المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شرح سنن النسائي المسمَّى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى لجامعه الفقير إلى مولاه - ذخيرة العقبى في شرح المجتبى - جـ ٣٠

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

شرح سنن النسائي

المسمَّى

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى

لجامعه الفقير إلى مولاه الغني القدير

محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الأيتوبي الوَلَّوي

المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة

عفا اللَّه عنه وعن والديه آمين

الجزء التاسع والعشرون

دار آل بروم للنشر والتوزيع

ص: 1

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1424هـ - 2003م

دار آل بروم للنشر والتوزيع

المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم

ص ب: 4145 - (تلفاكس 5211576 - جوّال 055541026)

ص: 2

شرح سنن النسائيّ

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

‌7 - (بَابُ فَتْلِ نَاصِيَةِ الْفَرَسِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الفَتْل" -بفتح الفاء، وسكون التاء المثناة الفوقية-: لَيُّ الشيءِ، يقال: فَتَل الحبل وغيره يَفْتِله فَتْلًا، من باب ضرب: إذا لَوَاه. و"الناصية": قُصاص الشعر، وجمعها النواصي. قاله في "المصباح"، وفي "القاموس": الناصية، والنّاصَاة: قُصاص الشعر. انتهى. وقُصَاص الشعر مثلّث القاف، والضمُّ أعلى: نهايةُ منبته، ومُنقَطعه على الرأس في وسطه، وقيل: قصاص الشعر حَدّ القَفَا، وقيل: هو حيث تنتهي نبته من مُقدّمه ومؤخّره، وقيل: قصاص الشعر نهاية منبته من مقدّم الرأس، ويقال: هو ما استدار به كلّه من خلف وأمام وما حواليه. أفاده في "اللسان". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3599 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَفْتِلُ نَاصِيَةَ فَرَسٍ، بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ، وَيَقُولُ:«الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الأَجْرُ، وَالْغَنِيمَةُ» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عمران بن موسى) القزّاز الليثيّ، أبو عمرو البصريّ، صدوق [10] 6/ 6.

2 -

(عبد الوارث) بن سعيد بن ذكران العنبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقة ثبت [8] 6/ 6.

3 -

(يونس) بن عُبيد بن دينار العبديّ، أبو عُبيد البصريّ، ثقة ثبت فاضلٌ ورعٌ [5] 88/ 109.

4 -

(عمرو بن سعيد) القرشيّ، أو الثقفيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة [5] 39/ 3279.

5 -

(أَبُو زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرِ) بن عبد اللَّه البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد اللَّه، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جرير ثقة [3] 43/ 50.

6 -

(جرير) بن عبد اللَّه بن جابر البجليّ الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، مات سنة (51) وقيل: بعدها 43/ 51. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة: "أنا".

ص: 5

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من رجال الأربعة إلا أبا داود. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى أبي زرعة، فإنه، والصحابيّ كوفيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: يونس، عن عمرو، وهو من رواية الأقران؛ لأن كلا من يونس وعمرو بن سعيد من الطبقة الخامسة، ورواية الراوي، عن جدّه: أبي زرعة، عن جرير رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَرِيرٍ) بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتِلُ) -بفتح أوله، وكسر ثالثه- يقال: فتله يفتِله، من باب ضرب: إذا لواه، كفَتَّله- بالتشديد- فهو فَتِيلٌ، ومَفْتُولٌ. أفاده في "القاموس" (نَاصِيَةَ فَرَسٍ) أي شعره المسترسل على جبهتها (بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ) ولفظ مسلم:"قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَلْوِي ناصية فرسه بإصبعه"(وَيَقُولُ: الْخَيْلُ مَعْقُودٌ) أي مَلْويٌّ، مضفورٌ (فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ) قال الخطّابيّ وغيره: قالوا: كنى بالناصية عن جميع ذات الفرس، يقال: فلانٌ مبارك الناصية، ومبارك الغرّة: أي الذات. انتهى.

وقال السنديّ: "معقود": أي ملازم لها، كأنه معقود فيها، كذا في "المجمع"، والمراد أنها أسباب لحصول الخير لصاحبها، فاعتبر ذاك كأنه عَقْدٌ للخير فيها، ثم لما كان الوجه هو الأشرف، ولا يُتصوّر العقد في الوجه إلا في الناصية اعتبر ذاك عقدًا له في الناصية انتهى. وتقدّم بأتمّ من هذا في الباب الأول من "كتاب الخيل". وقوله (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) متعلّق بـ "معقود". وقوله (الأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ) بالرفع بدلٌ من "الخير"، أو عطف بيان له، أو خبر لمحذوف، أي هو الأجر والغنيمة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث.

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جرير بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-7/ 3599 - وفي "الكبرى" 8/ 4414. وأخرجه (م) في "الامارة" 1872 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 18714. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 6

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعيّة فتل ناصية الفرس. (ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الاعتناء بوسائل الجهاد. (ومنها): أنه يستحبّ للإمام وكبير القوم أن يقوم بخدمة فرسه المعدة للجهاد. (ومنها): البشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى قيام الساعة؛ لأن بقاء الجهاد ببقاء المجاهدين، وهم المسلمون، والحمد للَّه أولا وآخرًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): (اعلم): أنه قد روى حديث "الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخير" جمع من الصحابة: سلمة بن نُفيل تقدّم في -1/ 3588 - ، وأبو هريرة تقدّم في 1/ 3589 - وأنس بن مالك تقدّم في الباب الماضي، لكن بلفظ:"البركةُ في نواصي الخيل"، وعروة بن أبي الجعد البارقيّ، وعبد اللَّه بن عمر، وجرير بن عبد اللَّه البجليّ، هؤلاء الثلاثة في هذا الباب، وعتبة بن عبد عند أبي داود، وجابر، وأسماء بنت يزيد، وأبو ذرّ عند أحمد، والمغيرة، وابن مسعود عند أبي يعلى، وأبو كبشة عند أبي عوانة، وابن حبّان في "صحيحيهما"، وحذيفة عند البزّار، وسوادة بن الربيع، وأبو أُمامة، وعَرِيب -بفتح المهملة، وكسر الراء، بعدها تحتانيّة ساكنة، ثم موحّدة- المليكيّ، والنعمان بن بشير، وسهل ابن الحنظليّة عند الطبرانيّ، وعن عليّ عند ابن أبي عاصم في "الجهاد". وفي حديث جابر من الزيادة "في نواصيها الخير والنَّيْلُ" وهو بفتح النون، وسكون التحتانيّة، بعدها لام. وزاد أيضًا:"وأهلها معانون عليها، فخذوا بنواصيها، وادعوا بالبركة". وقوله: "وأهلها معانون عليها" في رواية سلمة بن نُفيل أيضًا

(1)

. أفاده في "الفتح"

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3600 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. وهو من رباعيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو أعلى الأسانيد له، كما تقدّم غير مرّة، وهو (180) من رباعيات الكتاب. وشرح الحديث قد تقدّم قريبًا، مستوفًى، وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

لم أر هذه الزيادة في حديث سلمة عند المصنف، فليُحرّر. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

"فتح" 6/ 145.

ص: 7

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-7/ 3600 - وفي "الكبرى" 8/ 4415. وأخرجه (خ) في "الجهاد والسير" 2849 و "المناقب" 3644 (م) في "الإمارة" 1871 (ق) في "الجهاد" 2787 (أحمد) "مسند المكثرين" 4602 و4801 و 5083 و 5178 و 5734 و 5749 (الموطأ) "الجهاد" 1016. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3601 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"ابن إدريس": هو عبد اللَّه الأوديّ الكوفيّ. و"حُصين": هو ابن عبد الرحمن، أبو الهذيل الكوفيّ. و"عامر": هو الشعبيّ.

و"عروة البارقيّ" وفي الرواية التالية: "عروة بن أبي الجعد"، وفي رواية "عروة بن الجعد"، ويقال: عروة بن عياض بن أبي الجعد الأزديّ البارقيّ، صحابيّ، سكن الكوفة. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وسعد بن أبي وقّاص. وعنه شبيب بن غَرْقَد، والشعبيّ، والعَيْزَار بن حُريث، وغيرهبم. قال ابن البرقيّ: جاء عنه ثلاثة أحاديث. وقال غيره: استعمله عمر على قضاء الكوفة

(1)

، وضمّ إليه سليمان بن ربيعة قبل شُريح. وقال الشعبيّ: أوّل من قضى على الكوفة عروة بن الجعد البارقيّ. وصوّب ابن المدينيّ أنه عروة بن أبي الجعد. وذكر أنّ اسم ابن أبي الجعد سعد. وأما الرشاطيّ، فقال: هو عروة بن عياض بن أبي الجعد، نُسب في الرواية إلى جدّه، قال: وكان ممن شهد فتح الشام، ونزلها، ثم نقله عثمان إلى الكوفة. وكان يرتبط الخيل الكثيرة حتى قال الراوي: رأيت في داره سبعين فرسًا

(2)

.

وفي "الإصابة": وهو الذي أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم -ليشتري الشاة بدينار، فاشترى به شاتين

" والحديث مشهور في البخاريّ وغيره

(3)

. روى له الجماعة، وله عند

(1)

قال الحافظ: الذي قيل: إن عمر استعمل عروة بن عياض بن أبي الجعد، فلعله غير هذا انتهى. "تهذيب التهذيب" 3/ 91.

(2)

والذي في "الإصابة" -6/ 414 - : عن شبيب بن غرقدة، قال: رأيت في دار عروة بن الجعد ستين فرسًا.

(3)

"الإصابة" 6/ 414.

ص: 8

المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

[تنبيه]: "البارقي" - بالموحّدة، وكسر الراء، بعدها قاف-: نسبة إلى بارق، جبل باليمن. وقيل: ماء بالسراة، نزله بنو عديّ بن حارثة بن عمر، وقبيلة من الأزد، ولُقّب به منهم سعد بن عديّ، وكان يقال له: بارق، وزعم الرشاطيّ أنه منسوب إلى ذي بارق قبيلة من ذي رعين

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

والسند مسلسل بالكوفيين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وشيخه هو أحد التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول الستة بلا واسطة، وقد تقدّم هذا عير مرّة. وشرح الحديث سبق مستوفًى قريبًا، وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عروة البارقيّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-7/ 3601 و 3602 و 3603 و 3604 و3605 - وفي "الكبرى" 8/ 4416 و 4417 و 4418 و 4419. وأخرجه (خ) "الجهاد والسير" 3850 و 2852 و "فرض الخمس" 3119 و"المناقب" 3643 (م) "الإمارة" 1873 (ت) "الجهاد" 1694 (ق) "التجارات" 2305 و"الجهاد" 2786 (أحمد) "مسند الكوفيين" 18865 و18869 (الدارمي) "الجهاد" 2426 و 2427. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3602 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: "الأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "ابن أبي عديّ": هو محمد بن إبراهيم البصريّ. وشيخا المصنّف من مشياخ الأئمة الستة بلا واسطة، كما ذكرناه في محمد بن العلاء في السند الماضي.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق القول فيه لي الحديث الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3603 -

(أَخْبَرَنَا

(2)

عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم،

(1)

راجع "الفتح" 6/ 143.

(2)

وفي نسخة: "ثنا".

ص: 9

يَقُولُ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"محمد بن جعفر": هو غندر. و"عبد اللَّه بن أبي السفر" -بفتح الفاء- اسم أبيه سعيد بن يُحمِد، وقيل: ابن أحمد. الهمدانيّ الثوريّ الكوفيّ.

والحديث متّفقٌ عليه، وسبق البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3604 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حُصَيْنٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، أَنَّهُمَا سَمِعَا الشَّعْبِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد الرحمن": ابن مهديّ. والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌8 - (تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "التأديب": تعليم الرياضة

(1)

، وهو مصدر أدّب مشدّدًا، مبالغة في أَدَب مخفّفًا، يقال: أَدَبته أدْبًا، من باب ضرب: إذا علّمته رياضة النفس، ومحاسن الأخلاق، قال أبو زيد الأنصاريّ: الأدب يقع على كلّ رياضة محمودة، يتخرّج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل. وقال الأزهريّ نحوه. فالأدب اسم لذلك، والجمع آداب، مثلُ سَببٍ وأسباب، وأدّبته تأديبًا مبالغة وتكثيرٌ. أفاده الفيّوميّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3605 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلاَّمٍ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: كَانَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، يَمُرُّ بِي، فَيَقُولُ: يَا خَالِدُ، اخْرُجْ بِنَا نَرْمِي، فَلَمَّا كَانَ

(1)

يقال: رُضتُ الدابة رِياضًا: ذلّلتها. قاله في "المصباح".

ص: 10

ذَاتَ يَوْمٍ، أَبْطَأْتُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا خَالِدُ، تَعَالَ أُخْبِرْكَ بِمَا قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ، ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صُنْعِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنَبِّلَهُ، وَارْمُوا، وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، وَلَيْسَ اللَّهْوُ إِلاَّ فِي ثَلَاثَةٍ: تَأْدِيبِ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتِهِ امْرَأَتَهُ، وَرَمْيِهِ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَ مَا عَلِمَهُ، رَغْبَةً عَنْهُ، فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ، كَفَرَهَا» . أَوْ قَالَ: «كَفَرَ بِهَا» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الحسن بن إسماعيل بن مجالد) أبو سعيد المجالديّ المصّيصيّ، ثقة [10] 26/ 432. من أفراد المصنّف.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى""الحسين بن إسماعيل" بصيغة المصغّر بدل الحسن، وهو تصحيفٌ فاحش، والصواب الحسن بصيغة المكبّر، وهو الذي في "الكبرى"، ومن العجيب الغريب أنه ليس في الكتب الستة من يسمّى الحسين بن إسماعيل أصلًا، وأما الحسن بن إسماعيل، فهو هذا عند المصنّف، ولا يوجد فيها بهذا الاسم غيره، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

2 -

(عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعي، ثقة مأمون [8] 8/ 8.

3 -

(عبد الرحمن بن بزبد بن جابر) أبو عُتْبَة الأزديّ الشاميّ الدارانيّ، ثقة [7] 45/ 595.

4 -

(أبو سَلاّم الدمشقيّ) ممطور الأسود الحبشيّ، ثقة يرسل [3] 2/ 1370.

5 -

(خالد بن يزيد الْجُهَنيّ) ويقال له: خالد بن زيد، مقبول [3] 26/ 3147.

6 -

(عقبة بن عامر) الجهني، أبو حماد الصحابيّ المشهور، نزل مصر، وولي إمرتها ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، مات رضي الله عنه قُرْبَ الستين من الهجرة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ الْجُهَنِيِّ) أنه (قَالَ: كَانَ عُقْبةُ بْنُ عَامِرٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (يَمُرُّ بِي، فَيقُولُ: يَا خَالِدُ، اخْرُج بِنَا نَرْمِي) هكذا النسخ بإثبات الياء، وهو صحيح، ووجهه أنه ليس جوابًا للأمر حتى يُجزمَ، وقد جاء مثل هذا في القرآن الكريم كثيرًا، كما في قوله تعالى:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي} [مريم: 6] برفع {يَرِثُنِي} ، وقوله تعالى:{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} الآية [طه: 69] في قراء من رفع {تلقفُ} ، وقوله تعالى:

ص: 11

{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ} الآية [طه: 77]، وقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} الآية [التوبة: 103]. وجملة "نرمي" في محل نصب على الحال، أو مستأنفة. واللَّه تعالى أعلم.

(فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ، أَبْطَأْتُ عَنْهُ) أي تأخّرت عن الخروج معه (فَقَالَ: يَا خَالِدُ تَعَالَ أُخْبِرْكَ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ) أي بسبب رميه على الكفار (ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ) أي ينوي (فِي صُنْعِهِ) بضمّ، فسكون، وفي نسخة:"في صَنْعته" بفتح، فسكون (الْخَيْرَ) أي يطلب أجره من عنده تعالى، لا من غيره (وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنَبِّلَهُ) بتشديد الموحّدة، وتخفيفها، من التنبيل، أو الإنبال: أي الذي يناوله النبل ليرمي به (وَارْمُوا وَارْكَبُوا) أي لا تقتصروا على الرمي ماشيًا، واجمعوا بين الرمي، والركوب. أو المعنى اعلموا هذه الفضيلة، وتعلّموا الرمي والركوب بتأديب الفرس، والتمرين عليه، كما يُشير إليه آخر الحديث. وقال الطيبيّ: عطف "واركبوا" يدلّ على المغايرة، وأن الرامي يكون راجلًا، والراكب رامحًا، فيكون معنى قوله:"وأن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا" أن الرمي بالسهم أحبّ إليّ من الطعن بالرمح انتهى.

قال القاريّ: والأظهر أن معناه أن معالجة الرمي، وتعلّمه أفضل من تأديب الفرس، وتمرين ركوبه؛ لما فيه من الخيلاء والكبرياء، ولما في الرمي من النفع الأعمّ، ولذا قدّمه تعالى في قوله:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الآية [الأنفال: 60]. مع أنه لا دلالة في الحديث على الرمح أصلًا انتهى

(1)

(وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا) فإن الرمي من الأسباب القريبة، وأيضًا يعمّ الراكب والماشي، ومعرفة الركوب لا يحتاج إليها إلا الراكب (وَلَيْسَ اللَّهْوُ) قال السنديّ: أي المشروع، أو المباح، أو المندوب، أو نحو ذلك، فهو على حذف الصفة، مثل:{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] أي صالحة، أو التعريف للعهد. وقال السيوطيّ في "حاشية سنن أبي داود": إن لفظ الحديث، كما في رواية الترمذيّ، وهو:"كلُّ شيء يلهو به الرجل باطلٌ، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته، فإنهنّ من الحقّ"، ورواية الكتاب من تصرّفات الرواة، ثم نقل السيوطيّ عن بعضهم مثل ما ذكرنا من التقدير. واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام السنديّ

(2)

(إِلاَّ فِي ثَلَاثَةِ: تَأْدِيبِ الرَّجُلِ) بالجرّ بدلًا من "ثلاثة"، ويجوز قطعه إلى الرفع، والنصب (فَرَسَهُ) بالنصب مفعول

(1)

"المرقاة": 7/ 341.

(2)

"شرح السندي" 6/ 223.

ص: 12

"تأديب": أي تعليمه إياه بالركض، والجوَلان على نيّة الغزو (ومُلَاعَبتِهِ امْرَأَتَهُ، وَرَمْيِهِ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ) بفتح، فسكون: السهام العربيّة، وهي مؤنّثة، ولا واحد لها من لفظها، بل الواحد سَهْمٌ، فهي مفردة اللفظ، مجموعة المعنى. قاله الفيّوميّ (وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْىَ بَعْدَ مَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ) أي إعراضا عن الرمي (فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ، كَفَرَهَا) قال القاري: هذا علّة لجواب الشرط المقدّر: أي فليس منّا، أو قد عصى. انتهى

(1)

وإنما أنّث الضمير في قوله: "فإنها نعمة" نظرًا للخبر، أو بتأويل الرمي بالحرفة. واللَّه تعالى أعلم. (أَوْ قَالَ: كَفَرَ بِهَا) شكّ من بعض الرواة، والمراد بالكفر هنا ستر تلك النعمة، وعدم القيام بشكرها، فهو من الكفران، ضدّ الشكر.

والحديث ضعيف؛ لجهالة خالد بن يزيد الجهني، لكن فقرة اللَّهو قد ثبتت في حديث آخر بنحوه. وقد تقدّم تخريج هذا الحديث في "كتاب الجهاد" 26/ 3147 - "ثواب من رمى في سبيل اللَّه عز وجل". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌9 - (بَابُ دَعْوَةِ الْخَيْلِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الدعوة" بفتح، فسكون: المرّة من الدعاء، والإضافة هنا من إضافة المصدر إلى فاعله: أي دعاء الخيل اللَّه سبحانه وتعالى لصاحبها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3606 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ فَرَسٍ عَرَبِيٍّ، إِلاَّ يُؤْذَنُ لَهُ، عِنْدَ كُلِّ سَحَرٍ بِدَعْوَتَيْنِ: اللَّهُمَّ خَوَّلْتَنِي مَنْ خَوَّلْتَنِي مِنْ بَنِي آدَمَ، وَجَعَلْتَنِي لَهُ، فَاجْعَلْنِى أَحَبَّ أَهْلِهِ وَمَالِهِ إِلَيْهِ"، أَوْ "مِنْ أَحَبِّ مَالِهِ وَأَهْلِهِ إِلَيْهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاّس، أبو حفص البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

(1)

"المرقاة": " 7/ 432.

(2)

وفي نسخة: "حدثنا".

ص: 13

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(عبد الحميد بن جعفر) بن عبد اللَّه بن الحكم بن رافع الأنصاريّ المدنيّ، صدوقٌ رمي بالقدر، وربما وَهِمَ [6] 26/ 914.

4 -

(يزيد بن أي حبيب) سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقة فقيه، كان يرسل [5] 134/ 207.

5 -

(سويد بن قيس) التُّجيبيّ المصريّ، هو ثقة [3] 186/ 294.

6 -

(معاوية بن حُديج) -بضم الحاء، وفتح الدال المهملتين، آخره جيم، مصغّرًا - الكنديّ، أبو عبد الرحمن، أو أبو نعيم صحابيّ صغير. وقد ذكره بعضهم في التابعين، تقدّم في 186/ 194.

7 -

(أبو ذرّ) الغفاريّ الصحابيّ المشهور رضي الله عنه جندب بن جُنادة على الصحيح الصحابيّ المشهور، تقدّم إسلامه، وتأخّرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، مات سنة (32) في خلافة عثمان - رضي اللَّه تعالى عنهما -، تقدم في 203/ 322. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيّات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير سُويد بن قيس، فإنه من رجال المصنّف، وأبي داود، وابن ماجه. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عن أبِي ذرّ) الغفاريّ - رضي اللَّه تعالى عنه -.

[تنبيه]: وقع في النسخة الهنديّة "عن أبي زرعة" بدل "عن أبي ذرّ"، وهو تصحيفٌ فاحش، وما هنا هو الذي في النسخ المطبوعة، و"الكبرى" -3/ 36 رقم 4405 - و"تحفة الأشراف" -9/ 183 - 184. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ فَرَسِ" يقع على الذكر والأنثى، فيقال: هو الفرس، وهي الفرس، وتصغير الذكر فُرَيسٌ، والأنثى فُريسةٌ على القياس، وجمعت الفرس على غير لفظها، فقيل: خَيْلٌ، وعلى لفظها، فقيل: ثلاثة افراس بالهاء للذكور، وثلاث أفراس، بحذفها للإناث، ويقع على التركيّ والعربيّ. قاله الفيّوميّ (عَرَبِيٍّ) هذا يدلّ على أن هذا الدعاء خاصّ بالفرس العربيّ، وهذا سرّ لا يعلمه إلا اللَّه تعالى، ويحتمل أن يكون المراد اختصاص هذا الدعاء باللفظ العربيّ، فلا ينافي أن يدعو العجميّ باللغة العجمية، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 14

(إِلاَّ يُؤْذنُ لَهُ، عِنْدَ كُلِّ سَحَرٍ) بفتحتين: الوقت الذي قُبيل الصبح، وبضمّتين لغة، والجمع أسحارٌ. ولفظ "الكبرى":"عند كلّ فجر"(بِدَعْوَتينِ) أي بمرّتين من الدعاء (اللَّهُمَّ خَوَّلْتَنِي) بتشديد الواو، من التخويل، وهو التمليك (مَنْ خَوَّلْتَنِي) "من" اسم موصول مفعول "خوّتني" (مِنْ بَنِي آدَمَ) بيان و"من": أي ملّكتني من شئت أن تملّكه إياي من الناس، وقوله (وَجَعَلْتَنِى لَهُ) عطف تفسير لـ "خولتني"(فَاجْعَلْنِي أَحَبَّ أَهْلِهِ) هذه هي الدعوة الأولى، وأما جملة "اللَّهمّ خولتني الخ" فهي تمهيد للدعوتين (وَمَالِهِ إِلَيْهِ) وهذه هي الدعوة الثانية (أَو) للشكّ من بعض الرواة (مِنْ أَحَبِّ مَالِهِ وَأَهْلِهِ إِلَيْهِ). واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

والحديث صحيح، تفرّد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا 9/ 3606 - وفي "الكبرى" 3/ 4405. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌10 - التَّشْدِيدُ فِي حَمْلِ الْحَمِيرِ عَلَى الْخَيْلِ

3607 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنِ ابْنِ زُرَيْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رضي الله عنه، قَالَ: أُهْدِيَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةٌ، فَرَكِبَهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَوْ حَمَلْنَا الْحَمِيرَ عَلَى الْخَيْلِ، لَكَانَتْ لَنَا مِثْلَ هَذِهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الليث) بن سعد الفهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت إمام [7]

31/ 35.

3 -

(يزيد بن أبي حبيب) المصريّ المذكور في الباب الماضي.

4 -

(أبو الخير) مَرْثَد بن عبد اللَّه الْيَزَنيّ المصريّ، ثقة فقيه [3] 38/ 582.

5 -

(ابن زُرَير) هو عبد اللَّه بن زُرير -بتقديم الزاي، مصغّرًا- الغافقيّ المصريّ،

ص: 15

ثقة، رمي بالتشيّع [2].

قال العجليّ: تابعيّ ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات". مات في خلافة عبد الملك بن مروان سنة (81) وقيل: سنة (80). وقيل: سنة (83). روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث، وحديثا إن هذين حرام على ذكور أمتي

". في "كتاب الزينة" برقم 5171 و 5172 و 5173 و 5174.

6 -

(عليّ بن أبي طالب) الهاشميّ الخليفة الراشد، أبو الحسن - رضي اللَّه تعالى عنه - 74/ 91. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير ابن زُرير، كما تقدّم آنفًا. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين، غير الصحابيّ رضي الله عنه، فمدنيّ، ثم كوفيّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وكلهم مصريون ثقات: يزيد، عن أبي الخير، عن ابن زُرير. (ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنة - رضي اللَّه تعالى - عنهم، وابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته - رضي اللَّه تعالى عنهما -. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه) أنه (قَالَ: أُهْدِيَتْ) بالبناء للمفعول (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةٌ فَرَكِبَهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ) - رضي اللَّه تعالى عنه - فيه التفات؛ إذ الظاهر أن يقول: فقلت (لَوْ حَمَلْنَا الْحَمِيرَ عَلَى الْخَيْلِ) من الحمل: أي أنزيناها عليها، وكلمة "لو" شرطيّةٌ، وجوابها قوله (لَكَانَتْ لَنَا مِثْلَ هَذِهِ) برفع "مثلُ" على أنه اسم "كان"، وخبرها الجارّ والمجرور قبله، ويحتمل نصبه، كما هو المضبوط بالقلم في النسخ المطبوعة، على أنه خبر "كان"، واسمها ضمير يعود إلى البغلة النتيجة. واللَّه تعالى أعلم.

واسم الإشارة عائد إلى بغلة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) أي إنما يُنزي الحمير على الخيل هم الذين لا يعلمون أحكام الشريعة، أو ما هو الأولى والأنسب بالحكمة، أو الذين لا يعلمون الثواب المرتّب على ذلك، أو منزّل منزلة اللازم: أي من ليسوا من أهل المعرفة أصلًا. قيل: سبب الكراهة هو استبدال الأدنى بالذي هو خير، فإن الخيل فيها العزّ والمنَعَة بقهر الأعداء، والاستيلاء

ص: 16

على بلدانهم، واموالهم، بخلاف البغل، فليس لها ذلك.

واستَدلّ على جواز اتخاذ البغال بركوب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليها، وبامتنان اللَّه سبحانه وتعالى على الناس بقوله عز وجل:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} الآية.

وقال الطيبيّ: لعلّ الإنزاء غير جائز، والركوب جائز، كالصور، فإن عملها حرام، واستعمالها في الفرش، والبسط مباح انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: فيما قاله الطبيّ نظر، وقد تقدّم تحقيق القول في ذلك في " الطهارة" -106/ 141 - فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-10/ 3607 - وفي "الكبرى" 10/ 4421. وأخرجه (د) في "الجهاد" 2565 (أحمد) "مسند العشرة" 1362. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة) في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان التشديد في إنزاء الحمير على الخيل، لكن هذا المنع محمول على التنزيه، أو على ما يؤدي إلى قطع نسلها بالكلّية، بدليل ركوبه صلى الله عليه وسلم للبغال، وتقريره الناس على اقتنائها. (ومنها): جواز ركوب البغال، لأنه صلى الله عليه وسلم ركبها، ولامتنان اللَّه سبحانه وتعالى بذلك علينا، حيث قال عز وجل:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} الآية [النحل: 8]. (ومنها): شدّة عناية الشارع بتكثير الخيل، ونهيه عما يؤديّ إلى قطع نسلها. (ومنها): الحثّ على الجهاد في سبيل اللَّه عز وجل، وإعداد أسبابه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3608 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي جَهْضَمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ، أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ ، قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَعَلَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ، قَالَ: خَمْشًا، هَذِهِ شَرٌّ مِنَ الأُولَى، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدٌ، أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَمْرِهِ فَبَلَّغَهُ، وَاللَّهِ مَا اخْتَصَّنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ، إِلاَّ بِثَلَاثَةٍ: أَمَرَنَا أَنْ نُسْبِغَ الْوُضُوءَ، وَأَنْ لَا نَأْكُلَ الصَّدَقَةَ، وَلَا نُنْزِىَ الْحُمُرَ عَلَى الْخَيْلِ).

ص: 17

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "حمّاد": هو ابن زيد. و"أبو جهضم": هو موسى بن سالم، مولى آل العبّاس، بصريّ، صدوق [6] 106/ 141. و"عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عبّاس": هو الهاشميّ المدنيّ، ثقة [4] 106/ 141.

وقوله: "قال: لا" هذا الجواب على حسب ظن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وإلا فقد ثبت في الأحاديث الصحاح عن الصحابة الآخرين أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيهما سرًّا، كما تقدّم البحث عن ذلك مستوفًى في محلّه، فراجع الأبواب -55 و 56 و 57 و 58 و 59 و60 - من "كتاب الصلاة".

وقوله: "فلعلّه كان يقرأ الخ" من كلام الرجل السائل، أي لعلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سرًّا، فلذلك نفيت عنه القراءة. وقوله:"خَمْشًا" -بفتح الخاء المعجمة، وسكون الميم- منصوب بفعل مقدّر، يقال: خمشت المرأة وجهها بظفرها خمشًا، من باب ضرب: جرحت ظاهر البشرة.

ثم يحتمل أن يكون دعا ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - على الرجل بأن يُخمش وجهه؛ حيث لم يقبل جوابه، بل ردّ عليه بـ "لعله كان يقرء في نفسه". ويحتمل أن يكون غير مراد حقيقته، بل من باب "تربت يداك"، و"عقرَى، حلقَى"، و"ما له قاتله اللَّه"، مما لا يراد حقيقة الدعاء، بل مما جرت العادة بجريانه على اللسان. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "هذه شرّ الخ" أي هذه المسألة شرّ من مسألتك الأولى.

وقوله: "فبلّغه" أي فكيف يُخفي بحيث لا يظهر أصلاً، ويلزم منه أنه ما بلّغ. لكن قد ثبتت القراء عنه صلى الله عليه وسلم بأدلة أخرى قوليّة، وفعلية، نحو "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، وحديث "كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر، ويسمعنا الآية أحيانًا"، إلى غير ذلك، كما أشرت قريبًا إلى ما سبق في أبواب القراءةً، والظاهر أن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى - عنهما نسي ذلك، أو كان يبعد عن الصف الأول، فلم يسمعه يقرأ، فلذا أنكر ذلك. وقوله:"ما اختصّنا الخ" يعني أهل البيت.

وقوله: "أمرنا أن نُسبغ الوضوء" -بضمّ النون، من الإسباغ- قال السنديّ: أي أمر إيجاب، أو ندب مؤكّد، وإلا فمطلق الندب عامّ، والوجه الحمل على الندب المؤكّد، إذ لم يقل أحد بوجوب الإسباغ في حقّ الموجودين من أهل البيت، إلا أن يقال: كان الأمر مخصوصًا في حقّ الموجودين في وقته صلى الله عليه وسلم انتهى.

وقوله: "ولا نُنزي" بضمّ النون الأولى، من الإنزاء: أي لا نحمله عليها للنسل. وهو أيضًا يحمل على تأكّد الكراهة، وإلا فأصل الكراهة عامّ. قاله السنديّ.

ص: 18

والحديث صحيح، وتقدّم في "الطهارة" 106/ 141 واستوفيتُ شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌11 - (عَلَفُ الْخَيْلِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "العلَفُ" -بفتحتين": ما تأكله الماشية. يقال: عَلَفتُ الدّابّة عَلْفًا، من باب ضرب: إذا أطعمتها العلف، واسم الْمعلوف عَلَفٌ -بفتحتين- والجمع عِلافٌ، مثلُ جَبَل وجبال، وأعلفته بالألف لغةٌ، والمِعلف -بكسر الميم-: موضع العلف. أفاده الفيّوميّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3609 -

قَالَ: الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ سَعِيدًا الْمَقْبُرِيَّ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا، فِي سَبِيلِ اللهِ، إِيمَانًا بِاللَّهِ، وَتَصْدِيقًا لِوَعْدِ اللَّهِ، كَانَ شِبَعُهُ، وَرِيُّهُ، وَبَوْلُهُ، وَرَوْثُهُ، حَسَنَاتٍ فِي مِيزَانِهِ» ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الحارث بن مسكين) القاضي المصريّ، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

[تنبيه]: قوله: "قال الحارث" هذا ليس فيه انقطاع، بل هو متّصل، بدليل قوله:"وأنا أسمع"، وإنما ترك لفظ الإخبار، أو التحديث، إشارة إلى أنه ليس مقصودًا بالإخبار، وإنما سمع قراءة القارئ دون علم الحارث -رحمه اللَّه تعالى-؛ لما سبق في مقدّمة هذا الشرح من المنافرة بينهما، فكان يستمع القراءة وراء الحجاب، وهذا يدلّ على شدة حرص المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- على تلقي الحديث بأي وجه أمكنه، ولا يمنعه من ذلك جفاء الشيخ، فللَّه درّه ما أحرصه على الحديث رحمه اللَّه تعالى رحمة واسعة. واللَّه تعالى أعلم.

2 -

(ابن وهب) هو عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقة ثبت [9] 9/ 9.

ص: 19

3 -

(طلحة بن أبي سعيد) أبو عبد الملك القرشيّ، المصريّ، نزيل الإسكندرانية، مدنيّ الأصل، ثقة مُقلّ [7].

قال أحمد: ما أرى به بأسًا. وقال ابن المدينيّ: معروف. وقال أبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال أبو داود: روى عنه الليث، وقال فيه خيرًا. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال. ابن يونس: روى عن المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه حديث: "من احتبس فرسًا في سبيل اللَّه

" الحديث، لم يُسنده غيره. توفي سنة (157). روى له البخاريّ، والمصنّف، وله عندهما حديث الباب فقط.

4 -

(سعيد المقبريّ) ابن أبي سعيد كيسان، أبو سَعْد المدنيّ، ثقة، تغيّر قبل موته بأربع سنين [3] 95/ 117.

5 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين إلى طلحة، والباقيان مدنيان. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا) أي وقفه (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لأجل إعلاء كلمة اللَّه تعالى، لا للرياء، والسمعة، ففي حديث أسماء بنت يزيد - رضي اللَّه تعالى عنها - الآتي: "ومن ربطها رياء وسمعة

" الحديث، وفيه: "فإن شبعها، وجوعها الخ خسران في موازينه" (إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا لِوَعْدِ اللَّهِ) أي الذي وعد به من الثواب على ذلك، وفيه إشارة إلى المعاد، كما أن في لفظ الإيمان إشارة إلى المبد! (كَانَ شِبَعُهُ) بكسر أوله: أي ما يشبع به (وَرِيُّهُ) بكسر الراء، وتشديد التحتانيّة (وَبَوْلُهُ، وَرَوْثُهُ، حَسَنَاتٍ فِي مِيزَانِهِ") قال في "الفتح": يريد ثواب ذلك، لا أن الأرواث بعينها توزن انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "لا أن الأرواث إلخ" فيه نظر، ما المانع من إلمجراء الحديث على ظاهره؟، وقد ثبت في النصوص الأخرى وزن الأعمال، ووزن الثواب أيضًا، فالظاهر إجراء النصّ على ظاهره. ولقد أجاد السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-،

(1)

"فتح" 6/ 146.

ص: 20

حيث قال: يدلّ على أنه كما توزن الأعمال كذلك توزن الأجرام المتعلّقة بها انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-11/ 3609 - و"الكبرى" 11/ 4423. وأخرجه (خ) "المساقاة" 2371 و"الجهاد" 2853 (م) "الزكاة" 987 (ت) "الجهاد" 1636 (ق) ف 2788 (أحمد) "باقي مسند المكثرين" 7509 و 8649 و 8754 (الموطأ) "الجهاد" 975. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل عَلَفَ الخيل. (ومنها): أن هذا الفضل لمن عمل هذا احتسابًا عند اللَّه عز وجل، وأما من عمل ذلك رياء، وسمعة، فإنه يكون آثمًا، فقد أخرج أحمد في "مسنده" من طريق شهر بن حَوْشب، قال: حدثتني أسماء بنت يزيد، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"الخيل في نواصيها الخير معقود أبدا، إلى يوم القيامة، فمن ربطها عُدّة في سبيل اللَّه، وأنفق عليها احتسابا في سبيل اللَّه، فإن شبعها، وجوعها، ورِيَّها، وظمأها، وأرواثها، وأبوالها فلاح في موازينه يوم القيامة، ومن ربطها رياء وسمعة، وفَرَحًا، ومَرَحًا، فإن شبعها، وجوعها، وريها، وظماها، وأرواثها، وأبوالها، خسران في موازينه يوم القيامة". حديث حسن. (ومنها): استحباب وقف الخيل للمدافعة عن المسلمين. (ومنها): أنه يُستنبط منه جواز وقف غير الخيل من المنقولات، ومن غير المنقولات من باب أولى. (ومنها): أن المرء يؤجر بنيّته، كما يؤجر العامل. (ومنها): جواز ذكر الشيء المستقذر بلفظه للحاجة. (ومنها): ما قال ابن أبي جمرة: يستفاد من هذا الحديث أن هذه الحسنات تقبل من صاحبها؛ لتنصيص الشارع على أنها في ميزانه، بخلاف غيرها، فقد لا تقبل، فلا تدخل في الميزان. وفي "سنن ابن ماجه" من حديث تميم الداريّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"من ارتبط فرسًا في سبيل اللَّه، ثم عالج علفه بيده، كان له بكلّ حبّة حسنة"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

في سنده مجاهيل، ولكن صححه الشيخ الألبانيّ -رحمه اللَّه تعالى-، انظر "صحيح ابن ماجه" 2/ 128 رقم (2250)، فليُتأمّل.

ص: 21

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌12 - (غَايَةُ السَّبْقِ لِلَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أخّر المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "الكبرى" هذا الباب على الباب التالى، وهو الأنسب.

و"السبْقُ" -بفتح المهملة، وسكون الموحّدة-: مصدر، وهو المراد هنا، بخلاف الآتي في الترجمة الثالثة، فإنه -بفتحتين- لأن المراد الرهن يوضع لذلك، ويحتمل أن يكون بسكون السين أيضًا، كما سنوضّحه هناك، إن شاء اللَّه تعالى.

وقوله: "لم تضمر" بالبناء للمفعول، من الإضمار، أو من التضمير. يقال: ضَمَرَ الفرسُ ضُمُورًا، من باب قعد، وضَمُرَ ضُمْرًا، مثلُ قَرُب قُربًا: دقّ، وقلّ لحمه، وضَمَّرته، وأضمرته: أعددته للسِّباق، وهو أن تعلفه قُوتًا بعد السمن، فهو ضامرٌ، وخيلٌ ضامرةٌ، وضَوامرُ، والمِضْمار: الموضع الذي تُضمر فيه الخيل. قاله الفيّوميّ. وسيأتي مزيد بسط لذلك قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3610 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ نَافِعِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ، يُرْسِلُهَا مِنَ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ، وَكَانَ أَمَدُهَا مِنَ الثَّنِيَّةِ، إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدريّ البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(خالد) بن الحارث الهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(ابن أبي ذئب) هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشيّ العامريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقة فقيه فاضل [7] 41/ 685.

4 -

(نافع) العدويّ مولى ابن عمر المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.

5 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 22

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وخالد، فبصريّان. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "سَابَقَ" أي أمر بالسباق، أو أباحه. وقال القرطبيّ: المسابقة مفاعلة، ولا تكون إلا من اثنين، وذلك أن المتسابقين إذا جعلا غايةً، وقصدا نحوها، فإن كلّ واحد منهما يُسابق صاحبه إليها انتهى

(1)

(بَيْنَ الْخَيْلِ) زاد في الرواية الآتية في الباب التالي: "التي قد أضمرت"(يُرْسِلُهَا) جملة جاليّة من "الخيل"(مِنَ الْحَفْياءِ) -بفتح المهملة، وسكون الفاء، ممدودًا، وزان حمراء، ويقصر-: موضع بظاهر المدينة. أفاده في "المصباح"، و"القاموس"، وقدم بعضهم الياء على الفاء.

وقال القرطبيّ: موضع بينه وبين ثنية الوداع خمسة أميال، أو ستّة، على ما قاله سفيان، وقال ابن عقبة: ستة أميال، أو سبعة

(2)

(وَكَانَ أَمَدُهَا) بفتحتين: أي غايتها (ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ) الثنيّة لغةً: الطريقة إلى العقبة، وثنية الوداع: موضع بالمدينة، سمّي بذلك؛ لأن الخارج من المدينة يمشي معه المودّعون إليها

(3)

وهي التي قالت فيها نساء الأنصار، فيما يُحكى:

طَلَعَ الْبدْرُ عَلَيْنَا

مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ

يعنون النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبينه وبين مسجد بني زريق ميلٌ واحد. قاله القرطبيّ.

(وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ) تقدّم أنه إما من الإضمار، أو من التضمير، والمراد به أن تُعلف الخيل حتى تسمَنَ، وتقوَى، ثم يُقلَّل عَلَفها بقدر القوت، وتُدخَل بيتا، وتُغشى بالجِلال، حتى تَحمَى، فتعرق، فإذا جفّ عرقها، خَفَّ لحمها، وقويت على الجري (وَكَانَ أَمَدُها مِنَ الثَّنِيَّةِ) اللام فيه للعهد، أي ثنية الوداع (إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ) -بضمّ الزاي، وفتح الراء، آخره، بصغية التصغير، وبنو زُريق بطن من الأنصار،

(1)

ا"لمفهم" 3/ 700.

(2)

"المفهم" 3/ 700.

(3)

أفاده في "عمدة القاري" 4/ 159.

ص: 23

من الخزرج، وهو زُريق بن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جُشم بن الخزرج

(1)

.

وزاد في الرواية الآتية في الباب التالي: "أن عبد اللَّه كان ممن سابق بها". وفي رواية الإسماعيليّ: "قال ابن عمر: وكنت فيمن أجرى، فوثب بي فرسي جدارًا"، ولمسلم:"فسبقت الناس، فطفّف بي الفرس مسجد بني زريق". أي جاوز بي المسجد الذي كان هو الغاية، وأصل التطفيف مجاوزة الحدّ. قاله في "الفتح"

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-12/ 3610 و 3611 - وفي "الكبرى" 13/ 4425. وأخرجه (خ) في "الصلاة" 421 و"الجهاد" 2868 و 2869 و 2870 و"الاعتصام بالكتاب والسنة" 7336 (م) في "الإمارة" (1870 (د) "الجهاد" 2575 و 2576 (ت) "الجهاد" 1699 (ق) "الجهاد" 2877 (أحمد) "مسند المكثرين" 4473 و 4580 (الموطأ) "الجهاد" 1017 (الدارمي) "الجهاد" 2429. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو استحباب جعل غاية للسبق بين الخيل التي لم تضمر. (ومنها): مشروعيّة المسابقة، وأنه ليس من العبث، بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المفاسد في الغزو، والانتفاع بها عند الحاجة، وهي دائرة بين الاستحباب، والإباحة، بحسب الباعث على ذلك.

قال القرطبيّ: لا خلاف في تضمير الخيل، والمسابقة بها على الجملة، وكذلك الإبل، وعلى الأقدام، كما جرى في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وكذلك المراماة بالسهام، واستعمال الأسلحة، ولا شكّ في جواز شيء من ذلك، إذا لم يكن هنالك مراهنة؛ لأن ذلك كلّه مما يُنتفع به في الحروب، ويُحتاج إليه، وإنما اختلفوا، هل ذلك من باب الندب، أو من باب الإباحة، إذا لم يُحتج إلى ذلك؟ فإن احتيج إلى شيء من

(1)

"اللباب" 2/ 65 و "الأنساب" 3/ 146 - 147.

(2)

"فتح" 6/ 163 - 164. "كتاب الجهاد".

ص: 24

ذلك، كان حكمه بحسب الحاجة انتهى

(1)

. (ومنها): جواز إضمار الخيل، قال في "الفتح": ولا يخفى اختصاص استحبابها بالخيل المعدة للغزو. (ومنها): مشروعيّة الإعلام بالابتداء والانتهاء عند المسابقة. (ومنها): جواز نسبة الفعل إلى الآمر به؛ لأن قوله: "سابق" أي أمر، أو أباح. (ومنها): جواز معاملة البهائم عند الحاجة بما يكون تعذيئا لها في غير الحاجة كالإجاعة والإجراء. (ومنها): تنزيل الخلق منازلهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم غاير بين منزلة المضمر، وغير المضمر، ولو خلطهما لأتعب غير المضمر. (ومنها): جواز إضافة المسجد إلى بانيها، أو المصلّي فيها، وقد ترجم الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى- في "صحيحه" على هذا، فقال:"بابٌ هل يقال: مسجد بني فلان"، ثم أورد حديث الباب. قال في "الفتح": ويلتحق به جواز إضافة أعمال البرّ إلى أربابها. قال: والجمهور على الجواز، والمخالف في ذلك إبراهيم النخعيّ، فيما رواه ابن أبي شيبة عنه، أنه كان يكره أن يقول: مسجد بني فلان، ويقول: مصلّى بني فلان؛ لقول تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} وجوابه أن الاضافة في مثل هذا إضافة تمييز، لا ملك انتهى

(2)

.

(ومنها): أن بعضهم استدلّ بقول ابن عمر: "وإن عبد اللَّه كان فيمن سابق بها" أن المراد بالمسابقة بالخيل كونها مركوبة، لا مجرّد إرسال الفرسين بغير راكب. قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن الذي لا يشترط الركوب لا يمنع صورة الركوب، وإنما احتجّ الجمهور بأن الخيل لا تهتدي بانفسها لقصد الغاية بغير راكب، وربما نفرت. وفيه نظر؛ لأن الاهتداء لا يختصّ بالركوب، فلو أن السائس كان ماهرًا في الجري بحيث لو كان مع كلّ فارس ساع يهديها إلى الغاية لأمكن. انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

"المفهم" 3/ 700 - 701.

(2)

"فتح" 2/ 77. "كتاب الصلاة".

(3)

"فتح" 6/ 164 - 165. "كتاب الجهاد".

ص: 25

‌13 - (بَابُ إِضْمَارِ الْخَيْلِ لِلسَّبْقِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الإضمار": هو إعداد الخيل للسباق، وهو أن تُعلف حتى تَسمَن، ثم يقفل علفها بقدر القوت إلى آخر ما سبق في الباب الماضي. وأما "السَّبْق"، فهو هنا بفتح السين المهملة، وسكون الموحّدة، قال في "اللسان": السَّبْقُ -أي بمتح، فسكون: الْقُدْمَة في الْجَرْيِ، وفي كلّ شيء، تقول: له في كلّ أمر سُبْقةٌ، وسابقةٌ، وسَبْقٌ، والجمع الأسباق، والسوابق انتهى. وقال الفيّوميّ: سَبَقَ سَبْقًا، من باب ضرب

(1)

، وقد يكون للسابق لاحقٌ، كالسابق من الخيل، وقد لا يكون، كمن أحرز قصبة السَّبْقِ، فإنه سابقٌ إليها، ومنفرد بها، ولا يكون له لاحقٌ. قال الأزهريّ: وتقول العرب للذي يَسْبِقُ من الخيل: سابق، وسَبُوقٌ، مثلُ رسُولٍ، وإذا كان غيره يسبِقه كثيرًا، فهو مُسَبَّقٌ، مثقّلٌ اسم مفعول. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3611 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ مِنَ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ، إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مِمَّنْ سَابَقَ بِهَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، وهو ثقة. و"ابن القاسم": هو عبد الرحمن الْعُتقيّ المصريّ الفقيه.

والحديث متّفقٌ عليه، ودلالته على الترجمة واضحة، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله في الباب الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌14 - (بَابُ السَّبَقِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "السبَقُ" هنا -بفتحتين- لأن المراد به الرهن الذي يُجعل للمتسابقين. قال في "القاموس": السَّبَقُ محرّكةً، والسُّبْقَةُ بالضمّ: الْخَطَرُ يوضع

(1)

زاد في "القاموس"، و"اللسان" من باب نصر.

