأيته مني بأن زاد على عدد الغسلات، أو غسل عضوا غير الأعضاء المشروع غسلها. أو مسحه (فقد أساء) أي في مراعاة آداب الشرع (وتعدى) أي جاوز الحد (وظلم) نفسه بما نقصها من الثواب ووقع في رواية أبي داود:"فمن زاد على هذا، أو نقص فقد أساء وظلم".

فاستشكل زيادة لفظ "ونقص" لأن ذلك ينافي ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين، مرتين، ومرة مرة، وأجمع العلماء من أهل الحديث، والفقه، على جواز الاقتصار على واحدة إذا عمت.

وأجيب بأن الظلم والإساءة في النقصان حيث إنه ظلم نفسه بما فوتها من الثواب الذي يحصل بالتثليث، وأساء إليها بتركه السنة لأن تارك السنة مسيء. أفاده الشوكان في النيل، قال: وأما الاعتداء في النقصان فمشكل فلابد من توجيهه إلى الزيادة، ولهذا لم يجتمع ذكر الاعتداء والنقصان في شيء من روايات الحديث اهـ كلام الشوكاني ج 1 ص 260.

وقال في المنهل: قوله: "فمن زاد علي هذا أو نقص" الخ، أي من زاد علي فعله صلى الله عليه وسلم كان زاد في الغسل على الثلاث، أو غسل عضوا غير الأعضاء المشروع غسلها، أو نقص عن ذلك الفعل، كأن اقتصر في الغسل على مرة أو مرتين، أو ترك عضوا من أعضاء الوضوء، أو بعضه فقد أساء إلى نفسه، وظلمها بمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم، وبأنه أتْعَب نفسه فيما

زاد على الثلاثة من غير حصول ثواب له، وأتلف الماء بلا فائدة، وأما في النقص فقد أساء بترك الأكمل، وظلم نفسه بنقص ثوابها إذا نقص العدد، أو بعدم الاعتداد به إذا ترك عضوا من الأعضاء، أو بعضه، وإنما ذمه صلى الله عليه وسلم إظهارا لشدة النكير عليه، وزجرا له.

ص: 327

واستشكل نسبة الإساءة والظلم إلى من نقص عن الثلاث بأنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين، ومرة مرة، وأجمع أئمة الحديث والفقه على جواز الاقتصار على واحدة إذا عمت.

وأجيب: بأنه صلى الله عليه وسلم اقتصر على المرة والمرتين في بعض الأوقات لبيان الجواز، والثلاث هي الأكمل لمواظبته صلى الله عليه وسلم عليها، والإساءة والظلم لمن اقتصر على المرة أو المرتين منظور فيها لمن فعل الثلاث، فهي نسبية، على أن رواة الحديث لم يتفقوا على ذكر النقص فيه، فقد اقتصر النسائي، وابن ماجه في روايتهما على قوله:"من زاد" فقط.

وذهب جماعة إلى تضعيف زيادة "أو نقص"، قال ابن حجر: عَدَّهُ مسلم في جملة ما أنكروه على عمرو بن شعيب؛ لأن ظاهره ذم النقص عن الثلاثة، والنقص عنها جائز فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم كيف يعبر عنه بأساء. وقال ابن الموّاق: إن لم يكن اللفظ شكا من الراوي فهو من الأوهام البينة التي

لا خفاء لها، إذ الوضوء مرة ومرتين لا خلاف في جوازه. والآثار في ذلك صحيحة، والوهم فيه من أبي عوانة، وهو وإن كان من الثقات فإن الوهم لا يسلم منه بشر إلا من عصم. اهـ.

وقال العيني: "فقد أساء" أي في الأدب بتركه السنة والتأدب بآداب الشرع "وظلم" نفسه بما نقصها من الثواب بزيادة المرات في الوضوء. وقيل: معناه: زاد على الثلاث معتقدا أن السنة لا تحصل بالثلاث، أو نقص معتقدا أن الثلاث خلاف السنة، فإن قلت: كيف يكون ظالما في النقصان، وقد ورد في الأحاديث مرة ومرتين؟.

قلت: الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه: (الأول): أن المعنى يكون ظالما لنفسه في تركه الفضيلة والكمال، وإن كان يجوز مرة مرة، أو مرتين، مرتين. (والثاني): إنما يكون ظلما إذا اعتقد خلاف السنة في

ص: 328

الثلاث (والثالث) أن هذا الحديث فيه مقال من جهة عمرو بن شعيب. اهـ

وقال الحافظ في التلخيص: يجوز أن تكون الإساءة، والظلم، وغيرهما مما ذكر مجموعا لمن نقص، ولمن زاد، ويجوز أن يكون على التوزيع، فالإساءة في النقص، والظلم في الزيادة، وهذا أشبه بالقواعد والأول أشبه بظاهر السياق. اهـ

وقال في المرقات: قال الإمام النسفي: هذا إذا زاد معتقدًا أن السنة هذا، فأما لو زاد لطمأنينة القلب عند الشك، أو نية وضوء آخر، فلا بأس؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أمر بترك ما يريبه إلى ما لا يريبه اهـ. (قلت) أما قوله: لطمأنينة القلب عند الشك ففيه أن الشك بعد التثليث لا وجه له، والعمل بمقتضاه يفتح بابا عظيما للوسوسة، ولهذا أخذ ابن المبارك بظاهره، فقال: لا آمن إذا زاد على الثلاث أن يأثم. وقال أحمد، وإسحاق: لا يزيد عليها إلا مبتلى -يعني مجنونا- لمظنة أنه بالزيادة يحتاط لدينه. وقال ابن حجر: ولقد شاهدنا من الموسوسين من يغسل يده فوق المئين، وهو مع ذلك يعتقد أن حدثه لم يرتفع. وأما قوله: أو بنية وضوء آخر، ففيه أنه لا يتصور التجديد إلا بعد تمام الوضوء لا في الأثناء وعلى فرض أن الشك وقع بعد تمام الوضوء، فلا يستحب التجديد قبل صلاة تؤدى بهذا الوضوء، وأما قوله: لأنه أمر بترك ما يريبه الخ ففيه أن غسل المرة الأخرى مما يريبه، فينبغي تركه إلى ما لا يريبه

وهو ما عينه الشارع ليتخلص عن الريبة، والوسوسة. اهـ المنهل ج 2 ص 74/ 75.

قال الجامع عفا الله عنه: وفي قوله: "فلا يستحب التجديد قبل صلاة تؤدى" نظر؛ لأنه لا دليل عليه، بل الراجح جواز التجديد من دون أداء صلاة، لإطلاق النص، وقد تقدم البحث عنه في ب 100/ ح 130.

ص: 329

وقال بعض المحققين: فيه -يعني قوله: "أو نقص" - حذف تقديره من نقص شيئا من غسلة واحدة بأن ترك لمعة في الوضوء مرة. ويؤيده ما رواه نعيم بن حماد بن معاوية من طريق المطلب بن حنطب مرفوعا: "الوضوء مرة مرة، وثلاثا، فإن نقص من واحدة، أو زاد على ثلاثة فقد أخطأ"، وهو مرسل لأن المطلب تابعي صغير، ورجاله ثقات، ففيه بيان ما أجمل في حديث عمرو بن شعيب. اهـ عون المعبود ج 1 ص 229

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث الباب حديث صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه المصنف هنا-105/ 140 وأخرجه في الكبرى 64/ 1 عن أحمد بن سليمان الرهاوي، عن يعلي بن عبيد، عن سفيان بالسند المذكور.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول، وغيرهم.

أخرجه (د ق) فأخرجه (د) في الطهارة -51 - عن مسدد، عن أبي عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه.

وأخرجه (ق) فيه عن علي بن محمَّد، عن يعلى بن عبيد، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، الخ. وأخرجه أحمد، والبيهقي، والطحاوي، وابن خزيمة في صحيحه، وصححه غيره. قاله في المنهل

ج 2 ص 76.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: سؤال الشخص عما لا يعلمه من أمر دينه قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 42].

ومنها: أن التعليم يكون بالفعل، كما يكون بالقول، بل هو أبلغ منه.

ص: 330

ومنها: التثليث في الوضوء.

ومنها: أنه يطلب من المتوضئ أن يتبع الوارد، فلا يزيد عليه، ولا ينقص منه، وأن من خرج عن الوارد عَرَّض نفسه للوقوع في الوبال والظلم، فينبغي للمسلم أن يتبع الوارد، ويحرص عليه.

المسألة الخامسة: في اختلاف العلماء في عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. قال الحافظ في تهذيب التهذيب ج 8 ص 48: عمرو بن شعيب ابن محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي، أبو إبراهيم، ويقال: أبو عبد الله المدني، ويقال: الطائفي، وقال أبو حاتم: سكن مكة، وكان يخرج إلى الطائف.

روى عن أبيه، وجل روايته عنه، وعمته زينب بنت محمَّد، وزينب بنت أبي سلمة ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، والربيع بنت معوذ، وطاوس وسليمان ابن يسار، ومجاهد، وعطاء، والزهري، وسعيد المقبري، وعطاء بن سفيان الثقفي، وجماعة.

وعنه عطاء، وعمرو بن دينار، وهما أكبر منه، والزهري، ويحيى ابن سعيد، وهشام بن عروة، وثابت البناني، وعاصم الأحول، وقتادة ومكحول، وحميد الطويل، وإبراهيم بن ميسرة، وأيوب السختياني

وحريز بن عثمان، والزبير بن عدي، وأبو إسحاق الشيباني، وأبو الزبير المكي، ويحيى بن أبي كثير، ويزيد بن أبي حبيب، وغيرهم من التابعين ومنهم أيضا الأوزاعي، وابن جرير

(1)

، ومحمد بن إسحاق، وحسين المعلم، والحكم بن عتيبة، وابن عون، وداود بن أبي هند، وعمرو بن الحارث المصري، ومطر الوراق، ويزيد بن الهاد، وعبد الله بن طاوس ويزيد بن الحمصي، وحجاج بن أرْطَاة، وسليمان بن موسى،

(1)

لعله ابن جريج.

ص: 331

وعبد الرحمن بن حرملة، وعمارة بن غزية والمثنى بن الصباح، وابن لهيعة، وآخرون.

قال صدقة بن الفضل: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: إذا روى عنه الثقات، فهو ثقة يحتج به. وقال علي بن المديني، عن يحي ابن سعيد حديثه عندنا واه. وقال علي عن ابن عيينة: حديثه عند الناس

فيه شيء. وقال أبو عمرو بن العلاء: كان يعاب على قتادة، وعمرو ابن شعيب أنهما كانا لا يسمعان شيئا إلا حدثا به. وقال الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: له أشياء مناكير، وإنما يكتب حديثه يعتبر

به، فأما أن يكون حجة فلا. وقال الأثرم عن أحمد: أنا أكتب حديثه، وربما احتججنا به، وربما وجس في القلب منه شيء، ومالك يروي عن رجل عنه. وقال أبو داود عن أحمد بن حنبل: أصحاب الحديث إذا شاءوا احتجوا بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وإذا شاءوا تركوه، وقال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبا عبيدة، وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، ما تركه أحد من المسلمين، قال البخاري: مَن الناسُ بعدهم

(1)

؟ وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى ابن معين: إذا حدث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، فهو كتاب ومن هنا جاء ضعفه، وإذا حدث عن سعيد بن المسيب، أو سليمان بن

يسار، أو عروة فهو ثقة عن هؤلاء. وقال الدوري، ومعاوية بن صالح عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: سألت ابن معين فقال: ما أقول؟ روى عنه الأئمة. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس بذاك. وقال

(1)

نقل هذا الكلام عن البخاري الترمذي في جامعه. وقد اعترض الذهبي على نقل الترمذي هذا الكلام قائلا: أستبعد صدور هذه الألفاظ من البخاري أخاف أن يكون أبو عيسى وهم، وإلا فالبخاري لا يعرج على عمرو، أفتراه يقول فمن الناس بعدهم؛ ثم لا يحتج به أصلا، ولا متابعة. اهـ سير أعلام النبلاء ج 5 ص 167.

ص: 332

أبو زرعة: روى عنه الثقات، وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه، عن جده، وقال: إنما سمع أحاديث يسيرة، وأخذ صحيفة كانت عنده، فرواها، وعامة المناكير تروى عنه إنما هى عن المثنى بن الصباح، وابن لهيعة، والضعفاء وهو ثقة في نفسه، إنما تكلم فيه بسبب كتاب عنده وما أقل ما نصيب عنه مما روى عن غير أبيه، عن جده من المنكر، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وبهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده؟ فقال: عمرو أحب إلى، وقال محمَّد بن علي الجوزجاني: قلت لأحمد: عمرو سمع من أبيه شيئا؟ قال: يقول: حدثني أبي. قلت: فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو؟ قال: نعم أراه قد سمع منه. وقال الآجري: قلت لأبي داود: عمرو ابن شعيب عندك حجة؟ قال: لا، ولا نصف حجة. وقال جرير: كان مغيرة لا يعبأ بصحيفة عبد الله بن عمرو. وقال الحسن بن سفيان عن إسحاق بن راهويه: إذا كان الرواي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ثقة فهو كأيوب، عن نافع، عن ابن عمر. وقال أيوب بن سويد، عن الأوزاعي: ما رأيت قرشيا أفضل، وفي رواية أكمل من عمرو بن شعيب. وقال العجلي، والنسائي: ثقة، وقال أبو جعفر أحمد بن سعيد الدارمي: عمرو بن شعيب ثقة، رَوَى عنه الذين نظروا في الرجال، مثل أيوب، والزهري، والحكم. واحتج أصحابنا بحديثه، وسمع أبوه من عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عُمر، وعبد الله بن عباس. وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: صح سماع عمرومن أبيه، وصح سماع شعيب من جده وقال أبو الحسن الدارقطني: لعمرو بن شعيب ثلاثة أجداد: الأدنى منهم محمَّد، والأوسط عبد الله، والأعلى عمرو، وقد سمع -يعني شعيب- من الأدنى محمَّد، ومحمد لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم،

وسمع من جده عبد الله، فإذا بينه، وكشفه، فهو صحيح حينئذ، ولم

ص: 333

يترك حديثه أحد من الأئمة ولم يسمع من جده عمرو

(1)

. وقال الدارقطني أيضا: قال النقاش: عمرو بن شعيب ليس من التابعين، وقد روى عنه عشرون من التابعين، قال الدارقطني: فتتبعتهم فوجدتهم أكثر من عشرين. قال المزي: كأن الدارقطني وافق النقاش على أنه ليس من التابعين، وليس كذلك فقد سمع من زينب بنت أبي سلمة، والرُّبيِّع بنت مُعَوِّذ، ولهما صحبة. وقال ابن عدي: روى عنه أئمة الناس وثقاتهم وجماعة من الضعفاء إلا أن أحاديثه عن أبيه عن جده مع احتمالهم إياه لم يدخلوها في صحاح ما أخرجوا، وقال هي صحيفة، قال خليفة وغيره: مات سنة ثماني عشرة ومائة.

قال الحافظ: قلت: عمرو بن شعيب ضعفه قوم مطلقا، ووثقه الجمهور، وضعفه بعضهم في روايته عن أبيه عن جده فحسب، ومن ضعفه مطلقا فمحمول على روايته عن أبيه عن جده، فأما رواياته عن أبيه فربما دلس ما في الصحيفة بلفظ عن، فإذا قال: حدثني أبي، فلا ريب في صحتها كما يقتضيه كلام أبي زرعة المتقدم، وأما رواية أبيه عن جده فإنما يعني بها الجد الأعلى عبد الله بن عمرو، لا محمد بن عبد الله، وقد صرح شعيب بسماعه من عبد الله في أماكن، وصح سماعه منه كما تقدم، وكما روى حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن شعيب، قال قال: سمعت عبد الله بن عمرو، فذكر حديثا، أخرجه أبو داود من هذا الوجه، وفي رواية عمرو فمن ذلك رواية حسين المعلم، عن عمرو، عن أبيه، عن جده، قال: قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافيًا ومنتعلًا" رواه أبو داود، وبهذا السند:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما وقاعدا" رواه الترمذي. وبه: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفتل عن

(1)

كان في نسخة تهذيب التهذيب سقط، فأصلحته من تهذيب الكمال.

ص: 334

يمينه وعن يساره في الصلاة"، رواه ابن ماجه. ومن ذلك هشام بن الغاز عن عمرو، عن أبيه، عن جده، قال: "أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية أذاخر" الحديث، رواه ابن ماجه، ومن ذلك محمَّد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بكلمات من الفزع" الحديث. رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وغيرهم، وهذه قطعة من جملة أحاديث تصرح بأن الجد هو عبد الله بن عمرو، لكن هل سمع منه جميع ما روى عنه، أم سمع بعضها والباقي صحيفة؟ والثاني أظهر عندي، وهو الجامع لاختلاف الأقوال فيه، وعليه ينحط كلام الدارقطني، وأبي زرعة، وأما اشتراط بعضهم أن يكون الراوي عنه ثقة فهذا الشرط معتبر في جميع الرواة، لا يختص به عمرو، وأما قول ابن عدي: لم يدخلوها في صحاح ما خرّجوا فيرد عليه إخراج ابن خزيمة له في صحيحه، والبخاري في جزء القراءة خلف الإمام على سبيل الاحتجاج، وكذلك النسائي، وكتابه عند ابن عدي معدود في الصحاح، ولكن ابن عدي عَنَى غير

(1)

الصحيحين فيما أظن فليس فيهما لعمرو شيء.

وقد أنكر جماعة أن يكون شعيب سمع من عبد الله بن عمرو، وذلك مردود بما تقدم. ومن ذلك قال محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة: سألت علي بن المديني عن عمرو بن شعيب؟ فقال: ما روى عنه أيوب، وابن جريج فذاك كله صحيح، وما روى عن أبيه عن جده فهو كتاب وَجَدَهُ فهو ضعيف. وقال ابن عدي: عمرو بن شعيب في نفسه ثقة إلا أنه إذا روى عن أبيه عن جده يكون مرسلا لأن جده محمدا لا صحبة له. وقال ابن حبان في الضعفاء إذا روى عمرو، عن طاوس، وسعيد بن المسيب، وغيرهما من الثقات فهو ثقة يجوز الاحتجاج به، وإذا روى عن أبيه عن

(1)

هكذا في نسخة تهذيب التهذيب، ولعل الصواب اسقاط لفظ غير، فتأمل.

ص: 335

جده فإن شعيبا لم يلق عبد الله فيكون منقطعا. وإن أراد بجده محمدًا فهو لا صحبة له فيكون مرسلا. والصواب أن يحول عمرو إلى كتاب الثقات، فأما المناكير في روايته فتترك. وقال الدارقطني لما حكى كلام ابن حبان: هذا خطأ، قد روى عبيد الله بن عمر العمري وهو من الأئمة عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال: كنت عند عبد الله بن عمرو فجآء رجل فاستفتاه في مسألة فقال لي يا شعيب امض معه إلى ابن عباس فذكر الحديث.

قال الحافظ: قلت: وقد أسند ذلك الدارقطني في السنن، قال: حدثنا أبو بكر بن زياد النيسابوري، ثنا محمَّد بن يحيى الذهلي، وغيره قالوا: ثنا محمَّد بن عبيد، ثنا عبيد الله بن عمر. ورواه الحاكم أيضا من هذا الوجه. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: سمعت هارون بن معروف، يقول: لم يسمع عمرو من أبيه شيئا إنما وجده في كتاب أبيه، قال ابن أبي خيثمة: قلت ليحيى بن معين: أليس قد سمع من أبيه؟ قال: بلى قلت إنهم ينكرون ذلك، فقال: قال أيوب: حدثني عمرو، فذكر أبًا عن أب إلى جده قد سمع من أبيه، ولكنهم قالوا حين مات عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده إنما هذا كتاب.

قال الحافظ: يشير ابن معين بذلك إلى حديث إسماعيل بن علية، عن أيوب: حدثني عمرو بن شعيب، حدثني أبي، عن أبيه، حتى ذكر عبد الله بن عمرو فذكر حديث "لا يحل سلف وبيع" أخرجه أبو داود، والترمذي من رواية ابن علية، عن أيوب. ورواه النسائي من حديث ابن طاوس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن أبيه محمَّد بن عبد الله ابن عمرو، وقال مرة عن أبيه، وقال مرة عن جده في النهي عن لحوم الحمر الأهلية، ولم يأت التصريح بذكر محمَّد بن عبد الله بن عمرو في حديث إلا في هذين الحديثين فيما وقفت عليه، وذلك نادر، لا تعويل

ص: 336

عليه، ولكن استدل ابن معين بذلك على صحة سماع عمرو من أبيه في الجملة. وقال ابن شاهين في الثقات: قال أحمد بن صالح، يعني المصري: عمرو سمع من أبيه عن جده وكله سماع، عمرو يثبت أحاديثه مقام التثبت. وقال الساجي: قال ابن معين: هو ثقة في نفسه وما روى عن أبيه عن جده لا حجة فيه، وليس بمتصل، وهو ضعيف من قبيل أنه مرسل، وَجَدَ شُعَيْبٌ عبد الله بن عمرو فكان يرويها عن جده إرسالا، وهي صحاح عن عبد الله بن عمرو غير أنه لم يسمعها.

قال الحافظ: فإذا شهد له ابن معين أن أحاديثه صحاح غير أنه لم يسمعها وصح سماعه لبعضها فغاية الباقي أن يكون وجادة صحيحة وهو أحد وجوه التحمل. والله أعلم. وقال يعقوب بن شيبة: ما رأيت أحدا من أصحابنا ممن ينظر في الحديث، وينتقي الرجال يقول في عمرو بن شعيب شيئا، وحديثه عندهم صحيح، وهو ثقة ثبت، والأحاديث التي أنكروا من حديثه إنما هي لقوم ضعفاء رووها عنه، وما روى عنه الثقات فصحيح، قال: وسمعت علي بن المديني يقول: قد سمع أبوه شعيب من جده عبد الله بن عمرو، وقال علي بن المديني: وعمرو بن شعيب عندنا ثقة، وكتابه صحيح. وقال الشافعي فيما أسنده البيهقي في المعرفة عنه يخاطب الحنفية حيث احتجوا عليه بحديث لعمرو بن شعيب: عمرو بن شعيب قد روى أحكامًا توافق أقاويلنا، وتخالف أقاويلكم عن الثقات فرددتموها، ونسبتموه إلى الغلط، فأنتم محجوجون إن كان ممن ثبت حديثه فأحاديثه التي وافقناها، وخالفتموها، أو أكثرها، وهي نحو ثلاثين حكمًا حجة عليكم، وإلا فلا تحتجوا به، ولا سيما إن كانت الرواية عنه لم تثبت. وقال الذهبي: كان أحد علماء زمانه قيل: إن محمدًا والد شعيب مات في حياة أبيه فرباه جده. اهـ تهذيب التهذيب ج 8/ ص 48، 55.

ص: 337

قال الجامع عفا الله عنه: قال الذهبي بعد نقل كلام ابن حبان المتقدم ما نصه: قلت: قد أجبنا عن روايته عن أبيه عن جده بأنها ليست بمرسلة ولا منقطعة. أما كونها وجادة، أو بعضها سماع وبعضها وجادة فهذا محل نظر. ولسنا نقول: إن حديثه من أعلى أقسام الصحيح، بل هو من قبيل الحسن. اهـ كلام الذهبي في ميزان الاعتدال ج 3 ص 268.

وقال في سير أعلام النبلاء ج 5 ص 175 بعد ذكر أن ابن حبان تحير وتردد في عمرو بن شعيب، فذكره في كتاب الضعفاء ثم أداه اجتهاده فقال: والصواب في عمرو بن شعيب أن يحول من هنا إلى كتاب الثقات لأن عدالته قد تقدمت، فأما المناكير في حديثه إذا كانت في روايته عن أبيه عن جده فحكمه حكم الثقات إذا رووا المقاطيع، والمراسيل بأن يترك من حديثهم المرسل والمقطوع، ويحتج بالخبر الصحيح.

قال الذهبي: فهذا يوضح لك أن الآخر من الأمرين عند ابن حبان أن عَمْرًا ثقة في نفسه، وأن روايته عن أبيه عن جده، إما منقطعة، أو مرسلة، ولا ريب أن بعضها من قبيل المسند المتصل، وبعضها يجوز أن تكون روايته وجادة أو سماعا فهذا محل نظر واحتمال، ولسنا ممن نعد نسخة عَمرو، عن أبيه، عن جده، من أقسام الصحيح الذي لا نزاع فيه من أجل الوجادة، ومن أجل أن فيها مناكير، فينبغي أن يتأمل حديثه ويتحايد ما جاء منه منكرا، ويُروى ما عدا ذلك في السنن والأحكام محسنين لإسناده، فقد احتج به أئمة كبار، ووثقوه في الجملة، وتوقف فيه آخرون قليلا، وما علمت أحدا تركه. اهـ كلام الذهبي في سيره.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الكلام نفيس جدًا، جامع لأشتات الآراء والأقوال التي طال فيها النزاع والخصام، فنقول: حديثه حسن يحتج به، كما يحتج بالصحيح ولا نقول هو صحيح بحت، والله أعلم.

ص: 338

‌106 - الأمرُ بِإسْبَاغِ الوُضُوءِ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على الأمر بإسباغ الوضوء.

والأمر هنا معناه الطلب. قال في المصباح: الأمر بمعنى الحال، جمعه أمور، وعليه قوله تعالى:{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97} والأمر بمعنى الطلب، جمعه أوامر، فرقا بينهما. وجمعُ الأمر: أوامرُ هكذا يتكلم به الناس، ومن الأئمة من يصححه ويقول في تأويله: إن الأمر مأمور به، ثم حول المفعول إلى فاعل، كما قيل أمر عارف، وأصله معروف، وعيشة راضية، والأصل مرضية إلى غير ذلك، ثم جمع

فاعل على فواعل، فأوامر جمع مأمور.

وإذا أمرت من هذا الفعل، ولم يتقدمه حرف عطف حذفت الهمزة على غير قياس، وقلت: مُرْه بكذا، ونظيره كُلْ وخُذْ، وإن تقدمه حرف عطف فالمشهور رد الهمزة على القياس، فيقال: وامُرْ بكذا، ولا يعرف في كل وخُذ إلا التخفيف مطلقا، وفي أمرته لغتان: المشهور في الاستعمال قصر الهمزة، والثانية مدها، قال أبو عبيد: وهما لغتان جيدتان. اهـ المصباح ج 1/ ص 21.

وإلى حذف همزة الأفعال الثلاثة في الأمر أشار ابن مالك في لاميته فقال (من البسيط):

وَشَذَّ بالحَذْف مُرْ وَخُذْ وكُلْ وَفَشَا

وَامُرْ وَمُسْتَنْدَرٌ تَتْميمُ خُذْ وَكُلَا

والإسباغ: المبالغة والإتمام. قال ابن منظور: شيء سابغ أي كامل وَاف، وسَبَغَ الشيءُ يسبُغ سُبُوغا: طال إلى الأرض، واتسع، وأسبغه هو، وسبغ الشَّعْر، سبوغا، وسبغت الدرع، وكل شيء طال إلى الأرض، فهو سابغ، وقد أسبغ فلان ثوبه، أي أوسعه، وسبغت النعمة تسبغ بالضم سبوغا: اتسعت، وإسباغ الوضوء: المبالغة فيه وإتمامه. اهـ

ص: 339

كلام ابن منظور في اللسان ج 8 ص 432، 433، وبابه قَعَد كما في المصباح.

ثم إن الإسباغ يكون من حيثُ الكَمُّ، ومن حيث الكيفُ: فأما الكم فأن يبالغ في عدد الغسلات بأن يغسل الأعضاء ثلاثا ثلاثا، وأما الكيف فأن يبالغ في صفة الغسل بأن يعمم محل الفرض ويتجاوزه، فيطيل الغرة والتحجيل، والأمر على كليهما للندب.

142 -

أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَبُو جَهْضَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ إِلاَّ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: فَإِنَّهُ أَمَرَنَا أَنْ نُسْبِغَ الْوُضُوءَ، وَلَا نَأْكُلَ الصَّدَقَةَ، وَلَا نُنْزِىَ الْحُمُرَ عَلَى الْخَيْلِ.

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(يحيى بن حبيب بن عربي) البصري، ثقة، من العاشرة، مات سنة 248 وقيل بعدها (م 4) تقدم في 60/ 75

2 -

(حماد) بن زيد بن درهم الجهضمي، أبو إسماعيل البصري الثقة تقدم في 3/ 3.

3 -

(أبو جهضم) موسى بن سالم مولى آل العباس البصري، صدوق من السادسة (4) قال أحمد: ليس به بأس قيل له: ثقة؟ قال: نعم ووثقه ابن معين، وأبو زرعة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وصدوق

ص: 340

وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عبد البر: لم يختلفوا في أنه ثقة.

4 -

(عبد الله بن عبيد الله بن عباس) بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي المدني. روى عن أبيه، وعمه. وعنه أبو جهضم موسى بن سالم، ويحيى بن سعيد الأنصاري. قال أبو زرعة والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. وذكره ابن حبان في الثقات. روى له الأربعة حديث الباب فقط، وفي "ت": ثقة من الرابعة.

5 -

(عبد الله بن عباس) البحر الحبر أحد العبادلة وأحد المكثرين، رضي الله عنه. تقدم في 27/ 31.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف.

ومنها: أن رواته ثقات، إلا أبا جهضم فهو صدوق.

ومنها: أنهم بصريون، إلا عبد الله بن عبيد الله فمدني.

ومنها: أن صحابيه هو أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى -1696 - حديثا، وقد تقدم غير مرة.

ومنها: أن شيخه ممن أخرج له (م 4) وأبا جهضم وعبد الله من رجال الأربعة، وحمادا وابن عباس من رجال الجماعة.

شرح الحديث

(عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس) الهاشمي المدني (قال: كنا جلوسا) جمع جالس (إلى عبد الله بن عباس) أي عنده، وللمصنف في كتاب الخيل، قال: كنت عند ابن عباس.

ولأبي داود: "دخلت على ابن عباس في شباب من بني هاشم"(فقال) ابن عباس بعد أن سألوه عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، ففي هذه الرواية اختصار يبينه ما عند المصنف في الخيل، وأبي داود في الصلاة، ولفظ الصنف قال "كنت عند ابن عباس، فسأله رجل، ولفظ أبي داود "دخلت على ابن عباس في شباب من بني هاشم،

ص: 341

فقلنا لشاب منا: سل ابن عباس، أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ، في الظهر والعصر؟ فقال: لا، فقيل له لعله كان يقرأ في نفسه، قال: خمشا

(1)

هذه أشد من الأولى، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد أمره الله تعالى بأمره فبلغه (والله ما) نافية (خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس إلا بثلاثة أشياء) لعل ابن عباس رضي الله عنه فهم من حال السائل أنه صلى الله عليه وسلم كان يخص آل البيت ببعض المسائل الدينية، فقال: ذلك. قاله في المنهل ج 5 ص 231 (فإنه) صلى الله عليه وسلم (أمرنا أن نسبغ الوضوء) أي نتمه، ولا نترك شيئا من فروضه، وسننه (ولا نأكل) بالنصب عطفا على نسبغ (الصدقة) أي وخصنا بمنع أكل الصدقة، وفي صحيح مسلم عن عبد المطلب بن ربيعة مرفوعا "إن هذه الصدقة إنما هى أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمَّد"، وروى الطبراني مرفوعا "إنه لا يحل لكم أهلَ البيت من الصدقات شيء، وإنما هي أوساخ الأيدي، وإن لكم من خمس الخمس ما يغنيكم". قاله في المنهل ج 5 ص321.

وهل الصدقة هي الزكاة أم تشمل التطوع؟ فيه خلاف للعلماء وسيأتي تحقيقه، إن شاء الله تعالى.

(ولا ننزى الحمر على الخيل) أي لا نحمله عليها للنسل، قال الفيومي: نزا الفحلُ نَزْوًا من باب قتل، ونَزَوَانا -أي بالتحريك- وثب والاسم: النُّزَاء مثل كتاب، وغُراب، يقال ذلك في الحافر، والظلف،

والسباع، ويتعدى بالهمزة والتضعيف، فيقال: أنزاه صاحبه، وَنزَّاه تنزية. اهـ المصباح.

(1)

(وقوله خمشا) بفتح فسكون مصدر خَمَشَ وجهه خَمشا أي قشر، دعا عليه بأن يخمش وجهه أو جلده، ونصب بفعل مقدر كجدعا. قاله السندي. وقوله هذه شر أي مسألتك الثانية شر من الأولى لتضمنها اتهامه صلى الله عليه وسلم بالكتمان فأفعل التفضيل ليس على بابه لأنه ليس في الأولى شر، ولعل ابن عباس قاله قبل أن يبلغه قراءيه صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر وإلا فقد ثبت عنه قوله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر، رواه ابن أبي شيبة، وغير ذلك. والله أعلم. أفاده في المنهل. ج 5 ص 233.

ص: 342

ثم إنه استشكل اختصاص آل البيت بالأمر بإسباغ الوضوء، وبالنهي عن إنزاء الحمر على الخيل، والناس كلهم في ذلك سواء. وأجيب بأن الإسباغ في حقهم للوجوب وفي حق غيرهم للندب، وبأن النهي عن إنزاء الحمر على الخيل في حقهم للتحريم، وفي حق غيرهم للكراهة، وإنما شدد عليهم لمزيد شرفهم، ولأنه يُقْتَدَى بهم.

والحكمة في النهي عن ذلك كما قال الخطابي: أن الحمر إذا حملت على الخيل قل عددها، وانقطع نماؤها، وتعطلت منافعها، والخيل يحتاج إليها للركوب والركض، والجهاد، وإحراز الغنائم، وغير ذلك من المنافع، وليس للبغال شيء من هذه، فأحب أن يكثر نسلها ليكثر الانتفاع بها. اهـ. كلام الخطابي. ونقله في المنهل ج 5 ص 231.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث ابن عباس حديث صحيح.

المسألة الثانية: في ذكر مواضعه عند النسائي: أخرجه النسائي في موضعين: هنا بالسند المذكور، وفي الخيل -10/ 2 - عن حميد بن مسعدة، عن حماد، عن أبي جهضم، الخ.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم:

أخرجة (د ت ق) فأما (د) فأخرجه في الصلاة -132/ 4 - عن مسدد، عن عبد الوارث، عن أبي جهضم موسى بن سالم، عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس رضي الله عنه. وأما (ت) فأخرجه في الجهاد -49 - عن أبي كريب، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أبي جهضم به. وقال: حسن صحيح، وقد روى الثوري عن أبي جهضم هذا، فقال: عن عبيد الله بن عبد الله. وسمعت محمدا يقول: حديث الثوري غيرمحفوظ- وهم فيه الثوري.

ص: 343

وأما (ق) فأخرجه في الطهارة -49/ 1 - عن أحمد بن عبدة الضبي، عن حماد بن زيد، عن أبي جهضم به. قال أبو الحجاج المزي: رواه حماد بن سلمة، عن أبي جهضم مثل رواية الثوري، وكذلك رواه محمَّد بن عيسى بن الطباع وغيره، عن حماد بن زيد. اهـ تحفة الأشراف ج 5 ص 42. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار بدون قوله: وما اختصنا. قاله في المنهل ج 5 ص 232.

المسألة الرابعة: في فوائده:

فها: الأمر بإسباغ الوضوء، والمراد به الإنقاء كما فسره به ابن عمر عند البخاري، واستكمال الأعضاء والحرص على أن يتوضأ وُضُوءًا يصح عند الجميع، وغسل كل عضو ثلاث مرات، هكذا قيل.

قال الشوكاني: فإذا كان التثليث مأخوذا في مفهوم الإسباغ فليس بواجب لحديث أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة ومرتين، وإن كان مجرد الإنقاء والاستكمال فلا نزاع في وجوبه. اهـ كلام الشوكاني ج 1 ص 220.

وتقدم البحث عنه في باب -72 -

قال الجامع عفا الله عنه:

لكن اختصاص أهل البيت بالأمر به يدل على استحبابه لغيرهم، وعلى أن المقصود بالإسباغ هو الأمر الزائد على القدر المفروض، من التثليث، وإطالة الغرة والتحجيل، وإلا فإكمال محل الفرض لا يخص

أهل البيت فقط.

وقال السندي: عند قوله "أمرنا": أي أمر إيجاب، أو ندب مؤكد، وإلا فمطلق الندب عام، والوجه العمل على الندب المؤكد إذ لم يقل أحد بوجوب الإسباغ في حق الموجودين من أهل البيت إلا أن يقال: كان الأمر مَخْصُوصًا في حق الموجودين في وقته صلى الله عليه وسلم اهـ كلام السندي ج 6 ص 225.

ص: 344

قال الجامع عفا الله عنه:

وفي كلامه نظر لا يخفى، بل الظاهر أنه للوجوب عليهم مطلقًا.

ومنها: تحريم أكل الصدقة عليهم، والظاهر أنه على الإطلاق، وسيأتي اختلاف العلماء فيه قريبا إن شاء الله تعالى.

ومنها: تحريم إنزاء الحمر على الخيل عليهم، وسيأتي أقوال العلماء في حق غيرهم إن شاء الله تعالى.

المسألة الخامسة: في مذاهب العلماء في أهل البيت الذين تحرم عليهم الصدقة، من هم؟ وما هي الصدقة التي تحرم عليهم؟

اختلف العلماء في المراد بآل البيت هنا، فقال الشافعي وجماعة إنهم بنو هاشم وبنو المطلب. واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أشرك بني المطلب مع بني هاشم في سهم ذوي القربى، ولم يعط أحدا من قبائل قريش غيرهم، وتلك العطية عوض عوضوه بدلا عما حرموه من الصدقة كما أخرج

البخاري من حديث جبير بن مطعم قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خمس خيبر، وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد". وأجيب عن ذلك بأنه إنما أعطاهم ذلك لموالاتهم لا عوضا عن الصدقة. وقال أبو حنيفة ومالك والهادوية: هم بنو هاشم فقط، وعن أحمد في بني المطلب روايتان، وعن المالكية فيما بين هاشم وغالب بن فهو قولان: فعن أصبغ منهم: هم بنو قصي، وعن غيره بنو غالب بن فهو كذا في الفتح. والمراد ببني هاشم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، وآل الحارث، ولم يدخل في ذلك آل أبي لهب، لما

قيل من أنه لم يسلم أحد منهم في حياته صلى الله عليه وسلم، ويرده ما في جامع الأصول

أنه أسلم عتبة، ومعتب ابنا أبي لهب عام الفتح، وسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 345

بإسلامهما، ودعا لهما، وشهدا معه حنينا والطائف، ولهما عقب عند أهل النسب.

قال ابن قدامة: لا نعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة، وكذا قال أبو طالب من أهل البيت، وحكى ذلك عنه في البحر، وكذا حكى الإجماع ابن رسلان، وقد نقل الطبري الجواز عن أبي حنيفة، وقيل عنه تجوز لهم إذا حرموا سهم ذوي القربي حكاه الطحاوي، ونقله بعض المالكية عن الأبهري منهم، قال في الفتح: وهو وجه لبعض الشافعية، وحكي فيه أيضا عن أبي يوسف أنها تحل من بعضهم لبعض لا من غيرهم، وحكاه في البحر عن زيد بن علي، والمرتضى، وأبي العباس، والإمامية، وحكاه في الشفاء عن ابن الهادي والقاسم العياني. قال الحافظ وعند المالكية في ذلك أربعة أقوال مشهورة: الجواز، والمنع، وجواز التطوع دون الفرض، عكسه. والأحاديث الدالة على التحريم على العموم ترد على الجميع. وقد قيل: إنها متواترة تواترا معنويا، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]، وقوله:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [ص: 86] ولو أحلها لآله أو شك أن يطعنوا فيه، ولقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الصدقة أوساخ الناس كما رواه مسلم. قاله الشوكاني في النيل ج 5 ص 226، 228.

وأما نوع الصدقة التي تحرم عليهم فظاهر النصوص العموم.

قال الشوكاني: واعلم أن ظاهر قوله: "لا تحل لنا الصدقة" عدم حل صدقة الفرض والتطوع، وقد نقل جماعة منهم الخطابي الإجماع على تحريمهما عليه صلى الله عليه وسلم، وتعقب بأنه قد حكى غير واحد عن الشافعي في

ص: 346

التطوع قولا، وكذا في رواية عن أحمد، وقال ابن قدامة: ليس ما نقل عنه من ذلك بواضح الدلالة.

وأما آل النبي صلى الله عليه وسلم فقال أكثر الحنفية وهو المصحح عند الشافعية والحنابلة

وكئير من الزيدية: إنها تجوز لهم صدقة التطوع دون الفرض، قالوا: لأن المحرم عليهم إنما هي أوساخ الناس، وذلك هو الزكاة لا صدقة التطوع، وقال في البحر: إنه خصصَ صدقةَ التطوع القياسُ على الهبة والهدية والوقف، وقال أبو يوسف وأبو العباس: إنها تحرم عليهم كصدقة الفرض؛ لأن الدليل لم يفصل اهـ. نيل الأوطار ج 5 ص 229.

قال الجامع عفا الله عنه:

وقول من عمم هو الراجح عندي لظهور دليله، والله أعلم. وسيأتي مزيد بسط للمسالة في محلها من كتاب الزكاة، إن شاء الله تعالى.

المسألة السادسة: في حكم إنزاء الحمر على الخيل واختلاف أهل العلم في ذلك: قال الحافظ أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في شرح معاني الآثار بعد ذكر حديث ابن عباس المذكور في الباب، وحديث علي رضي الله عنه قال: "أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة فركبها، فقال علي: لو حملنا

الحمير على الخيل، فكانت لنا مثل هذه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما يفعل

ذلك الذين لا يعلمون" ورواه أبو داود أيضا، قال الطحاوي ما لفظه: ذهب قوم إلى هذا فكرهوا إنزاء الحمر على الخيل، وحرموا ذلك ومنعوا منه، واحتجوا بهذه الآثار، وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا بذلك بأسا، وكان من الحجة لهم في ذلك أن ذلك لو كان مكروها لكان ركوب البغال مكروهًا؛ لأنه لولا رغبة الناس في البغال وركوبهم إياها لَمَا أنزئت الحمر على الخيل، ألا ترى أنه لما نهى عن خصاء بني آدم كره بذلك الخصيان، لأن في اتخاذهم ما يحمل من تحضيضهم على إخصائهم

ص: 347

لأن الناس إذا تحاموا اتخاذهم لم يرغب أهل الفسق في إخصائهم، ثم ذكر بسنده عن العلاء بن عيسى الذهبي أنه قال: أتي عمر بن عبد العزيز بخصي فكره أن يبتاعه، وقال: ما كنت لأعين على الخصاء، فكل شيء في ترك كسبه ترك لبعض أهل المعاصي لمعصيتهم فلا ينبغي كسبه، فلما أجمع على إباحة اتخاذ البغال وركوبها دل ذلك على أن النهي الذي في الأثر الأول لم يرد به التحريم ولكنه أريد به معنى آخر، ثم ذكر أحاديث ركوبه صلى الله عليه وسلم على البغال، ثم قال: فإن قال قائل: فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون"، قيل له: قد قال أهل العلم في ذلك: معناه أن الخيل قد جاء في ارتباطها واكتسابها وعلفها الأجر، ليس ذلك في البغال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما ينزو فَرَسٌ على فرس حتى يكون عنهما ما فيه الأجر، ويَحمِل حمارا على فرس فيكون عنهما بغل لا أجر فيه الذين لا يعلمون، أي لأنهم يتركون بذلك إنتاج ما في ارتباطه الأجر وينتجون ما لا أجر في ارتباطه، ثم ذكر أحاديث فضل ارتباط الخيل، ثم

قال: فإن قال قائل: فما معنى اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم بالنهي عن

إنزاء الحمير على الخيل؟ قيل له: لما حدثنا ابن أبي داود قال: حدثنا أبو عمر الحوضي، قال: حدثنا المرَجَّا هو ابن رجاء، قال: حدثنا أبو جهضم، قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: ما اختصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بثلاث: "أن لا نأكل الصدقة وأن نسبغ الوضوء وأن لا ننزي حمارا على فرس"، قال عبد الله بن الحسن وهو يطوف بالبيت فحدثته، فقال: صدق، كانت الخيل قليلة في بني هاشم، فأحب أن تكثر فيهم، فبين عبد الله بن الحسن بتفسيره هذا المعنى الذي له اختص رسول الله صلى الله عليه وسلم بني هاشم أن لا تنزوا الحمار على فرس، وأنه لم يكن للتحريم، وإنما كانت العلة قلة الخيل فيهم، فإذا ارتفعت تلك العلة وكثرت الخيل في أيديهم صاروا في ذلك كغيرهم. وفي اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالنهي

ص: 348

عند ذلك دليل على إباحته إياه لغيرهم. ولما كان صلى الله عليه وسلم قد جعل في ارتباط الخيل ما ذكرنا من الثواب والأجر، وسئل عن ارتباط الحمير فلم يجعل في ارتباطها شيئا والبغال التي هي خلاف الخيل مثلها كان من ترك أن ينتج ما في ارتباطه وكسبه ثواب وأنتج ما لا ثواب في ارتباطه وكسبه من الذين لا يعلمون. فلقد ثبت بما ذكرنا إباحة انتاج البغال لبني هاشم وغيرهم، وإن كان إنتاج الخيل أفضل من ذلك، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين. اهـ كلام الطحاوي.

قال العلامة المباركفوري: وفي كلام الطحاوي هذا أنظار كما لا يخفى على المتأمل.

قال الطيبي: لعل الإنزاء غير جائز والركوب والتزين به جائزان كالصور، فإن عملها حرام، واستعمالها في الفرش والبسط مباح.

قلت: وكذا تخليل الخمر حرام وأكل خل الخمر جائز على رأي بعض الأئمة. اهـ كلام المباركفوري. تحفة ج 5 ص 256.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن كلام الطحاوي هو الصواب الموفق بين الدليلين دليل الإباحة، وهو ركوبه صلى الله عليه وسلم، وتقريره الركوب لأصحابه، ودليل التحريم الذي هو حديث ابن عباس وعلي رضي الله عنهم. وخلاصة القول أن نقول: إن الإنزاء مكروه تنزيهًا، وهو أشد على أهل البيت، ولا يبعد أن يقال بتحريمه إذا أدى إلى انقطاع نسل الخيل، وأما ما قاله الطيبي وتابعه عليه المباركفوري، فمحل نظر، والله أعلم.

142 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ".

ص: 349

رجال الإسناد: ستة

1 -

(قتيبة) بن سعيد أبو رجاء الثقفي البغلاني. (ع) تقدم في 1/ 1.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قرط- بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة الضبي الكوفي، نزيل الري وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، قيل: كان في آخر عمره يهم من حفظه، مات سنة -188 - وله -71 - سنة. (ع). تقدم في 2/ 2.

3 -

(منصور) بن المعتمر بن عبد الله السلمي أبو عَتَّاب الكوفي، ثقة، ثبت، وكان لا يدلس من طبقة الأعمش، مات سنة -132 - (ع). تقدم في 2/ 2.

4 -

(هلال بن يساف) بكسر التحتانية ثم مهملة ثم فاء، ويقال ابن إساف، الأشجعي مولاهم، الكوفي، ثقة، من الثالثة، (خت م 4). وضبط في الخلاصة يساف بفتح الياء. تقدم في 39/ 43.

5 -

(أبي يحيى) الأعرج المعرقب، اسمه مصدَع بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه، مقبول، من الثالثة. (م 4). تقدم في 89/ 111.

والمعرقب بصيغة اسم المفعول لقب به لأن الحجاج، أو بشر بن مروان عرض عليه سب علي فأبى فقطع عرقوبه، قاله في تهذيب التهذيب جـ 1 ص 157 - 158.

6 -

(عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله عنهما. تقدم في 89/ 111.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته.

ومنها: أن رجاله ثقات غير أبي يحيى فمقبول. كما في التقريب،

ص: 350

وفي الخلاصة: هو موثق، وقال ابن حبان في الضعفاء: كان يخالف الأثبات في الروايات، وينفرد بالمناكير.

ومنها: أنهم ممن اتفق الجماعة في التخريج لهم إلا هلالا وأبا يحيى فأخرج لهما (م 4).

ومنها: أنهم كوفيون إلا قتيبة فبغلاني، ولا أعرف نسبة أبي يحيى، وإلا عمرا فمصري طائفي.

ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، منصور، وهلال، وأبو يحيى.

شرح الحديث

(عن عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله عنه أنه (قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسبغوا الوضوء) بضم الواو أي أتموه بفعل فرائضه وسننه وهذا الحديث مختصر، وقد تقدم تاما في 89/ 111 عن عبد الله بن عمرو، قال:"رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتوضئون، فرأى أعقابهم تلوح فقال: ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء". وتقدم هناك شرحه مُستوفى. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث عبد الله بن عمرو في سنده أبو يحيى الأعرج إلا أن له شواهد فهو صحيح بها كما قدمناه في 89/ 111.

المسألة الثانية: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم: أخرجه "م د ق" فأخرجه (م) في الطهارة -9/ 5 - عن زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن جرير -و -9/ 6 - عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان - و 9/ 6 - عن ابن المثنى وابن بشار،

ص: 351

كلاهما عن غندر، عن شعبة- ثلاثتهم عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو.

وأخرجه "د" في الطهارة -46 - عن مسدد، عن يحيى القطان، عن سفيان بالسند المذكور.

وأخرجه "ق" في الطهارة -55/ 1 - عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعلي ابن محمَّد، كلاهما عن وكيع، بالسند المذكور.

المسألة الثالثة: في مواضعه عند المصنف: أخرجه المصنف في موضعين هنا وفي باب -89/ 2 - عن محمود بن غيلان، عن وكيع بالسند المذكور. وفي -89/ 2 - عن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن سفيان بالسند المذكور. وأخرجه البيهقي والطحاوي. وبقية المسائل المتعلقة بهذا الحديث تقدمت في الباب المذكور.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 352

‌107 - بَابُ الفَضْلِ فِي ذَلِكَ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الفضل الحاصل في إسباغ الوضوء. والفضل: بفتح الفاء وسكون الضاد: الزيادة، والمراد به هنا زيادة الدرجات.