ص: 26

بين أهل السباق، جمعه أسباق. والفعل من بابي ضرب، ونصر. انتهى. وفي "اللسان": السَّبَقُ -بفتحتين- الخَطَرُ، وهو ما يتراهن عليه المتسابقان، وسبَقته بالتشديد: أخذت منه السَّبقَ، وسبّقته: أعطيته إياه، قال الأزهريّ: وهذا من الأضداد انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3613 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ أَبِي نَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا سَبَقَ إِلاَّ فِي نَصْلٍ، أَوْ حَافِرٍ، أَوْ خُفٍّ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد تقدّم قبل باب، سوى:

1 -

(نافع بن أبي نافع) البَزّاز

(1)

، أبي عبد اللَّه المدنيّ، مولى أبي أحمد، ثقة [3].

قال الدُّوريّ، عن ابن معين: ثقة. روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عندهم حديث الباب فقط. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا سَبَقَ) قال الخطّابيّ: "السبق": بفتح الباء: هو ما يُجعل للسابق على سَبْقه من جُعْل، ونوال، فأما السبْقُ بسكون الباء، فهو مصدر سبقت الرجل أسبُقه سَبْقًا، والرواية الصحيحة في هذا الحديث السّبَقُ مفتوحة الباء، يريد أن الجعل والعطاء لا يُستحقّ إلا في سباق الخيل، والإبل، وما في معناهما، وفي النصل، وهو الرمي، وذلك لأن هذه الامور عُدّة في قتال العدوّ، وفي بذل الْجُعْل عليها ترغيبٌ في الجهاد، وتحريض عليه، ويدخل في معنى الخيل البغال، والحمير؛ لأنها كلها ذوات حوافر، وقد يُحتاج إلى سُرعة سيرها ونجائها؛ لأنها تحمل أثقال العساكر، وتكون معها في المغازي.

وأما السباق بالطير، والزَّجل

(2)

بالحمام، وما يدخل في معناه، مما ليس من عُدّة الحرب، ولا من باب القوّة على الجهاد، فأخذ السبق عليه قمارٌ محظور لا يجوز انتهى

(3)

.

(إِلاَّ فِي نَصْلٍ) بفتح النون، وسكون الصاد المهملة: حديدة السهم، والرمح، والسيف، ما لم يكن له مقبض.

(1)

"البزّاز" بزايين هكذا في "تهذيب التهذيب"، و"تهذيب الكمال"، ونسخة أبي الأشبال من "التقريب"، وفي نسخة منه، و"تحفة الأشراف""البزّار" بزاي، وراء، وليُحرّر.

(2)

الزَّجل محركة: اللَّعِبُ، والجَلَبَةُ، والتطريبُ، ورفعُ الصوت، وزَجَلَ الحمامَ: أرسلَهَا على بُعْدٍ. أفاده في (ق).

(3)

"معالم السنن" 3/ 398.

ص: 27

وقال الفيّوميّ: هو السيف، والسكّين، جمعه نُصُول، ونصال -بالكسر- ونَصَلتُ السهم نصلًا، من باب قتل: جعلت له نصلًا، وأنصلته بالألف: نزعت نصله، وكانوا يقولون لرجب: مُنْصِلُ الأسِنّة؛ لأنهم كانوا ينزِعونها فيه، ولا يُقاتلون، كأنه هو الذي أنصلها، ونصل الشيء من موضعه، من باب قتل أيضًا: خرج منه، ومنه يقال: تنصّل فلانٌ من ذنبه، والْمُتّصُل السيف -بضمّ الميم، وأما الصاد، فتُضمّ، ويجوز الفتح تخفيفًا. قاله الفيّوميّ.

(أَوْ حَافِرٍ) المراد به الخيل، وأصل الحافر اسم فاعل من حَفَرْتُ الأرض حَفْرًا، من باب ضرب، سمّي منه حافر الفرس والحمار، كأنه يحفِر الأرض بشدّة وطئه عليها. قاله الفيّوميّ.

(أَوْ خُفٍّ) قال في "اللسان": الخفّ واحد أخفاف البعير، وهو للبعير كالحافر للفرس. قال: وخفّ البعير هو مجمع فِرْسِنِ البعير والناقة، تقول العرب: هذا خفّ البعير، وهذه فِرْسِنه، وفي الحديث:"لا سَبَقَ إلا في خفّ، أو نصل، أو حافر"، فالخفّ الإبل ههنا، والحافر الخيل، والنصل السهم الذي يُرمى به، ولا بدّ من حذف مضاف: أي لا سبق إلا في ذي خفّ، أو ذي حافر، أو ذي نصل. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-14/ 3602 و 3603 و 3604 و 3616 - وفي "الكبرى" 14/ 4426 و 4427 و 4428 و 4430. وأخرجه (ت) "الجهاد" 1700 (ق) "الجهاد" 2878 (أحمد) "باقي مسند المكثرين" 8478 و 9788. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم أخذ المال على المسابقة:

قال العلامة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: المسابقة جائزة بالسنة، والإجماع، أما السنة، فحديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -. "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل

" الحديث متّفق عليه.

قال: وأجمع المسلمون على جواز المسابقة في الجملة، والمسابقة على ضربين: مسابقة بغير عوض، ومسابقة بعوض، فأما المسابقة بغير عوض، فتجوز مطلقًا من غير تقييد بشيء معيّن، كالمسابقة على الأقدام، والسفن، والطيور، والبغال، والحمر،

ص: 28

والفِيَلَة، والمزاريق

(1)

، والمصارعة، ورفع الحجر؛ ليُعرف الأشدّ، وغير هذا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في سفر مع عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، فسابقته على رجلها، فسبقته، قالت: فلما حملت اللحم، سابقته، فسبقني، فقال:"هذه بتلك". رواه أبو داود بإسناد صحيح. وسابق سلمة بن الأكوع رضي الله عنه رجلًا من الأنصار بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم في يوم ذي قَرَد. أخرجه مسلم. وصارع النبيّ صلى الله عليه وسلم رُكانة، فصرعه. رواه الترمذيّ

(2)

. ومرّ بقوم يربَعُون حجرًا -يعني يرفعونه ليعرفوا الأشدّ منهم- فلم يُنكر عليهم

(3)

. وسائر المسابقة يقاس على هذا.

وأما المسابقة بعوض، فلا تجوز إلا بين الخيل، والإبل، والرمي، قال: وبهذا قال الزهريّ، ومالك، وقال أهل العراق: يجوز ذلك في المسابقة على الأقدام، والمصارعة. قال: ولنا حديث "لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر"، فنفى السبق في غير هذه الثلاثة، ويحتمل أن يراد به نفي الْجُعل، أي لا يجوز الجعل إلا في هذه الثلاثة، ويحتمل أن يراد نفي المسابقة بعوض، فإنه يتعيّن حمل الخبر على أحد الأمرين؛ للإجماع على جواز المسابقة بغير عوض في غير هذه الثلاثة، وعلى كلّ تقدير فالحديث حجة لنا؛ ولأن غير هذه الثلاثة لا يحتاج إليها في الجهاد كالحاجة إليها، فلم تجز المسابقة عليها بعوض. انتهى المقصود من كلام ابن قدامة ملخّصًا

(4)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وأما المراهنة، فأجازها على الجملة مالكٌ، والشافعيّ في الخفّ، والحافر، والنصل، وذلك على ما يُروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا سَبَقَ إلا في خفّ، أو حافر، أو نصل"، على أنه لا يروى هذا الحديث بإسناد صحيح، وهو مع ذلك مشهور عند العلماء، متداولٌ بينهم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله لا يُروى بإسناد صحيح غير صحيح؛ إذ هو مرويّ متّصل ورجاله ثقات، وقد صححه الأئمة الحفاظ: ابن حبّان، وابن القطّان، وابن دقيق العيد، وابن حجر، وغيرهم، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

قال: وقد منع بعض العلماء الرِّهان في كلّ شيء إلا في الخيل؛ لأنها التي كانت عادة العرب المراهنة عليها. وروي عن عطاء السبق في كلّ شيء جائز، وقد يُؤَؤَّلُ عليه؛ لأن حمله على العموم في كلّ شيء يؤدّي إلى إجازة القمار، وهو محرّم باتفاق.

(1)

المزاريق: الرماح القصيرة.

(2)

حديث ضعيفٌ، رواه الترمذيّ، وذكر أن إسناده ليس بقائم.

(3)

رواه أبو عبيد في غريب الحديث 1/ 15 - 16. ويحتاج إلى النظر في إسناده، واللَّه أعلم.

(4)

"المغني" 13/ 404 - 409. "كتاب السبق والرمي".

ص: 29

ثم إن الذين أجازوا الرهبان شرطوا فيها شروطًا، وذكروا لها صورًا، منها متّفقٌ على جوازها، ومنها متّفقٌ على منعها، ومنها مختلف فيها.

فأما المتّفق عليها، فأن يُخرج الإمام، أو غيره متطوّعًا سَبَقًا، ولا فرس له في الحلبة، فمن سَبَقَ فله ذلك السبَقُ. وأما المتّفق على منعه، فهو أن يُخرج كلّ واحد من المتسابقين سَبَقًا، ويشترط أنه إن سبَقَ أمسك سَبَقَهُ، وأخذ سبق صاحبه، فهذا قمارٌ، فلا يجوز باتفاق، إذا لم يكن بينهما محلِّلٌ، فإن أدخلا بينهما محلِّلًا يكون له السبق، ولا يكون عليه شيءٌ، إن سُبق، فهذه مما اختُلف فيها، فأجازها ابن المسيّب، والشافعيّ، ومالكٌ مرّةً، والمشهور عنه أنه لا يجوز. والصحيح جوازه إن كان المحلّل لا يأمن أن يَسبق؛ لما خرّجه أبو داود، عن سفيان بن حسين، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"من أدخل فرسًا بين فرسين، وهو لا يأمن أن يسبق، فليس بقمار، ومن أدخله، وقد أمن أن يسبق، فهو قمار"

(1)

.

وأما إذا لم يكن بينهما محلّلٌ لم يجز؛ لأن مقصودهما المخاطرة، والمقامرة، وهو مذهب الزهريّ، والأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، وقد حُكي فيها الاتفاق.

فلو كان للوالي أو غيره فرسٌ في الحلبة، فيُخرج سَبَقًا على أنه إن سبق هو حبَسَ سبقه، وإن سُبق أخذ السبق السابق، فاجازها الليث، والشافعيّ، والثوريّ، وأبو حنيفة، وهو أحد أقوال مالك؛ لأن الأَسباق على ملك أربابها، وهم فيها على ما شرطوه.

ومنع من ذلك مالكٌ في قول آخر، وبعض أصحابه، وربيعة، والأوزاعيّ، وقالوا: لا يرجع إليه سبقه، وإنما يأكله من حضر إن سبق مخرجه، إن لم يكن مع المتسابقين ثالث.

والمسابقة عقدٌ لازم كالإجارة، فيُشترط في السبق ما يشترط في الأجرة من انتفاء الغرر، والجهالة، ومن شرط جوازها أن تكون الخيل متقاربة في النوع والحال، فمتى جُهل حال أحدها، أو كان مع غير نوعه، كان السبق قمارًا باتفاق انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن المسابقة بلا عوض جائزةٌ، بل مما لا خلاف فيه، كما سبق في كلام ابن قُدامة، وأما بالعوض، فيقتصر على ما في حديث الباب؛ لأنه ذكرها بأداة الحصر؛ فلا ينبغي الزيادة عليها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب،

(1)

حديث ضعيف؛ لضعف سفيان بن حسين في الزهريّ.

(2)

"المفهم" 3/ 701702 "كتاب الجهاد".

ص: 30

وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

3613 -

(أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ أَبِي نَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا سَبَقَ إِلاَّ فِي نَصْلٍ، أَوْ خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "سعيد بن عبد الرحمن": هو المكيّ الثقة، من صغار [10] 41/ 1277 و"سفيان": هو ابن عيينة.

والحديث صحيحٌ، وقد سبق البحث فيه مستوفًى في الحديث الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3614 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، مَوْلَى الْجُنْدَعِيِّينَ

(1)

، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قَالَ:"لَا يَحِلُّ سَبَقٌ، إِلاَّ عَلَى خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إبراهيم بن يعقوب": هو الْجُوزَجانيّ الحافظ. و"ابن أبي مريم": هو سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الثقة الثبت الفقيه المصريّ. و"الليث": هو ابن سعد الإمام الحجة المصريّ. و "ابن أبي جعفر" يسار: هو عبيد اللَّه المصريّ الفقيه الثقة العابد. و"محمد بن عبد الرحمن": هو الأسديّ القرشيّ المدنيّ، يتيم عروة. و"سليمان بن يسار": هو مولى ميمونة، أخو عطاء بن يسار، الثقة الثبت أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد سبق بيانهم غير مرّة.

و"أبو عبد اللَّه مولى الجُندَعيين" المدنيّ، ثقة [3].

قال الذهليّ: أبو عبد اللَّه هذا هو نافع بن أبي نافع الذي روى عنه نُعيم المجمر، وابن أبي ذئب، وقد سمع من أبي هريرة رضي الله عنه. وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الحاكم: قال بعضهم: عن أبي صالح مولى الجندعيين. روى له المصنّف حديث الباب فقط، وليس له غيره.

[تنبيه]: وقع في النسح المطبوعة: "أبو عبيد اللَّه" مصغرًا، وهو غلطٌ، فليُتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح، مضى قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع

(1)

بضم الجيم، وسكون النون، وفتح الدال: نسبة إلى بني جُندع، بطن من ليث بن بكر بن عبد مناة ابن كنانة. قاله في "اللباب" 1/ 295.

ص: 31

والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3615 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَاقَةٌ تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ، لَا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ، فَسَبَقَهَا، فَشَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وُجُوهِهِمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، سُبِقَتِ الْعَضْبَاءُ، قَالَ: «إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ، أَنْ لَا يَرْتَفِعَ مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ، إِلاَّ وَضَعَهُ»).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(محمد بن المثنى) العنَزيّ، أبو موسى البصريّ الزَّمِن، ثقة ثبت [10] 64/ 80.

2 -

(خالد) بن الحارث الهجيميّ، تقدم قريبًا.

3 -

(حميد) بن أبي حميد الطويل، أبو عبيدة البصريّ، ثقة يدلّس [5] 87/ 108.

4 -

(أنس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (181) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم - بالبصرة، مات سنة (92) أو (93) وقد تجاوز عمره مائة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَنَسٍ) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: كَانَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَاقَةٌ تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ) -بفتح العين المهملة، وسكون الضاد المعجمة، بعدها موحّدة، ومدّ- كانت تلقّب به ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لنجابتها، لِشَقّ أذنها. قاله الفيّوميّ. وقال ابن منظور: العَضْباء: اسم ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، اسم لها علم، وليس من العضب الذي هو الشق في الأذن. وقال الجوهريّ: هو لقبها، وقال ابن الأثير: هو علمٌ منقولٌ من قولهم: ناقةٌ عضباء: أي مشقوقة الأدن، ولم تكن مشقوقة الأذن. وقال بعضهم: إنها كانت مشقوقة الأذن، والأول أكثر. وقال الزمخشريّ: هو منقول من قولهم: ناقةٌ عَضْباءٌ وهي القصيرة اليد انتهى

(1)

.

(1)

"لسان العرب" 1/ 609. مادة عضب.

ص: 32

وقال في "الفتح": العضباء: هي المقطوعة الأذن، أو المشقوقة. وقال ابن فارس: كان ذلك لقبًا لها؛ لقوله -أي الرواية-: تُسمّى العضباء، ولقوله:"يقال لها: العضباء"، ولو كانت تلك صفتها لم يُحتَج لذلك. قال: واختُلف هل العضباء هي القصواء، أو غيرها، فجزم الحربيّ بالأول، وقال: تُسمى العضباء، والقصواء، والجدعاء. وروى ذلك ابن سعد عن الواقديّ. وقال غيره بالثاني، وقال: الجدعاء كانت شهباء، وكان لا يحمله عند نزول الوحي غيرها، وذكروا له عدّة نُوق غير هذه، تتبّعها من اعتنى بجمع السيرة انتهى

(1)

.

وقد عقد الحافظ أبو الفضل العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "ألفية السيرة" لذلك بابًا، فقال:

[باب ذكر لقاحه، وجماله صلى الله عليه وسلم]:

كَانَتَ لَهُ لِقَاحٌ الْحِنَّاءُ

عُرَيِّسٌ بَغُومٌ السَّمْرَاءُ

بَرَكَةٌ والْمَرْوَةُ السَّعْدِيَّةُ

حَفِدَةٌ مُهْرةُ واليُسَيرَةُ

رَيَّاءُ والشَّقْرَاءُ والصَّهْباءُ

عَضْبَاءُ جَدْعَاءُ هُمَا الْقَصْوَاءُ

وَغَيْرُهُنَّ وَالْجِمَالُ الثَّعْلَبُ

وَجَمَلٌ أَحْمَرُ والْمُكْتَسَبُ

غَنِيمَةً فِي يَوْمِ بَدْرٍ مِنْ أَبِي

جَهْلٍ فَأَهْدَاهُ إِلَى الْبَيْتِ النَّبِي

فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ ايْ مِنْ فِضَّةِ .... غَاظَ بِهِ كُفَّارَ أَهْلِ مَكَّةِ

(لَا تُسْبَقُ) وفي رواية البخاريّ: قال حمد: "أو لا تكاد تُسبَق"(فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ) قال الحافظ: لم أقف على اسم هذا الأعرابيّ بعد التتبّع الشديد (عَلَى قَعُودٍ) -بفتح القاف-: ما استحقّ الركوب من الإبل. قال الجوهريّ: هو الْبَكْرُ حتى يُركب، وأقلّ ذلك أن يكون ابن سنتين إلى أن يدخل السادسة، فيُسمّى جملًا. وقال الأزهريّ: لا يقال: إلا للذكر، ولا يقال للأنثى قَعُودة، وإنما يقال لها: قَلُوص. قال: وقد حكى الكسائي في "النوادر" قَعُودةٌ للقَلُوص، وكلام الأكثر على خلافه. وقال الخليل: القَعُودة من الإبل ما يقعده الراعي لحمل متاعه، والهاء فيه للمبالغة. انتهى

(2)

.

(فَسَبَقَهَا) بالبناء للفاعل، أي سبق ذلك الأعرابيّ بقَعُوده العضباء. وفي رواية ابن المبارك، وغيره، عن حميد، عند أبي نُعيم:"فسابقها، فسبقها"، وفي رواية شعبة:

(1)

"فتح" 6/ 166 - 167. "كتاب الجهاد".

(2)

"فتح" 6/ 166.

ص: 33

"سابق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعرابيّ".

وهذا هو محلّ الترجمة، لكن هذا، وإن كان فيه جواز المسابقة، فليس فيه جواز السبَق، أي الْجُعْلِ، إذ غاية ما دلّ عليه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقرّ الأعرابيّ في مسابقته له، وليس بينهما عقد دفع السبَق، ففي إدخال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- لهذا الحديث لي هذا الباب نظرٌ لا يخفى، إذ هو دليلٌ على جواز المسابقة، لا على جواز السَّبَق، فتأمّل.

(فَشَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ) وفي رواية البخاريّ: "فشقّ ذلك على المسلمين، حتى عرفه". أي حتى عرف النبيّ صلى الله عليه وسلم أثر المشقّة ظهر على وجوههم (فلمَّا رَأَى مَا فِي وُجُوهِهِمْ) أي من أثر مشقّة سبقه لها (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ) هكذا في رواية المصنّف "قالوا" بدون عاطف، وعليه فيكون جواب "لما" مرتّبًا على محذوف، تقديره، "وسألهم عن سببه"، أي فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم ما في وجوههم، وسألهم عن سببه قالوا: يا رسول اللَّه الخ. وفي رواية للبخاري في "الرقاق": "وقالوا" بواو العطف، وعليه فيكون معطوفا على جملة "فلما رأى الخ"، ويكون جوب "لما" قوله:"إن حقًّا الخ". وفي رواية شعبة الآتية بعد باب: "فكأن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجدوا في أنفسهم من ذلك، فقيل له في ذلك، فقال: حقّ

" (سُبِقتِ الْعَضْبَاءُ) ببناء الفعل للمفعول (قَالَ) (إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ) قال السنديّ: في إعرابه إشكالٌ عند الناس من حيث إنه يلزم أن يكون اسم "إنّ" نكرةً، وخبرها "أَنْ" مع الفعل، وهو في حكم المعرفة، بل من أتمّ العارف، حتى يُجعَلُ مسندًا إليه، مع كون الخبر معرفة، نحو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} الآية بنصب {قَوْلَهُمْ} على الخبريّة، ورفعِ {أَنْ قَالُوا} محلًّا، على أنه اسم "كان".

وقد أجيب بالقلب، ولا يخفى بعده، ولعلّ الأقرب من ذلك أن يُجعل "على اللَّه خبرًا، و"حقًّا" حالًا من ضميره، فليُتأمّل انتهى

(1)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الكلام ناقصٌ، والظاهر أن فيه سقطًا، والأصل ولعل الأقرب أن يُجعَلَ "أن لا يترفع" اسم "إن" و"على اللَّه" خبرًا، و"حقًّا" حال من ضميره. ويحتمل أن يكون من باب الابتداء بالنكرة الموصوفة، على حدّ قول ابن مالك -رحمه اللَّه تعالى- في "الخلاصة":

وَرَجُلٌ مِن الْكِرَامِ عِنْدَنَا

فقوله: "حقّا" اسم "إنّ" و"على اللَّه" جار ومجرور متعلّق بصفة لـ"حقًا"، وقوله:

(1)

"شرح السنديّ" 6/ 227.

ص: 34

"أن لا يرتفع" هو الخبر. واللَّه تعالى أعلم.

(أَنْ لَا يَرْتَفِعَ) قال السنديّ: أي برفع الناس إياه، وفي نسخة:"أن لا يُرفع" على بناء المفعول، والمراد رفع الناس، وأما ما رفعه اللَّه، فلا واضع له انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله السنديّ يردّه ما في رواية موسى بن إسماعيل عند البخاريّ بلفظ: "أن لا يرفع شيئًا"، فالصواب أن ما رفعه اللَّه من أمور الدنيا لا بدّ له أن يَتَّضع، ويدلّ لذلك قوله (مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ، إِلاَّ وَضَعَهُ) فالذي يتضع بعد رفعه إنما هو ما كان من أمور الدنيا، وأما ما كان من أمور الآخرة، فلا يزداد إلا رفعة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-14/ 3615 و 16/ 3619 - وفي "الكبرى" 14/ 4429 و 16/ 4433. وأخرجه (خ) " الجهاد والسير" 2871 و 2872 و"الرقاق" 6501 (د) "الأدب" 4802 (أحمد) "باقي مسند المكثرين" 11599 و13247. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): جواز المسابقة. (ومنها): جواز اتخاذ الإبل للركوب، والمسابقة عليها. (ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من محبّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعظمته في صدورهم، بحيث إنهم لا يحبّون أن تُسبق ناقته، ويشُقّ ذلك عليهم؛ لأن ذلك يجعل نفس السابق متعاليًا عليه، ولا سيّما وهو أعرابيٌّ. (ومنها): ما كان عليه الأعراب من الجفاء، والبعد عن التأدب في حضرته صلى الله عليه وسلم، إذ الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يتجاسرون في التقدّم بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لا بدّوابّهم، ولا بأرجلهم، ولا بأقوالهم، إلا بإذن منه صلى الله عليه وسلم، عملًا بقول سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية. (ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق، والتواضع. (ومنها): الحثّ على التواضع. (ومنها): التزهيد في الدنيا؛ الإشارة إلى أن كلّ شيء منها لا يرتفع، إلا اتّضع. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3616 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْحَكَمِ، مَوْلًى لِبَنِى لَيْثٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا سَبَقَ إِلاَّ فِي خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ»).

ص: 35

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كان الأولى للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- تقديم هذا الحديث على الذي قبله؛ لأنه ثالث أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه التي أخرجها في هذا الباب.

و"عمران بن موسى": هو القزاز الليثيّ، أبو عمرو البصريّ. و "عبد الوارث": هو ابن سعيد ابن ذكران البصريّ. و"محمد بن عمرو": هو ابن علقمة الليثيّ المدنيّ.

و"أبو الحكم مولى بني ليث"، مقبولٌ [3]. له عند المصنّف، وابن ماجه حديث الباب فقط.

والحديث صحيحٌ، كما تقدّم قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌15 - (الْجَلَبُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الْجَلَبُ -بفتحتين-: يطلق على شيئين: أحدهما في الزكاة، وهو أن يَقْدَم الْمُصَدِّقُ على أهل الزكاة، فينزل موضعًا، ثم يرسل مَنْ يجلُب إليه الأموال من أماكنها؛ ليأخذ صدقتها، فنهي عن ذلك، وأُمر أن تؤخذ صدقاتهم على مياههم، وأماكنها.

والثاني: في السِّباَق، وهو الذي أراده المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في هذه الترجمة، وهو أن يَتبَعَ الرجلُ فرسَهُ، فيزجره، ويَجلُب عليه، ويصِيح، حثًّا له على الجري، فنهي عن ذلك

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3617 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ

(2)

، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ - قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَا جَلَبَ، وَلَا جَنَبَ، وَلَا شِغَارَ فِي الإِسْلَامِ، وَمَنِ انْتَهَبَ نُهْبَةً، فَلَيْسَ مِنَّا» ).

(1)

"النهاية" 1/ 280.

(2)

"بزيع" بفتح الباء الموحّدة، وكسر الزاي، آخره عين مهملة.

ص: 36

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيحٌ، وقد تقدّم للمصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في "كتاب النكاح" برقم -60/ 3336 - وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك- وللَّه الحمد والمنّة- فراجعه تستفد.

و"حميد": هو الطويل. و"الحسن": هو البصريّ.

وقوله: "ولا شغار" تقدّم أن عقد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- لتفسيره بابًا -61/ "تفسير الشغار"، وقد فُسّر في الرواية بأنه أن يزوّج الرجل الرجل ابنته على أن يزوّجه ابنته، وليس بينهما صداق. وقد سبق البحث عنه مستوفًى في الباب المذكور، فراجعه تستفد.

وقوله: "ومن انتهب نُهبة" أي سلب، واختلس، وأخذ قهرًا، و"النهبة" -بضمّ، فسكون-: المال المنهوب، و-بالفتح- مصدر.

وقوله: "ليس منا" أي من أهل طريقتنا، وسنّتنا، والظاهر أنه ليس من المؤمنين أصلًا، لكن إجماع أهل السنة على خلافه، فلا بدّ من تأويله، وقد تقدّم تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

‌16 - (الْجَنَبُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الجنب" -بالتحريك- في السباق أن يَجْنُبَ فرسًا إلى فرسه الذي يسابق عليه، فإذا فَتَرَ المركوبُ تحوّل إلى المجنوب.

وهو في الزكاة أن ينزل العامل بأقصى مواضع أصحاب الصدقة، ثم يأمر بالأموال أن تُجنَب إليه، أي تُحضَرَ، فنُهُوا عن ذلك. وقيل: أن يَجْنُبَ ربّ المال بماله، أي يُبعِده عن موضعه، حتى يحتاج العامل إلى الإبعاد في اتباعه، وطلبه. قاله ابن الأثير -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3618 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي قَزَعَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا جَلَبَ، وَلَا

(1)

"النهاية" 1/ 303.

ص: 37

جَنَبَ، وَلَا شِغَارَ فِي الإِسْلَامِ».

قال الجامع - عفا اللَّه تعالىَ عنه: "محمد": هو ابن جعفر، غُنْدَر. و"أبو قَزَعَة" بفتحات: سُويد بن حُجَير الباهليّ البصريّ.

والحديث صحيحٌ، كما سبق بيانه في الحديث الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3619 -

(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَى شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَابَقَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌّ، فَسَبَقَهُ، فَكَأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: «حَقٌّ عَلَى اللَّهِ، أَنْ لَا يَرْفَعَ شَيْءٌ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا، إِلاَّ وَضَعَهُ اللَّهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه البخاريّ، وقد سبق تمام البحث فيه قبل باب، فليُراجع هناك.

وقوله: "أن لا يرفع شيء نفسه" قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: الأقرب بناء الفعل للفاعل، ونصب "نفسَهُ"، وأما جعله مبنيًّا للمفعول، ورفع "نفسه" على أنه بدل من "شيءٌ"، فبعيدٌ. بقى أن الناقة ما رفعت نفسها، والظاهر أن المدار على أن يرفع شيء بلا استحقاق، سواء هو رفع نفسه، أم لا. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "بلا استحقاق" فيه نظرٌ، إذ لا دليل على خصوص ذلك، بل الحديث عاّم.

والحاصل أنه لا يرتفع شيء من أمور الدنيا، مطلقًا، إلا وضعه اللَّه سبحانه وتعالى، فتأمّل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

ص: 38

‌17 - (بَابُ سُهْمَانِ الْخَيْلِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "السُّهْمَانُ" -بضمّ، فسكون-: جمع سهم -بفتح، فسكون -وهو النصيب، ويُجمع أيضًا على أسهُم، وسِهام. ولفظ "الكبرى""سَهْمَا الخيل" بالتثنية، والإضافة إلى "الخيل". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3620 -

قَالَ: الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَامَ خَيْبَرَ، لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمًا لِلزُّبَيْرِ، وَسَهْمًا لِذِى الْقُرْبَى، لِصَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أُمِّ الزُّبَيْرِ، وَسَهْمَيْنِ لِلْفَرَسِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الحارث بن مسكين) القاضي المصريّ، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

2 -

(ابن وهب) هو عبد اللَّه المصريّ، ثقة ثبت عابد [9] 9/ 9.

3 -

(سعيد بن عبد الرحمن) الْجُمَحيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، قاضي بغداد، صدوق، له أوهام، أفرط ابن حبّان في تضعيفه [8] 43/ 2236.

4 -

(هشام بن عروة) بن الزبير، أبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيه، ربما دلّس [5] 49/

61.

5 -

(يحيى بن عبّاد بن عبد اللَّه بن الزبير) بن العوّام القرشيّ الأسديّ المدنيّ، ثقة [5].

قال ابن معين، والنسائيّ، والدارقطنيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: أخبرنا ابن عمر، حدثنا ابن أبي الزناد، قال: كانت ليحيى مرؤة، وما رأيت شابَّا في النعمة أحسن منه، مات قديمًا، وهو ابن ستّ وثلاثين، وكان ثقة كثير الحديث. وقال الدارقطنيّ: يحيى بن عبّاد، وأبوه عبّاد ثقتان. وقال أبو حاتم: مات قديمّا، وهو ابن ستّ وثلاثين سنة، وكانت له مرؤة. وقال الزبير بن بكّار نحوه، وزاد: أمه عائشة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. روى له البخاريّ في " جزء القراءة"، والأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

6 -

(جدّه) عبد اللَّه بن الزبير بن العوّام القرشيّ الأسديّ، أبو بكر، وأبو خُبيب، الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما -، ولي الخلافة تسع سنين، وقُتل في ذي

ص: 39

الحجة سنة (73)، تقدّم في 189/ 1161. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فتفرّد به هو وأبو داود، ويحيى بن عباد، فمن رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وابن وهب، فمصريّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ: هشام، عن يحيى، وهو من رواية الأقران. (ومنها): أن صحابيّه - رضي اللَّه تعالى عنه - هو أول مودود وُلد في الإسلام بالمدينة من المهاجرين، ففرح به المسلمون؛ حيث بطل به زعم المنافقين بأنهم لا يولد لهم؛ لأن اليهود سحرتهم. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ جدِّهِ) عبد اللَّه بن الزبير - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَامَ خَيْبَرَ، لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمًا لِلزُّبَيْرِ) قيل: اللام فيه للتمليك، وفي قوله:"للفرس" للسببيّة (وَسَهْمًا لِذِي الْقُرْبَى، لِصَفِيَّةَ) بدل من الجارّ والمجرور قبله (بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أُمِّ الزُّبَيْرِ) بالجرّ بدل من "صفيّة"(وَسَهْمَيْنِ لِلْفَرَسِ) فيه أن الفرس يسهم له بسهمين، وبه قال الجمهور، وخالف فيه الحنفيّة، فقالوا: لا يفضّل الفرس على صاحبه، بل يعطى سهمًا فقط، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة الثانية، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماَب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن الزبير - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا حسنٌ من أجل الاختلاف في سعيد بن عبد الرحمن، فقد وثّقه ابن معين وغيره، وتكلم فيه بعضهم، فلا ينقص حديثه عن درجة الحسن.

وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-17/ 3620 - وفي "الكبرى" 17/ 4434. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في سهمان الخيل:

قال العلاّمة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: أكثر أهل العلم على أن الغنيمة للفارس منها

ص: 40

ثلاثة أسهم، سهمٌ له، وسهمان لفرسه، وللراجل سهم. قال ابن المنذر: هذا مذهب عمر بن عبد العزيز، والحسن، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت، وعوامّ علماء الإسلام في القديم والحديث، منهم: مالك، ومن تبعه من أهل المدينة، والثوريّ، ومن وافقه من أهل العراق، والليث بن سعد، ومن تبعه من أهل مصر، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو يوسف، ومحمد.

وقال أبو حنيفة: للفرس سهم واحد؛ لما روى مُجمّع بن جارية أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قسم خيبر على أهل الحديبية، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهمّا. رواه أبو داود؛ ولأنه حيوانٌ ذو سهم، فلم يزد على سهم، كالآدميّ.

واحتجّ الأولون بما روى ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسهم يوم خيبر، للفارس ثلاثة أسهم، سهمان لفرسه، وسهم له. متّفقٌ عليه. انتهى

(1)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: حديث ابن عمر المذكور حجة لمالك، والجمهور على أنه يُقسم للفرس وراكبه ثلاثة أسهم، وللراجل سهم، لا سيّما على رواية "وللرجل"، فإنه يريد به راكب الفرس، وأن الألف واللام فيه للعهد. وقد روي من طريق صحيح عن ابن عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل، وفرسه ثلاثة أسهم، سهمّا له، ولفرسه سهمين. ذكره أبو داود. وفي البخاريّ عن ابن عمر:" جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهمًا".

ومن جهة المعنى أن مؤن الفارس أكثر، وغَناؤه أعظم، فمن المناسب أن يكون سهمه أكثر من سهم الراجل.

وشذّ أبو حنيفة، فقال: يقسم للفرس كما يقسم للرجل. ولا أثر يعضده، ولا قياس يعتمده، ولذلك خالفه في ذلك كبراء أصحابه، كأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وغيرهما. وقد ذكر أبو بكر بن أبي شيبة من حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قسم للفارس سهمين، وللراجل همًا". والصحيح من حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - ما خرّجه البخاريّ ومسلم، كما ذكرناه انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قال محمد بن سحنون: انفرد أبو حنيفة بذلك

(3)

، دون فقهاء الأمصار، ونقل عنه أنه قال: أكره أن أفضّل بهيمة على مسلم، وهي شبهة ضعيفة؛ لأن

(1)

"المغني" 13/ 85.

(2)

"المفهم" 3/ 558 - 559.

(3)

لكن ذكر في "الفتح" بأن هذا القول نقل عن عمر، وعليّ، وأبي موسى رضي الله عنه، لكن الثابت عن عمر وعليّ كالجمهور انتهى "فتح" 6/ 160.

ص: 41

السهام كلها في الحقيقة للرجل.

قال الحافظ: قلت: لو لم يثبت الخبر لكانت الشبهة قويّة؛ لأن المراد المفاضلة بين الرجل والفارس، فلولا الفرس ما ازداد الفارس سهمين عن الرجل، فمن جعل للفارس سهمين، فقد سوّى بين الفرس وبين الرجل.

وقد تُعُقّب هذا أيضًا لأن الأصل عدم المساواة بين البهيمة والإنسان، فلما خرج هذا عن الأصل بالمساواة، فلتكن المفاضلة كذلك. وقد فضّل الحنفيّة الدابّة على الإنسان في بعض الأحكام، فقالوا: لو قتل كلبَ صيد قيمته أكثر من عشرة آلاف، أذاها، فإن قتل عبدًا مسلمًا، لم يؤد فيه إلا دون عشرة آلاف درهم. والحقّ أن الاعتماد في ذلك على الخبر انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي نقل عن أبي حنيفة أنه قال في تفضيل الفرس على الراجل: أكره أن أفضّل بهيمة على مسلم، بينما يفضّل الكلب على مسلم، فيتناقض في ذلك، إنما هو قياس في مقابلة النصّ، وذلك باطلٌ بإجماع أهل الحقّ، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال [من الوافر]

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصً يَوْمًا

تُجارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

والحاصل أن الحقّ مع الجمهور من أن الفارس له ثلاثة أسهم، سهمان لفرسه، وسهم له. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أُنيب".

(1)

"فتح" 6/ 159 - 160.

ص: 42

‌28 - (كِتَابُ الإِحْبَاسِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الإحْبَاسُ" -بكسر الهمزة- مصدر أحبسه: إذا وقفه، ويحتمل أن يكون بفتح الهمزة جمع حُبْس -بضمّ، فسكون- اسم من الإحباس، كما سيأتي في عبارة "اللسان".

قال الفيّوميّ: حَبَستُهُ، من باب ضرب بمعنى وَقَفْتُهُ، فهو حبيسٌ، والجمع حُبُسٌ، مثلُ بريدٍ وبُرُدٍ، وإسكان الثاني للتخفيف لغةٌ، ويُستعمل الحبيس في كلّ موقوف، واحدًا كان، أو جماعة، وحَبّسته بالتثقيل مبالغة، وأحبسته بالألف مثله، فهو محبوسٌ، ومُحَبَّسٌ، ومُحْبَسٌ. انتهى بزيادة يسيرة.

وقال في "اللسان": حَبَسْتُ أحْبسُ حَبْسًا - من باب ضرب- وأَحبستُ أُحبِسُ إِحْباسّا: أي وقفتُ، والاسم الْحُبْسُ بالضمّ. قال الأزهريّ: الْحُبُسُ -بضمتين- جمع الحَبِيسِ، يقع على كلّ شيء وقفه صاحبه وقفَا مُحرَّمًا، لا يورث، ولا يُباع، من أرض، ونخل، وكَرْم، ومُسْتَغَلّ، يُحبَس أصله وقفًا مؤبّدًا، وتُسْبَلُ ثمرته تقرّبًا إلى اللَّه عز وجل، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في نخل له، أراد أن يتقرّب بصدقته إلى اللَّه -عَزَّ

وَجَلَّ-، فقال له:"حَبِّسِ الأصلَ، وسَبِّلِ الثمرة": أي اجعله وقفَاحُبُسَا. ومعنى تحبيسه

أن لا يورث، ولا يُباع، ولا يوهب، ولكن يُترك أصله، وُيجعل ثمره في سُبُل الخير.

وأما ما رُوي عن شُرَيح أنه قال: جاء محمد صلى الله عليه وسلم بإطلاق الحُبُس، فإنما أراد بها الحُبُس جمع حَبِيسٍ، وهو بضّم الباء، وأراد بها ما كان أهل الجاهليّة يَحبِسونه من السوائب، والبحائر، والحوامي، وما أشبهها، فنزل القرآن بإحلال ما كانوا يُحرّمون منها، وإطلاق ما حبّسوا بغير أمر اللَّه تعالى منها. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: ذكر في "الكبرى" هنا ترجمة، ونصها:"حَبْسُ ما ترك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند وفاته". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3621 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: "مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، إِلاَّ بَغْلَتَهُ الشَّهْبَاءَ، الَّتِي كَانَ يَرْكَبُهَا، وَسِلَاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ". وَقَالَ قُتَيْبَةُ مَرَّةً أُخْرَى: "صَدَقَةً").

(1)

"لساب العرب" 6/ 45 مادة حبس.

ص: 43

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(أبو الأحوص) سلام بن سُليم الحنفي الكوفيّ، ثقة متقن [7] 79/ 96.

3 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه الهمدانيّ السبيعيّ الكوفيّ ثقة عابد اختلط بآخره

[3]

38/ 42.

4 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن أبي ضِرَار الخزاعيّ الْمّصطلِقيّ، أخي جويرية، أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنهما -، صحابيّ قليل الحديث، بقي إلى ما بعد الخمسين 83/ 2583. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (182) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجالا لصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فبغلاني. (ومنها): أن صحابيه قليل الرواية، حيث لم يكن له في الكتب الستة إلا حديثان فقط: حديث الباب عند المصنف، والبخاري، والترمذي في "الشمائل"، وحديث:"كان يقال: أشد الناس عذابًا اثنان: امرأة عصت زوجها، وإمام قوم، وهم له كارهون" عند الترمذيّ. انظر "تحفة الأشراف" جـ 8 ص 141 - 142. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ) رضي الله عنه، وقد صرّح أبو إسحاق بالتحديث في الرواية التالية، فزلت تهمة التدليس.

(قَالَ: "مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً) أي في الرقّ، وفيه دلالةٌ على أن من ذُكر من رقيق النبيّ صلى الله عليه وسلم في جميع الأخبار كان إما مات، وإما أعتقه. واستُدلّ به على عتق أم الولد، بناء على أن مارية والدة إبراهيم ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم عاشت بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما على قول من قال: إنها ماتت في حياته صلى الله عليه وسلم، فلا حجة فيه.

(إِلاَّ بَغلَتَهُ الشهْبَاءَ) يحتمل الاتصال بتاويل ما قبله بنحو ما ترك شيئًا، إلا بغلته، أو بتقدير: ولا ترك شيئًا إلا بغلته، والانقطاع على ظاهره. و"الشهباء" هي البيضاء، كما هو في الرواية التالية (الَّتِي كَانَ يَزكَبُهَا، وَسِلاحَهُ، وَأَرْضَا جَعَلَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ظاهره أنه صفة "أرضًا"، وترك حكم غيرها مقايسة، ويحتمل أن يكون مستأنفًا لَبيان حكم حال الجميع ما ترك، أي جعل جميع المذكورات صدقة في سبيل اللَّه تعالى.

(وَقَالَ قُتَيْبَةُ) بن سعيد شيخه (مَرَّةً أُخرَى) أي في وقت آخر بعد ما حدثهم بهذا اللفظ

ص: 44

(صَدَقَةً) يعني أن قتيبة -رحمه اللَّه تعالى- حدثهم مرّةً بلفظ: " جعلها في سبيل اللَّه"، ومرّة أخرى بلفظ:" جعلها صدقة". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عمرو بن الحارث - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-1/ 3621 و 3622 و 3623 - وفي "الكبرى" 1/ 6421 و 6422 و 6423. وأخرجه (خ) "الوصايا" 2739 و "الجهاد" 2873 و 2912 و"فرض الخمس" 3098 و"المغازي" 4461 (أحمد) "مسند الكوفيين" 17990 (الدارمي) "النكاح" 2191. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعيّة الوقف، سواء الموقوف منقولاً، أو غير منقول، وفي غير المنقول خلاف بين العلماء، سيأتي بيانه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): جواز اتخاذ البغال، وركوب البغل. (ومنها): جواز إنزاء الحمير على الخيل، وأما الحديث الذي تقدّم "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون"، قال الطحاويّ -رحمه اللَّه تعالى-: أخذ به قومٌ، فحرّموا ذلك، ولا حجة فيه؛ لأن معناه الحضّ على تكثير الخيل؛ لما فيها من الثواب، وكأن المراد الذين لا يعلمون الثواب المرتّب على ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3622 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ، يَقُولُ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَسِلَاحَهُ، وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"عمرو بن عليّ": هو الفلاّس. و"يحيى بن سعيد": هو القطّان. و"سفيان": هو الثوريّ. والحديث أخرجه البخاريّ، وسبق البحث عنه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3623 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ، يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَا تَرَكَ إِلاَّ بَغْلَتَهُ الشَّهْبَاءَ، وَسِلَاحَهُ، وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً).

ص: 45

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"أبو بكر الحنفي": هو عبد الكبير بن عبد المجيد البصريّ الثقة [9]. و"يونس بن أبي إسحاق": هو أبو إسرائيل السبيعي الكوفيّ، وثقه ابن معين وغيره [5].

والحديث أخرجه البخاريّ، وقد سبق البحث عنه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌2 -

(1)

كَيْفَ يُكْتَبُ الْحَبْسُ، وَذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى ابْنِ عَوْنِ فِي خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ - رضي اللَّه تعالى عنهما - فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف على عبد اللَّه بن عون -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أن سفيان الثوريّ، وأبا إسحاق الفزاريّ، روياه عنه، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، فجعلاه من مسند عمر رضي الله عنه، وتابعهما على ذلك سعيد بن سالم المكيّ، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، كما في الرواية الآتية في الباب التالي-3/ 3632 - إن شاء اللَّه تعالى.

وخالفهم في ذلك يزيد بن زريع، وبشر بن المفضّل، وأزهر السمّان، فرووه عنه، عن نافع، عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: أصاب عمر، فجعلوه من مسند ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وتابعهم على ذلك سفيان بن عيينة، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، كما في الرواية الآتية في الباب التالي-3/ 3630 و 3631 - إن شاء اللَّه تعالى.

والحاصل أن أكثر الرواة على أنه من مسند ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال:

(1)

ثبت في النسخ هنا ذكر عنوان، ولفظه:"الإحباس"، لكن أشار في الهنديّة إلى أنه ساقط في بعض النسخ، فحذفته تبعًا لتلك النسخة؛ إذ لم أر له كبير مناسبة، وهو أيضًا مكرّر مع الترجمة السابقة واللَّه تعالى أعلم.

ص: 46

أصاب عمر رضي الله عنه" كذا لأكثر الرواة عن نافع، ثم عن ابن عون جعلوه من مسند ابن عمر، لكن أخرجه مسلم، والنسائيّ من رواية سفيان الثوريّ، والنسائيُّ من رواية أبي إسحاق الفزاريّ، كلاهما عن عبد اللَّه بن عون- والنسائيّ من رواية سعيد بن سالم، عن عبيد اللَّه بن عمر- عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، جعله من مسند عمر رضي الله عنه، والمشهور الأول. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: زعم أبو عمر ابن عبد البرّ أن ابن عون تفرّد برواية هذا الحديث، عن نافع، وليس كما قال، فقد أخرجه النسائيّ في الباب التالي من رواية عبيد اللَّه بن عمر الأكبر المصغّر، عن نافع، وأخرجه البخاريّ في "صحيحه" من رواية صخر بن جويرية، عن نافع، وأخرجه البخاريّ مختصرًا، وأحمد، والطحاويّ مطوّلاً من رواية أيوب، عن نافع، وأخرجه الطحاويّ أيضًا من رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن نافع، وأخرجه أحمد، والدارقطنيّ من رواية عبد اللَّه بن عمر الأصغر المكبّر، عن نافع. أفاده في "الفتح"

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3624 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ

(3)

عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا، مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: أَصَبْتُ أَرْضًا، لَمْ أُصِبْ مَالاً أَحَبَّ إِلَيَّ، وَلَا أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهَا،. قَالَ:«إِنْ شِئْتَ تَصَدَّقْتَ بِهَا» ، فَتَصَدَّقَ بِهَا، عَلَى أَنْ لَا تُبَاعَ، وَلَا تُوهَبَ، فِي الْفُقَرَاءِ، وَذِى الْقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَالضَّيْفِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا، أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالاً، وَيُطْعِمَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) ابن راهويه الحنظلي المروزيّ، ثقة ثبت [10] 2/ 2.

2 -

(أبو داود الْحَفَريّ عمر بن سعد) الكوفيّ، ثقة عابد [9] 15/ 523.

3 -

(سفيان الثوريّ) ابن سعيد الكوفيّ ثقة ثبت حجة [7] 33/ 37.

4 -

(ابن عون) عبد اللَّه بن عون بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقة ثبت فاضل، من

أقران أيوب في العلم والعمل، والسنّ [5

(4)

] 29/ 33.

(1)

6/ 58 "كتاب الوصايا".

(2)

"فتح"58. "كتاب الوصايا".

(3)

"الحفريّ" -بفتح الحاء المهملة، والفاء-: نسبة إلى الحفر موضع بالكوفة.

(4)

جعله في "التقريب" من السادسة، والظاهر أنه من الخامسة؛ لأنه رأى أنسًا رضي الله عنه، ويؤيّده قوله في "التقريب": من أقران أيوب في السنّ. فتأمّل.

ص: 47

5 -

(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.

6 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12.