قال في المصباح: والفضيلة والفضل: الخير، وهو خلاف النقيصة والنقص. اهـ. وقال ابن منظور: وفَضَل الشيء يفضُل: مثال دخل يدخل، وفَضِل يفضَل كحذرَ يحذَر، وفيه لغة ثالثة مركبة منهما فَضِل بالكسر يفضُل بالضم، وهو شاذ لا نظير له، وقال ابن سيده: هو نادر جعلها سيوبه كمِت تَمُوت، قال الجوهري: قال سيبويه: هذا عند أصحابنا إنما يجيء على لغتين، قال: وكذلك نعم ينعُم ومتَّ تموت وكِدتَّ تكود، وقال اللحياني: فضل يفضل كحسب يحسب نادر كل ذلك بمَعْنىً. اهـ لسان.

143 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ".

ص: 353

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد أبو رجاء الثقفي البغلاني ثقة ثبت 10، تقدم في1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس أبو عبد الله إمام دار الهجرة. ثقة فقيه حجة تقدم في 7/ 7.

3 -

(العلاء بن مبد الرحمن) بن يعقوب الحُرَقي -بضم المهملة وفتح الراء بعدها قاف، أبو شبل، بكسر المعجمة وسكون الموحدة، المدني، صدوق ربما وهم، من الخامسة مات سنة بضع وثلاثين (م 4).

4 -

(عبد الرحمن) بن يعقوب الجهني، المدني، مولى الحرقة ثقة، من الثالثة. (م 4).

5 -

(أبو هريرة) عبد الله بن عمرو على الأصح، نقيب أهل الصفة، وأكثر الصحابة حديثا روى -5374 - حديثا. تقدم في 1/ 1.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته.

ومنها: أن رواته مدنيون، إلا قتيبة، فبغلاني.

ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه، ورواية تابعي، عن تابعي العلاء، عن أبيه.

ومنها: أن صحابيه رئيس المكثرين في الرواية كما تقدم غير مرة.

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا) بفتح الهمزة والتخفيف، للتحضيض، ومعناه طلب الشيء بحَثّ، وقد تقدم

ص: 354

البحث عنها في 64/ 80 في شرح حديث ابن عباس رضي الله عنه "ألا أخبركم بوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وقا ل المباركفوري: قوله (ألا أدلكم) الهمزة للاستفهام، ولا نافية، وليس ألا للتنبيه بدليل قولهم: بلى. اهـ تحفة ج 1 ص 171.

قال الجامع عفا الله عنه:

أما قوله الهمزة للاستفهام ولا نافية ففيه نظر لأن ألا التي تكون للاستفهام عن النفي لا يليها إلا الجملة الاسمية كما أوضحه ابن هشام في مغنيه ج 1 ص 66 بنسخة حاشية الأمير. ولأن المعنى عليه غير واضح فالأولى ما قلناه، والله أعلم (بما يمحو الله به) أي يزيل بذلك الفعل (الخطايا) جمع خطيئة، وهو جمع نادر، والخطيئة: الذنب على عمد، وقد تقدم الكلام في هذه الكلمة وتصاريفها ومعانيها مستوفًى في 85/ 103 فارجع إليه.

قال القاضي عياض رحمه الله: هو الخطايا: كناية عن غفرانها، ويحتمل محوها من كتاب الحفظة، ويكون دليلا على غفرانها اهـ ذكره النووي في شرح مسلم ج 3/ 139.

(ويرفع به الدرجات) أي يعلي به المنازل في الجنة، وعند مسلم والترمذي "قالوا بلى يا رسول الله" قال:(إسباغ الوضوء) أي إتمامه وإكماله باستيعاب المحل بالغسل، وتطويل الغرة، وتكرار الغسل ثلاثا. قاله المباركفوري (على المكاره) قال ابن الأثير: جمع مكره -يعني بفتح الميم وسكون الكاف وفتح الراء- وهو ما يكرهه الإنسان ويشق عليه، والكره: بالضم والفتح: المشقة، والمعنى أن يتوضأ مع البرد الشديد، والعلل التي يتأذى معها بمس الماء، ومع إعوازه والحاجة إلى طلبه والسعي في تحصيله أو ابتياعه بالثمن الغالي، وما أشبه ذلك

ص: 355

من الأسباب الشاقة. اهـ لسان. ج 13 ص 353. فقوله: إسباغ خبر لمبتدأ محذوف، أي هو إسباغ الوضوء، ومثله المعطوفان بعده.

(وكثرة الخُطَى إلى المساجد) أي كثرة التردد إليها، والخطى بالضم والقصر: جمع خطوة بالضم أيضا، وهي ما بين القدمين، ويجمع أيضا على خُطْوات بضم فسكون، وعلى خطُوُات بضمتين. قاله في اللسان. ج 14 ص 231، وقال النووي: وكثرة الخطأ تكون ببعد الدار، وكثرة التكرار. اهـ شرح مسلم ج 1 ص 141.

(وانتظار الصلاة) أي وقتها، أو جماعتها (بعد) أداء (الصلاة) يعني أنه إذا صلى بالجماعة أو منفردا ينتظر صلاة أخرى ويعلق فكره بها. بأن يجلس في المسجد، أو في بيته ينتظرها، أو يكون في شغله وقلبه معلق بها. أفاده المباركفوري. وقال السيوطي: يحتمل وجهين: أحدهما الجلوس في المسجد، والثاني تعلق القلب بالصلاة والاهتمام بها والتأهب لها. اهـ زهر ج 1 ص 90.

قال الجامع: الوجه الأول هو الظاهر.

وقال النووي: قال القاضي أبو الوليد الباجي: هذا في المشتركتين من الصلوات في الوقت، وأما غيرهما فلم يكن من عمل الناس. اهـ شرح مسلم ج 3 ص 141.

قال الجامع عفا الله عنه:

في تفريق الباجي نظر كما قال النووي، بل الظاهر العموم (فذالكم) الإشارة إلى ما ذكر من الأعمال (الرباط، فذالكم الرباط، فذالكم الرباط) قال ابن منظور: الرباط أي بكسر الراء في الأصل: الإقامة على جهاد العدو بالحرب، وارتباط الخيل وإعدادها، فشبه ما ذكر من الأعمال الصالحة به. قال القتيبي: أصل المرابطة أن يربط الفريقان خيولهما في ثغر، كلٌّ منهما مُعِدٌّ لصاحبه، فسمي المقام في الثغور رباطا،

ص: 356

ومنه قوله: "فذالكم الرباط" أي أن المواظبة على الطهارة والصلاة كالجهاد في سبيل الله، فيكون الرباط مصدر رابطت، أي لازمت، وقيل: هو ها هنا اسم لما يربط به الشيء أي يشد، يعني أن هذه الخلال تربط صاحبها عن المعاصي وتكفه عن المحارم، اهـ لسان ج 7 ص 302.

وقال السيوطي: "فذلكم الرباط الخ": أي المذكور في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] وحقيقته ربط النفس والجسم مع الطاعات، وحكمة تكراره قيل: الاهتمام به وتعظيم شأنه، وقيل: كرره صلى الله عليه وسلم على عادته في تكرار الكلام ليفهم عنه. قال النووي: والأول أظهر. اهـ زهر ج 1 ص 92.

وقال السندي: قيل أراد به المذكور في قوله تعالي: {وَرَابِطُوا} ، وحقيقته ربط النفس والجسم مع الطاعات، وقيل: المراد هو الأفضل، والرباط ملازمة ثغر العدو لمنعه، وهذه الأعمال تسد طرق الشيطان عنه، وتمنع النفس عن الشهوات وعداوة النفس والشيطان لا تخفى، فهذا هو الجهاد الأكبر الذي فيه قهر أعدى عدوه، فلذلك قال الرباط بالتعريف والتكرار تعظيما لشأنه. اهـ كلام السندي ج 1 ص 90.

وقال النووي في شرح مسلم نقلا عن القاضي عياض: وقوله "فذالكم الرباط" أي الرباط الرغب فيه، وأصل الرباط: الحبس على الشيء كأنه حبس نفسه على هذه الطاعات، قيل: ويحتمل أنه أفضل الرباط كما قيل: الجهاد جهاد النفس، ويحتمل أنه الرباط المتيسر الممكن أي أنه من أنواع الرباط. اهـ شرح مسلم ج 3 ص 141 وسيأتي مزيد تحقيق لهذا في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه مسلم.

ص: 357

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا 107/ 143 وفي الكبرى 93/ 139 بهذا السند.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم: أخرجه (م) في الطهارة -14/ 2 - عن إسحاق بن موسى، عن معن بن عيسى، عن مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي

هريرة رضي الله عنه.

وأخرجه مالك في الموطأ [55] وأحمد في مسنده 2/ 277، و 202.

المسألة الرابعة: في فوائده: من فوائد الحديث فضل إسباغ الوضوء على المكاره، وهو الذي بوب عليه المصنف، لكن تبويبه عام فلعله أراد الفضل الحاصل في الجملة، أو أراد تقييد الترجمة بما في الحديث. والله أعلم.

ومنها: فضل إكثار التردد إلى المساجد.

ومنها: فضل انتظار الصلاة بعد الصلاة.

ومنها: أن هذه الخصال: ملازمة لطاعة الله، وحبس للنفس عليها، وهي من أفضل القربات إلى الله تعالى.

المسألة الخامسة: حيث إن بعض العلماء قالوا: إن المراد بهذا الحديث هو ما في قوله تعالى: {وَرَابِطُوا} أحببت أن أذكر ما قاله المفسرون في هذه الآية إيضاحًا للمقام، وتكميلًا للمرام، فأقول:

قال العلامة أبو الفضل محمود الألوسي البغدادي في تفسيره روح المعاني: وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن أسلم أن المراد -يعني في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]. اصبروا على الجهاد، وصابروا

ص: 358

عدوكم، ورابطوا: على دينكم، وعن الحسن أنه قال:{اصْبِرُوا} على المصيبة {وَصَابِرُوا} : على الصلوات {وَرَابِطُوا} : في الجهاد في سبيل الله تعالى. وعن قتادة أنه قال: {اصْبِرُوا} على طاعة الله تعالي {وَصَابِرُوا} : أهل الضلال {وَرَابِطُوا} : في سبيل الله، وهو قريب من الأول، والأول أولى. اهـ روح المعاني ج 4 ص 176.

وقال العلامة القرطبي في تفسيره ما حاصله: اختلفوا في معنى قوله: {وَرَابِطُوا} فقال جمهور الأمة: "رابطوا" أعداءكم بالخيل، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم، ومنه قوله تعالى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}

وفي الموطأ عن مالك، عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة ابن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله له بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه. رواه الحاكم أبو عبد الله. واحتج أبو سلمة بقوله عليه السلام:"ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطأ إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذالكم الرباط، ثلاثا". رواه مالك.

قال ابن عطية: والصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله، أصلها من ربط الخيل ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا، فارسا كان أو راجلا. واللفظ مأخوذ من الربط، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:

ص: 359

"فذالكم الرباط" إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله، والرباط اللغوي هو الأول، وهذا كقوله:"ليس الشديد بالصُّرَعَة" وقوله: "ليس المسكين بهذا الطواف".

قال القرطبي: قوله والرباط اللغوي هو الأول ليس بمسلم، فإن الخليل بن أحمد أحد أئمة اللغة وثقاتها قد قال: الرباط ملازمة الثغور، ومواظبة الصلاة أيضا، فقد حصل أن انتظار الصلاة رباط لغوي حقيقة، كما قال صلى الله عليه وسلم. وأكثر من هذا ما قاله الشيباني أنه يقال: ماء مترابط أي

دائم لا ينزح، حكاه ابن فارس، وهو يقتضي تعدية الرباط لغة إلى غير ما ذكرناه، فإن المرابطة عند العرب العقد على الشيء حتي لا ينحل، فيعود إلى ما كان صبر عنه، فيحبس القلب على النية الحسنة والجسم علي فعل الطاعة، ومن أعظمها وأهمها ارتباط الخيل في سبيل الله، كما نصَّ عليه في التنزيل في قوله:{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} على ما يأتي، وارتباط النفس على الصلوات كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه أبو هريرة، وجابر، وعلي، ولا عطر بعد عروس. اهـ كلام القرطبي ج 4 ص 323 - 324.

وقال العلامة الألوسي بعد ذكر التفسير المشهور الذي هو تفسير الجمهور ما نصه: وقد روي في بعض الآثار غير ذلك، فقد أخرج ابن مردويه عن سلمة

(1)

بن عبد الرحمن قال: أقبل عليّ أبو هريرة يوما فقال: أتدري يا ابن أخي فيم أنزلت هذه الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} الخ؟ قلت: لا، قال: أما إنه لم يكن في زمان النبي في غزو يرابطون فيه ولكنه نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله تعالى فيها، ففيهم أنزلت أي {اصْبِرُوا} على الصلوات الخمس {وَصَابِرُوا} أنفسكم وهواكم {وَرَابِطُوا} في مساجدكم {وَاتَّقُوا

(1)

هكذا سلمة ولعل الصواب أبي سلمة كما تقدم في تفسير القرطبي، وفيه أيضا مخالفة لما مضى حيث إنه جعله لأبي هريرة فليحرر.

ص: 360

اللَّهَ} فيما علمكم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

وأخرج مالك والشافعي، وأحمد، ومسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره" الحديث.

قال: ولعل هذه الرواية عن أبي هريرة أصح من الرواية الأولى مع ما في الحكم فيها بأنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غَزْو يرابطون فيه من البعد، بل لا يكاد يسلم ذلك له، ثم إن هذه الرواية وإن كانت صحيحة لا تنافي التفسير المشهور لجواز أن تكون اللام في الرباط فيها للعهد، ويراد به الرباط في سبيل الله تعالى، ويكون قوله عليه السلام فذالكم الرباط من قَبيل "زيدٌ أسَدٌ"، والمراد تشبيه ذلك بالرباط على وجه المبالغة. اهـ روح المعاني ج 4 ص 176.

قال الجامع عفا الله عنه:

هذا الذي قاله العلامة الألوسي من الحسن بمكان، وهو الذي تقدم تصحيح ابن عطية له.

والحاصل أن الراجح في تفسير الآية هو قول الجمهور، وهو أن المعنى هو ملازمة ثغر العدو، وأما الحديث فالمراد بالرباط فيه تشبيه هذه الخصال بالرباط في سبيل الله على وجه المبالغة. والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 361

‌108 - ثَوَابُ منْ توَضّأ كَمَا أُمِرَ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على ثواب الشخص الذي توضأ كما أمره الله تعالى. فقوله: أمر بالبناء للمفعول.

والثواب: الجزاء. قال ابن منظور: والثواب: جزاء الطاعة، وكذلك المثوبة، قال الله تعالى:{لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} [البقرة: 103] وأعطاه ثوابه ومَثُوبته -يعني بفتح الميم وضم الثاء- ومَثْوَبَتَه -يعني بفتح الميم وسكون الثاء وفتح الواو- أي جزاء ما عمله. وأثابه الله ثوابه، وأثْوَبَه، وثوّبه مَثُوبَتَه: أعطاه إياها، وفي التنزيل {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36]. أي جوزوا. اهـ لسان ج 1 ص 244.

والمراد بالأمر هنا ما يشمل الإيجاب والندب، كما سيأتي تحقيقه، إن شاء الله تعالى.

144 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُمْ غَزَوْا غَزْوَةَ السَّلَاسِلِ، فَفَاتَهُمُ الْغَزْوُ فَرَابَطُوا، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَعِنْدَهُ أَبُو أَيُّوبَ وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، فَقَالَ عَاصِمٌ: يَا أَبَا أَيُّوبَ، فَاتَنَا الْغَزْوُ الْعَامَ، وَقَدْ أُخْبِرْنَا أَنَّهُ مَنْ صَلَّى فِي الْمَسَاجِدِ الأَرْبَعَةِ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ. فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَدُلُّكَ عَلَى أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ

ص: 362

- صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ تَوَضَّأَ كَمَا أُمِرَ، وَصَلَّى كَمَا أُمِرَ، غُفِرَ لَهُ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ". أَكَذَلِكَ يَا عُقْبَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ.

رجال الإسناد: ستة

1 -

(قتيبة بن سعيد) أبو رجاء الثقفي البغلاني ثقة من [10] تقدم في1/ 1

2 -

(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري ثقة ثبت فقيه إمام مشهور، من السابعة، مات في شعبان سنة [175] ع. تقدم في 31/ 35.

3 -

(أبو الزبير) محمَّد بن مسلم بن تَدْرس، بفتح المثناة وسكون الدال المهملة وضم الراء الأسدي مولاهم، المكي، صدوق إلا أنه يدلس من الرابعة، مات سنة 126 - (ع). تقدم في 31/ 35.

4 -

(سفيان بن عبد الرحمن) أو ابن عبد الله بن عاصم بن سفيان بن عبد الله الثقفي، المكي. روى عن جده عاصم بن سفيان، وداود بن أبي عاصم. وعنه عبد الله بن لاحق المكي، وأبو الزبير المكي. ذكره ابن حبان في الثقات، له في النسائي، وابن ماجه حديث الباب فقط، لكن سماه ابن ماجه سفيان بن عبد الله. وفي "ت" مقبول، من السادسة. (س ق).

5 -

(عاصم بن سفيان الثقفي) الكوفي هو عاصم بن سفيان بن عبد الله بن ربيعة الثقفي، روى عن أبيه، وعمر، وأبي ذَرّ، وأبي أيوب وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر الجهني، وعنه ابنه بشر وابن ابنه سفيان بن عبد الرحمن، وعمرو بن شعيب. ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، وذكره ابن حبان في الثقات.

قال الحافظ: نسبه البخاري فزاد بعد عبد الله بن ربيعة أخو عبد الله، ووقع في الصحابة للبغوي وغيره من طريق بشر بن عاصم، عن أبيه سمعمت النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا، فغلب علي ظني أن المخرج له في السنن غيره وقد بينت ذلك في الإصابة. اهـ تهذيب التهذيب ج 5 ص 41 - 42.

ص: 363

6 -

(أبو أيوب) الأنصاري، خالد بن زيد بن كليب، من كبار الصحابة، شهد بدرا، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم الدينة عليه، ومات غازيا الروم سنة 50 وقيل بعدها. (ع) تقدم في 20/ 20.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته.

ومنها: أن رواته ما بين بغلاني، وهو قتيبة، ومصري، وهو الليث، ومكيين، وهما أبو الزبير، وسفيان، وكوفي، وهو عاصم، ومدني، وهو أبو أيوب.

ومنها: أن أربعة منهم ممن اتفقوا عليهم: وهم قتيبة، والليث، وأبو الزبير، وأبو أيوب، وسفيان ممن أخرج له المصنف، وابن ماجه، وعاصم ممن أخرج له الأربعة.

ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، أبو الزبير، وسفيان، وعاصم.

ومنها: أن فيه رواية الراوي، عن جده، سفيان، عن عاصم.

شرح الحديث

(عن عاصم بن سفيان الثقفي) بفتحتين نسبة إلى ثقيف بن منبه بن بكر ابن هوازن قاله في اللباب ج 1 ص 240 (أنهم) أي هو وأصحابه (غزوا غزوة السلام) وهي التي كانت في زمن معاوية، قال ابن حبان في صحيحه ج 2 ص 189: وغزاة السُّلاسل كانت في أيام معاوية، وغَزَاة السُّلاسل كانت في أيام النبي صلى الله عليه وسلم اهـ. وفي اللسان: هو بضم السين الأولى وكسر الثانية، ماء بأرض جذام، وبه سميت الغزاة، وهو في اللغة الماء السَّلسَّال، وقيل هو بمعنى السَّلْسَل. اهـ.

وفي "ق" والتاج: ما حاصله: أن فتح السين وهو المشهور، وبه جزم البكرى، ويروى بضمها، وبه جزم ابن الأثير، ونقل الحافظ القولين في الفتح، وقال ابن القيم: بالضم والفتح لغتان. ثم تسميته على الفتح لأنه كان به رمل بعضه على بعض كالسلسلة، وعلى الضم لسهولته، وذات

ص: 364

السلاسل ماء بأرض جذام وراء وادي القرى، وبه سميت الغزاة، غزاها عمرو بن العاص رضي الله عنه سنة ثمان من الهجرة. اهـ "ق" وشرحه. وقد تقدم أن المراد هنا ما كانت في زمن معاوية رضي الله عنه.

(ففاتهم الغزو فرابطوا) أي حبسوا أنفسهم في ثغر العدو مدة (ثم رجعوا إلى معاوية) بن أبي سفيان رضي الله عنه (و) الحال أن (عنده) أي عند معاوية رضي الله عنه (أبو أيوب) خالد بن زيد بن كليب الأنصاري رضي الله عنه (وعقبة بن عامر) الجهني صحابي مشهور اختلف في كنيته على سبعة أقوال، أشهرها أبو حماد، ولي إمْرَة مصر لمعاوية رضي الله عنه ثلاث سنين وكان فقيها فاضلا مات في قرب الستين اهـ تقريب ص 241. (فقال عاصم) بن سفيان (يا أبا أيوب فاتنا الغزو العام) منصوب على

الظرفية، أي هذه السنة (وقد أخبرنا) بالبناء للمفعول (أنه من صلى في المساجد الأربعة) قال السندي: لعل المراد بها مسجد مكة، والمدينة، ومسجد قباء، والمسجد الأقصي. اهـ ج 1 هـ ص 90 ثم رأيت ابن حبان جزم في صحيحه بهذا المعنى فقال ج 2 ص 189

قال أبو حاتم رضي الله عنه: المساجد الأربعة: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الأقصى، ومسجد قباء اهـ فعلى هذا فأل للعهد. وذكر بعضهم احتمال أيّ مسجد كان فأل للجنس، لكن الأول هو الظاهر. و (غفر له ذنبه) بالبناء للمفعول، فقال أبو أيوب (يا ابن أخي) يريد به أخوة الدين لا أخوة النسب؛ لأن عاصما ليس من الأنصار (أدلك على أيسر من ذلك) أي أسهل عليك مما ذكرت من الصلاة في المساجد الأربعة (إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من توضأ كما أمر) بالبناء للمفعول أي كما أمره الله تعالى، قال السندي: أي أمر إيجاب فيحصل الثواب لمن اقتصر على الواجبات في الوضوء، أو أمر إيجاب وندب فيتوقف على المندوبات، ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز لجواز أن يراد بالأمر مطلق الطلب الشامل للإيجاب والندب. اهـ كلام السندي.

ص: 365

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر الأول لما يأتي في حديث عثمان قريبا (وصلى كما أمر) بالضبط المتقدم، أي كما أمره الله تعالى، من استكمالا الأركان، والشروط، والواجبات، الخشوع، غير ذلك.

(غفر له ما قَدَّم) بالبناء للفاعل، من التقديم أي ما أسلف (من عمل) أي ذنب. ثم قال أبو أيوب مستشهدا على ما قال (كذلك يا عقبة؟) أي هل الحديث الذي ذكرته من النبي صلى الله عليه وسلم صواب (قال) عقبة (نعم) أي ما قلته صواب، وما أخطأت فيه. وقد تقدم البحث عن نعم مستوفىً في الباب 101/ ح 131. فارجع إليه تزدد علما. وبالله تعالى التوفيق.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث أبي أيوب رضي الله عنه صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: أخرجه هنا 108/ 144، وفي الكبرى 94/ 140 بهذا السند.

المسألة الثالثة: في ذكر من أخرجه معه: أخرجه ابن ماجه في الصلاة 193/ 2، عن محمَّد بن رمح، عن الليث، عن أبي الزبير، عن سفيان ابن عبد الله أظنه- عن عاصم بن سفيان، عن أبي أيوب رضي الله عنه.

وأخرجه أحمد ج 5 ص 423. وأخرجه ابن حبان في صحيحه ج 2 ص 189.

المسألة الرابعة: في فوائده: من فوائد هذا الحديث: أن الوضوء والصلاة على الوجه الذي أُمرَ من مكفرات الذنوب، وأن بعض الأعمال وإن كان سهلا في نفسه إلا أن الله جعل فيه أجرا جزيلا، وفيه

أن المحدِّث وإن كان متقنا ينبغي له أن يَتَهِّمَ نفسه إن ربما تخونه ذاكرته، فيتأكد في روايته ببعض الحفاظ المتقنين ولا يستقل بنفسه.

145 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ

ص: 366

أَبَانَ، أَخْبَرَ أَبَا بُرْدَةَ فِي الْمَسْجِدِ، أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَنْ أَتَمَّ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ عز وجل، فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(محمَّد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري ثقة من -10 - ، تقدم في 5/ 5.

2 -

(خالد) بن الحارث بن عبيد الهجيمي البصري ثقة ثبت -8 - ، تقدم في 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الواسطي البصري الحجة، الثبت -7 - ، تقدم في 24/ 26.

4 -

(جامع بن شداد) المحاربي أبو صخرة الكوفي، وثقه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة متقن، وقال العجلي: شيخ عال ثقة من قدماء شيوخ الثوري. وفي "ت": ثقة من الخامسة، مات سنة سبع ويقال سنة ثمان وعشرين ومائة أخرج له الجماعة

5 -

(حمران بن أبان) مولى عثمان بن عفان، اشتراه في زمن أبي بكر رضي الله عنهما، ثقة، من الثانية مات سنة 75، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في 68/ 84.

6 -

(عثمان) بن عفان رضي الله عنه، تقدم في 68/ 84.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسيات المصنف.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات.

ومنها: أن الثلاثة الأولين بصريون، وجامع كوفي، وحمران، وعثمان مدنيان.

ص: 367

ومنها: أن الجماعة اتفقوا على تخريج أحاديثهم إلا شيخ المصنف فلم يخرج له البخاري، وأخرج له أبو داود في القدر.

ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، جامع عن حمران.

شرح الحديث

(عن جامع بن شداد) بفتح الشين وتشديد الدال المهملة، أنه (قال: سمعت حمران) بضم الحاء المهملة، وسكون الميم (ابن أبان) تقدم أن الأكثرين على صرفه فوزنه فَعَال، وبعضهم يمنعه من الصرف للعلمية ووزن الفعل (أخبر أبا بُرْدَة) بن أبي موسى الأشعري قيل اسمه عامر، وقيل الحارث، ثقة من الثالثة، مات سنة 104، وقيل قبلها، وقد جاوز الثمانين، وجملة أخبر حال من حمران على تقدير "قد" عند البصريين (في المسجد) أي مسجد البصرة، لما عند أحمد في المسند قال: حدثنا هاشم حدثنا شعبة، قال: أخبرني أبو صخرة جامع بن شداد، قال: سمعت حمران بن أبان يحدث أبا بردة في مسجد البصرة، وأنا قائم معه، أنه سمع عثمان بن عفان رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال .. الحديث (أنه) أي حمران (سمع عثمان) رضي الله عنه (يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) جملة حالية من "عثمان" (يقول:) جملة حالية من رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حال كون النبي صلى الله عليه وسلم قائلا (من) شرطية، أو موصولة (أتم الوضوء كما أمره الله عز وجل أي أمر إيجاب، لما عند مسلم قال:"ما من مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب الله عليه"

الحديث. قال النووي: هذه الرواية فيها فائدة نفيسة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم:"الطهور الذي كتبه الله عليه" فإنه دال على أن من اقتصر في وضوئه على طهارة الأعضاء الواجبة، وترك السنن والمستحبات كانت هذه الفضيلة حاصلة له وإن كان من أتى بالسنن أكمل وأشد تكفيرا. والله أعلم. اهـ كلام النووي في شرح مسلم ج 3 ص 116. وهو كلام نفيس (فالصلوات الخمس كفارات لما بينهن) أي لما عمل من الذنوب. والجملة جواب "من"

ص: 368

أو خبرها، بتقدير رابط، أي له أو أن "أل" في الصلوات بدل من الضمير الرابط، أي صلواته كفارات، أي ماحيات لما اقترفه من الذنوب.

ثم إن الظاهر أن المراد بالذنوب الصغائر لما في بعض الروايات من التقييد باجتناب الكبائر. ففي صحيح مسلم عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله". فهذا صريح في الذنوب الصغائر فيحمل المطلق عليه. والله أعلم. وقد تقدم الكلام عليه في 68/ 84 فأرجع إليه. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث عثمان

المسألة الأولى: في درجته: حديث عثمان رضي الله عنه أخرجه مسلم في صحيحه.

المسألة الثانية: في بيان موضعه عند المصنف: لم يذكره المصنف إلا في هذا الموضع.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم: أخرجه (م ق).

فأما (م) فأخرجه في الطهارة -4/ 8 - عن ابن المثنى، وبندار، كلاهما عن غندر، و 4/ 8 - عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، كلاهما عن شعبة و -4/ 7 - عن أبي بكر، وأبي كريب، وإسحاق بن إبراهيم،

ثلاثتهم عن وكيع، عن مسعر- كلاهما عن جامع بن شداد، عن حمران، عن عثمان رضي الله عنه. وفي حديث مسعر قصة، قال: عن جامع بن شداد أبي صخرة، قال: سمعت حمران بن أبان قال: كنت أضع لعثمان طهوره، فما أتى عليه يوم إلا وهو يفيض عليه الماء نطفة، وقال عثمان: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند انصرافنا من صلاتنا هذه قال مسعر: أُرَاهَا العصر، فقال: ما أدري أحدثكم بشيء أو أسكت؟ فقلنا: يا رسول الله

ص: 369

إن كان خيرا فحدثنا، وإن كان غير ذلك فالله ورسوله أعلم، قال: ما من مسلم يتطهر، فيتم الطهور الذي كتب الله عليه، فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارات لما بينها".

وأما (ق) فأخرجه في الطهارة 57/ 1 عن بندار عن غندر، عن شعبة، عن جامع بن شداد به.

وأخرجه أحمد في مسنده كما مرَّ قريبًا، وأخرجه ابن حبان في صحيحه ج 2 ص 190.

المسألة الرابعة: في فوائده: منها: فضل الوضوء كما أمره الله تعالى، وفضل الصلوات الخمس، وأن من أحسن ذلك حصل له تكفير خطاياه، وقد تقدم فضل إسباغ الوضوء في الباب الذي قبل هذا، ويأتي

أيضا في الأحاديث الآتية، إن شاء الله تعالى. وبالله تعالى التوفيق.

146 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ، أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنِ امْرِئٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلَاةَ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الأُخْرَى حَتَّى يُصَلِّيَهَا".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلاني ثقة ثبت10. تقدم في 1/ 1.

2 -

(مالك) أنس الإمام العَلَم ثقة فقيه حجة -7 - تقدم في 7/ 7.

3 -

(هشام بن عروة) بن الزبير بن العوام الأسدي، ثقة، فقيه، ربما دلس من الخامسة، مات سنة خمس أو ست وأربعين ومائة، وله 87 سنة.

ص: 370

(ع) تقدم في 49/ 61.

4 -

(عروة بن الزبير) بن العوّام بن خُويلد الأسدي، أبو عبد الله

المدني، ثقة فقيه مشهور، من الثالثة، مات سنة 94 على الصحيح، ومولده في أوائل خلافة عثمان. (ع). تقدم في 40/ 44.

وأما 5 - (حمران)، 6 - (عثمان) فتقدما في السند السابق.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سدسياته.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات أجلاء.

ومنها: أنهم مدنيون، إلا شيخ المصنف فبغلاني.

ومنها: أنهم ممن اتفق الجماعة على تخريج أحاديثهم.

ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه.

ومنها: أن فيه رواية ثلاثة من التابعين، بعضهم عن بعض، هشام، عن عروة، عن حمران.

ومنها: أن عروة أحد الفقهاء السبعة، وقد تقدم غير مرة.

شرح الحديث

(عن حمران مولى عثمان) كان من النَّمر بن قاسط سُبيَ بعين التَّمْر

(1)

فابتاعه عثمان من المسيب بن نجبة فأعتقه. اهـ تت ج 3 ص 24 (أن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي كلامه، حال كونه (يقول: ما) نافية (من) زائدة كما قال ابن مالك

وَزيدَ في نَفْي وَشبْهه فَجَر

نَكرَةً كمَا لبَاغ منْ مَفَر

(امرئ) المراد به الشخص فيعم الرجل والمرأة، وإلا فلفظه لا يطلق غالبا إلا على الرجل فقط، قال في المصباح: والمرأ الرجل بفتح الميم وضمها لغة، فإن لم تأت بالألف واللام قلت: امرؤ وامرآن والجمع

رجال من غير لفظه، والأنثى امرأة بهمزة وصل، وفيها لغة أخرى مرأة وزان تمرة، ويجوز بنقل حركة هذه الهمزة إلى الراء، فتحذف، وتبقى

(1)

عين تمر بفتح العين وسكون الياء بليدة بالحجاز مما يلي المدينة. اهـ اللباب ج 2 ص370.

ص: 371

مرة وزان سنة، وربما قيل فيها امرأ بغير هاء اعتمادا على قرينة تدل على المسمى، قال الكسائي: سمعت امرأة من فصحاء العرب تقول: أنا امرأ أريد الخير بغير هاء وجمعها نساء، ونسوة من غير لفظها. اهـ عبارة المصباح ج 2 ص 570.

(يتوضأ، فيحسن وضوءه) بإكمال محل الفرض غسلا ومسحا، لما تقدم من رواية مسلم "فيتم الطهور الذي كتب الله عليه"، ويحتمل أن يكون المراد بالإحسان هنا هو استكمال الواجبات والمندوبات، لكن الأول هو الظاهر (ثم يصلى الصلاة) أي المكتوبة لما في مسلم أيضا "ثم يصلي المكتوبة"(إلا غفر الله) أي إلا رجل غفر له، فالمستثنى محذوف، لأن الفعل لا يقع مستثنى، أو التقدير ما يتوضأ امرؤ في حال إلا في حال المغفرة، فيكون الاستثناء من عموم الأحوال. أفاده العلامة العيني في العمدة ج 3 ص 13 (ما بينه وبين الصلاة الأخرى) أي التي تليها، كما صرح به مسلم في صحيحه من هذا الطريق (حتى يصليها) أي يشرع في الصلاة الثانية. قاله في الفتح. واعترضه العلامة العيني بأن هذا معنى

فاسد؛ لأن قوله "ما بينه وبين الصلاة" يحتمل أن يراد به بين الشروع في الصلاة وبين الفراغ عنها، ولما كان المراد الفراغ عنها أشار إليه بقوله:"حتى يصليها"، ولهذا لم يكتف بقوله بين الصلاة لأنه لا يغني عن ذكر حتى يصليها لما ذكرنا. اهـ كلام العيني ج 3 ص 13.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله العيني هو الظاهر، فالمعنى حتى يفرغ من الصلاة الثانية والله أعلم. ومنه التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث متفق عليه.

المسألة الثانية: في ذكر موضعه من هذا الكتاب: لم يذكره المصنف إلا في هذا الموضع.

المسألة الثالثة فيمن أخرجه من أصحاب الأصول معه: أخرجه (خ م) فأخرجه (خ) في الطهارة -25 - عن عبد العزيز بن عبد الله، عن

ص: 372

إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن الزهري، عن عروة، عن حمران، عن عثمان رضي الله عنه.

وأخرجه (م) في الطهارة 4/ 3 عن زهير بن حرب، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن عروة به.

المسألة الرابعة قال العلامة العيني: ظاهر هذا الحديث يدل على أن المغفرة المذكورة لا تحصل إلا بالوصف المذكور من إحسان الوضوء والصلاة، وفي الصحيح من حديث أبي هريرة "وإذا توضأ العبد المسلم خرجت خطاياه" ففيه أن الخطايا تخرج من أول الوضوء حتى يفرغ من الوضوء نقيًا من الذنوب، وليس فيه ذكر الصلاة، فيحتمل أن يحمل حديث أبي هريرة عليها، لكن يبعده أن في رواية لمسلم من حديث عثمان "وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة" ويحتمل أن يكون ذلك باختلاف

الأشخاص، فشخص يحصل له ذلك عند الوضوء، وآخر عند تمام الصلاة. اهـ كلام العيني. ج 3 ص 13.

المسألة الخامسة: قال العلامة العيني أيضًا ما حاصله: أن المراد بغفران الذنوب في هذا الحديث وأمثاله غفران الصغائر لما في صحيح مسلم "ما من أمرى مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها، وخضوعها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة" وفي الحديث الآخر "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدم أن الراجح في النصوص التي لم تقيد عدم تقييدها، فتبصر، والله أعلم.

وقال العيني: لا يقال إذا كفر الوضوء فماذا تكفر الصلاة، وإذا كفرت الصلاة فماذا تكفر الجمعة ورمضان، وكذا صيام عرفة يكفر سنتين، ويوم عاشوراء كفارة سنة، وإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه؛ لأن المراد أن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره، وإن لم يصادف صغيرة كتبت له حسنات ورفعت له درجات، وإن صادف كبيرة أو كبائر، ولم يصادف

ص: 373

صغيرة رجي أن يخفف منها، وقال النووي: رجونا أن يخفف من الكبائر، والله أعلم. اهـ عمدة ج 3 ص 13.

147 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ -هُوَ ابْنُ سَعْدٍ- حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو يَحْيَى سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ، وَضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ، وَأَبُو طَلْحَةَ نُعَيْمُ بْنُ زِيَادٍ، قَالُوا: سَمِعْنَا أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عَبَسَةَ يَقُولُ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ الْوُضُوءُ؟ قَالَ: "أَمَّا الْوُضُوءُ فَإِنَّكَ إِذَا تَوَضَّأْتَ فَغَسَلْتَ كَفَّيْكَ فَأَنْقَيْتَهُمَا خَرَجَتْ خَطَايَاكَ مِنْ بَيْنِ أَظْفَارِكَ وَأَنَامِلِكَ، فَإِذَا مَضْمَضْتَ وَاسْتَنْشَقْتَ مَنْخِرَيْكَ، وَغَسَلْتَ وَجْهَكَ وَيَدَيْكَ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسَحْتَ رَأْسَكَ، وَغَسَلْتَ رِجْلَيْكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ؛ اغْتَسَلْتَ مِنْ عَامَّةِ خَطَايَاكَ فَإِنْ أَنْتَ وَضَعْتَ وَجْهَكَ لِلَّهِ عز وجل؛ خَرَجْتَ مِنْ خَطَايَاكَ كَيَوْمَ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ".

قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَقُلْتُ: يَا عَمْرُو بْنَ عَبَسَةَ، انْظُرْ مَا تَقُولُ!

ص: 374

أَكُلُّ هَذَا يُعْطَى فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كَبِرَتْ سِنِّي وَدَنَا أَجَلِي، وَمَا بِي مِنْ فَقْرٍ فَأَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَقَدْ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

رجال الإسناد: تسعة

1 -

(عمرو بن منصور) النسائي، أبو سعيد الحافظ، ثقة ثبت، من الحادية عشرة. (س). وفي "تت": قال النسائي: ثقة مأمون ثبت. وقال عبد الله بن محمَّد بن سيار: قال لي العباس العنبري: ما قدم علينا مثل عمرو بن منصور، وأبي بكر الوراق، فقلت: من أبو بكر؟ قال الأثرم. فقلت له: لا نرضى أن نقرن صاحبنا بالأثرم، إن هذا فوق الأثرم. انفرد به النسائي. اهـ.

2 -

"آدم بن أبي إياس" عبد الرحمن وقيل ناهية العسقلاني، أصله خراساني، يكنى أبا الحسن، نشأ ببغداد، ثقة عابد، من التاسعة، وفي "تت": وثقه أبو داود، والعجلي، وابن حبان. وقال ابن معين: ثقة ربما حدث عن قوم ضعفاء، قال أبو حاتم: ثقة مأمون متعبد من خيار عباد الله. وقال النسائي: لا بأس به. وقال أحمد: كان من الستة، أو السبعة الذين يضبطون الحديث عند شعبة. وقال أيضا: كان مكينا عند شعبة. مات سنة 220 وقيل: 221 عن نيف وتسعين سنة. أخرج له البخاري، وأبو داود في الناسخ والمنسوخ، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.

3 -

(الليث، هو ابن سعد) أبو الحارث الفهمي، المصري الثقة المشهور. تقدم في 31/ 35.

4 -

(معاوية بن صالح) بن حُدير، بالمهملة، مصغرا، الحضرمي، أبو عمرو، وأبو عبد الرحمن، الحمصي قاضي الأندلس، صدوق له

ص: 375

أوهام، من السابعة، مات سنة -158 - وقيل بعد السبعين (رم 4). تقدم في 62/ 50.

5 -

(أبو يحيى سليم بن عامر) الكلاعي، ويقال: الخبائري، بخاء معجمة وموحدة الحمصي، ثقة، من الثالثة، غلط من قال: إنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، مات سنة 130 قال العجلي: تابعي ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. ووثقه النسائي، ويعقوب بن سفيان وابن سعد، وابن حبان. وأخرج له البخاري في الأدب المفرد، الباقون.

6 -

(ضمرة بن حبيب) بن صهيب الزبيدي، بضم الزاي، أبو عتبة الحمصي، ثقة، من الرابعة، مات سنة 130. وثقه ابن معين، وابن سعد، وابن حبان، وقال: وكان مؤذن المسجد الجامع بدمشق. أخرج له الأربعة.

7 -

(أبو طلحة نعيم بن زياد) الأنماري، بفتح أوله وسكون النون، الشامي، ثقة يرسل، من الثالثة. (د س).

8 -

(أبو أمامة الباهلي) صُدَىّ بن عَجْلان صحابي مشهور، له -250 - حديثا، روى له البخاري خمسة أحاديث، ومسلم ثلاثة، وروى عنه شهر بن حوشب، وخالد بن معدان، وسالم بن أبي الجعد،

ومحمد بن زياد الألهاني، وقال: كان لا يمر بصغير ولا كبير إلا سلم عليه. قال أبو اليمان: مات سنة إحدى وثمانين بحمص. أخرج له الجماعة.

9 -

(عمرو بن عبسة) بموحدة ومهملتين مفتوحات، ابن عامر بن خالد السلمي، أبو نجيح، صحابي مشهور، أسلم قديما، وهاجر بعد أحد، ثم نزل الشام. (م 4). وفي الخلاصة: له ثمانية وأربعون حديثا، انفرد البخاري بحديث، وروى عنه أبو أمامة الباهلي، وشرحبيل بن السمط. قال الواقدي: أسلم بمكة ثم رجع إلى بلاد قومه حتى مضت بدر، واحد، والخندق، والحديبية، وخيبر، ثم قدم المدينة، قال ابن

سعد: يقولون: إنه رابع، أو خامس في الإسلام. اهـ وكتب في الهامش عن التهذيب: ما نصه: وكان قبل أن يسلم يعتزل عبادة الأصنام، ويراها باطلا وضلالا، وكان يرعى فتظله غمامة. اهـ

ص: 376

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف.

ومنها: أن رجال الإسناد شاميون إلا اثنين: عمرو فنسائي: والليث فمصري.

ومنها أن كلهم ثقات إلا معاوية فصدوق، له أوهام.

ومنها أن فيه رواية صحابي، عن صحابي.

شرح الحديث

قال عمرو بن عبسة رضي الله عنه (قلت: يا رسول الله كيف الوضوء) سؤال عن صفته، قال في المصباح:"كيف": كلمة يستفهم بها عن حال الشيء، وصفته، يقال: كيف زيد، ويراد به السؤال عن صحته وسقمه، وعسره، ويسره، وغير ذلك. اهـ ج 2 ص 546 (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم، وقد تبدل ميمها الأولى ياء استثقالا للتضعيف، فيقال أيْمَا، قال عمر بن أبي ربيعة (من الطويل):

رَأتْ رجُلًا أيْمَا إذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ

فَيَضْحَى وأيْمَا بالعَشيِّ فَيَخْصَرُ

وهي حرف شرط وتوكيد، وتفصيل، قال ابن هشام في المغني: وأما التفصيل فهو غالب أحوالها، وقد تأتي لغير تفصيل أصلا نحو أما زيد فمنطلق اهـ مغني اللبيب 1 ص 54.

قال الجمامع عفا الله عنه: كونها لغير تفصيل هنا هو الواضح لعدم سبق ما يفصل.

ثم إنه يُفصل بين أما وبين الفاء بواحد من ستة أمور:

أحدها: المبتدأ نحو {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف: 79] الآية.

والثاني: الخبر نحوا أما في الدار فزيد.

والثالث: جملة الشرط نحو {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ} الآيات [الواقعة: 88 - 89].

ص: 377

والرابع: اسم منصوب بالجواب نحو {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: 9] الآيات.

والخامس: اسم معمول لمحذوف يفسره ما بعد الفاء نحو قراءة بعضهم {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] بالنصب.

والسادس: ظرف معمول لأما لما فيها من معنى الفعل، أو لفعل محذوف، نحو أما اليوم، فإني ذاهب، وأما في الدار فإن زيدا جالس، ولا يكون العامل ما بعد الفاء لأن خبر "إن" لا يتقدم عليها، فكذلك

معموله.

ولا يجوز الفصل بأكثر من واحد منها، قال العلامة الأمير في حاشيته على المغني: وتغتفر الجملة الدعائية نحو أما اليوم رحمك الله فكذا وكذا.

ونظم ذلك بعضهم بقوله:

وَبَعْدُ أمَّا فَافْصلَنْ بوَاحدِ

منْ ستَّة وَلَا تَفُهْ بِزَائدِ

مُبْتَدَأ وَالشَّرْطُ ثُمَّ الخَبَرُ

مَعمُولُ فعْل بَعْدَ أمَّا يُذْكَرُ

كَذَاكَ مَعْمُولٌ لفعْل فَسَّرَهْ

مَا بَعْدَ فَاءٍ بَعْدَهَا مُؤَخَّرهْ

وَالظَرْفُ وَالمجرْوُرُ تلكَ ستُّ

قدْ قَالهُ كُلُّ إِمَام ثَبْتُ

وتحقيق المسألة في مغني اللبيب، وشروحه جـ 1 ص 54.

وجواب "أما" هنا قوله (فإنك إذا توضأت فغسلت) الفاء تفصيلية، فجملة غسلت تفصيل لقوله توضأت (كفيك) تثنية كف، وهي مؤنثة، وغلط من قال بتذكيرها ومعناها الراحة مع الأصابع، سميت به لأنها تكف الأذى عن البدن. وقد تقدم تحقيقها في باب غسل الكفين [66/ 82](فأنقيتهما) أي نظفتهما (خرجت خطاياك) جمع خطيئة، وهي الذنوب (من بن أظفارك) جمع ظفر بضمتين، وفيه لغات، وهذه أفصحها، وهو مذكر، وقد تقدم الكلام عليه وعلى الخطايا باب [85/ 102]،

ص: 378

(أنا ملك) جمع أنملة بفتح الهمزة، وفتح الميم أكثر من ضمها، وابن قتيبة يجعل الضم من لحن العوام، وبعض المتأخرين من النحاة حكى تثليث الهمزة مع تثليث الميم، فيصير تسع لغات. وهي من الأصابع العقدة، وبعضهم يقول: الأنامل رؤس الأصابع. وعليه قول الأزهري الأنملة المفصل الذي فيه الظفر. أفاده في المصباح. ج 2 ص 626.

وقال في التاج ج 8 ص 147 نقلا عن شيخه: وقد جمع العز القسطلاني اللغات التسعة في البيت المشهور مع لغات الأصبع، فقال (من البسيط):

وَهَمْزَ أنْمَلة ثلِّثْ وَثَالثَةً

وَالتّسْعُ في أُصْبُع وَاخْتمْ بأُصْبُوع اهـ

(فإذا مضمضت) أي حركت الماء في فيك (واستنشقت منخريك) أي جعلت الماء في أنفك، وجذبته بالنفس، لينزل ما في الأنف من الأوساخ وقد تقدم تفسير المضمضة والاستنشاق في باب 68/ 83 والمنخران تثنية مَنخر، قال الفيومي: المنخر مثال مسجد: خَرْق الأنف، وأصله موضع النّخير، وهو الصوت من الأنف، يقال: نَخَر من باب قتل إذا مد النفس في الخياشيم، والمنخر بكسر الميم للإتباع لغة، ومثله منتن، قالوا: ولا ثالث لهما والنُّخُور مثل عصفور لغة طيء والجمع مناخر، ومناخير. اهـ المصباح ج 2 ص 596.

وفي "ق" والمَنْخَر بفتح الميم والخاء، وبكسرهما وضمهما، وكمجلس ملمُول

(1)

الأنف. اهـ (وغسلت وجهك ويديك إلى المرفقين) بفتح فسكون، أو بكسر فسكون، تثينة مرفق كذلك، وهو كما في "ق" موصل الذراع في العضد (ومسحت رأسك، وغسلت رجليك إلى الكعبين) فيه تصريح بأن وظيفة الرجلين، هي الغسل لا المسح. قال السندي. ج 1 ص 92 (اغتسلت) جواب إذا، وجملة إذا جواب أما

(1)

الملمول: بضم الميمين: الكحال، وقضيب الثعلب، والبعير، والحديدة يكتب بها في ألواح الدفتر. اهـ ق.

ص: 379

أي صرت طاهرا (من عامة خطاياك) أي غالبها، أي مما يتعلق بأعضاء الوضوء وهي الغالبة، فلذلك قيل عامة الخطايا، والمراد بالخطايا الصغائر عند العلماء (فإن أنت وضعت وجهك) أي سجدت مخلصا (لله عز وجل خرجت) على صيغة الخطاب، فإن الخطايا إذا خرجت من الإنسان فقد خرج الإنسان منها لافتراق كل منهما عن صاحبه، فيجوز نسبة الخروج إلى كل منهما، قاله السندي، ج 1 ص 92، (من خطاياك) متعلق بخرجت، أي من ذنوبك (كيوم ولدتك أمك) الجار والمجرور نعت لمصدر محذوف، أي خروجا مشابها ليوم ولادتك، أي صرت طاهرا من الخطايا كطهارتك منها يوم ولادتك.

قال السيوطي: بفتح يوم لاضافته إلى جملة صدرها مبني. اهـ ج 1 ص 93.

وقال السندي: البناء جائز لا واجب، فيجوز الجر إعرابا. اهـ.

قال الجامع عفا الله عنه: إن ثبتت الرواية بأحد الوجهين فهو المتعين، وإلا فما قال السندي هو الأولى.

والحاصل أن الظروف المضافة الي الجمل جوازًا يجوز فيها الإعراب والبناء، سواء أضيفت إلى جملة، فعلية صدرت بماض، أو جملة فعلية صدرت بمضارع، أو جملة اسمية، وهذا مذهب الكوفيين والفارسي، واختاره ابن مالك، لكن المختار فيما أضيف إلى جملة فعلية فعلها ماض البناء وفيما عداه الأعراب وإلى هذا أشار ابن مالك بقوله:

وَابْن أوَ اعْربْ مَا كَإذْ قَدْ أجْريَا

وَاخْتَرْ بنَا مَتْلُوِّ فعْل بُنيَا

وَقَبْلَ فعْل مُعْرَب أوْ مُبْتَدَا

أعْربْ وَمَنْ بَنَى فَإنْ يُفَنَّدَا

قال السندي: والظاهر أن المعنى خرجت من الخطايا كخروجك منها

ص: 380

يوم ولدتك أمك، وفيه أن الخروج من الخطايا فرع الدخول فيها فلا يتصور يوم الولادة، وأيضا هذا يفيد مغفرة الكبائر أيضا فإن الإنسان يوم الولادة طاهر عن الصغائر والكبائر جميعا، ولا يقول به العلماء، والجواب أنه متعلق بما يدل عليه خرجت، أي صرت طاهرا من الخطايا، أي الصغائر كطهارتك منها يوم ولدتك أمك، وهذا صحيح، وحمل التشبيه على ذلك بأدلة غيرُ بعيد، فليتأمل. اهـ. كلام السندي ج 1 ص 92 (قال أبو أمامة: فقلت: يا عمرو بن عبسة) يجوز في عمرو البناء على الضم، والفتح اتباعا؛ لأنه إذا كان المنادى مفردا علما ووصف بابن مضاف إلى علم، ولم يفصل بينهما بفاصل جاز في المنادى الوجهان المذكوران، ويجب حذف ألف ابن والحالة هذه خطا، قال في الخلاصة:

وَنَحْوَ زَيْد ضُمَّ وَافْتَحَنَّ مِنْ

نَحْو أزَيْدَ بْنَ سَعيد لاتَهِنْ

وأما ابن عبسة فمنصوب لا غير (انظر ما تقول) أي فكر، وتَأنَّ فيما تتكلم به من هذا الفضل الجزيل على هذا الفعل القليل (أكل هذا) بالنصب مفعول ثان مقدم ليعطى، أو بالرفع مبتدأ خبره الجملة بعده (يعطى) بالبناء للمجهول (في مجلس واحد) وليس هذا اتهاما من أبي أمامة لعمرو، وإنما هو استغراب، وتعجب من عظيم فضل الله تعالى (فقال) عمرو (والله لقد كبرت سنين) يقال: كَبر الصبي يكبَر من باب تعب مكبرا، مثل مسجد وكبرا وزان عنب، فهو كبير، وجمعه كبار، اهـ المصباح ج 2 ص 523. وفي "ق" وكبر كفرح كبرا كعنب، ومكَبَرا، كمنزل: طعن في السن اهـ.

والسن بكسر السين وتشديد النون مقدار العمر، مؤنثة في الناس وغيرهم جمعه أسنان، قاله في "ق"(ودنا) أي قرب (أجلي) أي وقت موتي، قال في "ق" الأجل محركة: غاية الوقت في الموت. اهـ (وما) نافية (بي من) زائدة (فقر) مبتدأ مؤخر خبره الجار والمجرور قبله. أي

ص: 381

ليس بي احتياج إلى الناس (فأكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم) فأكذب منصوب بعد فاء السببية بأن مضمرة وجوبا كما قال في الخلاصة:

وَبَعْدَ فَا جَوَاب نَفْي أوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنَ أنْ وَستْرْهُ حَتْمٌ نُصَبْ

والمعنى أنه يقول: إن الأسباب الحاملة على الكذب عادة منتفية عني فلست كاذبا (ولقد سمعته) أي هذا الكلام (أذناي) فاعل سمعت وهو تثنية أذن مضاف إلى ياء المتكلم؛ لأن القاعدة أن المثنى إذا أضيف إلى ياء المتكلم سلمت ألفه في حالة الرفع، وفتحت الياء بعدها، نحو جاء غلاماي، وأما في حالتي النصب والجر فتدغم الياء في ياء المتكلم، نحو رأيت غلاميَّ، ومررت بغلامي، كما قال في الخلاصة:

آخرَ مَا أضيفَ للْيَاء اكْسرْ إذَا

لَمْ يَكُ مُعْتَلًا كَرَام وَقَذَا

أوْ يَكُ كَابْنَيْن وَزَيدينَ فَذي

جَميعُهَا اليَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذي

وَتُدْغَمُ اليَا فيه وَالوَاوُ وَإنْ .... مَا قَبْلَ وَاو ضُمَّ فَاكسرْه يَهُنْ

وَألفًا سَلِّم وَفي المَقْصُور عَنْ

هُذَيل انْقلَا بُهَا يَاءً حَسَنْ

(ووعاه) أي حفظ هذا الكلام (قلبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني أنه متثبت في نقل هذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن قلبه وعاه له، ولم يطرأ عليه نسيان.

وعند مسلم في صحيحه: لقد كبرت سنين، ورقّ عظمي، واقترب أجلي، وما بي من حاجة أن أكذب على الله، وعلى رسوله، لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة، أو مرتين، أو ثلاثا، حتى عدّ سبع مرات ما حدثت به أبدا، ولكني سمعته أكثر من ذلك. وبالله التوفيق.

مسائل تتعلق بحديث عمرو رضي الله عنه

المسألة الأولى: في درجته: حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه أخرجه مسلم.

ص: 382

المسألة الثانية: في بيان موضعه عند المصنف: أخرجه هنا 108/ 147، وفي الصلاة 35/ 572 بقصة الصلاة بهذا السند، وفي 40/ 584 أيضًا، عن الحسن بن إسماعيل، وأيوب ابن محمَّد، عن حجاج بن محمد، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن يزيد بن طلق، عن عبد الرحمن بن البيلماني، عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه مع المصنف. أخرجه مسلم مطولا عن أحمد بن جعفر المَعقريّ، عن النضر بن محمَّد، عن عكرمة بن عمار، عن شداد بن أبي عمار، ويحيى بن أبي كثير، كلاهما عن أبي أمامة به.

وأحمد في المسند ج 4/ ص 112 مطولا أيضا، وأخرجه الدارقطني في السنن ج 1/ ص 108.

المسألة الرابعة: في فوائده: من فوائد هذا الحديث: مشروعية سؤال الشخص العلماء عن أحكام دينه، وعَمَّا لَه في ذلك عند الله من الأجر، لأن ذلك يبعثه على العمل به وتزداد رغبته، ويَقْوَى نشاطه، وفيه بيان فضل الوضوء، وأنه من مكفرات الذنوب، وفيه دليل لمذهب العلماء كافة أن الواجب غسل القدمين، خلافا للشيعة حيث قالوا: الواجب مسحهما، ولابن جرير حيث قال: هو مخير، ولبعض الظاهرية حيث قالوا: يجب الغسل والمسح. كما بينه النووي في شرح مسلم. ج 6 ص 118. وقد تقدم تحقيق الكلام في هذه المسألة في باب 89 ح 110.

وفيه فضل الركعتين بعد الوضوء، وفيه الحث على الإخلاص، وفيه الاستثبات في الإخبار، وإن كان المخبر صادقا إذ ربما يطرأ له نسيان، أو نحوه، وفي كلام عمرو ما يدل على أن الحاجة ربما حملت الشخص على التزيد في الخبر كما اطُّلعَ على بعض الوضاعين أنهم زادوا على الأحاديث ما ليس منها، ليتكسبوا بذلك أموال الأمراء وغيرهم.

ص: 383

مثل ما وقع لغياث بن إبراهيم حيث زاد الجناح في حديث "لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر" إرضاء للمهدي حيث إنه كان يلعب بالحمام، ويحب ذلك فأمر له ببدرة

(1)

، فلما قام قال: أشهد على قفاك أنه قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال أنا حملته على هذا فأمر بذبح الحمام، ورفض ما كان عليه. وغير ذلك من الحكايات العجيبة المذكورة في كتب من ألف في الضعفاء والموضوعات. وقد ذكر ابن عراق في مقدمة تنزيه الشريعة أشياء من ذلك، وقسم أصناف الوضاعين إلى سبعة أقسام، ونظمت ذلك في منظومة سميتها تذكرة الطالبين، في بيان الموضوع وأصناف الوضاعين وهي (151) بيتا، وقلت في القسم الخامس، وفيه القصة المذكورة:

وَخَامسُ الأقْسَام أهْلَ الغَرَضِ

كَمَنْ يَقْصُّ كَاذبَا ذَا مَرَضِ

وَالشَّاحذينَ وكَذا مَنْ يَقْرُبُ

للأمَراء آخذًا مَا يَطلُبُ

كَبَعْض مَنْ قَصَّ بأنَّ عُمَرَا

نُورٌ للاسْلَام فَبئْسَمَا افْتَرَى

وَمنْهْ مَا افْتَرَاهُ بَعْضُ المُعْتَدي

عَلى ابْن حَنْبَل وَيَحْيىَ المُهْتَدي

وَالذَهَبيُّ أنْكَرَ الحكَاية

وَاللهُ أعَلَمُ لنَا حمَايَهْ

كَذَاكَ تَكْبيرٌ أتَى منْ سَائلِ

ثَلَاثًا افتَرَاهُ غَيْرُ عَاقلِ

كَذَا غيَاثٌ لحديث "لَا سَبْقْ"

زَادَ جنَاحًا بئَسَمَا لَهُ اخْتَلَقْ

وَصَلَهُ المَهْديْ ببَدْرَة فَمَا

أحْسَنَ في هَذَا وَلَكنْ عنْدَمَا

تَركَ لَهْوَهُ بذَبحَه الحَمَامْ

خَفَّفَ مَا كَانَ عَليْه منْ مَلَامْ

وتمام الحكايات في مقدمة تنزيه الشريعة ج 1 ص-13 - 15.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

البَدْرَة: بفتح، فسكون: كيس فيه ألف، أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار. اهـ "ق" ص 444.

ص: 384

‌109 - القَوْلُ بعْدَ الفَرَاغِ مِنَ الوُضُوءِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الذكر بعد الفراغ من الوضوء، فالمراد بالقول هنا الذكر:

148 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، وَأَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فُتِّحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ".

رجال الإسناد: ثمانية

1 -

(محمَّد بن علي بن حرب المروزي) أبو علي، المعروف بالتُّرْك، بضم المثناة وسكون الراء، وقد ينسب إلى جده، ثقة، من الحادية عشرة (س).

2 -

(زيد بن الحباب) بضم المهملة وموحدتين، أبو الحسين العكلي، بضم المهملة وسكون الكاف، أصله من خراسان وكان بالكوفة، ورحل

ص: 385

في الحديث فأكثر منه، وهو صدوق يخطئ في حديث الثوري، من التاسعة، مات سنة 203 - (ز م 4). تقدم في 33/ 37.

3 -

(معاوية بن صالح) بن حدير أبو عمرو الحمصي، صدوق، له أوهام، تقدم قريبا، وتقدم أيضا في 50/ 62.

4 -

(ربيعة بن يزيد) الدمشقي، أبو شعيب الإيادي، القصير، ثقة عابد، من الرابعة، مات سنة -إحدى أو ثلاث- وعشرين ومائة. وفي "تت": وثقه النسائي، والعجلي، وابن عمار، ويعقوب بن شيبة، ويعقوب بن سفيان، وابن سعد، وقال ابن حبان: كان من خيار أهل الشام. أخرج له الجماعة

5 -

(أبو إدريس الخولاني) عائذ الله بن عبد الله، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وسمع من كبار الصحابة، ومات سنة ثمانين، قال سعيد بن عبد العزيز: كان عالم الشام بعد أبي الدرداء (ع) تقدم في 72/ 88.

6 -

(أبو عثمان) قيل: هو سعيد بن هانئ الخولاني، وقيل: حريز ابن عثمان، وإلا فمجهول، من الثالثة (م د ت س).

وفي تت ج 12 ص 164.أبو عثمان عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر، عن عمر، حديث "من أحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله" الحديث، وقيل عن أبي عثمان، عن عقبة من غير ذكر جبير، وقيل عن أبي عثمان عن عمر نفسه.

وعنه ربيعة بن يزيد الدمشقي، ومعاوية بن صالح. والصحيح عن معاوية، عن ربيعة عنه، قال أبو بكر بن منجويه: يشبه أن يكون سعيد ابن هانئ الخولاني المصري.

قال الحافظ: قلت: وقال ابن حبان: يشبه أن يكون حريز بن عثمان الرحبي. اهـ تت.

ص: 386

وقال الذهبي: أبو عثمان لا يدرى من هو؟ وخرج له مسلم متابعة. اهـ المنهل ج 2 ص 155.

7 -

(عن عقبة بن عامر الجهني) الصحابي المشهور، اختلف في كنيته على سبعة أقوال، أشهرها أنه أبو حماد، تقدم في باب 108/ 144.

8 -

(عمر بن الخطاب) بن نفيل، بنون وفاء مصغرا، ابن عبد العزى ابن رياح، بتحتانية، ابن عبد الله بن قرط، بضم القاف، بن رزاح، براء ثم زاي خفيفة بن عدي بن كعب القرشي العدوي، أمير المؤمنين، مشهور جَمّ المناقب، استشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وولي الخلافة عشر سنين ونصفا. (ع) تقدم في 60/ 75.

"تنبيه" في هذا الإسناد ثلاث أنساب:

1 -

المروزى: بفتح الميم وسكون الراء، وفتح الواو، وآخره زاي، نسبة إلى مرو الشاهجان قاله في اللباب ج 3 ص 199. وقال النووي: مروي منسوب إلى مرو مدينة معروفة بخراسان، وينسب إليها أيضا مروزي بزيادة الزاي، وهو من شواذ النسب. اهـ تهذيب الأسماء واللغات ج 4 ص 137. وقال في شرح مسلم ج 1 ص 88: وأما مرو: فغير مصروفة، وهي مدينة عظيمة بخراسان، وأمهات مدائن خراسان أربع: نيسابور، ومرو، وبلخ، وهراة. اهـ كلام النووي.

2 -

(الخولاني) بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو: نسبة إلى خولان ابن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيد ابن كهلان بن سبأ. وبعض خولان يقولون: خولان بن عمرو بن الحاف ابن قضاعة، وهكذا قال ابن الكلبي. واسم خولان أفكل، وهي قبيلة نزلت الشام. قاله في اللباب ج 1 ص 472.

3 -

(الجهني) بضم الجيم، وفتح الهاء وآخره نون: نسبة إلى جهينة

ص: 387

وهي قبيلة من قضاعة، واسمه زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف ابن قضاعة، نزلوا الكوفة والبصرة اهـ لباب ج 1 ص 317.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سباعياته.

ومنها: رواته ثقات، غير زيد بن الحباب، ومعاوية بن صالح، فصدوقان.

ومنها: أنهم ما بين مروزي، وهو شيخه، وكوفي، وهو زيد، وشاميين، وهم معاوية، وربيعة، وأبو إدريس، ومصري، وهو عقبة ومدني، وهو عمر، رضي الله عنهم.

ومنها: أن فيه رواية صحابي، عن صحابي.

شرح الحديث

(عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقدم تفسير هذه الجملة في باب

99/ ح 129.أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من) يحتمل أن تكون شرطية، وأن تكون موصولة (توضأ، فأحسن الوضوء) أي أتقنه بفعل فرائضه ومسنوناته (ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله) أي أعلم، وأبين أن لا إله إلا الله، قاله ابن الأنباري أفاده في اللسان. ج 3 ص 339. وفي المصباح: وقولهم: أشهد أن لا إله إلا الله تعدى بنفسه؛ لأنه بمعنى أعلم اهـ ج 2 ص 324. وفي المنهل: أي أقر بلساني، وأذعن بقلبي، من الشهادة، وهي الإخبار بما شوهد، فهي خبر قاطع، يقال: شهد الرجل على كذا، وشهده شهودا: حضره، وقوم شهود: حضور، و"أن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، والأصل: أشهد أنه لا إله إلا الله، وخبر "لا" محذوف، أي معبود بحق، وإلا ملغاة، ولفظ الجلالة

ص: 388

مرفوع على البدلية من الضمير في الخبر، ويقال فيه: غير ذلك. وسيأتي تحقيق البحث فيه في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى. وفي رواية عند مسلم وأبي داود زيادة "وحده لا شريك له"(وأشهد أن محمدا) هو في الأصل اسم مفعول حُمِّدَ مبالغة في الثناء، نقل من الوصفية إلى الإسمية، قاله في المنهل ج 2 ص 157.

قال الجامع عفا الله عنه:

والأحسن ما قاله العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، في كلامه الآتي وهو أنه علم وصفة اجتمعا في حقه صلى الله عليه وسلم، وعلم محض في حق من تسمى به غيره، وهذا شأن أسمائه تعالى، وأسماء نبيه صلى الله عليه وسلم، فهي أعلام دالة على معان، هي أوصاف مدح، وهو أعظم أسمائه صلى الله عليه وسلم، وأشرفها، وأشهرها، لإنبائه عن كمال الحمد المنبىء عن كمال ذاته، فهو المحمود مرة بعد مرة عند الله، وعند الملائكة، وعند الجن، والإنس، وأهل السموات والأرض، وأمته الحمادون، وبيده لواء الحمد، ويقوم المقام المحمود يوم القيامة، فيحمده فيه الأولون والآخرون، فهو صلى الله عليه وسلم الحائز لمعاني الحمد مطلقًا.

قال القاضي عياض: وقد حمى الله هذا الاسم فلم يتسم به أحد ممن ادعى النبوة، وإنما سمت العرب محمدًا قرب ميلاده لما أخبر الأحبار والكهان أن نبيا يبعث في هذا الزمان يسمى محمدا فسموا أبناءهم بذلك قال: وهم ستة. واستدرك عليه الحافظ ابن حجر نحو الخمسة عشر.

وقال القاضي عياض أيضا: كان المصطفى صلى الله عليه وسلم أحمد قبل أن يكون محمدا، كما وقع في الوجود لأن تسمية أحمد وقعت في الكتب القديمة، وتسميته محمدا وقعت في القرآن اهـ. العجالة السنية على ألفية السيرة النبوية للعلامة المناوي ص 7.

ص: 389

وقد رد العلامة ابن القيم هذا القول، وسنذكر ما قاله في ذلك في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى.

وسماه به جده عبد المطلب، وقيل له لم سميت ابنك محمدا وليس من أسماء آبائك، قال رجوت أن يحمد في السماء والأرض، وقد حقق الله رجاءه (عبده ورسوله) وصفه بالعبودية التي هي غاية التذلل والخضوع لأنه صلى الله عليه وسلم كان أتقى الخلق على الإطلاق، ولم يبلغ أحد مبلغه صلى الله عليه وسلم من التذلل والخضوع لمولاه، والإضافة فيه للتشريف، إشارة إلى كمال مرتبته في مقام العبودية بالقيام في أداء حق الربوبية. ووصفه بها لئلا يتوهم ضعفاء العقول فيه ما لا يليق بمقامه من التأليه كما زعمت النصارى في عيسى عليه السلام، وقدمه على رسوله لأنه أشرف أوصافه وأعلاها.

وفي رواية الترمذي، وابن ماجه زيادة "اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين" وهي زيادة صحيحة كما بينها العلامة الألباني في صحيح الترمذي، رقم -55 - وصحيح ابن ماجه رقم 470.

وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر حديث عقبة، عن عمر ما نصه: ورواه الترمذي من وجه أخر عن عمر، وزاد فيه "اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين" وقال -يعني الترمذي- في إسناده

اضطراب، ولا يصح فيه شيء كبير، قال الحافظ: قلت: لكن رواية مسلم سالمة من هذا الاعتراض، والزيادة التي عنده رواها البزار والطبراني في الأوسط، من طريق ثوبان، ولفظه:"من دعا بوَضُوء فتوضأ: فساعة فرغ من وضوئه، يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين" الحديث، ورواه ابن ماجه من حديث أنس، وأما قوله:"سبحانك اللهم" إلى آخره، فرواه النسائي في عمل اليوم والليلة، والحاكم في المستدرك من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ "من توضأ فقال:

ص: 390

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رَقّ، ثم طُبع بطابَع، فلم يكسر إلى يوم القيامة" واختلف في وقفه ورفعه، وصحح النسائي الموقوف، وضعف الحازمي الرواية المرفوعة لأن الطبراني قال في الأوسط: لم يرفعه عن شعبة إلا يحيى بن كثير، قال الحافظ: ورواه أبو إسحاق المزكي في الجزء الثاني تخريج الدارقطني له، من طريق روح بن القاسم عن شعبة، وقال: تفرد به عيسى بن شعيب، عن روح بن القاسم. قال الحافظ قلت: ورجح الدارقطني في العلل الرواية الموقوفة أيضا. اهـ كلام الحافظ ج 1 ص 101 - 102.

(فتحت) بالبناء للمفعول (له ثمانية أبواب الجنة) نائب فاعل فتحت، وهو من إضافة الصفة للموصوف، أي أبواب الجنة الثمانية.

قال في المنهل: والفتح يحتمل أن يكون على حقيقته بالنسبة للدار الآخرة، ويحتمل أن يكون مجازا عن التوفيق للطاعات في الدنيا فإنها سبب في فتح أبواب الجنة في الآخرة. اهـ ج 2 ص 158.

قال الجامع: الاحتمال الأول هو الظاهر، وأما الاحتمال الثاني فيبعده قوله الآتي:"يدخل من أيها". قال ابن سيد الناس: الذي ذكره العلماء في فتح أبواب الجنة والدعاء منها ما فيه من التشريف في الموقف والإشادة بذكر مَن حصل له ذلك على رؤس الأشهاد، فليس مَن يؤذن له في الدخول من باب لا يتعداه كمن يُتَلَقَّى من كل باب، ويدخل من حيث شاء، هذا فائدة التعدد في فتح أبواب الجنة اهـ زهر ج 1 ص 93 والأبواب الثمانية في باب الإيمان، وباب الصلاة، وباب الصيام، وباب الصدقة، وباب الكاظمين الغيظ، وباب الراضين، وباب الجهاد، وباب التوبة. ولا يعارض حديث الباب حديث أن باب الريان لا يدخل منه إلا الصائمون لأنه يخير فلا يوفق للدخول من باب الريان إن لم يكن من الصائمين.

ص: 391

وفائدة التخيير حينئد إظهار التعظيم والشرف كما روي أن الله أخذ الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا صلى الله عليه وسلم إن أدركوه، ومعلوم أنه لا يظهر في زمان أحد منهم، وإنما ذلك لأظهار الشرف. قاله في المنهل ج 2 ص 158.

(من أيها) أي من أي تلك الأبواب الثمانية (شاء) أي أراد الدخول، يعني أنه يدخل من أي باب اختار الدخول منه.

"تنبيه" قوله: ثمانية أبواب الجنة هكذا بدون زيادة من، ونحوه رواية أبي داود، ووقع في رواية الترمذي "فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يدخل من أيها شاء" وهي تدل على أنها أكثر من ثمانية بناء على أن

من تبعيضية، وفي كلام القرطبي ما يؤيده، وهو لا ينافي رواية المصنف لأن اسم العدد لا مفهوم له أفاده في المنهل ج 2 ع 158. وقد عقد العلامة القرطبي في كتابه "التذكرة" بَابًا في هذا الموضوع أفاد فيه وأجاد.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث عمر رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

المسألة الثانية: فيمن أخرجه من أصحاب الأصول وغيرهم: أخرج هذا الحديث (م د س ق) فأخرجه (م) في الطهارة عن محمَّد بن حاتم بن ميمون، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة ابن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر، عن عمر رضي الله عنه، وعن معاوية بن صالح، عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر، عن عمر، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن

زيد بن الحباب، عن معاوية، عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر، الجهني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

الحديث.

وأخرجه المصنف هنا، وفي عمل اليوم والليلة عن محمَّد بن علي بن

ص: 392

حرب، عن زيد بن حباب، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، وأبي عثمان عن عقبة بن عامر، عن عمر. وفي الطهارة في الكبرى، واليوم والليلة عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن حيوة بن شريح، عن زهرة بن معبد، أن ابن عمه ابن أخي أبيه حدثه، قال: قال له عمر

ذكر نحوه. وعن الربيع بن سليمان، عن أسد بن موسى، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس عن عقبة بن عامر، وأبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة ابن عامر- وساق الحديث. وأخرجه ابن ماجه في الطهارة 60/ 2 عن علقمة بن عمرو الدارمي، عن أبي بكر ابن عياش، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر به.

قال أبو الحجاج المزي من زياداته على ابن عساكر رواه أبو داود في الطهارة عن الحسين بن عيسى، ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، عن حيوة ابن شريح- فلم يذكر فيه عمر. اهـ تحفة الأشراف ج 8 ص 90.

وقال الحافظ: قلت: إنما وقع ذلك في رواية أبي داود، وقد رواه الدارمي في سننه في الصلاة عن المقرئ بسنده

فذكره، وكذلك رويناه في فوائد الفاكهي، عن ابن أبي مرة، عن المقرئ كرواية معاوية ابن صالح. اهـ النكت الظراف.

وقال أبو الحجاج المزي: وقال أبو داود الطيالسي عن شعبة: سألنا أبا إسحاق عن عبد الله بن عطاء الذي روى عن عقبة: كنا نتناوب رعية الإبل؟ فقال: شيخ من أهل الطائف حدثنيه. قال شعبة: فلقيت عبد الله ابن عطاء فقلت: سمعته من عقبة؟ قال: لا، بل حدثنيه سعد بن إبراهيم فلقيت سعدا، فسألته؟ فقال: حدثني زياد بن مخْراق، فلقيت زياد بن مخراق فسألته؟ فقال: حدثني رجل، عن شهر بن حوشب يعني عن

ص: 393

عقبة بن عامر. اهـ كلام المزي رحمه الله. تحفة ج 8 ص 90.

وأخرج هذا الحديث أحمد، والبيهقي من عدة طرق، وابن أبي شيبة في المصنف.

المسألة الثالثة: في فوائده: من فوائد هذا الحديث: فضل إحسان الوضوء، واستحباب الشهادتين بعده، وإثبات الجنة، وأن لها أبوابا، وهي ثمانية، وأن بعض الناس تفتح له كلها تكريما، وإن كان دخوله من

أحدها.

المسألة الرابعة: أنه لم يثبت من أحاديث الأذكار في الوضوء غير التسمية في أوله، وقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده الخ في آخره.

قال العلامة الشوكاني: ولم يصح من أحاديث الدعاء في الوضوء غيره، وأما ما ذكره أصحابنا، والشافعية في كتبهم من الدعاء عند كل عضو، كقولهم عند غسل الوجه: اللهم بيض وجهي الخ، فقال الرافعي وغيره ورد بهذه الدعوات الأثر عن الصالحين اهـ نيل ج 1 ص 261.

وقال الحافظ في التلخيص: قال النووي: في الروضة: هذا الدعاء لا أصل له، ولم يذكره الشافعي، والجمهور، وقال في شرح المهذب: لم يذكره المتقدمون، وقال ابن الصلاح: لم يصح فيه حديث.

قلت: روي فيه عن علي من طرق ضعيفة جدًا أوردها المستغفري في الدعوات، وابن عساكر في أماليه، وهو من رواية أحمد بن مصعب المروزي، عن حبيب بن أبي حبيب الشيباني، عن أبي إسحاق السبيعي، عن علي، وفي إسناده من لا يعرف.

ورواه صاحب مسند الفردوس من طريق أبي زرعة الرازي، عن

ص: 394

أحمد بن عبد الله بن داود، ثنا محمود بن العباس، ثنا المغيث بن بديل، عن خارجة بن مصعب، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن علي نحوه. ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث أنس نحو هذا، وفيه عباد بن صهيب، وهو متروك. وَرَوَى المستغفري من حديث البراء بن عازب، وليس بطوله، وإسناده وَاه. اهـ تلخيص ج 1 ص 100.

المسألة الخامسة: في إعراب الاسم الكريم من "لا إله إلا الله":

اختلف المعربون في إعرابه على خمسة أقوال:

القول الأول: أنه مرفوع على البدلية، وهذا القول هو الجاري على ألسنة المعربين، وهو رأي ابن مالك، ثم عليه اختلفوا: في خبر لا فمنهم من قال: يقدر فبعضهم قدره عاما كموجود

(1)

، وبعضهم قدره خاصا، كَلَنَا، أو للخلق، ومنهم من قال: لا خبر لها.

والقول الثاني: أن لفظ الجلالة خبر "لا". ورد بأن "لا" لا تعمل في المعارف، وأجيب بأنها لا عمل لها في الخبر عند سيبويه.

والقول الثالث: أن "إلا" ليست أداة استثناء، بل هى بمعنى "غير"، وهي مع لفظ الجلالة، صفة لاسم "لا" باعتبار المحل، والتقدير لا إله غير الله ويقدر خبر "لا" كما تقدم.

القول الرابع: ونسب إلى الزمخشري: أنّ "لا إله" في موضع الخبر، و"إلا الله" في موضع المبتدإ، والأصل: الله إله، فلما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر، وقرن المبتدأ بإلا، إذ المقصور عليه هو الذي يلي "إلا"، والمقصور هو الواقع في سياق النفي، والمبتدأ إذا اقترن بإلا وجب تقديم الخبر عليه كما قرر في محله.

القول الخامس: أن ما بعد "إلا" مرفوع بـ "إله" كما هو حال المبتدإ إذا كان

(1)

الأولى تقديره معبود بحق؛ لأن تقديره بموجود غير صحيح، لوجود آلهة في زعم المشركين، وإنما المنفي كونها معبودًا بحق. فتبصر.

ص: 395

وصفا لأن إلها بمعنى مألوه، فيكون قائما مقام الفاعل، وسادا مسد

الخبر كما في ما مضروب العمران. والمعول عليه من هذه الأقوال القولان الأولان، وأما بقية الأقوال فلا اعتماد عليها. وقد بسط الكلام على هذه الأقوال، ومالها وما عليها العلامة الألوسي في روح المعاني عند تفسير آية الكرسي بسطا حافلا كافلا فأرجع إليه، تزدد بصيرة. ج 3 ص 5 - 6.

المسألة السادسة قد عقد العلامة ابن القيم في كتابه النفيس "جلاء الأفهام" فصولا نفيسة فيما يتعلق باسم النبي صلى الله عليه وسلم واشتقاقه، وأنه كان يسمى به في التوراة، وأنا أنقلها بالاختصار لنفاستها، قال رحمه الله تعالى:

الفصل الثالث: في معنى اسم النبي صلى الله عليه وسلم واشتقاقه: هذا الاسم، هو أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم، هو اسم منقول من الحمد، هو في الأصل اسم مفعول من الحمد، وهو يتضمن الثناء على المحمود، ومحبته، وإجلاله، وتعظيمه، هذا هو حقيقة الحمد، وبُني على زنة مُفَعَّل مثل مُعَظّم، ومُحَبّب، ومسوّد، ومبجل، ونظائرها لأن هذا البناء موضوع للتكثير، فإن اشتق منه اسم فاعل فمعناه من كثر صدور الفعل منه مرة بعد مرة، كمُعَلِّم، وُمفهّم، وُمبيّن، ومُخلّص، ومُفرّج ونحوها، وإن اشتق منه اسم مفعول فمعناه من كثر تكرر وفوع الفعل عليه مرة بعد أخرج إما استحقاقا أو وقوعا، فمحمد هو الذي كثر حمد الحامدين له مرة بعد أخرج، أو الذي يستحق أن يحمد مرة بعد أخرج. ويقال: حُمَّد فهو محمَّد، كما يقال: عُلِّمَ فهو مُعَلَّم، وهذا علم وصفة اجتمع فيه الأمران في حقه صلى الله عليه وسلم، وإن كان علمًا محضا في حق كثير ممن تسمى به غيره.

ص: 396

وهذا شأن أسماء الرب تعالى، وأسماء كتابه، وأسماء نبيه، هي أعلام دالة على معان هي بها أوصاف فلا تُضادُّ فيها العلميةُ الوصفَ بخلاف غيرها من أسماء المخلوقين، فهو الله الخالق البارئ المصور القهار، فهذه أسماء له دالة على معان هي صفاته، وكذلك القرآن، والفرقان، والكتاب البين، وغير ذلك من أسمائه.

وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم محمَّد، وأحمد، والماحي، وفي حديث جبير ابن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن لي أسماء أنا محمَّد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر". فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأسماء مبينا ما خصه الله به من الفضل، وأشار إلى معانيها، وإلا فلو كانت أعلاما محضة لا معنى لها لم تدل على مدح، ولهذا قال حسان رضي الله عنه:(من الطويل)

وَشَقَّ لهُ مِنِ اسمه ليُجلَّهُ

فَذُو العَرْش مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ

وكذلك أسماء الرب تعالى كلها أسماء مدح، فلو كانت ألفاظا مجردة لا معاني لها لم تدل على المدح، وقد وصفها الله سبحانه بأنها حسنى كلها فقال: " {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] الآية، فهي لم تكن حسنى لمجرد اللفظ بل لدلالتها على أوصاف الكمال، ولهذا لما سمع بعض الأعراب قارئا يقرأ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] قال: ليس هذا كلام الله تعالى، فقال القارئ: أتكذب بكلام الله تعالى؟ فقال: لا، ولكن ليس هذا بكلام الله، فعاد إلى حفظه، وقرأ {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فقال الأعرابي: صَدقْتَ، عَزَّ، فَحكَمَ، فَقَطعَ، ولو غفر ورحم، لما قطع.

ولهذا إذا ختمت آية الرحمة باسم العذاب أو بالعكس ظهر تنافر الكلام وعدم انتظامه.

ص: 397

وفي السنن من حديث أبي بن كعب حديث قراء القرآن على سبعة أحرف، ثم قال:"ليس منها إلا شاف كاف إن قلت: سميعا عليما عزيزا حكيما، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب".

ولو كانت هذه الأسماء أعلاما محضة لا معنى لها لم يكن فرق بين ختم الآية بهذا أو بهذا. وساق على ذلك أدلة كثيرة إلى أن. قال: إذا ثبت هذا فتسميته صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم لما اشتمل عليه من مسماه، وهو الحمد، فإنه صلى الله عليه وسلم محمود عند الله، ومحمود عند الملائكة، ومحمود عند إخوانه من المرسلين ومحمود عند كل عاقل، وإن كابر عقله جحودا وعنادا وجهلا باتصافه بها، ولو علم اتصافه بها لحمده، فإنه يحمد من اتصف بصفات الكمال، وإن جهل وجودها فيه، فهو في الحقيقة حامد له وهو صلى الله عليه وسلم اختص من مسمى الحمد بما لم يجتمع لغيره، فإن اسمه محمَّد، وأحمد، وأمته الحمادون يحمدون الله في السراء والضراء، وصلاته وصلاة أمته مفتتحة بالحمد، وخطبته مفتتحة بالحمد، وكتابه مفتتح بالحمد، وهكذا كان عند الله في اللوح المحفوظ أن خلفاءه وأصحابه يكتبون المصحف مفتتحا بالحمد، وبيده صلى الله عليه وسلم لواء الحمد يوم القيامة، ولما يسجد بين يدي ربه عز وجل للشفاعة، ويؤذن له فيها يحمد ربه بمحامد يفتحها عليه حينئذ، وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، قال تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 71].

ثم أطال في هذا البحث بكلام لا تجده في غير كتابه. إلى أن قال: فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتملا على ما يقتضي أن يحمد مرة بعد مرة سمي محمدا، وهو اسم موافق لمسماه، ولفظ مطابق لمعناه.

والفرق بين محمَّد، وأحمد، من وجهين:

ص: 398

أحدهما: أن محمدا هو المحمود حمدا بعد حمد، فهو دال على كثرة حمد الحامدين له، وذلك يستلزم كثرة موجبات الحمد فيه، وأحمد أفعل تفضيل من الحمد يدل على أن الحمد الذي يستحقه أفضل مما يستحقه غيره، فمحمد زيادة حمد في الكمية، وأحمد زيادة في الكيفية فيحمد أكثر حمد، وأفضل حمد حمده البشر.

الوجه الثاني: أن محمدا هو المحمود حمدا متكررا كما تقدم، وأحمد هو الذي حمده لربه أفضل من حمد الحامدين غيره فدل أحد الاسمين وهو محمَّد على كونه محمودا، ودل الاسم الثاني وهوأحمد على كونه أحمد الحامدين لربه، وهذا هو القياس

(1)

ثم ذكر الخلاف بين النحاة هل يبنى أفعل التفضيل والتعجب من المتعدى، أم لا؟ ثم رجح بأن محمدا وأحمد كلاهما واقعان على المفعول لأن ذلك أبلغ.

ثم قال رحمه الله: "فصل":

وقد ظن طائفة مهم أبو القاسم السهيلي، وغيره أن تسميته صلى الله عليه وسلم بأحمد كانت قبل تسميته بمحمد، قالوا: ولهذا بشر به المسيح باسم أحمد، وفي حديث طويل في حديث موسى "لما قال لربه يا رب إني أجد أمة من شأنها كذا وكذا، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد يا موسى فقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد".

قالوا: وإنما جاء تسميته بمحمد في القرآن خاصة، لقول الله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} [محمد: 2] وقوله {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29]، ثم ناقش الأدلة التي أوردها أتم

(1)

أي في صيغة أفعل التفضيل، من أنه واقع على الفاعل لا على المفعول، خلافًا لبعض النحاة وهو الذي رجحه العلامة ابن القيم هنا.

ص: 399

مناقشة ورجح أن محمدا اسمه في التوراة، وذكر له أدلة، إلى أن قال: والمقصود أن اسم النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة محمد، كما هو في القرآن، وأما المسيح: فإنما سماه أحمد كما حكاه الله عنه في القرآن، فإذن تسميته بأحمد وقعت متأخرة عن تسميته محمدا في التوراة، ومتقدمة علي تسميته محمدا في القرآن فوقعت بين التسميتين محفوفة بهما. اهـ كلام العلامة ابن القيم مختصرا من جلاء الأفهام من ص 92 - 114.

المسألة السابعة: أخرج البخاري في عمحيحه عن جبير بن مطعم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحوا الله بي الكفر، وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".

والذي استظهره الحافظ في الفتح: أنه أراد أن لي خمسة أسماء أختص بها لم يسم بها أحد قبلي، أو معظمة، أو مشهورة في الأمم الماضية، لا أنه أراد الحصر فيها. قاله في الفتح. ج 6 ص 642. وقال العلامة العيني: إن مفهوم العدد لا اعتبار له فلا ينفي الزيادة، وقيل: إنما اقتصر عليها لأنها الموجودة في الكتب القديمة، ومعلومة للأمم السالفة، وزعم بعضهم أن العدد ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكره الراوي بالمعنى، ورُدَّ عليه لتصريحه في الحديث بذلك، وقيل معناه ولي خمسة أسماء لم يسم بها أحد قبلي، وقيل: معناه إن معظم أسمائي خمسة. اهـ عمدة ج 16 ص 96.

وقد ذكر الحافظ أبو الفضل العراقي في ألفية السيرة بعض أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

ص: 400

مُحَمَّد مَعَ المُقَفِّي أحَمْدَا

الحَاشرُ العَاقبُ وَالمَاحي الرَّدا

وَهُوَ المُسَمَّى بنَبيِّ الرَّحْمَة

في مُسْلم وَبنَبيِّ التَوْبَة

وَفيه أيْضًا بنَبيِّ المَلْحَمَهْ

وفي روَايَة نَبيُّ المَرْحَمَهْ

طهَ وَيس مَعَ الرَّسُولِ

كَذَاك عَبْد الله في التَّنَزيل

وَالمُتَوكِّلُ النَّبِّيُّ الأمِّي

والرَّوُؤفُ الرَّحيمُ أيَّ رُحْمِ

وَشَاهدًا مُبَشَّرًا نَذيرَا

كَذَا سرَاجًا صل به مُنيرًا

كَذَا به المُزَّمِّلَ المُدثَّرِّا

وَدَاعيًا لله وَالمُذَكِّرَا

وَرَحْمَةٌ وَنعْمَةٌ وَهَادي

وَغَيرُهَا تَجلُّ عَنْ تَعْدَادِ

وَقَدْ وَعَىَ ابْنُ العَرَبيِّ سَبْعَهْ

منْ بَعْد ستّين وَقيلَ تسْعَهْ

منْ بَعْدَ تسْعينَ ولابْن دحْيَةِ

الفَحْصُ يُوَفيهَا ثَلَاثَمائةِ

وَكَوْنُهَا ألفًا فَفي العَارضَة

نَقَلَهُ عَنْ بَعْض ذي الصُّوفيَّةِ اهـ

قال الجامع: وفي بعض ما ذكره من الأسماء "كطه ويس" نظر، وكذا فيما نقله من الأعداد؛ لأنه لا دليل يصح فيها. والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 401

‌110 - حِلْيةُ الوُضُوءِ

الحلية بالكسر جمعه حُلَى بالكسر والضم وهو ما يتزين به من مصوغ المعدنيات، أو الحجارة، والراد به هنا التحجيل في القيامة من آثار الوضوء.، وسيأتي مزيد بسط له، إن شاء الله تعالى.

149 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ خَلَفٍ -وَهُوَ ابْنُ خَلِيفَةَ- عَنْ أَبي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، وَكَانَ يَغْسِلُ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ إِبْطَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا هَذَا الْوُضُوءُ؟ فَقَالَ لِي: يَا بَنِي فَرُّوخَ أَنْتُمْ هَا هُنَا، لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ هَا هُنَا مَا تَوَضَّأْتُ هَذَا الْوُضُوءَ، سَمِعْتُ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"تَبْلُغُ حِلْيَةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(قتيية) بن سعيد أبو رجاء البغلاني ثقة ثبت10 تقدم في 1/ 1.

2 -

(خلف بن خليفة) بن صاعد الأشجعي مولاهم، أبو أحمد الكوفي، نزيل واسط، ثم بغداد، صدوق اختلط في الآخر، وادعى أنه رأى عمرو بن حريث الصحابي فأنكر عليه ذلك ابن عيينة وأحمد،

ص: 402

من الثامنة، مات سنة -181 - على الصحيح. بخ م 4. وفي الخلاصة: بعد ذكر نحو ما تقدم روى عن أبيه، وحميد الأعرج، وأبي بشر. وعنه هشيم، وسعيد بن منصور، وقتيبة. قال أحمد: لم ير عمرو ابن حريث، ومن كتب عنه قديما فسماعه صحيح. وكتب في الهامش ما نصه: لفظ التهذيب: عن عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول: قال رجل لسفيان ابن عيينة: يا أبا محمَّد عندنا رجل يقال له: خلف بن خليفة يزعم أنه رأى عمرو بن حريث، فقال: كذب، لعله رأى جعفر ابن عمرو بن حريث. وقال الحسن الميموني: سمعت أبا عبد الله يسأل رأى خلف بن خليفة عمرو بن حريث؟ قال: لا، ولكنه عندي شبه عليه. وقال موضع آخر: رأيت خلف بن خليفة وهو مفلوج سنة -187 - قد حمل وكان لا يفهم، فمن كتب عنه قديما فسماعه صحيح. اهـ. صة 1 ص 292. ومثله في "تت".

3 -

(أبو مالك الأشجعي) سعد بن طارق، الكوفي، ثقة، من الرابعة، مات في حدود الأربعين ومائة وثقه أحمد، وابن معين، والعجلي، وابن سعد، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، يكتب حديثه. وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن عبد البر: لا أعلمهم يختلفون في أنه ثقة عالم، علق عنه البخاري، وأخرج له الباقون.

4 -

(أبو حازم) سلمان الأشجعي، الكوفي، ثقة، من الثالثة، مات على رأس المائة. (ع) وفي الخلاصة: أنه جالس أبا هريرة خمس سنين، ويروي عن الحسين والحسن، وابن عمر. وعنه فضيل بن غزوان، ومحمد بن جحادة والأعمش، وثقه أحمد وابن معين. مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. اهـ.

5 -

(أبو هريرة) الدوسي الصحابي الجليل رضي الله عنه. تقدم في 1/ 1.

ص: 403

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات إلا خلفًا فصدوق اختلط بآخرة، وأنهم كوفيون إلا قتيبة فبغلاني، وأبا هريرة فمدني، وأن فيه رواية تابعي، عن تابعي: أبو مالك، عن أبي حازم، وأن صحابيه أحد المكثرين السبعة، بل هو رئيسهم روى -5374 - .

بيان النسبة: "الأشجعي" بفتح الهمزة وسكون الشين وفتح الجيم نسبة إلى أشجع ابن ريث بن غَطَفَان بن سعد بن قيس عيلان، قبيلة مشهورة. أفاده في اللباب ج 1 ص 64.

شرح الحديث

(عن أبي حازم) سلمان الأشجعي، أنه (قال: كنت خلف أبي هريرة) أي وراءه (وهو يتوضأ للصلاة) جملة حالية من أبي هريرة (وكان) أبو هريرة (يغسل يديه حتى يبلغ إبطيه) غاية للغسل، يعني أنه يبالغ في مد الغسل إلى أن يبلغ إلى الإبط. وعند مسلم: فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه.

والإبط: بكسر فسكون ما تحت الجناح، ويذكر ويؤنث، فيقال: هو الإبط وهي الإبط، ومن كلامهم رفع السوط حتى بَرَقت إبطه، والجمع آباط مثل حمْل وأحمال، ويزعم بعض المتأخرين أن كسر الباء لغة، وهو غير ثابت؛ لأن سيبويه قال: لم يجىء على فعل بكسر الفاء والعين من الأسماء إلا حرفان إبل وحبر، هو القَلَح

(1)

ومن الصفات إلا حرف وهي امرأة بلز وهي الضخمة. أفاده في المصباح. ج 1 ص 2.

قال الجامع: لكن في "ق" ما يفيد أن كسر الباء لغة.

قال أبو حازم (فقلت: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟)"ما" استفهامية مبتدأ أو خبر مقدم، و"هذا " خبره، أو مبتدأ مؤخر، و"الوضوء" نعت لاسم الإشارة، أو بدل منه، أو عطف بيان، كما قال بعضهم:

(1)

القلح بفتحتين صفرة تصيب الأسنان.

ص: 404

مُعَرَّفٌ بَعْدَ إشَارَة بألْ

يُعْرَبُ نَعْتًا أوْ بَيَانًا أوْ بَدَلْ

يقول: أيُّ شيء هذا الوضوء الذي يخالف صفة الوضوء التي كنا نراها منك قبل هذا. وكان أبوهريرة لا يتوضأ مثل هذا الوضوء إذا كان بين الناس، كما يدل عليه كلامه الآتي (فقال) أبو هريرة (يا بني فروخ) بفتح الفاء وتشديد الراء: قال النووي رحمه الله تعالى: قال صاحب كتاب العين: فروخ بلغنا أنه كان من ولد إبراهيم صلى الله عليه وسلم من ولد كان بعد إسماعيل، وإسحاق كثر نسله، ونما عدده، فولد العجم الذين هم في وسط البلاد قال القاضي عياض: أراد أبو هريرة هنا الموالي، وكان

خطابه لأبي حازم. اهـ شرح مسلم ج 3 ص 140.

وفي "ق" وشرحه: وفروخ كتنور أخو إسماعيل، وإسحاق أبو العجم الذين هم في وسط البلاد، وهو فارسي، ومعناه السعيد طالعه، وقد تسقط واوه في الاستعمال، وهو غير منصرف للعجمة والعلمية.

اهـ بتغيير يسير. ج 2 ص 272.

(أنتم ههنا؟ لو علمت أنكم ها هنا ما توضأت هذا الوضوء) أي لئلا يعتقدوا أنه من واجبات الوضوء. قال القاضي عياض: أراد أبو هريرة بكلامه هذا أنه ينبغي لمن يُقتَدَى به إذا ترخص في أمر لضرورة، أو تشدد لوسوسة، أو لاعتقاده في ذلك مذهبا شذ به عن الناس أن لا يفعله بحضرة العامة الجهلة لئلا يترخصوا برخصته لغير ضرورة، أو يعتقدوا أن ما تشدد فيه هو الفرض اللازم اهـ. شرح مسلم. للنووي.

قال الجامع عفا الله عنه: في قول القاضي لوسوسة نظر لا يخفى لأنه ليس التشدد للوسوسة مشروعا به، بل الواجب على الإنسان أن لا يلتفت إلى الوسواس، ويبتعد عنه.

ثم قال أبو هريرة مبينا مستنده في هذا الوضوء (سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم)

ص: 405

فعيل بمعنى فاعل، هو الصديق، من الخَلة بالفتح، وهي الصداقة، والضم لغة. كما في المصباح. وفي اللسان: قال ابن دريد: الذي سمعت به أن معنى الخليل الذي أصفى المودةَ وأصحها، قال: ولا أزيد فيها شيئا لأنها في القرآن، يعني قوله:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، والجمع أخلَّاء وخُلَّان، والأنثى خليلة، والجمع خليلات وقال الزجاج: الخليل المحب الذي ليس في محبته خلل. وقوله عز وجل: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ، أي أحبه محبة تامة لا خلل فيها، قال: وجائز أن يكون معناه الفقير، أي اتخذه محتاجا فقيرا إلى ربه، قال: وقيل للصداقة خلة لأن كل واحد منهما يسد خلل صاحبه في المودة والحاجة إليه. اهـ ج 11 ص 218.

يعني أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم (يقول: تبلغ حلية المؤمن) وفي نسخة يبلغ بالياء، وفي أخرى تبلغ الحلية من المؤمن.