7 -

(عمر) بن الخطّاب - رضي اللَّه تعالى عنه - 60/ 75. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وصحابي، عن صحابيّ، والابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ) واسمها ثَمْغ

(1)

، كما في رواية سعيد بن سالم الآتية في الباب التالي، وفي رواية أيوب عن نافع، عند أحمد:"أن عمر أصاب أرضًا من يهود بني حارثة، يقال لها: ثمغ". وروى عمر بن شبّة بإسناد صحيح، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم:"أن عمر رأى في المنام ثلاث ليال أن يتصدّق بثمغ". وفي الرواية الآتية في الباب التالي، من طريق سفيان، عن عبيد اللَّه بن عمر:"جاء عمر، فقال: يا رسول اللَّه، إني أصبت مالاً، لم أُصب مالاً مثله قط، كان لي مائة رأس، فاشتريت بها مائة سهم من خيبر من أهلها"، فيحتمل أن تكون ثمغ من جملة أراضي خيبر، وأن مقدارها كان مقدار مائة سهم من السهام التي قسمها النبيّ صلى الله عليه وسلم بين من شهد خيبر، وهذه المائة السهم غير المائة السهم التي كانت لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه بخيبر التي حصّلها من جزئه من الغنيمة وغيره، وسيأتي بيان ذلك في صفة كتاب عمر رضي الله عنه، قريبًا إن شاء اللَّه تعالى. وذكر عمر بن شبّة بإسناد ضعيف عن محمد بن كعب أن قصّة عمر هذه كانت في سنة سبع من الهجرة. قاله في "الفتح".

(فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: أَصَبْتُ أَرْضّا، لَمْ أُصِبْ مَالاً أَحَبَّ إِلَيَّ، وَلَا أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهَا) أي أجود، وأكرم، والنفيس الجيّد، والكريم، يقال: نفُس الشيء -بفتح النون، وضمّ الفاء- نفاسةٌ: كَرُم، فهو نفيس، وأنفس إنفاسّا مثله، فهو مُنفِسٌ، نَفِستُ به، مثلُ ضَنِنْتُ به؛ لنفاسته وزنًا ومعنًى. قاله الفيّوميّ. وقال الداوديّ: سمّي نفيسًا لأنه يأخذ بالنفس. وفي رواية صخر بن جورية، عند البخاريّ: "إني استفدت مالاً، وهو

(1)

و"ثمغ" -بفتح المثلّثة، وسكون الميم، آخره غين معجمة-: مال كان لعمر رضي الله عنه، فوقفه. أفاده في "اللسان"، و"القاموس".

ص: 48

عندي نفيسٌ، فأردت أن أتصدّق به". وفي رواية سفيان الآتية:"وإني أردت أن أتقرّب بها إلى اللَّه عز وجل"، وقد تقدّم قريبًا في مسند أبى بكر بن حزم أنه رأى في المنام الأمر بذلك. ووقع في رواية للدارقطنيّ، إسنادها ضعيفٌ:"أن عمر قال: يا رسول اللَّه، إني نذرت أن أتصدّق بمالي". وهذا -كما قال الحافظ- لم يثبت، وإنما كان صدقة تطوّع، كما سيأتي توضيحه من حكايته كتابة الوقف قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

زاد في الرواية التالية: "فكيف تأمرني به؟ ". وفي رواية: "فما تأمرني فيها؟ ". وفي رواية: "فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستأمره في ذلك".

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إنْ شِئْتَ) الأجر، والمثوبة عند اللَّه سبحانه وتعالى (تَصَدَّقْتَ بِهَا) وفي رواية الآتية:"إن شئت حبست أصلها، وتصدّقت بها"، وفي رواية:"احبس أصلها، وسبّل ثمرتها"(فَتَصَدَّقَ بِهَا، عَلَى أَنَّ لَا تُبَاعَ، وَلَا تُوهَبَ) زاد في الرواية الآتية: "ولا تورث"، وزاد في رواية مسلم:"ولا تُبتاع"، وزاد الدارقطنيّ من طريق عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع،:"حَبِيسٌ ما دامت السماوات والأرض".

قال في "الفتح": كذا لأكثر الرواة عن نافع، ولم يختلفوا فيه عن ابن عون، إلا ما وقع عند الطحاويّ، من طريق سعيد بن سفيان الجحدريّ، عن ابن عون، فذكره بلفظ صخر بن جويرية الآتي، والجحدريّ إنما رواه عن صخر، لا عن ابن عون. قال السبكيّ: اغتبطتُ بما وقع في رواية يحيى بن سعيد، عن نافع، عند البيهقيّ:"تصدّقْ بثمره، وحبسن أصله، لا يباع، ولا يورث". وهذا ظاهره أن الشرط من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، بخلاف بقية الروايات، فإن الشرط فيها ظاهره أنه من كلام عمر رضي الله عنه. ووقع في رواية صخر بن جويرية المذكررة، بلفظ:"فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: تصدّق بأصله، لا يُباع، ولا يوهب، ولا يورث، ولكن يُنفق بثمره"، وهي أتمّ الروايات، وأصرحها في المقصود، فعزوجها إلى البخاريّ أولى. وقد علقه البخاريّ في المزارعة بلفظ:"قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمر: تَصَدَّق بأصله، لا يباع، ولا يوهب، ولكن ليُنفق ثمره، فتَصَدَّق به"، فهذا صريح في كونه مرفوعًا، وعلى تقدير كون الشرط من قول عمر، لكنه ما فعله إلا لما فهمه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث قال له:"احبس أصلها، وسَبَّّّّّّلْ ثمرتها".

وقوله: تصدّقْ" بصيغة أمر، وقوله: "فتصدّق" بصيغة الفعل الماضي انتهى.

(فِي الْفُقَرَاءِ، وَذِي الْقُرْبىَ، وَالرِّقَابِ، وَالضَّيْفِ، وَابْنِ السَّبِيلِ) زاد في رواية يزيد بن زريع الآتية: "وفي سبيل اللَّه"، وفي رواية أزهر السمان:"وفي المساكين". وجميع هؤلاء الأصناف إلا الضيف، هم المذكورون في آية الزكاة، وقد تقدّم بيانهم في "كتاب الزكاة". وأما "القربى" فقال القرطبيّ: فظاهره أنه أراد به قرابته. ويحتمل أن يريد به

ص: 49

قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم، المذكورين في الخمس والفيء، وفيه بُعد؛ لأنه أطلق على ذلك الحبس صدقة، وهم قد حُرموا الصدقة، إلا إن تنزّلنا على أن الذي حُرموه هي الصدقة الواجبة فقط، والرافع لهذا الاحتمال الوقوف على ما صنع في صدقة عمر رضي الله عنه، فينبغي أن يُبحث عن ذلك، والأولى حمله على قرابة عمر رضي الله عنه الخاضة به. واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

وأما "الضيف" فمعروف، وهو من يَنزل بقوم يُريد القِرَى منهم (لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا، أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ) قال القرطبيّ: هذا رفعٌ للحرج عن الوالي عليها، والعامل في تلك الصدقة في الأكل منها، على ما جرت به عادة العمال في الحيطان من أكلهم من ثمرها حالة عملهم فيها، فإن المنع من ذلك نادرٌ، وامتناع العامل من ذلك أندر، حتى لو اشترط ربّ الحائط على العامل فيه أن لا يأكل لا استُقبح ذلك عادة وشرعًا، وعلى ذلك فيكون المراد بالمعروف القدر الذي يدفع الحاجة، ويردّ الشهوة، غير أكل بسرف، ولا نهمة، ولا متّخذًا خيانةً، ولا خُبْنة

(2)

.

وقيل: مراد عمر رضي الله عنه بذلك أن يأكل العامل منها بقدر عمله، وفيه بُعْدْ؛ لأنه لا يصحّ ذلك حتى يُتأول "يأكل" بمعنى "يأخذ"؛ لأن العامل إنما يأخذ أجرته، فيتصرّف فيها بما شاء من بيع، أو أكل، أو غير ذلك، و"أكل" بمعنى "أخذ" على خلاف الأصل؛ ولأن مساق اللفظ لا يُشعر بقصدٍ إلى أن تلك الإباحة إنما هي بحسب العمل، وبقدره، فتأمله، لا سيّما وقد أردف عليه "ويطعم صديقًا، غير متأثّل مالاً". يعني صديقًا للوالي عليها، وللعامل فيها. ويحتمل صديقًا للمحبّس، وفيه بُعْدٌ انتهى

(3)

.

(غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالاً) أي غير متخذ إياه مالاً لنفسه، بل يأكله، ويُطعمه بالمعروف. وفي الرواية:"غير متموّل فيه"، أي غير متّجر فيه. قال في "الفتح": والمعنى غير متّخذ منها مالاً، أي ملكّا، والمراد أنه لا يتملّك شيئًا من رقابها.

قال: وزاد الأنصاريّ، وسليم قال: فحدّثت به ابن سيرين، فقال:"غير متأثّل مالاً"، والقائل "فحدّثت به" هو ابن عون راويه عن نافع، بين ذلك الدارقطنيّ من طريق أبي أسامة، عن ابن عون، قال: ذكرت حديث نافع لابن سيرين، فذكره. زاد سليم: قال ابن عون: وأنبأني من قرأ هذا الكتاب أن فيه "غير متأثّل مالاً". وفي رواية الترمذيّ من طريق ابن عليّة، عن ابن عون:"حدّثني رجلٌ أنه قرأها في قطعة أديم أحمر"، قال ابن عليّة: وأنا قرأتها عند ابن عُبيد اللَّه بن عمر كذلك. وقد أخرج أبو داود صفة كتاب

(1)

"المفهم" 4/ 602.

(2)

هي ما يحمله الإنسان في حِضْنه، أو تحت إبطه.

(3)

"المفهم" 4/ 602 - 603.

ص: 50

وقف عمر صلى الله عليه وسلم من طريق يحيى بن سعيد الأنصاريّ، قال:"نسخها لي عبد اللَّه بن عبد الحميد بن عبد اللَّه بن عمر"، فذكره، وفيه:"غير متأثّل".

والمتأثّل -بمثنّاة، ثم مثلّثة مشدّدة، بينهما همزة: هو المتّخذ، والتأثّل اتخاذ أصل المال حتى كأنه عنده قديم، وأثلة كلّ شيء أصله، قال امرؤس القيس [من الطويل]:

وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلِ

وَقَدْ يُدْرِكُ الْمَجدَ الْمُؤَثَّلَ أَمْثَالِي

واشتراط نفي التأثّل يُقوّي ما ذهب إليه من قال: المراد من قوله: "يأكل بالمعروف" حقيقة الأكل، لا الأخذ من مال الوقف بقدر العمالة. قاله القرطبيّ.

وزاد أحمد من طريق حمّاد بن زيد، عن أيوب، فذكر الحديث، قال حماد: وزعم عمرو بن دينار أن عبد اللَّه بن عمر، كان يُهدي إلى عبد اللَّه بن صفوان من صدقة عمر رضي الله عنه. وكذا رواه عمر بن شبّة من طريق حماد بن زيد، عن عمر

(1)

. وزاد عمر بن شبّة، عن يزيد بن هارون، عن ابن عون في آخر هذا الحديث:"وأوصى بها عمر إلى حفصة، أم المؤمنين، ثم إلى الأكابر من آل عمر"، ونحوه في رواية عبيد اللَّه بن عمر عند الدارقطنيّ. وفي رواية أيوب، عن نافع عند أحمد:"يليه ذوو الرأي من آل عمر"، فكأنه كان أوّلاً شرط أن النظر فيه لذوي الرأي من أهله، ثم عيّن عند وصيّته لحفصة، وقد بيّن ذلك عمر بن شبّة، عن أبي غسّان المدنيّ، قال: هذه نسخة صدقة عمر، اْخذتها من كتابه الذي عند آل عمر، فنسختها حرفًا حرفًا:"هذا ما كتب عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين في ثمغ، أنه إلى حفصة، ما عاشت، تُنفق ثمره حيث أراها اللَّه، فإن تُوفّيت، فإلى ذوي الرأي من أهلها".

فذكر الشرط كله نحو الذي تقدّم في الحديث المرفوع، ثم قال:"والمائة وسق الذي أطعمني النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنها مع ثَمْغ على سَنَنه الذي أمرت به، وإن شاء وليّ ثمغ أن يشتري من ثمره رقيقًا يعملون فيه فعل، وكتب مُعيقيب، وشهد عبد اللَّه بن الأرقم". وكذا أخرج أبو داود في روايته نحو هذا، وذكرا جميعًا كتابًا آخر نحو هذا الكتاب، وفيه من الزيادة:"وصرمة بن الأكوع، والعبد الذي فيه صدقة كذلك".

وهذا يقتضي أن عمر إنما كتب كتاب وقفه في خلافته؛ لأن مُعيقيبًا كان كاتبه في زمن خلافته، وقد وصفه فيه بأنه أمير المؤمنين، فيحتمل أن يكون وقفه في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم باللفظ، وتولّى هو النظر عليه إلى أن حضرته الوصيّة، فكتب حينئذ الكتاب. ويحتمل أن يكون أخر وقفيّته، ولم يقع منه قبل ذلك إلا استشارته في كيفيته.

(1)

هكذا نسخة "الفتح" عمر بضمّ العين، ولعله عمرو، وهو ابن دينار. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 51

وقد روى الطحاويّ، وابن عبد البرّ من طريق مالك، عن ابن شهاب، قال:"وقال عمر: لولا أني ذكرت صدقتي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لرددتها"، فهذا يُشعر بالاحتمال الثاني، وأنه لم يُنجز الوقف إلا عند وصيّته.

واستدلّ الطحاويّ بقول عمر رضي الله عنه هذا لأبي حنيفة، وزفر في أن إيقاف الأرض لا يمنع من الرجوع فيها، وأن الذي منع عمر صلى الله عليه وسلم من الرجوع كونه ذكره للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فكره أن يفارقه على أمر، ثم يُخالفه إلى غيره.

ولا حجة فيما ذُكر لوجهين:

[أحدهما]: أنه منقطع؛ لأن ابن شهاب لم يدرك عمر صلى الله عليه وسلم.

[ثانيهما]: أنه يحتمل ما تقدّم، ويحتمل أن يكون عمر كان يرى بصحة الوقف ولزومه، إلا إن شرط الواقف الرجوع، فله أن يرجع. وقد روى الطحاويّ عن عليّ رضي الله عنه مثل ذلك، فلا حجة فيه لمن قال بأن الوقف غير لازم، مع إمكان هذا الاحتمال، وإن ثبت هذا الاحتمال كان حجة لمن قال بصحّة تعليق الوقف، وهو عند المالكيّة، وبه قال ابن سُريج، وقال: تعود منافعه بعد المدّة المعيّنة إليه، ثم إلى ورثته، فلو كان التعليق مآلاً صحّ اتفاقًا، كما لو قال: وقفته على زيد سنة، ثم على الفقراء. قاله في "الفتح"

(1)

.

(وَيُطْعِمَ) وفي الرواية التالية: "ويُطعم صديقًا"، وفي رواية:"أو يطعم صديقه".

يعني أنه يجوز لوالي الوقف أن يُطعم صديقه، كما يأكل هو بنفسه بالمعروف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-3624 و 3625 و 3626 و 3627 و 3628 و 3/ 3630 و 3631 و 3632 - وفي "الكبرى" 2/ 6424 و 6425 و 6426 و 6427 و 6428 و 3/ 6430 و 6431 و 6432. وأخرجه (خ) في "الشروط" 2737 و"الوصايا" 2764 و 2772 و 2773 و 2778 (م) في "الوصية" 1633 (د) في "الوصايا"2878 (ت) "الأحكام" 1375 (ق) "الأحكام" 2396 و 2397 (أحمد) "مسند المكثرين" 4594 و 5157. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"فتح" 6/ 60 - 61. "كتاب الوصايا".

ص: 52

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان كيفية كتابة الوقف، وقد ساق أبو داود -رحمه اللَّه تعالى- نصّ كتابة وقف عمر رضي الله عنه في "سننه"، فقال:

حدثنا سليمان بن داود المهري، حدثنا ابن وهب، أخبرني الليث، عن يحيى بن سعيد، عن صدقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: نسخها لي عبد الحميد بن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب:

"بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما كتب عبد اللَّه، عمر، في ثَمْغ، فقصّ من خبره نحو حديث نافع، قال: "غير متأثل مالا، فما عما عنه من ثمره، فهو للسائل والمحروم"، قال: وساق القصة، قال: وإن شاء ولي ثمغ، اشترى من ثمره رقيقا لعمده، وكتب معيقيب، وشهد عبد اللَّه بن الأرقم، بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عبد اللَّه عمر، أمير المؤمنين، إن حَدَثَ به حدث، أن ثمغا، وصِرْمَة ابن الأكوع، والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم بالوادي، تليه حفصة، ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، أن لا يباع، ولا يشترى، ينفقه حيث رأى، من السائل، والمحروم، وذوي القربى، ولا حرج على من وليه إن أكل، أو آكل، أو اشترى رقيقا منه".

(ومنها): جواز ذكر الولد أباه باسمه المجرّد من غير كنية، ولا لقب. (ومنها): استحباب استثارة أهل العلم والدين والفضل في طرق الخير، سواء كانت دينيّةً، أو دنيوية، وأن المشير يُشير بأحسن ما يظهر له في جميع الأمور. (ومنها): أن فيه فضيلة ظاهبرة لعمر رضي الله عنه، حيث رغب في العمل بقوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. (ومنها): أن فيه فضل الصدقة الجارية. (ومنها): صحة شروط الواقف، واتباعه فيها، وأنه لا يشترط تعيين المصرف لفظًا. (ومنها): أن الوقف لا يكون إلا فيما له أصل يدوم الانتفاع به، فلا يصحّ وقف ما لا يدوم الانتفاع به، كالطعام. هكذا قيل، وهو محلّ نظر. (ومنها): أنه لا يكفي في الوقف لفظ الصدقة، سواء قال: تصدّقت به بكذا، أو جعلته صدقة حتى يُضيف إليها شيئًا آخر؛ لتردد الصدقة بين أن تكون تمليك الرقبة، أو وقف المنفعة، فإذا أضاف إليها ما يميّز أحد المحتملين صحّ، بخلاف ما لو قال: وقفتُ، أو حبستُ، فإنه صريحٌ في ذلك، على الراجح، وقيل: الصريح الوقف خاصّة. وفيه نظرٌ؛ لثبوت التحبيس في قصّة عمر رضي الله عنه هذه،

(1)

المراد بيان فوائد حديث قصّة وقف عمر رضي الله عنه، لا بقيد ما ساقه المصنّف، بل بجميع الروايات المختلفة التي أشرنا إليها أثناء الشرح، فتنبّه.

ص: 53

نعم لو قال: تصدّقتُ بكذا على كذا، وذكر جهة عامّة صحّ. وتمسّك من أجاز الاكتفاء بقوله: تصدّقتُ بكذا بما وقع في حديث الباب من قوله: "فتصدّق بها عمر". ولا حجة في ذلك؛ لما تقدّم من أنه أضاف إليها: "لا تباع، ولا توهب". ويحتمل أيضًا أن يكون قوله: "فتصدّق بها عمر" راجعًا إلى الثمرة على حذف مضاف، أي فتصدّق بثمرتها، فليس فيه متعلَّقٌ دمن أثبت الوقف بلفظ الصدقة، مجرّدًا، وبهذا الاحتمال الثاني جزم القرطبيّ. (ومنها): جواز الوقف على الأغنياء؛ لأن ذوي القربى، والضيف، لم يُقيّدا بالحاجة، وهو الأصحّ عند الشافعيّة. (ومنها): أن للواقف أن يشترط لنفسه جزءًا من ريع الموقوف؛ لأن عمر رضي الله عنه شرط لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف، ولم يستثن إن كان هو الناظر، أو غيره، فدلّ على صحّة الشرط، وإذا جاز في المبهم الذي تعيّنه العادة، كان فيما يعيّنه هو أجوز.

(ومنها): جواز إسناد الوصيّة، والنظر على الوقف للمرأة، وتقديمها على من هو من أقرانها من الرجال. (ومنها): جواز إسناد النظر إلى من لم يُسمّ، إذا وُصف بصفة معيّنة تُميّزه. (ومنها): أن الواقف يلي النظر على وقفه إذا لم يُسنده لغيره، قال الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-: لم يزل العدد الكثير من الصحابة، فمن بعدهم يَلُون أوقافهم، نقل ذلك الألوف عن الألوف، لا يختلفون فيه.

(ومنها): أنه استُدلّ به على جواز الوقف على الوارث في مرض الموت، فإن زاد على الثلث رُدّ، وإن خرج منه لزم، وهو إحدى الروايتين عن أحمد؛ لأن عمر رضي الله عنه جعل النظر بعده لحمْصة، وهي ممن يرثه، وجعل لمن ولي وقفه أن يأكل منه.

وتُعُقّب بأن وقف عمر رضي الله عنه صدر منه في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، والذي أوصى به إنما هو شرط النظر.

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن الواقف إذا شرط للناظر شيئًا أخذه، وإن لم يشترطه له لم يجز، إلا إن دخل في صفة أهل الوقف، كالفقراء والمساكين، فإن كان على معيّنين، ورضوا بذلك جاز. (ومنها): أنه استدلّ به على أن تعليق الوقف لا يصحّ؛ لأن قوله: "حبّس الأصل" يناقض تأقيته. وعن مالك، وابن سُريج يصحّ. (ومنها): أنه استُدلّ بقوله: "لا تباع" على أن الوقف لا يُناقل به. وعن أبي يوسف إن شرط الواقف أنه إذا تعطّلت منافعه بيع، وصُرف ثمنه في غيره، ويوقف فيما سمي في الأول، وكذا إن شرط البيع إذا رأى الحظّ في نقله إلى موضع آخر. (ومنها): أنه استدلّ به على جواز وقف المشاع؛ لأن المائة سهم التي كانت لعمر بخيبر لم تكن منقسمة. وفيه أنه لا سراية في الأرض الموقوفة، بخلاف العتق، ولم يُنقل أن الوقف سرى من حصّة عمر إلى غيرها

ص: 54

من باقي الأرض. وحكى بعض المتأخّرين، عن بعض الشافعيّة أنه حكم فيه بالسراية، وهو شاذّ منكر. (ومنها): أنه استدلّ به على أن خيبر فُتحت عنوة

(1)

. وقد أشبعنا الكلام على هذا البحث في غير هذا الموضع.

(ومنها): أنه يستنبط منه صحّة الوقف على النفس، وهو قول ابن أبي ليلى، وأبي يوسف، وأحمد في الأرجح عنه. وقال به من المالكيّة ابن شعبان، وجمهورهم على المنع، إلا إذا استثنى لنفسه شيئًا يسيرًا، بحيث لا يتّهم أنه قصد حرمان ورثته. ومن الشافعيّة ابن سُريج، وطائفةٌ، وصنّف فيه محمد بن عبد اللَّه الأنصاريّ، شيخ البخاريّ جزءًا ضخمّا، واستدلّ له بقصّة عمر هذه، وبقصّة راكب البدنة، وبحديث أنسّ رضي الله عنه في أنه صلى الله عليه وسلم أعتق صفيّة، وجعل عتقها صداقها، ووجه الاستدلال به أنه أخرجها عن ملكه بالعتق، وردّها إليه بالشرط، وقد تقدّم البحث فيه في "كتاب النكاح" مستوفًى. وبقصّة عثمان صلى الله عليه وسلم الآتية بعد باب، إن شاء اللَّه تعالى.

واحتجّ المانعون بقوله في حديث عمر هذا: "سبّل الثمرة"، وتسبيل الثمرة تمليكه للغير، والإنسان لا يتمكّن من تمليك نفسه لنفسه. وتُعُقّب بأن امتناع ذلك غير مستحيل، ومنعه تمليكه لنفسه إنما هو لعدم الفائدة، والفائدة في الوقف حاصلة؛ لأن استحقاقه إياه ملكاً غير استحقاقه إياه وقفًا، ولا سيّما إذا ذكر له مالاً آخر، فإنه حكم آخر، يستفاد من ذلك الوقف.

واحتجّوا أيضًا بأن الذي يدلّ عليه حديث الباب أن عمر اشترط لناظر وقفه أن يأكل منه بقدر عُمالته، ولذلك منعه أن يتّخذ لنفسه منه مالاً، فلو كان يؤخذ منه صحّة الوقف على النفس لم يمنعه من الاتخاذ، وكأنه اشترط لنفسه أمرًا لو سكت عنه لكان يستحقّه لقيامه، وهذا على أرجح قولي العلماء أن الواقف إذا لم يشترط للناظر قدر عمله جاز له بقدر عمله، ولو اشترط الواقف لنفسه النظر، واشترط أجرة، ففي صحّة هذا الشرط عند الشافعيّة خلاف، كالهاشميّ إذا عمل في الزكاة، هل يأخذ من سهم العاملين؟ والراجح الجواز، ويؤيّده حديث عثمان رضي الله عنه الآتي بعد باب، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الوقف:

قال في "الفتح": حديث عمر رضي الله عنه هذا أصل في مشروعيّة الوقف، قال أحمد: حدّثنا حماد -وهو ابن خالد- حدّثنا عبد اللَّه -وهو العمريّ-، عن نافع، عن ابن عمر،

(1)

راجع "الفتح" 6/ 62 - 63. "كتاب الوصايا".

ص: 55

قال: "أول صدقة -أي موقوفة- كانت في الإسلام صدقة عمر". وروى عمر بن شبّة، عن عمرو بن سعد بن معاذ، قال:"سألنا عن أول حبس في الإسلام، فقال المهاجرون: صدقة عمر، وقال الأنصار: صدقة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، وفي إسناده الواقديّ. وفي "مغازي الواقديّ" أن أول صدقة موقوفة، كانت في الإسلام أراضي مُخيريق -بالمعجمة، مصغّرًا - التي أوصى بها للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فوقفها النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال الترمذيّ: لا نعلم بين الصحابة، والمتقدّمين، من أهل العلم، خلافًا في جواز وقف الأرضين. وجاء عن شُريح أنه أنكر الحبس، ومنهم من تأوّله. وقال أبو حنيفة: لا يلزم، وخالفه جميع أصحابه، إلا زفر بن الهذيل، فحكى الطحاويّ، عن عيسى بن أبان، قال: كان أبو يوسف يُجيز بيع الوقف، فبلغه حديث عمر هذا، فقال: من سمع هذا من ابن عون؟، فحدّثه به ابن عُليّة، فقال: هذا لا يسع أحدًا خلافه، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به، فرجع عن بيع الوقف حتى صار كأنه لا خلاف فيه بين أحد انتهى. ومع حكايته الطحاويّ هذا، فقد انتصر كعادته، فقال: قوله في قصّة عمر: "حبّس الأصل، وسبّل الثمرة" لا يستلزم التأبيد، بل يحتمل أن يكون أراد مدّة اختياره لذلك انتهى. ولا يخفى ضعف هذا التأويل، ولا يُفهم من قوله:"وقفت، وحبست" إلا التأبيد، حتى يصرح بالشرط عند من يذهب إليه، وكأنه لم يقف على الرواية التي فيها:"حبيسٌ ما دامت السماوات والأرض".

قال القرطبيّ: ردّ الوقف مخالف للإجماع، فلا يُلتفت إليه، وأحسن ما يُعتذر به عمن ردّه ما قاله أبو يوسف، فإنه أعلم بأبي حنيفة من غيره.

وأشار الشافعيّ إلى أن الوقف من خصائص أهل الإسلام، أي وقف الأراضي والعقار، قال: ولا نعرف أن ذلك وقع في الجاهليّة، وحقيقة الوقف شرعًا ورود صيغة تقطع تصرّف الواقف في رقبة الموقوف الذي يدوم الانتفاع به، وتثبت صرف منفعته في جهة خير. قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال أبو العباس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المفهم": ما حاصله: حديث عمر رضي الله عنه دليلٌ للجمهور على جواز الحُبْس، وصحّته، وردٌّ على من شَذَّ، وَمَنَعَهُ، وهذا خلافٌ لا يُلتفت إليه، فإن قائله خَرَقَ إجماع المسلمين في المساجد، والسقايات، إذ لا خلاف في ذلك. وهو أيضًا حجة للجمهور على قولهم: إن الْحُبْس لازم، وإن لم يقترن به حكم حاكم، وخالف في ذلك أبو حنيفة، وزُفر، فقالا: لا يلزم، وهو عطيّةٌ

(1)

"فتح" 6/ 61 - 62. "كتاب الوصايا".

ص: 56

يرجع فيها صاحبها، وتورث عنه، إلا أن يحكم به حاكم، أو يكون مسجدًا، أو سقاية، أو يوصي به، فيكون من ثلثه، ووجه الحجة عليه من هذا الحديث أن عمر رضي الله عنه لَمّا فَهِم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إشارته بالتحبيس بادر إلى ذلك بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: إنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، ثم إنه أمضى ذلك من غير أن يحكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ لم يصدر من النبيّ صلى الله عليه وسلم أكثر من الإشارة. وأيضًا فإن الصحابة رضي الله عنه قد أجمعت على ذلك من غير خلاف بينهم فيه، فقد حبس الأئمة الأربعة، وطلحة، وزيد بن ثابت، والزبير، وابن عمر، وخالد بن الوليد، وأبو رافع، وعائشة، وغيرهم رضي الله عنه، واستمرّت أحباسهم معمولاً بها على وجه الدهر، من غير أن يقف شيء من ذلك على حكم حاكم، ولم يُحك أن شيئًا من تلك الأحباس رجعت إلى المحبِّسِ، ولا إلى ورثته.

ومن جهة المعنى، فإنها عطيّةٌ على وجه القربة، فتلزم، كالهبة للمساكين، ولذي الرحم، وكالصدقة، ولأنه قد أُجمع على تحبيس المساجد من غير حكم، ولا فرق بين تحبيسها، وتحبيس العقار، لا سيّما على الفقراء والمساكين.

وإذا ثبت هذا، فالْحُبْس لازم في كلّ شيء، تمكن العطيّة فيه. واختُلف عن مالك في تحبيس الحيوان، كالإبل، والخيل، على قولين: المنع، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف. والصحّة، وبه قال الشافعيّ، وهو الصحيح؛ لأنه عطيّةٌ على وجه القربة، يتكرّر أجرها، كالعقار وغيره؛ ولأن المسلمين على شروطهم، وقد شرط صاحب الفرس في صدقته أنها لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، فينفذ شرطه.

قال: فإذا فهمت هذا، فاعلم أن الألفاظ الواقعة في هذا الباب إما أن يقترن معها ما يدلّ على التأبيد، أو لا.

فالأول: نحو قوله: لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، أو أبدًا، أو دائمًا، أو على مجهولين، أو على العقب، فهذا النوع لا يبالى بأي لفظ نُسق معه؛ لأنه يفيد ذلك المعنى، كقوله: وقفٌ، أو حبسٌ، أو صدقةٌ، أو عطيّةٌ.

والثاني: وهو إذا تجرّد عما يدلّ على ذلك، فلفظ الوقف صريح الباب، فيقتضي التأبيد، والتحريم، ولم يختلف المذهب في ذلك. وفي الحبس روايتان: إحداهما أنه كالوقف. والثانية: أنه يرجع إلى المحبّس بعد موت المحبَّس عليه، والظاهر الأول؛ لأنه يُستعمل في ذلك شرعًا، وعرفًا. وأما الصدقة، فالظاهر منها أنها تمليك الرقبة. وفي رواية أنها كالوقف، وفيها بعد، إلا عند القرينة. واختُلف فيما لو جمع بينهما، فقال: حُبْسٌ صدقةٌ، والظاهر أن حكمه حكم الْحُبُس، وصدقة تأكيدٌ. انتهى كلام

ص: 57

القرطبيّ

(1)

-رحمه اللَّه تعالى-، وهو بحث نفيس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3625 -

(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، نَحْوَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"هارون بن عبد اللَّه": هو أبو موسى الحمّال البغداديّ البزّاز الثقة [10] 50،/ 62.

و"معاوية بن عمرو": هو أبو عمرو الأزديّ الْمَغنيّ البغداديّ الثقة، من صغار [9] 58/ 863.

و"أبو إسحاق الفزاريّ": هو إبرهيم بن محمد بن الحارث الكوفيّ الحافظ الثقة الثبت [8] 58/ 863.

[تنبيه]: وقع في النسخ المطبوعة من "المجتبى" غلط، ونصه:"عن أبي إسحاق الفزاري، عن أيوب بن عون"، والصواب ما في النسخة الهندية، وهو إسقاط "عن أيوب"، فأبو إسحاق الفزاريّ يرويه عن ابن عون، وهذا هو الذي في "تحفة الأشراف" 8/ 69.

ووقع في "الكبرى" أيضًا غلط آخر، ونصه:"عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي عون"، والصواب "عن ابن عون"، ومن الغريب أن المحقّق ألحق به آخذا من "المجتبى" لفظ "أيوب"، فصار هكذا "عن أيوب بن أبي عون"، وهو غلط على غبط. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3626 -

(أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا، لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي، فَكَيْفَ تَأْمُرُ بِهِ، قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ بِهَا، عَلَى أَنْ لَا تُبَاعَ، وَلَا تُوهَبَ، وَلَا تُورَثَ، فِي الْفُقَرَاءِ، وَالْقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَالضَّيْفِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا، أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ صَدِيقًا

(2)

، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة.

(1)

"المفهم" 4/ 600 - 602. "كتاب الصدقة والهبة والْحُبْس".

(2)

وفي نسخة: "صديقك".

ص: 58

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى" غلطٌ في هذا السند، حيث زاد "عن عمر"، فجعله من مسند عمر رضي الله عنه، كسابقه، والصواب أنه من مسند ابن عمر، كما هو في "الكبرى"، ومن الغريب أن المحقّق زاد فيه آخذًا من "المجتبى" لفظ "عن عمر"، فغيّر الصواب إلى الخطإ، إن هذا لهو العجب العجاب من بعض محققي عصرنا.

وهذا الذي ذكرت أنه الصواب هو الذي في "تحفة الأشراف"، حيث أورد هذا الحديث في مسند ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، فراجعه -6/ 109 - 110.

وقوله: "أصبت أرضًا الخ" قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يعني أنه صارت له هذه الأرض بالقسمة، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قسم أرض خيبر التي افتُتحت عنوةً، كما قرّرنا في "الجهاد". والمال النفيس: المغتَبَطُ به لجودته، ويُسمّى هذا المال ثَمْغ. ولما كان هذا المال أطيب أموال عمر رضي الله عنه، وأحبّها إليه أراد أن يتصدّق به؛ لينال البرّ الذي ذكره اللَّه تعالى في قوله:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. وهذا كما قال الأنصاريّ

(1)

صاحب بيرحاء، فأرشده النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الأصلح في الصدقة، وهو التحبيس، من حيث إن صدقته جاريةٌ، وأجره دائمٌ في الحياة، وبعد الموت، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم. انتهى

(2)

.

وقوله: "فكيف تأمر به؟ " قال القرطبيّ: استشارةٌ من عمر رضي الله عنه، مع حسن أدب، ولذلك أجابه صلى الله عليه وسلم بقوله:"إن شئت حبّست أصلها، وتصدّقت بها"، أي بثمرها، كما قال في الرواية الأخرى. وليس هذا أمرًا من النبيّ صلى الله عليه وسلم له، ولا حكما عليه بالتحبيس، وإنما هي إشارة إلى الأصلح والأولى. انتهى

(3)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا، وللَّه الحمد والمنّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3627 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ: وَأَنْبَأَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَأْمَرَهُ

(4)

فِيهَا، فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا كَثِيرًا، لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ فِيهَا؟ ، قَالَ: «إِنْ شِئْتَ

(1)

هو أبو طلحة الأنصاريّ الآتية قصّته بعد جديثين، إن شاء اللَّه تعالى.

(2)

"المفهم" 4/ 599.

(3)

"المفهم" 4/ 599.

(4)

في نسخة: "فيستأمره".

ص: 59

حَبَّسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا» ، فَتَصَدَّقَ بِهَا، عَلَى أَنَّهُ لَا تُبَاعُ، وَلَا تُوهَبُ، فَتَصَدَّقَ بِهَا، فِي الْفُقَرَاءِ، وَالْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ -يَعْنِي عَلَى مَنْ وَلِيَهَا- أَنْ يَأْكُلَ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ، اللَّفْظُ لإِسْمَاعِيلَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه إسماعيل، وهو ثقة. و"بشر": هو ابن المفضّل.

وقوله: "أرضًا كثيرًا" هكذا في "المجتبى"، وليس في "الكبرى" لفظ "كثيرًا"، وإنما لم يقل "كثيرة" مع أن الأرض مؤنّثة؛ لكون تأنيثها مجازيًّا، ومجازيّ التأنيث، وإن كان الأولى إلحاق التاء بفعله، ووصفه، إلا أنه يجوز تجريده عنها قليلاً عند بعض النحاة، والجمهور خصّوه بالشعر، كما أشار إليه ابن مالك في "خلاصته":

وَالْحَذْفُ قَدْ يَأْتِي بِلَا فَصْلِ وَمَعْ

ضَمِيرِ ذِي الْمَجَازِ فِي شِعْرٍ وَقَعْ

وقوله: "على أنه لا تباع الخ" ذكّر اسم "إن" على أنه ضمير الشأن. وفي نسخة "أن لا تباعَ" وعليه فـ"أن" مصدريّة. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3628 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَزْهَرُ السَّمَّانُ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ، أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَسْتَأْمِرُهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا» ، فَحَبَّسَ أَصْلَهَا، أَنْ لَا تُبَاعَ، وَلَا تُوهَبَ، وَلَا تُورَثَ، فَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَالْقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَفِي الْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا، أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقَهُ، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"أزهر السّمّان": هو ابن سعد، أبو بكر الباهليّ البصريّ، ثقة [9] 29/ 33.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق البحث عنه مستوفًى قريبًا، والحمد للَّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3629 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: إِنَّ رَبَّنَا لَيَسْأَلُنَا عَنْ أَمْوَالِنَا، فَأُشْهِدُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ أَرْضِي لِلَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اجْعَلْهَا فِي قَرَابَتِكَ، فِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كان الأولى للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أن يذكر هذا

ص: 60

الحديث تحت الترجمة التالية؛ لأنه المناسب لها، حيث إن فيه حبس المشاع، وأما مناسبته لهذا الباب، فليست واضحة، إذ لم يُصرّح فيه بذكر الكتابة، فضلاً عن كيفيّتها. واللَّه تعالى أعلم.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أبو بكر بن نافع) هو محمد بن أحمد بن نافع العبديّ القيسيّ البصريّ، صدوق

من صغار [10] 27/ 813.

2 -

(بهز) بن أسد العميّ، أبو الأسود البصريّ، ثقة ثبت [9] 24/ 2436.

3 -

(حماد) بن سلمة بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد أثبت الناس في ثابت [8] 181/ 288.

4 -

(ثابت) بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة عابد [4] 45/ 53.

5 -

(أنس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه - 6/ 6. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه أنسًا - رضي اللَّه تعالى - عنه من المكثرين السبعة، ومن المعمّرين، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَنَس) بن مالك - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ) هذه الرواية مختصرة من حديث أنس رضي الله عنه الطويل، وقد ساقه المصنّف في "الكبرى" مطوّلا في "التفسير" رقم (11066)، حديث، وأخرجه البخاريّ أيضًا في "صحيحه"، ولفظ البخاريّ: من طريق مالك، عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلبة، أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه، يقول: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا، من نخل، وكان أحبّ أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلةَ المسجد، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماء فيها، طيب، قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، إن اللَّه تبارك وتعالى يقول:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وإن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء، دمانها صدقة دله، أرجو برَّها وذُخرَها عند اللَّه، فضعها يا رسول اللَّه، حيث أراك اللَّه، قال، فقال رسول اللَّهَ صلى الله عليه وسلم: "بخ، ذلك مال رابح، ذلك

ص: 61

مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين"، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول اللَّه، فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمه.

({لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} أي لن تبلغوا حقيقة البرّ، أو لن تكونوا أبرارًا، أو لن تنالوا برّ اللَّه تعالى، وهو ثوابه {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}) أي حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبّونها، وتؤثرونها

(1)

(قَالَ: أَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاريّ النجّاريّ، مشهور بكنيته، من كبار الصحابة، شهد بدرًا، وما بعدها، ومات سنة (34)، وقيل: غير ذلك، تقدّم في 122/ 177 (إنَّ رَبَّنا لَيَسْاَلُنَا عَنْ أَمْوَالِنَا) وفي نسخة "من أموالنا"، ولفظ "الكبرى":"أرى ربّنا يسألنا أموالنا"(فَأُشْهِدُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ أَرْضِي لِلَّهِ) وفي رواية إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة المتقدّمة قام أبو طلحة، فقال:"يا رسول اللَّه، إن اللَّه يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وإن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة للَّه أرجو برَّها وذُخرها". وقد اختُلف في ضبط "بيرحاء"، ومعناها، على أقوال، قال في "الفتح": بفتح الموحّدة، وسكون التحتانيّة، وفتح الراء، وبالمهملة، والمدّ، وجاء في ضبطها أوجه كثيرةٌ، جمعها ابن الأثير في "النهاية"، فقال: يُروى بفتح الباء، وبكسرها، وبفتح الراء، وضمّها، وبالمدّ، والقصر، فهذه ثمان لغات. وفي رواية حماد بن سلمة "بريحاء بفتح أوله، وكسر الراء، وتقديمها على التحتانيّة. وفي "سنن أبي داود" "باريحا" مثله، لكن بزيادة ألف. وقال الباجيّ: أفصحها بفتح الباء، وسكون الياء، وفتح الراء، مقصور. وكذا جزم به الصغانيّ، وقال: إنه فيعلى، من البراح، قال: ومن ذكره بكسر الموحّدة، وظنّ أنها بئر من آبار المدينة، فقد صحّف

(2)

وقال في "كتاب الوصايا": ونقل أبو عليّ الصدفيّ عن أبي ذرّ الهرويّ أنه جزم أنها مركّبةٌ من كلمتين "بير" كلمة، و"حاء" كلمة، ثم صارت كلمة واحدة، واختُلف في حاء، هل هي اسم رجل، أو امرأة، أو مكان، أُضيفت إليه البئر، أو هي كلمة زجر للأبل، وكأن الإبل كانت ترعى هناك، وتزجر بهذه اللفظة، فأضيفت البئر إلى اللفظة المذكورة. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اجْعَلْهَا فِي قَرَابَتِكَ) وفي رواية إسحاق المذكورة: "فقال: بخ، ذلك مال رابحٌ"، أو "رايح". وقوله:"بخ" بفتح الموحّدة، وسكون المعجمة، وقد تنوّن مع التثقيل، والتخفيف بالكسرة، والرفع، والسكون، ويجوز التنوين، لغات، ولو

(1)

"تفسير النسفي" 1/ 169.

(2)

"فتح" 4/ 86. "كتاب الزكاة".

(3)

"فتح" 6/ 54 "كتاب الوصايا".

ص: 62

كرّرت، فالاختيار أن تنوّن الأولى، وتسكّن الثانية، وقد يسكّنان جميعًا، كما قال الشاعر:

بَخْبِخْ

لِوَالِدِهِ

وَلِلْمَوْلُودِ

ومعناها تفخيم الأمر، والإعجاب به.

وقوله: "رابح"، أو "رايح" شك من الراوي، فالأول من الربح، أي ذو ربح. وقيل: هو فاعلٌ بمعنى مفعول، أي هو مالٌ مربوحٌ فيه. وأما الثانية: فمعناها: رائح عليه أجره. قال ابن بطال: والمعنى أن مسافته قريبةٌ، وذلك أنفس الأموال. وقيل: معناه: يروح بالأجر، ويغدو به، واكتُفي بالرواح عن الغدؤ. وادّعى الإسماعيليّ أن من رواها بالتحتانيّة، فقد صحّف

(1)

.

وقوله: (فِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ) بدل من الجارّ والمجرور قبله، وهو حسان بن ثابت بن المنذر بن حَرَام الأنصاريّ الخَزرجيّ، أبي عبد الرحمن، أو أبي الوليد، شاعر رسول اللَّه، صحابي مشهور مات سنة (54)، وله مائة وعشرون سنة - رضي اللَّه تعالى عنه - (أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ") بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجّار الأنصاريّ الخررجيّ، أبي المنذر، سيّد القرّاء، كان من فضلاء الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم -، مات سنة (19) وقيل:(32) وقيل: غير ذلك. قال في "الفتح": وقد تمسّك به من قال: أقلّ من يُعطى من الأقارب إذا لم يكونوا منحصرين اثنان. وفيه نظر؛ لأنه وقع في رواية الماجشون، عن إسحاق بن عبد اللَّه:"فجعلها أبو طلحة في ذوي رحمه، وكان منهم حسّان، وأبيّ بن كعب"، فدلّ على أنه أعطى غيرهما معهما. وفي مرسل أبي بكر بن حزم:"فردّه على أقاربه: أبيّ بن كعب، وحسّان بن ثابت، وأخيه -أو ابن أخيه- شدّاد بن أوس، وبيط بن جابر، فتقاوموه، فباع حسّان حصّته من معاوية بمائة ألف درهم". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-2/ 3629 - وفي "الكبرى" 6429 و"التفسير" 11066 و 11067.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(2)

:

(1)

"فتح" 4/ 86. "كتاب الزكاة".

(2)

المراد الفوائد التي اشتمل عليها الحديث بجميع طرقه، لا خصوص سياق المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، فتنبّه.

ص: 63

(منها): مشروعيّة الوقف، والحبس؛ خلافًا لمن منع ذلك، وأبطله. قال في "الفتح": ولا حجة؛ لاحتمال أن تكون صدقة أبي طلحة تمليكًا، وهو ظاهر سياق الماجشون، عن إسحاق، كما تقدّم انتهى

(1)

. (ومنها): أن فيه فضيلة لأبي طلحة رضي اللَّه تعالى عنه؛ لأن الآية تضمّنت الحثّ على الإنفاق من المحبوب، فترقّى هو إلى إنفاق أحبّ المحبوب إليه، فصوّب النبيّ صلى الله عليه وسلم رأيه، وشكر عن ربّه فعله، ثم أمره أن يخصّ بها أهله، وكنى عن رضاه بذلك بقوله:"بخ". (ومنها): جواز التصدّق من الحيّ في غير مرض الموت بأكثر من ثلث ماله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به، وقال لسعد بن أبي وقّاص:"الثلث كثيرٌ". (ومنها): تقديم الأقرب من الأقارب على غيرهم. (ومنها): أن منقطع الآخر في الوقف يُصرف لأقرب الناس إلى الواقف. (ومنها): أن الوقف يتمّ بقول الواقف: جعلت هذا وقفًا. (ومنها): أن الوقف لا يحتاج في انعقاده إلى قبول الموقوف عليه. (ومنها): أن الصدقة على الجهة العامّة لا تحتاج إلى قبول معيّن، بل للإمام قبولها منه، ووضعها فيما يراه، كما في قصّة أبي طلحة - رضي اللَّه تعالى عنه -. (ومنها): جواز إضافة حبّ المال إلى الرجل الفاضل العالم، ولا نقص عليه في ذلك، وقد أخبر تعالى عن الإنسان:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، والخير هنا المال اتفاقًا. (ومنها): اتخاذ الحوائط والبساتين، ودخول أهل الفضل والعلم فيها، والاستظلال بظلّها، والأكل من ثمرها، والراحة، والتنزّه فيها، وقد يكون ذلك مستحبَّا يترتّب عليه الأجر، إذا قصد به إجمام النفس

(2)

من تعب العبادة، وتنشيطها للطاعة. (ومنها): أن فيه كسب العقار. (ومنها): إباحة الشرب من دار الصديق، ولو لم يكن حاضزا إذا علم طيب نفسه. (ومنها): إباحة استعذاب الماء، وتفضيل بعضه على بعض. (ومنها): أن بعض المالكيّه استدلّ به على صحّة الصدقة المطلقة، ثم يعينها المتصدّق لمن يريد. (ومنها): أنه استُدلّ به للجمهور في أن من أوصى أن يفرّق ثلث ماله حيث أرى اللَّه الوصيّ صحّت وصيّته، ويفرّقه الوصيّ في سبيل الخير، ولا يأكل منه شيئًا، ولا يُعطي منه وارثًا للميت، وخالف في ذلك أبو ثور، وفاقًا للحنفيّة في الأول، دون الثاني.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا قال الجمهور، والذي يظهر لي أن ما قاله أبو ثور أقرب؛ لعموم قول الموصي، فرّقه حيث أراك اللَّه. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): التمسّك بالعموم؛ لأن أبا طلحة - رضي اللَّه تعالى عنه - فهم من قوله تعالى:

(1)

"فتح" 6/ 56. "كتاب الوصايا".

(2)

أي إراحتها.