والحلية: بكسر المهملة وسكون اللام وياء مخففه تطلق على السِّيمَا، والمراد به هنا التحجيل من أثر الوضوء يوم القيامة، وعلى الزينة، والمراد به ما يشير إليه قوله تعالى {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} [الكهف: 31]، أفاده السندي. ج 1 ص 95.

وقال ابن منظور: والحَلْي -أي بفتح الحاء وسكون اللام- ما تُزُيِّنَ به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة، والجمع حُليّ -يعني بالضم- وقال الجوهري: الحَلْي -يعني بفتح فسكون حَلْي المرأة. وجمعه حُليّ مثل ثدى وثدي، وهو فعول، وقد تكسر الحاء لمكان الياء، مثل عصي، وقرىء {مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا} [الأعراف: 148] بالضم والكسر وحلية السيف جمعها حلَى مثل لحْية ولحى وربما ضم. اهـ لسان ج 14 ص 195.

ص: 406

والمعنى أن زينة المؤمن التي يزينه الله تعالى بها في القيامة تبلغ (حيث ييلغ الوضوء) أي الكان الذي كان يبلغ إليها ماء الوضوء في الدنيا، فحيث ظرف لتبلغ. والله تعالى أعلم، وبه المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولي: في درجته: هذا الحديث، أخرجه مسلم. فإن قيل: إن في سنده خلف بن خليفة، أجيب بأنه تابعه عليٌّ بن مسهر عند ابن حبان، وابنُ إدريس عند ابن خزيمة.

المسألة الثانية: في بيان موضعه من هذا لكتاب: لم يذكره المصنف إلا في هذا الموضع 110/ 149 وأخرجه أيضا في الكبرى -96/ 142 بهذا السند.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم: أخرجه مسلم في الطهارة 13 عن شيخ المصنف.

وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه 7/ 7 عن أبي طاهر، عن أبي بكر، عن إبراهيم بن يوسف الصيرفي، عن ابن إدريس، عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم قال رأيت أبا هريرة يتوضأ فجعل يبلغ بالوضوء قريبا من إبطه فقلت له؟ فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الحلية تبلغ مواضع الوضوء".

وأخرجه ابن حبان في صحيحه ج 1 رقم 1042 عن أحمد بن علي بن المثنى، عن عبد الغفار بن عبد الله الزبيري، عن علي بن مسهر، عن سعد بن طارق، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تبلغ حلية أهل الجنة مبلغ الوضوء". وأخرجه أحمد ج 2 ص 371.

المسألة الرابعة: في فوائده:

من فائدة هذا الحديث: أنه ينبغي للعالم أن لا يفعل عند العوام ما لا

ص: 407

يعرفون، إذا خاف عليهم أن يعتقدوا ذلك واجبا، وفيه فضل إطالة الوضوء بمجاوزة محل الفرض، وفيه بيان شرف المؤمن من هذه الأمة حيث خصت بالغرة والتحجيل، كما سيأتي في الحديث التالي، وسيأتي

مزيد بسط لذلك في المسائل الآتية في الحديث التالي إن شاء الله تعالى.

150 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى الْمَقْبُرَةِ، فَقَالَ:"السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ قَالَ:"بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانِي الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ:"أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ فِي خَيْلٍ بُهْمٍ دُهْمٍ، أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ " قَالُوا: بَلَى، قَالَ:"فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ".

ص: 408

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(قتيبة) بن سعيد أبو رجاء الثقفي البغلاني ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإمام العَلَم الشهير ثقة حجة -7 - تقدم في 7/ 7.

3 -

(العلاء بن عبد الرحمن) بن يعقوب، الحرقي -بضم المهملة وفتح الراء بعدها قاف- أبو شبل -بكسر المعجمة وسكون الموحدة- المدني، صدوق ربما وهم، من الخامسة، مات سنة بضع وثلاثين ومائة تقدم في 107/ 143.

4 -

(عبد الرحمن) بن يعقوب الجُهَني المدني، مولى الحُرَقَة، ثقة، من الثالثة. اهـ ت 212. تقدم في 107/ 143.

5 -

(أبو هريرة) الدوسي الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته.

ومنها: أن رواته كلهم ثقات، إلا العلاء فصدوق.

ومنها أنهم مدنيون إلا شيخه، فبغلاني.

ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه.

ومنها: أنهم ممن اتفق الستة عليهم إلا العلاء، وأباه فلم يخرج لهما البخاري، وإلا في جزء القراءة.

ومنها: أن صحابيه أحد المكثرين السبعة، وتقدم غير مرة.

ص: 409

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة) بتثليث الباء والكسر أقلها، أفاده النووي. في شرح مسلم ج 3 ص 137 وهي موضع دفن الموتى، قاله في اللسان ج 5 ص 69، والمراد بالمقبرة هنا مقبرة البقيع لما أخرجه مسلم، والمصنف من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كُلَّما كانت ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع فيقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين

الحديث

(فقال) ليحصل لهم ثواب التحية وبركتها (السلام عليكم) وفي رواية أحمد: "سلام عليكم" قال في المنهل ج 5 ص 104: وفيه دلالة على أن السلام على الموتى يقدم فيه المبتدأ على الخبر كالسلام على الأحياء، ويقدم الدعاء على المدعو له فإن السلام متضمن للدعاء، ونظيره قوله تعالى:{رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] ولا ينافيه ما سيأتي للمصنف -يعني أبا داود- في باب- كراهية أن يقول: عليك السلام من كتاب الأدب عن أبي جُرَيّ الهُجَيمي -بالتصغير فيهما- قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت عليك السلام يا رسول الله، فقال: لا

تقل: عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى" لأن معناه أن هذه الصيغة تختص بالموتى، وأما السلام عليكم فمشترك، وما قاله بعض العلماء من لزوم تقديم المبتدإ على الخبر في السلام على الأحياء والأموات، وإجابته عن حديث أبي جُرَيّ بأنه إخبار عن عادة أهل الجاهلية من تقديم الخبر على المبتدإ في تحية الموتى، كما قال شاعرهم:(من الطويل)

عَليْكَ سَلَامُ الله قَيْسَ بْنَ عَاصمِ

وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أنْ يَتَرَحَّمَا

بعيد، لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يُقرُّ أحدًا على ما يخالف الشريعة. فتحصل أن

ص: 410

السنة في السلام على الأحياء والأموات تقديم المبتدإ على الخبر، وأنه يجوز في تحية الأموات تقديم الخبر. اهـ عبارة المنهل.

(دار قوم مومنين) قال ابن قرقول: بنصب دار على الاختصاص، أو النداء المضاف، والأول أظهر، قال ويصح الجر على البدل من الكاف والميم في "عليكم"، والمراد بالدار على هذين الوجهين الأخيرين: الجماعة، أو الأهل، وعلى الأول مثله، أو أهل المنزل قال الأبيّ: يعني الاختصاص اللغوي لا الصناعي لفقد شرطه، وهو تقديم ضمير المتكلم أو المخاطب اهـ، وتعقب بأنه اصطلاحي أيضا، قال التفتازاني في حاشية الكشاف: المراد بالاختصاص هنا النصب بإضمار فعل، وقد أكثر الكرماني من التعبير بالاختصاص في مثل هذا.

قال الباجي وعياض: يحتمل أنهم أحيُوا له حتى سمعوا كلامه كأهل القليب، ويحتمل أن يسلم عليهم مع كونهم أمواتا لامتثال أمته ذلك بعده، قال الباجي: وهو الأظهر. اهـ زرقاني على الموطأ جـ 1 ص 62 - 63. وفي المنهل ج 5 ص 104: وسميت القبور دارًا تشبيها لها بمساكن الأحياء لأنهم يجتمعون في القبور. اهـ.

(وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) قال الزرقاني رحمه الله تعالى: قال النووي وغيره من العلماء: في إتيانه بالاستثناء مع أن الموت لا شك فيه أقوال: أظهرها أنه ليس للشك، وإنما هو للتبرك، وامتثال أمر الله فيه، قال أبو عمر: الاستثناء قد يكون في الواجب لا شكا، كقوله تعالى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: 27]، ولا يضاف الشك إلى الله، والثاني: أنه عادة المتكلم يُحَسِّنُ به كلامَهُ، والثالث: أنه عائد إلى اللحوق في هذا المكان والموت بالمدينة، والرابع: أن "إن بمعنى "إذ"، والخامس: أنه راجع إلى استصحاب الإيمان لمن معه، والسادس أنه كان معه من يظن بهم النفاق فعاد الاستثناء إليهم.

ص: 411

وحكى ابن عبد البر رحمه الله أنه عائد إلى معنى مؤمنين، أي لاحقون في حال إيمان؛ لأن الفتنة لا يأمنها أحد، ألا تَرى قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] وقول يوسف صلى الله عليه وسلم: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] ولأن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم اقبضني إليك غير مفتون". اهـ. واستبعد الأبي الثالث بقوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: "المحيا محياكم، والممات مماتكم". قال: إلا أن يكون قال ذلك قبل. اهـ كلام الزرقاني، وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم ج 3 ص 138 بعد ذكر الأقوال الأربعة الأول ما نصه: وقيل أقوال أخر ضعيفة جدا تركتها لضعفها وعدم الحاجة إليها، منها: قول من قال: الاستثناء منقطع راجع إلى استصحاب الإيمان، وقول من قال كان معه صلى الله عليه وسلم مؤمنون حقيقة، وآخرون يظن بهم النفاق فعاد الاستثناء إليهم، وهذان القولان وإن كانا مشهورين فهما خطأ ظاهر. والله أعلم. اهـ كلام النووي.

(وددت) بكسر الدال، أي تمنيت وأحببت، ووجه اتصال وده برؤية أصحاب القبور أنه جاء تصور اللاحقين بتصور السابقين، وقيل: كشف له عليه الصلاة والسلام عالم الأرواح كلها (أني قد رأيت) أي في الدنيا ويحتمل تمنى لقائهم بعد الموت، قال عياض، وقال بعضهم: لعله أراد أن ينقل أصحابه من علم اليقين إلى عين اليقين، ويراهم هو ومن معه، وعند مسلم:"وددت أنا قد رأينا"، بصيغة الجمع، وقال الزرقاني: وفي رواية "أني لقيت". اهـ ج 1 ص 63.

(إخواننا) المسلمين (قالوا) أي الصحابة الحاضرون معه (يا رسول الله ألسنا إخوانك) وعند مسلم "أو لسنا إخوانك"(قال: بل أنتم أصحابى) قال الباجي رحمه الله: لم ينف بذلك أخوتهم، ولكن ذكر مرتبتهم الزائدة بالصحبة، واختصاصهم بها، وإنما منع أن يسموا بذلك لأن

ص: 412

التسمية والوصف على سبيل الثناء والمدح للمسمى يجب أن يكون بأرفع حالاته، وأفضل صفاته، وللصحابة بالصحبة درجة لا يلحقهم فيها أحد، فيجب أن يوصفوا بها. اهـ وقبله عياض. اهـ زرقاني ج 1 ص 63.

وقال النووي رحمه الله: قال الإمام الباجي: قوله صلى الله عليه وسلم: "بل أنتم أصحابي" ليس نفيا لأخوتهم ولكن ذكر مرتبتهم الزائدة بالصحبة، فهؤلاء إخوة صحابة والذين لم يأتوا إخوة ليسوا بصحابة، كما قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] قال القاضي عياض رحمه

الله: ذهب أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في هذا الحديث وغيره من الأحاديث في فضل من يأتي آخر الزمان إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعدُ مَن هو أفضل ممن كان من جملة الصحابة، وأن قوله صلى الله عليه وسلم:"خير القرون قرني" على الخصوص معناه خير الناس قرني، أي السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، ومن سلك مسلكلهم، فهؤلاء أفضل الأمة، وهم المرادون بالحديث، وأما من خلط في زمنه صلى الله عليه وسلم وإن رآه وصحبه، أو لم يكن له سابقة ولا أثر في الدين فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأول من يفضلهم على ما دلت عليه الآثار.

قال القاضي رحمه الله: وقد ذهب إلى هذا أيضا غيره من المتكلمين على المعاني، قال: وذهب معظم العلماء إلى خلاف هذا، وأن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورآه مرة من عمره، وحصلت له مزية الصحبة أفضل من كل من يأتي بعدُ، فإن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، قالوا: وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"لو أنفق أحدكم مثل أحُد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"

(1)

هذا كلام القاضي. والله أعلم. اهـ كلام النووي في شرح مسلم ج 3 ص 138 - 139.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه ج 4 ص 1967.

ص: 413

قال الجامع عفا الله عنه:

الراجح عندي ما ذهب إليه معظم العلماء من أن من بعد الصحابة لا يساوي فضلهم، فضلا عن أن يفضل عليهم، وإن عمل ما عمل لحديث عمران رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير القرون قرني

الحديث" متفق عليه. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "لا تسبوا أصحابي، هو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه". رواه مسلم ج 1 ص 1967. وأما الأحاديث الدالة على تفضيل من أتى بعد الصحابة رضي الله عنهم، كحديث أبي ثعلبة الخُشَني رضي الله عنه لما سئل عن هذه الآية {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا

الحديث، وفيه "فإن من ورائكم أيامًا، الصبرُ فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم". أخرجه أبو داود، والترمذي، فإنها لا تعارض الأحاديث التي أخرجها الشيخان، ولا تقوى قوتها

(1)

، والله أعلم.

(وإخواني) ولمسلم "وإخواننا"، فإخواني مبتدأ خبره قوله (الذين لم يأتوا بعد) أي لم يوجدوا الآن معي، وكلمة "بعد" قد يراد بها الآن كما في قول بعضهم:(من الطويل)

كَمَا قَدْ دَعَاني في ابْن مَنْصُورَ قَبْلَهَا

وَمَاتَ فَمَا حَانَتْ مَنيَّتُهُ بَعْدُ

أي الآن، قاله في التاج 2 ص 304.

ويحتمل أن تكون على معناها، ويكون الظرف حالا، أي حال كون وقتهم بعد وقتنا هذا.

قال الزرقاني رحمه الله: ودل بإثبات الأخوة لهؤلاء على علو

(1)

بل الحديث ضعيف، فلا يعارض ما في الصحيحين.

ص: 414

مرتبتهم، وأنهم حازوا فضيلة الآخرية كما حاز صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضيلة الأولية، وهم الغرباء المشار إليهم بقوله "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء" وهم الخلفاء الذين أفادهم بقوله "رحم الله خلفائي"

(1)

، وهم القابضون على دينهم عند الفتن المشار إليهم بقوله:"القابض على دينه كالقابض على الجمر" وهم المؤمنون بالغيب إلى غير ذلك مما لا يعسر على الفطن استخراجه من الأحاديث.

وأُوردَ كيف يتمنى رؤيتهم، وهو حي، وهم حينئذ في علم الله تعالى، لا وجود لهم في الخارج، والمعدوم لا يرى، وأيضا هو من تمني ما لا يكون؛ لأن عمره لا يمتد حتى يرى آخرهم؟ وأجيب بأن الرؤية بمعنى العلم، وهو يتعلق بالمعدوم، أو رؤية تمثيل بمعنى أن يمثلوا له كما مثلت له الجنة في عُرض الحائط، أو أن هذا من رؤية الكون كما زويت له الأرض حتى رأى مشارقها ومغاربها كرامة من الله له.

وأورد على أن المراد بعد الموت أنه يلزم منه تمني الموت، وقد قال:"لا يتمنين أحدكم الموت"، وأجيب بمنع الملزومية، وإن سلمت فالمنع لما قال "لضر نزل به".

قال الأُبيّ: وهذا كله على أنه تمن حقيقي، وقد لا يكون حقيقة، وإنما هو تشريف لقدر أولئك الإخوان. اهـ ما قاله الزرقاني باختصار وتغيير يسير. ج 1 ص 63 - 64.

(وأنا فرطهم) بفتحتين أي فرط أولئك الإخوان، أي متقدمهم (على الحوض) أي إليه. قال العلامة ابن منظور: والفارط والفَرَط، بالتحريك: المتقدم إلى الماء، يتقدم الواردة، فيهيء لهم الأرْسَان، والدِّلاء، ويملأ الحياض، ويستقي لهم، وهو فَعَل بمعنى فاعل، مثل تَبَع بمعنى تابع، ورجل فَرَط وقوم فَرَط ورجل فارط وقوم فُرَّاط اهـ باختصار لسان ج 7 ص 366.

(1)

حديث ضعيف.

ص: 415

وقال العلامة الفيومي رحمه الله تعالى: الفرط بفتحتين: المتقدم في طلب الماء، يهيء الدلاء والأرشَاء، يقال: فَرَط القوم فُرُوطا من باب قَعَد: إذا تقدم لذلك، يستوي فيه الواحد والجمع. يقال: رجل فرط، وقوم فرط، ومنه يقال للطفل الميت:"اللهم اجعله فرطا"، أي أجرا متقدما. اهـ المصباح ج 2 ص 469.

والحوض: الماء، جمعه أحواض، وحياض، وأصل حياض الواو لكن قلبت ياء للكسر قبلها، مثل ثوب، وأثواب وثياب، اهـ المصباح جـ 1 ص 156.

شبه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه الشريفة بالرائد الذي يسبق على أصحابه ليهيء لهم ما يحتاجون إليه، ففيه بشارة لهذه الأمة، هنيئا لمن كان النبي صلى الله عليه وسلم فرطه. قاله في أوجز المسالك ج 1 ص 223.

(قالوا) أي الصحابة المخاطبون بما تقدم (يا رسول الله كيف تعرف) أي في يوم القيامة (من يأتي بعدك من أمتك) أي من يولد بعد وفاتك، أو ولد ولكن لم تره في الدنيا، قال العلامة السندي رحمه الله: كأنهم فهموا من تمني الرؤية، وتسميتهم باسم الأخوة دون الصحبة أنه لا يراهم في الدنيا، فإن ما يتمنى عادة ما لم يمكن حصوله، ولو حصل اللقاء في الدنيا لكانوا صحابة، وفهموا من قوله: وأنا فرطهم أنه يعرفهم في الآخرة فسألوه عن كيفية ذلك. اهـ ج 1 ص 94 - 95.

(قال) صلى الله عليه وسلم مجيبا عن سؤالهم هذا (أرأيت) أي أخبرني، والخطاب مع كل من يصلح له من الحاضرين. أو السائلين. قاله السندي ج 1 ص 95.

وقال ابن منظور رحمه الله: قال الفَرَّاء: العرب لها في أرأيت لغتان، ومعنيان أحدهما: أن يسأل الرجل الرجل: أرأيت زيدا بعينك؟ فهذه مهموزة، فهذا أوقعتها على الرجل منه قلت: أرأيتك على

ص: 416

غير هذه الحال؟ يريد هل رأيت نفسك على غير هذه الحالة، ثم تثنى وتجمع فتقول: للرجلين: أرأيتماكما، وللقوم أرأيتموكم، وللنسوة أرأيتكُنَّ، وللمرأة أرأيتك بخفض التاء لا يجوز إلا ذلك.

والمعنى الآخر أن تقول: أرأيتك وأنت تقول: أخبرني، فتهمزهما وتنصب التاء منها، وتترك الهمز إن شئت، وهو أكثر كلام العرب، وتترك التاء موحدة مفتوحة للواحد، والواحدة، والجمع في مؤنثه،

ومذكره، فتقول للمرأة: أرأيتك زيدا هل خرج، وللنسوة أرأيتكن زيدا ما فعل؟، وإنما تركت العرب التاء واحدة لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل منها واقعا على نفسها فاكتفوا بذكرها في الكاف، ووجهوا التاء إلى المذكر والوحيد إذا لم يكن الفعل واقعا، قال: ونحو ذلك قال الزجاج في جميع ما قال، ثم قال: واختلف النحويون في هذه الكاف التي في أرأيتكم، فقال الفراء والكسائي: لفظها لفظ نصب، وتأويلها تأويل رفع، قال: ومثلها الكاف التي في دونك زيدا؛ لأن المعنى خذ زيدا، قال أبو إسحاق: وهذا خطأ؛ لأن قولك: أرأيتك زيدا ما شأنه؟ يصير أرأيت قد تعدت إلى الكاف وإلى زيد، فتنصب أرأيت اسمين فيصير المعنى أرأيت نفسك زيدا ما حاله؟، قال: وهذا محال، والذي يذهب إليه النحويون الموثوق بعلمهم أن الكاف لا موضع لها، وإنما المعنى أرأيت زيدا ما حاله؟، وإنما الكاف زيادة في بيان الخطاب، وهي المعتمد عليها في الخطاب. اهـ لسان ج 14 ص 294.

(لو كان لرجل خيل) قال في المصباح: الخيل معروفة، وهي أنثى، ولا واحد لها من لفظها، والجمع خيول، قال بعضهم: وتطلق الخيل على العراب وعلى البراذين، وعلى الفرسان، وسميت خيلا لاختيالها، وهو إعجابها بنفسها مَرَحًا ومنه يقال: اختال الرجل، وبه خيلاء، وهو الكبر والإعجاب. اهـ ج 1 ص 186.

ص: 417

(غر) بضم الغين المعجمة وتشديد الراء المهملة جمع أغر، وهو الأبيض الوجه، والغرة بضم الغين في الجبهة: بياض فوق الدرهم. أفاده في المصباح ج 2 ص 445 وقال ابن منظور رحمه الله تعالى: والغرة بالضم بياض في الجبهة، وفي الصحاح في جبهة الفرس، فرس أغر وغراء، وقيل: الأغر من الخيل الذي غرته كبر من الدرهم قد وَسَطَت جبهته ولم تصب واحدة من العينين، ولم تمل على واحد من الخدين ولم تَسل سُفْلا، وهي أفشى من القُرْحَة، والقرحة فدر الدرهم، فما دونه وقال بعضهم: بل يقال للأغر أغر أقرح لأنك إذا قلت: أغر فلابد من أن تصف الغرة بالطول، والعَرْض، والصِّغر، والعظم، والدقة، وكلهن غُرَر، فالغرة جامعة لهن لأنه يقال: أغر أقرح، وأغر مُشَمْرَخ الغرة، وأغر شادخ الغرة، فالأغر ليس بضرب واحد، بل هو جنس جامع لأنواع من قرحة وشمراخ

(1)

ونحوهما. وغزة الفرس: البياض الذي يكون في وجهه، فإن كانت مدورة فهي وَتيرة، وإن كانت طويلة فهي شادخة قال ابن سيده: وعندي أن الغرة نفس القدر الذي يشغله البياض من الوجه لا أنه البياض. اهـ لسان ج 5 ص 14.

(محجلة) اسم مفعول من التحجيل، وهو الذي ابيضت قوائمه، وجاوز البياض الأرساغ إلى نصف الوظيف، أو نحو ذلك، وذلك موضع التحجيل فيه. قاله في المصباح ج 1 ص 122.

وقال ابن منظور رحمه الله: قال الجوهري: التحجيل: بياض في قوائم الفرس، أو في ثلاث منها، أو رجليه، قل أو كثر، بعد أن يتجاوز الأرساغ، ولا يجاوز الركبتين والعُرْقُوبين لأنها مواضع الأحجال، وهي الخلاخل، والقيود. يقال: فرس محجل، وقد

(1)

الشمْراخ: غُرَّة الفرس، إذا دَقَّتْ، وسَالَت، وجَلَّلَت الخَيشُومَ، أفاده في "ق".

ص: 418

حجلت قوائمه تحجيلا، وإنها لذات أحْجَال، فإن كان في الرجلين، فهو محجل الرجلين، وإن كان بإحدى رجليه، وجاوز الأرساغ فهو محجل الرجل اليمنى، أواليسرى، فإن كان محجل يد ورجل من شق فهو مُمْسَك الأيامن مُطلق الأياسر، أو ممسك الأياسر مطلق الأيامن، وإن كان من خلاف قل، أو كثر، فهو مشكول. قال الأزهري: وأخذ تحجيل الخيل من الحجْل، وهي حَلْقَة القَيد، جعل ذلك البياض في قوائمها بمنزلة القيود.

وقال أبو عبيد: إذا بلغ البياض من التحجيل ركبة اليد وعرقوب الرجل فهو فرس مُجَبَّب، فإن كان البياض برجليه دون اليد فهو محجل إن جاوز الأرساغ، وإن كان البياض بيديه دون رجليه فهو أعْصَم، فإن كان في ثلاث قوائم دون رجل أو يد فهو محجل الثلاث مطلق اليد، أو الرجل، ولا يكون واقعا بيد ولا يدين إلا أن يكون معها أو معهما رجل أو رجلان. اهـ لسان بتصرف ج 11 ص 145 - 146.

(في خيل) أي مختلطة بها (بُهْم) بالجر صفة لخيل، وهو بضمتين، أو سكون الثاني، وهو الأشهر للازداوج قاله السندي ج 1 ص95. وفي نسخة تقديم دهم على بهم، وهو الذي في شرح السيوطي، والسنن الكبرى، ومسلم، والموطأ.

وقال النووي رحمه الله بعد تفسير البهم ما نصه: وأما البُهْم: فقيل السود أيضا، وقيل البهم: الذي لا يخالط لونُه لونًا سواه، سواء كان أسود أو أبيض، أو أحمر، بل يكون لونه خالصا، وهذا قول ابن السكيت، وأبي حاتم السجستاني، وغيرهما، اهـ شرح مسلم ج 3 ص 139.

وقال ابن منظور رحمه الله: ولون بهيم لا يخالطه غيره، وقيل البهيم: الأسود، والبهيم من الخيل: الذي لا شية فيه، الذكر والأنثى

ص: 419

في ذلك سواء، والجمع بُهُم مثل رغيف ورَغُف، ويقال: هذا فرس جواد وبهيم، وهذه فرس جواد وبهيم بغير هاء، وهو الذي لا يخالط لونه شيء سوى معظم لونه. اهـ لسان ج 12 ص 59.

(دهم) بالجر أيضا صفة بعد صفة لخيل، وهو جمع أدهم، وهو الأسود، والدهمة السواد، قاله النووي في شرح مسلم ج 3 ص 139.

وفي المصباح: الدُّهْمَة: السواد، يقال: فرس أدهم وبعير أدهم وناقة دهماء: إذا اشتد وُرْقَتُهُ حتى ذهب بياضه، وشاة دهماء خالصة الحمرة. اهـ 1 ص 202.

وفي اللسان: بعد ذكر نحو عبارة المصباح: فإن زاد على ذلك حتى اشتد السواد، فهو جَون، وقيل: الأدهم من الإبل نحو الأصفر إلا أنه أقل سوادا. اهـ ج 12 ص 210.

قال الجامع: فعلى تفسير البهم بالسود يكون ذكر الدهم تأكيدا، وعلى تفسيره بما لا يخالط لونه لون آخر، وأريد غير السواد، يكون مغايرا له فيكون المعنى أن بعض تلك الخيل سود، وبعضها ألوانها إما أحمر خالص، أو أبيض خالص، أو نحو ذلك. والحاصل أن خيله مختلطة بخيل مغاير ألوانها لألوان خيله.

(ألا يعرف) ذلك الرجل (خيله) الغر المحجلة فالهمزة للتقرير، ولذا قالوا (بلى) أي يعرف خيله، فإن "بلى" حرف إيجاب لا تقع إلا بعد نفي، فترفع حكم النفي، وتوجب نقيضه، وهو الإثبات، فهذا قيل: ما قام زيد، وقلت: بلى فمعناه إثبات القيام له، وإذا قيل: أليس كان كذا، وقلت: بلى، فمعناه التقرير والإثبات. وقد تقدم تمام البحث في ذلك في 54 - 68 (قال) صلى الله عليه وسلم (فإنهم) أي الإخوان الذين يأتون بعده، وإنما خصهم بذلك وإن كان هذا لا يخص هؤلاء، بل الصحابة كذلك،

ص: 420

لكونه ساقه لبيان معرفته لهم (يأتون يوم القيامة) أي يوم البعث، وفي التهذيب: القيامة: يوم البعث، يقوم فيه الخلق بين يدي الحي القيوم. وفي الحديث ذكر يوم القيامة في غير موضع، قيل: أصله مصدر قام الخلق من قبورهم قيامة، وقيل هو تعريب قيمثا، وهو بالسريانية بهذا المعنى. اهـ لسان ج 12 ص 506.

(غرا محجلين) تقدم الكلام عليهما قريبا والمراد بهما هنا النور الكائن في مواضع وضوئهم بخلاف سائر الناس، فليسوا كذلك، إما لاختصاص الوضوء بهذه الأمة، أو لاختصاصهم بالغرة والتحجيل (من الوضوء) بضم الواو، ويجوز فتحها على أنه الماء قاله ابن دقيق العيد، وظاهره أن السِّيمَا إنما تكون لمن توضأ في الدنيا، وبه جزم الأنصاري في شرح البخاري، ففيه رد على من زعم أنها تكون حتى لمن لم يتوضأ كما يقال لهم: أهل القبلة، من صلى ومَن لا، وفي قياسه على الإيمان نظر؛ لأنه التصديق والشهادة وإن ترك الواجب، وفَعَلَ الحرام، بخلاف الغرة والتحجيل، فمجرد فضيلة وتشريف لمن توضأ بالفعل، لا لسواه، والذي يظهر أن المراد المتوضئ في حياته، لا من وضأه الغاسل.

ولو تيمم لعذر طول حياته حصلت له السيما لقيامه مقام الوضوء، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم وَضُوءا فقال:"الصعيد الطيب وَضُوء المؤمن". أخرجه النسائي بسند قوي عن أبي ذر رضي الله عنه. اهـ زرقاني ج 1 ص 64.

(وأنا فرطهم على الحوض) تقدم تفسيره قريبا، وإنما كرره تأكيدا. والله أعلم. وبه المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: هذا الحديث. أخرجه مسلم.

ص: 421

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: لم يذكره المصنف إلا في الطهارة -110/ 3 - المجتبى، وفي 96/ 167 - السنن الكبرى. عن قتيبة عن مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم:

أخرجه (م د) فأخرجه (م) في الطهارة، 12/ 7، عن إسحاق بن موسى، عن معن بن عيسى، عن مالك به. وأخرجه (د) في الجنائز، 83، عن القعنبي، عن مالك، به.

وأخرجه مالك 1/ 28، وأحمد، 2/ 300، 375، 408، وابن السني 189، أفاده في إرواء الغليل ج 1 ص 235.

المسألة الرابعة: في فوائده:

يستفاد من هذا الحديث مشروعية زيارة القبور على الوجه المشروع، والسلام على أهلها، والدعاء لهم، وسيأتي تمام البحث في هذا الموضوع في كتاب الجنائز في باب "زيارة القبور"[100] إن شاء الله تعالى.

وفيه تمني لقاء الصالحين، وذكر محاسنهم.

وفيه فضل هذه الأمة المحمدية، وإثبات الحوض، وأنه صلى الله عليه وسلم فرط لأمته، وكفى بهذا شرفا وفخرا، فهنيئا لمن كان صلى الله عليه وسلم فرطه.

وفيه فضل الغرة والتحجيل في الوضوء حيث يكون حلية للمؤمن، يعرف بها يوم القيامة من بين سائر الأمم.

المسألة الخامسة: أنه استدل الحليمي رحمه الله بهذا الحديث، وبحديث الصحيحين "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء" على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة.

ص: 422

قال الحافظ رحمه الله تعالى: وفيه نظر لأنه ثبت عند البخاري في قصة سارة رضي الله عنها مع الملك الذي أعطاها هاجر أن سارة لما هم المَلك بالدنوّ منها قامت تتوضأ، وتصلي، وفي قصة جريج الراهب أنه قام فتوضأ، وصلى، ثم كَلّم الغلام، فالظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل، لا أصل الوضوء، وقد صرح بذلك في رواية لمسلم عن أبي هريرة أيضا مرفوعا: قال: "سيما ليست لأحد غيركم"، وله من حديث حذيفة نحوه، وسيما بكسر السين المهملة وإسكان الياء الأخيرة: أي علامة، وقد اعترض بعضهم على الحليمي بحديث "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي" وهو حديث ضعيف، لا يصح الاحتجاج به، لضعفه، ولاحتمال أن يكون الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاحتمال الثاني يبعده ما تقدم من قصة سارة، وجريج، والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 423

‌111 - بَابُ ثَواب مَنْ أحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على بيان أجر من أحسن في وضوئه بمراعات واجباته وسننه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صلى بعده ركعتين بالصفة الآتية. وليس هذا الباب في الكبرى، وكان الأحسن للمصنف أن يذكر هذا الحديث في باب، 108 (ثواب من توضأ كما أمر) والله أعلم.

151 -

أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، وَأَبِي عُثْمَانَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ".

رجال الإسناد: ثمانية

كلهم تقدموا في 109/ 148 إلا موسى بن عبد الرحمن فتقدم في 74/ 91 وإلا جبير بن نفير الحضرمي: فهو جبير بن نفير بالتصغير فيهما- بن مالك بن عامر الحضرمي الحمصي، ثقة جليل مخضرم من

ص: 424

الثانية، ولأبيه صحبة، فكأنه هو ما وقد إلا في عهد عمر رضي الله، ت سنة -80 - ، وقيل: بعدها.

وفي (تت): أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عبد الله الحمصي، أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرسلا، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي سماعه منه نظر، وعن أبيه، وأبي ذر، وأبي الدرداء، والمقداد بن الأسود، وخالد بن الوليد، وعبادة بن الصامت، وابن عمر، ومعاوية، والنَّوَاس بن سمعان، وثوبان، وعقبة بن عامر الجهني، وخلق.

وعنه ابنه عبد الرحمن، ومكحول، وخالد بن معدان، وأبو الزاهرية، وأبو عثمان، وليس بالنهدي، وحبيب بن عبيد، وصفوان ابن عمرو، وغيرهم.

قال أبو حاتم: ثقة، من كبار تابعي أهل الشام، وقال أبو زرعة: ثقة، وقال أبو زرعة الدمشقي: رفع دُحَيم من شأن جبير بن نفير، وقدم أبا إدريس عليه، وقال النسائي: ليس أحد من كبار التابعين أحسن

رواية عن الصحابة من ثلاثة، قيس بن أبي حازم، وأبي عثمان النهدي، وجبير بن نفير. قال أبو حسان الزيادي مات سنة 75، وكان جاهليا أسلم في خلافة أبي بكر، ويقال: مات سنة 80.

وقال ابن حبان في ثقات التابعين أدرك الجاهلية، ولا صحبة له وقال سليم بن عامر، عن جبير: استقبلت الإسلام من أوله، وقال أبو زرعة: هو أسن من

(1)

إدريس لأنه قد ثبت له إدراك عمر، وسمع كتابه يقرأ بحمص، وقال ابن سعد: كان ثقة فيما يروي من الحديث، وقال ابن خراش: هو من أجل تابعي بالشام، وكذا قال الآجري عن أبي داود، وقال العجلي: شامي تابعي ثقة، وقال يعقوب ابن شيبة: مشهور بالعلم، وذكره الطبري في طبقات الفقهاء. وقال معاوية بن صالح:

(1)

لعله من أبي ادريس.

ص: 425

أدرك إمارة الوليد بن عبد الملك. انتهى، فإن صح ذلك فيكون عاش إلى سنة بضع؛ لأن الوليد ولي سنة -86 - ، والله أعلم. اهـ تت ج 2 ص 64 - 65.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سباعيات المصنف، وأن رواته ثقات غير زيد بن الحباب، ومعاوية بن صالح، فصدوقان، وأنهم ما بين كوفيين: وهما زيد، وموسى، وشاميين: وهم من بعد زيد إلى عقبة، ومصري وهو عقبة رضي الله عنه.

الشرح

(عن عقبة بن عامر الجهني) بضم ففتح نسبة إلى جهينة قبيلة من قضاعة، قاله في اللباب ج 1 ص 317.أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من) شرطية (توضأ، فأحسن الوضوء) بالإسباغ مع مراعات الآداب بلا إسراف، قاله السندي (ثم صلى ركعتين، يقبل عليهما) الجملة صفة لركعتين، وعند مسلم "مقبل عليهما"، أي متوجه على الركعتين (بقلبه ووجهه) قال النووي رحمه الله: جمع صلى الله عليه وسلم بهاتين اللفظتين أنواع الخضوع والخشوع؛ لأن الخضوع في الأعضاء، والخشوع في القلب، على ما قاله جماعة من العلماء. اهـ شرح مسلم ج 3 ص 121.

وقال السندي رحمه الله: الإقبال بالقلب أن لا يغفل عنهما، ولا يتفكر في أمر لا يتعلق بهما، ويصرف نفسه عنه مهما أمكن، والإقبال بالوجه أن لا يلتفت به إلى جهة لا يليق بالصلاة الالتفات إليها، ومرجعه الخشوع والخضوع، فإن الخشوع في القلب، والخضوع في الأعضاء.

قال: يمكن أن يكون هذا الحديث بمنزلة التفسير لحديث عثمان، وهو "من توضأ نحو وضوئي" الخ، وعلى هذا فقوله "أحسن الوضوء" هو

ص: 426

أن يتوضأ نحو ذلك الوضوء، وقوله في حديث عثمان:"لا يحدث نفسه فيهما" هو أن يقبل عليهما بقلبه ووجهه، وقوله في ذلك الحديث:"غفر له" الخ أريد به أنه يجب له الجنة، ولا شك أن ليس المراد دخول الجنة مطلقا، فإنه يحصل بالإيمان، بل المراد دخولا أوليا، وهذا يتوقف على مغفرة الصغائر والكبائر جميعا، بل مغفرة ما يفعل بعد ذلك أيضا، نعم لابد من اشتراط الموت على حسن الخاتمة، وقد يجعل هذا الحديث بشارة بذلك أيضا والله أعلم. اهـ كلام السندي ج 1 ص 95 - 96.

وقوله: (وجبت له الجنة) جواب "من" أي ثبتت له، من قولهم: وجب البيع، والحق، يجب، وُجُوبا، وجبَةً، كعدَة: لزم وثبت. أفاده في المصباح ج 2 ص 648. والله المستعان، عليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث عقبة حديث صحيح.

المسألة الثانية: في بيان موضعه عند المصنف: لم يذكره المصنف إلا في هذا الموضع، المجتبى، 111/ 151.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه (م د) فأخرجه (م) في الطهارة 6/ 1، عن محمَّد بن حاتم، عن ابن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة بن عامر، قال معاوية: وحدثني أبو عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر، قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي فروّحتها بعشي، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يحدث الناس فأدركت من قوله:"ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة". وفيه حديث عقبة بن عامر، عن عمر بن الخطاب

ص: 427

في فضل إسباغ الوضوء، والتشهد بعده. و -6/ 1 - عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، وأبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا.

وأخرجه (د) ني الطهارة -65/ 1 - عن أحمد بن سعيد الهمداني، ووهيب بن بيان، كلاهما عن ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن أبي عثمان -قال أبو القاسم: وأظنه- سعيد بن هانئ، عن جبير بن نفير به. قال معاوية: وحدثني ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة بن عامر به- وفيه حديث عمر، وفي الصلاة -163/ 2 - عن عثمان بن أبي شيبة، عن زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن جبير بن نفير به وليس في حديث عمر. أفاده الحافظ المزي رحمه الله -تحفة- ج 7 ص 304 وأخرجه الدارمي، وأحمد.

المسألة الرابعة: في بعض فوائده. يستفاد من هذا الحديث: الاعتناء بالإحسان في الوضوء، واستحباب ركعتين بعده، وأداؤهما بالخشوع والخضوع، وأن ذلك سبب لوجوب الجنة، وأن من فعل هكذا له البشارة بالموت على الإيمان؛ لأن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة، وهذا هو مأمول كل عاقل، وهو الذي فتت أكباد عباد الله الصالحين، فكل متمنياتهم الموت على الإيمان، فينبغي الحرص على هذا العمل الذي هو سبب الفلاح الأبدي، والنجاح السرمدي، نسأل الله تعالى أن يلهمنا ما فيه الفوز والرشاد، والفلاح في دار المعاد، إنه غني كريم، رؤوف رحيم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ولما أنهى الكلام على الوضوء ومتعلقاته، شرع يبين نواقضه، فقال:

ص: 428

‌بَابُ مَا يَنْقُضُ الوُضُوءَ، ومَا لا يَنْقُضُ

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على الأشياء التي تُخرج الوضوء الشرعي عن كونه مفتاح الصلاة، ومبيحا لها.

وَنَقَضَ ينقُضُ من باب قتل، يقال: نقضت البناء نقضا: إذا هدمته، والنُّقض مثل قُفل وحمل: بمعنى المنقوض، واقتصر الأزهري على الضم، قال: النقض اسم البناء المنقوض إذا هُدمَ، وبعضهم يقتصر على الكسر، ويمنع الضم، والجمع نقوض، ونقضت الحبل نقضا أيضا حللت بَرْمَه، ومنه يقال: نقضت ما أبرمه: إذا أبطلته، وانتقض هو بنفسه، وانتقضت الطهارة بطلت، وانتقض الجرح بعد برئه، والأمر بعد التئامه: فسد. اهـ المصباح بزيادة يسيرة ج 2 ص 622.

وقال بعضهم: النقض إذا أضيف إلى الأجسام يراد بها إبطال تأليفها، وإذا أضيف إلى المعاني يراد به إخراجها عما هي مطلوبة له.

ثم ذكر النواقض في أبواب متتالية فقال:

ص: 429

‌112 - الوُضُوءُ مِنَ المَذْي

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على إيجاب الوضوء من خروج المذي. الوضوء هنا بضم الواو لأن المراد الفعل.

والمذي. ماء رقيق يخرج عند الملاعبة، ويضرب إلى البياض، وفيه ثلاث لغات:

(الأولى) سكون الذال (والثانية) كسرها مع التثقيل (والثالثة) الكسر مع التخفيف، ويعرب في الثالثة إعراب المنقوص. ومَذَى الرجل يَمذي من باب ضرب، فهو مَذَّاء، ويقال: الرجل يَمذي، والمرأة تَقْذي، وأمذى با لألف، ومَذَّى بالتثقيل كذلك. اهـ المصباح ج 2 ص 567.

وفي المنهل: أنه ماء رقيق لَزج يضرب إلى البياض، يخرج من القبل عند ملاعبة من تُشتَهَى، أو تذكّر الجماع، وإرادته، وقد لا يشعر بخروجه، ويكون من الرجل والمرأة، ومن المرأة أكثر، بخلاف الودي

فإنه مماء أبيض ثخين لزج، يخرج من القبل بعد البول غالبا، والمني ماء ثخين يخرج بلذة دفقا غالبا. اهـ ج 2 ص 257.

152 -

أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً، وَكَانَتِ ابْنَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَحْتِي، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَهُ، فَقُلْتُ لِرَجُلٍ جَالِسٍ إِلَى جَنْبِي: سَلْهُ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ:"فِيهِ الْوُضُوءُ".

ص: 430

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(هناد بن السري) بن مصعب التميمي أبو السري الكوفي، ثقة -10 - تقدم. 86/ 106 - . وتقدم أيضًا في 23/ 25.

2 -

(أبو بكر بن عياش) بتحتانية ومعجمة بن سالم، الأسدي الكوفي، المقرئ الحفاظ -بمهملة ونون- مشهور بكنيته، والأصح أنها اسمه، وقيل: اسمه محمَّد، أو عبد الله، أو سالم، أو شعبة، أو رؤبة، أو مسلم، أو خداش، أو مطرف، أو حماد، أو حبيب. عشرة أقوال ثقة عابد، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح، من السابعة، مات سنة -194 - وقيل: قبل ذلك بسنة، أو سنتين، وقد قارب المائة، وروايته في مقدمة مسلم. اهـ "ت" ص 392.

وفي "تت": قال الحسن بن عيسى: ذكر ابن المبارك أبا بكر بن عياش فأثنى عليه، وقال صالح بن أحمد عن أبيه: صدوق صالح صاحب قرآن وخبر. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة، وربما غلط، وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين فأبو الأحوص أحب إليك في أبي إسحاق أو أبو بكر بن عياش؟ قال: ما أقربهما قلت: الحسن بن عياش أخو أبي بكر كيف حديثه؟ قال: هو ثقة، قال عثمان هما من أهل الصدق، والأمانة، وليسا بذاك في الحديث. قال: وسمعت محمَّد بن عبد الله ابن نمير يضعف أبا بكر في الحديث، قلت: كيف حاله في الأعمش؟ قال: هو ضعيف في الأعمش وغيره، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن أبي بكر بن عياش، وأبي الأحوص؟ فقال: ما أقربهما؟ لا أبالي بأيهما بدأت، قال: وسئل أبي عن شريك، وأبي بكر بن عياش أيهما أحفظ؟ فقال: هما في الحفظ سواء، غير أن أبا بكر أصح كتابا، قلت لأبي: أبو بكر، أو عبد الله بن بشر الرَّقّي؟ قال: أبو بكر أحفظ منه

ص: 431

وأوثق، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عدي: أبو بكر هذا كوفي مشهور، وهو يروى عن أجلة الناس، وحديثه سنذكره، وهو من مشهوري مشايخ الكوفة وقرائهم، وكان يحيى القطان، وعلي بن المديني يسيئان الرأي فيه، وذلك أنه لما كبر ساء حفظه، فكان يهم إذا روى، والخطأ والوهم شيئان لا ينفك عنهما البشر، فمن كان لا يكثر ذلك منه، فلا يستحق ترك حديثه بعد تقدم عدالته، وكان شريك يقول: رأيت أبا بكر عند أبي إسحاق يأمر وينهى كأنه رب البيت. مات هو وهارون الرشيد في شهر واحد سنة 193 - ، وكان قد صام سبعين سنة، وقامها، وكان لا يعلم له بالليل نوم. والصواب في أمره مجانبة ما علم أنه أخطأ فيه والاحتجاج بما يرويه، سواء وافق الثقات أو خالفهم، وقال العجلي: كان ثقة قديما صاحب سنة وعبادة، وكان يخطئ بعض الخطأ، تعبد سبعين سنة، وقال ابن سعد: عُمِّرَ حتى كتب عنه الأحداث، وكان من العباد نزل الكوفة في جمادى الأولى في الشهر الذي مات فيه الرشيد، وكان ثقة صدوقا عارفا بالحديث والعلم إلا أنه كثير الغلط، وقال أبو عمر بن عبد البر: إن صح له اسم فهو شعبة، وهو الذي صححه أبو زرعة لرواية أبي سعيد الأشج عن أبي أحمد الزبيري، قال: سمعت سفيان الثوري، يقول للحسن ابن عياش: أقَدمَ شعبة؟ وكان أبو بكر غائبا، قال أبو عمر: كان الثوري وابن المبارك، وابن مهدي يثنون عليه، وهو عندهم في أبي إسحاق مثل شريك، وأبي الأحوص، إلا أنه يهم في حديثه، وفي حفظه شيء. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالحافظ عندهم. قال مهنا: سألت أحمد: أبو بكر بن عياش أحب إليك أو إسرائيل؟ قال: إسرائيل. قلت: لمَ؟ قال: لأن أبا بكر، كثير الخطأ جدا، قلت: كان في كتبه خطأ؟ قال: لا، كان إذا حدث من حفظه، وقال يعقوب بن شيبة:

ص: 432

شيخ قديم معروف بالصلاح البارع، وكان له فقه كثير، وعلم بأخبار الناس، ورواية للحديث يعرف له سنة وفضل، وفي حديثه اضطراب. وقال الساجي: صدوق يَهم، وقال علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد: لو كان أبو بكر بن عياش حاضرا ما سألته عن شيء، ثم قال: إسرائيل فوق أبي بكر، وكان يحيى بن سعيد إذا ذكر عنده كلح وجهه، وقال أبو نعيم: لم يكن في شيوخنا أحد أكثر غلطا منه، وقال البزار: لم يكن بالحافظ وقد حدث عنه أهل العلم، واحتملوا حديثه، وقال ابن المبارك: ما رأيت أحد أسرع إلى السنة من أبي بكر بن عياش. اهـ (تت) باختصار ج 12 ص 34 - 37 أخرج له مسلم في المقدمة، والباقون.

3 -

(أبو حَصين) بفتح المهملة- عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي الكوفي، ثقة ثبت، سني، وربما دلس، من الرابعة، مات سنة -227 - ويقال: بعدها، وكان يقول: إن عاصم بن بهدلة أكبر منه بسنة واحدة.

وفي "صة" الكوفي الفقيه أحد الأئمة الأثبات، عن ابن عباس، وابن الزبير، وأبي عبد الرحمن السلمي، وسويد بن غفلة، وخلق. وعنه مسعر، وشعبة، والسفيانان، وأبو عوانة، وخلق. قال العجلي: كان عالما صاحب سنة. وثقه ابن معين. قال أبو شهاب الحنَّاط: سمعت أبا حَصين يقول: إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر. قال الواقدي: مات سنة -128 - اهـ ج 2 ص 216. أخرج له الجماعة.

4 -

(أبو عبد الرحمن) عبد الله بن حبيب بن رُبَيِّعَةَ السلمي الكوفي المقرئ مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة، ثقة ثبت، من الثانية، مات بعد السبعين. اهـ "ت" ص 170 - 171.

وفي "صة" عبد الله بن حبيب بن ربيعة- بضم المهملة وكسر التحتانية

ص: 433

بينهما موحدة مفتوحة- السلمي أبو عبد الرحمن المقرئ الكوفي.

عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وطائفة، وعنه إبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، وعلقمة بن مرثد وعاصم بن بهدلة. قال أبو إسحاق: أقرأ القرآن أربعين سنة، وقال أبو عبد الله

(1)

: صمت ثمانين رمضانا، وثقه النسائي. قال ابن قانع: مات سنة -85 - .اهـ ج 2 ص 48 - 49.أخرج له الجماعة.

5 -

(علي) بن أبي طالب رضي الله عنه. تقدم في-74/ 91.

لطائف الإسناد

منها أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم كوفيون، وأن فيه أبا حصين مكبرا، ليس في الصحيحين غيره ومن عداه فحصين بالتصغير، كما قال في الألفية:

أَبَا حَصِين اِلأسَديَّ كَبِّر

ثُمَّ رُزَيْقَ بْنَ حُكَيم صَغِّرِ

وأن فيه رواية تابعي، عن تابعي: أبا حصين، عن أبي عبد الرحمن.

وأن الرواة ممن اتفقوا عليهم إلا هنادا، فما أخرج له البخاري إلا في خلق أفعال العباد.

شرح الحديث

(قال علي) بن أبي طالب رضي الله عنه (كنت رجلا مذاء) صيغة مبالغة من المذي، أي كثير المذي، وتقدم تحقيق البحث عن معنى المذي في أول الباب (وكانت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم) هي فاطمة الزهراء رضي الله عنها كما يأتي في الرواية آخر الباب (تحتي) أي في عصمتي بالنكاح (فاستحييت أن أسأله) أي انقبضت، وانزويت من سؤاله لأجله، قال في

(1)

هكذا في الأصل، والصواب كما في (تت) أبو عبد الرحمن.

ص: 434

المصباح: واستحيا منه، واستحييته، وفيه لغتان، إحداهما لغة الحجاز وبها جاء القرآن بياءين، والثانية لتميم بياء واحدة (فقلت لرجل جالس إلى جنبي) هو المقداد بن الأسود، أو عمار بن ياسر كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى (سله) أي اسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكمه (فسأله) عنه (فقال) صلى الله عليه وسلم (فيه الوضوء) مبتدأ وخبر، أي الوضوء الشرعي واجب بسببه،

وإنما قلنا الشرعي، لما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى من قوله:"ويتوضأ وضوءه للصلاة". والله أعلم. وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث علي رضي الله عنه هذا صحيح.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف: ذكر المصنف رحمه الله حديث علي تحت ترجمتين فذكر حديث 172، 173، 175، 176، 177 بهذا الترتيب في باب [112]، الوضوء من المذي، وحديث 174،178،179، 180، 181، ثم 177 بهذا الترتيب في باب 273 باب الوضوء من المذي، وتكرر حديث رقم 174، 177 في كلا البابين، وليس حديث 177، 178، 179، 180، 181 في الكبرى. أفاده محقق السنن الكبرى ج 1 ص 83 - 84، وبقية مسائله تأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى.

153 -

أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ لِلْمِقْدَادِ: إِذَا بَنَى الرَّجُلُ بِأَهْلِهِ فَأَمْذَى، وَلَمْ يُجَامِعْ، فَسَلِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَإِنِّي اَسْتَحِي أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ

ص: 435

وَابْنَتُهُ عِنْدِي. فَسَأَلَهُ؟ فَقَالَ: "يَغْسِلُ مَذَاكِيرَهُ، وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المعروف بابن راهويه، ثقة حجة -10 - تقدم في 2/ 2.

2 -

(جرر) بن عبد الحميد الضبي أبو عبد الله الكوفي ثقة ثبت -8 - تقدم في -2/ 2.

3 -

(هشام بن عروة) المدني ثقة فقيه -5 - تقدم في -49/ 61 -

4 -

(عروة) بن الزبير بن العوام المدني ثقة فقيه -3 - تقدم في -49/ 61 - .

5 -

(علي) رضي الله عنه. تقدم في 74/ 91.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ممن اتفقوا على التخريج لهم، وأنهم ما بين مروزي، وهو إسحاق، وكوفي، وهو جرير، ومدنيين، وهما هشام، وأبوه، وأما علي رضي الله عنه فمدني، كوفي. وأن فيه رواية الابن، عن أبيه.

شرح الحديث

(عن علي رضي الله عنه أنه (قال: قلت للمقداد) بكسر الميم وسكودن القاف وبالمهملتين- ابن عمرو بن ثعلبة، البهراني الكندي، ويقال له: ابن الأسود لأن الأسود بن عبد يغوث رباه، أو تبناه، أو تزوج بأمه، ويقال له: الكندي لأنه أصاب دما في بهراء، فهرب منهم إلى

ص: 436

كندة، فحالفهم، ثم أصاب فيهم دما، فهرب، إلى مكة فحالف الأسود، وهو قديم الصحبة من السابقين في الإسلام، قيل: إنه سادس ستة، شهد بدرا، ولم يثبت أنه شهد فيه فارس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره، وقيل إن الزبير رضي الله عنه أيضا كان فارسا، رُوي له عن رسول صلى الله عليه وسلم اثنان وأربعون حديثا، اتفقا على حديث واحد، ولمسلم ثلاثة، مات بالجُرُف، وهو على عشرة أميال من المدينة، ثم حُمل على رقاب الرجال إليها سنة -33 - في خلافة عثمان، وصلى عليه عثمان رضي الله عنه، وهو ابن [70] سنة، روى له الجماعة

(1)

.

(إذ ابني الرجل بأهله) أي قرب منها، أنه دخل بها، وإن كان أصله لذلك، بدليل قوله: ولم يجامعها.

قال الفيومي رحمه الله: وَبَنَى على أهله: دخل بها، وأصله أن الرجل كان إذا تزوج بني للعرس خباء جديدا، وعمره بما يحتاج إليه، أو بنى له تكريما، ثم كثر حتى كني به عن الجماع، وقال ابن دريد:

بَنَى عليها وبنى بها، والأول أفصح، هكذا نقله جماعة، ولفظ التهذيب: والعامة تقول: بني بأهله، وليس من كلام العرب، قال ابن السكيت: بني على أهله: إذا زفت إليه. المصباح ج 1 ص 63.

وقال ابن منظور رحمه الله بعد حكايته نحو ما تقدم: وقد ورد بَنَى بأهله في شعر جراَن العَوْد، قال:(من الطويل)

بَنَيْتُ بهَا قَبلَ اِلمحَاقِ بلَيْلَةٍ

فَكَانَ محَاقًا كُلُّهُ ذَلكَ الشَهْرُ

قال ابن الأثير: وقد جاء بني بأهله في غير موضع من الحديث وغير الحديث.

وقال الجوهري: لا يقال: بني بأهله، وعاد فاستعمله في كتابه. اهـ لسان ج 14 ص 97.

(1)

راجع "تت" جـ 10 ص 285 - 287.

ص: 437

قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن بني بأهله فصيح لمجيئه في شعر العرب الذي هو ديوان لغتها، وفي الأحاديث بكثرة. كما قال ابن الأثير والله أعلم.

وجواب إذا محذوف، تقديره فماذا عليه؟، يدل عليه قوله: فسل النبي صلى الله عليه وسلم (فأمذى) أي خرج منه ماء أبيض رقيق لزج (ولم يجامع) زوجته، بل حصل منهما ما يوجب المذي من التقبيل أو غيره

(فسل النبي صلى الله عليه وسلم) الفاء تفريعية على الجواب المذكور.

وسل: أمر من سَال يسال، كخاف يخاف.

قال في المصباح: اسأل بهمزة وصل، فإن كان معه واو جاز الهمز، لأنه الأصل، وجاز الحذف للتخفيف، نحو واسألوا وسلوا، وفيه لغة: سأل يسال من باب خاف، والأمر من هذه: سَلْ، وفي المثنى والمجموع: سَلا وَسَلُوا، على غير قياس وسلته أنا، وهما يتساولان. اهـ ج 1 ص 297.

وقوله: على غير قياس: أي لأن القياس يقتضي أن يقال: سالا وسالوا، كقولهم: خافا وخافوا، وقد قال بعضهم: إن هذا الإسناد دليل على أن سأل يسال تخفيف سأل يسأل، ولكن رد عليه بقولهم:

هما يتساولان بالواو، وبقولهم: سلت بكسر السين، ولو كان مخففا عن المهموز لقالوا: يتساءلان، وسَلت بفتح السين. اهـ من هامش المصباح.

وقال العلامة العيني رحمه الله: يقال: سألته الشيء، وسألته عن الشيء سؤالا، وقد يتعدى بنفسه إلى المفعول الأول، وبعن، وبفي إلى المفعول الثاني، وبالعكس. اهـ عمدة ج 2 ص 215 (عن ذلك) أي عن الحكم المذكور. (فإني أستحيي) هكذا بياءين في النسخة الهندية،

ص: 438

وأستحي بياء واحدة في المصرية، وقد تقدم أنهما لغتان: الأُولى لأهل الحجاز، والثانية لتميم، وهذه الجملة علة لأمره بالسؤال، أي لأني أستحيي (أن أسأله) أي النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الحكم، لما بينه بقوله (وابنته تحتي) جملة حالية من المفعول، أي أستحيى عن سؤاله حال كون بنته زوجة لي؛ لأن ذلك مما يستحيى منه عادة (فسأله) أي سأل المقداد النبي صلى الله عليه وسلم عن الحكم (فقال) صلى الله عليه وسلم (يغسل مذاكيره) قيل: هو جمع ذكر على غير قياس، وقيل: جمع لا واحد له، وقيل: واحده مذْكار. قال ابن خروف: وإنما جمعه مع أنه ليس في الجسد منه إلا واحد بالنظر لما يتصل به، وأطلق على الكل اسمه فكأنه جعل كل جزء من المجموع كالذكر في

حكم الغسل. اهـ زهر ج 1 ص 96 - 98.

وقال ابن منظور: والذكر معروف، والجمع ذُكور، ومَذاكير، على غير قياس، كأنهم فرقوا بين الذكر الذي هو الفحل، وبين الذكر الذي هو العضو. وقال الأخفش: هو من الجمع الذي ليس له واحد مثل العباديد والأبابيل

(1)

وفي التهذيب: وجمعه الذِّكَارَة، ومن أجله يُسَمَّى ما يليه المذاكير، ولا يفرد، وإن أفرد، فمُذكَّر، مثل مُقَدَّم، ومَقَاديم. اهـ ج 4 ص 311.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: المشهور في الرواية يَغسلُ بضم اللام على صيغة الإخبار، وهو استعمال لصيغة الإخبار بمعنى الأمر، واستعمال صيغة الإخبار بمعنى الأمر جائز مجازا لما يشتركان فيه من معنى

الإثبات للشيء.

ولو روي: يغسلْ ذكره بجزم اللام على حذف اللام الجازمة، وإبقاء عملها لجاز عند بعضهم على ضعف، ومنهم من منعه إلا لضرورة،

(1)

العباديد والعبابيد: الخيل المتفرقة في ذهابها ومجيئها ولا واحد له. والأبابيل: الفرَق، لا واحد له اهـ لسان و (ق).

ص: 439

كقوله (من الوافر):

مُحَمَّدُ تَفْد نَفْسَكَ كُلُّ نَفْس

إذَا ما خفْتَ منْ أمْر تَبَالا

وأجازه الفراء بلا ضعف، وجعل منه قوله تعالى:{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31]. اهـ إحكام الأحكام بزيادة من حاشيته العدة. ج 1 ص 310 - 311.

قال الجامع: قد وقع عند المصنف في روايات الباب هكذا تقديم غسل الذكر على الوضوء، وهو الأولى، ووقع عند البخاري تقديم الأمر بالوضوء على غسله، قال الحافظ رحمه الله: هكذا وقع في البخاري تقديم الأمر بالوضوء على غسله ووقع في العمدة نسبة ذلك إلى البخاري بالعكس، لكن الواو لا ترتب فالمعنى واحد، وهي رواية الإسماعيلي، فيجوز تقديم غسله على الوضوء، وهو أولى، ويجوز تقديم الوضوء على غسله لكن من يقول بنقض الوضوء بمسه يشترط أن يكون ذلك بحائل، واستدل به ابن دقيق العيد على تعين الماء فيه دون الأحجار ونحوها؛ لأن ظاهره يعين الغسل والمعين لا يقع الامتثال إلا به.

وهذا ما صححه النووي في شرح مسلم، وصحح في باقي كتبه جواز الاقتصار على الأحجار إلحاقا بالبول، وحملا للأمر على الاستحباب، أو على أنه خرج مخرج الغالب، وهذا المعروف في المذهب.

قال الجامع عفا الله عنه: الراجح ما قاله ابن دقيق العيد من تعين الماء عملا بظاهر الحديث والله أعلم.

(يتوضأ وضوءه للصلاة) أي كما يتوضأ إذا قام لها، أنه يجب الوضوء بمجرد خروجه كما قال به قوم، ورد عليهم الطحاوي بما رواه عن علي قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي؟ فقال: "فيه الوضوء، وفي المني الغسل"، فعرف أنه كالبول وغيره من نواقض الوضوء لا يوجب

ص: 440

الوضوء بمجرده. قال الرافعي: وفي قوله: "وضوءه للصلاة" قطع احتمال حمل الوضوء على الوضاءة الحاصلة بغسل الفرج فإن غسل العضو الواحد قد يسمى وضوءا كما ورد "إن الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر"

(1)

والمراد غسل اليد. اهـ زرقاني ج 1 ص 85.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث

أما درجته وبيان مواضعه فقد مر في الحديث الماضي، فنذكر بقية المسائل.

فالمسألة الأولى: فيمن أخرجه: قال العلامة بدر الدين العيني رحمه الله تعالى: أخرجه البخاري في العلم عن مسدد، عن عبد الله بن داود، عن الأعمش، عن منذر الثوري، عن محمَّد بن الحنفية، عن علي رضي الله عنه. وأخرجه أيضا في الطهارة عن قتيبة، عن جرير، قال: ورواه شعبة. وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي بكر، عن وكيع وأبي معاوية، وهشيم، وعن يحيى بن حبيب بن عربي، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، خمستهم عن منذر به. وأخرجه النسائي في الطهارة، وفي العلم (في الكبرى) عن محمَّد بن عبد الأعلى، عن خالد ابن الحارث، وهذا الحديث روي بوجوه مختلفة، فأخرجه مسلم من حديث عبد الله ابن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن سليمان ابن يسار، عن ابن عباس، قال: قال علي رضي الله عنه: أرسلت المقداد بن الأسود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"توضأ وانضح فرجك". وأخرج النسائي عن هناد بن السري، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، قال: قال علي رضي الله عنه: كنت رجلا مذاء، وكانت

(1)

أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال الصغاني: موضوع، وكذا قال الشيخ الألباني، انظر ضعيف الجامع ص 889.

ص: 441

ابنة النبي صلى الله عليه وسلم تحتي، فاستحييت أن أسأله، فقلت لرجل جالس إلى جنبي سله، فسأله؟ فقال:"فيه الوضوء". وأخرج الترمذي عن محمَّد بن عمرو، حدثنا هشيم، عن يزيد بن أبي زياد، وعن محمود بن غيلان، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي؟ فقال: "من المذي الوضوء، ومن المني الغسل". قال: حديث حسن صحيح. وأخرج أحمد في مسنده عن أسود بن عامر، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي رضي الله عنه، قال: كنت رجلا مذاء فإذا مذيت اغتسلت، وأمرت المقداد، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فضحك، فقال:"فيه الوضوء". وأخرج أبو داود: حدثنا قتيبة، عن سعيد، حدثنا عَبيدة بن حُمَيد الحذاء، عن أبي بكر بن الربيع، عن حصين بن قبيصة، عن علي رضي الله هـ عنه. قال: كنت رجلا مذاء، فجعلت أغتسل، حتى تشقق ظهري، قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أو ذكر له؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تفعل، إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك، وتوضأ وضوءك للصلاة، فإذا نَضَحْت الماء فاغتسل". وأخرجه أحمد، والطبراني أيضا. وأخرج النسائي عن قتيبة، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن عايش بن أنس، قال: سمعت عليا رضي الله عنه على المنبر يقول: كنت رجلا مذاء، فأمرت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحييت عنه؛ لأن ابنته كانت تحتي، فأمرت عمارا، فسأله؟ فقال:"يكفي منه الوضوء". وأخرج الطحاوي عن إبراهيم بن أبي داود، حدثنا أمية بن بسطام، قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا روح بن القاسم، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن إياس ابن خليفة، عن رافع بن خديج: أن عليا رضي الله عنه أمر عمارا أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي؟ قال: "يغسل مذاكيره، ويتوضأ"،

ص: 442

وأخرج النسائي عن عثمان بن عبد الله، عن أمية بن بسطام، إلى آخره نحوه. اهـ. عمدة بزيادة يسيرة في أوله ج 2 ص 214 - 215.

المسألة الثانية: في بيان الأحكام المستنبطة من هذا الحديث:

قال العلامة بدر الدين العيني رحمه الله تعالى:

الأول: فيه دليل على أن المذي لا يوجب الغسل، بل يوجب الوضوء، فإنه نجس، ولهذا يجب منه غسل الذكر، والمراد منه عند الشافعي غسل ما أصابه منه، واختلف عن مالك في غسل الذكر كله، قال عياض: والخلاف مبني على أنه هل يتعلق الحكم بأول الاسم، أو بآخره، لقوله صلى الله عليه وسلم:"يغسل ذكره" واسم الذكر يطلق على البعض، وعلى الكل، واختلف عن مالك أيضا هل يحتاج إلى النية أم لا؟، وعن الزهري: لا يغسل الأنثيين من المذي إلا أن يكون أصابهما شيء، وفي المغني لابن قدامة: المذي ينقض الوضوء، وهو ما يخرج لزجا متسبسبا

(1)

عند الشهوة فيكون على رأس الذكر، واختلف الرواية في حكمه: فروي أنه يوجب الوضوء، وغسل الذكر، والأنثيين، والرواية الثانية: لا يجب أكثر من الاستنجاء، والوضوء. وقال أبو عمر: المذي عند جميعهم يوجب الوضوء ما لم يكن خارجا عن علة باردة وزَمَانَة، فإن كان كذلك فهو أيضا كالبول عند جمعيهم، فإن كان سلسا لا ينقطع فحكمه حكم سلس البول عند جميعهم أيضا إلا أن طائفة توجب الوضوء على من كانت هذه حاله لكل صلاة قياسا على المستحاضة عندهم، وطائفة تستحبه ولا توجبه، وأما المذي المعهود والمتعارف وهو الخارج عند ملاعبة الرجل أهله لا يجرى من اللذة، أو لطول عُزْبة فعلى

هذا المعنى خروج سؤال علي رضي الله عنه، وعليه يقع الجواب، وهو

(1)

أي مسترسلا.

ص: 443

موضع إجماع لا خلاف بين المسلمين في إيجاب الوضوء منه، وإيجاب غسله لنجاسته.

الثاني: فيه جواز الاستنابة في الاستفتاء، وأنه يجوز الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع لأن عليا رضي الله عنه بعث من يسأل له مع القدرة على المشافهة، قال بعضهم: لعل عليا رضي الله عنه كان حاضرا وقت السؤال، فلا دليل عليه، لكن يضعف هذا قوله في بعض طرقه "فأرسلنا المقداد"، وفي هذا إشارة إلى أنه لم يحضر مجلس السؤال، قال العيني: فيه نظر لأنه يجوز أن يكون قد حضره بعد إرساله المقداد. وقال المازري: لم يتبين في هذا الحديث كيف أمره أن يسأل؟ ولا كيفية سؤال المقداد، هل سأله سؤالا يخص المقداد، أو يعمه وغيره، فإن كان علي رضي الله عنه لم يسأل على أي وجه وقع السؤال ففيه دليل على أن عليا رضي الله عنه كان يرى أن القضايا تتعدى، وقد

اختلف أهل الأصول؛ لأنه لو كان لا يتعدى لأمره أن يسميه، إذ قد يجوز أن يحيى له ما لا يبيح لغيره، لكنه قد جاء مبينا في الصحيح "فسأله المقداد عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل به؟ فقال:"توضأ، وانضح فرجك" قال العيني: قد جاء مبينا كلاهما: أمر علي، وسؤال المقداد، أما الأول ففي الموطأ "أن عليا رضي الله عنه أمر المقداد أن يسأل له رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل إذا دنى من أهله، فخرج منه المذي ماذا عليه؟ قال المقداد: فسألته عن ذلك". وجاء أيضا في النسائي ما يثبت الاحتمال المتقدم: "فقلت لرجل جالس إلى جنبي سله؟ فقال: "فيه الوضوء".

الثالث: فيه حسن العشرة مع الأصهار، وأن الزوج ينبغي أن لا يذكر ما يتعلق بالجماع والاستمتاع بحضرة أبوي المرأة وغيرهما من أقاربها، لأن المعنى أن المذي يكون غالبا عند ملاعبة الزوجة.

ص: 444

الرابع: احتج به أبو حنيفة، والشافعي رحمهما الله على وجوب الوضوء من المذي مطلقا، سواء كان عن ملاعبة أو استنكاح، أو غيره وقال أصحاب مالك: المراد به ما كان عن ملاعبة، واستدل عياض وغيره لذلك بما وقع في الموطأ في الحديث أنه قال في السؤال عن الرجل إذا دنى من أهله، وأمذى ماذا عليه؟ قال: فجواب النبي صلى الله عليه وسلم في مثله في المعتاد بخلاف المستنكح، والذي به علة فإنه لا وضوء عليه، قالوا: وإنما يتوضأ مما جرت العادة به أن يخرج من لذة، وقال القاضي عبد الوهاب مؤيدا لمذهبهم: السؤال صدر عن المذي الخارج على وجه اللذة، لقوله "إذا دنى من أهله" وأيضا مما يدل عليه استحياء علي رضي الله عنه؛ لأنه لو كان علي مَرضَ أو سَلسَ لم يستح من ذلك.

قال العيني: فيما قالوا نظر؛ لأن سؤال المقداد النبي صلى الله عليه وسلم أولا مطلق غير مقيد، فإنه جاء في الصحيح فسأله عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل به؟ قال:"اغسل ذكرك، وتوضأ" فالحكم متعلق بسؤال المقداد الذي وقع الجواب عنه، فصار أمر علي رضي الله عنه أجنبيا عن الحكم،

وقول القاضي عبد الوهاب حكاية قول علي للمقداد، وهو حاضر، وأما سؤال المقداد فكان عاما، وهو من فقه المقداد، فوقع السؤال من المقداد عاما، والجواب من النبي صلى الله عليه وسلم مترتب عليه، والتمسك بقول المقداد فسألته عن ذلك لا يعارض النص بصريح سؤاله، والأول محتمل للتأويل في تعيين ما يرجع الإشارة إليه، وأما ثانيا فإنه قد جاء في سنن أبي داود ما يدل على خلافه وهو من علي رضي الله عنه قال:"كنت رجلا مذاء، فجعلت أغتسل، حتى تشقق ظهري" فهذا يدل على كثرة وقوعه منه ومعاودته، وجاء أيضا أن عليا أمر عمارا أن يسال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال:"يغسل ذكره ويتوضأ". وفي بعضها: "كنت رجلا مذاء فأمرت عمار بن ياسر يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل ابنته عندي". وفي بعض

ص: 445

طرقه في أبي داود: "فليغسل ذكره وأنثييه" وعن عائشة رضي الله عنها وغيرها أنه يجب غسل أنثييه، وهذا خلاف قول الجمهور، وأول الجمهور، هذه الرواية على الاستظهار، وفي بعض أحوال انتشاره، ويقال: إن الماء البارد إذا أصاب الأنثيين رد المذي وكسره على أن الحديث الذي فيه هذه الزيادة قد علل بالإرسال وغيره. اهـ كلام العيني عمدة جـ 2 ص 215 - 217 ببعض إصلاح لأخطاء وقع في نقل كلام صاحب المغني. والله المستعان، وعليه التكلان.

154 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ يَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ ابْنَتِهِ عِنْدِي، فَقَالَ:"يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(قتيية بن سعيد) أبو رجاء البغلاني ثقة ثبت [10] تقدم في 1/ 1، وفي 89/ 110.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام العلم الحجة ثقة ثبت [8] تقدم في 1/ 1، وفي 20/ 21.

3 -

(عمرو) بن دينار المكي أبو محمَّد الأثرم الجمحي مولاهم، ثقة ثبت، من الرابعة، مات سنة-126.

وفي "صة" أحد الأعلام، عن العبادلة، وكريب، ومجاهد، وخلق.

وعنه قتادة، وأيوب، وشعبة، والسفيانان، والحمادان، وخلق. قال

ص: 446

ابن المديني: له خمسمائة حديث. قال مسعر: كان ثقة ثقة ثقة. قال الواقدي: مات سنة [115]

(1)

وقال ابن عيينة: في أول سنة -16 - اهـ ج 2 ص 284.

4 -

(عطاء) بن أبي رباح -بفتح الراء، والموحدة- واسم أبي رباح: أسلم القرشي مولاهم المكي، ثقة فقيه فاضل، لكنه كثير الإرسال، من الثالثة، مات سنة -114 - على المشهور، وقيل: إنه تغير بآخره، ولم يكن ذلك منه. اهـ "ت" ص 239. وفي "صة" أبو محمَّد الجَنَدي اليماني نزيل مكة، وأحد الفقهاء والأئمة، عن عثمان، وعتاب بن أسيد مرسلا، وعن أسامة بن زيد، وعائشة، وأبي هريرة، وأم سلمة، وعروة بن الزبير، وطائفة. وعنه أيوب، وحبيب بن أبي ثابت، وجعفر بن محمَّد، وجرير بن حازم، وابن جريج، وخلق. قال ابن سعد: كان ثقة عالما كثير الحديث، انتهت إليه الفتوي بمكة، وقال أبو حنيفة: ما لقيت أفضل من عطاء. وقال ابن عباس -وقد سئل عن شيء-: يا أهل مكة تجتمعون علي، وعندكم عطاء. وقيل: إنه حج أكثر من سبعين حجة. قال حماد بن سلمة: حججت سنة مات عطاء سنة -114 - اهـ ج 2 ص 230، أخرج له الجماعة.

5 -

(عائش بن أنس) البكري الكوفي مقبول، من الثالثة، وفي (تت): روى عن علي، وعمار، والمقداد، رضي الله عنهم. وعنه عطاء بن أبي رباح. ذكره ابن حبان في الثقات. اهـ ج 5 ص 89.انفرد به المصنف.

6 -

(علي) بن أبي طالب رضي الله عنه. تقدم في 74/ 91.

لطائف الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواته ثقات، غير عائش فمقبول،

(1)

هكذا في "صة" وفي "تت" سنة -5 - أو -126 - وفي "ت"- سنة 126.

ص: 447

وأنهم ممن اتفقوا على التخريج لهم غير عائش أيضا فقد انفرد به المصنف، وأنهم ما بين بغلاني، وهو قتيبة، ومكيين: وهم سفيان وعمرو، وعطاء، وكوفيين، وهما عائش، وعلي رضي الله عنه. وفيه رواية ثلاثة من التابعين، بعضهم، من بعض: عمرو، وعطاء، وعائش.

شرح الحديث

(عن عاش بن أنس) البكري (أن عليا) رضي الله عنه (قال: كنت وجلا مذاء) أي كثير المذي (فأمرت عمار بن ياسر) بن عامر بن الحُصين ابن قيس بن عوف بن يَام بن عَنْس، العنسي -بنون- أبو اليقظان، مولى بني مخزوم، صحابي جليل، شهد بدرا، والمشاهد، وكان أحد السابقين الأولين. له اثنان وستون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد (خ) بثلاثة، ومسلم بحديث. وعنه ابنه محمَّد، وابن عباس، وأبو وائل. قال علي رضي الله عنه: استأذن عمار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مرحبا بالطيب المطيب". قتل بصفين مع علي رضي الله عنهما سنة 37. أخرج له الجماعة.

(يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) بتقدير "أن" المصدرية مجرور بباء مقدرة؛ لأن أمر يتعدى بالباء، أي أمرته بسؤاله صلى الله عليه وسلم عن حكم المذي. وقد تقدم أنه أمر المقداد، ووقع في رواية لابن حبان، والإسماعيلي أنه قال:"سألت" قال الحافظ رحمه الله تعالى: وجمع ابن حبان بين هذا الاختلاف بأن عليا أمر عمارا أن يسأل، ثم أمر المقداد بذلك، ثم سأل بنفسه. وهو جمع جيد إلا بالنسبة إلى آخره لكونه مغايرا لقوله: إنه استحيا عن السؤال بنفسه لأجل فاطمة، فيتعين حمله على المجاز بأن بعض الرواة أطلق أنه سأل، لكونه الآمر بذلك، وبهذا جزم الإسماعيلي، ثم النووي، ويؤيده أنه أمر كلا من المقداد وعمار بالسؤال عن ذلك ما رواه

ص: 448

عبد الرزاق من طريق عائش بن أنس قال: "تذاكر علي، والمقداد، وعمار المذي، فقال: على إنني رجل مذاء فاسألا عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله أحد الرجدين"، وصحح ابن بشكوال أن الذي تولىَّ السؤال عن ذلك هو المقداد، وعلى هذا فنسبة عمار إلى السؤال عن ذلك محمولة على المجاز أيضا لكونه قصده، لكن تولى المقداد الخطاب دونه. والله أعلم. اهـ فتح ج 1 ص 452.

قال الجامع عفا الله عنه:

عندي أن جمع ابن حبان بأنه أمرهما، فسأل كل منهما عن ذلك، ثم تولى بنفسه ليتثبت، غير بعيد أيضًا ولا ينافيه قوله: أستحي لأنه استحيا أولا، ثم فكر بأن هذا أمر ديني لا ينبغي الحياء فيه، فتولى السؤال بنفسه، كما قالت أم سليم رضي الله عنها: إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل

الحديث. والله أعلم.

(من أجل ابنته عندي) الجار والمجرور متعلق بأمرت، أي إنما أمرته بذلك لأجل كون ابنته فاطمة رضي الله عنها زوجتي، إذ العادة أن ذلك مما يورث الحياء (فسأله عمار عن ذلك فقال) صلى الله عليه وسلم (يكفي من ذلك) أي من المذي (الوضوء) المعهود، وهو الشرعي، لما تقدم من قوله ويتوضأ وضوءه للصلاة، وقوله: يكفي أي بالنسبة للغسل، فلا ينافي ما يأتي من قوله "يغسل مذاكيره" فالواجب على من أمذى غسل الذكر، والوضوء.

والمسائل المتعلقة بهذا الحديث مضى معظمها، ويأتي ما بقي إن شاء الله تعالى. والله المستعان، وعليه التكلان.

ص: 449

155 -

أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا

(1)

أُمَيَّةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا

(2)

رَوْحَ بْنَ الْقَاسِمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ عَمَّارًا أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَذْيِ، فَقَالَ:"يَغْسِلُ مَذَاكِيرَهُ، وَيَتَوَضَّأُ".

رجال الإسناد: تسعة

1 -

(عثمان بن عبد الله) بن محمَّد بن خُرَّزاذ -بضم المعجمة، وتشديد الراء

(3)

بعدها زاي-، ثقة، من صغار الحادية عشرة، مات سنة -281 - وقيل: في أول التي بعدها.

وفي "صة": أبو عمرو الحافظ، البصري، نزيل أنطاكية. عن سليمان بن حرب، ومسدد، وأبي الوليد، وعفان، وخلق. وعنه النسائي. قال الحاكم: ثقة مأمون. قال عمرو بن دحيم: مات سنة- 282. اهـ ج 2 ص 217.

2 -

(أمية) بن بسطام العيشي -بالياء والشين المعجمة- بصري يكنى أبا بكر، صدوق، من العاشرة، مات سنة- 231، وفي (تت): أمية ابن بسطام بن المنتشر العيشي، أبو بكر البصري، ابن عم يزيد بن زريع. روى عنه، وعن ابن عيينة، ومعتمر بن سليمان، وبشر بن الفضل،

(1)

وفي نسخة "أنبأنا".

(2)

وفي نسخة "أن روح بن القاسم حدثه".

(3)

وفي (صة) بضم المعجمة وفح المهملة الشديدة ثم معجمتين بينهما ألف. اهـ. ج 2 ص 217.

ص: 450

وغيرهم، وعنه الشيخان، ورَوَى عنه النسائي بواسطة عثمان بن خرزاذ، وروى عنه أبو زرعة، وأبو حاتم، والبوشنجي، وابن أبي عاصم، والدُّوريّ، وتمتام، والحسن بن سفيان وأبو يعلى، وغيرهم. قال أبو حاتم: محله الصدق، ومحمد بن منهال أحب إليّ منه اهـ ج 1 ص 370. أخرج له البخاري، ومسلم، والمصنف.

3 -

(يزيد بن زريع) بتقديم الزاي مصغرا، البصري، أبو معاوية، ثقة ثبت من الثامنة، مات سنة 182 وتقدم في 5/ 5، وفي 87/ 108، أخرج له الجماعة.

4 -

(روح بن القاسم) التميمي العنبري، أبو غياث -بالمعجمة والمثلثة- البصري، ثقة حافظ، من السادسة، مات سنة -141 - أرخه ابن حبان. رَوَى عن عمرو بن دينار، ومنصور بن المعتمر، وقتادة. وعنه يزيد بن زريع، وابن علية، وعون بن عمارة. قال ابن المديني: له نحو مائة وخمسين حديثا. ووثقه أحمد. مات بعد الخمسين ومائة. أخرج له الجماعة إلا الترمذي.

5 -

(ابن أبي نجيح) بفتح النون مكبرا- هو عبد الله، واسم أبيه يسار المكي، أبو يسار الثقفي، مولاهم، ثقة رمي بالقدر، وربما دلس، من السادسة، مات سنة -131 - أو بعدها.

روى عن طاوس، ومجاهد. وعنه عمرو بن شعيب، أكبر منه وأبو إسحاق الفزاري، وشعبة. وثقه أحمد. روى عنه ابن عيينة. قال: مات سنة -131 - أخرج له الجماعة.

6 -

(عطاء) بن أبي رباح تقدم قريبا. في 154.

7 -

(إياس بن خليفة) البكري، مكي، صدوق، من الثالثة.

وفي (تت): حجازي. روى عن رافع بن خديج. وعنه عطاء بن أبي رباح. روى له النسائي حديثا واحدا في الطهارة. قال الحافظ رحمه الله: وذكره ابن حبان في الثقات، وقال العقيلي: في حديثه وهم،

ص: 451

وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من التابعين من أهل مكة، وقال: كان قليل الحديث. انفرد به المصنف.

8 -

(رافع بن خديج) مكبرًا- بن رافع بن عدي بن تزيد بن جشم ابن حارثة، الأوسي، صحابي شهد أحدا وما بعدها، له ثمانية وسبعون حديثا، اتفقا على خمسة، وانفرد (م) بثلاثة، وعنه ابنه رفاعة، وبشر ابن يسار، وسليمان يسار، وطاوس. قال خليفة: مات سنة -74 - أخرج له الجماعة

وأما علي، وعمار، فقد تقدما قريبًا.

لطائف الإسناد

منها: أنه من تُساعياته، وأن رواته كلهم ثقات غير إياس فصدورق، وأنهم ما بين بصريين، وهم عثمان وأمية، ويزيد، ورَوْح، ومكيين: وهم ابن أبي نجيح، وعطاء، وإياس، وفيه رواية تابعي، عن تابعي.

شرح الحديث

(عن رافع بن خديج) بفتح الخاء المعجمة مكبرا (أن عليا أمر عمارا) رضي الله عنهم (أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن) حكم (المذي) تقدم ضبطه، ومعناه أول الباب، أي أمره بالسؤال هل فيه غسل أم لا؟ (فقال) صلى الله عليه وسلم (يغسل مذاكيره) تقدم أنه جمع ذكر على غير قياس، وهو برفع "يغسل" على صيغة الإخبار لكن معناه الأمر، واستعمال الإخبار بمعنى الأمر كثير كما في قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] أفاده في العدة ج 1 ص 10 ثم إن ظاهره يدل على وجوب غسل جميع الذكر، وإليه ذهبت المالكية، قالوا: لأن اسم الذكر حقيقة في العضو كله، وبنوا على ذلك هل يحتاج إلى نية في غسله؟ فذكروا في ذلك قولين، أشهرهما وجوب النية لأنها طهارة تعبدية، والطهارة التعبدية تحتاج إلى

ص: 452

نية. وعن أحمد روايتان: أحدهما غسل الذكر وحده، والأخرى غسله مع الأنثيين، يدل له حديث الأمر بغسل الذكر والأنثيين. أفاده في المنهل ج 1 ص 258.

(ويتوضأ) أي وضوء الصلاة، هكذا هنا بلفظ الغيبة، ووقع عند البخاري في حديث المقداد بلفظ "توضأ" بصيغة أمر الواحد، فقال الحافظ رحمه الله: يشعر بأن المقداد سأل لنفسه، ويحتمل أن يكون سأل لمبهم، أو لعلي فوجه النبي صلى الله عليه وسلم الخطاب إليه، والظاهر أن عليا كان حاضر

السؤال، فقد أطبق أصحاب المسانيد والأطراف على إيراد هذا الحديث في مسند علي، ولو حملوه على أنه لم يحضر لأوردوه في مسند المقداد، ويؤيده ما في رواية النسائي من طريق أبي بكر بن عايش، عن أبي حصين في الحديث عن علي، قال:"فقلت لرجل جالس إلى جنبي: سله، فسأله" ووقع في رواية مسلم: فقال: "يغسل ذكره ويتوضأ" بلفظ الغائب، فيحتمل أن يكون سؤال المقداد وقع على الإبهام وهو الأظهر، ففي مسلم أيضا "فسأله عن المذي يخرج من الإنسان" وفي الموطأ نحوه، ووقع في رواية لأبي داود، والنسائي، وابن خزيمة ذكر سبب ذلك من طريق حصين بن قبيصة عن علي قال: كنت رجلا مذاء، فجعلت أغتسل منه في الشتاء حتى تشقق ظهري، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تفعل" ولأبي داود وابن خزيمة من حديث سهل بن حنيف أنه وقع له نحو ذلك، وأنه سأل عن ذلك بنفسه. اهـ فتح ج 1 ص 452.

قال الجامع: مسائل هذا الحديث مضى بعضها، ويأتي الباقي إن شاء الله تعالى. والله المستعان، وعليه التكلان.

156 -

أَخْبَرَنَا عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: عَنْ مَالِكٍ -وَهُوَ ابْنُ أَنَسٍ-، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ

ص: 453

الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ: أَنَّ عَلِيًّا أَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ إِذَا دَنَا مِنْ أَهْلِهِ، فَخَرَجَ مِنْهُ الْمَذْيُ مَاذَا عَلَيْهِ؟ فَإِنَّ عِنْدِي ابْنَتَهُ، وَأَنَا أَسْتَحِي أَنْ أَسَأَلَهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:"إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَنْضَحْ فَرْجَهُ، وَيَتَوَضَّأْ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(عتبة بن عبد الله المروزى) ابن عتبة اليحمدي، أبو عبد الله، صدوق من العاشرة، مات سنة- 244. وتقدم في -81/ 98 - (س)

2 -

(مالك) بن أنس الإمام العلم الحجة الثبت الفقيه -7 - تقدم في 7/ 7 وفي -19/ 20.

3 -

(أبو النضر) سالم بن أبي أمية المدني التيمي مولى عمر بن عُبيد الله التيمي. رَوَى عن أنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى، وعوف بن مالك، والسائب بن يزيد، وسعيد بن المسيب، وغيرهم. وعنه مالك، والسفيانان، وابن جريج، والليث، وآخرون- وثقه أحمد، وابن معين، والعجلي، والنسائي، وأبو حاتم، وقال: حسن الحديث. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة ثبت، توفي سنة 129

روى له الجماعة. وتقدم في 96/ 121.

4 -

(سليمان بن يسار) أبو أيوب، ويقال: أبو عبد الرحمن، أو أبو عبد الله، مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، المدني أحد الفقهاء السبعة. روى عن زيد بن ثابت، وعائشة، وميمونة، وابن عباس، وأبي

ص: 454

هريرة، وجابر بن عبد الله، وغيرهم من الصحابة. وعنه عمرو بن دينار، ومكحول، وعمرو بن ميمون، والزهري، ويحيى الأنصاري، ونافع مولى ابن عمر، وآخرون. قال أبو زرعة: ثقة مأمون فاضل، وقال النسائي: هو أحد الأئمة، وقال العجلي: مدني تابعي ثقة فاضل عابد وقال ابن سعد: كان ثقة عالما رفيعا فقيها كثير الحديث. قيل مات سنة، 109، عن 74 سنة. روى له الجماعة.

5 -

(المقداد بن الأسود) هو المقداد بن عمرو المتقدم قريبا، وإنما نسب إلى الأسود؛ لأنه تبناه، وذلك أن عمرو بن ثعلبة أصاب دما في قومه، فلحق بحضرموت فحالف بني كندة، فكان يقال له: الكندي، وتزوج هناك امرأة فولدت له المقداد، فلما كبر المقداد وقع بينه وبين أبي شمر بن حجر الكندي نزاع فضرب المقداد، رجله بالسيف، وهرب إلى مكة، فحالف الأسود بن عبد يغوث الزهري، وكتب إلى أبيه، فقدم عليه، فتبنى الأسود المقداد، فصار يقال له: المقداد بن الأسود، واشتهر بذلك، فلما نزلت {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5]، قيل له المقداد بن عمرو. اهـ المنهل ج 2 ص 260.

لطائف الإسناد

منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات غير عتبة فصدوق، وكلهم مدنيون غير عتبة أيضا فمروزي، كما نسبه المصنف، وأنهم ممن اتفقوا على التخريج لهم غير عتبة، فمن أفراد المصنف، وفيه قوله:"وهو ابن أنس" وتقدمت القاعدة في مثله غير مرة، وفيه سليمان بن يسار أحد الفقهاء السبعة المجموعين في قوله:

ألَا إنَّ مَنْ لا يَقْتَدي بأئمَّةِ

فَقسْمَتُهُ ضيزَى عَن الحَقِّ خَارِجَهْ

فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ الله عُرْوَة قَاسمٌ

سَعيدٌ أبُو بَكْر سُلَيمَانُ خَارِجَه

وفيه رواية تابعي، عن تابعي: أبو النضر، عن سليمان.

ص: 455

شرح الحديث

(عن المقداد بن الأسود) هو ابن عمرو بن ثعلبة رضي الله عنه (أن عليا) رضي الله عنه (أمره) أي طلب منه (أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) إنما أمره بذلك لما يذكره من الاستحياء (عن الرجل إذا دنا من أهله) أي قرب من زوجته لمداعبة، لا لجماع (فخرج منه المذي) لأنه يكون غالبا عند ملاعبة الزوجة وتقبيلها ونحو ذلك من أنواع الاستمتاع، قاله في المنهل (ماذا عليه) أيْ أيّ شيء عليه أغسل، أم وضوء؟ ثم بين سبب الأمر بالسؤال من دون أن يتولى بنفسه فقال (فإن عندي ابْنَتَه) فاطمة الزهراء رضي الله عنها (وأنا أستحي) في النسخة المصرية بياء واحدة، وتقدم أنها لغة تميم، وبها قرأ ابن كثير في رواية قنبل عنه {إن الله لا يستحي} [البقرة: 26] قاله الصنعاني في العدة ج 1 ص 308. وفي الهندية بياءين، وهي لغة الحجاز.

والحياء بالمد في اللغة: تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به. وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه.

وقال الراغب: إنه انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان. وقال غيره: هو انقباض النفس خشية ارتكاب ما يكره، أعم من أن يكون شرعيا، أو عرفيا، أو عقليا. وفيه تعاريف أخر. وفي الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. اهـ العدة بتصرف ج 1 ص 307.

وفيه استعمال الأدب ومحاسن العادات في ترك المواجهة بما يُستحى منه عرفا. قاله ابن دقيق العيد (أن أسأله) أي أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فقال المقداد رضي الله عنه (فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك) أي عن

ص: 456

حكمه (فقال) صلى الله عليه وسلم (إذا وجد أحدكم ذلك) أي المذي (فلينضح) بفتح الضاد وكسرها، يقال: نضحت الثوب من باب ضرب ونفع، وهو البل بالماء. قاله في المصباح. ج 2 ص 609. قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله: يراد به هنا الغسل لأنه المأمور به مبينا في الرواية الأخرى، ولأن غسل النجاسة المغلظة لابد منه، ولا يكفي فيه الرش الذي هو الغسل، والرواية "وانضح" بالحاء المهملة، لا نعرف غيره، ولو روى "انضخ" بالخاء المعجمة لكان أقرب إلى معنى الغسل، فإن النضخ بالمعجمة أكثر من النضح بالمهملة. اهـ إحكام ج 1 ص 311.

(فرجه) أي ذكره، لما في الرواية الأخرى "اغسل ذكرك" قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: الفرج هنا هو الذكر والصيغة لها وضعان: لغوي وعرفي، فأما اللغوي: فهو مأخوذ من الانفراج، فعلى هذا يدخل فيه الدبر، ويلزم منه انتقاض الطهارة بمسه، لدخوله تحت قوله "من مس فرجه فليتوضأ". وأما العرفي: فالغالب استعماله في القبل من الرجل والمرأة. والشافعية استدلوا في انتقاض الوضوء بمس الدبر بالحديث، وهو قوله "من مس فرجه" فيحتمل أن يكون ذلك لأنه لم يثبت في ذلك عند المستدل به عرف يخالف الوضع، ويحتمل أن يكون ذلك لأنه ممن يقدم الوضع اللغوي على الاستعمال العرفي. اهـ إحكام ج 1 ص 316 - 317 (ويتوضأ وضوءه للصلاة.) لأنه من نواقض الوضوء.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: هو حديث صحيح

المسألة الثانية: فيمن أخرجه مع المصنف: أخرجه مالك في الموطأ،

وابن ماجه، والترمذي، والطحاوي، والبيهقي، وقال: هكذ ارواه

ص: 457

أبو النضر عن سليمان، ورواه بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان، عن ابن عباس موصولا، وذكره بسنده إلى ابن عباس قال: قال علي رضي الله عنه: أرسلت المقداد بن الأسود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل به؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"توضأ، وانضح فرجك" رواه مسلم في الصحيح. اهـ قال المنذري قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: حديث سليمان بن يسار عن المقداد مرسل، لا نعلم سمع منه شيئا. اهـ وقال العيني: قد ذكر صاحب الكمال أن سليمان بن يسار سمع المقداد بن الأسود. اهـ المنهل ج 2 ص 261 - 262.

قال الجامع عفا الله عنه: قد ذكر الحافظ رحمه الله في (تت) عن ابن حبان أنه قال: كان مولد سليمان سنة -24 - وأخرج في صحيحه حديثه عن المقداد، وقال: قد سمع سليمان من المقداد، وهو ابن دون عشر

سنين اهـ. ج 4 ص 229

المسألة الثالثة: في الأحكام المستنبطة من هذا الحديث:

يستفاد منه أنه يطلب من الجاهل بالحكم سؤال العلماء، وأن العالم بالحكم عليه أن يجيب، ومعاملة الأصهار بالحياء فيما يتعلق بأمر مباشرة النساء، وكون المذي نجسا، قال الشوكاني رحمه الله: اتفق العلماء على نجاسته، ولم يخالف إلا بعض الإمامية محتجين بأن النضح لا يزيله، ولو كان نجسا لو جبت الإزالة، ويلزمهم القول بطهارة العذرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمسح النعل منها بالأرض، والصلاة فيها، والمسح لا يزيلها، وهو باطل بالاتفاق. اهـ.

المسألة الرابعة: اختلف العلماء في إزالته من الثوب:

فقال الأكثرون: لا يجزئه إلا الغسل، وحملوا النضح في هذه الرواية

ص: 458

على معنى الغسل، قال النووي رحمه الله: معنى "انضح فرجك" اغسله، فإن النضح يكون غسلا، ويكون رشًا، وقد جاء في الرواية الأخرى "يغسل ذكره"، فتعين حمل النضح عليه. اهـ. وقال بعضهم يجزئه الرش، وهذا هو الذي رجحه الشوكاني وقال: قد ثبت من رواية الأثرم بلفظ "فترش عليه" وليس المصير إلى الأشد بمتعين، بل ملاحظة التخفيف من مقاصد الشريعة المألوفة، فيكون الرش مجزئا كالغسل اهـ.

وقال في المنهل: والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن المراد بالنضح الغسل، ولا يكفي فيه الرش الخفيف، وأن معنى الرش في رواية الأثرم صب الماء قليلا قليلا، فهو لا ينافي الغسل، قال في المجمع في الحديث "رش على رجله" أي صب الماء قليلا قليلا تنبيها على الحذر من الإسراف ثم قال: ومنه "كانت الكلاب تقبل، وتدبر في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئا" أي لا ينضحونه بالماء بمعنى أنهم لا يصبون عليه الماء لا قليلا، ولا كثيرا، فلفظ الرش لا يقتضي كونه مجزئا. اهـ. ج 2 ص 266.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر ما قاله في المنهل؛ لأن رواية "يغسل مذاكيره" مبينة لمعنى النضح والرش، والله أعلم. وعليه التكلان.

157 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةَ

(1)

، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُنْذِرًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: اسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَذْيِ مِنْ أَجْلِ فَاطِمَةَ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ

(2)

فَسَأَلَهُ، فَقَالَ:"فِيهِ الْوُضُوءُ".

(1)

وفي نسخة "عن شعبة.

(2)

وفي نسخة "فأمرت المقداد بن الأسود".

ص: 459

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(محمَّد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري ثقة من العاشرة. مات سنة 245. وتقدم في 5/ 5 وفي 53/ 67.

2 -

(خالد) بن الحارث بن عبيد، الهجيمي أبو عثمان البصري ثقة ثبت من الثامنة مات سنة -186 - وتقدم في-53/ 67. وفي 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الواسطي البصري الحجة ثقة ثبت -7 - تقدم في 86/ 106 أو في 24/ 26.

4 -

(سليمان) بن مهران الأعمش، ثقة حافظ -5 - تقدم في 17/ 18.

5 -

(منذر) بن يعلى الثوري -بالمثلثة- أبو يعلى الكوفي، ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل الكوفة، وقال: كان ثقة قليل الحديث. ووثقه ابن معين، والعجلي، وابن خراش، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: روى عن أم سلمة، إن كان سمع منها. أخرج له الجماعة. وفي "ت": ثقة، من السادسة.

6 -

(محمَّد بن علي) بن أبي طالب الهاشمي أبو القاسم ابن الحنفية، المدني، ثقة عالم، من الثانية، مات بعد الثمانين.