ص: 64

{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] تناول ذلك جميع أفراده، فلم يقف حتى يرد عليه البيان عن شيء بعينه، بل بادر إلى إنفاق ما يحبّه، وأقرّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك. (ومنها): أنه استُدلّ به لما ذهب إليه مالكٌ -رحمه اللَّه تعالى- من أن الصدقة تصحّ بالقول من قبل القبض، فإن كانت لمعيّن استحقّ المطالبة بقبضها، وإن كانت لجهة عامّة خرجت عن ملك القائل، وكان للإمام صرفها في سبيل الصدقة، وكلّ هذا ما إذا لم يظهر مراد المتصدّق، فإن ظهر اتُّبعَ. (ومنها): جواز تولّي المتصدّق قسم صدقته. (ومنها): جواز أخذ الغنيّ من صدقة التطوّع، إذا حصل له بغير مسألة. (ومنها): جواز زيادة الصدقة في التطوّع على قدر نصاب الزكاة؛ خلافًا لمن قيّدها به. (ومنها): أنه لا يعتبر في القرابة من يجمعه والواقفّ أبٌ معيّنٌ، لا رابعٌ، ولا غيره؛ لأن أبيَّا - رضي اللَّه تعالى عنه - إنما يجتمع مع أبي طلحة - رضي اللَّه تعالى عنه - في الأب السادس. (ومنها): أنه لا يجب تقديم القريب على القريب الأبعد؛ لأن حسّانًا وأخاه، كانا أقرب إلى أبي طلحة من أبيّ، ونبيط - رضي اللَّه تعالى عنهم -، ومع ذلك فقد أشرك معهما أبيًّا، ونبيط بن جابر. (ومنها): أنه لا يجب الاستيعاب؛ لأن بني حرام الذي اجتمع فيه أبو طلحة، وحسّان كانوا بالمدينة كثيرًا، فضلاً عن عمرو بن مالك الذي يجمع أبا طلحة وأبيًّا رضي اللَّه تعالى عنهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌3 - (بَابُ حَبْسِ الْمُشَاعِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "المشاع" -بضمّ الميم- يقال: سهمٌ شائعٌ، وشاعٌ، ومُشاع: غير مقسوم. قاله في "القاموس". وقال الفيّوميّ: وشاع اللبن في الماء -أي من باب باع-: إذا تفرّق، وامتزج به، ومنه قيل: سهمٌ شائعٌ، كأنه ممتزجٌ؛ لعدم تميّزه. قاله الفيّوميّ.

واستدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بأحاديث الباب على الترجمة واضحة، حيث إن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - وقف الأسهم التي له بخبر، وهي مشاع، فدلّ على جواز وقف المشاع الذي لم يقسم.

وبهذا قال مالكٌ، والشافعيّ، وأبو يوسف. وقال محمد بن الحسن: لا يصحّ، وبناه

ص: 65

على أصله في أن القبض شرطٌ، وأن القبض لا يصحّ في المشاع. واحتجّ الأولون بحديث الباب، فإن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - استأذن النبيّ في أمر مائة سهم من خيبر، فأمره بوقفها، قال ابن قُدامة: وهذا صفة المشاع، ولأنه عقدٌ يجوز على بعض الجملة مُفرزّا، فجاز عليه مشاعًا، كالبيع، أو عَرْصَة يجوز بيعها، فجاز وقفها، كالمفرزة؛ ولأن الوقف تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، وهذا يحصل في المشاع، كحصوله في الْمُفْرَز، ولا نُسلّم اعتبار القبض، وإن سلّمنا، فإذا صحّ في البيع صحّ في الوقف. انتهى كلام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: القول بصحة وقف المشاع هو الحقّ؛ لصحّة حديث الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3630 -

(أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْمِائَةَ سَهْمٍ، الَّتِي لِي بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ، أَعْجَبَ إِلَيَّ مِنْهَا، قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «احْبِسْ أَصْلَهَا، وَسَبِّلْ ثَمَرَتَهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث صحيح، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى في الباب الماضي، ورجال الإسناد رجال الصحيح، سوى شيخه سعيد بن الرحمن المخزوميّ، أبي عبيد اللَّه المكيّ، فإنه تفرّد به هو، والترمذيّ، وهو ثقة، من صغار [10] 41/ 1277.

[تنبيه]: قوله: "إن المائة سهم" فيه إشكالٌ، حيث إن القاعدة النحويّة تقضي بأن العدد المضاف إذا أريد تعريفه يُعرّف المضاف إليه، دون المضاف، فيقال: ثلاثة الأثواب، ومائة الدرهم، وألف الدينار، هذا عند البصريين، وأجاز الكوفيّون تعريفهما، فيقال: الثلاثة الأثواب؛ تشبيهًا له بالحسن الوجه، وما هنا وقع على العكس، فعرّف المضاف، ونكّر المضاف إليه، وهذا لم يقل بجوازه أحدٌ من النحاة، فيما علمت، ووقع نحو هذا في "صحيح البخاريّ" في لاباب الكفالة بالقرض والديون"، وفيه: ثم قَدِمَ الذي كان أسلفه، وأتى بالألف دينار"، وقد أوله الدمامينيّ -رحمه اللَّه تعالى- بتقدير مضاف، مبدَلٍ من المعرّف، أي بالألف، ألف دينار، قال: ولا يقال: إن "ال" زائدة؛ لأن ذلك لا ينقاس. نقله الصبّان في حاشية الأشمونيّ على ألفية ابن مالك، في باب "المعرَّفُ بأداة التعريف"

(2)

.

(1)

"المغني" 8/ 233. "كتاب الوقف".

(2)

راجع حاشية الصبّان على الأشمونيّ 1/ 186 - 188.

ص: 66

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وعلى هذا هذا يكون التقدير هنا "إن المائة السهم

سهمِ". وإلى القاعدة المتقدّمة أشار الأجهور -رحمه اللَّه تعالى-، حيث قال:

وَعَدَدًا تُرِيدُ أن تُعَرِّفَا

فَـ"أَلْ" بِجُزْئَيْهِ صِلَنْ إِنْ عُطِفَا

وَإِنْ يَكُنْ مُرَكَّبًا فَالأَوَّلُ

وَفِي الْمُضَافِ عَكْسُ هَذَا يُفْعَلُ

وَخَالَفَ الْكُوفِيُّ فِي الأَخِيرِ

فَعَرَّفَ الْجُزْءَيْنِ يَا سَمِيرِي

قال الصبّان: والمراد بالأخير غير الأول، فيشمل الثاني، وهو المركّب؛ لأن الكوفيّ فيه أيضًا، وكان الأحسن أن يقول بدل الأخير:

وَخَالَفَ الْكُوفِيُّ فِي هَذَيْنِ

فِفِيهِمَا قَدْ عَرَّفَ الْجُزْءَيْنِ

(1)

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3631 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَنْجِيُّ، بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ مَالاً، لَمْ أُصِبْ مِثْلَهُ قَطُّ، كَانَ لِي مِائَةُ رَأْسٍ، فَاشْتَرَيْتُ بِهَا مِائَةَ سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ، مِنْ أَهْلِهَا، وَإِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عز وجل، قَالَ: «فَاحْبِسْ أَصْلَهَا، وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو صدوق [10] 43/ 1724.

وقوله: "الخَلَنْجِيُّ" -بفتح الخاء المعجمة، والسلام، وسكون النون، بعدها جيم-: نسبة إلى الخَلَنْج نوع من الشجر، كما أفاده في "القاموس".

و"سفيان": هو ابن عيينة.

[تنبيه]: وقع في هذا الإسناد غلط، وهو زيادة لفظ "عن عمر" في السند، كما هو الواقع في نسخ "المجتبى"، والصواب خلافه، وأنه من مسند ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، لا من مسند عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -، كما تقدّم التنبيه عليه في الباب الماضي. ومن الغريب أنه وقع في "الكبرى" على الصواب، ثم ألحق به المحقّق لفظ:"عن عمر" أخذًا من "المجتبى"، فليُتنبّه، فإنه هذا من مزالّ الأقدام، واللَّه الهادي إلى سواء السبيل.

والحديث صحيح سبق الكلام عليه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه

(1)

راجع "حاشية الصبّان على الأشموني على ألفية ابن مالك" 1/ 186 - 188 - في باب "المعرّف بأداة التعريف".

ص: 67

المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3632 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى بْنِ بُهْلُولٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَرْضٍ لِي بِثَمْغٍ، قَالَ: «احْبِسْ أَصْلَهَا، وَسَبِّلْ ثَمَرَتَهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن مُصفّى بن بهَلُول" -بفتح الموحّدة- الحمصيّ القرشيّ، صدوق، له أوهام، وكان يُدلّس [10].

قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائيّ: صالح. وقال صالح بن محمد: كان مخلّطًا، وأرجو أن يكون صدوقًا، وقد حدّث بأحاديث مناكير. وقال مسلمة بن قاسم: ثقة مشهور، حدّث عنه ابن وضّاح. وقال أبو زرعة الدمشقيّ: كان ممن يُدلّس تدليس التسوية.

وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان يُخطىء، قال: وسمعت مكحولاً يقول: سمعت محمد بن عوف يقول: رأيت ابن مُصفّى في النوم، فقلت: يا أبا عبد اللَّه، أليس قد متّ، إلى ما صوت؟ قال: إلى خير، ومع ذلك، فنحن نرى ربّنا كلّ يوم مرّتين، فقلت: يا أبا عبد اللَّه صاحب سنّة في الدنيا وفي الآخرة، قال: فتبسّم. قال: وسمعت محمد بن عُبيد اللَّه بن الفضيل الكلاعيّ يقول: عادلته من حمص إلى مكة سنة (246)، فاعتلّ بالجحفة، ومات بمنى. روى عنه المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث: هنا -3632 و 26/ 4540 "تفسير بيع المنابذة" و40، 41/ 4857 "صفة شبه العمد".

و"بقيّة": هو ابن الوليد الحمصيّ، كثير التدليس عن الضعفاء [8] 45/ 557.

و"سعيد بن سالم" القدّاح، أبو عثمان المكيّ، خراسانيّ الأصل، أو الكوفة، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالإرجاء، وكان فقيهًا، من كبار [9].

قال الدوريّ وغيره، عن ابن معين: ليس به بأس. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقة. قال عثمان: ليس بذاك في الحديث. وقال أبو زرعة: هو عندي إلى الصدق ما هو؟. وقال أبو حاتم: محلّه الصدق. وقال أبو داود: صدوق يذهب إلى الإرجاء. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال ابن عديّ: حسن الحديث، وأحاديثه مستقيمة، وهو عندي صدوقٌ، لا بأس به، مقبول الحديث. وقال يعقوب الفسويّ. كان له رأي سوء، وكان داعيةً، يُرغَب عن حديثه. وقال العجليّ: كان يَرَى الإرجاء، وليس بحجة. وقال البخاريّ: يرى الإرجاء. وكذا قال ابن حبّان، وزاد: ويَهِمُ في الأخبار، حتى يجيء بها مقلوبة، حتى خرج عن حدّ الاحتجاج به. وقال ابن البرقيّ،

ص: 68

عن ابن معين: كانوا يكرهونه. قال الساجيّ: حدّثنا الربيع، سمعت الشافعيّ يقول: كان سعيد القدّاح يفتي بمكة، ويذهب إلى رأي أهل العراق. قال الساجيّ: ضعيف. وقال العقيليّ: كان يغلو في الإرجاء. وقال الصريفينيّ: مات قبل المائتين. تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وعند أبي داود حديث واحد.

وقوله: "ثَمْغ" بفتح المثلّثة، وسكون الميم، آخره غين معجمة: أرض بالمدينة.

وقوله: "سَبِّلْ ثمرتها" أمر من التسبيل، يقال: سَبّلتُ الثمرة -بالتشديد-: جعلتُها في سُبُل الخير، وأنواع البرّ. قاله الفيّوميّ.

والحديث صحيح بشواهده، فقد تقدّم له في الباب الماضي شواهد، وبيّنّاها هناك.

وأستدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- به على ما ترجم له واضح، حيث إن تلك الأرض كانت مشاعة، كما تقدّم تحقيقه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌4 - (بَابُ وَقْفِ الْمَسَاجِدِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: يعني وقف الأرض لأجل بناء المساجد فيها، وبهذا المعنى ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى-، في "صحيحه"، حيث قال:"باب وقف الأرض للمسجد"، ثم أورد حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنه -، من طريق عبد الوارث بن سعيد، عن أبي التَّيَّاح، قال: حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه، لَمّا قَدِم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، أمر ببناء المسجد، وقال: يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا"، قالوا: لا واللَّه لا نطلب ثمنه إلا إلى اللَّه.

قال في "الفتح": لم يختلف العلماء في مشروعيّة ذلك، لا من أنكر الوقف، ولا من نفاه، إلا أن في الجزء المشاع احتمالاً لبعض الشافعيّة، قال ابن الرفعة: يظهر أن وقف المشاع فيما لا يمكن الانتفاع به لا يصحّ، وجزم ابن الصلاح بالصحّة حتى يحرُمُ على الجنب المكث فيه، ونوزع في ذلك. قال الزين ابن الْمُنَيِّر: لعلّ البخاريّ أراد الردّ على من خصّ جواز الوقف بالمسجد، وكأنه قال: قد نفذ وقف الأرض المذكورة أن تكون

ص: 69

مسجدًا، فدلّ على أن صحّة الوقف لا تختصّ بالمسجد، ووجه أخذه من حديث الباب أن الذين قالوا:"لا نطلب ثمنه إلا إلى اللَّه"، كأنهم تصدّقوا بالأرض المذكورة، فتمّ انعقاد الوقف قبل البناء، فيؤخذ منه أن من وقف أرضًا على أن يبنيها مسجدًا انعقد الوقف قبل البناء. قال الحافظ: ولا يخفى تكلّفه. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3633 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ جَاوَانَ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَذَاكَ أَنِّي قُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ اعْتِزَالَ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ مَا كَانَ؟ ، قَالَ: سَمِعْتُ الأَحْنَفَ يَقُولُ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، وَأَنَا حَاجٌّ، فَبَيْنَا نَحْنُ فِي مَنَازِلِنَا، نَضَعُ رِحَالَنَا، إِذْ أَتَى آتٍ، فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ، فَاطَّلَعْتُ فَإِذَا -يَعْنِي النَّاسَ- مُجْتَمِعُونَ، وَإِذَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ نَفَرٌ قُعُودٌ، فَإِذَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ

(2)

، فَلَمَّا قُمْتُ عَلَيْهِمْ، قِيلَ: هَذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، قَدْ جَاءَ، قَالَ: فَجَاءَ وَعَلَيْهِ مُلَيَّةٌ صَفْرَاءُ، فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: كَمَا أَنْتَ، حَتَّى أَنْظُرَ مَا جَاءَ بِهِ؟ ، فَقَالَ عُثْمَانُ: أَهَا هُنَا عَلِيٌّ؟ ، أَهَاهُنَا الزُّبَيْرُ؟ ، أَهَاهُنَا طَلْحَةُ؟ ، أَهَاهُنَا سَعْدٌ؟ ، قَالُوا: نَعَمْ،

قَالَ: فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ يَبْتَاعُ مِرْبَدَ بَنِي فُلَانٍ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» ، فَابْتَعْتُهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: إِنِّي ابْتَعْتُ مِرْبَدَ بَنِي فُلَانٍ، قَالَ:«فَاجْعَلْهُ فِي مَسْجِدِنَا، وَأَجْرُهُ لَكَ» ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: قَدِ ابْتَعْتُ بِئْرَ رُومَةَ، قَالَ:«فَاجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَجْرُهَا لَكَ» ؟ ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ يُجَهِّزْ

(3)

جَيْشَ الْعُسْرَةِ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» ، فَجَهَّزْتُهُمْ، حَتَّى مَا يَفْقِدُونَ عِقَالاً، وَلَا خِطَامًا؟ ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدِ، اللَّهُمَّ اشْهَدِ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث تقدّم للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "الجهاد" -44/ 3183 - "فضل من جهّز غازيًا" ومضى شرحه، وبيان مسائله هناك.

و"عمر بن جاوان" ويقال: عمرو، كما هو في نسخة، مقبول [6] 44/ 3183.

(1)

"فتح" 6/ 64 "كتاب الوصايا".

(2)

وفي نسخة "رضي الله عنهم".

(3)

وفي نسخة: "من جهّز".

ص: 70

وقوله: "اعتزال الأحنف بن قيس ما كان؟ " أي بأي سبب اعتزل عن عليّ ومعاوية جميعًا. ولعل حاصل الجواب أنه ترك الناس تعظيمًا لقتل عثمان، وخوفًا على نفسه الوقوع في مثله، ورأى أن الناس قد يجتمعون على باطل، كقتلة عثمان - رضي اللَّه تعالى - عنه. واللَّه تعالى أعلم. قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-.

وقوله: "مُليّة" بمضم الميم تصغير ملاءة: وهي الإزار، أو الريطة.

وقوله: "كما أنت" أي كن على الحال التي أنت عليها، حتى أستخبر الخبر، فآتيك به.

وقوله: "من يبتاع" أي من يشتري. وقوله: "مِربد"بكسر الميم، وفتح الباء الموحّدة: موضع تجفيف التمر.

وقوله: "بئر رومة" بضمّ الراء: اسم بئر بالمدينة.

والحديث صحيحٌ، ومحلّ استدلال المصنّف على الترجمة منه قوله:"فاجعله في مسجدنا" فإن المراد به جعله وقفًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3634 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ حُصَيْنَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يُحَدِّثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ جَاوَانَ

(1)

، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: خَرَجْنَا حُجَّاجًا، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَنَحْنُ نُرِيدُ الْحَجَّ، فَبَيْنَا نَحْنُ فِي مَنَازِلِنَا، نَضَعُ رِحَالَنَا، إِذْ أَتَانَا آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ، وَفَزِعُوا، فَانْطَلَقْنَا، فَإِذَا النَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَى نَفَرٍ، فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ، وَإِذَا عَلِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَإِنَّا لَكَذَلِكَ، إِذْ جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، عَلَيْهِ مُلَاءَةٌ صَفْرَاءُ، قَدْ قَنَّعَ بِهَا رَأْسَهُ، فَقَالَ: أَهَاهُنَا عَلِيٌّ؟ أَهَا هُنَا طَلْحَةُ؟ أَهَاهُنَا الزُّبَيْرُ؟ ، أَهَاهُنَا سَعْدٌ؟ ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي أَنْشُدُكُمْ

(2)

بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ يَبْتَاعُ مِرْبَدَ بَنِي فُلَانٍ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» ، فَابْتَعْتُهُ بِعِشْرِينَ أَلْفًا، أَوْ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ:«اجْعَلْهَا فِي مَسْجِدِنَا، وَأَجْرُهُ لَكَ» ، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» ، فَابْتَعْتُهُ بِكَذَا وَكَذَا، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: قَدِ ابْتَعْتُهَا بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ:«اجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَجْرُهَا لَكَ» ، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، فَقَالَ: «مَنْ جَهَّزَ

(1)

وفي نسخة: "عمرو بن جاوان".

(2)

وفي نسخة: "فأنشدُكم".

ص: 71

هَؤُلَاءِ، اللَّهُ غَفَرَ لَهُ» ، يَعْنِي جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَجَهَّزْتُهُمْ، حَتَّى مَا يَفْقِدُونَ عِقَالاً، وَلَا خِطَامًا، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدِ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحديث صحيح، وقد سبق الكلام عليه في الذي قبله. وقوله:"قد قنّع" بتشديد النون: أي ألقى الْمُلاءة على رأسه، إما لدفع الحرّ، أو لغير ذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3635 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي الْحَجَّاجِ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ حَزْنٍ الْقُشَيْرِيِّ، قَالَ: شَهِدْتُ الدَّارَ، حِينَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَبِالإِسْلَامِ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ، غَيْرَ بِئْرِ رُومَةَ، فَقَالَ:«مَنْ يَشْتَرِى بِئْرَ رُومَةَ، فَيَجْعَلُ فِيهَا دَلْوَهُ مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ» ، فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي، فَجَعَلْتُ دَلْوِى فِيهَا مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ تَمْنَعُونِي مِنَ الشُّرْبِ مِنْهَا، حَتَّى أَشْرَبَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَالإِسْلَامِ

(2)

، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنِّي جَهَّزْتُ جَيْشَ الْعُسْرَةِ مِنْ مَالِي، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَالإِسْلَامِ

(3)

، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَسْجِدَ ضَاقَ بِأَهْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَشْتَرِى بُقْعَةَ آلِ فُلَانٍ، فَيَزِيدُهَا فِي الْمَسْجِدِ، بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ، فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي، فَزِدْتُهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونِي، أَنْ أُصَلِّيَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: أَنْشُدُكُمْ

(4)

بِاللَّهِ وَالإِسْلَامِ

(5)

، هَلْ تَعْلَمُونَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ عَلَى ثَبِيرٍ، ثَبِيرِ مَكَّةَ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَنَا، فَتَحَرَّكَ الْجَبَلُ، فَرَكَضَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرِجْلِهِ، وَقَالَ:«اسْكُنْ ثَبِيرُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ» ، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، شَهِدُوا لِي، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ -يَعْنِي أَنِّي شَهِيدٌ-).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "زياد بن أيوب": هو المعروف بدَلّويه. و"سعيد بن عامر": هو الضُّبَعيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة [9] 11/ 518.

و"يحيى بن أبي الحجّاج" الأهتميّ المِنْقريّ الخاقانيّ، واسم أبيه عبد اللَّه بن الأهتم،

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

وفي نسخة: "وبالإسلام".

(3)

وفي نسخة: "وبالإسلام".

(4)

وفي نسخة: "فأنشدكم".

(5)

وفي نسخة: "وبالإسلام".

ص: 72

أبو أيوب البصريّ، ليّن الحديث [9].

قال ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: ربّما أخطأ. وقال ابن عديّ: لا أرى بأحاديثه بأسًا. تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

و"سعيد الْجُرَيريّ": هو سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقة [5] 32/ 672.

و"ثمامة بن حَزْن" -بفتح المهملة، وسكون الزاي، ثم نون- ابن عبد اللَّه بن قَشير الْقُشيريّ البصريّ، والد أبي الورد بن ثُمامة، ثقة مخضرم [2].

أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يره. قال الآجريّ، عن أبي داود: ثقة، قيل: لم يسمع من عائشة؟ قال: نعم. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكر البخاريّ في "تاريخه" أنه قَدِم على عمر بن الخطّاب، وهو ابن (35) سنة. وقال ابن البرقيّ: ذكر بعض أهل النسب من بني عامر أن لثمامة صحبة. روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا، وحديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنه - 5665 - "نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينبذوا في الدبّاء والنقير".

وقوله: "شهدت الدار""ال" للعهد، أي دار عثمان المعروفة بحصار المصريين الذين أنكروا عليه تولية عبد اللَّه بن سعد بن أبي سَرْح، والقصة مشهورة. وفي رواية زيد بن أبي أُنيسة الآتية: "قال: لما حُصر عثمان في داره اجتمع الناس حول داره

".

وقوله: "أنشدكم باللَّه، وبالإِسلام" أي أسألكم رافعًا نشيدتي، أي صوتي، مذكّرًا إياكم باللَّه، ومطالبًا لكم العمل بمقتضى الإسلام، فإنه يوجب على المسلمين، أن يناصحوا وليّ أمرهم، ويدافعوا عنه، ويَصْدُقُونه في أخبارهم، وشهاداتهم.

وقوله: "ليس في المدينة ماء يُستعذب فيه الماء" أي يَطلبه الناس؛ ليشربوه عذبًا، أي حُلوًا.

وفيه استحباب استعذاب الماء، وقد عقد الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بابًا، فقال:"باب استعذاب الماء"، ثم أورد حديث أنس في قصّة أبي طلحة - رضي اللَّه تعالى عنهما - الماضي، وفيه:"وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدخلها -يعني بيرحاء- ويشرب من ماء فيها طيّب".

وقد ورد في استعذاب الماء حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُستعذَب له الماء من بيوت السُّقيا". و"السُّقْيا" -بضمّ المهملة، وبالقاف، بعدها تحتانيّة- قال قتيبة: هي عين بينها وبين المدينة يومان. هكذا أخرجه أبو داود عنه بعد سياق الحديث بسند جيّد، وصححه الحاكم. وفي قصّة أبي الهيثم بن

ص: 73

التّيِّهان أن امرأته قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جاءهم يَسأل عن أبي الهيثم: "ذهب يستعذب لنا من الماء". رواه مسلم.

وذكر الواقديّ من حديث سلمى امرأة أبي رافع: كان أبو أيوب حين نزل عنده النبيّ صلى الله عليه وسلم يستعذب له الماء من بئر مالك بن النضر، والد أنس، ثم كان أنس، وهند، وحارثة أبناء أسماء يحملون الماء إلى بيوت نسائه من بيوت السقيا، وكان رباح الأسود عبده يستقي له من بئر عرس مرّة، ومن بيوت السقيا مرّة.

قال ابن بطّال -رحمه اللَّه تعالى-: استعذاب الماء لا ينافي الزهد، ولا يدخل في الترفّه المذموم، بخلاف تطييب الماء بالمسك ونحوه، فقد كرهه مالكٌ؛ لما فيه من السرف، وأما شرب الماء الحلو، وطلبه فمباحٌ، فقد فعله الصالحون، وليس في شرب الماء الملح فضيلة. قال: وفيه دلالة على أن استطابة الاطعمة جائزة، وأن ذلك من دعل أهل الخير، وقد ثبت أن قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّه لَكُمْ} الآية [المائدة: 87] نزل في الذين أرادوا الامتناع من لذائذ المطاعم. قال: ولو كانت مما لا يريد اللَّه تناوله ما امتنّ بها على عباده، بل نهيه عن تحريمها يدلّ على أنه أراد منهم تناولها ليقابلوا نعمته بها عليهم بالشكر لها، وإن كانت نعمه لا يكافئها شكرهم. ذكره

في "الفتح"

(1)

.

وقوله: "من صُلب مالي" أي من أصل مالي، ورأسه، لا مما أثمره المال من الربح والزيادة، وأصل المال عند التجّار أعزّ شيء عليهم، ومع ذلك آثر عثمان رضي اللَّه تعالى عنه الآخرة على الدنيا، فاشترى البئر من رأس ماله.

وقوله: "من ماء البحر"، أي ماء البئر الذي في البيت، وهي مالحة، كماء البحر المالح.

وقوله: "على ثبير الخ" -بفتح المثلّثة، وكسر الموحّدة-: جبل بين مكة، ومنّى، ويُرى من منى، وهو على يمين الداخل منها إلى مكة. قاله الفيّوميّ.

هذا في هذه الرواية أن الجبل هو ثبير، والمشهور في الرويات أن الجبل هو "أحد"،

و"أحد" هو الجبل المعروف بالمدينة، فقد أخرج البخاريّ من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، أن أنس بن مالك رضي الله عنه، حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم، صَعِدَ أحدا، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، فرَجَفَ بهم، فقال:"اثبُت أحدُ، فإنما عليك نبي، وصديق، وشهيدان".

(1)

"فتح" 11/ 203 - 204 "كتاب الأشربة".

ص: 74

وفي رواية لمسلم: "حراء"، قال في "الفتح": والأول أصحّ، ولولا اتحاد المخرج لجوّزت تعدّد القصّة، ثم ظهر لي أن الاختلاف فيه من سعيد -يعني ابن أبي عروبة- فإني وجدته في "مسند الحارث بن أبي أسامة" عن رَوْح بن عُبادة، عن سعيد، فقال فيه:"أحدًا، أو حراء" بالشكّ. وقد أخرجه أحمد من حديث بُريدة بلفظ "حراء"، وإسناده صحيح. وأخرجه أبو يعلى من حديث سهل بن سعد بلفظ "أحد"، وإسناده صحيح، فقوي احتمال تعدّد القصّة. انتهى

(1)

.

والحاصل أن أكثر الرواة رووه بلفظ "أحد"، وبعضهم رواه بلفظ "حراء"، وأما بلفظ "ثَبِير" ففي هذه الرواية فقط، وفي إسنادها يحيى بن أبي الحجّاج، وقد تقدّم أنه ليّن الحديث، فلا يقبل ما خالف فيه الحفّاظ، بل هي شاذّة منكرة. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح

(2)

، وسبق الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3636 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ رَاشِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَطَّابُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عُثْمَانَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، حِينَ حَصَرُوهُ، فَقَالَ: أَنْشُدُ بِاللَّهِ، رَجُلاً سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ يَوْمَ الْجَبَلِ، حِينَ اهْتَزَّ، فَرَكَلَهُ بِرِجْلِهِ، وَقَالَ «اسْكُنْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلاَّ نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدَانِ» ، وَأَنَا مَعَهُ، فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ، ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُ بِاللَّهِ، رَجُلاً شَهِدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، يَقُولُ: «هَذِهِ يَدُ اللَّهِ، وَهَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ» ، فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ، ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُ بِاللَّهِ، رَجُلاً سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ جَيْشِ الْعُسْرَةِ، يَقُولُ: «مَنْ يُنْفِقُ نَفَقَةً مُتَقَبَّلَةً؟» ، فَجَهَّزْتُ نِصْفَ الْجَيْشِ مِنْ مَالِي، فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ، ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُ بِاللَّهِ، رَجُلاً سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ يَزِيدُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ» ، فَاشْتَرَيْتُهُ مِنْ مَالِي، فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ، ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُ بِاللَّهِ، رَجُلاً شَهِدَ رُومَةَ تُبَاعُ، فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ مَالِي، فَأَبَحْتُهَا لاِبْنِ السَّبِيلِ، فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير "عمران بن بكّار بن راشد": هو الْكَلَاعيّ البرّاد الحمصيّ المؤذّن، فإنه من أفراد المصنّف، وهو ثقة [11] 17/ 1541.

و"خطّاب بن عثمان" الطائيّ الْفَوْزيّ، أبو عمر، ويقال: أبو عَمْرو الحمصيّ، ثقة

عابد [10].

(1)

"فتح" 7/ 391. "كتاب فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ".

(2)

أي سوى لفظة "ثبير" فإنها شاذة كما مرّ آنفًا.

ص: 75

ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ. وقال ابن أبي الدنيا، عن القاسم بن هاشم: حدّثني الخطّاب بن عثمان الفَوْزيّ، وكان يُعدّ من الأبدال. ووثّقه الدارقطنيّ.

روى عنه البخاريّ، وروى له المصنّف بواسطة حديثين، حديث الباب، وحديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -10/ 4288 - "باب الفأرة تقع في السمن".

و"عيسى بن يونس": هو السبيعيّ، أخو إسرائيل الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقة مأمون [8] 8/ 8. و"أبوه": هو يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ، أبو إسرائيل الكوفيّ، صدوق يهم قليلاً [5] 16/ 652.

و"أبو إسحاق": هو عمرو بن عبد اللَّه الهمدنيّ السَّبِيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد اختلط بآخره [3] 38/ 43. و"أبو سلمة بن عبد الرحمن" بن عوف الزهريّ المدنيّ الثقة الفقيه، أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال [3] 1/ 1.

وقوله: "يوم الجبل" تقدّم قريبًا أنه أحد. وقوله: "فَرَكَله": أي ضربه برجله، قال في "القاموس": الرَّكْلُ: ضربُك الفرَسَ برجلك ليَعدُوَ، والضرب برجل واحدة. انتهى. وقوله:"فانتشد له رجال" أي أجابوه.

والحديث صحيح بما قبله

(1)

، وبعضه عند البخاريّ معلّقًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3637 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ

(2)

، قَالَ: لَمَّا حُصِرَ عُثْمَانُ فِي دَارِهِ، اجْتَمَعَ النَّاسُ، حَوْلَ دَارِهِ، قَالَ: فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ

وَسَاقَ الْحَدِيثَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن وهب": هو أبو المعافى الحرّانيّ، صدوق [10] 191/ 306.

[تنبيه]: وقع في معظم نسخ "المجتبى""محمد بن موهب" بزيادى ميم، وهو غلطٌ، والصواب "ابن وهب"، كما في بعض النسخ، وهو الذي في "الكبرى". فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

و"محمد بن سلمة": هو الباهليّ مولاهم الحرّانيّ، ثقة [9] 191/ 306.

و"أبو عبد الرحيم": هو خالد بن أبي يزيد سماك الحرّانيّ، ثقة [6] 191/ 306.

(1)

أي فلا يضرُّه عنعنة أبي إسحاق؛ إذ هو مدلس.

(2)

"السُّلَمِيّ"، بضمّ السين المهملة، وفتح اللام: نسبة إلى بني سُلَيم قبيلة مشهورة. قاله في "الأنساب" جـ3 ص 301.

ص: 76

و"زيد بن أبي أُنيسة زيد الحرّانيّ، أبو أسامة كوفيّ الأصل، ثم سكن الرُّها، ثقة، له أفراد [6] 191/ 306.

و"أبو عبد الرحمن السُّلَميّ": هو عبد اللَّه بن حبيب رُبَيِّعَة

(1)

الكوفيّ المقرئ، ولأبيه صحبة، ثقة ثبتٌ [2] 112/ 152. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌29 - (كِتَابُ الْوَصَايَا)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الوصايا" -بفتح الواو-: جمع وَصِيّة، كهديّة وهدايا، قال الفيّوميّ -رحمه اللَّه تعالى-: وَصَيتُ الشيءَ بالشيءِ أَصِيهِ، من باب وَعَدَ: وَصَلْتُهُ، ووَصَّيتُ إلى فلان تَوْصِيةً، وأوصيتُ إليه إيصاءً، وفي السبعة:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ} الآية [البقرة: 182]- بالتخفيف، والتثقيل- والاسم الوِصَاية بالكسر، والفتحُ لغةٌ، وهو وَصِيٌّ فَعِيلٌ بمعنى مفعول، والجمع الأوصياء، وأوصيتُ إليه بمال: جعلته له، وأوصيته بولده: استعطفته عليه، وهذا المعنى لا يقتضي الإيجاب، وأوصيتُهُ بالصلاة: أمرته بها، وعليه قوله تعالى:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، وقوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية [النساء: 11]. أي يأمر. وفي حديثٍ "خَطَبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأوصى بتقوى اللَّه"، معناه أمر، فيعمّ الأمر بأيّ لفظ كان، نحوُ اتّقوا اللَّه، وأطيعوا اللَّه، وكذلك الخبرُ إذا كان فيه معنى الطلب، نحولقد فاز من اتّقى، وطُوبى لمن وَسِعَته السنّةُ، ولم تستهوه البدعةُ، ورحم اللَّه من شغله عيبه عن عيوب الناس. ولا يتعيّن في الخطبة أوصيكم، كيف ولفظ الوصيّة مشترك بين التذكير والاستعطاف، وبين الأمر، فيتعيّن حمله على الأمر، ويقوم مقامه كلّ لفظ، فيه معنى الأمر، وتواصى القوم: أوصى بعضهم بعضًا، واستوصيتُ به خيرًا. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": الوصايا: جمع وصية، كالهدايا، وتُطلق على فعل الموصِي، وعلى ما يوصي به، من مال، أو غيره، من عهد، ونحوه، فتكون بمعنى المصدر، وهو

(1)

-بضم الراء، وفتح الموحّدة، وتشديد الياء التحتانيّة، بصيغة التصغير.

(2)

"المصباح المنير".

ص: 77

الإيصاء، وتكودْ بمعنى المفعول، وهو الاسم. وهي الشرع: عهد خاصّ، مضافٌ إلى ما بعد الموتِ، وقد يصحبه التبرّع. قال الأزهريّ: الوصيّة من وَصَيتُ الشيءَ - بالتخفيف- أَصِيهِ: إذا وصلته، وسمّيت وصيّةً؛ لأن الميت يَصِل بها ما كان في حياته بعد مماته. ويقال: وَصِيَّة -بالتشديد-، ووَصَاةٌ بالتخفيف، بغير همز. وتُطلق شرعًا

أيضًا على ما يقع به الزجر عن المنهيّات، والحثّ على المأمورت. قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: والوصية بالمال هي التبرّع به بعد الموت، والأصل فيها الكتاب، والسنّة، والإجماع، أما الكتاب، فقول اللَّه سبحانه وتعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} الآية [البقرة: 180]. وقال اللَّه تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الآية [النساء: 11]. وأما السنّة، فحديث سعد بن أبي وقّاص - رضي اللَّه تعالى عنه - الآتى في الباب الثالث. قال: وأجمع العلماء في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوصيّة. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

‌1 - (الْكَرَاهِيَةُ فِي تَأْخِيرِ الْوَصِيَّةِ)

(3)

قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: أي لا ينبغي له أن يؤخّر الوصيّة، إما بإخراج ما يُحوجه إليها، أو بتقديمها على المرض، مع وجود ما يُحوجه إليها، فلذلك ذكر في الباب من الأحاديث ما يقتضي التصدّق بالمال قبل حلول الآجال؛ لما فيه من الخروج عن كراهية تأخير الوصيّة؛ لانتفاء الحاجة إليها أصلاً، فليُتأمّل انتهى

(4)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3638 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ ، قَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ، وَأَنْتَ صَحِيحٌ، شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْبَقَاءَ، وَلَا تُمْهِلْ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ»).

(1)

"فتح" 6/ 3. "كتاب الوصايا".

(2)

"المغني" 8/ 389 - 390. "كتاب الوصايا".

(3)

ووقع في بعض النسخ: "باب الكراهية في تأخير الوصيّة".

(4)

"شرح السنديّ 6/ 237.

ص: 78

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم في "كتاب الزكاة" -60/ 2542 - "باب أيّ الصدقة أفضل؟ ". رواه هناك عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان الثوريّ، عن عمارة، وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، وللَّه الحمد والمنّة.

ومحلّ استدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- منه على ما ترجم له هنا قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تُمهل الخ".

ورجال إسناده رجال الصحيح، غير شيخه:"أحمد بن حرب" الطائيّ الموصليّ، فإنه من أفراده، وهو صدوق [10] 102/ 135.

و"عمارة": هو ابن القعقاع. و"أبو زرعة": هو البجليّ.

وقوله: "أن تصدّق" -بفتح التاء المثنّاة، وأصله "تتصدّق"، فحذفت منه إحدى التاءين، تخفيفًا، ثم هو في تأويل المصدر خبر لمبتدإٍ مقدّر، هي تصدّقك الخ. وقوله:"شحيح" أي من شأنه الشحّ؛ للحاجة إلى المال. وقوله: "تخشى الفقر": أي بسبب إنفاق المال. وقوله: "وتأمُل البقاء" بضمّ الميم، أي ترجوه. وقوله:"ولا تمهل" نهي من الإمهال، وهو التأخير. وقوله. "حتى إذا بلغت الحلقوم" أي إذا بلغت الروح الحلق، وهو كناية عن الاحتضار. وقوله. "وقد كان لفلان" أي وقد صار المال للوارث، أي قارب أن يصير له، إن لم توص به، فليس بالتصدّق به كثير فضل. وقد تقدّم شرح الحديث مستوفًى في الباب المذكور، فراجعه، تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3639 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ، إِلاَّ مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، إِلاَّ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، مَالُكَ مَا قَدَّمْتَ، وَمَالُ وَارِثِكَ مَا أَخَّرْتَ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هنّاد بن السريّ) بن مصعب التميمي، أبو السريّ الكوفي، ثقة [10] 23/ 25.

2 -

(أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره، من كبار [9] 26/ 30.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مهران لأسدي الكاهلي مولاهم، أبو محمد الكوفي، ثقة حافظ عارف بالقراءة، ورع، لكنه يدلس [5] 17/ 18.

ص: 79

4 -

(إبراهيم التيمي) هو: ابن يزيد بن شريك، أبو أسماء الكوفيّ، ثقة عابد، يرسل ويدلس [5] 121/ 170.

5 -

(الحارث بن سُويد) التيميّ، أبي عائشة الكوفيّ، ثقة ثبت [2]

قال عبد اللَّه بن أحمد: ذكره أبي، فعظّم شأنه. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة. وقال ابن معين أيضًا: إبراهيم التيميّ، عن الحارث بن سُويد، عن عليّ، ما بالكوفة أجود إسنادًا منه. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: صلى عليه عبد اللَّه بن يزيد. وقال ابن عيينة: كان الحارث من عِلّيّة أصحاب ابن مسعود. وقال العجليّ: ثقة. قال ابن سعد: تُوفّي في آخر خلافة عبد اللَّه بن الزبير. وأرّخه ابن أبي خيثمة سنة إحدى، أو اثنتين وسبعين. روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط: حديث الباب، و-31/ 5654 - حديث عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه -، عن النبيّ صلى اللَّه وسلّم أنه نهى عن الدبّاء والمزفّت.

6 -

(عبد اللَّه) بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - 35/ 39. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن الحارث بن سُويد. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبدِ اللَّهِ) بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟) أي أنَّ الذي يُخَلِّفُهُ الإنسان من المال، وإن كان هو في الحال منسوبًا إليه، فإنه باعتبار انتقاله إلى وارثه يكون منسوبًا للوارث، فنسبته للمالك في حياته حقيقيّة، ونسبته للوارث في حياة المُوَرِّثِ مجازيّة، ومن بعد موته حقيقيّة

(1)

(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ)"من" زائدة (إِلاَّ مَالُهُ أَحَبُّ إلَيْهِ منْ مَالِ وَارِثِهِ، قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اعْلَمُوا أنَّهُ لَيْسَ مِتكُمْ مِنْ أَحَدٍ) قال السنديّ: خطاب للموجودين في ذلك الوقت عنده صلى الله عليه وسلم، لا لتمام الأمّة، فلا يرد أن في الأمّة من كان على خلاف ذلك، كنحو أبي بكر - رضي اللَّه تعالى عنه -. انتهى (إِلاَّ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، مَالُكَ مَا قَدَّمْتَ) أي المال الذي يضاف إليك في الحياة، وبعد الموت هو الذي قدّمته، وأنت

(1)

"فتح" 13/ 41. "كتاب الرقاق".

ص: 80

حيّ بالصدقة للفقراء، وصلة الرحم، وأنواع البرّ (وَمَالُ وَارِثِكَ مَا أَخَّرْتَ) أي المال الذي يضاف إلى وارثك هو الذي تركته له بعد مماتك. قال ابن بطّال وغيره: فيه التحريض على تقديم ما يُمكن تقديمه من المال في وجوه القربة والبرّ؛ لينتفع به في الآخرة، فإن كلّ شيء يخلفه المورّث يصير ملكّا للوارث، فإن عمل فيه بطاعة اللَّه اختصّ بثواب ذلك، وكان ذلك الذي تعب في جمعه ومنعه

(1)

، وإن عمل فيه بمعصية اللَّه، فذاك أبعد لمالكه الأول من الانتفاع به، إن سلم من تبعته. ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: لسعد بن أبي وقّاص - رضي اللَّه تعالى عنه -: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً"؛ لأن حديث سعد - رضي اللَّه تعالى عنه - محمول على من تصدق بماله كلّه، أو معظمه في مرضه، وحديث ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - في حقّ من يتصدّق في صحّته، وشُحّه. قاله في "الفتح"

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 1/ 3639 - وفي "الكبرى"1/ 6439. وأخرجه (خ) في "الرقاق" 6442 (أحمد) في "مسند المكثرين" 3619. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان كراهة تأخير الوصيّة. (ومنها): الحثّ على المبادرة في فعل الخير قبل ذوات أوانه. (ومنها): أن ما يفعله الإنسان في حياته من الإنفاق في وجوه الخير هو الذي يناله في الآخرة؛ لأنه من خالص ملكه. (ومنها): أن ما يجمعه الإنسان من المال، ويتركه للورثة، ليس له به أجرٌ، وإن أنفقه وارثه في وجوه الخير؛ لأنه ملكه، وليس ملكًا لمكتسبه، ولا ينافي هذا ما في حديث سعد بن أبي وقّاص - رضي اللَّه تعالى عنه - الآتي، حيث قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالةً، يتكفّفون الناس

"؛ لأن سعدًا أراد أن يتصدّق بماله كلّه في مرضه، وكان وارثه بنتًا، ولا طاقة لها على

(1)

هكذا عبارة "الفتح" وفيها شيء من الغموض، ولعل العبارة: وليس ذلك للذي تعب في جمعه ومنعه. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

"فتح" 13/ 41 "كتاب الرقاق".

ص: 81

الكسب، فأمره أن يتصدّق بثلثه، ويكون باقيه لابنته، وحديث الباب إنما خاطب به أصحابه الذين هم في صحّتهم، فحرّضهم على تقديم مالهم لينفعهم يوم القيامة؛ لأنهم إن تركوا ذلك، فسوف ينتقل إلى غيرهم، ويُحرمون الأجر الكثير. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3640 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1 - 2]، قَالَ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي، وَإِنَّمَا مَالُكَ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ»).

رجال هذا الإسناد: سنّة:

1 -

(عمرو بن علي) الفلاّس الصيرفي، أبو حفص البصريّ، ثقة حافظ [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد بن فرّوخ القطّان البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور [7] 24/ 27.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي البصريّ، ثقة ثبت، يدلس [4] 30/ 34.

5 -

((مُطَرِّفُ) بن عبد اللَّه العامريّ الْحَرَشيّ -بفتحتين- أبي عبد اللَّه البصريّ، ثقة

عابد فاضل، مات سنة (95 هـ)[2] 53/ 67.

6 -

(أبوه) هو عبد اللَّه بن الشَّخِّير -بكسر الشين، وتشديد الخاء المعجمتين- ابن عوف صحابي، من مسلمة الفتح - رضي اللَّه تعالى عنه - 34/ 727. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه (ومنها): أن صحابيه من المقلّين من الرواية، إذ ليس له في الكتب الستة إلا نحو تسعة أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ مُطَرَّفِ) بن عبد اللَّه (عَنْ أَبِيهِ) عبد اللَّه بن الشِّخِّير - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1 - 2] وفي رواية المصنّف في "التفسير" من "الكبرى" من طريق غيلان بن جرير، عن مطرّف، عن أبيه، قال:" جئت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} حتّى ختمها".

فقوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} يعني شغلكم الإكثار من الدنيا، ومن الالتفات إليها عما

ص: 82

هو الأولى بكم، من الاستعداد للآخرة، وهذا الخطاب للجمهور، إذ جنس الإنسان على ذلك مفطور، كما قال تعالى:{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة: 20، 21] وكما قال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} الآية [آل عمران: 14]

(1)

.

وقوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أي حتّى أتاكم الموت، فصرتم في المقابر زُوّارًا، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنّة، أو نار. يقال لمن مات: قد زار قبره. وقيل: أي ألهاكم التكاثر حتى عددتم الأموات. وقيل: هذا وعيد، أي اشتغلتم بمفاخرة الدنيا، حتى تزوروا القبور، فتروا ما يحلّ بكم من عذاب اللَّه عز وجل

(2)

.

(قَالَ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ) أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا تفسير هذه الآية الكريمة، فبيّن أن المراد بالتكاثر هو التكاثر في الأموال، وللمفسّرين أقوال في معناها، ولكن هذا التفسير هو الصواب المقدّم على غيره؛ لأن اللَّه تعالى جعل بيان كتابه إليه صلى الله عليه وسلم، حيث قال:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: 44].

وفي "صحيح البخاريّ" من طريق ابن شهاب، قال: أخبرني أنس بن مالك، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لو أن لابن آدم واديا من ذهب، أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب اللَّه على من تاب".

قال: وقال لنا أبو الوليد، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن أُبَيّ، قال: كنا نَرَى هذا من القرآن، حتى نزلت. {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} .

قال ابن العربيّ: وهذا نصّ صحيح مَلِيحٌ، غاب عن أهل التفسير، فجهِلُوا، وجَهُّلُوا، والحمد للَّه على المعرفة.

(مَالي، مَالِي) أي يغترّ بنسبة المال إليه، وكونه في يديه، حتّى ربّما يعجب به، ويفخر به، ولعلّه ممن تعب هو في جمعه، ويصل غيرُه إلى نفعه، ثم أخبر صلى الله عليه وسلم بالأوجه التي ينتفع فيها صاحب المال بماله، وافتتح الكلام بـ "إنما" التي هي للتحقيق، والحصر، فقال (وَإِنَّمَا مَالُكَ) هذا خطاب لكلّ يصلح له الخطاب (مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ) إنكار منه صلى الله عليه وسلم على ابن آدم بأن ماله هو ما انتفع به في الدنيا بالأكل، أو اللبس، أو في الآخرة بالتصدّق، وأشار بقوله:"فأفنيت"، "فأبليت" إلى أن ما أكل، أو لبس، فهو قليل الجدوى، لا يرجع إلى عاقبة. قاله السنديّ (أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ) أي أردت التصدّق، فأمضيتَ ذلك، أو تصدّقت، فقدّمت لآخرتك. وفي حديث أبي هريرة - رضي

(1)

"المفهم" 7/ 111 "كتاب الزهد".

(2)

"تفسير القرطبيّ" 20/ 169.

ص: 83

اللَّه تعالى عنه عند مسلم: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يقول العبد: مالي، مالي، إنما ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فابلى، أو أعطى فاقتنى

(1)

، وما سوى ذلك، فهو ذاهب، وتاركه للناس". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن الشِّخِّير - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- أخرجه هنا- 1/ 3640 - وفي "الكبرى" 1/ 6440 و"التفسير"11696. وأخرجه (م) في "الزهد والرقائق" 2958 (ت) في "الزهد" 2342 و"التفسير" 2354 (أحمد) في "مسند المدنيين" 15870 و 15887. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان كراهة تأخير الوصيّة، ووجه الاستدلال به، أنه لما ذمّ اللَّه تعالى في هذه الآية التفاخر بالأموال حتى يأتيه الموت، عرفنا أنه لا يجوز تأخير ما يتعلّق بالمال من الحقوق، الواجبة، أو المستحبّة، بل ينبغي المبادرة إلى إيصالها إلى مستحقها، قبل ذوات الأوان. (ومنها): أن السنّة هي المبيّنة للمراد من مجمل الكتاب، فإذا كان هناك آراء لأهل العلم في معنى آية، ننظر فيما وردت به السنة القوليّة، أو الفعليّة، فنقدّمه على سائر محتمل الكلام؛ لأن اللَّه تعالى جعل بيان كتابه إلى رسوله صلّى اللَّه وسلم. (ومنها): أن مال الإنسان الحقيقيّ هو الذي انتفع به في حياته، إما بما يعود نفعه إليه حالاً، كالأكل، والشرب، واللباس، أو مآلاً، كالتصدّق به، وصلة الرحم، وسائر وجوه البرّ، وأما ما عدا ذلك، فهو لورثته، لا يناله منه شيء، بل إنما يلحقه تبعاته، فيحاسب إن كان حلالاً، من أين اكتسبه، وفيمن أنفقه، ويعاقب إن كان حرامًا، فالواجب على العاقل أن يتنبّه لهذه الدقائق، فإن الندم بعد ذوات الأوان هو عين الخسران. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3641 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ، سَمِعَ أَبَا حَبِيبَةَ الطَّائِي، قَالَ: أَوْصَى رَجُلٌ بِدَنَانِيرَ، فِي سَبِيلِ اللهِ،

(1)

أي فاقتنى الثواب لنفسه.

ص: 84

فَسُئِلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟ ، فَحَدَّثَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَثَلُ الَّذِي يَعْتِقُ، أَوْ يَتَصَدَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ، مَثَلُ الَّذِي يُهْدِى بَعْدَ مَا يَشْبَعُ» ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن بشّار) أبو بكر بندار البصريّ، ثقة حافظ [10] 24/ 27.

2 -

(محمد) بن جعفر غندر، أبو عبد اللَّه البصري، ثقة، صحيح الكتاب [9] 21/ 22.

3 -

(شعبة) الإمام المذكور في السند السابق.

4 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه السبيعي الكوفي، ثقة عابد اختلط بآخره [3] 38/ 42.

5 -

(أبو حبيبة الطائيّ) مقبول [3].

روى عن أبي الدرداء - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا الحديث، وعنه أبو إسحاق السبيعيّ، ولا يعرف له غير هذا الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ هذا الحديث فقط.

6 -

(أبو الدرداء) عويمر بن زيد بن قيس الأنصاريّ الصحابيّ الشهير، وقيل في اسمه واسم أبيه غير ذلك، شهد أحدًا، وما بعدها، مات في آخر خلافة عثمان - رضي اللَّه تعالى عنهما -، وقيل: عاش بعد ذلك، تقدّمت ترجمته في 48/ 847. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن شعبة بن الحجّاج، أنه قال (سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد اللَّه الهمدانيّ السَّبِيعيّ الكوفيّ، وقوله (سَمِعَ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول، أي والحال أن أبا إسحاق سمع (أَبَا حَبِيبَةَ الطَّائِيَّ) لا يعرف اسمه، ولا عينه، إذ لم يرو عنه غير أبي إسحاق (قَالَ: أَوْصَى رَجُلٌ بِدَنَانِيرَ، فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني أنه أوصى بها في حال موته، كما يرشد إلى ذلك قوله (فَسُئِلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ) - رضي اللَّه تعالى عنه -.

ولفظ الترمذيّ، من طريق سفيان الثوريّ، عن أبي إسحاق، عن أبي حبيبة الطائي، قال: أوصى إلى أخي بطائفة من ماله، فلقيت أبا الدرداء، فقلت: إن أخي أوصى إلى بطائفة من ماله، فأين ترى لي وضعه، في الفقراء، أو المساكين، أو المجاهدين في سبيل اللَّه، فقال: أما أنا فلو كنت، لم أعدل بالمجاهدين، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -

ص: 85

يقول: "مثل الذي يُعتق عند الموت، كمثل الذي يُهدي إذا شبع". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

(فَحَدَّثَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَثَلُ الَّذِي يُعْتِقُ) بضمّ أوله، من الإعتاق، أي يحرّر عبده (أَوْ يَتَصَدَّقُ) بماله على الفقراء والمساكين (عِنْدَ مَوْتِهِ، مَثَلُ الَّذِي يُهْدِي) بضمّ أوله، من الإهداء، لا من الهدي (بَعْدَمَا يَشْبَعُ) يعني أنه مثل الذي يُعطي بعد ما قضى حاجته، وهو قليل الجدوى، ولا يعتاده إلا دنيء الهمّة. وإنما مثّل بذلك؛ لأن الثاني أشهر، وإلا فالعكس أولى؛ فإن الذي شبع ربّما يتوقّع حاجته إلى ذلك الشيء، بخلاف الذي يُعتق، أو يتصدّق عند موته، إلا أن يقال: قد لا يصير عند موته، فيحتاج إلى ذلك الشيء، فلذلك يُعدّ إعتاقه، وتصدّقه فضيلة ما، لكن هذا إذا لم يكن بطريق الوصيّة. قاله السنديّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث.

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي الدرداء - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا حسنٌ

(1)

.

[تنبيه]: هذا الحديث اختلف العلماء في درجته، فقال الترمذيّ: حديث حسنٌ صحيح، وصححه ابن حبّان، وقال الحافظ في "الفتح": إسناده حسنٌ، وضعفه الشيخ الألبانيّ؛ لجهالة أبي حبيبة الطائيّ.

والذي عندي أن الحديث حسنٌ، وأما تصحيحه، أو تحسين إسناده ففيه بعد؛ لأن أبا حبيبة الطائيّ مجهول، لم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعيّ، وقال عنه في التقريب: مقبول، يعني أنه يحتاج إلى متابع. وأما تضعيف الحديث مطلقًا فبعيد أيضًا؛ لأنه تشهد له أحاديث الباب، كحديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - المتقدّم، وفيه:"لا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، وقد كان لفلان".

والحاصل أن الحديث حسنٌ بما ذُكر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(1)

وقد صححه الترمذيّ، وابن حبّان، وحسن الحافظ في "الفتح" 6/ 26 - إسناده، وكلّ محلّ نظر؛ إذ أبو حبيبة الطائيّ مجهول، فكيف يصحّح، أو يحسّن؟، وإنما التحسين لشواهده، فتأمل.

ص: 86

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 1/ 3641 - وفي "الكبرى" 1/ 6441. وأخرجه (د) في "العتق" 3968 (ت) في "الوصايا" 2123 (أحمد) في "مسند الأنصار" 21211 و 21212 و 26985 (الدارمي) في "الوصايا" 3226. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو كراهية تأخير الوصيّة.

(ومنها): الحثّ على الصدقة وأفعال البرّ في حال حاجة الإنسان إلى ماله، وهو حال الصحّة، وذمّ تأخيرها إلى حالي استغنائه عنها بالمرض والموت. (ومنها): ضرب المثل لأجل توضيح المسألة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3642 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ يُوصَى فِيهِ، أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ، إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفي البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(الفضيل) بن عياض بن مسعود اليربوعيّ، أبو عليّ الزاهد الثقة العابد المشهور المكيّ، خراساني الأصل [8] 21/ 388.

3 -

(عبيد اللَّه) بن عمر العمريّ المدنيّ الفقيه الحجة الثبت [5] 15/ 15.

4 -

(نافع) مولى ابن عمر المدنيّ الثقة الثبت الفقيه [3] 12/ 12.

5 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-- (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من عبيد اللَّه، وشيخه بغلاني، والفضيل مكي. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا

ص: 87

حَقُّ امْرِيء) أي ما اللائق به. قال الحافظ وليّ الدين: التعبير بامرىء خرج مخرج الغالب، فلا فرق في صحّة الوصيّة بين الرجل والمرأة، وسواء كانت متزوّجة، أو غير متزوّجة، أذن لها زوجها، أو لم يأذن لها، ولو كانت بكرًا، ولم يأذن أبوها لا يختلف الحكم بذلك، فإنه تحصيل قربة أخرويّة عند انقضاء العمر في قدر مأذون فيه شرعًا. واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

(مُسْلِمٍ) قال في "الفتح": كذا في أكثر الروايات، وسقط لفظ "مسلم" من رواية أحمد، عن إسحاق بن عيسى، عن مالك. والوصف بالمسلم خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، أو ذُكر للتهييج؛ لتقع المبادرة لامتثاله؛ لما يشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك، ووصية الكافر جائزة في الجملة. وحكى ابن المنذر فيه الإجماع، وقد بحث فيه السبكيّ من جهة أن الوصيّة شُرعت زيادةً في العمل الصالح، والكافر لا عمل له بعد الموت. وأجاب بأنهم نظروا إلى أن الوصيّة كالإعتاق، وهو يصحّ من الذّمّيّ، والحربّي. انتهى

(2)

.

(لَهُ شَئٌ يُوصَى فِيهِ) صفة "شيء": أي يصلح أن يوصي فيه، ويلزمه أن يوصي فيه. قال ابن عبد البرّ: لم يختلف الرواة عن مالك

(3)

في هذا اللفظ، ورواه أيوب، عن نافع بلفظ:"له شيء يريد أن يوصي فيه". ورواه عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع مثل أيوب

(4)

، أخرجهما مسلم. ورواه أحمد، عن سفيان، عن أيوب، بلفظ: "حقٌّ على كلّ مسلم أن لا يبيت ليلتين، وله ما يوصي فيه

" الحديث. ورواه الشافعيّ، عن سفيان بلفظ. "ما حقّ امرئ، يؤمن بالوصيّة

" الحديث. قال ابن عبد البرّ: فسّره ابن عُيينة: أي يؤمن بأنها حقّ انتهى. وأخرجه أبو عوانة من طريق هشام بن الغاز، عن نافع، بلفظ: "لا ينبغي لمسلم أن يبيت ليلتين

" الحديث. وذكره ابن عبد البرّ، عن سليمان بن موسى، عن نافع مثله. وأخرجه الطبرانيّ من طريق الحسن، عن ابن عمر مثله.

وأخرجه الإسماعيليّ من طريق رَوْح بن عُبادة، عن مالك، وابن عون جميعًا عن نافع، بلفظ:"ما حقّ امرئ مسلم له مالٌ، يريد أن يوصي فيه". وذكره ابن عبد البرّ من طريق ابن عون بلفظ: "لا يحلّ لامرىء مسلم، له مالٌ"، وأخرجه الطحاويّ أيضًا، وقد

(1)

"طرح التثريب" 6/ 192.

(2)

"فتح" 6/ 5. "كتاب الوصايا".

(3)

رواية مالك هى الآتية بعد هذا للمصنّف، إن شاء اللَّه تعالى.

(4)

رواية عبيد اللَّه هنا كرواية مالك، فتنبّه.

ص: 88

أخرجه النسائيّ من هذا الوجه، ولم يَسُق لفظه

(1)

. قال أبو عمر: لم يُتابع ابن عون على هذه اللفظة. قال الحافظ: إن عني عن نافع بلفظها، فمسلّمٌ، ولكن المعنى يمكن أن يكون متّحدًا، كما سيأتي. وإن عني عن ابن عمر، فمردود؛ لما سيأتي قريبًا ذكر من رواه عن ابن عمر أيضًا بهذا اللفظ. قال ابن عبد البرّ: قوله: "له مالٌ" أولى عندي من قول من روى "له شيء"؛ لأن الشيء يُطلق على القليل والكثير، بخلاف المال. قال الحافظ: كذا قال، وهي دعوى لا دليل عليها، وعلى تسليمها، فرواية "شيء" أشمل؛ لأنها تعمّ ما يُتموّل، وما لا يُتموّل، كالمختصّات. واللَّه أعلم.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ: قوله: "له شيء يوصي فيه" عامّ في الأموال، والبنين الصغار، والحقوق التي له، وعليه كلها، من ديون، وكفّارات، وزكوات فرّط فيها، فإذا وصّى بذلك أخرجت الديون من رأس المال، والكفّارات، والزكوات من ثلثه، على تفصيل يُعرف في الفقه. انتهى

(2)

.

(أَنْ يَبِيتَ) في تأويل المصدر خبر "ما حقُّ". ومتعلّق "يبيت" محذوف، تقديره: آمنًا، أو ذاكرًا. وقدّره ابن التين: موعوكًا، والأول أولى؛ لأن استحباب الوصيّة لا يختصّ بالمريض، نعم قال العلماء: لا يُندب أن يكتب جميع الأشياء المحقّرة، ولا ما جرت العادة بالخروج منه، والوفاء له عن قرب. واللَّه تعالى أعلم.

((لَيْلَتَيْنِ) كذا لأكثر الرواة، ولأبي عوانة، والبيهقيّ من طريق حمّاد بن زيد، عن أيوب:"يبيت ليلةً أو ليلتين"، ولمسلم، والنسائيّ

(3)

من طريق الزهريّ، عن سالم، عن أبيه:"يبيت ثلاث ليال".

وكأنّ ذكر الليلتين، والثلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها، ففسح له هذا القدر؛ ليتذكّر ما يحتاج إليه، واختلاف الروايات فيه دالّ على أنه للتقريب، لا للتحدي، والمعنى: لا يمضي عليه زمان، وإن كان قليلاً، إلا ووصيّته مكتوبة. وفيه إشارة إلى اغتفار الزمن اليسير، وكأن الثلاث غاية للتأخير، ولذلك قال ابن عمر في رواية سالم عند مسلم:"لم أَبِتْ ليلةً منذ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، إلا ووصيتي عندي". وسيأتي بنحوه للمصنّف برقم 3645.

قال الطيبيّ: في تخصيص الليلتين والثلاث بالذكر تسامح في إرادة المبالغة، أي لا ينبغي

(1)

هي الرواية الثالثة لهذا الحديث.

(2)

"المفهم" 4/ 441.

(3)

هي الرواية الرابعة، والخامسة لهذا الحديث.

ص: 89

أن يبيت زمانًا ما، وقد سامحناه في الليلتين والثلاث، فلا ينبغي له أن يتجاوز ذلك.

وقال القرطبيّ: المقصود بذكر الليلتين، أو الثلاث التقريب، وتقليل مدّة ترك كَتْب الوصيّة، ولذلك لما سمعه ابن عمر لم يبت ليلة إلا بعد أن كتب وصيّة، والحزم المبادرة إلى كتبها أوّلَ أوقات الإمكان؛ لإمكان بغتة الموت التي لا يأمنها العاقل ساعة. ويحتمل أن يكون إنما خصّ الليلتين بالذكر فسحة لمن يحتاج إلى أن ينظر فيما له، وما عليه، فيتحقّق بذلك، وُيرَوَّى فيها ما يوصى به، ولمن يوصي إلى غير ذلك. انتهى

(1)

.

(إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ) جملة حالية مستثناة من أعمّ الأحوال، أي ليس حقّه البيتوتة في حال من الأحوال، إلا في حال كون الوصيّة مكتوبة عنده. والكتابة أعمّ من أن تكون بخطّه، أو بخطّ غيره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 1/ 3642 و 3643 و 3644 و 3645 و 3646 - وفي "الكبرى" 1/ 6442 و 6443 و 6444 و 6445 و 6446. وأخرجه (خ) في "الوصايا" 2738 (م) في "الوصية" 1627 (د) في "الوصايا" 2862 (ت) في "الجنائز" 974 و"الوصايا" 2128 (ق) في "الوصايا" 2699 (أحمد) في "مسند المكثرين" 4455 و 4564 و 4884 و 5097 و 5175 (الموطأ) في "الأقضية" 1492 و"الوصايا" 3175 (الدارمي) في "الوصايا" 3046. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان كراهة تأخير الوصيّة.

(ومنها): الحضّ على الوصيّة، ومطلقها يتناول الصحيح، لكن السلف خصّوها بالمريض، وإنما لم يقيّد به في الخبر؛ لاطراد العادة به. (ومنها): أنه يُستفاد منه أن الأشياء المهمّة ينبغي أن تضبط بالكتابة؛ لأنها أثبت من الضبط بالحفظ؛ لأنه يخون غالبًا. (ومنها): أنه استُدلّ بقوله: "مكتوبةٌ عنده" على جواز الاعتماد على الكتابة

(1)

"المفهم" 4/ 541 - 542.

ص: 90

والخطّ، ولو لم يقترن ذلك بالشهادة. وخصّ أحمد، ومحمد بن نصر من الشافعيّة ذلك بالوصيّة؛ لثبوت الخبر فيها دون غيرها من الأحكام. وأجاب الجمهور بأن الكتابة ذُكرت لما فيها من ضبط المشهود به، قالوا: ومعنى "وصيّته مكتوبة عنده" أي بشرطها. وقال المحبّ الطبريّ: إضمار الإشهاد فيه بُعْدٌ. وأجيب بأنهم استدلّوا على اشتراط الإشهاد بأمر خارج، كقوله تعالى:{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} الآية [المائدة: 106]، فإنه يدلّ على اعتبار الإشهاد في الوصيّة.

وقال القرطبّي: ذكر الكتابة مبالغةٌ في زيادة التوثّق، وإلا فالوصيّة المشهود بها متّفقٌ عليها، ولو لم تكن مكتوبة. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أنه استُدلّ بقوله أيضًا: "وصيته مكتوبة عنده" على أن الوصية تنفذ، وإن كانت عند صاحبها، ولم يجعلها عند غيره، وكذلك إن جعلها عند غيره، وارتجعها.

(ومنها): أن فيه منقبةً لابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -؛ لمبادرته لامتثال قول الشارع، ومواظبته عليه. (ومنها): أن فيه الندبَ إلى التأهّب للموت، والاحتراز قبل الفوت؛ لأن الإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت؛ لأنه ما من سنّ يفرض إلا وقد مات فيه جمعٌ جمّ، وكلّ واحد بعينه جائزٌ أن يموت في الحال، فينبغي أن يكون متأهّبًا لذلك، فيكتب وصيّته، ويجمع فيها ما يحصل له به الأجر، ويُحبط عنه الوزر، من حقوق اللَّه تعالى، وحقوق عباده. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الوصيّة:

قال العلامة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: لا تجب الوصيّة إلا على من عليه دينٌ، أو عنده وديعةٌ، أو عليه واجبٌ يوصي بالخروج منه؛ فإن اللَّه تعالى فرض أداء الأمانات، وطريقه في هذا الباب الوصيّة، فتكون مفروضة عليه، فأما الوصيّة بجزء من ماله، فليست بواجبة على أحد، في قول الجمهور، وبذلك قال الشعبيّ، والنخعيّ، والثوريّ، ومالك، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، وغيرهم. وقال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أن الوصيّة غير واجبة، إلا على من عليه حقوق بغير بيّنة، وأمانة بغير إشهاد، إلا طائفة شذّت، فأوجبتها. روي عن الزهريّ أنه قال: جعل اللَّه الوصيّة حقًّا مما قلّ، أو كثُر. وقيل لأبي مِجْلَز: على كلّ ميت وصيّةٌ؟ قال: إن ترك خيرًا. وقال أبو بكر عبد العزيز: هي واجبةٌ للأقربين الذين لا يرثون. وهو قول داود. وحُكي ذلك عن مسروق، وطاوس، وإياس، وقتادة، وابن جرير. واحتجّوا بالآية، وخبر ابن عمر، وقالوا: نُسخت الوصيّة للوالدين والأقربين الوارثين، وبقيت فيمن لا يرث من الأقربين.

واحتجّ الأولون بأن أكثر أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يُنقل عنهم وصيّةٌ، ولم يُنقل لذلك

ص: 91

نكير، ولو كانت واجبةً لم يُخلّوا بذلك، ولنُقِل عنهم نقلاً ظاهرًا. انتهى المقصود من كلام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال في "الفتح": واستدلّ بحديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - المذكور في الباب مع ظاهر آية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} الآية [البقرة: 18] على وجوب الوصيّة، وبه قال الزهريّ، وأبو مِجْلّز، وعطاء، وطلحة بن مصرّف في آخرين، وحكاه البيهقيّ عن الشافعيّ في القديم، وبه قال إسحاق، وداود، واختاره أبو عوانة الإسفراينيّ، وابن جرير، وآخرون. ونسب ابن عبد البرّ القول بعدم الوجوب إلى الإجماع، سوى من شذّ. كذا قال.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "كذا قال" إشارة من صاحب "الفتح" إلى الاعتراض على ابن عبد البرّ في دعواه الإجماع، وهو حقيقٌ بالاعتراض عليه، كيف يدّعي الإجماع، وقد سبق قول كثير من أهل العلم به، إن هذا لهو العجب. واللَّه تعالى أعلم.

قال: واستُدلّ لعدم الوجوب من حيث المعنى؛ لأنه لو لم يوص لقُسم جميع ماله بين ورثته بالإجماع، فلو كانت الوصيّة واجبة لأخرج من ماله سهم ينوب عن الوصيّة.

وأجابوا عن الآية بأنها منسوخة، كما قال ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -:"كان المال للولد، وكانت الوصيّة للوالدين، فنسخ اللَّه من ذلك ما أحبّ، فجعل لكلّ واحد من الأبوين السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع" رواه البخاريّ.

وأجاب من قال بالوجوب بأن الذي نسخ الوصيّة للوالدين والأقارب الذين يرثون، وأما الذي لا يرث، فليس في الآية، ولا في تفسير ابن عبّاس ما يقتضي النسخ في حقّه.

وأجاب من قال بعدم الوجوب عن قوله في الحديث: "ما حقّ امرئ" بأن المراد الحزم والاحتياط؛ لأنه قد يفجؤه الموت، وهو على غير وصيّة، ولا ينبغي للمؤمن أن يغفل عن ذكر الموت والاستعداد له، وهذا عن الشافعيّ. وتال غيره: الحقّ لغةً الشيء الثابت، وُيطلق شرعًا على ما ثبت به الحكم، والحكم الثابت أعمّ من أن يكون واجبًا، أو مندوبًا، وقد يُطلق على المباح أيضًا، لكن بقلّة. قاله القرطبيّ. قال: فإن اقترن به "على"، أو نحوها، كان ظاهرًا في الوجوب، وإلا فهو على الاحتمال. وعلى هذا التقدير فلا حجة في هذا الحديث لمن قال بالوجوب، بل اقترن هذا الحقّ بما يدلّ على

(1)

"المغني" 8/ 390 - 391. "كتاب الوصيّة".

ص: 92

الندب، وهو تفويض الوصيّة إلى إرادة الموصي، حيث قال:"له شيء يريد أن يوصي فيه"، فلو كانت الوصيّة واجبة، لما علّقها بإرادته.

وأما الجواب عن الرواية التي بلفظ "لا يحلّ" فلاحتمال أن يكون راويها ذكرها، وأراد بنفي الحلّ ثبوت الجواز بالمعنى الأعمّ الذي يدخل تحته الواجب، والمندوب، والمباح.

واختلف القائلون بوجوب الوصيّة، فأكثرهم ذهب إلى وجوبها في الجملة، وعن طاوس، وقتادة، والحسن، وجابر بن زيد في آخرين: تجب للقرابة الذين لا يرثون خاصة. أخرجه ابن جرير وغيره عنهم، قالوا: فإن أوصى لغير قرابته لم تنفذ، ويردّ الثلث كلّه إلى قرابته، وهذا قول طاوس، وقال الحسن، وجابر بن زيد: ثلثا الثلث.

وقال قتادة: ثلث الثلث. وأقوى ما يردّ على هؤلاء ما احتجّ به الشافعيّ من حديث عمران بن حُصين - رضي اللَّه تعالى عنهما - في قصّة الذي أعتق عند موته ستّة أعبد له، لم يكن له مالٌ غيرهم، فدعاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجزّأهم ستة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرقّ أربعة. قال: فجعل عتقه في المرض وصيّةً، ولا يقال: لعلّهم كانوا أقارب المعتق؛ لأنا نقول: لم تكن عادة العرب أن تملك من بينها وبينه قرابة، وإنما تملك من لا قرابة له، أو كان من العجم، فلو كانت الوصية تبطل لغير القرابة لبطلت في هؤلاء. وهذا استدلالٌ قويّ. واللَّه أعلم.

ونقل ابن المنذر عن أبي ثور أن المراد بوجوب الوصية في الآية والحديث، يختصّ بمن عليه حقّ شرعيّ، يَخشَى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به، كوديعة، ودين للَّه، أو لآدميّ، قال: ويدلّ على ذلك تقييده بقوله: "له شيء يريد أن يوصي فيه"؛ لأنه فيه إشارة إلى قدرته على تنجيزه، ولو كان مؤجّلاً، فإن أراد ذلك ساغ له، وإن أراد أن

يوصي به ساغ له.

وحاصله يرجع إلى قول الجمهور: إن الوصيّة غير واجبة لعينها، وإن الواجب لعينه الخروج من الحقوق الواجبة للغير، سواء كانت بتنجيز، أو وصيّة، ومحلّ وجوب الوصيّة إنما هو فيما إذا كان عاجزًا عن تنجيز ما عليه، وكان لم يعلم بذلك غيره، ممن يثبت الحقّ بشهادته، فأما إذا كان قادرًا، أو علم بها غيره، فلا وجوب.

وعُرف من مجموع ما ذكرنا أن الوصيّة قد تكون واجبةً، وقد تكون مندوبةً فيمن رجا منها كثرة الأجر، ومكروهةً في عكسه، ومباحة فيمن استوى الأمران فيه، ومحرّمة فيما إذا كان فيها إضرارٌ، كما ثبت عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -:"الأضرار في الوصيّة من الكبائر". رواه سعيد بن منصور موقوفًا بإسناد صحيح. ورواه النسائيّ،

ص: 93

ورجاله ثقات.

واحتجّ ابن بطّال تبعا لغيره بأن ابن عمر لم يوص، فلو كانت الوصيّة واجبةً لما تركها، وهو راوي الحديث. وتُعُقّب بأن ذلك إن ثبت عن ابن عمر، فالعبرة بما روى، لا بما رأى، على أن الثابت عنه في "صحيح مسلم"، كما تقدّم أنه قال:"لم أبت ليلةً إلا ووصيّتي مكتوبةٌ عندي". والذي احتجّ بأنه لم يوص اعتمد على ما رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، قال:"قيل لابن عمر في مرض موته: ألا توصي؟ قال: أما مالي، فاللَّه يعلم ما كنت أصنع فيه، وأما رِبَاعي، فلا أحبّ أن يُشارك ولدي فيها أحد". أخرجه ابن المنذر وغيره بإسناد صحيح.

ويُجمع بينه وبين ما رواه مسلم بالحمل على أنه كان يكتب وصيّته، ويتعاهدها، ثم صار يُنجز ما كان يوصي به معلّقًا، وإليه الإشارة بقوله: فاللَّه يعلم ما كنت أصنع في مالي. ولعلّ الحامل له على ذلك حديثه الذي أخرجه البخاريّ من طريق الأعمش، قال: حدثني مجاهد، عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنه، قال: أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال:"كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل"، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت، فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.

فصار يُنجز ما يريد التصدّق به، فلم يَحتج إلى تعليق. وقد علّق البخاريّ في "الوصايا"، قال:"وجعل ابن عمر نصبيه من دار عمر سُكنى لذوي الحاجات من آل عبد اللَّه". وقد وصله ابن سعد بمعناه، وفيه. "أنه تصدّق بداره محبوسة، لا تباع، ولا توهب". فبهذا يحصل التوفيق. أفاده في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر أن الأرجح هو ما ذهب إليه الجمهور من أن الوصيّة قد تكون واجبة، كالوصيّة بحقوق اللَّه تعالى الواجبة، وحقوق الآدميين، وقد تكون غير واجبة، فالأدلة التي تقتضي الوجوب تحمل على ما إذا كان عليه حقّ واجب، وبهذا تجتمع الأدلّة الواردة في هذا الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، لراليه المرجع، والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في قدر المال الذي تشرع فيه الوصيّة: قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف السلف في مقدار المال الذي تستحب فيه الوصيّة، أو تجب عند من أوجبها، فروي عن عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه

(1)

"فتح" 6/ 7 - 8. "كتاب الوصايا".

ص: 94

قال: ستمائة درهم، أو سبعمائة درهم ليس بمال، فيه وصيّة، وروي عنه أنه قال: ألف درهم مالٌ، فيه وصيّة. وقال ابن عبّاس: لا وصيّة في ثمانمائة درهم. وقالت عائشة في امرأة لها أربعة من الولد، ولها ثلاثة آلاف درهم: لا وصية في مالها. وقال إبراهيم النخعيّ: ألف درهم إلى خمسمائة درهم. وقال قتادة في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} الخير ألف، فما فوقها. وعن عليّ: من ترك مالاً يسيرًا، فليدعه لورثته، فهو أفضل.

وعن عائشة فيمن ترك ثمانمائة لم يترك خيرًا، فلا يوصي، أو نحو هذا من القول. وحكى ابن حزم عن عائشة أنها قالت فيمن ترك أربعمائة دينار: ما في هذا فضل عن ولده. وقال أبو الفرج السرخسيّ من الشافعيّة: إن من قلّ ماله، وكثر عياله يستحبّ أن لا يفوّته عليهم بالوصيّة. والصحيح المعروف عند الشافعيّة استحباب الوصيّة لمن له مالّ مطلقًا انتهى كلام وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال العلامة ابن قدامة بعد أن حكى نحو الخلاف المذكور: ما نصّه: والذي يَقْوَى

عندي أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة، فلا تستحبّ الوصيّة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم علّل المنع من الوصيّة بقوله:"أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة"؟ ولأن إعطاء القريب المحتاج خير من إعطاء الأجنبيّ، فمتى لم يبلغ الميراث غناهم، كان تركه لهم كعطيّتهم إياه، فيكون ذلك أفضل من الوصيّة لغيرهم، فعند هذا يختلف الحال باختلاف الورثة في كثرتهم وقلّتهم، وغناهم، وحاجتهم، فلا يتقيّد بقدر من المال. واللَّه أعلم انتهى كلام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى- تفصيلٌ حسن جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3643 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ يُوصَى فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح،- وتقدّموا غير مرّة. و"محمد بن سلمة": هو المراديّ الجمليّ، أبو الحارث المصريّ الثقة، و"ابن القاسم": هو عبد الرحمن الْعُتقيّ المصريّ.

وقوله: "يبيت ليلتين": أصله أن يبيت فيؤوّل بالمصدر، أي ما حقّه بيتوتة ليلتين، إلا

(1)

"طرح التثريب" 6/ 188 - 189.

(2)

"المغني" 8/ 392 - 393.

ص: 95

بهذه الصفة، ويدلّ لك تصريحه بذلك في الرواية السابقة، وحذف "أن" ورفع الفعل قياس على الصحيح؛ لوقوعه في القرآن، كقوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية [الروم: 24].

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3644 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن حاتم بن نُعيم": هو المروزيّ الثقة.

و"حِبّان" -بكسر المهملة- ابن موسى، أبو محمد المروزيّ الثقة. و "عبد اللَّه". هو ابن المبارك. و"ابن عون": هو عبد اللَّه بن عون بن أرطبان.

وقوله. "قوله" أي موقوفًا عليه، ولا يضرّ وقفه؛ لأن الأكثرين على رفعه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3645 -

(أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: فَإِنَّ سَالِمًا أَخْبَرَنِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، تَمُرُّ عَلَيْهِ ثَلَاثُ لَيَالٍ، إِلاَّ وَعِنْدَهُ وَصِيَّتُهُ» ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ ذَلِكَ: إِلاَّ وَعِنْدِي وَصِيَّتِي).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة. "يونس بن عبد الأعلى": هو الصدَفيّ المصريّ. و"يونس" الثاني: هو ابن يزيد الأيليّ.

وقوله: "ما مرّت عليّ الخ" هكذا نسخ "المجتبى"، فيوهم أن فاعل "مرّت" ضمير "ثلاث ليال"، وليس كذلك؛ بل الصواب أنه سقط من النسخ لفظة "ليلةٌ"، وهو الفاعل، وقد وقع في "الكبرى" على الصواب، ولفظه:"ما مرّت عليّ ليلة الخ"، وهو الذي في "صحيح مسلم". فتنبّه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3646 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْوَزِيرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ، يُوصَى فِيهِ، فَيَبِيتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ، إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ»).

ص: 96

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن يحيى بن الوزير بن سليمان": هو التُّجِيبيّ، أبو عبد اللَّه المصريّ الثقة [11] 42/ 2690.

وقوله: "فيبيت الخ" الظاهر أن الفاء زائدة، كما تقدّم تقريره.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌2 - (هَلْ أَوْصَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

-؟)

3647 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى، أَوْصَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ ، قَالَ: لَا، قُلْتُ: كَيْفَ كَتَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّةَ؟ ، قَالَ: أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسماعبل بن مسعود) الْجَحْدريّ، أبو مسعود البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(خالد بن الحارث) الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(مالك بن مِغْول) -بكسر، فسكون- أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة ثبت، من كبار [7] 98/ 127.

4 -

(طلحة) بن مصرّف بن عمرو بن كعب اليماميّ الكوفيّ الثقة القارئ الفاضل [5] 191/ 306.

5 -

(ابن أي أوفى) هو عبد اللَّه بن أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث الأسلميّ الصحابيّ، شهد الحديبية، وعُمّر بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم دهرًا، ومات سنة (87)، وهو آخر من مات من الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم - بالكوفة. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، وخالد، فبصريان. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 97

شرح الحديث

عن طلحة بن مصرّف -رحمه اللَّه تعالى-، أنه (قال: سَأَلْتُ) عبد اللَّه (ابْنَ أَبِي أَوْفَى) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَوْصَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) بتقدير همزة الاستفهام، أي أأوصى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشيء؟ (قَالَ) ابن أبي أوفى - رضي اللَّه تعالى عنه - (لَا) هكذا أطلق الجواب، وكأنه فهم أن السؤال وقع عن وصيّة خاصّة، فلذلك ساغ نفيها، لا أنه أراد نفي الوصية مطلقًا؛ لأنه أثبت بعد ذلك أنه أوصى بكتاب اللَّه. قاله في "الفتح"

(1)

.

(قُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ) بالبناء للمفعول، أي كيف أوجب اللَّه تعالى (عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّةُ؟) بالرفع على أنه نائب فاعل "كُتِبَ" ولفظ البخاريّ:"كيف كُتب على الناس الوصيّة؟، أو أمروا بالوصيّة؟ ". وهو شكّ من الراوي، هل قال:"كيف كُتب على الناس الوصيّة؟!، أو قال: كيف أُمروا بها؟. زاد البخاري في "فضائل القرآن" من "صحيحه": "ولم يوص". قال في "الفتح": وبذلك يتمّ الاعتراض، أي كيف يؤمر المسلمون بشيء، ولا يفعله النبيّ صلى الله عليه وسلم؟.

قال النوويّ: لعلّ ابن أبي أوفى أراد لم يوص بثلث ماله؛ لأنه لم يترك بعده مالاً، وأما الأرض، فقد سبّلها في حياته، وأما السلاح، والبغلة، ونحو ذلك، فقد أخبر بأنها لا تورث عنه، بل جميع ما يخلفه صدقة، فلم يبق بعد ذلك ما يوصي به من الجهة المالية. وأما الوصايا بغير ذلك، فلم يرد ابن أبي أوفى - رضي اللَّه تعالى عنه - نفيها.

ويحتمل أن يكون المنفيّ وصيّته إلى عليّ بالخلافة، كما وقع التصريح به في حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - الآتي، ويؤيّده ما وقع في رواية الدارميّ، وابن ماجه، وأبي عوانة في آخر هذا الحديث: قال طلحة: فقال هُزَيل بن شُرَحْبيل: أبو بكر كان يتأمّر على وصيّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ودّ أبو بكر أنه كان وجد عهدًا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فخزم أنفه بخزام. وهُزيل هذا بالزاي مصغّرًا أحد كبار التابعين، ومن ثقات أهل الكوفة. فدلّ هذا على أنه كان في الحديث قرينة تُشعر بتخصيص السؤال بالوصيّه بالخلافة، ونحو ذلك، لا مطلق الوصيّة.

وأخرج ابن حبّان الحديث من طريق ابن عُيينة، عن مالك بن مغول، بلفظ يزيل الإشكال، فقال:"سُئل ابن أبي أوفى، هل أوصى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما ترك شيئًا يوصي فيه، قيل: فكيف أُمر الناس بالوصية، ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب اللَّه".

وقال القرطبيّ: استبعاد طلحة واضحٌ؛ لأنه أطلق، فلو أراد شيئًا بعينه لخصّه به،

(1)

"فتح" 6/ 9. "كتاب الوصايا".

ص: 98

فاعترضه بأن اللَّه كتب على المسلمين الوصيّة، وأُمروا بها، فكيف لم يفعلها النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فأجابه بما يدلّ على أنه أطلق في موضع التقييد، قال: وهذا يُشعر بأن ابن أبي أوفى، وطلحة بن مصرّف كانا يعتقدان أن الوصيّة واجبة. كذا قال. قاله في "الفتح".

(قَالَ: أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ) أي بالتمسّك به، والعمل بمقتضاه، ولعلّه أشار لقوله صلى الله عليه وسلم:"تركتُ فيكم ما إن تمسّكتم به لم تضلّوا، كتاب اللَّه". وأما ما صحّ في مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم "أوصى عند موته بثلاث: لا يَبقينّ بجزيرة العرب دينان"، وفي لفظ:"أخرجوا اليهود من جزيرة العرب"، وقوله:"أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أُجيزهم به"، ولم يذكر الراوي الثالثة، وكذا ما ثبت في النسائيّ أنه صلى الله عليه وسلم:"كان آخر ما تكلّم به الصلاة، وما ملكت أيمانكم"، وغير ذلك من الأحاديث التي يمكن حصرها بالتتبّع، فالظاهر أن ابن أبي أوفى لم يُرد نفيه، ولعلّه اقتصر على الوصيّة بكتاب اللَّه لكونه أعظم، وأهمّ، ولأن فيه تبيان كلّ شيء، إما بطريق النصّ، وإما بطريق الاستنباط، فإذا اتّبع الناس ما في كتاب اللَّه، عملوا بكلّ ما أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم به؛ لقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية [الحشر: 7]، أو يكون لم يَحْضُر شيئًا من الوصايا المذكورة، أو لم يستحضرها حال قوله.

والأولى أنه إنما أراد بالنفي الوصيّة بالخلافة، أو بالمال، وساغ إطلاق النفي، أما في الأول، فبقرينة الحال، وأما في الثاني، فلأنه المتبادر عرفًا. وقد صحّ عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - "أنه صلى الله عليه وسلم لم يوص". أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أرقم بن شُرَحبيل عنه، مع أن ابن عبّاس هو الذي روى حديث أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بثلاث، والجمع بينهما على ما تقدّم.

وقال الكرمانيّ: قوله: "أوصى بكتاب اللَّه" الباء زائدة، أي أمر بذلك، وأطلق الوصيّة على سبيل المشاكلة، فلا منافاة بين النفي والإثبات.

قال الحافظ: ولا يخفى بُعدُ ما قال، وتكلّفه، ثم قال الكرمانيّ: أو المنفيّة الوصيّة بالمال، أو الإمامة، والمثبت الوصيّة بكتاب اللَّه، أي بما في كتاب اللَّه أن يعمل به انتهى. قال الحافظ: وهذا الأخير هو المعتمد. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

"فتح" 6/ 9 - 11. "كتاب الوصايا".

ص: 99

حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 2/ 3647 - وفي "الكبرى" 2/ 6447. وأخرجه (خ) في "الوصايا" 2740 و "المغازي" 4460 و"فضائل القرآن" 5022 (م) في "الوصايا" 1634 (ت) في "الوصايا" 2119 (ق) في "الوصايا" 2696 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 18644 و 18656 و 18918 (الدارمي) في "الوصايا" 3180. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواب من سأل بـ "هل أوصى النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ ". (ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الإعراض عن الدنيا، بحيث إنه لم يترك شيئًا يوصي به، بل خرج فارغ القلب واليد منها. (ومنها): شدّة عنايته صلى الله عليه وسلم بالتمسّك بكتاب اللَّه تعالى، بحيث إنه كان من أواخر ما أوصى به أمته. (ومنها): ما كان عليه السلف - رضي اللَّه تعالى عنهم - من البحث عن سنته صلى الله عليه وسلم، ولو في حال موته، حتى يستنّوا بها، ويحكّموها في جميع أحوالهم، محياهم، ومماتهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3648 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُفَضَّلٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، وَلَا شَاةً، وَلَا بَعِيرًا، وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه أحمد ابن حرب، فإنه من أفراده، وهو ثقة.

و"مفضّل": هو ابن مهَلْهَل السعديّ الكوفيّ الثقة الثبت النبيل العابد. و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير. و"شقيق": هو ابن سلمة، أبو وائل.

وقولها: "ولا أوصى بشيء" أي مما يتعلّق بالمال، أو بأمر الخلافة.

وشرح الحديث تقدّم مستوفًى في شرح حديث عمرو بن الحارث - رضي اللَّه تعالى - عنه - في أول "كتاب الإحباس" 1/ 3621. فِراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.

ص: 100

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه.

أخرجه هنا-2/-3648 و 3649 و3650 - وفي "الكبرى" 2/ 6448 و6449 و6450. وأخرجه (م) في "الوصايا" 1635 (د) في "الوصايا" 2863 (ق) في "الوصايا" 2695 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23656 و24532 و24992 و25011. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3649 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُصْعَبٌ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارًا، وَلَا شَاةً، وَلَا بَعِيرًا، وَمَا أَوْصَى).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "مصعب": هو ابن الْمِقَدام الخَثعَمِيّ مولاهم، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، صدوقٌ، له أوهام [9] 49/ 2720.

و"داود": هو ابن نُصَير، أبو سليمان الطائيّ الكوفيّ الثقة الفقيه الزاهد [8] 74/ 1003.

والحديث أخرجه مسلم، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3650 -

(أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْهُذَيْلِ، وَأَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارًا، وَلَا شَاةً، وَلَا بَعِيرًا، وَلَا أَوْصَى، لَمْ يَذْكُرْ جَعْفَرٌ دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: " جعفر بن محمد بن الْهُذَيل" الكوفيّ، أبو عبد اللَّه الْقَنّاد، ابن بنت أبي أُسامة، ثقة، صاحب حديث [11].

قال النسائيّ: ثقة. وقال مسلمة بن قاسم: كوفيّ، صاحب حديث، كيّس. قال مطيق: مات سنة (260)، تفرّد به المصنّف بحديثين: هذا الحديث، و-22/ 4114 - حديث "من قُتل دون ماله فهو شهيد".

و"أحمد بن يوسف" بن خالد الْمُهلّبيّ الأزديّ، أبو الحسن السُّلّميّ النيسابوريّ، المعروف بحمدان، حافظ ثقة [11].

قال النسائيّ: ليس به بأس. وقال مرّة: صالح. وقال الدارقطنيّ: ثقة نَبيل. وقال الخليلي: ثقة مأمون. وقال مسلمة: لا بأس به. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان راويًا لعبد الرزّاق، ثبتًا فيه. مات سنة (264) وقيل: سنة (263) وله إحدى

ص: 101

وثمانون سنة. روى عنه الجماعة، سوى البخاريّ، والترمذىّ، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

و"عاصم بن يوسف": هو اليربوعيّ، أبو عمرو الخيّاط الكوفيّ، ثقة، من كبار [10] 67/ 2322.

و"حسن بن عيّاش": هو الأسديّ، أبو محمد الكوفيّ، أخو أبي بكر بن عيّاش المقرىءِ، صدوقٌ [8] 14/ 1390.

وقوله: "لم يذكر جعفر الخ" يعني أن شيخه جعفرًا لم يذكر في روايته قولها: "دينارًا، ولا درهما"، وإنما ذكره شيخه أحمد بن يوسف.

[تنبيه]: ذكر المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "الكبرى": ما نصّه: قال أبو عبد الرحمن: الصواب حديث أبي معاوية، ومفضل، وداود، وحديث ابن عيّاش لا نعلم أحدًا تابعه على قوله:"عن إبراهيم، عن الأسود". انتهى.

يعني أن أصحاب الأعمش اختلفوا عليه في هذا الحديث، فرواه أبو معاوية، ومفضّل ابن مهلهل، وداود بن نُصير، ثلاثتهم عن الأعمش، عن مسروق، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -. وخالفهم حسن بن عيّاش، فرواه عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عنها. والمحفوظ رواية الجماعة، وأما رواية حسن بن عياش، فتعتبر شاذّة، وهذا بالنسبة لإسناده، وأما متن الحديث فإنه صحيح، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3651 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَزْهَرُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: يَقُولُونَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه، لَقَدْ دَعَا بِالطَّسْتِ لِيَبُولَ فِيهَا، فَانْخَنَثَتْ نَفْسُهُ صلى الله عليه وسلم، وَمَا أَشْعُرُ، فَإِلَى مَنْ أَوْصَى).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث أخرجه البخاريّ، وقد تقدّم في "الطهارة" -29/ 33 - "البول في الطّست" سندًا ومتنًا، وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، وللَّه الحمد، وله المنّة والفضل.

و"عمرو بن عليّ": هو الفلاّس. و"أزهر": هو ابن سعد السمان البصري ثقة [9].

و"بن عون": هو عبد اللَّه.

وقولها: "بالطست": إناء من صفر، ويقال فيها: الطسّ بتشديد السين المهملة. وقولها: "فانخنثت نفسه" أي مالت ذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم، قال في "النهاية": أي فانثنى، وانكسر؛ لاسترخاء أعضائه صلى الله عليه وسلم عند الموت. انتهى.

ص: 102

وقولها: "وما أشعُر" بضمّ العين المهملة، من باب قعد: أي ما أعلم.

وقولها: "فإلى من أوصى" أي إلى أيّ شخص أوصى صلى الله عليه وسلم، تريد بذلك الإنكار على من يزعم بهتانًا، وزورًا أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة إلى عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه -. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3652 -

(أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَارِمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ غَيْرِي، قَالَتْ: وَدَعَا بِالطَّسْتِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن سليمان": هو أبو الحسين الرُّهاويّ الثقة الحافظ [11] من أفراد المصنّف.

[تنبيه]: هكذا في نسحْ "المجتبى""أحمد بن سليمان"، ووقع في "الكبرى" بدله "أحمد بن سفيان النسائيّ، وأصله مروزيّ".

قال الحافظ أبو الحجّاج المزيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "تحفة الأشراف": كذا في رواية ابن السّنّيّ: "أحمد بن سليمان"، وفي رواية حمزة بن محمد الكناني "أحمد بن سفيان"، وفي رواية أبي الحسن بن حيويه "أحمد بن نصر". انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لعلّ المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- روى هذا الحديث عن الثلاثة كلّهم، فكان يحدّث عنهم، فإن الثلاثة من مشايخه الذين يروي عنهم بلا واسطة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

و"عارم": هو محمد بن الفضل السدوسيّ، أبو النعمان البصريّ الثقة الثبت [9]

و"ابن عون": هو عبد اللَّه بن عون بن أرطبان.

والحديث أخرجه البخاري، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌3 - (بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ)

أي هذا باب في ذكر الأحاديث الدّالّة على مشروعيّة الوصية بالثلث.

قال في "الفتح": واستقرّ الإجماع على منع الوصيّة بازيد من الثلث، لكن اختُلف فيمن كان له وارث، وسيأتي تحريره في "باب إبطال الوصيّة لوارث"، وفيمن لم يكن له

ص: 103

وارث خاصّ، فمنعه الجمهور، وجوّزه الحنفيّة، وإسحاق، وشَريك، وأحمد في رواية" وهو قول عليّ، وابن مسعود، واحتجّوا بأن الوصيّة مطلقةٌ بالآية، فقيّدتها السنّة بمن له وارثٌ، فيبقى من لا وارث له على الإطلاق.

واختلفوا أيضًا هل يُعتبر ثلث المال حال الوصيّة، أو حال الموت؟ على قولين، وهما وجهان للشافعيّة، أصخهما الثاني، فقال بالأول مالكٌ، وأكثر العراقيين، وهو قول النخعيّ، وعمر بن عبد العزيز. وقال بالثاني أبو حنيفة، وأحمد، والباقون، وهو قول عليّ بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه -، وجماعة من التابعين.

وتمسّك الأولون بأن الوصيّة عقد، والعقود تُعتبر بأولها، وبأنه لو نذر أن يتصدّق بثلث ماله اعتُبر ذلك حالة النذر اتفاقًا.

وأجيب بأن الوصيّة ليست عقدًا من كلّ جهة، ولذلك لا تُعتبر بها الفوريّة، ولا القبول، وبالفرق بين النذر والوصيّة بأنها يصحّ الرجوع عنها، والنذر يلزم.

وثمرة هذا الخلاف تظهر فيما لو حدث له مالٌ بعد الوصيّة.

واختلفوا أيضًا هل يُحسب الثلث من جميع المال، أو ينفّذ بما علمه الموصي، دون ما خفي عليه، أو تجدّد له، ولم يعلم به؟، وبالأول قال الجمهور، وبالثاني قال مالك.

وحجة الجمهور أنه لا يشترط أن يستحضر تعداد مقدار المال حالة الوصيّة اتفاقّا، ولو كان عالماً بجنسه، فلو كان العلم به شرطًا لما جاز ذلك. انتهى "فتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3653 -

(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَرِضْتُ مَرَضًا، أَشْفَيْتُ مِنْهُ، فَأَتَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي مَالاً كَثِيرًا، وَلَيْسَ يَرِثُنِي، إِلاَّ ابْنَتِي، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ ، قَالَ: «لَا» ، قُلْتُ: فَالشَّطْرَ؟ ، قَالَ: «لَا» ، قُلْتُ: فَالثُّلُثَ؟ ، قَالَ: «الثُّلُثَ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَتْرُكَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ لَهُمْ، مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً، يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن عثمان بن سعيد) بن كثير بن دينار القرشي مولاهم، أبو حفص الحمصيّ صدوق [10] 21/ 535.