وفي الخلاصة: أبو محمد الإمام المعروف بابن الحنفية، وهي أمه، خولة بنت جعفر الحنفية، وكانت من سبي اليمامة الذين سباهم أبو بكر. وقيل: كانت أمة لبني حنيفة، ولم تكن من أنفسهم. رَوَى عن أبيه، وعثمان، وغيرهما. وعنه بنوه إبراهيم، وعبد الله، والحسن، وعمرو ابن دينار، وخلق. قال إبراهيم بن الجنيد: لا نعلم أحدا أسند عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر، ولا أصح مما أسند محمَّد بن الحنفية. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه، ومات سنة 80 أو 81 أو 114 ودفن بالبقيع. روى له الجماعة اهـ بزيادة من الهامش وعمدة القاري.

7 -

(علي) بن أبي طالب رضي الله عنه. تقدم في 74/ 91.

ص: 460

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ما بين بصريين وهم الثلاثة الأولون، وكوفيين: وهم الباقون إلا ابن الحنفية، فمدني، وفيه رواية تابعي، عن غير تابعي عن تابعي وهم الأعمش، عن منذر، عن محمَّد بن علي، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ما قيل: لا يُعْلَم أحد أسند عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مما أسند ابن الحنفية عنه.

شرح الحديث

(عن علي) رضي الله عنه أنه (قال: استحييت) تقدم البحث عن الحياء قريبا (أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن) حكم (المذي) تقدم ضبطه ومعناه قريبا (من أجل فاطمة) بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيدة نساء المؤمنين، لها ثمانية عشر حديثا، اتفقا على حديث. رَوَى عنها علي، وابنها الحسين وعائشة، وأنس، وطائفة. وفضائلها كثيرة. ماتت سنة -11 - ودفنها علي ليلا، قيل صلى عليها العباس، وقيل: علي، وهو الذي غسلها، مع أسماء بنت عميس، قاله ابن عبد البر. اهـ. "صة" باختصار، وزيادة من الهامش. ج 3 ص 389.

أي من أجل كونها زوجتي (فأمرت المقداد بن الأسود) رضي الله عنه، أي بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله (فقال) صلى الله عليه وسلم (فيه الوضوء) أي في المذي الوضوء واجب، وهذه العبارة تدل على أن عليا رضي الله عنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولئن قلنا: إنه لم يسمعه، فحكمه حكم مرسل الصحابي، قاله العيني ج 2 ص 215 وقد تقدم تمام البحث في هذا قريبا.

قال الجامع: مسائل هذا الحديث تقدمت في الأحاديث المتقدمة فلا نطيل الكتاب بتكرارها. والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 461

‌113 - بَابُ الوُضُوءِ من الغَائِطِ وَالبَوْلِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على وجوب الوضوء من أجل خروج الغائط، والبول.

الغائط: في الأصل المُطمئنّ

(1)

الواسع من الأرض، والجمع غيطان، وأغواط وغُوط، ثم أطلق الغائط على الخارج المستقذر من الإنسان كراهية لتسميته باسمه الخاص؛ لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في المواضع المطمئنة، فهو من مجاز المجاورة، ثم توسعوا فيه حتى اشتقوا منه وقالوا: تغوط الإنسان، وقال ابن القوطية: غاط في الماء غوطا: دخل فيه، ومنه الغائط. اهـ المصباح ج 2 ص 457 وأما البول: فهو في الأصل مصدر، يقال: بال الإنسان، والدابة يبول بَوْلا، ومَبَالا، فهو بائل، ثم استعمل في العين -أي في الماء الخارج من القبل- وجمع على أبوال. اهـ المصباح ج 1 ص 66.

158 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ قَالَ: أَتَيْتُ رَجُلاً يُدْعَى صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ، فَقَعَدْتُ عَلَى بَابِهِ، فَخَرَجَ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قُلْتُ: أَطْلُبُ الْعِلْمَ، قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ، فَقَالَ: عَنْ أَيِّ شَيْءٍ تَسْأَلُ؟ قُلْتُ: عَنِ الْخُفَّيْنِ،

(1)

موضع مطمئن -أي بصيغة اسم الفاعل-: منخفض. اهـ المصباح.

ص: 462

قَالَ: كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ أَمَرَنَا أَنْ لَا نَنْزِعَهُ ثَلَاثًا إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ.

رجال الإسناد: ستة

فتقدم -1 - و -2 - و-3 - في السند السابق آخر الباب الماضي.

4 -

(عاصم بن بهدلة)، وهو ابن أبي النجود -بنون وجيم- الأسدي مولاهم الكوفي أبو بكر المقرئ، صدوق له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في الصحيحين مقرون، من السادسة، مات سنة 128 اهـ "ت" ص 159.

وفي مقدمة الفتح: أبو النجود اسمه بهدلة في قول الجمهور، وقال عمرو بن علي: بهدلة اسم أمه. قال أبو حاتم: محله الصدق وليس محله أن يقال: هو ثقة، ولم يكن بالحافظ، قد تكلم فيه ابن علية. قال العقيلي: لم يكن فيه إلا سوء الحفظ. وقال البزار: لا نعلم أحدا ترك حديثه مع أنه لم يكن بالحافظ. اهـ هدي الساري ص 578 - 579. وتقدم في 98/ 126.

5 -

(زر بن حببش) -بكسر أوله وتشديد الراء-، وحبيش -بمهملة وموحدة ومعجمة مصغرا- ابن حباشة -بضم المهملة بعدها موحدة ثم معجمة- الأسدي الكوفي، أبو مريم، ثقة جليل مضرم، مات سنة إحدى أو اثنين، أو ثلاث وثمانين وهو ابن -127 - سنة. تقدم في 98/ 126.

6 -

(صفوان بن عسال)(ت س ق) بتشديد المهملة، المرادي الجملي -بفتح الجيم والميم- غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، له عشرون حديثا. وعنه ابن مسعود مع جلالته، وزر بن حبيش اهـ "صة" ج 1 ص 470، وفي "ت" صحابي نزل الكوفة اهـ ص 153. وتقدم في 98/ 126.

ص: 463

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رواته ثقات، غير عاصم فصدوق، وأنهم ما بين بصريين، وهم الثلاثة الأولون، وكوفييين، وهم الباقون.

شرح الحديث

(عن عاصم) بن بهدلة المقرئ (أنه سمع زر بن حبيش) أي كلامه (يحدث) جملة حالية من المفعول (قال:) تفسير لقوله: يحدث (أتيت رجلا يدعى) أي يسمى يقال: دعوت الولد زيدا:، وبزيد: إذا سميته بهذا الاسم. قاله في المصباح ج 1 ص 194 (صفوان بن عسال) تقدم ضبطه (فقعدت على بابه) منتظرًا خروجه؛ لأن من آداب طالب العلم أن لا يزعج شيخه بالنداء، أو بدق الباب بل يصبر حتى يخرج بنفسه؛ لأن العالم وارث للنبي صلى الله عليه وسلم، لحديث أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعا "وأن العلماء ورثة الأنبياء، ورثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر" الحديث رواه أبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم مصححا، وحسنه حمزة الكناني، وضعفه غيرهم باضطراب سنده، قال الحافظ: لكن له شواهد يتقوى بها. فللعلماء من التبجيل، والاحترام ما للنبي صلى الله عليه وسلم حيث إنهم ورثته، قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} الآية [الحجرات: 4، 5]. (فخرج) صفوان رضي الله عنه من بيته (فقال: ما شأنك؟) أي ما حالك، استفهام عن جلوسه على الباب،

قال زر (قلت: أطلب العلم، قال) صفوان مبشرا له بأنه على خير، وشرف عظيم (ان الملائكة) مشتق من لفظ الألُوك، وقيل: من المَألَك، الواحد مَلَك وأصله مَلأك، ووزنه مَعْفَل، فنقلت حركة الهمزة إلى

اللام وسقطت، فوزنه مَعَل، فإن الفاء هي الهمزة وقد سقطت، وقيل:

ص: 464

مأخوذ من لأك: إذا أرسل، فَمَلأك مفعل، فنقلت الحركة، وسقطت الهمزة وهي عين، فوزنه مَفَل، وقيل غير ذلك. اهـ المصباح ج 1 ص 8.

(تضع أجنحتها) جمع جناح، وهو للطائر بمنزلة اليد من الإنسان. قاله في المصباح. ج 1 ص 111 (لطالب العلم رضا) أي لأجل رضاها (بما يطلب) من العلم.

قال في النهاية في تفسير هذا الحديث: أي تضعها -يعني الأجنحة لتكون وطاء له إذا مشى، وقيل: هو بمعنى التواضع له، تعظيما بحقه، وقيل: أراد بوضع الأجنحة نزولهم عند مجالس العلم، وترك الطيران، وقيل: أراد إظلالهم بها. اهـ زهر ج 1 ص 100. وقال السندي رحمه الله بعد ذكر هذه الأقوال: ما نصه: وعلى التقادير فالفعل غير مُشَاهَد لكن بإخبار الصادق صار كالمشاهد، ففائدته إظهار تعظيم العلم بواسطة الإخبار، ويحتمل أن الملائكة يتقربون إلى الله تعالى بذلك، ففائدة فعلهم يكون ذلك فائدةَ الإخبار إظهارُ جلالة العلم عند الناس، والله أعلم.

(فقال) صفوان بن عسال رضي الله عنه (عن أي شيء تسأل؟) قال زر (قلت: عن الخفين) أي عن حكم المسح عليهما، أو عن مدته (قال) صفوان (كنا) معاشر الصحابة (إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أمرنا) أي أمر إباحة (أن لا ننزعه) أي الخف، وإنما أفرد الضمير باعتبار الجنس (ثلاثا) أي ثلاثة أيام، وإنما جرده من التاء، لعدم ذكر المعدود، أو بتقدير التمييز بلفظ ليال، وعند الترمذي "ثلاثة أيام ولياليهن"(إلا من جنابة) استثناء مفرغ، فالجار والمجرور متعلق بننزع، يعني أنه أمرهم أن ينزعوا الخف من أجل الجنابة (ولكن من غائط وبول ونوم) الجار والمجرور متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله، أي لا ننزعه من أجل غائط، وبول، ونوم، وتقدم عند المصنف في 98/ 127 بلفظ "كان رسول الله

ص: 465

- صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أن نمسح على خفافنا، ولا ننزعها ثلاثة أيام، من غائط، وبول، ونوم، إلا من جنابة". وهو واضح.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث صفوان رضي الله عنه هذا حديث حسن كما نقله الترمذي، عن البخاري، وقد صححه الترمذي، والخطابي كما قال الحافظ في التلخيص، قال: ومداره على عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عنه، وذكر ابن منده أبو القاسم أنه رواه عن عاصم أكثر من أربعين نفسا، وتابع عاصما عليه عبد الوهاب بن بخت، وإسماعيل بن أبي خالد، وطلحة بن مصرف، والمنهال بن عمرو، ومحمد بن سوقة، وذكر جماعة معه، قال الحافظ رحمه الله: ومراده أصل الحديث لأنه في الأصل طويل مشتمل على التوبة، والمرءُ مع من أحب، وغير ذلك، لكن حديث طلحة عند الطبراني بإسناد لا بأس به، وقد روى الطبراني أيضا حديث المسح من طريق عبد الكريم، أبي أمية، عن حبيب بن أبي ثابت، عن زر، وعبد الكريم ضعيف، ورواه البيهقي من طريق أبي رَوْق، عن أبي الغريف، عن صفوان بن عسال، ولفظه: "وليمسح أحدكم إذا كان مسافرا على خفيه إذا أدخلهما

طاهرتين ثلاثة أيام ولياليهن، وليمسح المقيم يوما وليلة" ووقع في الدارقطني زيادة في آخر هذا المتن وهو قوله:"أو ريح"، وذكر أن وكيعا تفرد بها، عن مسعر عن عاصم، اهـ تلخيص ج 1 ص 157 - 158.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف

أخرجه 113/ 158 عن محمَّد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن شعبة وفي 114/ 159 عن عمرو بن علي، وإسماعيل بن مسعود، كلاهما عن يزيد بن زريع عن شعبة وفي 98/ 126 عن أحمد بن سليمان،

ص: 466

عن يحيى بن آدم، عن سفيان الثوري، ومالك بن مغول، وزهير بن معاوية، وأبي بكر بن عياش، وسفيان بن عيينة وفي 98/ 127 عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة- ستتهم عن عاصم بقصة المسح، وفي الكبرى في التفسير عن محمَّد بن النضر بن مساور، عن حماد، عن عاصم، وليس فيه المسح. أفاده الحافظ المزِّيّ في تحفة الأشراف ج 4 ص 240.

المسألة الثالثة: في بيان من أخرجه مع المصنف، من أصحاب الأصول، وغيرهم: أخرجه (ت ق) فأخرجه الترمذي في الدعوات 103/ أو في 103/ 2 وقال حسن صحيح، وفي الزهد 50/ 3، وفي 50/ 4 وفي الطهارة 71/ 2 وأخرجه (ق) في الطهارة 62/ 5، وفي الفتن 32/ 3. وقد تقدم تحقيق ذلك في الباب [98]، فارجع إليه تزدد علمًا.

وأخرجه الشافعي، وأحمد، وابن خزيمة، وابن حبان والدارقطني والبيهقي قاله في التلخيص، وتقدم تحقيق هذا كله في الباب المذكور.

المسألة الرابعة: في فوائده: مما يستفاد من هذا الحديث تأدب طالب العلم، واحترامه لشيخه، وقد وردت أحاديث تدل عليه ساق الحافظ المنذري منها ما فيه الكفاية.

فمنها حديث جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد -يعني في القبر-، ثم يقول:"أيهما أكثر أخذا للقرآن؟ " فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد. رواه البخاري.

وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن، غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط" رواه أبو داود.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البَركَة مع أكابركم" رواه الطبراني في الأوسط، والحاكم، وقال: صحيح على

ص: 467

شرط البخاري، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا". رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا". رواه أحمد بإسناد حسن. والطبراني والحاكم إلا أنه قال: "ليس منا". وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويجل كبيرنا". رواه الطبراني من رواية ابن شهاب، عن واثلة، ولم يسمع منه.

وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا". رواه الترمذي، وأبو داود، إلا أنه قال:"ويعرف حق كبيرنا".

وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: لقد سمعت حديثا منذ زمان: "إذا كنت في قوم، عشرين رجلا، أو أكثر، فتصفحت وجوههم، فلم تر فيهم رجلا يهاب في الله، فاعلم أن الأمر قد رَقَّ" رواه أحمد، والطبراني في الكبير، وإسناده حسن. أورد هذه الأحاديث الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب، وهي في ص 44 - 45 من صحيح الترغيب للشيخ الألباني.

ومنها أن فيه شرف طالب العلم حيث إن الملائكة تخضع له، وقد وردت في بيان شرفه أحاديث كثيرة: منها ما أخرجه مسلم وغيره في حديث طويل "ومن سلك طريقا، يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" ومنها حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد متكئ على برد له أحمر فقلت له: يا رسول الله إني جئت أطلب العلم، فقال: "مرحبا بطالب العلم، إن طالب

ص: 468

العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضا، حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب". رواه أحمد والطبراني بإسناد جيد، واللفظ له، وابن حبان في صحيحه، والحاكم. وقال صحيح الإسناد. اهـ صحيح الترغيب ج 1 ص 32 - 34.

ومنها اعتناء المرء بسؤال العلماء عما يهمه من أمر دينه، قال الله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

ومنها مشروعية المسح على الخفين في السفر، وتوقيته بثلاثة أيام، وأنه لا ينزع إلا من جنابة.

ومنها كون البول، والغائط، والنوم، من نواقض الوضوء، وهو الذي ترجم له المصنف. ولا خلاف بين أهل العلم في كون البول والغائط ناقضا للضوء، وأما النوم فسيأتي الخلاف فيه إن شاء الله تعالى.

المسألة الخامسة في بيان مذاهب العلماء في انتقاض الوضوء مما يخرج من الجسد. قال العلامة ابن رشد رحمه الله تعالى في بداية المجتهد: اختلف علماء الأمصار في انتقاض الوضوء مما يخرج من الجسد من

النجس على ثلاث مذاهب: فاعتبر قوم في ذلك الخارج وحده من أي موضع خرج، وعلى أي وجه خرج، وهو أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، وأحمد، وجماعة، ولهم من الصحابة السلف، فقالوا: كل نجاسة تسيل من الجسد وتخرج منه يجب منها الوضوء كالدم، والرعاف الكثير، والفصد، والحجامة، والقيء، إلا البلغم عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة: إنه إذا ملأ الفم ففيه الوضوء، ولم يعتبر أحد من هؤلاء اليسير من الدم إلا مجاهد.

واعتبر آخرون المخرجين الذكر، والدبر، فقالوا: كل ما خرج من هذين السبيلين فهو ناقض للوضوء من أي شيء خرج من دم، أو حصاة

ص: 469

أو بلغم، وعلى أي وجه خرج، كان خروجه على سبيل الصحة، أو على سبيل المرض، وممن قال بهذا الشافعي، وأصحابه، ومحمد بن عبد الحكم من أصحاب مالك.

واعتبر آخرون الخارج، والمخرج، وصفة الخروج، فقالوا: كل ما خرج من السبيلين مما هو معتاد خروجه، وهو البول، والغائط، والمذي، والودي، والريح، إذا كان خروجه على وجه الصحة فهو ينقض الوضوء، فلم يروا في الدم، والحصاة، والدود، وضوءا، ولا في السلس، وممن قال بهذا القول مالك، وجل أصحابه. والسبب في اختلافهم أنه لما أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء مما يخرج من السبيلين من غائط، وبول، وريح، ومذي، لظاهر الكتاب، ولتظاهر الآثار بذلك تطرق إلى ذلك ثلاث احتمالات:

أحدها: أن يكون الحكم إنما علق بأعيان هذه الأشياء فقط المتفق عليها على ما رآه مالك رحمه الله.

الاحتمال الثاني: أن يكون الحكم إنما علق بهذه من جهة أنها أنجاس خارجة من البدن لكون الوضوء طهارة والطهارة إنما يؤثر فيها النجس.

والاحتمال الثالث: أن يكون الحكم أيضا إنما علق بها من جهة أنها خارجة من هذين السبيلين، فيكون على هذين القولين الأخيرين ورود الأمر بالوضوء من تلك الأحداث، المجمع عليها إنما هو من باب الخاص

أريد به العام، ويكون عند مالك وأصحابه إنما هو من باب الخاص المحمول على خصوصه، فالشافعي، وأبو حنيفة اتفقا على أن الأمر بها هو من باب الخاص أريد به العام، واختلفا أي عام هو الذي قصد به؟ فمالك يرجح مذهبه بأن الأصل هو أن يحمل الخاص على خصوصه حتى يدل الدليل على غير ذلك، والشافعي محتج بأن المراد به المخرج لا

ص: 470

الخارج باتفاقهم على إيجاب الوضوء من الريح الذي يخرج من أسفل، وعدم إيجاب الوضوء منه إذا خرح من فوق، وكلاهما ذات واحدة، والفرق بينهما اختلاف المخرجين، فكان تنبيها على أن الحكم للمخرج، وهو ضعيف لأن الريحين مختلفان في الصفة والرائحة. وأبو حنيفة يحتج لأن المقصود بذلك هو الخارج النجس يكون النجاسة مؤثرة في الطهارة، وهذه الطهارة وإن كانت حكمية فإن فيها شبها من الطهارة المعنوية، أعني طهارة النجس، وبحديث ثوبان "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ" وبما روي عن عمر، وابن عمر رضي الله عنهما من إيجابهما الوضوء من الرعاف، وبما رُوي من أمره صلى الله عليه وسلم المستحاضة بالوضوء لكل صلاة، فكان المفهوم من هذا كله عند أبي حنيفة الخارج النجس، وإنما اتفق الشافعي، وأبو حنيفة على إيجاب الوضوء من الأحداث المتفق عليها، وإن خرجت على جهة المرض لأمره صلى الله عليه وسلم بالوضوء عند كل صلاة

المستحاضة، والاستحاضة مرض. وأما مالك فرأى أن المرض له ها هنا تأثير في الرخصة قياسا أيضا على ما روي أيضا من أن المستحاضة لم تؤمر إلا بالغسل فقط، وذلك أن حديث فاطمة بنت أبي حبيش هذا هو متفق على صحته، ويختلف في هذه الزيادة فيه، أعني الأمر بالوضوء لكل صلاة، ولكن صححها أبو عمر بن عبد البر، قياسا على من يغلبه الدم من جرح ولا ينقطع، مثل ما روي أن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه يثعب دما. اهـ كلام ابن رشد في بدايته ج 1 ص 34 - 35.

وقال العلامة صديق بن حسن القنوجي رحمه الله تعالى في الروضة الندية: قد اختلف أهل العلم في انتقاض الوضوء بخروج الدم، وجميع ما هو نص في النقض أو عدمه لم يبلغ إلى رتبة تصلح للاحتجاج بها، وقد تقرر أن كون الشيء ناقضا للوضوء لا يثبت إلا بدليل يصلح للاحتجاج به، وإلا وجب البقاء على الأصل؛ لأن التعبد بالأحكام

ص: 471

الشرعية لا يجب إلا بإيجاب الله أو رسوله، وإلا فليس بشرع، ومع هذا فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يباشرون معاركَ القتال، ومجاولة الأبطال في كثير من الأحوال ما هو من الشهرة بمكان أوضح من الشمس فلو كان خروج الدم ناقضا لما ترك صلى الله عليه وسلم بيان ذلك مع شدة الاحتياج إليه وكثرة الحامل عليه، ومثل الدم القيء في عدم ورود دليل على أنه ناقض وغاية ما هناك حديث إسماعيل بن عياش

(1)

وفيه من المقال ما لا يخفى. اهـ كلام العلامة صديق بن حسن- الروضة الندية ج 1، ص 47.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله العلامة القنوجي رحمه الله في غاية التحقيق، فالراجح عندي قول من قال بعدم نقض الوضوء بالأشياء المذكورة لعدم ورود دليل صحيح صريح ينتهض لذلك.

والحديث المذكور ضعيف؛ لأنه من رواية إسماعيل، عن ابن جريج وإسماعيل إذا روى عن غير أهل بلده يضعف. والله أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

وهو حديث "من أصابه قيء، أو رعاف، أو قلس، أو مذي، فلينصرف، فليتوضأ".

الحديث رواه ابن ماجه والدارقطني وفيه إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، وهو ضعيف.

ص: 472

‌114 - الوُضُوءُ مِنَ الغَائِطِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على وجوب الوضوء من أجل خروج الغائط. وهذا الحكم تقدم في الباب الماضي، إنما أعاده لبيان تعدد سند الحديث، وحقيقةُ الغائط كما قال العلامة ابن قدامة في المغني: المكان المطمئن، سمي الخارج به لمجاورته إياه، فإن المتبرز يتحراه لحاجته، كما سمي عذرة، وهي في الحقيقة فناء الدار؛ لأنه يطرح بالأفنية، فسمي بها للمجاورة، وهذا من الأسماء العرفية التي صار المجاز فيها أشهر من الحقيقة. اهـ مغني. ج 1 ص 164.

159 -

أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ قَالَ: قَالَ صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ: كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ أَمَرَنَا أَنْ لَا نَنْزِعَهُ ثَلَاثًا إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ، وَبَوْلٍ، وَنَوْمٍ.

وهذا الحديث تقدم في الباب السابق 113/ 158 سندا ومتنا، إلا ثلاثة:1 - عمرو بن علي فهو الفلاس الصيرفي البصري الثقة الحجة، وقد تقدم في 4/ 4، 2 - وإسماعيل بن مسعود فهو الجحدري البصري يكنى أبا مسعود ثقة ممن انفرد به الصنف [10]، وتقدم في 42/ 47، 3 - ويزيد بن زريع، أبو معاوية البصري، ثقة ثبت، من -8 - ت سنة 182، وتقدم في 5/ 5 وفي 78/ 108، وقد تقدم ما يتعلق بالحديث في الباب الماضي، فلا نطيل الكتاب بإعادته. وبالله التوفيق.

ص: 473

‌115 - الوُضُوءُ مِنَ الرِّيحِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على وجوب الوضوء من خروج الريح، وهذا الباب في الكبرى رقم [99].

160 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ (ح) وَأَخْبَرَنِا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ -يَعْنِي ابْنَ الْمُسَيَّبِ- وَعَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ -وَهُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ-، قَالَ: شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ:"لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَجِدَ رِيحًا أَوْ يَسْمَعَ صَوْتًا".

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(قتيية) بن سعيد البغلاني ثقة ثبت -10 - تقدم في 1/ 1.

2 -

(سفيان) بن عيينة الثقة الحجة -8 - تقدم في 1/ 1.

3 -

(الزهري) محمَّد بن مسلم الإمام العلم الحجة الفقيه الثبت -4 - تقدم في 1/ 1.

4 -

(محمَّد بن منصور) بن ثابت الخزاعي الجوّاز المكي، ثقة، من -10 - تقدم في 20/ 21.

5 -

(سعيد بن المسيب) بن حزن الإمام الحجة الثبت أحد الفقهاء السبعة المدني -3 - تقدم في 9/ 9.

6 -

(عباد بن تميم) بن غَزيَّة الأنصاري المازني المدني، ثقة، من الثالثة

ص: 474

الثالثة، وقد قيل إن له رؤية، وفي ابن ماجه من طريق عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عباد بن تميم، عن أبيه، عن عمه في الاستسقاء، والصواب: سمعت عباد بن تميم يحدث أبي عن عمه، واسم عمه عبد الله بن زيد بن عاصم، وهو أخو أبيه

(1)

لأمه. اهـ "ت" ص 162 - 163.

وقال البدر العيني رحمه الله: عباد -بفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة- بن تميم بن زيد بن عاصم الأنصاري المدني، وقال: أعي يوم الخندق، وأنا ابن خمس سنين، فينبغي إذا أن يعد في الصحابة،

وقال ابن الأثير وغيره: إنه تابعي، لاصحابي، وهذا هو المشهور، وليس في الصحابة من يسمى عباد بن تميم سواه على قول من يعده صحابيًا، وممن عده من الصحابة الذهبي. اهـ عمدة ج 2 ص 351. وتقدم في 59/ 74.

7 -

(عبد الله بن زيد) بن عاصم الأنصاري المازني المدني، له ولأبويه صحبة، ولأخيه حبيب بن زيد الذي قطعه مسيلمة عضوا عضوا فقضي أن عبد الله هو الذي شارك وحشيا في قتل مسيلمة، وهو راوي هذا لحديث، وحديث صلاة الاستسقاء، وغيرهما من الأحاديث، وقد وهم فيه سفيان بن عيينة، وقد تقدم البحث عنه في 80/ 97.

لطائف هذا الإسناد

منها: أنه من سداسياته، وأن رجاله كلهم ثقات، وأنهم من رجال الستة، إلا محمد بن منصور فهو ممن انفرد به المصنف، وأنهم مدنيون إلا قتيبة فبغلاني، وسفيان، ومحمد بن منصور فمكيان، وفيه رواية صحابي عن صحابي في قول من عد عبادا صحابيا، ورواية تابعي عن تابعيين، الزهريُّ، عن سعيد، وعباد في القول الآخر. وفيه كتابة (ح)

(1)

قوله لأمه، وفي الإصابة في ترجمة تميم: قال: هو أخو عبد الله بن زيد لأبيه في قول الأكثر، وهو ما يأتي قريبا في عبارة العيني فتنبه.

ص: 475

وهي للتحويل وقد تقدم البحث عنها مستوفى في 57/ 71 وفيه أن سعيد أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدم البحث عنهم في 1/ 1 وفيه قوله: يعني ابن المسيب، وذلك حيث لم ينسبه له شيخه وكذا قوله وهو عبد الله بن زيد، وقد تقدم تمام البحث فيه في 4/ 4.

شرح الحديث

قال الزهري رحمه الله تعالى (أخبرني سعيد- يعني) أي يقصد الزهري بقوله سعيد وزيادة يعني من المصنف، أو ممن فوقه (ابن المسيب) بفتح الياء وكسرها وهو أولى، وإن كان الأول أشهر لأنه كان يكره الفتح وغيره بالفتح فقط، قال السيوطي في ألفيته:

كُلُّ مَسَيَّب فَبالفَتْح سوَى

أبي سَعْيد فَلوَجْهَيْن حَوَى

(وعباد بن تميم) عطف على سعيد، فالزهري يروي هذا الحديث عن شيخيه سعيد، وعباد، وكلاهما يرويانه عن عم عباد المذكور، هكذا أفاده العيني. وقال الحافظ: ما نصه: ثم إن شيخ سعيد فيه يحتمل أن يكون عم عباد، كأنه قال: كلاهما عن عمه، أي عم الثاني، وهو عباد، ويحتمل أن يكون محذوفا، ويكون من مراسيل ابن المسيب، وعلى الأول جرى صاحب الأطراف، ويؤيد الثاني رواية معمر لهذا الحديث عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي سعيد الخدري، أخرجه ابن ماجه، ورواته ثقات، لكن سئل أحمد عنه، فقال: إنه منكر. اهـ فتح ج 2 ص 9.

(تنبيه) وقع في رواية كريمة لصحيح البخاري عن سعيد، عن عباد، بدون واو العطف، وهو غلط؛ لأن سعيدا لا رواية له عن عباد أصلا. أفاده الحافظ رحمه الله فتح ج 2 ص 9.

(عن عمه) أي عم عباد (وهو عبد الله بن زيد) بن عاصم الأنصاري رضي الله عنه. أنه (قال: شُكيَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم) من شكوت فلانا أشكوه

ص: 476

شكْوًا، وشكَاية، وشَكَاةً: إذا أخبرتَ عنه بسوء فعله، فهو مَشكُوّ وشَكيّ، والاسم الشكوى، والياء منقلبة عن الواو، وأصله شُكُو بدليل يشكو الشكوى، ويجوز أن تكون أصلية غير منقلبة في لغة من قال: شكى يَشكي. قاله العيني. عمدة ج 2 ص251.

ثم إن "شكى" في رواية المصنف بالبناء للمفعول، وهو الذي في مسلم، والنائب عن الفاعل، قوله (الرجل) ورواية البخاري: شكا بالبناء للفاعل، قال الحافظ كذا في روايتنا شكا بالألف، ومقتضاه أن الراوي هو الشاكي، وصرح بذلك ابن خزيمة عن عبد الجبار بن العلاء، عن سفيان، ولفظه عن عمه عبد الله بن زيد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل

اهـ فتح ج 2 ص 9 (الرجل) بالرفع على أنه نائب الفاعل. وجملة (يجد الشيء) استئناف، أو صفة للرجل على أن تعريفه للجنس، وجعله حالا بعيد معنى، ويحتمل أن يقال: نائب الفاعل الجارّ والمجرور، والرجل مبتدأ، والجملة خبره، والجملة استئناف، بيان للشكاية، كأنه قيل: ماذا قيل في الشكاية، فأجيب، قيل: الرجل يجد الخ، وأما جعل "شكى" مبنيا للفاعل "والرجل" فاعله في رواية المصنف فبعيد، فإن اللائق حينئذ أن يكتب شكا بالألف، وأن يكون قوله:"لا ينصرف" بالخطاب لا الغيبة. قاله العلامة السندي رحمه الله ج 1 ص 99.

ومعنى قوله يجد الشيء أي الحدث خارجا منه، وصرح به الإسماعيلي ولفظه "يُخَيَّل إليه في صلاته أنه يخرج منه شيء" وفيه العدول عن ذكر الشيء المستقذر بخاص اسمه إلا للضرورة. قاله في الفتح ج 2 ص 9 (يجد الشيء في الصلاة) أي يحس حال التلبس بها بالحدث، وكنى عنه بالشيء تأدبا لاستهجان التصريح به. قاله في المنهل ج 2 ص 176. وقال الحافظ: تمسك بعض المالكية بظاهره فخصوا الحكم بمن كان داخل

ص: 477

الصلاة، وأوجبوا الوضوء على من كان خارجها، وفرقوا بالنهي عن إبطال العبادة، والنهي عن إبطال العبادة متوقف على صحتها، فلا معنى للتفريق بذلك؛ لأن هذا التخيل إن كان ناقضا خارج الصلاة، فينبغي أن يكون كذلك فيها كبقية النواقض. اهـ فتح ج 1 ص 9 - 10.

(قال) النبي صلى الله عليه وسلم جوابا عن هذا السؤال (لا ينصرف) بالجزم على النهي، ويجوز الرفع على أن "لا" نافية. وفي رواية البخاري "لا ينفتل" أو"لا ينصرف" بالشك، قال الحافظ: هو شك من الراوي، وكأنه من علي -يعني المديني شيخ البخاري؛ لأن الرواة غيره رووه عن سفيان بلفظ "لا ينصرف" من غير شك. اهـ فتح ج 2 ص 10.

قال الجامع: والنفي في الرفع بمعني النهي، بل هو أبلغ.

(حتى يجد ريحا) خارجا من دبره، وعبر بالوجدان، دون الشم، ليشمل ما لو لمس المحل، ثم شم يده. قاله الحافظ.

(أو يسمع صوتا) أي من مخرجه. وأو للتنويع لا للشك.

ثم إن الغاية تدل على أنه إذا وجد ريحا أو سمع صوتا ينصرف لأجل الوضوء، وهو المطلوب، والمقصود بقوله: حتي يجد ريحا الخ، أي حتى يتيقن بطريق الكناية أعم من أن يكون بسماع صوت، أو وجدان ريح، أو يكون بشيءآخر، وغلبة الظن عند بعض العلماء في حكم المتيقن، فبقي أن الشك لا عبرة به، بل يحكم بالأصل المتيقن، وإن طرأ الشك في زواله. قاله السندي. ج 1 ص 99.

وقال الحافظ رحمه الله: دل حديث الباب على صحة الصلاة ما لم يتيقن الحدث، وليس المراد تخصيص هذين الأمرين باليقين؛ لأن المعنى إذا كان أوسع اللفظ كان الحكم للمعنى، قاله الخطابي. اهـ فتح ج 2 ص 10 وكتب العلامة بدر الدين العيني رحمه الله عند قوله: "أو يجد

ص: 478

ريحا" ما نصه: وكلمة "أو" للتنويع، قال الإسماعيلي هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن شك في خروج ريح منه لا نفي الوضوء إلا من سماع صوت أو وجدان ريح. وفي صحيح ابن خزيمة، وابن حبان، ومستدرك الحاكم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدَكم الشيطانُ، فقال: إنك أحدثت، فليقل كذبت، إلا ما وجد ريحا بأنفه، أو سمع صوتا بأذنه"، وفي مسند أحمد من حديث أبي سعيد أيضا "إن الشيطان ليأتي أحدكم، وهو في صلاته، فيأخذ شعرة من دبره، فيمدها فيرى أنه أحدث، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا" وفي إسناده علي بن زيد بن جُدعان، وقال ابن خزيمة: قوله "فليقل: كذبت" أراد فليقل كذبت بضميره، لا ينطق بلسانه، إذ المصلي غير جائز له أن يقول: كذبت نطقا، قال العيني: ويؤيد ما قاله ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد أيضا مرفوعا "إذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك قد أحدثت فليقل في نفسه كذبت" وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة يرفعه "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد" وفي رواية الترمذي "فوجد ريحا بين ألْيَتَيْه" وفي علل ابن أبي حاتم "فوجد ريحا من نفسه" وفي كتاب الطهور لأبي عبيد القاسم بن سلام "يجد الشيء في مقعدته، قال: لا يتوضأ إلا أن يجد ريحا يعرفها، أو صوتا يسمعه" وروى ابن ماجه بسند فيه ضعف

(1)

عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، قال: رأيت السائب بن يزيد يشم ثوبه، فقلت: ممّ ذلك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا وضوء إلا من ريح، أو سماع" وروى أبو داود من حديث علي بن طلق يرفعه "إذا فسا أحدكم فليتوضأ" قال مُهَنّا: قال أبو عبد الله: عاصم الأحول يخطئ في هذا الحديث يقول:

(1)

لكن شهد له أحاديث كثيرة، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفرعًا، "لا وضوء إلا من صوت، أو ريح" أخرجه الترمذي وغيره، وهو حديث صحيح.

ص: 479

علي بن طلق، وإنما هو طلق بن علي، وأبَى ذلك البخاري، فقال: فيما ذكره أبو عيسى عنه في العلل وذكر حديث علي بن طلق هذا بلفظ: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنا نكون بالبادية، فيكون من أحدنا الريحة، فقال:"إن الله لا يستحيى من الحق، إذا فسا أحدكم فليتوضأ""فقال: لا أعرف لعلي بن طلق عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث، وهو عندي غير طلق بن علي، ولا يعرف هذا من حديث طلق بن علي، ولما ذكره الترمذي في الجامع من حديث علي بن طلق حسنه، وذكره ابن حبان في صحيحه بلفظ "إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف، ثم ليتوضأ، وليعد صلاته" ثم قال: لم يقل أحد: "وليعد صلاته" إلا جرير ابن عبد الحميد، وقال أبو عبيد في كتاب الطهور إنما هو عندنا علي بن طلق؛ لأنه حديثه المعروف وكان رجلا من بني حنيفة، وأحسبه والد طلق بن علي الذي سأل عن مس الذكر، وممن ذكره في مسند علي بن طلق أحمد بن منيع، والنسائي، والكجي في سننيهما، وأبو الحسين بن قانع في آخرين.

ثم اعلم أن حقيقة المعنى في قوله "حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" حتى يعلم وجود أحدهما، ولا يشترط السماع، والشم بالإجماع، فإن الأصم لا يسمع صوتا، والأخشم الذي راحت حاسة شمه لا يشم أصلا، وقال الخطابي: لم يرد بذكر هذين النوعين من الحدث تخصيصهما وقصر الحكم عليهما حتى لا يحدث بغيرهما، وإنما هو جواب خرج على حرف المسألة التى سأل عنها السائل، وقد دخل في معناه كل ما يخرج من السبيلين، وقد يخرج منه الريح، ولا يسمع لها صوتا ولا يجد لها ريحا فيكون عليه استئناف الوضوء إذا تيقن ذلك، وقد يكون بأذنه وقر، فلا يسمع الصوت، أو يكون أخشم فلا يجد الريح، والمعنى إذا كان أوسع من الاسم كان الحكم للمعنى، وهذا كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا

ص: 480

استهل الصبي ورث، وصلي عليه" لم يرد تخصيص الاستهلال الذي هو الصوت دون غيره من أمارات الحيات من حركة وقبض وبسط ونحوها. اهـ عمدة القاري ج 2 ص 252 - 253.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه حديث متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف: أخرجه رحمه الله هنا [115/ 160] في المجتبى، وفي [99/ 182] من الكبرى. عن قتيبة، ومحمد بن منصور، كلاهما عن سفيان، عن الزهري، عن ابن المسيب، وعباد بن تميم كلاهما عن عبد الله بن زيد، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

المسألة الثالثة فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول وغيرهم: أخرجه (خ م د ق) فأخرجه (خ) في الطهارة -4 - عن علي بن عبد الله وفي -35/ 2 - عن أبي الوليد، وفي البيوع -5/ 1 - عن أبي نعيم.

وأخرجه (م) في الطهارة [60/ 1] عن أبي بكر بن أبي شيبة، وزهير ابن حرب، وعمرو الناقد. وأخرجه (د) في الطهارة -68/ 1 - عن قتيبة ومحمد بن أحمد بن أبي خلف. وأخرجه (ق) في الطهارة -74 - عن محمد بن الصباح كلهم عن سفيان، عن الزهري، عن سعيد وعباد بن تميم، كلاهما عن عمه عبد الله بن زيد به. أفاده الحافظ المزي في تحفته ج 4 ص 336 لكن اعترض عليه الحافظ بأن رواية أبي الوليد عند البخاري في باب "من لم ير الوضوء إلا من المخرجين" -35/ 2 - إنما هي عن عباد ابن تميم فقط ليس فيها ذكر لسعيد، وكذا رواية أبي نعيم عنده في باب "من لم ير الوساوس" ونحوها من المشبهات في أوائل البيوع -5/ 1 - عن عباد بن تميم فقط. اهـ نكت ج 4 ص 336.

ص: 481

وأخرجه أبو عوانة في صحيحه -1/ 238 - ، والشافعي -1/ 99 - ، والبيهقي -1/ 14 - ، وأحمد -4/ 40 - . أفاده العلامة الألباني في إرواء الغليل ج 1 ص 144.

المسألة الرابعة: في الفوائد المستنبطة من هذا الحديث:

الأول: أن هذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ، سواء حصل الشك في الصلاة أو خارجها، وهذا بالإجماع بين الفقهاء، إلا عن مالك روايتان إحداهما أنه يلزمه الوضوء إن كان شكه خارج الصلاة، ولا يلزمه إن كان في الصلاة والأخرى يلزمه بكل حال، وحكيت الأولى عن الحسن البصري، وهو وجه شاذ عند الشافعية ذكره الرافعي، والنووي في الروضة، وحكيت الثانية أيضا وجها للشافعية، وهو غريب، وعن مالك رواية ثالثة رواها ابن قانع عنه أنه لا وضوء عليه كما قال الجمهور، وحكاها ابن بطال عنه، ونقل القاضي، ثم القرطبي عن ابن حبيب المالكي أن هذا الشك في

الريح دون غيره من الأحداث، وكأنه تبع ظاهر الحديث، واعتذر عنه بعض المالكية بأن الريح لا يتعلق بالمحل منه شيء بخلاف البول، والغائط، وعن بعض أصحاب مالك أنه إن كان في سبب حاضر كما في الحديث طرح الشك، وإن كان في سبب متقدم فلا، وأما إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بالإجماع.

وعلى هذا الأصل من شك في طلاق زوجته، أو عتق عبده، أو نجاسة الماء الطاهر أو طهارة النجس، أو نجاسة الثوب، أو غيره، أو أنه صلى ثلاثا أو أربعا، أو أنه ركع أو سجد أم لا؟، أو نوى الصوم، أو الصلاة، أو الاعتكاف، وهو في أثناء هذه العبادات، وما أشبه هذه

ص: 482

الأمثلة، فكل هذه الشكوك لا تأثير لها، والأصل عدم الحادث. وقالت الشافعية: تُستثنَى من هذه القاعدة بضع عشرة مسألة: منها من شك في خروج وقت الجمعة قبل الشروع فيها، قيل: أو فيها، ومن شك في ترك بعض الوضوء، أوصلاة بعد الفراغ لا أثر له على الأصح.

الثاني من الأحكام: ما قالته الشافعية أنه لا فرق في الشك بين تساوي الاحتمالين في وجوب الحدث وعدمه، وبين ترجيح أحدهما وغلبة الظن في أنه لا وضوء عليه، فالشك عندهم خلاف اليقين، وإن كان خلاف الاصطلاح الأصولي، وقولهم موافق لقول أهل اللغة: الشك خلاف اليقين، نعم يستحب الوضوء احتياطا فلو بان حدثه أوَّلًا فوجهان أصحهما لا يجزيه هذا الوضوء لتردده في نيته بخلاف ما إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة، فتوضأ، ثم بان محدثا، فإنه يجزئه قطعا؛ لأن الأصل بقاء الحدث فلا يضر التردد معه، ولو تيقن الطهارة والحدث معا وشك في السابق منهما فَأوْجُهٌ: أصحها أنه يأخذ بضدّ ما قبلهما إن عرفه، فإن لم يعرفه لزمه الوضوء مطلقا.

الثالث من الأحكام: قول الخطابي: فيه حجة لمن أوجب الحد على من وُجدَ منه رائحة المسكر، وإن لم يشاهد شربه، ولا شهد عليه الشهود ولا اعترف به، لكن فيه نظر لأن الحدود تدرأ بالشبهة، والشبهة هنا قائمة.

الرابع: فيه مشروعية سؤال العلماء عما يحدث من الوقائع، وجواب السائل.

الخامس: فيه ترك الاستحياء في العلم وأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم كل شيء، وأنه يصلي بوضوء واحد صلوات ما لم يحدث.

السادس: فيه قبول خبر الواحد.

السابع: فيه أن من كان على حال لا ينتقل عنه إلا بوجود خلافه.

ص: 483

الثامن: فيه أنهم كانوا يَشْكُون إلى النبي صلى الله عليه وسلم جميع ما ينزل بهم.

التاسع: استدل به بعضهم على أن رؤية المتيمم الماء في صلاته لا ينقض طهارته. قال البدر العيني: لا يصح الاستدلال به لأنه ليس من باب ما ذكرناه من أن المعنى إذا كان أوسع من الاسم كان الحكم للمعنى لأنه هو فيما يقع تحت الجنس الواحد، ولا شك أن المقصود به جنس الخارجات من البدن، فالتعدي إلى غير الجنس المقصود به اغتصاب للأحكام، ذكر هذه الفوائد العيني في عمدة القاري ج 2 ص 252 - 254 ونقلته عنه باختصار.

المسألة الخامسة قد ذكر العلامة ابن دقيق العيد في هذه المسألة تحقيقا حسنا أحببت إيراده، وإن كان جُلّه مفهوما مما مر، غير أن فيه زيادة إيضاح، وتفصيل لمآخذ العلماء في إعْمال الأصل وطرح الشك.

قال رحمه الله تعالى: الحديث أصل في إعمال الأصل وطرح الشك، وكان العلماء متفقون على هذه القاعدة، لكنهم يختلفون في كيفية استعمالها.

مثاله: هذه المسألة التي دل عليها الحديث، وهي مَن شك في الحدث بعد سبق الطهارة، فالشافعي أعمل الأصل السابق، وهي الطهارة، وطرح الشك الطارئ، وأجاز الصلاة في هذه الحالة. ومالك منع من الصلاة مع الشك في بقاء الطهارة، وكأنه أعمل الأصل الأول، وهو ترتب الصلاة في الذمة، ورأى أن لا تزال إلا بطهارة متيقنة، وهذا الحديث ظاهر في إعمال الطهارة الأولى، واطراح الشك. والقائلون بهذا اختلفوا: فالشافعي اطرح الشك مطلقا، وبعض المالكية اطرحه بشرط أن يكون في الصلاة وهذا له وجه حسن، فإن القاعدة: أن مورد النص إذا وجد فيه معنى يمكن أن يكون معتبرا في الحكم فالأصل يقتضي اعتباره وعدم اطراحه، وهذا الحديث يدل على اطراح الشك إذا وجد

ص: 484

في الصلاة، وكونه موجودا في الصلاة معنىً يمكن أن يكون معتبرا، فإن الدخول في الصلاة مانع من إبطالها على ما اقتضاه استدلالهم في مثل هذا بقوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] فصارت صحة الصلاة أصلا سابقا على حالة الشك، مانعا من الإبطال، ولا يلزم من إلغاء الشك مع وجود المانع من اعتباره إلغاؤه مع عدم المانع، وصحة العمل ظاهرًا معنىً ينايسب عدم الالتفات إلى الشك يمكن اعتباره، فلا ينبغي الغاؤه. ومن أصحاب مالك مَنْ قَيَّد هذا الحكم -أعني اطراح هذا الشك- بقيد آخر، وهو أن يكون الشك في سبب حاضر كما جاء في الحديث حتى لو شك في تقدم الحدث على وقته الحاضر لم تبح له الصلاة ومأخذ هذا ما ذكرناه من أن مورد النص ينبغي اعتبار أوصافه التي ينبغي اعتبارها، ومورد النص اشتمل على هذا الوصف، وهو كونه شك في سبب حاضر فلا يلحق به ما ليس في معناه من الشك في سبب متقدم إلا أن هذا القول أضعف قليلًا من الأول؛ لأن صحة العمل ظاهرا، وانعقاد الصلاة سبب مانع مناسب لاطراح الشك، وأما كون السبب ناجزا فإما غير مناسب، أو مناسب مناسبة ضعيفة، والذي يمكن أن يقرر به قول هذا القائل أن يرى أن الأصل الأول -وهو ترتب الصلاة في ذمته- معمول به، فلا يخرج عنه إلا بما ورد فيه النص، وما بقي يعمل فيه بالأصل، ولا يحتاج في المحل الذي خرج عن الأصل بالنص إلى مناسبة كما في صور كثيرة عمل فيها العلماء هذا العمل -أعني أنهم اقتصروا على مورد النص إذا خَرَجَ عن الأصل أو القياس من غير اعتبار مناسبة، وسببه أن إعمال النص في مورده لابد منه، والعمل بالأصل- أو بالقياس المطرد- مسترسل، لا يخرج عنه إلا بقدر الضرورة، ولا ضرورة فيما زاد على مورد النص، ولا سبيل إلى إبطال النص في مورده، سواء كان مناسبا، أو لا، وهذا يحتاج معه إلى إلغاء وصف كونه في صلاة.

ص: 485

ويمكن هذا القائل منع ذلك بوجهين:

أحدهما: أن يكون هذا القائل نظر إلى ما في بعض الروايات، وهو أن يكون الشك لمن هو في المسجد، وكونه في المسجد أعم من كونه في الصلاة، فيؤخذ من هذا إلغاء ذلك القيد الذي اعتبره القائل الآخر، وهو كونه في الصلاة، ويبقى كونه شاكا في سبب ناجز، إلا أن القائل الأول له أن يحمل كونه في المسجد على كلونه في الصلاة، فإن الحضور في المسجد يراد للصلاة، فقد يلازمها فيعبر به عنها وهذا -وإن كان مجازا- إلا أنه يقوى إذا اعتبر الحديث الأول، وكان حديثا واحدا مخرجه من جهة واحدة، فحينئذ يكون ذلك الاختلاف اختلافا في عبارة الراوي بتفسير أحد اللفظين بالآخر ويرجع إلى أن المراد كونه في الصلاة.

الثاني: -وهو أقوى من الأول- ما ورد في الحديث "إن الشيطان ينفخ بين أليتي الرجل"، وهذا المعنى يقتضي مناسبة السبب الحاضر لإلغاء الشك.

قال: وإنما أوردنا هذه المباحث ليتلمح الناظر مآخذ العلماء في أقوالهم فيرى ما ينبغي ترجيحه فيرجحه، وما ينبغي إلغاؤه فيلغيه والشافعي رحمه الله ألغى القيدين معا -أعني كونه في الصلاة، وكونه في سبب

ناجز- واعتبر أصل الطهارة اهـ إحكام الأحكام ج 1 ص 318 - 326.

قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن في المسألة أربعة أقوال: عدم العمل بالشك مطلقا، العمل به مطلقا، عدم العمل إن عرض في الصلاة، والعمل به إن عرض خارجها، عدم العمل به إن كان في سبب حاضر، والعمل به إن كان شكا في سبب غير حاضر.

ولا يخفى أن الراجح هو عدم العمل بالشك مطلقا كما هو مذهب الشافعي، والجمهور، لوضوح دليله. والله أعلم.

ص: 486

‌116 - الوُضُوء مِنَ النَّوْمِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على وجوب الوضوء من النوم.

والنوم: غَشْية ثقيله تَهجُم على القلب، فتقطعه عن المعرفة بالأشياء، ولهذا قيل: هو آفة؛ لأن النوم أخو الموت، وقيل: النوم مزيل للقوة والعقل، وأما السِّنة ففي الرأس، والنعاس في العين، وقيل: السنة ريح النوم تبدو في الوجه ثم تنبعث إلى القلب فينعُسُ الإنسان فينام. قاله في المصباح، ج 3 ص 631.

161 -

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يُفْرِغَ عَلَيْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ".

رجال الإسناد: سبعة

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجحدري البصري أبو مسعود ثقة من العاشرة، من أفراد المصنف مات سنة 248، وتقدم في 42/ 47.

2 -

(حميد بن مسعدة) السامي الباهلي البصري صدوق من العاشرة مات سنة 244 وتقدم في 5/ 5، وفي 87/ 108.

3 -

(يزيد بن زريع) أبو معاوية البصري ثقة ثبت من الثامنة مات سنة 82 أو تقدم في 5/ 5، وفي 87/ 108.

ص: 487

4 -

(معمر) بن راشد أبو عروة البصري نزيل اليمن ثقة ثبت -7 - ، وتقدم في 10/ 10.

5 -

(الزهري) محمَّد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله، أبو بكر المدني الحجة المثبت -4 - تقدم في1/ 1.

6 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، والصحيح أن اسمه كنيته، ثقة -3 - وتقدم في 1/ 1.

7 -

(أبو هريرة) عبد الله بن عمرو على الصحيح، أو عبد الرحمن ابن صخر على المشهور الدوسي الصحابي الجليل نقيب أهل الصفة رضي الله، عنه، تقدم في 1/ 1.

لطائف الإسناد

منها أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات إلا حميدا، فصدوق، وأنهم ما بين بصريين، وهم من قبل الزهري، ومعمر وإن كان يمانيا إلا أن أصله من البصرة، ومدنيين، وهم الباقون، وفيه أبو سلمة أحد

الفقهاء السبعة المعروفين بالمدينة، وأنه ليس له اسم غير الكنية، وفيه أبو هريرة أحد المكثرين السبعة، روى -5374 - .

شرح الحديث

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله قال: إذا استيقظ) أي انتبه، وليست السين والتاء للطلب، بل هو لازم بمعنى التيقظ. (أحدكم) ليس الرجال مخصوصا بهذا الحكم، بل النساء كذلك، فإنهن شقائق الرجال (من منامه) أي نومه، فالمنام مصدر ميمي لنام، وجواب "إذا" قوله (فلا يدخل) وفي الرواية المتقدمة في 1/ 1 "فلا يغمس" قال في الفتح ج 1 ص 317: رواية الغمس أبين في المراد من رواية الإدخال؛ لأن

ص: 488

مطلق الإدخال لا يترتب عليه كراهة، كمن أدخل يده في إناء واسع فاغترف منه بإناء صغير من غير أن يلامس يده الماء. اهـ. فقوله يدخل مجزوم بلا الناهية.

(يده في الإناء) أي الإناء الذي فيه ماء الوضوء فأل عوض عن المضاف إليه لما في الرواية الأخرى "في الوَضُوء"، بفتح الواو، قال العلامة السندي رحمه الله تعالى: فهذا يدل على أن الوقت وقت لإدخال اليد في الوَضوء وأخذ منه المصنف الترجمة. اهـ ج 1 ص 101.

وقال الحافظ رحمه الله: الظاهر اختصاص ذلك بإناء الوضوء، ويلحق به إناء الغسل لأنه وضوء وزيادة، وكذا باقي الأنية قياسا، لكن في الاستحباب من غير كراهة، لعدم ورود النهي فيها، وخرج بذكر الإناء البرَك والحيَاض التي لا تفسد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها فلا يتناولها النهي. اهـ فتح ج 10 ص 317 - 318.

وهل هذا النهي للتحريم أم للتأديب تقدم الكلام فيه. في 1/ 1.

(حتى يُفرغ عليها) من الإفراغ، أي يصب على يده (ثلاث مرات) من الغسل، قال الشافعي رحمه الله: فإن لم يغسلها إلا مرة أو مرتين أو لم يغسلها أصلا حين أدخلها في وضوئه فقد أساء (فإنه) الفاء للتعليل (لا يدري) أي لا يعلم (أبن باتت يده) كلمة "أين" سؤال عن مكان الشيء، أي في أيّ محل من جسده، أفي محل نجس، أم في محل طاهر؟ وفيه كما قال البيضاوي إيماء إلى علة النهي، وهي احتمال النجاسة، وسبب ذلك كما قال الشافعي رحمه الله: أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالحجارة

وبلادهم حارّة، فهذا نام أحدهم وعَرقَ، فلا يأمن النائم أن تطوف يده على ذلك الموضع النجس أو على بثرة، أو قملة، أو قذر، وغير ذلك.

قال الجامع عفا الله عنه: إذا كانت العلة هي احتمال النجاسة فهل إذا

ص: 489

تيقن الطهارة تزول المشروعية لغسل اليد أم لا؟، الظاهر الثاني لأن الأحكام إنما يحتاج إلى أسبابها في الابتداء لا في الانتهاء، كما في مشروعية الرمل في الطواف. والله أعلم.

ومسائل هذا الحديث جميعها تقدمت في 1/ 1 فلا نطيل الكتاب بإعادتها. وبالله التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(تنبيهات)

(الأول) في مذاهب العلماء في انتقاض الوضوء بالنوم:

قد فصل المذاهب في هذه المسألة الإمام النووي رحمه الله في شرح المهذب تفصيلا حسنا أحببت إيراده هنا لحسنه:

قال رحمه الله: الصحيح في مذهبنا -يعني الشافعية- أن النائم الممكن مقعده من الأرض، أو نحوها لا ينتقض وضوءه، وغيره ينتقض سواء كان في صلاة أو غيرها، وسواء طال نومه أم لا، وحكي عن أبي

موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، وأبي مجْلَز، وحميد الأعرج أن النوم لا ينقض بحال، ولو كان مضطجعا، قال القاضي أبو الطيب وإليه ذهبت الشيعة. وقال إسحاق بن راهويه، وأبو عبيد، القاسم بن سلام والمزني: ينقض النوم بكل حال، ورواه البيهقي بإسناده عن الحسن البصري، قال ابن المنذر: وبه أقول، وروي معناه عن ابن عباس، وأنس، وأبي هريرة رضي الله عنهم. وقال مالك، وأحمد في إحدى الروايتين ينقض كثير النوم بكل حال دون قليله، وحكاه ابن المنذر عن الزهري، وربيعة، والأوزاعي، وقال أبو حنيفة، وداود إن نام على هيئة من هيئات المصلي كالراكع، والساجد، والقائم، والقاعد، لم ينتقض، سواء كان في الصلاة أم لا، وإن نام مستلقيا أو مضطجعا انتقض. ولنا قول: إن نوم المصلي خاصة لا ينقض كيف كان، وحكاه أصحابنا عن ابن المبارك، وحكاه الماوردي عن جماعة من التابعين.

ص: 490

فهذه ستة أقوال ذكرها في المجموع، وزاد في شرح مسلم قولين آخرين:

الأول: أنه لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد. قال النووي: وروي مثل هذا عن أحمد بن حنبل، ولعل وجهه أن هيئة الركوع والسجود مظنة للإنتقاض. قال الشوكاني رحمه الله: وقد ذكر هذا المذهب صاحب البدر التمام، وصاحب سبل السلام بلفظ "إنه ينقض إلا نوم الراكع والساجد" بحذف "لا"، واستدلاله بحديث "إذا نام العبد في سجوده" الحديث، قال: وقاس الركوع على السجود، والذي في شرح مسلم للنووي بلفظ: إنه لا ينقض، بإثبات "لا" فلينظر. اهـ نيل ج 1 ص 289.

الثاني: أنه لا ينقض إلا نوم الساجد، قال النووي: يُروَى أيضا عن أحمد، ولعل وجهه أن مظنة الانتقاض في السجود أشد منها في الركوع.

قال الجامع: فمجموع الأقوال في هذه المسألة ثمانية.

ثم ذكر رحمه الله أدلتهم فقال: واحتُجَّ لأبي موسى، وموافقيه بقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية [المائدة: 6] فذكر سبحانه نواقض الوضوء، ولم يذكر النوم، وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا "لا وضوء إلا من صوت أو ريح" رواه الترمذي وغيره بأسانيد صحيحة، قالوا: ولأنا أجمعنا نحن وأنتم على أن النوم ليس حدثا في عينه، وأنتم أوجبتم الوضوء لاحتمال خروج الريح، والأصل عدمه فلا يجب الوضوء بالشك. قال: واحتج أصحابنا -يعني الشافعية- بحديث علي رضي الله عنه مرفوعا "العينان وكاء السه، فمن نام فليتوضأ" رواه أبو داود، وابن ماجه وغيرهما بأسانيد حسنة، وبحديث صفوان رضي الله عنه "ولكن من غائط، أو بول، أو نوم" وهو حديث حسن، وقد تقدم للنسائي في 113/ 158، قال: وفي

ص: 491

المسألة أحاديث كثيرة، ولأن النائم غير الممكن يخرج منه الريح غالبا، فأقام الشرع هذا الظاهر مقام اليقين كما أقام شهادة الشاهدين التي تفيد الظن مقام اليقين في شغل الذمة.

والجواب عن احتجاجهم بالآية من وجهين:

(أحدهما) أن جماعة من المفسرين قالوا: وردت الآية في النوم، أي إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، فاغسلوا وجوهكم، وكذا حكاه الشافعي في الأم عن بعض أهل العلم بالقرآن قال: ولا أراه إلا كما قال.

(الثاني) أن الآية ذكر فيها بعض النواقض، وبينت السنة الباقي، ولهذا لم يذكر البول، وهو حدث بالإجماع، وأما الجواب عن حديث أبي هريرة: فهو أنه ورد في دفع الشك لا في بيان أعيان الأحداث وحصرها، ولهذا لم يذكر فيه البول والغائط وزوال العقل، وهي أحداث بالإجماع، ونظيره حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه "لا ينصرف حتي يسمع صوتا أو يجد ريحا"، وأما قولهم: خروج الخارج مشكوك فيه: فجوابه ما قدمنا أن الشرع جعل هذا الظاهر كاليقين، كما جعل شهادة شاهدين كاليقين. والله أعلم.

واحتج من قال: ينقض بكل حال بعموم حديثي علي، وصفوان،

رضي الله عنهما، وبالقياس على الإغماء. واحتج أصحابنا -يعني الشافعية-

(1)

بحديث أنس رضي الله عنه: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "ينامون، ثم يصلون، ولا يتوضئون" رواه مسلم وهذا لفظه، ورواه أبو داود بلفظ "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء

(1)

قد تقدم قوله واحتج أصحابنا، والفرق بين الاحتجاجين أن الأول في رد قول من يقول بعدم كون النوم من النواقض وهذا في الاحتجاج على الفرق بين نوم الممكن مقعده فلا ينتقض، وبين نوم غيره فينتقض. فتنبه. اهـ الجامع.

ص: 492

الآخرة حتى تخفقَ رؤوسهم ثم يصلون، ولا يتوضئون" وإسناده صحيح وكذلك رواه الشافعي رحمه الله في مسنده، وغيره، وفي رواية لأبي داود، والبيهقي، وغيرهما "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون، ثم يصلون، ولا يتوضأون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية للبيهقي "لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظون للصلاة حتى إني لأسمع لأحدهم غطيط، ثم يقومون، فيصلون، ولا يتوضأون".

وعن أنس رضي الله عنه قال: "أقيمت صلاة العشاء، فقال رجل لي حاجة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يناجيه حتى نام القوم، أو بعض القوم، ثم صلوا"، وفي رواية "حتى نام أصحابه، ثم جاء فصلى بهم" رواه مسلم وعن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل ليلة عن العشاء، فأخرها حتى رقدنا في المسجد، ثم استقيظنا، ثم خرج علينا". وعن ابن عباس رضي الله عنهما "أعتم رسول الله في بالعشاء حتى رقد الناس، واستيقظوا، ورقدوا، واستيقظوا"، رواهما البخاري في صحيحه. وظاهرهما أنهم صلوا بذلك الوضوء، وروى مالك، والشافعي، بإسناد صحيح أن ابن عمر رضي الله عنهما كان ينام، وهو جالس، ثم يصلي، ولا يتوضأ. ورَوَى البيهقي، وغيره معناه عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، وأبي أمامة، رضي الله عنهم، فهذه دلائل ظاهرة من الأحاديث الصحيحة والآثار.

واحتج جماعة من أصحابنا بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من نام جالسا فلا وضوء عليه، ومن وضع جنبه فعليه الوضوء"، وبحديث حذيفة رضي الله عنه قال:"كنتَ أخفق برأسي فقلت يا رسول الله وجب علي وضوء؟ قال: لا حتى تضع جنبك"، لكن الحديثان ضعيفان بين البيهقي ضعفهما، وفيما سبق ما يغني عنهما.

ص: 493

وأما الجواب عن حديث علي، وصفوان رضي الله عنهما فهو أنه محمول على نوم غير الممكن، وهذا يتعين المصير إليه للجمع بين الأحاديث الصحيحة. وأما قياسهم على الإغماء فالفرق ظاهر؛ لأن المغمى عليه ذاهب العقل لا يحيى بشيء أصلا، والنائم يحس، ولهذا إذا صيح به تنبه.

واحتج من قال ينقض كثير النوم كيف كان دون قليله بحديث أنس رضي الله عنه: "أنهم كانوا ينامون، فتخفق رؤوسهم" وهذا يكون في النوم القليل، ولأنه مع الاستثقال يغلب خروج الخارج بخلاف القليل. واحتج أصحابنا بالأحاديث السابقة وليس فيها فرق بين القليل والكثير، والجواب عن حديث أنس أنا قد بينا أنه حجة لنا وليس فيه فرق بين قليله وكثيره، ودعواهم أن خفق الرؤوس إنما يكون في القليل لا يقبل، وأما المعنى الذي ذكروه فلا نسلمه؛ لأن النوم إمّا أن يجعل حدثًا في عينه كالإغماء، وهم لا يقولون به، وإما دليلا على الخارج، وحينئذ إنما تظهر دلالته إذا لم يكن المحل ممكنا، وأما المتمكن فيبعد خروجه منه، ولا يحيى به، فلا ينتقض بالوهم.

واحتج من قال لا ينقض النوم على هيئة من هيئآت الصلاة بما رواه أبو خالد الدّالاني عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما الوضوء على من نام مضطجعا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله" وبحديث حذيفة الذي قدمناه أنه نام جالسا فقال يا رسول الله أمن هذا وضوء؟ قال:"لا حتى تضع جنبك على الأرض".

واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة السابقة كحديث علي، وصفوان وغيرهما من غير تعرض لهذا الفرق الذي زعموه، ولا أصل له، ولأنه نام غير ممكن مقعده من الأرض فأشبه المضطجع، ولأنا اتفقنا

ص: 494

نحن وهم على أن النوم ليس حدثا في عينه، وإنما هو دليل للخارج، فضبطناه نحن بضابط صحيح جاءت به السنة، ومناسبته ظاهرة، وضبطوه بما لا أصل، ولا معنى، يقتضيه، فإن الساجد والراكع كالمضطجع، ولا فرق بينهما في خروج الخارج.

وأما حديث الدَّالاني فجوابه أنه حديث ضعيف باتفاق أهل الحديث، وممن صرح بضعفه من المتقدمين أحمد بن حنبل، والبخاري، وأبو داود، قال أبو داود، وإبراهيم الحربي: هو حديث منكر، ونقل إمام الحرمين في كتابه الأساليب إجماع أهل الحديث على ضعفه، وهو كما قال، والضعف عليه بين. وأجاب أصحابنا عنه بأجوبة وتأولوه تأويلات لا حاجة إليها مع الاتفاق على ضعفه، فإنه لا يلزم الجواب عما ليس بدليل. وأما حديث حذيفة فضعيف أيضا كما سبق بيانه قريبا.

واحتج من قال: لا ينتقض وضوء النائم في الصلاة كيف كان بحديث المباهاة وهو ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا نام العبد في صلاته باهى الله به ملائكته يقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده ساجد بين يدي". ولأن الحاجة تدعوا إليه، ولا يمكن لمتهجد ونحوه الاحتراز منه إلا بعسر، فعفي عنه كما عفي عن أشياء كثيرة في الصلاة للحاجة.

واحتج أصحابنا بما احتجوا به على القائلين: لا ينقض النوم على هيئة المصلي، وأجابوا عن حديث المباهاة بالاتفاق على ضعفه،

(1)

ولو صح لكان تسميته ساجدا باسم ما كان عليه فمدحه على مكابدة العبادة.

وأما المعنى الذي ذكروه فلا يقبل لأن الأحداث لا تثبت إلا توقيفا، وكذا العفو عنها، فحصل في هذه المسألة جمل من الأحاديث جمعنا

(1)

وقد أشبع الحافظ الكلام في تضعيف حديث المباهاة في التلخيص ج 1 ص 120 بما لا مزيد عليه فارجع إليه.

ص: 495

بَيْنَهَا، ولم نَرُدَّ حديثا منها صحيحا، ولله الحمد، وهو أعلم بالصواب اهـ كلام النووي رحمه الله تعالى في المجموع ج 1 ص 17 - 20 ببعض تصرف وزيادة.

قال الجامع عفا الله عنه:

أقوى المذاهب في هذه المسألة، هو مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، وقد عرفت قوته من الأدلة التى ساقها النووي رحمه الله، وقد رجح الشوكاني رحمه الله هذا المذهب في نيل الأوطار، ودونك عبارته، قال رحمه الله بعد ذكر مذهب الشافعي، وأن النوم ليس حدثا في نفسه عنده، وإنما هو دليل على خروج الخارج ما نصه:

وهذا أقرب المذاهب عندي، وبه يجمع بين الأدلة، وقوله: إن النوم ليس حدثا في نفسه، هو الظاهر، وحديث الباب -يعني حديث صفوان المتقدم- وإن أشعر بأنه من الأحداث باعتبار اقترانه بما هو حدث بالإجماع، فلا يخفى ضعف دلالة الاقتران وسقوطها عن الاعتبار عند أئمة الأصول، والتصريح بأن النوم مظنة استطلاق الوكاء كما في حديث معاوية، واسترخاء المفاصل كما في حديث ابن عباس مشعر أتم إشعار بنفي كونه حدثا في نفسه. وحديث أن الصحابة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون، من المؤيدات لذلك ويبعد جهل الجميع منهم كونه ناقضا.

والحاصل أن الأحاديث المطلقة في النوم تحمل على المقيدة بالاضطجاع، وقد جاء في بعض الروايات بلفظ الحصر، والمقال الذي فيه منجبر بما له من الطرق والشواهد.

ومن المؤيدات لهذا الجمع حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "بت في بيت خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت إلى جنبه" الحديث وفيه

ص: 496

"فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني" رواه مسلم، وحديث "وإذا العبد في صلاته باهى الله به ملائكته" أخرجه الدارقطني، وابن شاهين من حديث أبي هريرة، والبيهقي من حديث أنس، وابن شاهين أيضا من حديث أبي سعيد، وفي جميع طرقه مقال. وحديث:"من استحق النوم وجب عليه الوضوء" عند البيهقي من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح، ولكنه قال البيهقي: روي ذلك مرفوعا ولا يصح. وقال الدارقطني: وقفه أصح. وقد فسر استحقاق النوم بوضع الجنب. اهـ كلام الشوكاني. نيل ج 1 ص 289 - 290 بتصرف يسير.

(التنبيه الثاني) قال النووي رحمه الله أيضا: كان من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لا ينتقض وضوءه بالنوم مضطجعا للأحاديث الصحيحة:

منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين "أنه صلى الله عليه وسلم نام حتى سمع غطيطه، ثم صلى، ولم يتوضأ"، وقال صلى الله عليه وسلم "إن عيني تنامان ولا ينام قلبي".

فإن قيل: هذا مخالف للحديث الصحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم نام في الوادي عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس" ولو كان غير نائم القلب لما ترك صلاة الصبح، فجوابه من وجهين: أحدهما وهو المشهور في كتب المحدثين والفقهاء أنه لا مخالفة بينهما فإن القلب يقظان يحس بالحدث

وغيره مما يتعلق بالبدن، ويشعر به القلب، وليس طلوع الفجر والشمس من ذلك، ولا هو مما يدرك بالقلب، وإنما يدرك بالعين، وهي نائمة. والجواب الثاني حكاه الشيخ أبو حامد في تعليقه في هذا الباب عن بعض أصحابنا قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم نومان: أحدهما ينام قلبه وعينه، والثاني

عينه دون قلبه فكان نوم الوادي من النوع الأول. والله أعلم. اهـ المجموع. ج 1 ص 20 - 21.

ص: 497

قال الجامع: هذا الجواب الثاني كما قال الأذرعي ضعيف مخالف لظاهر حديث "ولا ينام قلبي" فلا يقبل إلا بدليل، والصحيح الأول.

(التنبيه الثالث) قال النووي رحمه الله أيضا: أجمعت الأمة على انتقاض الوضوء بالجنون والإغماء، وقد نقل الإجماع فيه ابن المنذر، وآخرون. واستدل له أصحابنا وغيرهم بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم "أغمي عليه، ثم أفاق فاغتسل ليصلي، ثم أغمي عليه، ثم أفاق فاغتسل". رواه الشيخان. اهـ المجموع ج 1 ص 11. وقال في شرح مسلم: واتفقو على أن زوال العقل بالجنون والإغماء والسكر بالخمر، أو النبيذ، أو البنج، أو الدواء ينقض الوضوء، سواء قل، أو كثر، وسواء كان ممكن المقعدة، أو غير ممكنها. اهـ قال الشوكاني رحمه الله: وفي البحر: أن السكر كالجنون عند الأكثر، وعند المسعودي أنه غير ناقض إن لم يغش. اهـ نيل ج 1 ص 290. والله تعالى أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 498

‌117 - بَابُ النَّعَاسِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حكم النعاس.

قال في "ق": النُّعاس بالضم: الوَسَن، أو فترة في الحواس، نَعَسَ، كمنع، فهو ناعس، ونَعسَانُ قليلة. اهـ ص 745. والذي في المصباح، والبصائر: أن نَعَس من باب قتل، وهو ظاهر عبارة اللسان.

وقال في اللسان ج 6 ص 233: النعاس: النوم، وقيل: هو مُقَارَبَتُه وقيل: ثَقْلَتُهُ وقال الأزهري: حقيقة النعاس: السنة من غير نوم. اهـ

والوَسَن محركة، وبهاء، والوَسْنَة، والسِّنَةُ كعدَة: شدة النوم، أو أوله، أو النعاس قاله في "ق"، ونقل ابن القطاع وغيره أن الوسن يقال: للاستيقاظ، فهو من الأضداد. أفاده نصر الهوريني في تعليقه على "ق" ص 1598. وقد تقدم في الباب الماضي عبارة المصباح في الفرق بين النوم والسنة، والنعاس، فارجع إليه تزدد علما.

والموافق من هذه المعاني لغرض المصنف هو ما قاله الأزهري حيث إنه ساق حديث الباب استدلالا على أن النعاس لا ينقض الوضوء، فلو كان معنى النعاس النوم الثقيل لنقض الوضوء، ووجه استدلاله أنه لو كان ناقضا للوضوء لما منع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بخشيته أن يدعو على نفسه، بل وجب أن يذكر أنه لا تصح صلاته مع النعاس أو نحوه لانتقاض وضوئه. أفاده السندي.

162 -

أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا نَعَسَ

ص: 499

الرَّجُلُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَنْصَرِفْ، لَعَلَّهُ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي".

رجال الإسناد: ستة

1 -

(بشر بن هلال) الصّوّاف البصري أبو محمَّد النميري -بضم النون- ثقة، من العاشرة، مات سنة -247 - اهـ "ت"، ص 45 وفي "تت" روى عن جعفر بن سليمان، وعبد الوارث بن سعيد، ويزيد بن زريع، ويحيى القطان، وغيرهم.

وروى عنه الجماعة، إلا البخاري، وإسحاق الكوسج، وبَقيّ بن مخلد، وحرب الكرماني، وابن خز يمة، وأبو حاتم. وقال: محله الصدق، وكان أيقظ من بشر بن معاذ. وقال ابن حبان في الثقات: يُغْرب، وقال الحافظ: وثقه النسائي في أسماء شيوخه، وأبو علي الجياني في أسماء شيوخ أبي داود. اهـ ج 1 ص 362 أخرج عنه مسلم، والأربعة.

2 -

(عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان العنبري مولاهم أبو عبيدة التنوري

(1)

بفتح المثناة وتشديد النون البصري، ثقة ثبت رمي بالقدر، ولم يثبت عنه، من الثامنة، مات سنة -180 - .

وفي "صة" أحد الأعلام، رمي بالقدر، ولم يصح. عن عبد العزيز ابن صهيب، وأبي التياح، وأيوب، وسليمان التيمي، وخلق. وعنه ابنه عبد الصمد، والقطان، وعفان بن مسلم، وخلائق. قال النسائي: ثقة ثبت. وقال الحافظ الذهبي: أجمع المسلمون على الاحتجاج به. اهـ ج 2 ص 185 وتقدم في 6/ 6.

(1)

بفتح التاء وضم النون المشددة وبعدها واو ثم راء: نسبة إلى عمل التنور وبيعه. أفاده في هامش (صة).

ص: 500

3 -

(أيوب) بن أبي تميمة السختياني البصري الحجة ثقة ثبت -5 - تقدم في 55/ 69 وفي 42/ 48.

4 -

(هشام بن عروة) المدني ثقة فقيه -5 - تقدم في 49/ 61.

5 -

(عروة) بن الزبير بن العوام المدني أحد الفقهاء السبعة ثقة -3 - تقدم في 49/ 61.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5.

لطائف هذا الإسناد

منها أنه من سداسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم ممن اتفقوا على التخريج لهم إلا شخيه، فلم يخرج له البخاري كما مر آنفا، وأنهم ما بين بصريين، وهم من قبل هشام، ومدنيين، وهم الباقون، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وعائشة من المكثرين السبعة.

شرح الحديث

(عن عائشة) رضي الله عنها أنها (قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا نَعَس الرجل) من باب منع كما في "ق"، وفي المصباح: نَعَس، ينعُس من باب قتل، والاسم: النعاس، فهو ناعس، والجمع نُعَّس، مثل راكِعِ ورُكَّع، والمرأة ناعسة، والجمع نَوَاعس، وربما قيل: نعسان ونَعْسَى، حملوه على وسَنان ووَسْنَى.

وأول النوم النعاس وهو أن يحتاج الإنسان إلى النوم، ثم الوسن، وهو ثقل النعاس، ثم التَّرْنيقُ، وهو مخالطة النعاس للعين، ثم الكَرَى، والغَمْض، وهو أن يكون الإنسان بين النائم واليَقْظان، ثم العَفْق وهو النوم، وأنت تسمع كلام القوم، ثم الهُجُود والهُجُوع. وروي "أن أهل الجنة لا ينامون" لأن النوم موت أصغر، قال الله تعالى: {اللَّهُ

ص: 501

يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]، وكثيرا ما يحمل الشيء على نظيره، قال الفراء: وأحسن ما يكون ذلك في الشعر قال الأزهري: حقيقة النُّعاس: الوسن من غير نوم. اهـ عبارة المصباح ج 2 ص 613.

وفي رواية البخاري: "إذا نعس أحدكم"(وهو في الصلاة) جملة حالية، من الرجل وفي الكُبرى "وهو يصلي"(فلينصرف) أي بالتسليم بعد إكمالها بالتخفيف.

وقال الحافظ رحمه الله: وحمله المهلب على ظاهره، فقال: بقطع الصلاة لغلبة النوم عليه، فدل على أنه إذا كان النعاس أقل من ذلك عفي عنه. قال: وقد أجمعوا على أن النوم القليل لا ينقض الوضوء، وخالف في ذلك المزني فقال: ينقض قليله وكثيره، فخرق بذلك الإجماع. كذا قال المهلب، وتبعه ابن بطال، وابن التين، وغيرهما وقد تحاملوا على المزني في هذه الدعوى، فقد نقل ابن المنذر، وغيره عن بعض الصحابة والتابعين المصير إلى أن النوم حدث ينقض قليله وكثيره، وهو قول أبي عبيد، وإسحاق بن راهويه، قال ابن المنذر: وبه أقول، لعموم حديث صفوان بن عسال، يعني الذي صححه ابن خزيمة، وغيره، ففيه:"إلا من غائط، أو بول، أو نوم" فسوّى بينهما في الحكم، والمراد بقليله وكثيره طول زمانه وقصره لامباديه.

والذين ذهبوا إلى أن النوم مظنة الحدث اختلفوا على أقوال: التفرقة بين قليله وكثيره، وهو قول الزهري، ومالك، وبين المضطجع وغيره، وهو قول الثوري، وبين المضطجع والمستند وغيرهما، وهو قول أصحاب الرأي، وبينهما والساجد بشرط قصده النوم وبين غيرهم، وهو قول أبي يوسف، وقيل: لا ينقض نوم غير القاعد مطلقا، وهو قول الشافعي في

ص: 502

القديم، وعنه التفصيل بين خارج الصلاة فينقضى أو داخلها فلا، وفَصَّل في الجديد بين القاعد المتمكن فلا ينقض وبين غيره فينقض اهـ فتح ج 1 ص 376. وقد تم البحث عن هذه الأقوال مستوفى في الباب الماضي.

ثم ذكر سبب أمره بالانصراف فقال (لعله يدعو على نفسه) مكان الدعاء لها، بسبب غلبة النعاس عليه، وهذا هو محل استنباط المصنف رحمه الله عدم انتقاض الوضوء بالنعاس، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن سبب الأمر بالانصرف، وهو الدعاء على نفسه، ولو كان النعاس ناقضا للوضوء لعلل الأمر بالانصراف به. وهو استنباط حسن. ولفظ البخاري لعله "يستغفر، فيسب نفسه".

قال في الفتح: يحتمل أن يكون علة النهي خشية أن يوافق ساعة الإجابة، قاله ابن أبي جمرة. اهـ ج 1 ص 376. وقال البدر العيني: فإن قلت: كيف يصح ها هنا معنى الترجي؟ قلت الترجي فيه عائد إلى المصلي لا إلى المتكلم به، أي لا يدري أمستغفر، أم سابّ مترجيا للاستغفار، فهو بضد ذلك، أو استعمل بمعنى التمكن بَيْنَ الاستغفار والسب؛ لأن الترجي بين حصول المرجو وعدمه، فمعناه لا يدري: أيستغفر، أم يسب، وهو متمكن منهما على السوية. اهـ عمدة ج 2 ص 425 وقال الحافظ رحمه الله: قال المهلب: فيه إشارة إلى العلة الموجبة لقطع الصلاة، فمن صار في مثل هذه الحال، فقد انتقض وضوؤه بالإجماع. كذا قال، وفيه نظر، فإن الإشارة إنما هي إلى جواز قطع الصلاة أو الانصراف إذا سلم منها. وأما النقض فلا يتبين من سياق الحديث؛ لأن جريان ما ذكر على اللسان ممكن من الناعس، وهو القائل إن قليل النوم لا ينقض فكيف بالنعاس، وما ادعاه من الإجماع منتقض، فقد صح عن أبي موسى الأشعري، وابن عمر، وسعيد بن المسيب: أن النوم لا ينقض مطلقا، وفي صحيح مسلم، وأبي داود: "وكان

ص: 503

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم فينامون، ثم يصلون، ولا يتوضئون"، فحمل على أن ذلك كان، وهم قعود، لكن في مسند البزار بإسناد صحيح في هذا الحديث: "فيضعون جنوبهم، فمنهم من ينام، ثم يقومون إلى الصلاة". اهـ فتح ج 1 ص 376.

(وهو لا يدري) جملة حالية من الضمير في يدعوا، أي والحال أنه لا يعلم دعاءه على نفسه، فلعله يوافق ساعة الإجابة، فيكون ضررا عليه. وسيأتي للمصنف في رقم -443 - وهو في الكبرى برقم 187 من حديث أنس:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نعس أحدكم في صلاته فلينصرف، وليرقد"، ولفظ البخاري: "فلينم".

قال المهلب: إنما هذا في صلاة الليل؛ لأن الفريضة ليست في أوقات النوم، ولا فيها من التطويل ما يوجب ذلك. ورد عليه بأن العبرة بعموم اللفظ فيعمل به أيضا في الفرائض إن وقع ما أُمنَ بقاءُ الوقت. أفاده في الفتح ج 1 ص 377. وقال البدر العيني رحمه الله: فإن قلت: فقد جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه في نومه في بيت ميمونة رضي الله عنها "فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني" ولم يأمره بالنوم. قلت: لأنه جاء تلك الليلة ليتعلم منه ففعل ذلك ليكون أثبت له. اهـ عمدة

ج 2 ص 425. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.

المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكره عند المصنف: هذا الحديث أخرجه الصنف هنا 117/ 162، وفي الكبرى 101/ 154 بهذا السند.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول، وغيرهم:

ص: 504

أخرجه (خ م د) فأخرجه (خ) في الطهارة -55/ 1 - عن عبد الله ابن يوسف و (م) في الصلاة 139/ 4 عن قتيبة، و (د) في الصلاة 309/ 1 عن القعنبي ثلاثتهم، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها. وأخرجه أحمد في 6/ 56، و 6/ 205 و 6/ 202 - ، وأخرجه البيهقي في 3/ 16.

المسألة الرابعة: قال الحافظ رحمه الله: هذا الحديث ورد على سبب، وهو ما رواه محمَّد بن نصر من طريق ابن إسحاق عن هشام في قصة الحولاء بنت تُويت. اهـ فتح ج 1 ص 377.

قال الجامع عفا الله عنه: وقصتها هو ما رواه البخاري في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها، وعندها امرأة، قال: من هذه قالت: فلانة تذكر من صلاتها قال: "مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا". وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه. المسألة الخامسة: في فوائده: في هذا الحديث: الأمر بالانصراف عند غلبة النوم، وأن النعاس لا ينقض الوضوء إذا كان خفيفا، وفيه: الأخذ بالاحتياط؛ لأنه علله بأمر محتمل، وفيه الدعاء في الصلاة، وفيه الحث على الخشوع، وحضور القلب في العبادة، وذلك لأن الناعس لا يحضر قلبه، والخشوع إنما يكون بحضور القلب. والله تعالى أعلم.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

ص: 505

‌118 - الوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على إيجاب الوضوء من مس الرجل ذكره. والذكر الفرج من الحيو ان جمعه: ذكَرَة، مثل عنَبَة، وَمذَاكير على غير قياس. اهـ المصباح ج 1 ص 209.

163 -

أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، أَنْبَأَنَا مَالِكٌ (ح) وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَذَكَرْنَا مَا يَكُونُ مِنْهُ الْوُضُوءُ، فَقَالَ مَرْوَانُ: مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ الْوُضُوءُ. فَقَالَ عُرْوَةُ: مَا عَلِمْتُ ذَلِكَ، فَقَالَ مَرْوَانُ: أَخْبَرَتْنِي بُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ".

رجال الإسناد: تسعة

1 -

(هارون بن عبد الله) بن مروان البغدادي أبو موسى الحَمَّال بالمهملة، البزاز ثقة، من العاشرة، مات سنة -243 - وقد ناهز الثمانين وقد تقدم في 50/ 62.

ص: 506

2 -

(معن) بن عيسى بن يحيى ى الأشجعي مولاهم، أبو يحيى المدني القزاز، ثقة ثبت، قال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب مالك، من كبار العاشرة، مات سنة 198. وتقدم في 50/ 62.

3 -

(مالك) بن أنس الإمام العلم المشهور -7 - تقدم في 7/ 7.

4 -

(الحارث بن مسكين) بن محمَّد بن يوسف، أبو عمرو المصري ثقة -10 - تقدم في 9/ 9.

5 -

(ابن القاسم) هو عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جُنَادة العُتَقي -بضم المهملة وفتح المثناة بعدها قاف، أبو عبد الله المصري الفقيه صاحب مالك، ثقة، من كبار العاشرة، مات سنة 251. تقدم في 19/ 20.

6 -

(عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم) الأنصاري المدني، القاضي، ثقة، من الخامسة، مات سنة -135 - وهو ابن -70 - رَوَى عن أبيه، وأنس، وعباد بن تميم. وعنه الزهري وهشام ابن عروة، والسفيانان. قال النسائي: ثقة ثبت. تقدم في 118/ 163.

7 -

(عروة بن الزبير) بن العوام الأسدي، أبو عبد الله المدني، ثقة فقيه -3 - ، تقدم في 49/ 61 أو في 40/ 44.

8 -

(مروان بن الحكم) بن أبي العاص بن أمية، أبو عبد الملك الأموي، المدني، ولي الخلافة في آخر سنة -64 - ، ومات سنة 65 في رمضان وله -3 أو -61 - سنة لا يثبت له صحبة، من الثالثة.

روى عن عثمان، وعلي. وعنه ابنه عبد الملك، وسهل بن سعد، أكبر منه في صحيح البخاري. استولى على مصر، والشام، ومات بدمشق سنة -65 - اهـ "صة"ج 3 ص 19.

وفي "تت": كتب لعثمان، وولي امرة المدينة أيام معاوية، وبويع له

ص: 507

بالخلافة بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية بالجابية، وكان الضحاك ابن قيس غلب على دمشق، ودعا لابن الزبير، ثم دعا لنفسه فواقعه مروان بمرج راهط، فقتل الضحاك، وغلب مروان على دمشق، ثم على مصر، ومات في رمضان سنة 65 وكانت ولايته تسعة أشهر. قال البخاري: لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: ولد يوم الخندق، وعن مالك: أنه ولد يوم أحد، وقد قال مروان في كلام دار بينه وبين روح بن زنبَاع عندما طلب الخلافة: ليس ابن عمر بأخير مني، ولكنه أسن مني، وكانت له صحبة، وعاب الإسماعيلي على البخاري تخريج حديثه، وعدّ من موبقاته أنه رَمَى طلحة أحد العشرة يوم الجَمَل، وهما جميعا مع عائشة، فقتله، ثم وثب على الخلافة بالسيف. اهـ. "تت" ج 10 ص 92 واعتذر عنه في هدي الساري بما حاصله: يقال: له رؤية، فإن ثبتت فلا يعرج على من تكلم فيه، وقال عروة بن الزبير: كان مروان لا يتهم في الحديث، وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي الصحابي اعتمادا على صدقه. ونقموا عليه أنه رَمَى طلحة يوم الجمل بسهم، فقتله، ثم شهر السيف في طلب الخلافة حتى جرى ما جرى. فأما قتل طلحة فكان متأولا فيه، كما قرره الإسماعيلي، وغيره، وأما ما بعد ذلك فإنما حَمَل عنه سهلُ بن سعد، وعروةُ، وعلي بن الحسين، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وهؤلاء أخرج البخاري أحاديثهم عنه في صحيحه لما كان أميرا عندهم بالمدينة قبل أن يبدو منه في الخلاف على ابن الزبير ما بدا، والله أعلم. وقد اعتمد مالك على حديثه ورأيه، والباقون

(1)

سوى مسلم. اهـ هدي الساري مقدمة فتح الباري ص 466.

9 -

(بسرة بنت صفوان) -بضم أولها وسكون المهملة- بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، الأسدية صحابية لها سابقة وهجرة، عاشت إلى ولاية معاوية. اهـ "ت" ص 466.

(1)

أي أخرج له الباقون غير البخاري، إلا مسلما، وإنما قال: الباقون؛ لأن رواية البخاري تقدم ذكرها.

ص: 508

وفي "تت": أخت عقبة بن أبي معيط لأمه، هكذا نسبها الزبير، وقال: ليس لصفوان بن نوفل عقب إلّا من بسرة، هي أم معاوية بن المغيرة ابن أبي العاص، وهي جدة عبد الملك بن مروان؛ لأن أمه عائشة بنت معاوية، وقال غيره: بسرة بنت صفوان بن أمية بن مُحَرِّث بن حمل بن سعد بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة خالة مروان بن الحكم. روت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، ولها صحبة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، وعروة ابن الزبير، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف. قال ابن عبد البر: ليس قول من قال: إنها من كنانة بشيء، والصواب أنها من بني أسد. وقال ابن حبان: خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عمة أبيها، وكانت من المهاجرات وقال مصعب: هي من المبايعات، وقال الشافعي: لها سابقة وهجرة قديمة. عاشت إلى ولاية معاوية. أخرج لها الجماعة اهـ "تت" ج 12 ص 404.

لطائف هذا الإسناد

منها أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم مدنيون إلا هارون، فبغدادي، والحارث، وابن القاسم فمصريان، وفيه كلمة (ح) وقد تقدم شرحها غير مرة، وفيه قوله: الحارث بن مسكين قراءة عليه، وأنا أسمع، وقد مر شرحه في -9/ 9 - وفيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم، عن بعض: عبد الله، وعروة، ومروان، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه الإخبار، والإنباء والسماع، والتحديث،

والعنعنة.

وقوله: والحارث عطف على قوله: هارون. وفيه ما تقدم من القاعدة المشهورة، وهي تقدير لفظ "قال" بين ألفاظ التحديث، فيقال: حدثنا هارون بن عبد الله، قال: حدثنا معن، قال أنبأنا: مالك الخ. وقد تقدم البحث عنه غير مرة.

ص: 509

شرح الحديث

(عن عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم) بالحاء المهملة والزاي المعجمة (أنه سمع عروة بن الزبير بقول) جملة حالية على الأصح؛ لأن سمع يتعدى إلى مفعول واحد كما تقدم غير مرة (دخلت على مروان بن الحكم فذكرنا) وفي الموطأ "فتذاكرنا"(ما يكون منه الوضوء)"ما" يحتمل أن تكون استفهامية مبتدأ خبره الجملة بعده، والجملة مفعول "ذكر" معلق عنها العامل، أي فذكرنا أيّ شيء يجب منه الوضوء، ويحتمل أن تكون موصولة، أي فذكر الشيء الذي يكون منه الوضوء، والوضوء هنا بالضم؛ لأن المراد به الفعل (فقال مروان من مَسِّ الذكر الوضوء) الجار والمجرور خبر مقدم، و"الوضوء" مبتدأ مؤخر، وليس المراد بالوضوء الوضوء اللغوي، وهو غسل اليد، بل المراد الوضوء الشرعي، لما في رواية ابن حبان:"مَن مس فرجه، فليتوضأ وضوءه للصلاة"، وفي أخرى له:"مَن مس فرجه فليعد الوضوء"، والإعادة لا تكون إلا لوضوء الصلاة، فالحديث يدل على انتقاض الوضوء من مس الذكر، أفاده في عون المعبود ج 1 ص 307 - 308 (فقال عروة) فيه التفات، إذا الظاهر أن يقول: فقلت (ما علمت ذلك) أي ما علمت أن مس الذكر ينقض الوضوء، وقال ذلك إنكارا على مروان فيما ادّعاه، ولذا احتج عليه مروان بحديث بسرة هذا (فقال مروان) محتجا عليه في ذلك (أخبرتني بسرة) بضم الباء وسكون السين المهملة (بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قول: إذا مس أحدكم ذكره) أي من غير حائل لما في رواية أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر، فقد وجب عليه الوضوء"، رواه أحمد وابن حبان قاله في المنهل ج 2 ص 192، ولأن المس في الأصل الإفضاء إلى الشىء باليد من غير حائل، قال في المصباح: مَسسْته من باب تَعبَ، وفي لغة مَسَسْته مَسًا من باب قتل: أفضيت إليه بيدي من

ص: 510

غير حائل، هكذا قيدوه، والاسم المسيس مثل كريم. اهـ ج 2 ص 572.

(فليتوضأ) أي وضوء الصلاة كما مرّ آنفا.

وفيه دليل على انتقاض الوضوء من مس الذكر، وسيأتي الكلام عليه وبيان مذاهب العلماء وأدلتهم آخر الباب إن شاء الله تعالى.

164 -

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: ذَكَرَ مَرْوَانُ فِي إِمَارَتِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ أَنَّهُ يُتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، إِذَا أَفْضَى إِلَيْهِ الرَّجُلُ بِيَدِهِ، فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ، وَقُلْتُ: لَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ مَسَّهُ، فَقَالَ: مَرْوَانُ: أَخْبَرَتْنِي بُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ مَا يُتَوَضَّأُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَيُتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ".

قَالَ عُرْوَةُ: فَلَمْ أَزَلْ أُمَارِي مَرْوَانَ حَتَّى دَعَا رَجُلاً مِنْ حَرَسِهِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى بُسْرَةَ، فَسَأَلَهَا عَمَّا حَدَّثَتْ مَرْوَانَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بُسْرَةُ بِمِثْلِ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْهَا مَرْوَانُ.

ص: 511

رجال الإسناد: ثمانية

1 -

(أحمد بن محمَّد بن المغيرة) بن سنان الأزدي الحمصي، صدوق من الحادية عشرة، مات سنة -264 - وفي "تت" وقيل: إن اسم جده سيار، رَوَى عن أبي حيوة شريح بن يزيد الحمصي، وبشر بن شعيب بن أبي حمزة، وعثمان بن سعيد بن كثير، وغيرهم. وعنه النسائي، وقال: ثقة، وابن جوصا، وأبو عوانة، وابن أبي حاتم، وقال: ثقة صدوق، وابن جرير، وغيرهم. وأرخ ابن قانع وفاته سنة -264 - بحمص. اهـ ج 1 ص 77 - تقدم في 69/ 85.

2 -

(عثمان بن سعيد) بن كثير بن دينار القرشي مولاهم أبو عمرو. الحمصي، ثقة عابد، من التاسعة، مات سنة 209، وفي "تت": قال أحمد وابن معين: ثقة، وقال عبد الوهاب بن نجدة كان يقال هو من الأبدال، وقال أيضا هو ريحانة الشام عندنا، وقال الحاكم في المستدرك: ثقة اهـ باختصار ج 7 ص 118، أخرج له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه.

3 -

(شعيب) بن أبي حمزة -دينارالحمصي ثقة ثبت -7 - تقدم في 69/ 85.

4 -

(الزهري) محمَّد بن مسلم المدني الحجة ثقة فقيه حافظ -4 - تقدم في 1/ 1. وأما 5، 6، 7، 8 فقد تقدموا في السند السابق.

لطائف هذا الإسناد

منها أنه من ثمانياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأن الثلاثة الأولين حمصيون والباقون مدنيون، وأن شيخه ممن انفرد هو به عن سائر الأئمة.

شرح الحديث

(عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم) هو المذكور في السند السابق لكن هنا أسقط محمدا أبا أبي بكر، ونسبه إلى جده (أنه سمع

ص: 512

عروة بن الزبير يقول: ذكر مروان) بن الحكم (في إمارته) بكسر الهمزة: الولاية، ومثلها الإمْرة، بالكسر أيضا، يقال: أمَرَ على القوم يأمُر، من باب قَتَل، فهو أمير، والجمع أمَرَاء، يُعَدَّى بالتضعيف، فيقال: أمَّرته تأميرا. قاله في المصباح ج 1 ص 22 أي في أيام ولايته (على المدينة) النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم. والمدينة في الأصل: المصر الجامع، ووزنها فَعيلة؛ لأنها من مَدَن، وقيل مَفعَلة، بفتح الميم؛ لأنها من دان والجمع مُدُن، ومدائن بالهمز على القول بأصالة الميم ووزنها فعائل، وبغير همز، على القول بزيادة الميم، ووزنها مفاعل لأن للياء أصلا في الحركلة فترد إليه، ونظيرها في الاختلاف معايش. قاله في المصباح ج 2 ص 566 - 567.

وقال ابن منظور رحمه الله: مَدَن بالمكان أقام به، فعل ممُاَت، أي غير مستعمل، ومنه المدينة، وهي فعيلة، وتجمع على مدائن بالهمز، ومَدَن ومَدَّن بالتخفيف، والتثقيل، وفيه قول آخر أنه مَفعلة من دنْتُ -أي بالكسر- بمعني مُلكتُ، قال ابن بَرّىّ: لو كانت الميم في مدينة زائدة لم يجز جمعها على مُدُن، وفلان مَدَّن المدائن كما يقال: مَصَّرَ الأمصار، قال: وسئل أبو علي الفسويّ عن همزة مدائن فقال: فيه قولان: من جعله فَعيلة من قولك مدن بالمكان أي أقام به هَمَزَه، ومن جعله مفعلة من قولك دينَ أي مُلكَ لم يهمزه كما لا يهمز معايش. والمدينة الحصين يبنى في أصْطُمَة

(1)

الأرض، مشتق من ذلك، وكل أرض يُبنى بها حصن في أصطمتها فهي مدينة، والنسبة إليها مديني، والجمع مدائن ومُدُن.

والمدينة: اسم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة غلبت عليها تفخيما لها شرفها الله وصانها، وإذا نسبت إلى المدينة فالرجل، والثوب، مَدَني والطير، ونحوه، مَديني، لا يقال: غير ذلك.

(1)

الأصطُمَة والأسُطَمة: معظم الشيء، ومجتمعه، أو وسطه اهـ ق ص 1458.

ص: 513

وقال بعد ذلك: وإذا نسبت إلى مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام قلت: مَدَني، وإلى مدينة المنصور، مديني، وإلى مدائن كسرى مدائني، للفرق بين النسب، لئلا يختلط. اهـ لسان باختصار ج 13 ص 402 - 403.