2 -

(سفيان) بن عيينة، أبو محمد المكي الإمام الثبت الحجة [8] 1/ 1.

(1)

"فتح" 6/ 20 - 21.

ص: 104

3 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم أبو بكر المدني الإمام الحجة الفقيه الثبت [4] 1/ 1.

4 -

(عامر بن سعد) بن أبي وقاص الزهريّ المدنيّ الثقة [3] 38/ 679 مات سنة (104).

5 -

(أبوه) سعد بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب

الزهريّ، أبو إسحاق، مات سنة بالعَقيق سنة (55) على المشهور. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو وأبو داود، وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فحمصي، وسفيان، فمكيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه. (ومنها): أن صحابيه أحد العشرة المبشّرين بالجنة، وأول من رمى بسهم في سبيل اللَّه، وآخر من مات من العشرة، مات سنة (55) على الأصحّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ، عَنْ أَبِيهِ) سعد بن أبي وقاص - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: مَرِضْتُ مَرَضًا) من باب تَعِبَ (أَشْفَيْتُ مِنْهُ) وفي رواية للبخاريّ: "من وجع أشفيت منه على الموت". أي قاربت الموت من أجل شدّته. يقال: أشفى، وأشاف بمعنى واحد، قاله الهرويّ. وقال القُتَبيّ: لا يقال: أشفى إلا على شرّ. قاله القرطبيّ

(1)

.

(فَأَتَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي) أي يزورني، يقال: عُدتّ المريض عِيَادةً: زُرتُهُ، فالرجل عائد، وجمعه عُوّادٌ، والمرأة عائدةٌ، وجمعها عُوّدٌ بغير ألف. قاله الفيّوميّ. وقال القرطبيّ: ولا يقال ذلك إلا لزيارة المريض، فأما الزيارة، فأكثرها للصحيح، وقد تقال للمريض. وأما قوله تعالى:{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 2] فكناية عن الموت. انتهى

(2)

.

وفي الرواية التالية: "جاءني النبيّ صلى الله عليه وسلم يعودني، وأنا بمكّة". زاد في رواية للبخاريّ: "في حجة الوداع من وجع اشتدّ بي". قال في "الفتح": واتفق أصحاب الزهريّ على أن ذلك كان في حجة الوداع، إلا ابن عيينة، فقال:"في فتح مكّة"، أخرجه الترمذيّ وغيره من طريقه، واتّفق الحفّاظ على أنه وَهِمَ فيه. وقد أخرجه البخاريّ في "الفرائض" من

(1)

"المفهم" 4/ 543.

(2)

"المفهم" 4/ 543.

ص: 105

طريقه، فقال:"بمكّة"، ولم يذكر الفتح، قال الحافظ: وقد وجدت لابن عيينة مستندًا فيه، وذلك فيما أخرجه أحمد

(1)

، والبزّار، والطبرانيّ، والبخاريّ في "التاريخ"، وابن سعد من حديث عمرو بن القاري "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَدِمَ، فخلّف سعدًا مريضًا، حيث خرج إلى حُنين، فلما قدِم من الجعرانة، معتمرًا، دخل عليه، وهو مغلوبٌ، فقال: يا رسول اللَّه إن لي مالاً، وإني أورث كلالةً، أفأوصي بمالي

" الحديث، وفيه: قلت: يا رسول اللَّه، أموت أنا بالدار التي خرجت منها مهاجرًا؟، قال: لا، إني لأرجو أن يرفعك اللَّه حتى ينتفع بك أقوام

" الحديث، فلعلّ ابن عيينة انتقل ذهنه من حديث إلى حديث، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ذلك وقع له مرّتين: مرّة عام الفتح، ومرّةً عام حجة الوداع، ففي الأولى لم يكن له وارثٌ من الأولاد أصلاً، وفي الثانية كانت له ابنةٌ فقط، فاللَّه أعلم قاله في "الفتح"

(2)

.

وفي رواية سعد بن إبراهيم الآتية بعد حديث: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعوده، وهو بمكة، وهو يكره أن يموت بالأرض الذي هاجر منها، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"رحم اللَّه سعد بن عفراء، أو يرحم اللَّه سعد بن عفراء".

(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَالاً كثِيرًا، وَلَيْسَ يَرِثُنِي، إِلاَّ ابْنَتِي) قال النوويّ وغيره: معناه لا يرثني من الولد، أو من خواصّ الورثة، أو من النساء، وإلا فقد كان لسعد عصبات؛ لأنه من بني زُهرة، وكانوا كثيرًا. وقيل: معناه لا يرثني من أصحاب الفروض، أو خصّها بالذكر على تقدير: لا يرثني ممن أخاف عليه الضَّيَاع والعجز إلا هي، أو ظنّ أنها ترث جميع المال، أو استكثر لها نصف التركة،

قال الحافظ: وهذه البنت زعم بعض من أدركناه أن اسمها عائشة، فإن كان محفوظًا، فهي غير عائشة بنت سعد التي روت هذا الحديث عنه عند البخاريّ، وهي

(1)

ونصّ أحمد في "مسنده":

16148 -

قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا وهيب، حدثنا عبد اللَّه بن عثمان بن خثيم، عن عمرو بن القاريّ، عن أبيه، عن جده، عمرو بن القاري، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قدم، فخلّف سعدا مريضا، حيث خرج إلى حنين، فلما قدم من جعرانة معتمرا، دخل عليه، وهو وجع مغلوب، فقال: يا رسول اللَّه، إن لي مالا، وإني أورث كلالة، أفأوصي بمالي كله؟، أو أتصدق به؟، قال:"لا"، قال أفأوصي بثلثيه؟ قال:"لا"، قال: أفأوصي بشطره؟، قال:"لا"، قال: أفأوصي بثلثه؟ قال: "نعم، وذاك كثير"، قال: أي رسول اللَّه، أموت بالدار التي خرجت منها مهاجرا؟، قال:"إني لأرجو أن يرفعك اللَّه، فينكأ بك أقواما، وينفع بك آخرين، يا عمرو بن القاري، إن مات سعد بعدي، فها هنا، فادفنه، نحو طريق المدينة"، وأشار بيده هكذا. وإسناده ضعيف؛ لجهالة حال عمرو بن القاري. انظر "المسند" المحقق بإشرات الشيخ شعيب الأرنؤوط جـ 27 ص 125.

(2)

"فتح" 6/ 13.

ص: 106

تابعيّةٌ عُمّرت حتى أدركها مالكٌ، وروى عنها، وماتت سنة سبع عشرة ومائة، لكن لم يذكر أحدٌ من النسّابين لسعد بنتًا تُسمّى عائشة غير هذه، وذكروا أن أكبر بناته أم الحكم الكبرى، وأمها بنت شهاب بن عبد اللَّه بن الحارث بن زُهرة، وذكروا له بنات أخرى أمهاتهنّ متأخّرات الإسلام بعد الوفاة النبويّة، فالظاهر أن البنت المشار إليها هي أم الحكم المذكورة؛ لتقدّم تزويج سعد بأمّها، ولم أر من حرّر ذلك. انتهى

(1)

كلام الحافظ.

(أَفَأَتَصَدَّقُ بثُلُثَي مَالِي؟) وفي الرواية التالية: "أوصي بمالي كلّه". قال الحافظ: فأما التعبير بقوله: "أفاتصدّق"، فيحتمل التنجيز والتعليق، بخلاف "أفاوصي"، لكن المخرج متّحد، فيحمل على التعليق للجمع بين الروايتين، وقد تمسّك بقوله:"أتصدّق" من جعل تبرّعات المريض من الثلث، وحملوه على المنجّزة، وفيه نظرٌ؛ لما بيّنته.

وأما الاختلاف في السؤال، فكأنه سأل أوّلَا عن الكلّ، ثم سأل عن الثلثين، ثم سأل عن النصف، ثم سأل عن الثلث، وقد وقع مجموع ذلك في رواية جرير بن يزيد عند أحمد، وفي رواية بُكير بن مِسمار عن النسائيّ، كلاهما عن عامر بن سعد،، وكذا أوّلهما من طريق محمد بن سعد، عن أبيه، ومن طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعد انتهى.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا) أي لا ينبغي لك أن تتصدّق بثلثي مالك (قُلْتُ: فَالشَّطْرِ؟) بالجرّ عطفًا على قوله: "بثلثي مالي"، أي فأتصدّق بالنصف، وهذا رجّحه السهيليّ، وقال الزمخشريّ: هو بالنصب على تقدير فعل، أي أُسمّي الشطر، أو أُعيّن الشطر. ويجوز الرفع على تقدير: أيجوز الشطرُ.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا، قُلْتُ: فَالثُّلُثَ؟) إعرابه كإعراب "الشطر"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (الثُّلُثَ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) قال في "الفتح": كذا في أكثر الروايات، وفي رواية الزهريّ عند البخاريّ في "الهجرة":"قال: الثلث يا سعد، والثلث كثير"، ولْي رواية مصعب بن سعد، عن أبيه، عند مسلم:"قلت: فالثلث؟ قال: نعم، والثلث كثير"، وفي رواية عائشة بنت سعد، عن أبيها عند البخاريّ:"قال: الثلث، والثلث كبير، أو كثير"، وكذا للنسائيّ-3658 - من طريق أبي عبد الرحمن السُّلَمِيّ، عن سعد، وفيه:"فقال: أوصيتَ؟، فقلت: نعم، قال: بكم؟ قلت: بمالي كلّه، قال: فما تركت لولدك؟ "، وفيه:"أوص بالعشر، قال: فما زال يقول، وأقول، حتى قال: أَوْصِ بالثلث، والثلث كثير، أو كبير". يعني

(1)

"فتح" 6/ 18.

ص: 107

بالمثلّثة، أو بالموحّدة، وهو شكّ من الراوي، والمحفوظ في أكثر الروايات بالمثلّثة، ومعناه: كثيرٌ بالنسبة إلى ما دونه.

فقوله (الثلثَ) بالنصب على أنه مفعولٌ لفعل مضمر، تقديره: أعط الثلثَ، أو أمض، أو نفّذ، أو نحوها، منصوب على الإغراء: أي الزم الثلثَ، واستبعده القرطبيّ، ويجوز الرفع على أنه فاعل لفعل محذوف، أي يكفي الثلث، وضعّفه القرطبيّ، وفي تضعيفه نظر، أوخبر لمبتدإ محذوف، أي الكافي الثلث، أو مبتدأٌ خبره محذوفٌ، أي الثلث كافٍ.

وقوله (والثلث كثير) مبتدأ وخبر، وهو يحتمل أن يكون مسوقًا لبيان الجواز بالثلث، وأن الأولى أن ينقص عنه، ولا يزيد عليه، وهو ما يتبادره الفهم. ويحتمل أن يكون لبيان أن التصدّق بالثلث هو الأكمل، أي كثيرٌ أجره. ويحتمل أن يكون معناه كثيرٌ غير قليل. قال الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-. وهذا أولى معانيه. يعني أن الكثرة أمرٌ نسبيّ، وعلى الأول عول ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، كما سيأتي -3661 - قوله. لو غضّ الناس إلى الربع؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"الثلث والثلث كثير". أفاده في "الفتح"

(1)

.

(إِنَّكَ أَنْ تَترُكَ) بفتح "أَنْ" على التعليل، وبكسرها على الشرطيّة. قال النوويّ: كلاهما صحيح. وقال القرطبيّ: لا معنى للشرط هنا؛ لأنه يصير لا جواب له، ويبقى "خير" لا رافع له. وقال ابن الجوزيّ: سمعناه من رواة الحديث بالكسر، وأنكره شيخنا عبد اللَّه بن أحمد -يعني ابن الخشّاب- وقال: لا يجوز الكسر؛ لأنه لا جواب له؛ لخلوّ لفظ "خير" من الفاء، وغيرها مما اشتُرط في الجواب.

وتُعُقّب بأنه لا مانع من تقديره. وقال ابن مالك: جزاء الشرط قوله: "خير"، أي فهو خيرٌ، وحذفُ الفاءِ جائزٌ، وهو كقراءة طاوس:"ويسألونك عن اليتامى، قل: أَصْلِحْ لهم، خير"، قال: ومن خصّ ذلك بالشعر بَعُدَ عن التحقيق، وضيّق حيث لا تضييق؛ لأنه كثير في الشعر، قليل في غيره. وأشار بذلك إلى ما وقع في الشعر فيما أنشده سيبويه:

مَن يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّه يَشْكُرُهَا

وَالشَّرُّ بِالشَّرُّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَانِ

أي فاللَّه يشكرها، وإلى الرّدّ على من زعم أن ذلك خاصّ بالشعر، قال: ونظيره قوله في حديث اللقطة: "فإن جاء صاحبها، وإلا استمتع بها" بحذف الفاء، وقوله في حديث اللعان:"البيّنة، وإلا حدٌّ في ظهرك" انتهى.

(1)

"فتح" 6/ 15 - 16.

ص: 108

(وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَهُمْ) قال الزين ابن الْمُنَيِّر: إنما عبّر صلى الله عليه وسلم له بلفظ الورثة، ولم يقل: أن تدع بنتك، مع أنه لم يكن له يومئذ إلا ابنة واحدة؛ لكون الوارث حينئذ لم يتحقّق؛ لأن سعدًا إنما قال ذلك بناء على موته في ذلك المرض، وبقائها بعده حتى ترثه، وكان من الجائز أن تموت هي قبله، فأجاب صلى الله عليه وسلم بكلام كليّ، مطابق لكلّ حالة، وهي قوله:"ورثتك" ولم يخصّ بنتًا من غيرها. وقال الفاكهيّ، شارح "العمدة": إنما عبّر صلى الله عليه وسلم بالورثة؛ لأنه اطّلع على أن سعدًا سيعيش، ويأتيه أولادٌ غير البنت المذكورة، فكان كذلك، ووُلد له بعد ذلك أربعة بنين، ولا أعرف أسماءهم، ولعلّ اللَّه أن يفتح عليّ بذلك. انتهى.

قال الحافظ: وليس قوله: "أن تدع بنتك" متعيّنًا؛ لأن ميراثه لم يكن منحصرًا فيها، فقد كان لأخيه عتبة بن أبي وقّاص أولاد إذ ذاك، منهم: هاشم بن عُتبة الصحابيّ الذي قُتل بصفّين، قال: فجاز التعبير بالورثة لتدخل البنت، وغيرها، ممن يرث لو وقع موته إذ ذاك، أو بعد ذلك.

أما قول الفاكهيّ: إنه وُلد له بعد ذلك أربعة بنين، وأنه لا يعرف أسماءهم، ففيه قصور شديد، فإن أسماءهم في رواية هذا الحديث بعينه عند مسلم من طريق عامر، ومصعب، ومحمد، ثلاثتهم عن سعد. ووقع ذكر عمر بن سعد فيه في موضع آخر. ولَمّا وقع ذكر هؤلاء في هذا الحديث عند مسلم اقتصر القرطبيّ على ذكر الثلاثة. ووقع في كلام بعض شيوخنا تعقّبٌ عليه بأن له أربعة من الذكور غير الثلاثة، وهم: عمر، وإبراهيم، ويحيى، وإسحاق، وعزا ذكرهم لابن المدينيّ وغيره، وفاته أن ابن سعد ذكر له من المذكور غير السبعة أكثر من عشرة، وهم: عبد اللَّه، وعبد الرحمن، وعمرو، وعمران، وصالح، وعثمان، وإسحاق الأصغر، وعمر الأصغر، وعمير مصغّرًا، وغيرهم، وذكر له من البنات ثنتي عشرة بنتًا، وكان ابن المدينيّ اقتصر على ذكر من روى الحديث منهم. واللَّه تعالى أعلم.

(مِنْ أَنْ تَترُكَهُمْ عَالَةً) أي فقراء، وهو جمع عالٍ، وهو الفقير، والفعل منه عَالَ يَعِيلُ: إذا افتقر (يتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) أي يسألون الناس بأكفّهم، يقال: تَكَفَّفَ الناسَ، واستكفّ: إذا بسط كفه للسؤال، أو سأل ما يكفّ عنه الجوع، أو سأل كفًّا كفًّا من طعام.

وقال القرطبيّ: "يتكفّفون الناس" يسألون الصدقة من أكُفّ الناس، أو يسألونهم بأكفّهم. انتهى

(1)

.

(1)

"المفهم" 4/ 545.

ص: 109

زاد في الرواية التالية: "في أيديهم" أي بأيديهم، أو سألوا بأكفّهم وضع المسؤول في أيديهم. ووقع في رواية الزهريّ عند البخاريّ: أن سعدًا قال: "وأنا ذو مال"، ونحوه في رواية عائشة بنت سعد عند البخاريّ أيضًا في "الطبّ"، وهذا اللفظ يؤذن بمال كثير، وذو المال إذا تصدّق بثلثه، أو بشطره، وأبقى ثلثه بين ابنته وغيرها، لا يصيرون عالة، لكن الجواب أن ذلك خرج على التقدير؛ لأن بقاء المال الكثير إنما هو على سبيل التقدير، وإلا فلو تصدّق المريض بثلثيه مثلاً، ثم طالت حياته، ونقص، وفنِيَ المال، فقد تُجحف الوصيّة بالورثة، فردّ الشارع الأمر إلى شيء معتدل، وهو الثلث. قاله في "الفتح"

(1)

.

وزاد في رواية سعد بن إبراهيم، عن عامر:"وإنك مهما أنفقتَ من نفقةٍ، فإنها صدقة، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك، وعسى اللَّه أن يرفعك، فينتفع بك ناسٌ، ويضرّ بك آخرون، ولم يكن له يومئذ إلا ابنة".

وقوله: "وإنك مهما أنفقت الخ" معطوف على قوله: "إنك أن تدع"، وهو علّة للنهي عن الوصيّة بأكثر من الثلث، كأنه قيل: لا تفعل؛ لأنك إن متّ، تركتَ ورثتك أغنياء، وإن عِشْتَ تصدّقت، وأنفقت، فالأجر حاصلٌ لك في الحالين.

وقوله: "فإنه صدقة" كذا أطلق في هذه الرواية، وفي رواية الزهريّ:"وإنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه اللَّه، إلا أُجرت بها"، مقيّدة بابتغاء وجه اللَّه، وعلّق حصول الأجر بذلك، وهو المعتبر، ويُستفاد منه أن أجر الواجب يزداد بالنيّة؛ لأن الإنفاق على الزوجة واجبٌ، وفي فعله الأجر، فإذا نوى به ابتغاء وجه اللَّه ازداد أجره بذلك. قاله ابن أبي جمرة، قال: ونّبَّهَ بالنفقة على غيرها، من وجوه البرّ والإحسان.

وقوله: "حتى اللقمةَ" بالنصب عطف على "نفقةً"، ويجوز الرفع، على أنه مبتدأ، و"تجعلها" الخبر.

وقال القرطبيّ: يجوز في "اللقمة" النصب على عطفها على "نفقةً"، وأظهر من ذلك أن تنصبها بإضمار فعل؛ لأن الفعل قد اشتغل عنها بضمير، وهذا كقول العرب:"أكلت السمكة حتى رأسها أكلته"، وقد أجازوا في "رأسها" الرفع، والنصب، والجرّ، وأوضح هذه الأوجه النصب، وأبعدها الخفض، وكلّ ذلك جائز في "حتى اللقمة" ها هنا، فنزِّلْه عليه، والذي قرأت به هذا الحرف النصب، لا غير انتهى

(2)

.

(1)

"فتح" 6/ 17.

(2)

"المفهم" 4/ 546.

ص: 110

ووجه تعلّق قوله: "وإنك لن تنفق نفقة الخ" بقصّة الوصيّة أن سؤال سعد يُشعر بأنه رغب في تكثير الأجر، فلما منعه الشارع من الزيادة على الثلث، قال له على سبيل التسلية: إن جميع ما تفعله في مالك من صدقة، ناجزة، ومن نفقةٍ، ولو كانت واجبةً تؤجر بها، إذا ابتغيت بذلك وجه اللَّه تعالى، ولعلّه خصّ المرأة بالذكر لأن نفقتها مستمرّةٌ، بخلاف غيرها. قال ابن دقيق العيد: فيه أن الثواب في الإنفاق مشروطٌ بصحّة النيّة، وابتغاء وجه اللَّه، وهذا عَسِرٌ إذا عارضه مقتضى الشهوة، فإن ذلك لا يُحَصِّل الغرض من الثواب حتى يبتغي به وجه اللَّه، وسبق تخليص هذا المقصود مما يشوبه، قال: وقد يكون فيه دليلٌ على أن الواجبات إذا أُدّيت على قصد أداء الواجب ابتغاء وجه اللَّه أُثيب عليها، فإن قوله:"حتى ما تجعل في في امرأتك" لا تخصيص له بغير الواجب، ولفظة "حتّى" هنا تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأجر بالنسبة إلى المعنى، كما يقال: جاء الحُجّاج حتى المشاة.

وقوله: "وعسى اللَّه أن يرفعك" أي يُطيل عمرك، وكذلك اتّفق، فإنه عاش بعد ذلك أزيد من أربعين سنةً، بل قريبًا من خمسين؛ لأنه مات سنة (55) من الهجرة، وقيل: سنة (58)، وهو المشهور، فيكون عاش بعد حجة الوداع (45) سنة، أو (48) سنة.

وقوله: "فينتفع بك ناسٌ، وُيضرّ بك آخرون" أي ينتفع بك المسلمون بالغنائم، مما سيفتح اللَّه على يديك من بلاد الشرك، وُيضرّ بك المشركون الذين يهلكون على يديك. وزعم ابن التين أن المراد بالنفع به ما وقع من الفتوح على يديه، كالقادسيّة، وغيرها، وبالضرر ما وقع من تأمير ولده عمر بن سعد على الجيش الذين قتلوا الحسين بن عليّ، ومن معه. وهو كلامٌ مردود؛ لتكلّفه لغير ضرورة تحمل على إرادة الضرر الصادر من ولده، وقد وقع منه هو الضرر المذكور بالنسبة إلى الكفّار. وأقوى من ذلك ما رواه الطحاويّ من طريق بكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ عن أبيه، أنه سأل عامر بن سعد، عن معنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا، فقال: لَمّا أُمّر سعد على العراق، أُتي بقوم ارتدّوا، فاستتابهم، فتاب بعضهم، وامتنع بعضهم، فقتلهم، فانتفع به من تاب، وحصل الضرر للآخرين. قال بعض العلماء:"لعلّ"، وإن كانت للترجّي، لكنّها من اللَّه للأمر الواقع، وكذلك إذا وردت على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم غالبًا. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"فتح" 6/ 17 - 18. "كتاب الوصايا".

ص: 111

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سعد بن أبي وقّاص - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-3/ 3653 و 3654 و 3654 و3655 و 3657 و 3658 و 3659 و 3662 - وفي "الكبرى" 3/ 6453 و 6454 و 6455 و 6457 و 6458 و 6459 و 6462. وأخرجه (خ) في "الجنائز" 1296 و"الوصايا" 2742 و 2744 و"المناقب" 3936 و"المغازي" 4409 و"النفقات" 5354 و"المرضى" 5659 و"الدعوات" 6373 و"الفرائض" 6733 (م) في "الوصايا" 1628 (د) في "الوصايا" 2864 (ت) في "الوصايا" 2116 (ق) في "الوصايا" 2708 (أحمد) في "مسند العشرة" 1443 و 1477 و 1482 و 1491 و 1504 و 1549 و 1571 و 1602 و 1495 و 3195 و 3196. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعيّة الوصيّة بالثلث.

(ومنها): مشروعيّة عيادة المريض للإمام، فمن دونه، وتتأكّد باشتداد المرض.

(ومنها): أن فيه وضع اليد على جبهة المريض، ومسح وجهه، ومسح العضو الذي يؤلمه، والفسح له في طول العمر؛ لما في رواية عائشة بنت سعد عند البخاريّ:"ثم وضع يده على جبهتي، ثم مسح وجهي، وبطني، ثم قال: اللهم اشف سعدًا، وأتمم له هجرته". (ومنها): جواز إخبار المريض بشدّة مرضه، وقوّة ألمه، إذا لم يقترن بذلك شيء مما يُمنَع، أو يُكرَه، من التبرّم، وعدم الرضا، بل حيث يكون ذلك لطلب دعاء، أو دواء، وربّما استُحبّ، وأن ذلك لا ينافي الاتصاف بالصبر المحمود، وإذا جاز ذلك في أثناء المرض، كان الإخبار به بعد البرء أجوز. (ومنها): أن أعمال البرّ والطاعة، إذا كان منها ما لا يمكن استدراكه، قام غيره في الثواب والأجر مقامه، وربّما زاد عليه، وذلك أن سعدا - رضي اللَّه تعالى عنه - خاف أن يموت بالدار التي هاجر منها، فيفوت عليه بعض أجر هجرته، فأخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه إن تخلّف عن دار هجرته، فعمل عملاً صالحًا، من حجّ، أو جهاد، أو غير ذلك، كان له به أجر بعوض ما فاته من الجهة الأخرى. (ومنها): إباحة جمع المال بشرطه؛ لأن التنوين في قوله: "وأنا ذو مال" للكثرة، وقد

(1)

المراد الفوائد التي اشتمل عليها حديث سعد - رضي اللَّه تعالى عنه -، على ما بيّنّاه في الشرح، لا خصوص سياق المصنّف فقط.

ص: 112

وقع في بعض طرقه صريحًا: "وأنا ذو مال كثير". (ومنها): الحثّ على صلة الرحم، والإحسان إلى الأقارب، وأن صلة الأقرب أفضل من صلة الأبعد، والإنفاقِ في وجوه الخير. (ومنها): أن المباح إذا قُصد به وجه اللَّه تعالى صار طاعة، وقد نبّه على ذلك بأقلّ الحظوظ الدنيويّة العاديّة، وهو وضع اللقمة في في الزوجة، إذ لا يكون ذلك غالبًا إلا عند الملاعبة، والممازحة، ومع ذلك فيؤجر فاعله، إذا قصد به قصدًا صحيحًا، فكيف بما فوق ذلك. (ومنها): أن فيه منعَ نقل الميت من بلد إلى بلد، إذ لو كان ذلك مشروعًا لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بنقل سعد بن خوْلة - رضي اللَّه تعالى عنه -. قاله الخطابيّ. (ومنها): أن من لا وارث له تجوز له الوصيّة بما زاد على الثلث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أن تدع ورثتك أغنياء"، فمهومه أن من لا وارث له لا يبالي بالوصيّة بما زاد؛ لأنه لا يترك ورثته يخشى عليهم الفقر.

وتُعُقّب بأنه ليس تعليلاً محضًا، وإنما فيه تنبيه على الأحظّ الأنفع، ولو كان تعليلاً محضا لاقتضى جواز الوصيّة بأكثر من الثلث لمن كانت ورثته أغنياء، ولنفذ ذلك عليهم بغير إجازتهم، ولا قائل بذلك. وعلى تقدير أن يكون تعليلاً محضًا، فهو للنقص عن الثلث، لا للزيادة عليه، فكأنه لما شرع الإيصاء بالثلث، وأنه لا يُعترض به على الموصي إلا أن الانحطاط عنه أولى، ولا سيّما لمن ترك ورثة غير أغنياء، فنبّه سعدًا على ذلك.

(ومنها): أن فيه سدّ الذريعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردّهم على أعقابهم"، لئلاً يتذرّع بالمرض أحدٌ لأجل حبّ الوطن. قاله ابن المنيّر. (ومنها): أن فيه تقييد مطلق القرآن بالسنّة؛ لأنه قال سبحانه وتعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، فأطلق، وقيّدت السنّة الوصيّة بالثلث. (ومنها): أن من ترك شيئًا للَّه لا ينبغي له الرجوع فيه، ولا في شيء منه مختارًا. (ومنها): التأسّف على فوت ما يُحَصِّل الثواب، وأن من فاته ذلك بادر إلى جبره بغير ذلك. (ومنها): تسلية من فاته أمرٌ من الأمور لتحصيل ما هو أعلى منه؛ لما أشار صلى الله عليه وسلم لسعد من عمله الصالح بعد ذلك. (ومنها): الاستفسار عن المحتمل إذا احتمل وجوهًا؛ لأن سعداً لما مُنع من الوصيّة بجميع المال احتمل عنده المنع فيما دونه، والجواز، فاستفسر عما دون ذلك. (ومنها): النظر في مصالح الورثة، وأن خطاب الشرع للواحد يعمّ من كان بصفته من المكلّفين؛ لإطباق العلماء على الاحتجاج بحديث سعد هذا، وإن كان الخطاب إنما وقع له بصيغة الإفراد، ولقد أبعد من قال: إن ذلك يختصّ بسعد، ومن كان في مثل حاله ممن يخلف وارثّا ضعيفًا، أو كان ما يخلُفه قليلاً؛ لأن البنت من شأنها أن يطمع

ص: 113

فيها، وإن كانت بغير مال لم يرغب فيها. (ومنها): أن من ترك مالاً قليلاً، فالاختيار له ترك الوصيّة، وإبقاء المال للورثة، وقد اختلف السلف في ذلك القليل، وقد تقدّم البحث فيه، مستوفًى. (ومنها): أن بعضهم استدلّ به لفضل الغنيّ على الفقير. وفيه نظر. (ومنها): أن فيه مراعاة العدل بين الورثة، ومراعاة العدل في الوصيّة. (ومنها): أن الثلث في حدّ الكثرة، وقد اعتبره بعض الفقهاء في غير الوصيّة، ويحتاج الاحتجاج به إلى ثبوت طلب الكثرة في الحكم المعيّن. (ومنها): أنه استَدَلَّ بقوله: "ولا يرثني إلا ابنة" من قال بالردّ على ذوي الأرحام؛ للحصر في قوله: "ولا يرثني إلا ابنة". وتُعُقّب بأن المراد من ذوي الفروض، وما تقدّم، ومن قال بالردّ لا يقول بظاهره؛ لأنهم يعطونها فرضها، ثم يردّون عليها الباقي، وظاهر الحديث أنها ترث الجميع ابتداء. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3654 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ -وَاللَّفْظُ لأَحْمَدَ- قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: جَاءَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي، وَأَنَا بِمَكَّةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ ، قَالَ: «لَا» ، قُلْتُ: فَالشَّطْرَ؟ ، قَالَ: «لَا» ، قُلْتُ: فَالثُّلُثَ؟ ، قَالَ: «الثُّلُثَ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً، يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، يَتَكَفَّفُونَ فِي أَيْدِيهِمْ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخيه، فإنهما من أفراده، وكلاهما ثقتان. و"أبو نعيم": هو الفضل بن دُكين. و"سفيان": هو الثوريّ.

وقوله: "يتكفّفون في أيديكم" بدل مما قبله، أو تأكيد له. أي يَمُدُّونَ أيديهَمُ إليهم يسألونهم.

والحديث متفق عليه، وقد سبق البحث عنه مستوفًى في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3655 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، وَهُوَ بِمَكَّةَ، وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالأَرْضِ الَّتِي

(2)

هَاجَرَ مِنْهَا، قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «رَحِمَ اللَّهُ سَعْدَ ابْنَ

(1)

"فتح" 6/ 18 - 20. "كتاب الوصايا".

(2)

ووقع في بعض نسخ "المجتبى""الذي" بدل "التي"، وهو، وإن أمكن تأويله، إلا أن الظاهر أنه تصحيف، من النساخ. فتنبّه.

ص: 114

عَفْرَاءَ"، أَوْ "يَرْحَمُ اللَّهُ سَعْدَ ابْنَ عَفْرَاءَ"، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ ، قَالَ:«لَا» ، قُلْتُ: النِّصْفَ؟ ، قَالَ:«لَا» ، قُلْتُ: فَالثُّلُثَ؟ ، قَالَ:«الثُّلُثَ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً، يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، مَا فِي أَيْدِيهِمْ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"عمرو بن عليّ،: هو الفلاّس. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"سفيان": هو الثوريّ. والحديث متّفقٌ عليه.

وقوله: "وهو يكره الموت بالأرض التي هاجر منها" يحتمل أن تكون الجملة حالاً من الفاعل، أو من المفعول، وكلّ منهما محتملٌ؛ لأن كلاَّ من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن سعد - رضي اللَّه تعالى عنه - كان يكره ذلك، لكن إن كان حالاً من المفعول، وهو سعدٌ، ففيه التفات؛ لأن السياق يقتضي أن يقول. "وأنا أكره". وقد أخرجه مسلم من طريق حميد ابن عبد الرحمن، عن ثلاثة من ولد سعد، عن سعد، بلفظ:"فقال: يا رسول اللَّه، خشيتُ أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، كما مات سعد بن خولة"، وللنسائيّ

(1)

من طريق جرير بن يزيد، عن عامر بن سعد:"لكن البائس سعد بن خولة، مات في الأرض التي هاجر منها"، وله من طريق بُكير بن مسمار، عن عامر بن سعد في هذا الحديث بلفظ:"فقال سعد: يا رسول اللَّه، أموت بالأرض التي هاجرت منها؟، قال: لا، إن شاء اللَّه تعالى".

وقوله: "رحم اللَّه سعد بن عفراء". قال الداوديّ: "ابن عفراء" غير محفوظ، وقال الدمياطيّ: هو وَهَمٌ، والمعروف "ابن خولة"، قال: ولعلّ الوهم من سعد بن إبراهيم، فإن الزهريَ أحفظ منه، وقال فيه:"سعد بن خولة". يشير إلى ما وقع في روايته بلفظ "لكن البائس سعد بن خولة، يرثي له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن مات بمكّة". وقد تقدّم ذكر من وافق الزهريّ، وهو الذي ذكره أصحاب المغازي، وذكروا أنه شهد بدرًا، ومات في حجة الوداع. وقال بعضهم في اسمه"خَوْلِىّ" بكسر اللام، وتشديد التحتانيّة، واتفقوا على سكون الواو. وأغرب ابن التين، فحكى عن القابسيّ فتحها. ووقع في رواية ابن عُيينة عند البخاريّ في "الفرائض":"قال سفيان: وسعد بن خولة رجلٌ من بني عامر بن لؤيّ" انتهى. وذكر ابن إسحاق أنه كان حليفًا لهم، ثمّ لأبي رُهْم بن عبد العزّى منهم. وقيل: كان من الفرس الذين نزلوا اليمن. وتقدّم شيء من خبره في حديث سُبيعة الأسلميّة في أبواب العدّة. وجزم الليث بن سعد في "تاريخه" عن يزيد بن أبي حبيب

(1)

هكذا عزا في "الفتح" هذه الرواية إلى المصنّف، ولم أرها عنده، فاللَّه أعلم.

ص: 115

بأن سعد بن خولة مات في حجة الوداع، وهو الثابت في الصحيح، خلافًا لمن قال: إنه مات في مدّة الْهُدْنة مع قريش سنة سبع. وجوّز أبو عبد اللَّه بن أبي الخصاب الكاتب المشهور في "حواشيه على البخاريّ" أن المراد بابن عفراء عوف بن الحارث أخو معاذ، ومعوّذ، أولاد عفراء، وهي أمهم، والحكمة في ذكره ما ذكره ابن إسحاق أنه قال يوم بدر:"ما يُضحك الربّ من عبده؟ قال: أن يغمس يده في العدوّ حاسرًا، فألقى الدرع التي هي عليه، فقاتل حتى قتل"، قال: فيحتمل أن يكون لما رأى اشتياق سعد بن أبي وقّاص للموت، وعلم أنه يبقى حتى يلي الولايات، ذكر ابن عفراء، وحبّه للموت، ورغبته في الشهادة كما يذكر الشيء بالشيء، فذكر سعد بن خولة لكونه مات بمكّة، وهي دار هجرته، وذكر ابن عفراء، مستحسنًا لميتته اهـ ملخّصًا. وهو مردود بالتنصيص على قوله:"سعد ابن عفراء"، فانتفى أن يكون المراد عوف، وأيضًا، فليس في شيء من طرق حديث سعد بن أبي وقّاص أنه كان راغبًا في الموت، بل في بعضها عكس ذلك، وهو أنه "بكى، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما يُبكيك؟ فقال: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، كما مات سعد بن خولة"، وهو عند النسائيّ، وأيضًافمخرج الحديث متّحد، والأصل عدم التعدّد، فالاحتمال بعيد أَبُو صرّح بأنه عوف ابن عفراء. واللَّه أعلم. وقال التيميّ: يحتمل أن يكون لأمه اسمان خولة، وعفراء اهـ، ويحتمل أن يكون أحدهما اسمًا، والآخر لقبًا، أو أحدهما اسم أمّه أبيه، أو الآخر اسم جدّة له، والأقرب أن عفراء اسم أمه، والآخر اسم أبيه؛ لاختلافهم في أنه خولة، أو خولي، وقول الزهريّ في روايته "يرثي له الخ"، قال ابن عبد البرّ: زعم أهل الحديث أن قوله: "يرثي الخ" من كلام الزهريّ. وقال ابن الجوزيّ وغيره: هو مدرج من قول الزهريّ. قال الحافظ: وكأنهم استندوا إلى ما وقع في رواية أبي داود الطيالسيّ عن إبراهيم بن سعد، عن الزهريّ، فإنه فصل ذلك، لكن وقع عند البخاريّ في "الدعوات" عن موسى بن إسماعيل، عن إبراهيم بن سعد في آخره "لكن البائس سعد بن خولة، قال سعد: رثى له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ"، فهذا صريح في وصله، فلا ينبغي الجزم بإدراجه. ووقع في رواية عائشة بنت سعد، عن أبيها في "الطبّ" من الزيادة "ثم وضع يده على جبهتي، ثم مسح وجهي وبطني، ثم قال: اللَّهمّ اشف سعدًا، وأتمم له هجرته، قال: فما زدت أجد بردها"، ولمسلم من طريق حميد بن عبد الرحمن المذكورة "قلت: فادع اللَّه أن يشفيني، فقال: اللَّهمّ اشف سعدًا ثلاث مرّات". قاله في "الفتح"

(1)

.

(1)

"فتح" 6/ 14 - 15. "كتاب الوصايا".

ص: 116

[تنبيه]: قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح مسلم" عند قوله: "لكن البائس سعد ابن خولة" نقلاً عن القاضي عياض: اختلفوا في قصّة سعد بن خولة، فقيل: لم يهاجر من مكة، حتى مات بها، قاله عيسى بن دينار، وغيره. وذكر البخاريّ أنه هاجر، وشهد بدرًا وغيرها، ثم انصرف إلى مكة، ومات بها. وقال ابن هشام: إنه هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرًا، وغيرها، وتوفّى بمكة في حجة الوداع سنة عشر. وقيل: توفّي بها سنة سبع في الهدنة، خرج مجتازًا من المدينة. فعلى هذا، وعلى قول عيسى ابن دينار سبب بؤسه سقوط هجرته؟ لرجوعه مختارًا، وموته بها. وعلى قول الآخرين سبب بؤسه موته بمكة على أيّ حال كان، وإن لم يكن باختياره؛ لما فاته من الأجر والثواب الكامل بالموت في دار هجرته، والغربة عن وطنه إلى هجرة اللَّه تعالى. انتهى.

وقوله: "ما في أيدهم" بدل من "الناس": أي يطلبون بأكفّهم ما في أيديهم من الأموال. والحديث متَّفَقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3656 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ سَعْدٍ، قَالَ: مَرِضَ سَعْدٌ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ ، قَالَ:«لَا»

وَسَاقَ الْحَدِيثَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة.

وقوله: "حدّثني بعض آل سعد" هكذا أبهمه مِسعر في روايته، وقد تقدّم في الروايتين

السابقتين، أن سفيان سمّاه عامر بن سعد، وناهيك به حفظًا، فلا يضرّ إبهام مِسعر له.

وقوله: "وساق الحديث" الفاعل ضمير مسعر، أي ساق مسعر الحديث كما ساقه سفيان، في الرواية السابقة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3657 -

(أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَبِيرِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ اشْتَكَى بِمَكَّةَ، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ بَكَى، وَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَمُوتُ بِالأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتَ مِنْهَا؟ ، قَالَ:«لَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ، وَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ ، قَالَ:«لَا» ، قَالَ: -يَعْنِي- بِثُلُثَيْهِ؟ ، قَالَ:«لَا» ، قَالَ: فَنِصْفَهُ؟ ، قَالَ:«لَا» ، قَالَ: فَثُلُثَهُ؟ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الثُّلُثَ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ

ص: 117

تَتْرُكَ بَنِيكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً، يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلّهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير:

1 -

(بُكير بن مسمار) الزهريّ، أبي محمد المدنيّ، أخي مهاجر، صدوق [4].

قال العجليّ: ثقة. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال ابن عديّ: مستقيم الحديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال البخاريّ: فيه نظرء وقال الحاكم: استشهد به مسلم في موضعين. مات سنة (153). روى له مسلم، والمصتف، والترمذيّ، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

وقوله: "أن تترك بنيك الخ" أكثر الروايات بلفظ: "ورثتك".

والحديث صحيح، وقد سبق الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3658 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِي، فَقَالَ: «أَوْصَيْتَ؟» ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «بِكَمْ؟» ، قُلْتُ: بِمَالِي كُلِّهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَالَ: «فَمَا تَرَكْتَ لِوَلدِكَ؟» ، قُلْتُ: هُمْ أَغْنِيَاءُ، قَالَ: «أَوْصِ بِالْعُشْرِ» ، فَمَا زَالَ يَقُولُ، وَأَقُولُ، حَتَّى قَالَ: «أَوْصِ بِالثُّلُثِ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَوْ كَبِيرٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: " جرير": هو ابن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ، وهو ممن سمع من عطاء بن السائب بعد الاختلاط، كما هو معروف في ترجمته، من "تهذيب التهذيب" -3/ 103 - 105 - وغيره، ولعلّ هذا منه، فإن قوله:"فما تركت لولدك؟ قال: هم أغنياء الخ" مخالف لروايات الثقات الضابطين، فإن وارثه بنت واحدة، كما قال هو:"ولا يرثني إلا ابنة"، فيتأمّل.

و"أبو عبد الرحمن": هو عبد اللَّه بن حبيب السُّلَميّ الثقة العابد المقرئ، تقدّم قبل بابين. والحديث ضعيف؛ لأن سماع جرير من عطاء بن السائب بعد اختلاطه، كما مرّ آنفْا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3659 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، عَادَهُ فِي مَرَضِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: «لَا» ، قَالَ: فَالشَّطْرَ؟ ، قَالَ: «لَا» ، قَالَ: فَالثُّلُثَ؟ ، قَالَ: "الثُّلُثَ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ"، أَوْ "كَبِيرٌ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا.

ص: 118

والحديث صحيح، وسبق البحث عنه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3660 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْفَحَّامُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَتَى سَعْدًا يَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي؟ ، قَالَ: «لَا» ، قَالَ: فَأُوصِى بِالنِّصْفِ؟ ، قَالَ: «لَا» ، قَالَ: فَأُوصِي بِالثُّلُثِ؟ ، قَالَ: "نَعَمِ، الثُّلُثَ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ" أَوْ "كَبِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ فُقَرَاءَ، يَتَكَفَّفُونَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن الوليد بن أبي الوليد الفَحّام" البغداديّ،

صدوق [10].

قال النسائيّ، ومسلمة بن قاسم: لا بأس به. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال البغويّ، وغيره: مات ببغداد سنة (252). تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

و"محمد بن ربيعة": هو الكلابيّ الكوفيّ، ابن عمّ وكيع، صدوق [9] 4/ 1453. والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3661 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَوْ غَضَّ النَّاسُ إِلَى الرُّبُعِ، لأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الثُّلُثَ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ" أَوْ "كَبِيرٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفي، أبورجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(سفيان) بن عيينة، أبو محمد المكي، ثم المكيّ، ثقة ثبت إمام حجة [8] 1/ 1.

[تنبيه]: قال في "الفتح": سفيان هنا: هو ابن عيينة؛ لأن قتيبة لم يلق الثوريّ. انتهى

(1)

.

3 -

(هشام بن عروة) بن الزبير بن العوّام، أبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيه ربما دلس [5]

49/ 61.

4 -

(أبوه) عروة بن الزبير بن العوّام الأسدي، أبو عبد اللَّه المدني الفقيه، ثقة ثبت [3] 40/ 44.

5 -

(ابن عبّاس) البحر الحبر، ترجمان القرآن - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"فتح" 6/ 21.

ص: 119

لطاثف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وسفيان، فمكيّ. (ومها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ والابن عن أبيه. (ومنها): أن فيه ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - من المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: لَوْ غَضَّ النَّاسُ) بمعجمتين، الثانية مشدّدة: أي نقصوا في الوصيّة من الثلث إلى الربع، و"لو" للتمنّي، فلا تحتاج إلى جواب. ويحتمل أن تكون شرطيّة، والجواب محذوف، وقد وقع في رواية ابن أبي عمر في "مسنده"، عن سفيان بلفظ:"كان أحبّ إليّ"، أخرجه الإسماعيليّ من طريقه، ومن طريق أحمد بن عبدة أيضًا، وأخرجه من طريق العبّاس بن الوليد، عن سفيان بلفظ:"كان أحبّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"(إِلَى الرُّبُع) زاد الحميديّ "في الوصيّة"، وكذا رواه أحمد، عن وكيع، عن هشام، بلفظ: "وددتُّ أن الناس غضّوا من الثلث إلى الربع في الوصيّة

" الحديث. وفي رواية ابن نمير، عن هشام عند مسلم: "لو أنّ الناس غضّوا من الثلث إلى الربع".

(لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) تعليلٌ لما اختاره من النقصان عن الثلث، وكأن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أخذ ذلك من وصفه صلى الله عليه وسلم الثلث بالكثرة، وقد تقدّم بيان الاختلاف في توجيه ذلك في شرح الحديث الأول من هذا الباب. ومن أخذ بقول ابن عبّاس في ذلك، كإسحاق بن راهويه، والمعروف في مذهب الشافعيّ استحباب النقص عن الثلث. وفي شرح مسلم للنوويّ: إن كان الورثة فقراء استُحبّ أن ينقص منه، وإن كانوا أغنياء فلا. أفاده في "الفتح"

(1)

.

وعبارة النوويّ في شرحه: وفيه استحباب النقص عن الثلث. وبه قال جمهور العلماء مطلقًا، ومذهبنا أنه إن كان ورثته أغنياء استُحبّ الإيصاء بالثلث، وإلا فيستحبّ النقص منه. وعن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه أوصى بالخمس. وعن عليّ رضي الله عنه نحوه. وعن ابن عمر، وإسحاق بالربع. وقال آخرون: بالسدس. وآخرون بدونه. وقال آخرون: بالعشر. وقال إبراهيم النخعي -رحمه اللَّه تعالى-: كانوا يكرهون الوصيّة بمثل نصيب أحد الورثة. وروي عن عليّ، وابن عبّاس، وعائشة، وغيرهم رضي الله عنهم أنه يستحبّ لمن له

(1)

"فتح" 6/ 21.

ص: 120

ورثةٌ، وماله قليل ترك الوصيّة. انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

(الثُّلُثَ) تقدّم أنه تجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة، وأولاها النصب: أي أعط الثلث (وَالثُّلُثُ كَثيرٌ) بالثاء المثلّثة، وهو مبتدأ وخبر (أَوْ كَبِيرٌ) بالباء الموحّدة، و"أو" فيه للشكّ من الراوي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-3/ 3661 - وفي "الكبرى" 3/ 6461. وأخرجه (خ) في "الوصايا" 2743 (م) في "الوصايا" 1629 (ق) في "الوصايا" 2711 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 2035 و 2077. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3662 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، جَاءَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ لِي وَلَدٌ، إِلاَّ ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ، فَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ ، قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لَا» ، قَالَ: فَأُوصِي بِنِصْفِهِ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لَا» ، قَالَ: فَأُوصِي بِثُلُثِهِ؟ ، قَالَ: «الثُّلُثَ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"همام": هو ابن يحيى العوذيّ. و"يونس بن جُبير": هو أبو غلاّب الباهليّ البصريّ. "ومحمد بن سعد": هو أبو القاسم المدنيّ، نزيل الكوفة، كان يُلقّب ظلّ الشيطان؛ لقصره. والسند مسلسل بالبصريين، إلى محمد بن سعد، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وفيه رواية الابن، عن أبيه.

والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3663 -

(أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ

(1)

"شرح مسلم" 11/ 85.

ص: 121

سِتَّ بَنَاتٍ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا، فَلَمَّا حَضَرَ جُدَادُ النَّخْلِ، أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدِي اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ دَيْنًا كَثِيرًا، وَإِنِيِّ أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ، قَالَ:«اذْهَبْ، فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ» ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ دَعَوْتُهُ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ، كَأَنَّمَا أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ، فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ، أَطَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«ادْعُ أَصْحَابَكَ» ، فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ، حَتَّى أَدَّى اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي، وَأَنَا رَاضٍ، أَنْ يُؤَدِّيَ اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي، لَمْ تَنْقُصْ تَمْرَةً وَاحِدَةً).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا أورد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هذا الحديث في هذا الباب، في "المجتبى"، و"الكبرى"، ولم يظهر لي وجه مناسبته للباب، إذ هو من أحاديث الباب التالى، فكان الأولى أن يذكره هناك، فليُتأمّل. واللَّه تعالى أعلم.