قال الجامع عفا الله عنه: وهذا الذي قاله في الفرق بين النسب هو المشهور، وعبارة المجد في القاموس: والنسبة إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم مَدَني وإلى مدينة المنصور، وأصفهان، وغيرهما: مديني، أو الإنسان مدني، والطائر ونحوه مديني، وذكر قبيل ذلك أن المدينة تطلق عَلى ستة عشر بلدا. والحاصل أن المدينة صارت علما بالغلبة على طيبة زادها الله شرفا وعزا (أنه) أي الشأن والأمر (يتوضأ) بالبناء للمفعول (من مس الذكر) أي بيده بغير حائل كما هو ظاهر قوله (إذا أفضى إليه الرجل) أي وصل إليه (بيده) من دون ساتر، لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر، فقد وجب عليه الوضوء" رواه أحمد وابن حبان، وقال: صحيح سنده، عدول نقلته، وصححه الحاكم، وابن عبد البر.

وهذا الحديث يدل على وجوب الوضوء من المس، ويرد قول من قال بالاستحباب، وقد استدل به الشافعية في أن النقض إنما يكون إذا مس الذكر بباطن الكف لما يعطيه لفظ الإفضاء، قال الحافظ في التلخيص: لكن نازع في دعوى أن الإفضاء لا يكون إلا ببطن الكف غير واحد. قال ابن سيده في المحكم: أفضى فلان إلى فلان: وصل إليه، والوصول أعم من أن يكون بظاهر الكف كما يكون بباطنها، قال: ولا دليل على ما قالوه. يعني التخصيص بالباطن من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قول صاحب، ولا قياس، ولا رأي صحيح.

وقال المجد ابن تيمية في المنتقى بعد ذكر حديث أبي هريرة ما نصه:

ص: 514

وهو يمنع تأويل غيره على الاستحباب، ويثبت بعمومه النقض ببطن الكف وظهره، وينفيه بمفهومه من وراء حائل، وبغير اليد. وفي لفظ الشافعي:"إذا أفضى أحدكم إلى ذكره ليس بينها وبينه شيء فليتوضأ". اهـ نيل الأوطار ج 1 ص 302.

قال عروة (فأنكرت ذلك) عليه (وقلت: لا وضوء على من مسه) أي الذكر، وإنما أنكر عليه لظنه أنه رَأيٌ رءاه مروان بلا مستند. لكنه ذكر مستنده كما أوضحه قوله (فقال مروان: أخبرتنى بسرة بنت صفوان) رضي الله عنها (أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر) بالبناء للفاعل (ما) موصولة مفعول "ذكر"(يُتوضأ منه) بالبناء للمفعول، أي الشيء الذي يجب الوضوء منه. وجملة "ذكر" حال على تقدير "قد" على مذهب البصريين، وبدونها على مذهب الكوفيين، وهو الأولى

(1)

(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالفاء التفصيلية، فالجملة بيان لجملة "ذكر"، أي فقال: يتوضأ من كذا، ويتوضأ من كذا (ويتوضأ من مس الذكر) بالبناء للمفعول، فالجملة عطف على مقدر. واستدل بقوله الذكر من دون إضافة أن مس ذكر غيره ينقض الوضوء لإطلاقه.

قال الجامع: لكن الظاهر أن أن هنا عوض عن المضاف إليه، أي ذكره بدليل الرواية الأخرى، فلا يتم الاستدلال. فتأمل. والله أعلم.

(قال عروة فلم أزل أماري مروان) يقال ماريته، أماريه، مُمَاراة، ومرَاء: جادلته، ويقال ماريته أيضا: إذا طعنت في قوله تزييفا للقول، وتصغيرا للقائل، ولا يكون المراء إلا اعتراضا، بخلاف الجدال فإنه يكون ابتداء واعتراضا. قاله في المصباح. ج 2 ص 570 وقال في مادة جدل: جَدل الرجلُ، جَدَلًا، فهو جَدل، من باب تَعبَ: إذا اشتدت

(1)

أي لكثرة ورود مثل ذلك في كلام العرب، والتقدير في كل تركيب تكلف.

ص: 515

خصومته، وجادل مجادلة، وجدَالا: إذا خاصم بما يَشْغَل عن ظهور الحق، ووضوح الصواب، هذا أصله، ثم استعمل على لسان حملة الشرع في مقابلة الأدلة لظهور أرجحها، وهو محمود إن كان للوقوف على الحق، وإلا فمذموم، ويقال: أول من دون الجدل أبو علي الطبري. اهـ ج 1 ص 93.

(حتى دعا) أي نادى، يقال: دعوت زيدا: ناديته، وطلبت إقباله. قاله في المصباح ج 1 ص 194 (رجلا من حرسه) أي أعوانه وحفظته، لا واحد له، ولذا ينسب إلى لفظه فيقال حَرَسيّ. قال في المصباح: حَرَسَه يَحرُسُه من باب قتل: حفظه، والاسم الحرَاسة، فهو حارس، والجمع حَرَس وحُرَّاس، مثل خادم، وخدم، وخدام، وحرسُ السلطان: أعوانه، جُعل عَلَما على الجمع لهذه الحالة المخصوصة، ولا يستعمل له واحد من لفظه، ولهذا نسب إلى الجمع، فقيل: حرسي ولو جعل الحرس هنا جمع حارس لقيل: حارسي، قالوا: ولا يقال: حارسي إلا إذا ذُهب به إلى معنى الحرَاسَة دون الجنس. اهـ ج 1 ص 29.

ثم إنه لم يعرف ذلك الحرسي، ولذا طعن مَن طعن في هذا الحديث بجهالته، لكن ثبت أن عروة لم يكتف بهذا، بل لقي بسرة فأخبرته وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى (فأرسله إلى بسرة) ليسألها (فسألها عما حدثت مروان) أي عن الحديث الذي حدثته (فأرسلت إليه بسرة) أظهر في مقام الإضمار للإيضاح (بمثل) الحديث (الذي حدثني عنها مروان) أظهر أيضًا للإيضاح. وبالله التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 516

مسائل تتعلق بحديث بسرة رضى الله عنها

المسألة الأولى في درجته: حديث بسرة رضي الله عنها هذا صحيح.

المسألة الثانية في بيان مواضعه عند المصنف: أخرج المصنف حديث

بسرة رضي الله عنها في: 163، 164، 444، 445، 446، 447.

المسألة الثالثة فيمن أخرجه: أخرج حديث بسرة رضي الله عنها (د ت س ق) فأخرجه (د) في الطهارة -70/ 1 - عن القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر، أنه سمع عروة، يقول: دخلت على مروان بن الحكم، فذكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: ومن مس الذكر، فقال عروة: ما علمت ذلك، فقال مروان: أخبرتني بسرة بنت صفوان به.

وأخرجه (ت) فيه -61/ 1 - عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن بسرة به. وقال: حسن صحيح، وفي -61/ 2 - عن علي بن حُجْر، عن عبد الرحمن بن أبي

الزناد، عن أبيه عن عروة، عن بسرة نحوه.

وأخرجه (س) فيه 118/ 163 عن هارون بن عبد الله، عن معن بن عيسى، و 118/ 163 عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم- كلاهما عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عروة، عن مروان، عن بسرة به. و 118/ 164 عن أحمد بن محمَّد بن المغيرة، عن عثمان بن سعيد، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عروة، عن مروان به. وعن عروة، عن رجل، من حرس مروان بن الحكم، عن بسرة به. وفيه قصة.

و30/ 444 عن قتيبة. عن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن بسرة، به. و 30/ 445 عن عمران بن موسى، عن محمَّد

ص: 517

ابن سَوَاء، عن سعيد، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن بسرة به. و 30/ 446 عن قتيبة، عن ليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن بسرة به. وعن عروة، عمن أخبره عن بسرة، به. و 30/ 447 عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن بسرة به. قال النسائي: هشام لم يسمع من أبيه هذا الحديث.

وأخرجه (ق) فيه -63/ 1 - عن محمَّد بن عبد الله بن نمير، عن عبد الله بن إدريس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن مروان عن بسرة به. اهـ تحفة الأشراف ج 11 ص 272.

وأخرجه (الدارمي): ب 50، وأخرجه ما- ك 2 ج 58، و 60 - 63، و-عد- ج 8 ص 179 ز-ح 24، وحم ثان ص 223 و 333، رابع ص 33 و 23، خامس ص 194، سادس ص 3496، ط- ح 1657

(1)

قاله في مفتاح كنوز السنة ص 526. وأخرجه البيهقي ج 1 ص 128.

المسألة الرابعة في مذاهب العلماء في انتقاض الوضوء بمس الذكر:

المذهب الأول: مذهب من أوجب الوضوء به: وممن قال به عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وأبو هريرة، وابن عباس، وعائشة، وسعد ابن أبي وقاص، وعطاء، والزهري، وابن المسيب، ومجاهد، وأبان

ابن عثمان، وسليمان بن يسار، وإسحاق، ومالك، والشافعي، وأحمد.

واحتج هؤلاء بحديث الباب، وبما رواه الدراقطني: عن بسرة مرفوعا "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ وضوءه للصلاة"، وفي رواية أخرى:"من مس ذكره فليعد الوضوء"، وبما رواره عن عائشة رضي

(1)

هذه رموز كتاب مفتاح السنة للعلامة محمَّد فؤاد عبد الباقي رحمه الله من- الدارمي ك الكتاب الأول بالباب الأول، وما- موطأ مالك ج 58 الحديث 58، عد طبقات ابن سعد ج 1 الجزء ص الصفحة، ز- مسند زيد بن علي -ط- مسند الطيالسي، وحم مسند أحمد اهـ من مقدمة الكتاب.

ص: 518

الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ويل للذين يمسون فروجهم، ثم يصلون،

ولا يتوضئون"، وهو دعاء بالشر، ولا يكون إلَّا على ترك واجب، وبما رواه أحمد، والطحاوي في شرح معاني الآثار، من طريق محمَّد بن إسحاق عن عروة، أيضا عن زيد بن خالد الجهني، قال: سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مس فرجه فليتوضأ"، قال الطحاوي هذا الحديث منكر وأخْلق به أن يكون غَلَطا لأن عروة حين سأله مروان عن مس الفرج فأجابه من رَأيه أن لا وضوء فيه، فلما قال له مروان عن بسرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، قال له عروة ما سمعت به، وهذا بعد موت زيد بن خالد بكم ما شاء الله، فكيف يجوزأن ينكر عروة على بسرة ما قد حدثه إياه زيد بن خالد، عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ اهـ وحاصله أن حديث زيد غلط لأن عروة أنكر سماع نقض الوضوء من مس الذكر بعد أن أخبره مروان بسماعه من بسرة وإثباته ذلك، وكان ذلك بعد موت زيد بن خالد بزمن طويل، فلو كان حديث زيد ثابتًا ما أنكر عروة مدلوله على مروان.

وما قاله الطحاوي من تقدم موت زيد بن خالد الجهني توهم منه، ولا ينبغي لأهل العلم أن يطعنوا في الإخبار بالتوهم، فإن المعوّل عليه أن زيد بن خالد مات سنة -78

(1)

- من الهجرة، ومروان بن الحكم مات سنة -65 - كما تقدم، فيجوز أن يكون عروة لم يسمعه من أحد حين سأله مروان، ثم سمعه من بسرة، ثم سمعه من زيد بن خالد، فعلم أن حديث زيد بن خالد الذي أخرجه أحمد، والطحاوي ثابت يحتج به على نقض الوضوء من مس الذكر، فإن رجاله كلهم ثقات محتج بهم، فلا مَعْنَى لرده، وأن عروة روى الحديث عن كل من مروان، وزيد بن

(1)

وهو ابن 85 سنة وقيل توفي بالمدينة سنة 68 وهو ابن 85، وقيل مات بمصر سنة 50، وهو ابن 78، وقيل بالكوفة في آخر أيام معاوية، وقيل سنة 72 وهو ابن 80 ذكر هذه الأقوال الحافظ ابن عبد البر في الإستيعاب ج 4 ص 58 من هامش الإصابة.

ص: 519

خالد، وثبت بإقرار الطحاوي أيضا أن زيد بن خالد الجهني لم يحدث عروة قبل تحديث مروان له، وأن الطحاوي بَنَى كلامه على رواية ضعيفة، في موت زيد بن خالد في خلافة معاوية، وترك رواية الأكثرين.

المذهب الثاني مذهب من قال: لا ينقض مس الذكر الوضوء: وهو مذهب علي، وابن مسعود، وعمار، والحسن البصري، وربيعة، والعترة، والثوري، وأبي حنيفة، وأصحابه.

واحتج هؤلاء بحديث طلق الآتي، قال الطحاوي فيه: إسنادُهُ مستقيم غير مضطرب، وصححه الطبراني، وابن حزم، وقال ابن المديني: هو أحسن من حديث بسرة. وبما رواه الطحاوي في شرح

معاني الآثار عن علي رضي الله عنه قال: ما أبالي أنفي مسست، أو أذني، أو ذكري.

وبما رواه أيضا عن ابن مسعود، وحذيفة نحوه، وقالوا في حديث بسرة إنه خبر آحاد فيما تعم به البلوى، ولو ثبت لاشتهر، وعلى تسليم ثبوته فهو محمول على غسل اليد؛ لأن الصحابة كانوا يستنجون بالأحجار فإذا مسوه بأيديهم تلوثت، خصوصا في أيام الصيف، وبعضهم سلك طريق الجمع بين الروايتين، فجعل مس الذكر كناية عما يخرج منه لأن مسه يعقبه غالبا خروج الحدث كما كنى الله تعالى بالمجيء من الغائط عن قضاء الحاجة.

لكن حديث طلق قد ضعفه الشافعي، والدارقطني، والبيهقي، وابن الجوزي. وقال الشافعي: قد سألنا عن قيس بن طلق فلم نجد من يعرفه، فبم يكون لنا قبول خبره، وقال أبو حاتم، وأبو زرعة: قيس بن طلق ليس ممن تقوم به الحجة، وعلى تسليم صحته فهو منسوخ بحديث

ص: 520

بسرة لأنها أسلمت عام الفتح

(1)

سنة ثمان من الهجرة. وطلق قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد في السنة الأولى من الهجرة ففي الدارقطني: حدثنا إسماعيل بن يونس بن ياسين، نا إسحاق بن أبي إسرائيل، نا محمَّد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يؤسسون مسجد المدينة، قال: وهم ينقلون الحجارة، قال فقلت: يا رسول الله ألا ننقل كما ينقلون؟ قال: "لا"، ولكن اخلط لهم الطين يا أخا اليمامة، فأنت أعلم به، فجعلت أخلط لهم، وهم ينقلون ثم رجع إلى قومه، ولم يثبت رجوعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.

واحتجوا أيضا بحديث أبي هريرة "إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينه وبينها شيء فليتوضأ". رواه الدارقطني. وإسلام أبي هريرة كان عام خيبر في السنة السابعة. وبما رُويَ عن طلق نفسه بلفظ "من مس فرجه فليتوضأ". أخرجه الطبراني وصححه، وقال: فيشبه أن يكون سمع الحديث الأول من النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا، ثم سمع هذا بعدُ فوافق حديث بسرة.

وممن قال بالنسخ ابن حبان، والطبراني، وابن العربي، والحازمي.

وسلك بعضهم مسلك الترجيح فقال: حديث بسرة أرجح من حديث طلق، لكثرة من صححه من الأئمة منهم الترمذي، والدارقطني، وابن معين، وأحمد، وقال البخاري: إنه أصح شيء في الباب. اهـ المنهل ج 2 ص 192 - 194.

وقال الحافظ رحمه الله في التلخيص: ما ملخصه: حديث بسرة بنت صفوان: صححه الترمذي، ونقل عن البخاري أنه أصح شيء في الباب، وقال أبو داود: قلت لأحمد: حديث بسرة ليس بصحيح؟ قال

(1)

قوله عام الفتح هذا يخالف ما قدمنا عن الشافعي رحمه الله أنه قال إن لها سابقة وهجرة قديمة وقال ابن حبان هى من المهاجرات، وقال مصعب هى من المبايعات. فليتأمل.

ص: 521

بلى، هو صحيح. وقال الدارقطني: صحيح ثابت، وصححه أيضا يحيى بن معين، فيما حكاه ابن عبد البر، وأبو حامد بن الشرقي، والبيهقي، والحازمي، وقال البيهقي: هذا الحديث وإن لم يخرجه الشيخان لاختلاف وقع في سماع عروة منها، أو من مروان، فقد احتجا بجميع رواته واحتج البخاري بمروان بن الحكم في عدة أحاديث فهو على شرط البخاري بكل حال. وقال الإسماعيلي في صحيحه في أواخر تفسير سورة آل عمران: إنه يلزم البخاري إخراجه، فقد أخرج نظيره، وغاية ما يعلل به هذا الحديث أنه من رواية عروة، عن مروان، عن بسرة، وأن رواية من رواه عن عروة، عن بسرة منقطعة، فإن مروان حدث به عروة، فاستراب عروة بذلك، فأرسل مروان رجلا من حرسه إلى بسرة فعاد إليه بأنها ذكرت ذلك، فرواية من رواه عن عروة عن بسرة منقطعة، والواسطة بينه وبينها إما مروان، وهو مطعون في عدالته، أو حرسيه، وهو مجهول، وقد جزم ابن خزيمة، وغير واحد من الأئمة بأن عروة سمعه من بسرة، وفي صحيح ابن خزيمة، وابن حبان: قال عروة: فذهبت إلى بسرة، فسألتها؟ فصدقته، واستدل على ذلك برواية جماعة من الأئمة له عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن مروان، عن بسرة، قال عروة: ثم لقيت بسرة فصدقته، وبمعنى هذا أجاب الدارقطني، وابن حبان. وقد أكثر ابن خزيمة، وابن حبان، والدراقطني، والحاكم من سياق طرقه بما اجتمع لي في الأطراف التي جمعتها لكتبهم، وبسط الدراقطني في علله الكلام عليه في نحو كراسين.

وأما الطعن في مروان فقد قال ابن حزم: لا نعلم لمروان شيئا يجرح به قبل خروجه على ابن الزبير، وعروة لم يلقه إلا قبل خروجه على أخيه.

ص: 522

(تنبيه) نقل بعض المخالفين عن يحيى بن معين أنه قال: ثلاثة أحاديث لا تصح: حديث "مس الذكر"، و"لا نكاح إلا بولي"، "وكل مسكر حرام". ولا يعرف هذا عن ابن معين، وقد قال ابن الجوزي: إن هذا لا يثبت عن ابن معين، وقد كان مذهبه انتقاض الوضوء بمسه. وقد روى الميموني عن يحيى بن معين أنه قال إنما يطعن في حديث بسرة من لا يذهب إليه. وفي سؤالات مضر بن محمَّد له، قلت ليحيى: أيّ شيء صح في مس الذكر؟ قال: حديث مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن بسرة، فإنه يقول فيه: سمعت، ولولا هذا لقلت: لا يصح فيه شيء، فهذا يدل بتقدير ثبوت الحكاية المتقدمة عنه على أنه رجع عن ذلك، وأثبت صحته بهذه الطريق خاصة.

(تنبيه آخر) طعن الطحاوي في رواية هشام بن عروة، عن أبيه لهذا الحديث بأن هشاما لم يسمع من أبيه، إنما أخذه عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، وكذا قال النسائي: إن هشاما لم يسمع هذا من أبيه. وقال الطبراني في الكبير: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجاج، حدثنا همام، عن هشام، عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو، عن عروة. وهذه الرواية لا تدل على أن هشاما لم يسمعه من أبيه، بل فيها أنه أدخل بينه وبينه واسطة، والدليل على أنه سمعه من أبيه أيضا: ما رواه الطبراني أيضا: حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، حدثنا يحيى بن سعيد، قال: قال شعبة: لم يسمع هشام حديث أبيه في مس الذكر، قال يحيى: فسألت هشاما؟ فقال: أخبرني أبي. رواه الحاكم من طريق عمرو بن علي، حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، حدثني أبي. ورواه الجمهور من أصحاب هشام عنه عن أبيه بلا واسطة، فهذا إما أن يكون هشام سمعه من أبي بكر عن أبيه، ثم سمعه من أبيه، فكان يحدث به تارة هكذا، وتارة هكذا، أو يكون سمعه من أبيه وثَبَّته فيه أبو بكر،

ص: 523

فكان تارة يذكر أبا بكر، وتارة لا يذكره، وليست هذه العلة، بقادحة عند المحققين.

ثم ذكر الحافظ رحمه الله شواهد لحديث بسرة فقال: وفي الباب عن جابر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وزيد بن خالد، وسعد بن أبي وقاص، وأم حبيبة، وعائشة، وأم سلمة، وابن عباس، وابن

عمر، وعلي بن طلق، والنعمان بن بشير، وأنس، وأبي بن كعب، ومعاوية بن حَيْدَة، وقبيصة، وأرْوَى بنت أنيس.

أما حديث جابر: فذكره الترمذي، وأخرجه ابن ماجه، والأثرم، وقال ابن عبد البر: إسناده صالح. وقال الضياء: لا أعلم بإسناده بَأسًا. وقال الشافعي: سمعت جماعة من الحفاظ غير نافع يرسلونه. وأما

حديث أبي هريرة: فذكره الترمذي، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق نافع بن أبي نعيم، ويزيد بن عبد الملك، جميعا عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة بلفظ: "إذا أفضي أحدكم بيده إلى فرجه ليس

دونها حجاب، ولا ستر، فقد وجب عليه الوضوء" قال ابن حبان: احتجاجنا في هذا بنافع دون يزيد بن عبد الملك، وقال في كتاب الصلاة له: هذا حديث صحيح سنده، عدول نقلته، وصححه الحاكم من هذا الوجه، وابن عبد البر، وأخرجه البيهقي، والطبراني في الصغير، وقال: لم يروه عن نافع بن أبي نعيم إلا عبد الرحمن بن القاسم، تفرد به أصبغ، وقال ابن السكن هو أجود ما روي في الباب. وأما يزيد بن عبد الملك فضعيف. وقال ابن عبد البر: كان هذا الحديث لا يعرف إلا من رواية يزيد حتى رواه أصبغ، عن ابن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد جميعا عن المقبري، فصح الحديث إلا أن أحمد بن حنبل كان لا يرضى نافع بن أبي نعيم في الحديث، ويرضاه في القراءة، وخالفه ابن معين، فوثقه. ورواه الشافعي، والبزار، والدارقطني من طريق يزيد بن

ص: 524

عبد الملك خاصة. وقال فيه النسائي متروك، وضعفه غيره.

قال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه، وأدخل البيهقي في الخلافيات بين يزيد بن عبد الملك النوفلي، وبين المقبري رجلا، فإنه أخرجه من طريق الشافعي عن عبد الله بن

نافع، عن النوفلي، عن أبي موسى الحناط، عن المقبري، وقال: قال ابن معين: أبو موسى هذا رجل مجهول. وأما حديث عبد الله بن عمرو فذكره الترمذي، ورواه أحمد، والبيهقي من طريق بقية: حدثني

محمَّد بن الوليد الزبيدي، حدثني، عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه:"أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ". قال الترمذي في العلل عن البخاري هو صحيح.

وأما حديث زيد بن خالد الجهني: فذكره الترمذي، وأخرجه أحمد، والبزار، من طريق عروة، عنه قال البخاري: إنما رواه الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن بسرة، وقال ابن المديني: أخطأ فيه ابن إسحاق، انتهى. وأخرجه البيهقي في الخلافيات من طريق ابن جريج: حدثني الزهري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن بسرة، وزيد بن خالد. وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن محمَّد ابن بكر البرساني، عن ابن جريج، وهذا إسناد صحيح. وأما حديث سعد بن أبي وقاص: فذكره الحاكم، وأخرجه.

وأما حديث أم حبيبة فصححه أبو زرعة، والحاكم، وأعله البخاري بأن مكحولا لم يسمع من عنبسة بن أبي سفيان، وكذا قال يحيى بن معين وأبو زرعه، وأبو حاتم، والنسائي: إنه لم يسمع منه. وخالفهم دُحَيم، وهو أعرف بحديث الشاميين، فأثبت سماع مكحول من عنبسة. وقال الخلال في العلل: صحح أحمد حديث أم حبيبة. وأخرجه ابن ماجه

ص: 525

من حديث العلاء بن الحارث عن مكحول، وقال ابن السكن: لا أعلم به علة.

وأما حديث عائشة: فذكره الترمذي، وأعله أبو حاتم، وأخرجه الدارقطني ولفظه:"ويل للذين يمسون فروجهم، ثم يصلون، ولا يتوضئون" قالت عائشة: بأبي أنت وأمي هذا للرجال، أفرأيت النساء؟ قال:"إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ للصلاة". وضعفه بعبد الرحمن بن عبد الله العمري، وكذا ضعفه ابن حبان به، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو، وقد تقدم.

وأما حديث أم سلمة فذكره الحاكم، وأما حديث ابن عباس: فرواه البيهقي من جهة ابن عدي في الكامل، وفي إسناده الضحاك بن حمزة، وهو منكر الحديث، وأما حديث ابن عمر: فرواه الدارقطني، والبيهقي من طريق إسحاق الفروي، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا، والعمري ضعيف. وله طريق أخرى أخرجها الحاكم، وفيها عبد العزيز بن أبان، وهو ضعيف، وطريقة أخرى أخرجها ابن عدي، وفيها أيوب بن عتبة، وفيه مقال.

وأما حديث علي بن طلق: فأخرجه الطبراني وصححه. وأما حديث النعمان بن بشير: فذكره ابن منده، وكذا حديث أنس، وأبي بن كعب، ومعاوية بن حيدة، وقبيصة. وأما حديث أروى بنت أنيس: فذكره الترمذي، ورواه البيهقي من طريق هشام أبي المقدام، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنها، قال: وهذا خطأ، وسأل الترمذي البخاري عنه؟ فقال: ما تصنع بهذا؟ لا تشتغل به. اهـ تلخيص الحبير بتصرف، وزيادة يسيرة من الدارقطني. ج 1 ص 122 - 125.

قال الجامع عفا الله عنه: وبعدُ فلنعد إلى ترجيح أحد المذهبين لقوته،

ص: 526

حيث فويت حجته، بذكر ما قال العلماء الحُذَّاق في ذلك:

قال العلامة الشوكاني رحمه الله بعد ذكر أدلة الفريقين على نحو ما قدمنا: فالظاهر ما ذهب إليه الأولون، يعني القائلين بإيجاب الوضوء من مس الذكر- قال: وقد روي عن مالك القول بندب الوضوء، ويرده ما في حديث أبي هريرة من التصريح بالوجوب- يعني حديث:"من أفضى بيده إلى ذكره، ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء" صححه ابن حبان، وقد مر الكلام عليه، وكذا حديث عائشة المتقدم "ويل للذين يمسون فروجهم" الحديث. وهو دعاء بالشر، ولا يكون إلا على ترك واجب، والمراد بالوضوء غسل جميع الأعضاء كوضوء الصلاة لأنه الحقيقة الشرعية، وهي مقدمة على غيرها على ما هو الحق في الأصول.

قال الجامع: قد مر النص الصريح بذلك في الحديث في رواية ابن حبان "من مس فرجه فليتوضأ وضوءه للصلاة".

وقد اشترط في المس الناقض للوضوء أن يكون بغير حائل، ويدل له حديث أبي هريرة السابق، قال الشوكاني: ولا دليل لمن اشترط أن يكون المس بباطن الكف، وقد روي عن جابر بن زيد أنه قال: بالنقض إن وقع عمدا لا إن وقع سهوا.

وأحاديث الباب ترده، ورفع الخطأ بمعنى رفع إثمه لا حكمه. اهـ كلام الشوكاني في النيل ج 1 ص 301 ببعض تصرف.

وقال العلامة شمس الدين ابن القيم في تهذيب السنن بعد الكلام على حديث بسرة ما نصه: وأما حديث طلق: فقد رجح حديث بسرة، وغيره عليه من وجوه:(أحدها) ضعفه

(1)

.

(1)

هذا الوجه أضعف الوجوه لأن الصحيح أن حديثه صحيح وإنما رجح عليه حديث بسرة لكثرة المرجحات فتأمل.

ص: 527

(الثاني): أن طلقا قد اختلف عنه، فروى عنه "هل هو إلا بضعة منك؟ " ورَوَى أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه مرفوعا:"من مس فرجه فليتوضأ"، رواه الطبراني، وقال: لم يروه عن أيوب بن عتبة إلا حماد بن محمَّد. وهما عندي صحيحان، يشبه أن يكون سمع الحديث الأول من النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا، ثم سمع هذا بعده، فوافق حديث بسرة، وأم حبيبة، وزيد بن خالد الجهني، وغيرهم فسمع الناسخ والمنسوخ.

(الثالث) أن حديث طلق لو صح لكان حديث أبي هريرة، ومن معه مقدما عليه لأن طلقا قدم المدينة وهم يبنون المسجد، فذكر قصة مس الذكر، وأبو هريرة أسلم عام خيبر بعد ذلك بست سنين، وإنما يؤخذ بالأحدث، فالأحدث من أمره صلى الله عليه وسلم.

(الرابع) أن حديث طلق مُبْق على الأصل، وحديث بسرة ناقل، والناقل مقدم؛ لأن أحكام الشارع ناقلة عما كانوا عليه.

(الخامس) أن رواة النقض أكثر، وأحاديثه أشهر، فإنه من رواية بسرة، وأم حبيبة، وأبي هريرة، وأبي أيوب، وزيد بن خالد.

(السادس) أنه قد ثبت الفرق بين الذكر، وسائر الجسد في النظر، والحس، فثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه نهى أن يمس الرجل ذكره بيمينه" فدل على أن الذكر لا يشبه سائر الجسد، ولهذا صان اليمين عن مسه، فدل على أنه ليس بمنزلة الأنف، والفخذ، والرجل، فلو كان كما قال المانعون: إنه بمنزلة الإبهام، واليد، والرجل، لم ينه عن مسه باليمين. والله أعلم.

(السابع) أنه لو قدر تعارض الحديثين من كل وجه لكان الترجيح لحديث النقض، لقول أكثر الصحابة به، منهم: عمر بن الخطاب، وابنه،

ص: 528

وأبو أيوب الأنصاري، وزيد بن خالد، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وعائشة، وأم حبيبة، وبسرة بنت صفوان، رضي الله عنهم، وعن سعد بن أبي وقاص روايتان، وعن ابن عباس رضي الله عنهما روايتان. اهـ كلام العلامة ابن القيم. من هامش عون المعبود ج 1 ص 310 - 312.

وقال العلامة الصنعاني رحمه الله: وأيدت أحاديثَ بسرة أحاديثُ أُخَرُ عن سبعة عشر صحابيا مخرجة في كتب الحديث، ومنهم طلق بن علي راوي حديث عدم النقض، وتأول من ذكر حديثه في عدم النقض بأنه قدم في أول الهجرة قبل عمارته صلى الله عليه وسلم مسجده، فحديثه منسوخ

بحديث بسرة، فإنها متأخرة الإسلام

(1)

.

وأحسن من القول بالنسخ: القول بالترجيح، فإن حديث بسرة أرجح لكثرة من صححه من الأئمة، ولكثرة شواهده، ولأن بسرة حدثت به في دار المهاجرين، والأنصار وهم متوافرون ولم يدفعه أحد، بل علمنا أن بعضهم صار إليه، وصار إليه عروة عن روايتها، فإنه رجع إلى قولها، وكان قبل ذلك يدفعه، وكان ابن عمر يحدث به عنها، ولم يزل يتوضأ من مس الذكر إلى أن مات. اهـ سبل السلام. ج 1 ص -149 - .

وقال العلامة المباركفوري في شرح الترمذي: وقد اعترف بذلك بعض علماء الحنفية

(2)

حيث قال في تعليقه على موطأ الإمام محمَّد: الإنصاف في هذا البحث أنه إن اختير طريق الترجيح ففي أحاديث النقض كثرة وقوة. وقال في حاشيته على شرح الوقاية: أن أحاديث النقض أكثر وأقوى من أحاديث الرخصة اهـ وقال أيضا: وأن أحاديث الرخصة، وهو وإن لم يكن متيقنا لجواز أن يكون حديث أبي هريرة وغيره من

(1)

هذا فيه نظر؛ بل إنها متقدمة الإسلام، كما تقدم توضيحه.

(2)

هو العلامة عبد الحي اللكنوي رحمه الله المتوفى سنة 1304 هـ.

ص: 529

مراسيل الصحابة لكنه هو الظاهر، فالأخذ بالنقض أحوط، وهو وإن كان مما يخالف القياس من كل وجه لكن لا مجال بعد ورود الحديث. وأما كون أجل الصحابة كابن مسعود، وابن عباس، وعلي، ونحوهم قائلين بالرخصة: فلا يقدح بعد ثبوت الآثار المرفوعة، والعذر من قبلهم أنه قد بلغهم حديث طلق، وأمثاله، ولم يبلغهم ما ينسخه، ولو وصل لقالوا به، وهذا ليس بمستبعد، فقد وقع انتساخ التطبيق في الركوع عند جمع، ولم يبلغ ابن مسعود، وحتى دام على ذلك مع كونه ملازما للرسول صلى الله عليه وسلم. اهـ.

قال العلامة المباركفوري: الأمر عندي كما قال صاحب السعاية. والله تعالى أعلم اهـ تحفة الأحوذي ج 1 ص 276 - 280.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تحصل من مجموع ما تقدم من الأدلة، وأقوال المحققين أن أرجح المذاهب من قال بنقض الوضوء بمس الذكر، أو الفرج إذا كان ذكر نفسه، أو فرج المرأة نفسها، باليد مطلقا: سواء كان بظاهر الكف، أو بباطنها، أو بالساعد، أو بغير ذلك، وسواء كان عمدا، أو سهوا، بشهوة، أو بدونها، لإطلاق النص في ذلك كله.

قال الحافظ المجتهد أبو محمَّد بن حزم رحمه الله: ومس الرجل

(1)

ذكر نفسه خاصة عمدا بأي شيء مسه من باطن يده، أو من ظاهرها، أو بذراعه -حاشا مسه بالفخذ، أو بالساق، أو بالرجل من نفسه، فلا يوجب وضوءا- ومس المرأة فرجها عمدا كذلك أيضا سواء بسواء، ولا ينقض الوضوء شيء من ذلك بالنسيان، ومس الرجل ذكر غيره من صغير أو كبير ميت أو حي بأي عضو مسه عمدا من جميع جسده من ذي رحم محرمة أو من غيره ومس المرأة فرج غيرها عمدا أيضا كذلك سواء سواء، لا معنى للذة في شيء من ذلك، فإن كان كل ذلك على ثوب

(1)

أي ينقض الوضوء مس الرجل الخ.

ص: 530

رقيق أو كثيف للذة أو لغير لذة باليد أو بغير اليد، عمدا أو غير عمد لم ينقض الوضوء، وكذلك إن مسه بغلبة أو نسيان فلا ينقض الوضوء. اهـ المحلى ج 1 ص 235.

قال الجامع: وهو كلام نفيس، غير قوله عمدا، فإن النسيان كذلك، لإطلاق النص، فإن قيل: حديث "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" رواه الطبراني من حديث ثوبان رضي الله عنه بلفظ "وضع"، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ج 1 ص 659.، يدل على ما قاله أبو محمَّد، أجيب بأن الرفع المذكور للإثم لا للحكم كما أشار إليه الشوكاني رحمه الله، بدليل أن سائر النواقض مثل البول، والغائط، لا يقال فيها ذلك.

فإن قيل: ورد في بعض الرواية: "من مَسّ الذكر الوضوء" وظاهره يدل على نقض الوضوء بمس ذكر غيره، أجيب بأن المراد بالذكر ذكر نفسه فأل عوض عن المضاف إليه، حملا على أكثر الروايات، إذ هي بلفظ "من مس ذكره". فتدبر، وأما استدلال من استدل على أنه لا ينقض إلا إذا كان المس بباطن الكف برواية "من أفضي بيده إلى فرجه فليتوضأ" فغير صحيح لأن الإفضاء لا يختص بباطن الكف، بل هو مطلق الوصول إلى الشيء، يقال: أفضيت إلى الشيء إذا وصلت إليه، كما في المصباح وغيره قال تعالى {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21]، وقد تقدم الإشارة إلى هذا في كلام الحافظ في التلخيص.

(تنبيه) لا ينقض الوضوء مس الدبر على الراجح، إذ لا نص عليه، وأما قياسه على الذكر بجامع أن كلا منهما مخرج للنجاسة، فغير صحيح؛ لأن انتقاض الوضوء بمس الذكر ليس لكونه مخرجًا للنجاسة

بدليل أن مس النجاسة نفسها غير ناقض، فلا يتم معنى القياس. والله أعلم.

ص: 531

‌119 - بَابُ ترك الوُضوءِ مِنْ ذَلِكَ

أي هذا باب ذكر الحديث الدال على ترك الوضوء من مس الذكر.

165 -

أَخْبَرَنَا هَنَّادٌ، عَنْ مُلَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بَدْرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجْنَا وَفْدًا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ جَاءَ رَجُلٌ كَأَنَّهُ بَدَوِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا تَرَى فِي رَجُلٍ مَسَّ ذَكَرَهُ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: "وَهَلْ هُوَ إِلَّا مُضْغَةٌ مِنْكَ"، أَوْ "بَضْعَةٌ مِنْكَ".

رجال الإسناد: خمسة

1 -

(هناد) بن السرى أبو السري العابد الكوفي ثقة -10 - تقدم في 23/ 25.

2 -

(ملازم) بصيغة اسم الفاعل- بن عمرو بن عبد الله بن بدر، أبو عمرو اليمامي، صدوق، من الثامنة. اهـ "ت" ص 353.

قال أبو طالب عن أحمد: من الثقات. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: حاله مقارب. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان يحيى بن سعيد يختاره على عكرمة بن عمار، ويقول: هو أثبت حديثا منه. قال عبد الله: قال أبي: ملازم ثقة. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، وكذا قال أبو زرعة، والنسائي، وقال أبو حاتم: صدوق لا بأس به،

ص: 532

وقال أبو داود: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال عمرو ابن علي: كان فصيحا، وقال أبو بكر الضبعي شيخ الحاكم: فيه نظر، وقال الدارقطني: يمامي ثقة، يخرج حديثه أخرج له الأربعة. اهـ "تت" ج 10 ص 385.

3 -

(عبد الله بن بدر) بن عميرة، الحنفي السحيمي -بالمهملتين- مصغرا اليمامي، كان أحد الأشراف، ثقة، من الرابعة. اهـ "ت" ص 168. روى عن ابن عباس، وابن عمر، وعبد الرحمن بن عمر الشيباني، وطلق بن علي، وقيس بن طلق، ومحمد بن كعب القرظي، وأبي كثير السحيمي. وعنه ملازم بن عمرو قيل: أنه ابن ابنه، وقيل: ابن بنته، وأيوب بن عتبة، وجهم بن عبد الله القيسي، وعكرمة بن عمار، وعمر بن جابر الحنفي، ومحمد بن جابر، وياسين بن معاذ الزيات. قال ابن معين، وأبو زرعة، والعجلي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له الأربعة. اهـ تت ج 5 ص 154 - 155.

4 -

(قيس بن طلق بن علي) الحنفي اليمامي، صدوق، من الثالثة، ووهم من عده في الصحابة. اهـ "ت" ص 283.

قال عثمان الدارمي: سألت ابن معين، قلت: عبد الله بن النعمان، عن قيس بن طلق؟ قال: شيوخ يمامية ثقات، وقال العجلي: يمامي تابعي ثقة، وأبوه صحابي، وذكره ابن حبان في الثقات. قال الحافظ: وذكره أبو موسى في الذيل، وقال: أورده جعفر وغيره في الصحابة، وذكر له حديثا صوابه عن أبيه. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: قيس ليس ممن تقوم به حجة ووهّاه. وقال الخلال عن أحمد: غيره أثبت منه. وقال الشافعي: قد سألنا عن قيس بن طلق فلم نجد من يعرفه بما يكون لنا قبول خبره. وقال ابن معين: لقد أكثر الناس في قيس، وأنه لا يحتج بحديثه. أخرج له الأربعة. اهـ "تت" ج 8 ص 399.

ص: 533

5 -

(طلق بن علي) بن المنذر بن قيس بن عمرو بن عبد الله بن عمرو الحنفي السُّحَيمي، أبو علي اليمامي، وَفَد على النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل معه في بناء المسجد، وروى عنه. وعنه ابنه قيس، وابنته خالدة، وعبد الله ابن بدر، وعبد الرحمن بن علي بن شيبان. قال الحافظ: ذكره ابن

السكن، وقال: يقال له: طلق بن علي بن قيس بن عمرو، ويقال: طلق بن ثمامة. اهـ من الهامش. أخرج له الأربعة.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي للمصنف قصة وفادته على النبي صلى الله عليه وسلم في باب اتخاذ البيع مساجد رقم 701. إن شاء الله تعالى.

لطائف هذا الإسناد

منها أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأنهم يماميون، إلا شيخه فكوفي، وفيه رواية تابعي، عن تابعي. وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

شرح الحديث

(عن طلق بن علي) رضي الله عنه أنه (قال: خرجنا وفدا) بفتح فسكون: هم القوم يجتمعون فَيردُون البلاد، واحدهم وافد، والذين يقصدون الأمراء لزيادة، واسترفاد، وانتجاع، وغير ذلك.

قيل: الوفد الركبان المُكْرَمُون. وقال الأصمعي: وقد فلان يفد، وفادة: إذا خرج إلى ملك، أو أمير. وقال ابن سيده: وقد عليه، وإليه يفد، وفدا، ووفودا، وفادة وإفادة على البدل: قَدمَ، فهو وافد. وهم الوَفد، والوُفُود، فأما الوفد فاسم للجمع، وقيل: جمع، وأما الوفود فجمع وافد، وقد أوفده إليه. ويقال: وفده الأمير إلى الأمير الذي فوقه. وأوفد فلان إيفادا: إذا أشرف. أفاده في اللسان ج 3 ص 454 وذلك الوفد وفد بني حنيفة، وكانوا ستة نفر، كما ذكره ابن

ص: 534

حبان، وقيل: بضعة عشر، فأنزلوا في دار رملة بنت الحارث، وذلك في السنة الأولى من الهجرة. أفاده في المنهل. ج 2 ص 198.

وانتصابه على الحال، أي حال كوننا وافدين (حتى قدمنا) من باب تعب: أي دخلنا (على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه) أي عاهدناه على الإسلام، قال ابن منظور رحمه الله: بايعه عليه مبايعة: عاهده، والمبايعة: عبارة عن المعاقدة، والمعاهدة، كان كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه، وأعطاه خالصة نفسه، وطاعته، ودَخيلَة أمره. اهـ لسان بتصرف يسير. ج 8 ص 26.

(وصلينا معه، فلما قضى الصلاة جاء رجل كأنه بدوي) بفتحتين نسبة إلى البدو بفتح فسكون قال في اللسان: والبَدْو والبَاديَة، والبَدَاة -أي بالفتح، والبَدَاوَة -أي بالفتح- أيضا-، والبداوة -أي بالكسر-: خلاف الحضر، والنسب إليه بدوي بفتحتين، نادر، وبَدَاوي، وبدَاوى، وهو على القياس؛ لأنه حينئذ منسوب إلى البداوة والبداوة. وقال الليث: البادية: اسم للأرض التي لا حضر فيها، وإذا خرج الناس من الحضر إلى المراعي في الصحاري قيل: قد بَدَوْا، والاسم البدو، وقال أبو منصور: البادية خلاف الحاضرة، والحاضرة: القوم الذين يحضرون المياه، وينزلون عليها في حَمْراء القيظ، فإذا برد الزمان ظعنوا عن أعداد المياه، وَبَدَوْ طلبا للقرب من الكلأ، فالقوم حينئذ بادية بعد ماكانو حاضرة. اهـ المقصود من عبارة اللسان باختصار. ج 14 ص 67.

وإنما قال طلق: كأنه، ولم يجزم بكونه بدويا، لعدم معرفته له؛ لأنه ليس من أهل المدينة، بل قدم مع الوفد (فقال) ذلك الرجل (يا رسول الله ما ترى) ما استفهامية مفعول مقدم لترى، أيْ أيَّ شيء ترى من الحكم (في رجل مس ذكره في الصلاة؟) أينتقض وضوؤه أم لا؟.

ص: 535

وفي رواية أبي داود: "ما ترى في مس الرجل ذكره"، وللبيهقي: عن قيس بن طلق عن أبيه "قال بينا أنا أصلي إذْ ذهبت أحك فخذي، فأصابت يدي ذكري، فسألته صلى الله عليه وسلم"

فيحتمل أن طلقا سأل أوّلا بنفسه، ثم سمع الرجل يسأله، فحدث بهذا وبهذا (قال) النبي صلى الله عليه وسلم (وهل هو) أي الذكر الممسوس في الصلاة (إلا مضغة منك) أي قطعة منك. والاستفهام إنكاري، أي ليس الذكر إلا جزءًا من الماسّ مماثلا لسائر الأجزاء فلا ينقض الوضوء.

والمضغة بضم الميم وسكون الضاد المعجمة: القطعة من اللحم قدر ما يُمضغ، جمعه مُضَغ. أفاده في اللسان. ج 8 ص 451. وفي رواية ابن ماجه عن قيس، عن أبيه، قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مس الذكر؟ فقال: إنما هو منك". وفي رواية له "إنما هو حذْية منك". والحذية بكسر الحاء المهملة، وسكون الذال المعجمة: ما قطع طولا من اللحم، أو القطعة الصغير ة منه. قاله في المنهل. ج 2 ص 198.

(أو) قال (بضعة منك؟) بفتح الباء الموحدة وقد تكسر وسكون الضاد المعجمة: القطعة من اللحم. جمعها بَضْع بالفتح، وكعنَب، وصحَاف، وتَمَرَات. أفاده في "ق"، ص 909، وأفاد الشارح المرتضى نقلا عن شرح المواهب لشيخه: أن الباء حكي تثليثها. والله أعلم.

فـ "أو" هنا للشك من الراوي، أي أنه شك في اللفظ النبوي هل هو مضغة أو بضعة، وكلاهما بمعنى واحد.

ومعنى الحديث أن مس الذكر لا ينقض الوضوء لأنه جزء من الجسد، فكما أنه لا ينتقض الوضوء بمس جزء من أجزاء الجسد غير الذكر لا ينقض مس الذكر. وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة والتابعين. قال الترمذي رحمه الله: وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،

ص: 536

وبعض التابعين أنهم لم يروا الوضوء من مس الذكر، وهو قول أهل الكوفة، وابن المبارك. وهذا الحديث أحسن شيء في هذا الباب. اهـ

قال الجامع: قد تقدم تحقيق الذاهب في الباب المتقدم، فلا نطيل الكتاب بإعادته هنا، فارجع إليه تزدد علمًا. وبالله تعالى التوفيق.

مسائل تتعلق بهذا الحديث

المسألة الأولى: في درجته: الصحيح أنه حديث صحيح. وقد تقدم الخلاف فيه.

المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف.

أخرجه رحمه الله هنا 119/ 165 المجتبى، وفي 105/ 199. في الكبري.

المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرج حديث طلق هذا (د ت ق) فأخرجه (د) في الطهارة 71/ 1 عن مسدد، عن ملازم ابن عمرو الحنفي، عن عبد الله بن بدر به. و (ت) فيه 62 عن هناد، عن ملازم به. قال وقد تكلم بعض أهل الحديث في محمَّد بن جابر، وأيوب بن عتبة. و (ق) فيه-64/ 1 - عن علي بن محمَّد، عن وكيع، عن محمَّد ابن جابر، قال: سمعت قيس بن طلق. به. اهـ تحفة الأشراف بتصرف. ج 4 ص 223.

وأخرجه البيهقي، والطحاوي، وابن حبان، قاله في المنهل ج 2 ص 299.

المسألة الرابعة: في فوائده:

منها: أنه يدل على عدم نقض الوضوء بمس الذكر، وقد عرفت تحقيق الخلاف فيه في الباب الماضي (ومنها) أن فيه طلب السعي إلى معرفة أحكام الدين.

ص: 537

ومنها أن فيه سؤال الجاهل للعالم عن المسائل التي يتسحيا منها إذا كانت دينية لا يستغني عن معرفتها، قال الله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

(تنبيه) قال العلامة السندي رحمه الله: وصنيع المصنف يشير إلى ترجيح الأخذ بهذا الحديث حيث أخر هذا الباب، وذلك لأنه بالتعارض حصل الشك في النقض، والأصل عدمه فيؤخذ به، ولأن حديث بسرة يحتمل التأويل بأن يجعل مس الذكر كناية عن البول لأنه غالبا يرادف خروج الحدث منه. ويؤيده أن عدم انتقاض الوضوء بمس الذكر قد علل بعلة دائمة وهي أن الذكر بضعة من الإنسان، فالظاهر دوام الحكم بدوام علته، ودعوى أن حديث قيس بن طلق منسوخ لا تعويل عليه. والله أعلم. اهـ بحروفه. ج 1 ص 101 - 102.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في كلامه نظر، لا يَخفى، وقد تقدم تحقيق القول الراجح في ذلك في الباب الماضي، فلا نطيل الكتاب بإعادته، فإن أردت الجواب عما قال فارجع إليه. والله أعلم، ومنه الإعانة والتوفيق، وعليه التكلان.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".

اللهم صل على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، السلام على النبي ورحمة

الله وبركاته.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. سبحانك الله وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك.

ص: 538

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير، محمَّد ابن الشيخ علي بن آدم الإتْيُوبي الولّوي، غفر الله له ولوالديه آمين: هذا آخر الجزء الثالث من شرح سنن الإمام أبي عبد الرحمن النسائي رحمه الله تعالى المسمى (ذخيرة العقبى، في شرح المجتبى) أو (غاية المنى، في شرح المجتنى).

أسال الله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، ونافعا لي، ولكل من تلقاه، بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.

ويليه الجزء الرابع إن شاء الله تعالى، وأوله (ترك الوضوء من مس الرجل امرأته من غير شهوة)

ص: 539