ورجال إسناده: ستة:

4 -

(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ) القرشيّ، أبو محمد الكوفي الطحان، ثقة [11] 8/ 410.

2 -

(عييد اللَّه) بن موسى بن أبي المختار باذام العبسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقة يتشيّع، من أثبت الناس في إسرائيل، واستُصغر في الثوري [9] 72/ 1326.

3 -

(شيبان) بن عبد الرحمن التميمي مولاهم النحويّ -منسوب إلى نحوة، بطن من الأزد، لا إلى علم النحو- أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقة، صاحب كتاب [7] 13/ 347.

4 -

(فِرَاس) -بكسر أوله، وبمهملة- ابن يحيى الهمْدَانيّ الخارفيّ -بمعجمة، وفاء- أبو يحيى الكوفيّ المكتب، صدوق، ربما وهِمَ [6] 59/ 2541.

5 -

(الشعبيّ) عامر بن شَرَاحيل الهمداني، أبو عمرو الكوفي، ثقة فقيه فاضل مشهور [3] 66/ 82.

6 -

(جابر بن عبد اللَّه) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ - رضي اللَّه تعالى عنهما -، غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94) سنة 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير الصحابيّ، فمدنيّ. (ومنها): أن فيه جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، من الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم -، روى (1540) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 122

شرح الحديث

(عَنِ الشَّعْبِيِّ) عامر بن شَرَاحيل الهمدانيّ الكوفيّ، أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمرو بن حرام -بمهملتين - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ أَبَاهُ) عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه (اسْتُشْهِدَ يَومَ أُحُدٍ) ببناء الفعل للمفعول: أي قُتل شهيدًا. وفي رواية مغيرة، عن الشعبيّ الآتي في الباب التالي:"توفّي عبد اللَّه بن عمرو بن حرام، قال: وترك دينًا"، وفي رواية وهب بن كيسان، عن جاب رضي الله عنه "أن أباه توفّي، وترك عليه ثلاثين وسقًا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر، فابا أن يُنظره، فكلّم جابر رسول صلى الله عليه وسلم ليشفع له، فكلّم اليهوديّ ليأخذ ثمر نخله بالذي له، فأبى". وفي رواية للبخاريّ من طريق ابن كعب بن مالك، عن جابر رضي الله عنه "أن أباه قُتل يوم أحد شهيدًا، وعليه دينٌ، فاشتدّ الغرماء في حقوقهم، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكلّمته، فسألهم أن يقبلوا تمر حائطي، ويُحلّلوا أبي، فأبوا". ووقع عند أحمد من طريق نُبيح الْعَنَزيّ، عن جابر صلى الله عليه وسلم قال: قال لي أبي: يا جابر، لا عليك أن يكون في قطاري أهل المدينة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا - فذكر قصّة قتل أبيه، ودفنه، قال: وترك أبي عليه دينًا من التمر، فاشتدّ عليّ بعض غرمائه في التقاضي، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرت له، وقلت: فأُحبّ أن تعينني عليه، لعله أن يُنظرني طائفة من تمره إلى هذا الصِّرَام المقبل، قال: نعم آتيك إن شاء اللَّه قريبًا من نصف النهار"، فذكر الحديث في الضيافة، وفيه: "ثم قال: ادع فلانًا -لغريمي الذي اشتدّ في الطلب- فجاء، فقال: انظر جابرًا طائفةً من دينك الذي على أبيه إلى الصرام المقبل، فقال: ما أنا بفاعل، واعتلّ، وقال. إنما هو مال يتامى".

(وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ) وفي رواية أخرى: "تسع بنات"، ولعل ثلاثًا منهنّ كنّ متزوّجات، أو بالعكس. أفاده في "الفتح"

(1)

(وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا) التنوين للتكثير، كما يأتي قوله: "وترك دينًا كثيرًا (فَلَمَّا حَضَرَ جِدَادُ النَّخْلِ) بفتح الجيم، وكسرها

(2)

: أي صِرَامها، وهو قطع ثمرتها، يقال: جدّ الثمرةَ يجُدّها جدًّا، من باب نصر (أَتّيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلتُ: قَدْ عَلِمْتَ) بضمير المخاطب (أَنَّ وَالِدِي اسْتُشْهِدَ) بالبناء للمفعول (يَومَ أُحُدِ، وَتَرَكَ دَيْنًا كَثِيرًا، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ) وفي رواية زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبيّ الآتي. "فانطلق معي يا رسول اللَّه؛ لكي لا يفحش عليّ الغُرَّام"، وفي رواية

(1)

"فتح" 8/ 103 "كتاب المغازي".

(2)

فما في شرح السنديّ نقلاً عن "القاموس" أنه مثلث الجيم غلطٌ، فإن ذلك في "الجذاذ" بالذال المعجمة، لا بالدال المهملة، فراجع "القاموس"، في المادّتين. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 123

مغيرة، عن الشعبيّ الآتي: فاستشفعتُ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على غرمائه أن يضعوا من دينه شيئًا" (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (اذْهَبْ، فَبَيْدِرْ) -بفتح الموحّدة، وكسر الدال المهملة: فعل أمر من بيدر الطعام يُبيدِره بيدرةً: إذ كَوّمه. أي اجعل التمر في البيادر، كلَّ صِنْفٍ في بيدر. والْبَيْدَر -بفتح الموحّدة، وسكون التحتيّة، وفتح الدال المهملة-: موضعه الذي يُداس فيه، وهو للتمر، كالْجَرِين للْحَبّ. أفاده في "القاموس"، و"الفتح".

(كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ") وفي رواية مغيرة الآتية: "اذهب فصنّف تمرك أصنافًا، العجوة على حدة، وعِذْق ابن زيد على على حدة، وأصنافه".

(فَفَعَلْتُ، ثُمَّ دَعَوْتُهُ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ، كَأَنَّمَا أُغْرُوا بِي) ببناء الفعل للمفعول، من أُغري به: إذا لزمه. قال الفيّوميّ: غَرِيَ بالشيء غَرًى، من باب تَعِبَ: أولِعَ به من حيث لا يحمله عليه حامل، وأغريته به إغراءً، فأغري به بالبناء للمفعول، والاسم الغَرَاء بالفتح والمدّ (تِلْكَ السَّاعةَ) يعني أنهم طالبوه بقضاء ديونهم في تلك الساعة التي جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ليشفع له عندهم في أن يؤخّروه (فَلَمَّا رَأَى) صلى الله عليه وسلم (مَا يَصْنَعُونَ) من شدّة المطالبة له (أطَاف) بالهمزة لغة في طاف: أي دار (حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) وفي رواية ابن كعب بن مالك: "فغدا علينا، فطاف في النخل، ودعا في تمره بالبركة"، وفي رواية الذَّيَّال

(1)

بن حرملة، عن جابر: "فجاء هو، وأبو بكر، وعمر، فاستقرأ النخل، يقوم تحت كلْ نخلة، لا أدري ما يقول، حتى مرّ على آخرها

" الحديث أخرجه أحمد (ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمْ قَالَ: "ادْعُ أَصْحَابَكَ) يعني أصحاب الديون الذين يطالبونه بقضائها، سمّاهمِ أصحابًا؛ لملازمتهم له، كملازمة الصاحب، فهو من التسمية بالضدّ (فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ، حَتَّى أَدَّى اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي) أي دينه الذي جعله أمانة عنده، وأوصاه بقضائه (وَأَنا رَاضٍ، أن يُؤَدِّيَ اللَّه أَمَانَةَ وَالِدِي) يعني أنه كان راغبًا في قضاء ديون أبيه، فقط، بحيث لأ يريد أن يفضل له شيء؛ لاهتمامه بديونه، لكن اللَّه سبحانه وتعالى جعل البركة في دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، ففضل له من ديونه شيء كثير، كما يشير إليه قوله (لَمْ تَنْقُصْ تَمْرَةٌ وَاحِدَةٌ) برفع "تمرة" على الفاعلية، و"واحدة" صفته، أي كأن الذي بقي بعد قضاء الديون من كثرته كأنه لم يؤخذ منه شيء. وفي رواية زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبيّ الآتية:"فأوفاهم الذي لهم، وبقي مثل ما أخذوا"، وفي رواية مغيرة، عن الشعبيّ الآتية:"ثم بقي تمري كان لم ينقص منه شيء". وفي رواية وهب بن كيسان، عن جابر الآتية: "قال: فما تركت أحدًا له على أبي دينٌ إلا قضيته، وفضل لي ثلاثة عشر وسقًا

" الحديث. وفي رواية: "فأوفاه ثلاثين وسقًا، وفضلت سبعة عشر وسقًا".

قال في "الفتح": وُيجمع بين هذه الروايات بالحمل على تعدّد الغرماء،، فكأن أصل

(1)

بالذال المعجمة، ووقع في "الفتح" بالدال المهملة، وهو تصحيف.

ص: 124

الدين كان منه ليهوديّ ثلاثون وسقًا، من صنف واحد، فأوفاه، وفضل من ذلك البيدر سبعة عشر وسقًا، وكان منه لغير ذلك اليهوديّ أشياء أُخر من أصناف أخرى، فأوفاهم، وفضل من المجموع قدر الذي أوفاه. ويؤيّده قوله في رواية نُبيح الْعَنَزيّ، عن جابر صلى الله عليه وسلم:"فكلتُ له من العجوة، فأوفاه اللَّه، وفضل لنا من التمر كذا وكذا، وكلت له من أصناف التمر، فأوفاه اللَّه، وفضل لنا من التمر كذا وكذا".

ووقع في رواية فِراس، عن الشعبيّ ما قد يخالف ذلك، فعنه:"ثم دعوت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما نظروا إليه كأنما أُغروا بي تلك الساعة"، أي أنهم شدّدوا عليه في المطالبة؛ لعداوتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فلما رأى ما يصنعون طاف حول أعظمها بيدرًا ثلاث مرّات، ثم جلس عليه، ثم قال: ادعهم، فما زال يكيل لهم حتى أدّى اللَّه أمانة والدي، وأنا راض أن يؤديها اللَّه، ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة، فسلّم اللَّه البيادر كلّها، حتى إني انظر إلى البيدر الذي عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كأنه لم ينقص منه تمرة واحدة".

ووجه المخالفة فيه أن ظاهره أن الكيل جميعه كان بحضرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأن التمر لم ينقص منه شيء البتّة، والذي مضى ظاهره أن ذلك بعد رجوعه، وأن بعض التمر نقص.

ويُجمع بأن ابتداء الكيل كان بحضرته صلى الله عليه وسلم، وبقيّته كان بعد انصرافه، وكان بعض البيادر التي أوفى منها بعض أصحاب الدين حيث كان بحضرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لم ينقص منه شيء البتّة، ولما انصرف بقيت آثار بركته، فلذلك أوفى من أحد البيادر ثلاثين وسقًا، وفضل سبعة عشر. وفي رواية نُبيح ما يؤيّد ذلك، ففي روايته، قال:"كِلْ له، فإن اللَّه سوف يوفيه"، وفي حديثه:"فإذا الشمس قد دلكت، فقال: الصلاة يا أبا بكر، فاندفعوا إلى المسجد، فقلت له -أي للغريم-: قرّب أوعيتك"، وفيه: "فجئت أسعى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كأني شرارة، فوجدته قد صلّى، فأخبرته، فقال: أين عمر؟، فجاء يُهرول، فقال: سل جابرًا عن تمره وغريمه، فقال: ما أنا بسائده، قد علمت أن اللَّه سيوفيه

" الحديث. وقصة عمر قد وقعت في رواية ابن كعب، ففيها: "ثم جئت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر: اسمع يا عمر، قال: أَلاَّ نكون قد علمنا أنك رسول اللَّه، واللَّه إنك لرسول اللَّه". وفي رواية ابن وهب:"فقال عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليباركنّ اللَّه فيها".

وقوله في رواية ابن كعب: "إلاَّ نكون" بفتح الهمزة، وتشديد اللام في الروايات كلّها، وأصلها "أَن" الخفيفة، ضُمّت إليها "لا" النافية، أي هذا السؤال إنما يَحتاج إليه من لا يعلم أنك رسول اللَّه، فدذلك يشكّ في الخبر، فيحتاج إلى الاستدلال، وأما من

ص: 125

علم أنك رسول اللَّه، فلا يحتاج إلى ذلك.

وزعم بعض المتأخّرين أن الرواية بتخفيف اللام، وأن الهمزة فيه للاستفهام التقريريّ، فأنكر عمر عدم علمه بالرسالة، فأنتج إنكاره ثبوت علمه بها، وهو كلام موجّةٌ، إلا أن الرواية إنما هي بالتشديد، وكذلك ضبطها عياضٌ وغيره.

وقيل: النكتة في اختصاص عمر بإعلامه بذلك أنه كان معتنيًا بقصّة جابر مهتمًّا بشأنه، مساعدًا له على وفاء دين أبيه. وقيل: لأنه كان حاضرًا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم لما مشى في النخل، وتحقّق أن التمر الذي فيه لا يفي ببعض الدين، فأراد إعلامه بذلك؛ لكونه شاهد أول الأمر، بخلاف من لم يشاهد.

قال الحافظ: ثم وجدت ذلك صريحًا في بعض طرقه، ففي رواية أبي المتوكّل، عن جابر، عند أبي نُعيم، فذكر الحديث، وفيه:"فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعمر، فقال: انطلق بنا حتى نطوف بنخلك هذا"، فذكر الحديث. وفي رواية أبي نضرة، عن جابر عنده في هذه القصّة، قال:"فأتاه هو وعمر، فقال: يا فلان خذ من جابر، وأخّر عنه، فأبى، فكاد عمر يبطش به، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: مه يا عمر، هو حقّه، ثم قال: اذهب بنا إلى نخلك " الحديث، وفيه "فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: ائتني بعمر، فأتيته، فقال: يا عمر سل جابرًا عن نخله"، فذكر القصّة.

ووقع في رواية الذَّيّال

(1)

بن حرملة أن أبا بكر وعمر جميعًا كانا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال في آخره:"قال: فانطلق، فأخبر أبا بكر وعمر،، قال: فانطلقت، فأخبرتهما" الحديث. ونحوه في رواية وهب بن كيسان، عن جابر.

وجمع البيهقيّ بين مُختَلِفِ الروايات في ذلك بأن اليهوديّ المذكور كان له دين من تمر، ولغيره من الغرماء ديون أخرى، فلما حضر الغرماء، وطالبوا بحقوقهم، وكال لهم جابر التمر، ففضل تمر الحائط كأنه لم ينقص شيء، فجاء اليهوديّ بعدهم، فطالب بدينه، فجدّ له جابر ما بقي على النخلات، فأوفاه حقّه منه، وهو ثلاثون وسقًا، وفضلت منه سبعة عشر. انتهى.

قال الحافظ: وهذا الجمع يقتضي أنه لم يفضل من الذي في البيادر شيء، وقد صرّح في الرواية المتقدّمة أنها فضلت كلّها كأنه لم ينقص منها شيء، فما تقدّم من الطريق التي جمعت به أولى. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

تقدم أنه بالذال المعجمة.

(2)

"فتح" 7/ 294 - 295 "كتاب المناقب".

ص: 126

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-3/ 3663 و 4/ 3664 و 3665 و 3666 و 3667 - وفي "الكبرى" 3/ 6463 و 4/ 6464 و 6465 و 6466 و 6467. وأخرجه (خ) في "البيوع" 2127 وفي "المناقب" 3580 (د) في "الوصايا" 2884 و "البيوع" 3347. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): جواز الاستنظار في الدين الحالّ. (ومنها): جواز تأخير الغريم لمصلحة المال الذي يوفي منه. (ومنها): أن فيه مشي الإمام بنفسه في حوائج رعيّته، وشفاعته عند بعضهم في بعض. (ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، حيث حصل تكثير القليل إلى أن حصل به وفاء الدين الكثير، وفضل منه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

‌4 - (بَابُ قَضَاءِ الدَّينِ قَبْلَ الْمِيرَاثِ، وَذِكْرِ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ جَابِرٍ فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: أما اختلاف الألفاظ، فقد تقدّم البحث فيه مستوفًى في الحديث الذي قبله.

وأما كون قضاء الدين قبل الميراث، فمحلّ إجماع، ووجه الاستدلال عليه بحديث جابر رضي الله عنه واضحٌ حيث إنه صلى الله عليه وسلم قدّم قضاء ديون والده على قسمة تركته على ورثته، فدلّ على أن الدين مقدّم على الميراث، وهو نعق كتاب اللَّه عز وجل، حيث قال:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الآية [النساء: 11].

فالآية الكريمة نصّ في كون قسمة المواريث بعد تنفيذ الوصيّة، وقضاء الديون. وقد

ص: 127

تكلّم أهل العلم في حكمة تقديم الوصيّة على الدين في هذه الآية الكريمة، وقد ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بقوله: "باب تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]. وُيذكر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصيّة.

قال في "الفتح": هذا طرف من حديث أخرجه أحمد، والترمذيّ، وغيرهما، من طريق الحارث، وهو الأعور، عن عليّ بن أبي طالب، قال:"قضى محمد صلى الله عليه وسلم أن الدين قبل الوصيّة، وأنتم تقرؤون الوصيّة قبل الدين"، لفظ أحمد، وهو إسناد ضعيف، لكن قال الترمذيّ: إن العمل عليه عند أهل العلم.

قال: ولم يختلف العلماء في أن الدين يقدّم على الوصيّة، إلا في صورة واحدة، وهي ما أَبُو أوصى الشخص بألف مثلاً، وصدّقه الوارث، وحكم، ثم ادّعى آخر أن له في ذمّة الميت دينًا يستغرق موجوده، وصدّقه الوارث، ففي وجه للشافعيّة تقدّم الوصيّة على الدين في هذه الصورة الخاصّة.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الوجه مخالف للنصّ، فالحق أن لا يُلتفت إلى هذا الوجه. واللَّه تعالى أعلم.

قال: ثم قد نازع بعضهم في إطلاق كون الوصيّة مقدّمة على الدين في الآية؛ لأنه ليس فيها صيغة ترتيب، بل المراد أن المواريث إنما تقع بعد قضاء الدين، ونفاذ الوصيّة، وأتى بـ "أو" للإباحة، وهي كقولك: جالس زيدًا أو عمرًا، أي لك مجالسة كلّ منهما، اجتمعا، أو افترقا، وإنما قُدّمت لمعنى اقتضى الاهتمام لتقديمها، واختُلف في تعيين ذلك المعنى، وحاصل ما ذكره أهل العلم من مقتضيات التقديم ستة أمور:

[أحدها]: الخفّة والثقل، كربيعة ومضر، فمضر أشرف من ربيعة، لكن لفظ ربيعة لما كان أخفّ قُدّم في الذكر، وهذا يرجع إلى اللفظ.

[ثانيها]: بحسب الزمان، كعاد وثمود.

[ثالثها]: بحسب الطبع، كثُلاث ورُباع.

[رابعها]: بحسب الرتبة، كالصلاة والزكاة؛ لأن الصلاة حقّ البدن، والزكاة حقّ المال، والبدن مقدّم على المال.

[خامسها]: تقديم السبب على المسبّب، كقوله تعالى:{عَزِيزٌ حَكِيمٌ} قال بعض السلف: عزّ، فلما عزّ حَكَم.

[سادسها]: بالشرف والفضل، كقوله تعالى:{مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} .

وإذا تقرّر ذلك، فقد ذكر السهيليّ أن تقديم الوصيّة في الذكر على الدين؛ لأن

ص: 128

الوصيّة إنما تقع على سبيل البرّ والصلة، بخلاف الدين، فإنه إنما يقع غالبًا بعد الميت بنوع تفريط، فوقعت البداءة بالوصيّة؛ لكونها أفضل. وقال غيره: قُدّمت الوصيّة لأنها شيء يؤخذ بغير عوض، والدين يؤخذ بعوض، فكان إخراج الوصيّة أشقّ على الوارث من إخراج الدين، وكان أداؤها مظنّة التفريط، بخلاف الدين، فإن الوارث مطمئنّ بإخراجه، فقدّمت الوصيّة لذلك. وأيضًا فهي حظّ فقير ومسكين غالبًا، والدين حظّ غريم يطلبه بقوّة، وله مقال، كما صحّ "إن لصاحب الدين مقالاً". وأيضًا فالوصيّة يُنشثها الموصي من قبل نفسه، فقدّمت تحريضًا على العمل بها، بخلاف الدين، فإنه ثابت بنفسه، مطلوب أداؤه، سواء ذُكر، أو لم يُذكر. وأيضًا فالوصيّة ممكنة من كلّ أحد، ولا سيّما عند من يقول بوجوبها، فإنه يقول بلزومها لكلّ أحد، فيشترك فيها جميع المخاطبين؛ لأنها تقع بالمال، وتقع بالعهد، كما تقدّم، وقلّ من يخلو عن شيء من ذلك، بخلاف الدين، فإنه يمكن أن يوجد، وأن لا يوجد، وما يكثر وقوعه مقدّمٌ على

ما يقلّ وقوعه.

وقال الزين ابن الْمُنَيِّرِ: تقديم الوصيّة على الدين في اللفظ لا يقتضي تقديمها في المعنى؛ لأنهما معاً قد ذُكرا في سياق البعدية، لكن الميراث يلي الوصيّة في البعديّة، ولا يلي الدين، بل هو بعد بعده، فيلزم أن الدين يُقدّم في الأداء، ثم الوصيّة، ثم الميراث، فيتحقّق حينئذ أن الوصيّة تقع بعد الدين حال الأداء باعتبار القبليّة، فتقديم الدين على الوصيّة في اللفظ، وباعتبار البعدية، فتقدّم الوصيّة على الدين في المعنى. واللَّه أعلم. انتهى ما في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3664 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ -وَهُوَ الأَزْرَقُ- قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبِي تُوُفِّيَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَمْ يَتْرُكْ إِلاَّ مَا يُخْرِجُ نَخْلُهُ، وَلَا يَبْلُغُ مَا يُخْرِجُ نَخْلُهُ، مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، دُونَ سِنِينَ، فَانْطَلِقْ مَعِي، يَا رَسُولَ اللهِ، لِكَيْ لَا يَفْحُشَ عَلَيَّ الْغُرَّامُ، فَأَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدُورُ بَيْدَرًا بَيْدَرًا، فَسَلَّمَ حَوْلَهُ، وَدَعَا لَهُ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، وَدَعَا الْغُرَّامَ، فَأَوْفَاهُمْ، وَبَقِيَ مِثْلُ مَا أَخَذُوا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، إلا شيخ المصنّف، وهو بغداديّ وثّقه هو، والدارقطنيّ [11]. و"إسحاق الأزرق": هو ابن يوسف بن مِرْداس الواسطيّ ثقة [9]. و"زكرياهو ": ابن أبي زائدة الهمدانيّ الوادعيّ

(1)

"فتح" 6/ 30 - 31. "كتاب الوصايا".

ص: 129

الكوفيّ ثقة [6].

وقوله: "دون سنين" أي من غير ضَمِّ سنين إلى هذه السنة، يعني أن ديونه لكثرتها لا يفي بها ما يخرُج من نخله في هذه السنة، بل لا بدّ من سنين كثيرة، تزاد على هذه السنة. وفي "الكبرى":"دون سنتين" بصيغة التثنية.

وقوله: "يُفحِش" بضمّ أوله، من الإفحاش، أي يسيئوا إليّ القول، يقال: أفحش الرجل: أتى بالفُحْش، وهو القول السيّء. قاله في "المصباح".

وقوله: "الغُرّام" -بضمّ الغين المعجمة، وتشديد الراء- جمع غَرِيم، قال ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى-: الْغُرّام جمع غَريم، كالْغُرَمَاء، وهو أصحاب الدين، وهو جمع غريب. انتهى

(1)

.

وقال في "اللسان": وأما ما حكاه ثعلبٌ في خبرٍ من أنه لما قعد بعض قريش لقضاء دينه أتاه الْغُرَّامُ، فقضاهم دينه. قال ابن سيده: فالظاهر أنه جمع غَرِيم، وهذا عزيزٌ؛ لأن فَعِيلاً لا يُجمع على فُعّال، إنما فُعّال جمع فاعل، قال: وعندي أن غُرّامًا جمع مُغْرَمٍ على طرح الزوائد، كأنه جمع فاعل من قولك: غَرَمَهُ، أي غَرَّمَهُ، وإن لم يكن ذلك مقولاً. قال: وقد يجوز أن يكون غارم على النسب، أي ذو إغرام، أو تغريمٍ، فيكون غُرّامٌ جمعًا له. قال: ولم يقل ثعلب في ذلك شيئًا. انتهى

(2)

).

وقوله: "فسلّم حوله"، ولفظ "الكبرى":"فمشى حوله، وهو واضح، ولعل معنى: "فسلّم" هنا: دعا له بأن يسلم من النقص عن وفاء ديون والد جابر، أو المعنى. سلّم أمره إلى اللَّه تعالى، وفوّضه إلي؛ ليجعل بركته عليه، فيوفّي ديونه. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث أخرجه البخاريّ، وقد سبق تمام شرحه، وبيان مسائله في حديث الباب الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه الموضع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3665 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، قَالَ: وَتَرَكَ دَيْنًا، فَاسْتَشْفَعْتُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَضَعُوا مِنْ دَيْنِهِ شَيْئًا، فَطَلَبَ إِلَيْهِمْ، فَأَبَوْا فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اذْهَبْ، فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافًا، الْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ، وَعَذْقَ ابْنِ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَأَصْنَافَهُ، ثُمَّ ابْعَثْ إِلَيَّ» ، قَالَ: فَفَعَلْتُ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَلَسَ فِي أَعْلَاهُ، أَوْ فِي أَوْسَطِهِ، ثُمَّ قَالَ: «كِلْ لِلْقَوْمِ» ، قَالَ: فَكِلْتُ لَهُمْ، حَتَّى أَوْفَيْتُهُمْ، ثُمَّ بَقِيَ تَمْرِي، كَأَنْ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ).

(1)

"النهاية" 3/ 363.

(2)

"لسان العرب" 12/ 437.

ص: 130

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"جرير": هو ابن عبد الحميد الضبّيّ الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقة ثبت [8]. و"مغيرة": هو ابن مقسم الضبيّ الكوفيّ، ثقة مُتْقِنٌ، لكنه يدلس [6].

وقوله: "أن يضعوا" بفتح أوله، وثانيه: أي يُسقطوا بعض دينه. وقوله: "فصنّف تمرك أصنافّا" أي ميّز بين أنواعها. قال الفيّوميّ: التصنيف تمييز الأشياء بعضِها من بعض. وقال في "الفتح": أي اعزل كلّ صنف منه وحده. انتهى

(1)

.

وقوله: "الْعَجْوَة": -بفتح العين المهملة، وسكون الجيم-: من أجود تمر المدينة. وقوله: "وعذق ابن زيد" -بفتح العين المهملة، وسكون الذال المعجمة-: نوع من التمر. قال الفيّوميّ: الْعِذْقُ: أي بالكسر: الكِبَاسةُ، وهو جامع الشَّمَاريخ، والجمع أَغذاق، مثلُ حِمْل وأحمال، والْعَذْق، مثالُ فَلْسٍ: النخلة نفسها، ويُطلق الْعَذْقُ على أنواع من التمر، ومنه عَذْقُ ابن الْحُبَيق، وعَذقُ ابن طاب، وعَذْقُ ابن زيد. قاله أبو حاتم. انتهى.

ولفظ "الكبرى": "عَذْقُ زيد" بدون لفظة "ابن"، والأول هو الذي في "صحيح البخاريّ" في "كتاب البيوع"، قال في "الفتح": وقوله: "وعذق ابن زيد" العذق بفتح العين: النحْلة، وبكسرها العرجون، والذال فيهما معجمة. و"ابن زيد" شخص نُسب إليه النوع المذكور من التمر

(2)

. وأصناف تمر المدينة كثيرة جدًّا، فقد ذكر الشيخ أبو محمد الجوينيّ في "الفروق" أنه كان بالمدينة، فبلغه أنهم عدّوا عند أميرها صنوف التمر الأسود خاصّة، فزادت على الستّين. قال: والتمر الأحمر أكثر من الأسود عندهم. انتهى

(3)

.

وقوله: "وأصنافه" أي وصنّف بقيّة أصناف التمر كلاَّ على حِدَةٍ، فيكون عطفه على ما قبله من عطف العامّ على الخاصّ.

وقوله. "كأن لم ينقص منه شيء" أي بقي منه بعد أداء الديون شيء كثير، بحيث يظنّ الظانّ أنه لم يؤخذ، ولم يُنتقص منه شيء.

والحديث أخرجه البخاريّ، وقد سبق تمام البحث فيه في الباب الماضي. واللَّه

(1)

"فتح" 5/ 77. "كتاب البيوع".

(2)

وقال في "الفتح" في ج 7/ 294 - "كتاب المناقب": بعد أن ذكره بلفظ: "عذق زيد" بدون لفظ "ابن": ما نصّه: وزيد الذي نسب إليه اسم شخص، كأنه هو الذي كان ابتدأ غراسه، فنُسب إليه. انتهى.

(3)

"فتح" 5/ 77. "كتاب البيوع".

ص: 131

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3666 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ حَرَمِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ لِيَهُودِيٍّ عَلَى أَبِي تَمْرٌ، فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ حَدِيقَتَيْنِ، وَتَمْرُ الْيَهُودِيِّ، يَسْتَوْعِبُ مَا فِي الْحَدِيقَتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ الْعَامَ نِصْفَهُ، وَتُؤَخِّرَ نِصْفَهُ؟» ، فَأَبَى الْيَهُودِيُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ الْجُدَادَ؟» ، فَآذِنِّي، فَآذَنْتُهُ، فَجَاءَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، فَجَعَلَ يُجَدُّ، وَيُكَالُ مِنْ أَسْفَلِ النَّخْلِ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَدْعُو بِالْبَرَكَةِ، حَتَّى وَفَيْنَاهُ جَمِيعَ حَقِّهِ، مِنْ أَصْغَرِ الْحَدِيقَتَيْنِ -فِيمَا يَحْسِبُ عَمَّارٌ- ثُمَّ أَتَيْتُهُمْ بِرُطَبٍ وَمَاءٍ، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إبراهيم بن يونس بن محمد" البغداديّ، نزيل طَرَسوس، لقبه حَرَميٌّ- بمهملتين، بلفظ النسبة، كما قال المصنّف، صدوق [11] 54/ 1753 من أفراد المصنّف.

و"يونس بن محمد" البغداديّ، أو محمد المؤدّب الثقة الثبت، من صغار [9] 15/ 1632.

و"حمادٌ": هو ابن سلمة البصريّ، ثقة عابد [8]. و"عمّار بن أبي عمّار": هو مولى

بني هاشم، أبو عمرو، أو أبو عبد اللَّه المكيّ، صدوق، ربما أخطأ [3] 74/ 1977.

وقوله: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "هل لك أن تأخذ الخ؟ " هذا الخطاب لليهوديّ الذي يطالب جابرًا بدين أبيه.

وقوله: "فأبى اليهوديّ" بالباء الموحّدة، من الإباء، أي لم يقبل شفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم بأخذ بعضه الآن، وتأخير بعضه إلى وقت آخر، بل طالب بقضاء دينه في الحال. ووقع في نسخة شرح السنديّ "فأتى اليهوديّ" بالتاء المثناة الفوقيّة، وهو تصحيف.

وقوله: "فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "هل لك أن تأخذ في الجداد؟ " هذا الخطاب لجابر رضي الله عنه، يقول له عند ما عاين شدّة مطالبة اليهوديّ هل لك أن تبداً بجداد ثمار نخلك؟. ولفظ "الكبرى": فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فأحضر الجداد، فآذنّي، فآذنته، فجاء الخ".

و"الجداد" -بالكسر، والفتح-: القطع، قال الفيّوميّ: وجَدّه جَدًّا، من باب قتل: قطعه، فهو جَدِيدٌ، فَعِيلٌ بمعنى مفعول، وهذا زمن الْجِدَاد، والْجَدَاد، وأجدّ النخلُ بالألف: حان جِداده، وهو قطعه. انتهى. و"الْجذُّ" بالذال المعجمة: القطع أيضًا.

وقوله: "فآذنّي" -بمدّ الهمزة، وتشديد النون- وهو معطوف على محذوف، يدلّ عليه ما في الرواية التالية، أي فإذا جددته، ووضعته في الْمرْبد، فآذنّي بذلك، أي

ص: 132

أعلمني به.

وقوله: "فجُعل يُجدّ، وُيكال من أسفل النخل" ببناء الأفعال الثلاثة للمفعول، أي فشرع الناس في جدّه، وكيله للغرماء. وهذه الرواية مخالفة لما مضى، من أن الكيل كان بعد أن جُدّ، وصُنِّف في البيادر، إلا أنه يمكن أن يؤوّل، ويكال من أسفل النخل، أي يكال بعد أن يؤخذ من أسفل النخل، ويجعل في البيدر.

وقوله: "فيما يحسب عمار" بفتح السين المهملة، وكسرها، من باب ضرب، وعلم: أي في ظنّ عمار بن أبي عمار الراوي عن جابر رضي الله عنه.

وقوله: "ثم قال: هذا من النعيم" أي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الذي أكلتم، من الرُّطَبِ، وشربتم، من الماء من جملة النعيم التي ستسألون عنها يوم القيامة، وهو إشارة إلى قوله سبحانه وتعالى:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8].

والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3667 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: تُوُفِّيَ أَبِي، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَرَضْتُ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَأْخُذُوا الثَّمَرَةَ بِمَا عَلَيْهِ، فَأَبَوْا، وَلَمْ يَرَوْا فِيهِ وَفَاءً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: «إِذَا جَدَدْتَهُ، فَوَضَعْتَهُ فِي الْمِرْبَدِ، فَآذِنِّي» ، فَلَمَّا جَدَدْتُهُ، وَوَضَعْتُهُ فِي الْمِرْبَدِ، أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَدَعَا بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: «ادْعُ غُرَمَاءَكَ، فَأَوْفِهِمْ» ، قَالَ: فَمَا تَرَكْتُ أَحَدًا، لَهُ عَلَى أَبِي دَيْنٌ، إِلاَّ قَضَيْتُهُ، وَفَضَلَ لِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَضَحِكَ، وَقَالَ «ائْتِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَخْبِرْهُمَا ذَلِكَ» ، فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَخْبَرْتُهُمَا، فَقَالَا: قَدْ عَلِمْنَا، إِذْ صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا صَنَعَ، أَنَّهُ سَيَكُونُ ذَلِكَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الحديث رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة. و"عبد الوهاب": هو ابن عبد المجيد الثقفيّ البصريّ، ثقة [8]. و"عبيد اللَّه": هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العمريّ الثقه الثبت المدنيّ [5]. و"وهب بن كيسان": هو القرشيّ مولاهم أبو نُعيم المعلّم المدنيّ، ثقة، من كبار [4].

وقوله: "عن حديث عبد الوهّاب" أي من جملة الأحاديث التي حدّثه عبد الوهّاب الثقفيّ.

وقوله: "ولم يروا فيه وفاء" أي لم ير الغرماء ثمار نخله يفي بحقّهم، لقلّتها، وكثر ديونهم.

ص: 133

وقوله: "في المربد" -بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الباء الموحّدة، آخره دال مهملة-: موضع التمر، ويقال له أيضًا: مِسْطَحٌ. ويطلق أيضًا على موقف الإبل، ومِرْبد النَّعَم. موضع بالمدينة، يقال: على نحو من ميل. أفاده في "المصباح".

والحديث أخرجه البخاريّ، وقد سبق الكلام عليه، مستوفًى قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌5 - (بَابُ إِبْطَالِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: إطلاق المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- الترجمة يدلّ على أنه لا يرى الوصيّة لوارث أصلاً، ولو أجازها الورثة؛ لإطلاق النصّ، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى.

3668 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة بن سعيد) الثقفي، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(أبو عوانة) الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقة ثبت [7] 41/ 46.

3 -

(قتادة) بن دعامة السدوسيّ البصريّ، ثقة ثبت، يدلس [4] 30/ 34.

4 -

(شهر بن حوشب) الأشعريّ الشاميّ، أثنى عليه، أحمد، ووثقه، وقال: ما أحسن حديثه. ووثقه ابن معين، وعنه قال: ثبتٌ. وقال البخاريّ: حسن الحديث، وقوّى أمره. ووثقه العجليّ، وغيره، وتكلّم فيه شعبة، وأحسن الكلام الحافظ أبو الحسن ابن القطّان الفاسيّ -رحمه اللَّه تعالى-، حيث قال: لم أسمع لمضعّفه حجة. انتهى. وله عند مسلم حديث واحد متابعة. وقال في "التقريب": صدوق، كثير الإرسال، والأوهام [3] 66/ 1800.

ص: 134

5 -

(عبد الرحمن بن غَنْم) -بفتح، فسكون- الأشعريّ الشاميّ، مختلف في صحبته، وذكره العجليّ في كبار ثقات التابعين- 1/ 2437. واللَّه تعالى أعلم،

6 -

(عَمْرُو بْنُ خَارِجَةَ) بن المنتفق الأشعريّ، ويقال: الأنصاريّ، ويقال: الأسديّ، حليف أبي سفيان بن حرب. وقيل: خارجة بن عمرو، والأول أصحّ. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، روى شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم الأشعريّ، عنه. وقيل: عن شهر، عن عمرو. ورواه ليث بن أبي سُليم، عن مجاهد، عن عمرو بن خارجة، مختصرًا:"لا وصيّة لوارث". وذكر له العسكريّ، والطبرانيّ حديثًا آخر من رواية الشعبيّ، عنه. ثم أورد المذكور هنا، وقال: ولا يصحّ شهر منه. وفي "معجم الطبرانيّ" التصريح بسماع شهر منه لحديث آخر

(1)

، وله في هذا الكتاب حديث الباب، كرره ثلاث مرّات. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير الصحابيّ، فإنه من رجال المصنف، والترمذي، وابن ماجه، وعبد الرحمن علّق له البخاريّ، وشهر أخرج له مسلم متابعة. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: قتادة، عن شهر، عن عبد الرحمن. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية: "أنه شهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على راحلته، وإنها لتقصع بجِرّتها، وإن لُعابها لَيسيل"(فَقَالَ: "إِنَّ اللَّه قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ) يعني أنه سبحانه وتعالى قسم المواريث بين أصاحبها المستحقّين، كما بيّنه في كتابه الكريم، حيث قال:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} الآية [النساء: 12](وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) أي لكونه أخذ حقّه المستَحَقّ له، فلا يجوز أن يوصَى له، حتى لا يأخذ الزيادة على بقيّة الورثة، فتحصل الشحناء، والبغضاء بذلك؛ فإن الشارع الحكيم قد منع من عطية بعض الأولاد شيئًا من المال، دون بعض، واعتبره جورًا -كما سيأتي في حديث النعمان بن بشير - رضي اللَّه تعالى عنهما - في "كتاب النحل" قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى- مع أن ذلك يقع في

(1)

"تهذيب التهذيب" 3/ 266.

ص: 135

يقع في حال الصحّة، وقوّة الملك، وإمكان تلافي العدل بينهم بإعطاء الذي لم يُعطه فيما بعد ذلك؛ لما فيه من إيقاع العداوة، والحسد بينهم، فكون ذلك أشدّ في حال الموت، أو المرض، وضعف الملك، وتعلّق حقوق الغير به، وتعذّر تلافي العدل بينهم أحرى، وأولى.

وهذا مجمعٌ عليه فيما إذا لم يجزه الورثة، فإن أجازوا، ففيه اختلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه في المسألة الثالثة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عمرو بن خارجة رضي الله عنه هذا صحيح.

[تنبيه]: حديث: "لا وصيّة لوارث"، روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: عمرو بن خارجة، وأبو أمامة الباهليّ، وعبد اللَّه بن عبّاس، وأنس بن مالك، وعبد اللَّه ابن عمرو، وجابر بن عبد اللَّه، وعليّ بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن عمر، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، رضي الله عنهم.

قال في "الفتح": عند قول البخاريّ: "باب لا وصيّة لوارث": هذه الترجمة لفظ حديث مرفوع، كأنه لم يثبت على شرط البخاريّ، فترجم به كعادته، واستغنى بما يُعطي حكمه. وقد أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وغيرهما من حديث أبي أمامة صلى الله عليه وسلم: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته في حجة الوداع: "إن اللَّه قد أعطى كلَّ ذي حقّ حقّه، فلا وصيّة لوارث". وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وقد قوّى حديثه عن الشاميين جماعة من الأئمة، منهم أحمد، والبخارقي. وهذا من روايته عن شُرحبيل بن مسلم، وهو شاميّ ثقة، وصرّح في روايته بالتحديث عند الترمذيّ، وقال الترمذيّ: حديث حسن. وفي الباب عن عمرو بن خارجة، عند الترمذيّ، والنسائيّ، وعن أنس عند ابن ماجه، وعن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه، عند الدارقطنيّ، وعن جابر عند الدارقطنيّ أيضًا، وقال: الصواب إرساله، وعن عليّ عند ابن أبي شيبة، ولا يخلو إسناد كلّ منها عن مقال، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلاً، بل جنح الشافعيّ في "الأمّ" إلى أن هذا المتن متواتر، فقال: وجدنا أهل الفتيا، ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش، وغيرهم، لا يختلفون في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح:"لا وصيّة لوارث"، ويؤثرون عمن حفظوه عنه ممن لَقُوه من أهل العلم، فكان نقل كافّة، عن كافّة، فهو أقوى من نقل واحد. وقد نازع الفخر الرازيّ في كون هذا الحديث

ص: 136

متواترّا، وعلى تقدير تسليم ذلك، فالمشهور من مذهب الشافعيّ أن القرآن لا ينسخ بالسنّة، لكن الحجة في هذا الإجماع على مقتضاه، كما صرّح به الشافعيّ وغيره. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن حديث الباب صحيح؛ بمجموع طرقه، فقد مرّ آنفّا أنه مرويّ عن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، بطرق كثيرة، وقد قام بتخريجها، والكلام عليها الشيخ الألبانيّ في كتابه الممتع "إرواء الغليل"، فأجاد، وأفاد، فراجعه 6/ 87 - 99 - تستفد. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: حديث عمرو بن خارجة رضي الله عنه هذا وقع فيه اضطراب، فقد رواه أبو عوانة، وشعبة، أو سعيد، كلاهما عن قتادة، عن شهر عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو، كما في هذه الرواية، والتي بعدها، ورواه إسماعيل بن أبي خالد، عن قتادة، عن عمرو بن خارجة، ولم يذكر بينهما أحدًا، كما في الرواية الثالثة.

قال الحافظ أبو الحجّاج المزيّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد ذكر نحو ما تقدّم آنفًا: ما نصّه: رواه هشام الدستوائيّ، وحماد بن سلمة، وعبد الغفّار بن القاسم، وطلحة بن عبد الرحمن، ومُجَّاعَةُ بن الزبير، عن قتادة، نحو الأول. ورواه سعيد بن أبي عروبة أيضًا، عن مطر الورّاق، عن شهر، عن عبد الرحمن، عن عمرو.

ورواه همام بن يحيى، والحجاج بن أرطاة، وعبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود، والحسن بن دينار، وبُكير بن أبي السميط، عن قتادة، فلم يذكروا ابن غنم. وكذلك رواه ليث بن أبي سُليم، وأبو بكر الهذليّ، عن شهر. ورواه مسلم بن إبراهيم، عن أبي بكر الهذليّ، عن شهر، عن عبد الرحمن بن غنم. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-5/ 3668 و 3669 و3670 - وفي "الكبرى" 5/ 6468 و6469 و6470. وأخرجه (ت) في "الوصايا" 2121 (ق) في "الوصايا" 2712 (أحمد) في "مسند الشاميين" 17210 و17213 و17621 و17621 (الدارمي) في "الوصايا" 3260. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف العلماء في حكم الوصية للوارث:

قال العلامة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: إذا أوصى لوارثه بوصيّة، فلم يُجزها سائر الورثة، لم تصحّ، بغير خلاف بين العلماء. قال ابن المنذر، وابن عبد البرّ: أجمع أهل

(1)

"فتح" 6/ 23 - 24. "كتاب الوصايا".

(2)

"تحفة الأشراف" 8/ 150 - 151.

ص: 137

العلم على هذا، وجاءت الأخبار عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بذلك.

وإن أجازها الورثة جازت في قول الجمهور من العلماء. وقال بعضهم: الوصيّة باطلة، وإن أجازوها، وهو قول المزنيّ، وأهل الظاهر، وهو قول للشافعيّ، واحتجّوا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"لا وصيّة لوارث". وظاهر مذهب أحمد، والشافعيّ أن الوصيّة صحيحة في نفسها، وهو قول جمهور العلماء؛ لأنه تصرّف صدر من أهله في محلّه، فصحّ، كما أَبُو أوصى لأجنبيّ، والخبر قد روي فيه:"إلا أن يُجيز الورثة"

(1)

، والاستثناء من النفي إثبات، فيكون دليلاً على صحّة الوصيّة عند الإجازة. ولو خلا من الاستثناء كان معناه لا وصيّة نافذة، أو لازمة، أو ما أشبه ذلك، أو يقدّر فيه: لا وصيّة لوارث عند عدم الإجازة من غيره من الورثة.

وفائدة الخلاف أن الوصيّة إذا كانت صحيحة، فإجازة الورثة تنفيذٌ، وإجازة محضةٌ، يكفي فيها قول الوارث: أجزت، أو أمضيتُ، أو نقّذت، فإذا قال ذلك لزمت الوصيّة، وإن كانت باطلة، كانت الإجازة هبة مبتداةً، تفتقر إلى شروط الهبة من اللفظ، والقبول، والقبض، كالهبة المبتدأة، ولو رجع المجيز قبل القبض فيما يُعتبر فيه القبض صحّ رجوعه. انتهى كلام ابن قدامة بتصرف يسير

(2)

.

وقال في "الفتح": واستُدلّ بحديث "لا وصيّة لوارث" على أنه لا تصحّ الوصيّة للوارث أصلاً، وعلى تقدير نفاذها من الثلث، لا تصحّ الوصيّة له، ولا لغيره بما زاد على الثلث، ولو أجازت الورثة، وبه قال المزنيّ، وداود، وقوّاه السبكيّ، واحتجّ له بحديث عمران بن حصين رضي الله عنه في الذي أعتق ستة أعبد، فان فيه عند مسلم، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم قولاً شديدًا، وفُسّر القول الشديد في رواية أخرى بأنه قال:"لو علمت ذلك ما صلّيتُ عليه"، ولم يُنقل أنه راجع الورثة، فدلّ على منعه مطلقًا، وبقوله في حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه:"وكان بعد ذلك الثلث جائزًا"، فإن مفهومه أن الزائد على الثلث ليس بجائز، وبأنه صلى الله عليه وسلم منع سعدًا من الوصيّة بالشطر، ولم يسثن صورة الإجازة. انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد أجاد السبكيّ -رحمه اللَّه تعالى- في هذه الاحتجاجات الواضحة التي تقوّي إطلاق حديث الباب، لا وصيّة لوارث.

(1)

هذا الاستثناء غير صحيح، فإنه بإسناده ضعيف، بل قال بعضهم: إنه منكر. راجع "إرواء الغليل" 6/ 96 - 99

(2)

"المغني" 8/ 396 - 397.

(3)

"فتح" 6/ 25.

ص: 138

والحاصل أن القول بعدم جواز الوصيّة للوارث مطلقًا، أجازها الورثة، أم لا، هو الحقّ؛ لهذه الأدلة الواضحة، وأما الاستثناء المذكور، فإنه ضعيف، لا تقوم به الحجّة، بل قال بعضهم: إنه مثكر، وأما ما ذكره ابن قدامة من التعليل بأنه تصرّف صدر من أهله في محلّه، فصحّ، فإنه تعليل عقليٌّ في مقابلة النصّ، فلا يُلتفت إليه، ولقد سبق غير مرّة أن ذكرنا قول من قال، وأجاد في المقال:

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصَّ يَوْمًا

تجُارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدّتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3669 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، أَنَّ ابْنَ غَنْمٍ ذَكَرَ، أَنَّ ابْنَ خَارِجَةَ، ذَكَرَ لَهُ، أَنَّهُ شَهِدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَخْطُبُ النَّاسَ، عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَإِنَّهَا لَتَقْصَعُ بِجِرَّتِهَا، وَإِنَّ لُعَابَهَا لَيَسِيلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي خُطْبَتِهِ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَسَّمَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، قِسْمَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَلَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ. وقوله: "حدثنا شعبة" هكذا نسخ "المجتبى"، والذي في "الكبرى":"حدّثنا سعيد" يعني ابن أبي عروبة. وكذلك ذكر في "تحفة الأشراف" 8/ 150 - 151 اختلاف النسخ، فقال:"عن شعبة"، وفي نسخة "عن سعيد".

والظاهر أن سعيدًا أصحّ، لأن ابن ماجه أخرجه في "سننه" عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، عن سعيد، عن قتادة الخ.

وأيضًا فإن المعروف أن شعبة لا يروي لشهر بن حوشب. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "وإنها لتقصع بجرتها": قال في "القاموس": قَصَعَتِ الناقةُ بِجِرَتها، كمنعت: ردّتها إلى جوفها، أو مَضغتها، أو هو بعدَ الدَّسْعِ، وقبل المَضْغِ، أو هو أن تملأ بها فاها، أو شِدّة المضْغ انتهى.

وقال الأزهريّ: الجِرَة بالكسر ما تخُرجه الإبل من كُرُوشها، فتَجترّه، فالجِرَّةُ في الأصل للمعدة، ثم تَوَسّعوا فيها حتى أطلقوها على ما في المعدة، وجمع الجِرَة جِرَرٌ، مثلُ سِدْرَة، وسِدَر. انتهى. قاله في "المصباح".

وقال في "النهاية": القَصْعُ: شدّة المضغ، والْجِرَّةُ: ما يُخرجه البعير من بطنه ليَمْضَغَه، ثم يَبلَعَه، يقال: اجترّ البعير يَجترّ. قال: أراد شدّة المضغ، وضمّ بعض الأسنان على بعض. وقيل: قَصْع الجزة خروجها من الجوف إلى الشِّدق، ومتابعة

ص: 139

بعضها بعضًا، وإنما تفعل ذلك الناقة إذا كانت مطمئتّةً، وإذا خافت شيئًا لم تخرجها.

وأصله من تقصيع اليربوع، وهو إخراجه تُراب قاصعائه، وهو جُحْرُهُ. انتهى

(1)

.

والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3670 -

(أَخْبَرَنَا عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ اسْمُهُ، قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة. والحديث في إسناد اضطراب كما سبق بيانه، إلا أنه صحيح بما تقدم، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌6 - (بَابٌ إِذَا أَوْصَى لِعَشِيرَتِهِ الأَقْرَبِينَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: إنما حذف المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- جواب "إذا" إشارةٌ إلى أن المسألة فيها خلاف بين العلماء، هل يصحّ، أم لا؟، ومن هم الأقارب؟، لكن استدلاله بحديث الباب يدلّ على أنه يرجّح القول بالجواز، وأن المراد بالأقارب هم تمام قبيلته، ولا يختصّ بها بعض دون بعض؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أُمر بإنذار عشيرته الأقربين عمّم بالإنذار تمام قريش، وهم قبيلته، وما خَصّ به أحدًا منهم، دون غيرهم.

وقد ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- بترجمة تعمّ الوقف والوصيّة؛ لاتّحادهما في الحكم، فقال:"باب إذا وقف، أو أوصى لأقاربه، ومن الأقارب؟ ".

قال في "الفتح": وحذف المصنّف جواب قوله: "إذا" إشارة إلى الخلاف في ذلك، أي هل يصحّ، أم لا؟، وأورد المسألة الأخرى مورد الاستفهام لذلك أيضًا، وتضمّنت

(1)

"النهاية" 1/ 259 و4/ 72.

(2)

وفي نسخة: "حدثنا"، وفي أخرى:"أخبرنا".

ص: 140

الترجمة التسوية بين الوقف، والوصية فيما يتعلّق بالأقارب. وقد استطرد المصنّف من هنا إلى مسائل الوقف، فترجم لما ظهر له منها، ثم رجع أخيرًا إلى تكملة "كتاب الوصايا". وقد قال الماورديّ: تجوز الوصيّة لكلّ من جاز الوقف عليه، من صغير، وكبير، وعاقل، ومجنون، وموجود، ومعدوم، إذا لم يكن وارثًا، ولا قاتلاً. والوقف منع بيع الرقبة، والتصدّق بالمنفعة على وجه مخصوص. انتهى

(1)

.

وسيأتي بيان اختلاف العلماء في الأقارب، في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.

3671 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا، فَاجْتَمَعُوا، فَعَمَّ، وَخَصَّ، فَقَالَ: «يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَيَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَيَا بَنِي هَاشِمٍ، وَيَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، وَيَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا، سَأَبُلُّهَا بِبِلَالِهَا»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق) بن إبراهيم الحنظليّ المروزيّ، ثم النيسابوريّ، المعروف بابن راهويه، ثقة ثبت مجتهد [10] 2/ 2.

2 -

(جرير) بن عبد الحميد بن قُرط الضبّي، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب [8] 2/ 2.

3 -

(عبد الملك بن عُمير) بن سُويد اللِّخمِيّ الفَرَسيّ الكوفيّ، ثقة فقيه، تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3] 41/ 947.

4 -

(موسى بن طلحة) بن عبيد اللَّه: هو التيميّ، أبو عيسى، أو أبو محمد المدنيّ، نزيل الكوفة، ثقة جليل [2] 10/ 468.

5 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن فيه أبا هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - رأس المكثرين من الرواية، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"فتح" 6/ 32 - 33. "كتاب الوصايا".

ص: 141

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وأخرجه الشيخان أيضًا من حديث ابن عباس صلى الله عليه وسلم، قال في "الفتح": هذا يعتبر من مراسيل الصحابة، وبذلك جزم الإسماعيليّ؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه إنما أسلم بالمدينة، وهذه القصّة وقعت بمكّة، وابن عبّاس كان حينئذ إما لم يولد، وإما طفلاً، ويؤيّد الثاني نداء فاطمة، فإنه يُشعر بأنها كانت حينئذ بحيث تخاطب بالأحكام. قال: ويحتمل أن تكون هذه القصّة وقعت مرّتين، لكن الأصل عدم تكرار النزول، وقد صرّح في هذه الرواية بأن ذلك وقع حين نزلت. نعم وقع عند الطبرانيّ من حديث أبي أُمامة، قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ} [الشعراء: 214] جمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بني هاشم، ونساءه، وأهله، فقال: يا بني هاشم، اشتروا أنفسكم من النار، واسعَوا في فكاك رقابكم، يا عائشة بنت أبي بكر، يا حفصة بنت عمر، يا أم سلمة"، فذكر حديثًا طويلَا، فهذا إن ثبت دلّ على تعدّد القصّة؛ لأن القصّة الأولى وقعت بمكة؛ لتصريحه في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه صَعِد الصفا، ولم تكن عائشة، وحفصة، وأم سلمة عنده، ومن أزواجه إلا بالمدينة، فيجوز أن تكون متأخرة عن الأولى، فيمكن أن يحضرها أبو هريرة، وابن عبّاس رضي الله عنهما أيضًا، ويُحمل قوله: "لما نزلت

جمع" أي بعد ذلك، لا أن الجمع وقع على الفور، ولعلّه كان نزل أوّلاً: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، فجمع قريشًا، فعمّ، وخصّ، كما سيأتي، ثم نزل ثانيًا: "ورهطك منهم المخلصين"، فخصّ بذلك بني هاشم، ونساءه. واللَّه أعلم

(1)

.

(قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}) زاد في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما عند الشيخين من طريق عمرو بن مرّة، عن سعيد بن جبير، عنه:"ورهطك منهم المخلصين". وهذه الزيادة وصلها الطبريّ من وجه آخر عن عمرو بن مرّة أنه كان يقرؤها كذلك. قال القرطبيّ: لعل هذه الزيادة كانت قرآنًا، فنُسخت تلاوتها. ثم استشكل ذلك بأن المراد إنذار الكفّار، والمخلص صفة المؤمن. والجواب عن ذلك أنه لا يمتنع عطف الخاص على العامّ، فقوله:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ} عامّ فيمن آمن منهم، ومن لم يؤمن، ثم عطف عليه الرهط المخلصين، تنويهًا بهم، وتأكيدًا.

(دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا) بصيغة التصغير، هو النضر بن كنانة، ومن لم يلده فليس بقرشيّ. وقيل: قريش، هو فِهْر بن مالك، ومن لم يلده فليس من قريش. نقله السُّهَيليّ وغيره.

(1)

"فتح" 9/ 4500 - 4501. "تفسير سورة الشعراء".

ص: 142

وإلى هذا أشار الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "ألفية السيرة"، حيث قال:

أَمَّا قُرَيشٌ فَالأَصَحُّ فِهْرُ

جَمَّاعُهَا وَالأَكَثَرُونَ النَّضْرُ

وأصل القَرْش: الجمع، وتقرّشوا: إذا تجمّعوا، وبذلك سمّيت قريشٌ. وقيل: قُريش دابّةٌ تسكن البحر، وبه سُمّي الرجل، قال الشاعر [من الخفيف]:

وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْـ

ـرَ بهَا سُمَّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا

وُينسب إلى قُريش بحذف الياء، فيقال. قرشيّ، وربّما نُسب إليه في الشعر من غير تغيير، فيقال: قُريشيّ. أفاده الفيّوميّ.

(فَاجْتَمَعُوا، فَعَمَّ) أي عمهم بالإنذار (وَخَصَّ) أي خصّ من كان أهلاً لذلك بالخطاب والنداء (فَقَالَ: "يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَيَا بَني عَبْدِ مَنَافٍ، وَيَا بَنِي هَاشِمٍ، وَيَا بَنِي عَبدِ الْمُطَّلِبِ) وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: "فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عديّ، لبطون قريش". ووقع عند البلاذريّ من وجه آخر عن ابن عباس أبين من هذا، ولفظه:"فقال: يا بني فهر، فاجتمعوا، ثم قال: يا بني غالب، فرجع بنو محارب، والحارث ابنا فهر، فقال: يا بني لؤيّ، فرجع بنو الأدرم بن غالب، فقال: يا آل كعب، فرجع بنو عديّ، وسهم، وجمح، فقال: يا آل كلاب، فرجع بنو مخزوم، وتيم، فقال: يا آل قُصيّ، فرجع بنو زهرة، فقال: يا آل عبد مناف، فرجع بنو عبد الدار، وعبد العزّى، فقال له أبو لهب: هؤلاء بنو عبدمناف عندك". وعند الواقديّ أنه قصر الدعوة على بني هاشم والمطّلب، وهم يومئذ خمسة وأربعون رجلاً. وفي حديث عليّ رضي الله عنه عند ابن إسحاق، والطبريّ، والبيهقيّ في "الدلائل" أنهم كانوا حينئذ أربعين، يزيدون رجلاً، أو ينقصون، وفيه عمومته: أبو طالب، وحمزة، والعبّاس، وأبو لهب. ولابن أبي حاتم من وجه آخر عنه أنهم يومئذ أربعون غير رجل، أو أربعون ورجل. وفي حديث عليّ من الزيادة: صنع لهم شاةً على ثريد، وقعب لبن، وأن الجميع أكلوا من ذلك، وشربوا، وفضلت فضلة، وقد كان الواحد منهم يأتي على جميع ذلك. قاله في "الفتح".

(أَنْقِذُوا) من الإنقاذ: أي خلّصوها من النار بترك أسبابها، والاشتغال بأسباب الجنّة (أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ) وفي الرواية الآتية:"اشتروا أنفسكم من ربّكم"، وفي لفظ:"من اللَّه". أي باعتبار تخليصها من النار، كأنه قال: أسلموا تَسلَموا من العذاب، فكان ذلك كالشراء، كأنهم جعلوا الطاعة ثمن النجاة. وأما قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} الآية [التوبة: 111] فهناك المؤمن بائع، باعتبار تحصيل الثواب، والثمن الجنّة، وفيه إشارة إلى أن النفوس كلها ملك للَّه تعالى، وأن من أطاعه حقّ

ص: 143

طاعته في امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وفي ما عليه من الثمن. وباللَّه تعالى التوفيق.

(وَيَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَقسَكِ مِنَ النَّارِ، إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أي من رحمته، أو دفع عذابه، أو بدله. وثبوتُ الشفاعة لا يوجب أنه يملك شيئًا، سيّما إذا كان محتاجًا فيها إلى الإذن من اللَّه تعالى، فقد قال اللَّه تعالى:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} الآية [الزمر: 44]. وقال النووي: معناه: لا تتكلوا على قرابتي، فإني لا أقدر على دفع مكروه يرده اللَّه تعالى بكم انتهى

(1)

.

(غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا) اسثناء منقطع (سَأَبُلُّهَا) بضمّ الباء الموحّدة، من بلّ الرحم، من باب نصر: إذا وصدها، أي سأصلها في الدنيا، ولا أغني من اللَّه شيئًا. كذا في "النهاية". وقال السنديّ: أو بالشفاعة في الآخرة، أي إن آمنتم، لكن الوصل المشهور هو وصل الدنيا، لا وصل الآخرة. واستُعير الْبّلُّ لوصل الرحم؛ لأن بعض الأشياء تتصل بالنداوة، وتتفرّق باليبس، فاستُعير البلّ للوصل، واليبس للقطيعة (بِبِلَالِهَا) قال في "القاموس": بِلالٌ ككتاب: الماء، ويُثلّث، وكلّ ما يُبلّ به الحلقُ. وفي "المجمع": البِلالُ بكسر الباء، وئروى بفتحها، قيل: شَثهَ القطيعةَ بالحرارة، تطفا بالما. وفي "النهاية": البِلال جمع بَلَلٍ. وقيل: هو كلّ ما بلّ الحلق من ماء، أو لبن، أو غيره

(2)

. انتهى.

وقال النوويّ: ضبطناه بفتح الباء الثانية، وكسرها، وهما وجهان مشهوران، ذكرهما جماعات من العلماء. قال القاضي عياض: رويناه بالكسر، قال: ورأيت للخطّابيّ أنه بالفتح. وقال صاحب "المطالع": رويناه بكسر الباء، وفتحها، من بلّه يبُلّه، والبلال: الماء. ومعنى الحديث: سأصلها، شُبّهت قطيعة الرحم بالحرارة، ووصلها بإطفاء الحرارة ببرودة، ومنه "بُلُّوا أرحامكم" أي صلوها. انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"شرح مسلم" 2/ 80.

(2)

"النهاية" 1/ 153.

(3)

"شرح النوويّ" 2/ 80. "كتاب الإيمان".

ص: 144

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-6/ 3671 و3672 و3673 و3674 - وفي "الكبرى" 6/ 6471 و6472 و6473 و6474. وأخرجه (خ) في "الوصايا" 2753 و"المناقب" 3527 و"التفسير" 4771 (م) في "الإيمان" 204 (ت) في "التفسير" 3185 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 8197 و85095 و 8509 و26850 و 10347 (الدارمي) في "الرقاق" 2732. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان أنه إذا أوصى لأقارب فلان، يعمّ القبيلة كلها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما قيل له:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} عمّم قبيلته كلّها. (ومنها): أن الأقرب للرجل من كان يجمعه وهو جدٌّ أعلى، وكلّ من اجتمع معه في جدّ دون ذلك كان أقرب إليه. (ومنها): أن السرّ في الأمر بإنذار الأقربين أوّلاً أن الحجة إذا قامت عليهم تعدّت إلى غيرهم، وإلا فكانوا علّة للأبعدين في الامتناع، وأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب، من العطف، والرأفة، فيحابيهم في الدعوة والتخويف، فلذلك نصّ له على إنذارهم. (ومنها): أنه استدلّ بعض المالكيّة بقوله: "يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أُغني عنكِ من اللَّه شيئًا" أن النيابة لا تدخل في أعمال البرّ، إذ لو جاز ذلك لكان يتحمّل عنها صلى الله عليه وسلم بما يخلّصها، فإذا كان عمله لا يَقَعُ نيابةً عن ابنته، فغيره أولى بالمنع.

وتُعُقّب بأن هذا كان قبل أن يُعلمه اللَّه سبحانه وتعالى بأنه يشفع فيمن أراد، وتُقبل شفاعته، حتى يدخل قومّا بغير حساب، ويَرقع درجات قوم، ويُخرِج من النار من دخلها بذنوبه، أو كان المقام مقام التخويف والتحذير. أو أنه أراد المبالغة في الحضّ على العمل، ويكون في قوله:"لا أغني شيئًا" إضمار إلا إن أذن اللَّه لي بالشفاعة. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في المراد بالأقارب، إذا أوصى لأقارب فلان:

قال أبو حنيفة: أن القرابة كلّ ذي رحم محرم من قبل الأب أوالأمّ، ولكن يبدأ بقرابة الأب قبل قرابة الأم. وقال أبو يوسف ومحمد: من جمعهم أب منذ الهجرة، من قبل أب، أو أم، من غير تفصيل، زاد زفر: ويُقدّم من قرب منهم، وهي رواية عن أبي حنيفة

(1)

"فتح" 9/ 451. "تفسير سورة الشعراء".

ص: 145

أيضًا. وأقلّ من يُدفع إليه ثلاثة. وعن محمد اثنان. وعند أبي يوسف واحد. ولا يُصرف للأغنياء عندهم، إلا أن يشترط ذلك.

وقالت الشافعيّة: القريب من اجتمع في النسب، سواء قرب، أم بعُدَ، مسلمًا كان، أو كافرًا، غنيًّا كان، أو فقيرًا، ذكراً كان، أو أُنثى، وارثًا أو غير وارث، محرمًا، أو غير محرم.

واختلفوا في الأصول والفروع على وجهين، وقالوا: إن وجد جمعٌ محصورون أكثر من ثلاثة استوعبوا. وقيل: يُقتصر على ثلاثة، وإن كانوا غير محصووين، فنقل الطحاويّ الاتفاق على البطلان. وفيه نظر؛ لأن عند الشافعيّة وجهًا بالجواز، ويُصرف منهم لثلاثة، ولا تجب التسوية.

وقال أحمد في القرابة كالشافعيّ، إلا أنه أخرج الكافر، وفي رواية عنه القرابة من جمعه، والموصي الأب الرابع إلى ما هو أسفل منه.

وقال مالك: يختصّ بالعصبة، سواء كان يرثه أو لا، ويُبدأ بفقرائهم حتى يغنوا، ثم يُعطى الأغنياء. قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه من قال بتعميم القرابة مطلقًا

(2)

، أرجح؛ لأن أبا طلحة رضي الله عنه لما قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم في وقفه بيرحاء:"اجعلها لفقراء قرابتك" جعلها لحسّان بن ثابت، وأبيّ بن كعب، وكان حسّان يجتمع معه في حرام بن عمرو، فأبو طلحة هو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة ابن عديّ بن عمرو بن مالك بن النجّار. وحسّان هو ابن ثابت بن المنذر بن حرام، فاجتمعا في حرام، وهو الأب الثالث. وأما أُبيّ، فهو ابن كعب بن قيس بن عُبيد بن بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجّار، فاجتمعا في عمرو بن مالك، وهو الأب السادس.

ووجه الاستدلال أنه لما أمره صلى الله عليه وسلم أن يجعل وقفه لفقراء قرابته جعلها لهما، ولم يقدّم حسّانًا على أبي، فدلّ على أن كلّ من اجتمع مع الموصي في جدّ، فهو أحقّ بالوصيّة، ومثله الوقف.

وهذا هو الذي دلّ عليه ظاهر ترجمة المصنّف، والبخاريّ -رحمهما اللَّه تعالى-، حيث استدلاّ على ذلك بتعميم النبيّ صلى الله عليه وسلم المذكور في حديث الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"فتح" 6/ 33. "كتاب الوصايا".

(2)

لكن الكافر لا يدخل كما قال الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى-.

ص: 146

3672 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ -وَهُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ- عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ رَحِمٌ، أَنَا بَالُّهَا

(2)

بِبِلَالِهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، "أحمد بن سليمان" أبي الحسين الرُّهاويّ، فإنه من أفراد المصنّف، وهو ثقة حافظ. وكلهم تقدّموا، غير:

1 -

(معاوية بن إسحاق) بن طلحة بن عُبيد اللَّه التيميّ، أبي الأزهر الكوفيّ، صدوق، ربّما وهم [6].

قال أحمد، والنسائيّ، وابن سعد، والعجليّ: ثقة. وقال أبو حاتم، ويعقوب بن سفيان: لا بأس به. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال أبو زرعة: شيخٌ واه. روى له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "القدر"، وابن ماجه. وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

و"عبيد اللَّه بن موسى": هو ابن أبي المختار باذام العبسيّ الكوفيّ. و"إسرائيل": هو ابن يونس.

والحديث صحيحٌ، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3673 -

(أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} ، قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو أبو الربيع المصريّ، فإنه ممن تفرّد به هو، وأبو داود، وهو ثقة.

(1)

وفي نسخة: "أخبرني"، وفي أخرى:"أخبرنا".

(2)

وفي نسخة: "أبُلُّها".

ص: 147

وقوله: "يا صفيّة عمّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ""صفيّة" مبنيّ على الضمّ؛ لكونه نكرة مقصودة، وأما "عمّة" فمنصوب لا غير، وقد أشار إلى ذلك ابن مالك بقوله:

تَابعَ ذِي الضَّّمِّ الْمُضَافَ دُونَ "أَلْ"

أَلْزِمْهُ نَصْبًا كـ "أَزَيْدُ ذَا الْحِيَلْ"

فما وقع في "الفتح" -9/ 452 - من قوله: "ويجوز في "صفيّة" الرفع والنصب"

(1)

.

ففيه أنه اشتبه عليه هذا بقوله:، يا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم "، فإنه هو الذي يجوز فيه ما ذُكر، فيجوز ضمّ فاطمة، ونصبه، وأما "بنت" فمنصوب لا غير، وإلى هذا أشار ابن مالك بقوله:

وَنَحْوَ "زَيْدٍ" ضُمَّ وَافْتَحَنَّ مِنْ

نَحْوِ "أَزَيْدُ بْنَ سعِيدِ لَا تَهِنْ"

فقد قال العلماء: إن "ابنة" مثل "ابن" في ذلك، راجع شروح "الخلاصة" وحواشيها في "باب النداء"، تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: "سليني ما شئت" أي مما أقدر عليه، من أمور الدنيا، فأعطيك.

والحديث متّفقٌ عليه. وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3674 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ، سَلِينِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير:"محمد بن خالد": وهو الكلاعيّ، أبو الحسين الحمصيّ، فإنه من أفراده، وقد وثّقه هو. و"شعيب": هو ابن أبي دينار حمزة الحمصيّ.

والحديث متّفق عليه، وقد سبق البحث عنه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3675 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ -وَهُوَ ابْنُ عُرْوَةَ- عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ

(1)

"فتح" 9/ 452 "تفسير سورة الشعراء".

ص: 148

الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«يَا فَاطِمَةُ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"إسحاق بن إبراهيم": هو ابن راهويه. و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير الكوفيّ.

وقولها: "لَمّا نزلت هذه الآية الخ" ولفظ مسلم من طريق وكيع، ويونس بن بكير، كلاهما عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنهما، قالت: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، على الصفا، فقال:"يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من اللَّه شيئا، سلوني من مالي ما شئتم".

وقوله: "يا فاطمة بنت محمد" يجوز نصب "فاطمة"، و"صفيًة"، و"عباس"، وضمها، والنصب أفصح، وأشهر، وأما "بنت" فمنصوب لا غير. وهذا وإن كان ظاهرًا، معروفًا، فلا بأس بالتنبيه عليه لمن لا يحفظه. وأفرد صلى الله عليه وسلم هؤلاء لشدّة قرابتهم. قاله النوويّ

(1)

.

وشرح الحديث سبق مستوفًى في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-6/ 3675 - وفي "الكبرى" 6/ 6475. وأخرجه (م) في "الإيمان" 205 (ت) في "الزهد" 2310 و"التفسير" 3184 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 24523 و 25008. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

(1)

"شرح مسلم" 2/ 80 - 81.

ص: 149

‌7 - (إِذَا مَاتَ الْفَجْأَةَ، هَلْ يُسْتَحَبُّ لأَهْلِهِ أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَنْهُ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ووقع في نسخة: "فَجْأَة" بالتنكير، وهو بفتح الفاء، وسكون الجيم، وفي "الهنديّة":"الفُجَآءة" بالمدّ، وفي نسخة "فُجَآءةَ" بالتنكير، وعليهما فالفاء مضمومة، والجيم مفتوحة.

قال ابن الأثير: يقال: فَجِئه الأمر، وفَجَأه فُجاءةً بالضمّ والمدّ، وفاجأه مُفاجأَةَ: إذا بغته من غير تقدّم سبب، وقيّده بعضهم بفتح الفاء، وسكون الجيم، من غير مدّ، على المرّة. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ: فَجِئتُ الرجلّ أَفْجَأُهُ مهموزٌ، من باب تَعِبَ، وفي لغة بفتحتين: جئتُهُ بغتةً، والاسمُ الْفُجَاءةُ بالضمّ، والمدّ، وفي لغة وِزانُ تمرة، وفَجِأَهُ الأمرُ، من باب تَعِبَ، ونَفَعَ أيضًا: وفاجأه مُفاجأةً: أي عاجله. انتهى.

و"الفَجْأةُ" -بفتح الفاء، وسكون الجيم، بغير مدّ، ويقال: "الْفُجَاءَةُ -بضمّ الفاء، والمدّ-: هي الهُجُوم على من لم يَشعُر به، وموت الفَجْأة وقوعه: بغير سبب، من مرض وغيره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3676 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلاً، قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَإِنَّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ» ، فَتَصَدَّقَ عَنْهَا).

وجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد بن سلمة) أبوالحارث المراديّ الجمليّ المصريّ ثقة ثبت [11] 19/ 20.

2 -

(ابن القاسم) عبد الرحمن الْعُتَقيّ المصريّ الفقيه، صاحب الإمام مالك، ثقة، من كبار [10] 19/ 20.

3 -

(مالك) بن أنس إمام دار الهجرة الثقة الثبت الحجة [7] 7/ 7.

4 -

(هشام بن عروة) أبو المنذر المدني، ثقة فقيه، ربما دلس [5] 40/ 44.

(1)

"النهاية" 3/ 412.

ص: 150

5 -

(أبوه) عروة بن الزبير بن العوّام المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 40/ 44.

6 -

(عائشة) أم المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنها -5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فمصريّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَائِشَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنها - (أَنَّ رَجُلاً) هو سعد بن عبادة رضي الله عنه الآتي قريبًا (قَالَ: لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمِّي) هي: عمرة بنت سعد بن عمرو بن زيد مناة، وقيل: بنت سعد بن قيس، وقيل: بنت مسعود بن قيس بن عمرو بن زيد مناة بن عديّ بن عمرو بن مالك بن النجّار. ماتت في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة خمس. قال ابن سعد: ماتت والنبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة دُومة الجندل، في شهر ربيع الأول، فلما جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة أتى قبرها، فصلّى عليها

(1)

.

(افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا) -بضمّ المثنّاة، وكسر اللام-: أي سُلبت، على ما لم يُسمّ فاعله، و"نفسها" بالرفع نائب الفاعل. يقال: اقتُلت فلانٌ: أي مات فجأةٌ، وافتُلتت نفسه كذلك. وضبطه بعضهم بفتح السين، إما على التمييز، وإما على أنه مفعول ثان. والفَلْتَةُ، والإفلات: ما وقع بغتة، من غير رويّة. وذكر ابن قُتية بالقاف، وتقديم المثنّاة، وقال: هي كلمة تفال لمن قتله الحبّ، ولمن مات فَجْأةً، والمشهور في الروية بالفاء

(2)

.

وقال في "النهاية": "افتُلتت نفسها": أي ماتت فَجأةً، وأُخذت نفسُها فَلْتَةً، يقال: افتلته: إذا استلبه، وافتُلت فلان بكذا: إذا فُوجيء قبل أن يستعدّ له. ويُروى بنصب "النفس"، ورفعها، فمعنى النصب: افتلتها اللَّه نفسها، مُعدّى إلى مفعولين، كما تقول: اختلسه الشيءَ، واستلبه إياه، ثم بُني الفعل لما لم يُسمّ فاعلُهُ، فتحوّل المفعول الأول مُضمرّا، وبقي الثاني منصوبًا، وتكون التاء الأخيرة ضمير الأمّ: أي افتُلِتت هي نفسَهَا انتهى

(3)

.

(1)

راجع "الإصابة" 13/ 52 - 53.

(2)

"فتح" 3/ 628 "كتاب الجنائز".

(3)

"النهاية" 3/ 467.

ص: 151

(وَإِنَّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ) وفي رواية البخاريّ في "الوصايا" عن عبد اللَّه بن يوسف، عن مالك:"وأُراها لو تكلّمت تصدّقت"، وهو بضمّ همزة "أُراها"، وفي رواية له في "الجنائز" من وجه آخر، عن هشام بلفظ:"وأظنّها". قال في "الفتح": وهو يُشعر بأن رواية ابن القاسم عن مالك، عند النسائيّ، بلفظ:"وإنها لو تكلّمت" تصحيفٌ، وظاهره أنها لم تتكلّم، فلم تتصدّق، لكن في "الموطّإ" عن سعيد بن عمرو بن شُرَحبيل ابن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، عن جدّه، قال:"خرج سعد بن عبادة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، وحضرت أمه الوفاة بالمدينة، قيل لها أوصي، فقالت: فيم أوصي؟ المال مال سعد، فتُوفّيت قبل أن يقدم سعد"، فذكر الحديث، فإن أمكن تأويل رواية الباب بأن المراد أنها لم تتكلّم، أي بالصدقة، "ولو تكلّمت لتصدّقت"، أي فكيف أمضي ذلك؟، أو يُحمل على أن سعداً ما عَرَف بما وقع منها، فإن الذي روى هذا الكلام في "الموطإ" هو سعيد بن سعد بن عبادة، أو ولده شُرَحبيل مرسلاً، فعلى التقديرين لم يتّحد راوي الإثبات، وراوي النفي، فيمكن الجمع بينهما بذلك. واللَّه أعلم. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رواية "الموطّإ" التي ذكرها هي الرواية التالية للمصنّف هنا. وحاصل الجواب أن المراد أنها لم تتكلّم بصدقة شيء معيّن، وإنها لما قيل لها: أوصي، قالت: الوصيّة تعتمد على المال الموصى به، وليس لي ذلك، وإنما هو لسعد، فلما جاء سعد رضي الله عنه بعد موتها، وأخبر بما قالت: أراد أن يتصدّق عنها، فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمره به.

والحاصل أن دعوى التصحيف في رواية المصنّف غير صحيحة؛ للجمع بين الروايتين بما ذكر. واللَّه تعالى أعلم.

(أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟) وفي الرواية التالية: "هل ينفعها أن أتصدّق عنها؟ "، وفي رواية للبخاريّ:"فهل لها أجرٌ إن تصدّقت عنها؟ "، قال: نعم"، ولبعضهم: "أتصدّق عليها، أو أصرفه على مصلحتها" (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"نَعَمْ"، فَتَصَدَّقَ عَنْهَا) وفي الرواية التالية:"فقال سعد: حائط كذا وكذا صدقة عنها، لحائط سمّاه". وفي رواية ابن عبّاس رضي الله عنهما الآتي في -3682 - "قال: فإن لي مَخْرَفًا، فأُشهدك أني قد تصدّقت به عنها". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسانل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا متّفقٌ عليه.

ص: 152

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-7/ 3676 - وفي "الكبرى" 7/ 6476. وأخرجه (خ) في "الجنائز" 1388 و"الوصايا" 2760 (م) في "الوصايا" 10040 (د) في "الوصايا" 2881 (ق) في "الوصايا" 2717 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23730 (الموطأ) في "الأقضية" 1490. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان استحباب الصدقة لمن مات فَجأة. (ومنها): جواز الصدقة عن الميت، وأن ذلك ينفعه بوصول ثواب الصدقة إليه، ولا سيّما إن كان من الولد، وهو مخصّص لعموم قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، ويلتحق بالصدقة العتق عنه، عند الجمهور؛ خلافًا للمشهور عند المالكيّة. وقد اختُلف في غير الصدقة من أعمال البرّ، هل تصل إلى الميت، كالحجّ، والصوم؟. (ومنها): أن ترك الوصيّة جائزٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يذُمّ أم سعد على ترك الوصيّة. قاله ابن المنذر. وتُعُقّب بأن الإنكار عليها قد تعذّر لموتها، وسقط عنها التكليف. وأجيب بأن فائدة إنكار ذلك لو كان منكرًا ليتّعظ غيرها ممن سمعه، فلما أقرّ على ذلك دك على الجواز. (ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنه من استشارة النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمور الدين. (ومنها): العمل بالظنّ الغالب. (ومنها): مشروعيّة الجهاد في حياة الأمّ، وهو محمول على أنه استأذنها. (ومنها): السؤال عن التحمّل، والمسارعة إلى عمل البرّ، والمبادرة إلى برّ الوالدين. (ومنها): أن إظهار الصدقة قد يكون خيرًا من إخفائها، وهو عند اغتنام صدق النيّة فيه. (ومنها): أن للحاكم تحمّل الشهادة في غير مجلس الحكم، نبّه على ذلك أبو محمد بن أبي جمرة -رحمه اللَّه تعالى-، ونقله الحافظ في "الفتح"، وقال: وفي بعضه نظرٌ لا يخفى، وكلامه على أصل الحديث، وهو في حديث ابن عبّاس أبسط من حديث عائشة رضي الله عنها

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3677 -

أَنْبَأَنَا الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: خَرَجَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، وَحَضَرَتْ أُمَّهُ الْوَفَاةُ بِالْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهَا: أَوْصِي، فَقَالَتْ: فِيمَ أُوصِي؟ ، الْمَالُ مَالُ سَعْدٍ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ

(1)

"فتح" 6/ 46.

ص: 153

يَقْدَمَ سَعْدٌ، فَلَمَّا قَدِمَ سَعْدٌ، ذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«نَعَمْ» ، فَقَالَ سَعْدٌ: حَائِطُ كَذَا وَكَذَا، صَدَقَةٌ عَنْهَا -لِحَائِطٍ سَمَّاهُ-).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الحارث بن مسكين) أبو عمرو القاضي المصريّ، ثقة فقيه [10] 9/ 9.

2 -

(سعيد بن عمرو بن شُرَحبيل بن سعيد بن سعد بن عُبادة) الأنصاريّ الخزرجيّ المدنيّ، ثقة [6].

قال النسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات" في الطبقة الرابعة، وقال: يروي الوجدات. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

3 -

(أبوه) عمرو بن شُرَحبيل بن سعيد بن سعد بن عُبادة الأنصاريّ الخزرجيّ المدنيّ، مقبول [6].

روى عن أبيه. وعنه ابناه: سعيد، وعبد الرحمن، وعبد اللَّه بن محمد بن عَقِيل، ومحمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة. ذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

4 -

(جده) شُرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاريّ النجاريّ المدنيّ، مقبول [5].

روى عن أبيه، وجدّه. وعنه ابنه عمرو، وعبد اللَّه بن محمد بن عَقِيل. وذكره ابن حبّان في "الثقات". تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

5 -

(سعد بن عبادة) بن دُليم بن حارثة الأنصاريّ الخزرجيّ، أحد النقباء، وأحد الأجواد، مات رضي الله عنه بأرض الشام سنة (15) وقيل: غير ذلك، تقدّمت ترجمته في 49/ 1285. والباقيان تقدما في السند الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من مالك، والباقيان مصريان. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن جدّه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن شُرَحبيل بن سعيد، أنه (قال: خَرَجَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ) تقدّم أنها غزوة دُومة الجندل، وذلك سنة خمس من الهجرة

ص: 154

في ربيع الأول (وَحَضَرَتْ أُمَّهُ) عمرة بنت سعد، وقيل: مسعود بن قيس - رضي اللَّه تعالى عنها - (الْوَفَاةُ بِالْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهَا: أَوْصِي) فعل أمر من الإيصاء، مسند إلى ضمير المخاطبة (فَقَالَتْ: فِيمَ أُوصِي؟) أي في أيّ شيء أوصي؟، فإن الوصية تعتمد على المال، ولا مال لي (الْمَالُ مَالُ سَعْدٍ، فَتُوُفَّيَتْ) بالبناء للمفعول (قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ) بفتح الدال المهملة، من باب تَعِبَ (سَعْدٌ، فَلَمَّا قَدِمَ سَعْدٌ، ذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ) أي ما اعتذرت به أمه في تركها الوصيّة (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ يَتفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟) بفتح همزة "أن" على أنها مع ما بعدها في تأويل المصدر فاعل "ينفع". وضبط بعضهم بكسر "إن" على أنها شرطيّة، والفاعل ضمير يعود إلى التصدّق المفهوم من "أتصدّق" (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:: "نَعَمْ") فيه أن التصدّق عن الميت يصل إليه ثوابه (فَقَالَ: سَعْدْ) رضي الله عنه (حَائِطُ كَذَا وَكَذَا، صَدَقَة عَنْهَا) الحائط: البستان، وجمعه الحوائط (لِحَائِطٍ سَمَّاهُ) هذا من كلام الراوي، يعني أن سعدًا رضي الله عنه ذكر حائطا معيّنًا صدقة لأمه. وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي:"فإن لي مخْرفًا، فاشهدك أني تصدّقت به عنها"، و"المخرف" بفتح، فسكون: البستان. وفي رواية الحسن الآتية: "قال: فأيّ الصدقة أفضل؟، قال: سقي الماء،، فتلك سِقَاية سعد بالمدينة". ولا تنافي بين الروايتين، لاحتمال أن يكون في داخل الحائط بئر يُستقى منها الماء، فتصدّق بالاثنين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-7/ 3677 و9/ 691 و 3692 و 3693 - وفي "الكبرى" 7/ 6477 و 9/ 6491 و 6492 و 6493. وأخرجه (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 2195 و 23333 (الموطأ) في "الأقضية" 1489. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

ص: 155

‌8 - (فَضلُ الصَّدَقَةِ عَنِ

(1)

الْمَيّتِ)

3678 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ، انْقَطَعَ عَمَلُهُ، إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عليّ بن حجر) السعديّ المروزي، ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 13.

2 -

(إسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري الزرقي، أبو إسحاق المدنيّ

(2)

ثقة

ثبت [8] 16/ 17.

3 -

(العلاء) بن عبد الرحمن بن يعقوب الجهنيّ الحرقيّ المدنيّ، صدوقٌ ربّما وهم [5] 197/ 143.

4 -

(أبوه) عبد الرحمن بن يعقوب الحُرَقيّ المدنيّ، ثقة [3] 107/ 143.

5 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمروزي. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ) وفي نسخة: "ابن آدم"(انْقَطَعَ عَمَلُهُ) أي ثواب عمله، ولما كان بمنزلة انقطع الثواب من كلّ أعماله، تعلّق به قوله (إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ) أي ثلاثة أعمال. وقيل: بل الاستثناء متعلّقٌ بالمفهوم: أي ينقطع ابن آدم من كلّ عمل إلا من ثلاثة أعمال. والحاصل أن الاستثاء في الظاهر مشكلٌ، وبأحد الوجهين المذكورين يندفع الإشكال. قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-.

(1)

وفي نسخة: "على الميت".

(2)

وقع هنا خطأ في برنامج الحديث الشريف -صخر- حيث تُرجم هنا لإسماعيل ابن عليّة، والصواب إسماعيل بن جعفر، كما في "تحفة الأشراف" ج 10/ ص 221. فتنبّه.

ص: 156

وقال القاضي عياضٌ -رحمه اللَّه تعالى-: معناه أن عمل الميت منقطع بموته، لكن هذه الأشياء لما كان هو سببها، من اكتساب الولد، وبثّه للعلم عند من حمله عنه، أو إيداعه تأليفًا بقي بعده، وإيقافه هذه الصدقة، بقيت له أجورها ما بقيت، ووجدت. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وتجدّد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة؛ لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلّفه، من تعليم، أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية، وهي الوقف. انتهى

(2)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذه الثلاث الخصال إنما جرى عملها بعد الموت على من نُسبت إليه؛ لأنه تسبب في ذلك، وحرص عليه، ونواه، ثم إن فوائدها متجدّدة بعده دائمة، فصار كأنه باشرها بالفعل، وكذلك حكم كلّ ما سنّه الإنسان من الخير، فتكرّر بعده، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"من سنّ سنّةً في الإسلام حسنة، كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامه". رواه مسلم. وإنما خصّ هذه الثلاثة بالذكر في هذا الحديث؛ لأنها أصول الخير، وأغلب ما يَقصد أهل الفضل بقاءه بعدهم، والصدقة الجارية بعد الموت هي: الْحُبُسُ، فكان حجةً على من يُنكر الْحُبُس. وفيه ما يدلّ على الحضّ على تخليد العلوم الدينيّة بالتعليم، والتصنيف، وعلى الاجتهاد في حمل الأولاد على طريق الخير والصلاح، ووصيّتهم بالدعاء عند موته، وبعد الموت. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(3)

.

(مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ) بدل تفصيل من مجمل "ثلاثة"، ومعنى "جارية": أي غير منقطعة، كالوقف، أو ما يُديم الوليّ إجراءها عنه، وإليه يميل ترجمة المصنّف، كأبي داود -رحمهما اللَّه تعالى-. وقيل: لبقاء ثمرات الأعمال بقي ثوابها (وعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ) أي كأن يعلّم شخصَا، فيقوم ذلك الشخص بنشر ذلك العلم بعدموته، أو يصنّف كتابًا، فينتفع به الناس بعد موته.

وذكر القاضي تاج الدين السبكيّ: أن حمل العلم المذكور على التأليف أقوى؛ لأنه أطول مدّة، وأبقى على ممرّ الزمان، ورأيت من تكلّم على هذا الحديث في كرّاسة، قال الأخنائيّ في "كتاب البُشْرَى بما يلحّق الميت من الثواب في الدار الأخرى": قوله: "وعلم يُنتفع به" هو ما خلّفه من تعليم، أو تصنيف، ورواية، وربّما دخل في ذلك نَسْخُ

(1)

"زهر الربى" 6/ 251.

(2)

"شرح مسلم" 11/ 87 - 88.

(3)

"المفهم" 4/ 554 - 555. "كتاب الوصايا".

ص: 157

الكتاب، وتسطرها، وضبطها، ومقابلتها، وتحريرها، والإتقان لها بالسماع، وكتابة الطبقات، وشراء الكتب المشتملة على ذلك، ولكن شرطه أن يكون منتفعًا به. انتهى

(1)

(وولد صالح يدعو له) قال السنديّ: وفي عدّ الولد من الأعمال تجوّزٌ، لا يخفى. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: جعل الشارع الودد من جمدة كسب الإنسان، فقد أخرج ابن ماجه بإسناد صحيح، من حديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا:"إن أطيب ما أكل الإنسان من كسب يده، وإن ولده من كسبه"، فسمّاه كسبًا، كما عدّه في هذا الحديث من أعماله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، لوإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-8/ 3678 - وفي "الكبرى" 8/ 6478. وأخرجه (م) في "الوصايا" 1631 (د) في "الوصايا" 2880 (ت) في "الأحكام" 1372 (ق) في "المقدّمة" 242 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 8627. (الدارمي) في "المقدّمة"559. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان فضل الصدقة عن الميت، ووجه ذلك أنه حمل معنى الصدقة الجارية على الصدقة التي يُجريها وليّ الميت بعد موته، فيلحقه ثوابها، مع أن أعماله انقطعت، وهذا فيه الفضل العظيم للصدقة، لكن تقدّم أن الأولى حمل الحديث على أعمّ من ذلك، فيدخل فيه أيضًا ما فعله الميت قبل موته من وقف، ونحوه، مما له البقاء بعد موته. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أن فيه دليلاً على صحّة الوقف، وعظيم ثوابه، والردّ على من أنكر ذلك.

(ومنها): أن فيه فضيلة العلم، والحث على الاستكثار منه، والترغيب في توريثه بالتعليم، والتصنيف، والإيضاح، وأنه يختار من العلوم الأنفع، فالأنفع. (ومنها): أن فيه فضيلة الزواج؛ لرجاء ولد صالح، وقد تقدّم ما يتعلّق بفضل النكاح في "كتاب

(1)

راجع "زهر الربى في شرح المجتبى" للسيوطيّ 6/ 251 - 252.

ص: 158

النكاح". (ومنها): أن الدعاء يصل ثوابه إلى الميت، وكذلك الصدقة، وهما مجمعٌ عليهما، وكذلك قضاء الديون، وأما الحجّ فيجزي عن الميت عند الشافعيّ، وموافقيه، وهو الحقّ، كما تقدّمت أدلّته في "كتاب الحجّ". قال النوويّ: وهذا داخل في قضاء الدين إن كان حجَّا واجبّا، وإن كان تطوّعًا وأصى به، فهو من باب الوصايا، وأما إذا مات، وعليه صيامٌ، فالصحيح أن الوليّ يصوم عنه؛ لصحّة أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك. وأما قراءة القرآن، وجعل ثوابها للميت، والصلاة عنه، ونحوهما، فمذهب الشافعيّ، والجمهور أنها لا تلحق الميت، وفيها خلاف. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الجمهور عندي هو الأرجح؛ لعدم دليل صحيح على وصول ثواب القرآن، ونحوه إلى الأموات، فمن جاءنا بنصّ صحيح صريح لذلك، فعلى الرأس والعين، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3679 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً، قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَبِي مَاتَ، وَتَرَكَ مَالاً، وَلَمْ يُوصِ، فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ، أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ؟ ، قَالَ: «نَعَمْ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد هم المذكورون في السند الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلاً) لم أعرف اسمه (قَالَ: لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَبِي مَاتَ، وَتَرَكَ مَالاً، وَلَمْ يُوصِ، فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ) من التكفير، أي جميع سيّئاته، أو هذه السيّئة، وهو ترك الوصيّة، مع كثرة ماله، وعدّه سيّئة؛ لما فيه من النقصان والحرمان عن الثواب العظيم، مع وجود الإمكان. قاله سنديّ (أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ؟) بفتح همزة "أن"، فهي مصدريّة، والمصدر المؤوّل فاعل "يُكفّر، وقد تقدّم أن بعضهم ضبط نظيره بالكسر على الشرطيّة، وتقدّم توجيهه (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (نَعَمْ) أي يكفّر ذلك عنه سيآته.

قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: ظاهر قوله: "فهل يكفر عنه أن أتصدّق عنه! أنه علم أن أباه كان فرّط في صدقات واجبة، فسأل هل يجزئ عنه أن يقوم بها عنه" فأجابه النبيّ بـ "نعم"، وعلى هذا فيكون فيه دليلٌ على أن من قام عن آخر بواجب ماليّ في الحياة، أو بعد الموت أجزأ عنه، وهذا مما تجوز النيابة فيه بالإجماع، وإنه مما

(1)

"شرح مسلم" 11/ 88.

ص: 159

يستحبّ، وخصوصًا في الآباء، فإنها مبالغة في برّهم، والقيام بحقوقهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم:"من مات وعليه صيامٌ صام عنه وليّه"

(1)

. متْفقٌ عليه. وإذا كان هذا في الصيام، كان الحقّ الماليّ بذلك أولى. وقيل: إنما سأل، هل تُكفّر بذلك خطاياه؟ ولا ينبغي أن يُظَنّ بصحابيّ تفريط في زكاة واجبة إلى أن مات، فإن هذا بعيدٌ في حقوقهم، فالأولى به أن يحمل على أنه سأل، هل لأبيه أجرٌ بذلك، فيكفّر عنه به، كما قال السائل الآخر في حقّ أمه:"أفلها أجرٌ؟ ". ويحتمل أن يكون ذلك في الوقت الذي كانت فيه الوصيّة واجبة. قال القرطبيّ: وهذا محتملٌ لا سبيل إلى دفعه.

وعلى القول الأول، فإذا علم الوارث أن مورّثه فرّط في زكاة، أو واجبات ماليّة، فقال الشافعيّ: واجب على الوارث إخراج ذلك من رأس المال، كالدين. وقال مالكٌ: إن أوصى بذلك أخرج عنه من الثلث، وإلا فلا. وقال بعض أصحابه: إذا علم أنه لم يُخرج الزكاة، أخرجت من رأس المال، أوصى بها، أو لم يوص. قاله أشهب، وهو الصحيح؛ لأن ذلك دينٌ للَّه تعالى، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"دينُ اللَّه أحقّ بالقضاء". أخرجه البخاريّ. أو نقول: هو من جملة ديون الآدميين؛ لأنه حقّ الفقراء، وهم موجودون، وليس للوارث حقٌّ إلا بعد إخراج الديون، والوصايا. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(2)

.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- عند شرح حديث عائشة رضي الله عنها الماضي-: ما نصّه: وفي هذا الحديث جواز الصدقة عن الميت، واستحبابها، وأن ثوابها يصله، وينفعه، وينفع المتصدّق أيضّا، وهذا كله أجمع عليه المسلمون. قال: وهذه الأحاديث مخصّصة لعموم قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. وأجمع المسلمون على أنه لا يجب على الوارث التصدّق عن ميته صدقة تطوّع، بل هي مستحبّةٌ. وأما الحقوق الماليّة الثابتة على الميت، فإن كان له تركة وجب قضاؤها منها، سواء أوصى بها الميت، أم لا، ويكون ذلك من رأس المال، سواء ديون اللَّه تعالى، كالزكاة، والحجّ، والنذر، والكفّارة، وبدل الصوم، ونحو ذلك، ودين الآدميّ، فإن لم يكن للميت تركةٌ، لم يلزم الوارث قضاء دينه، لكن يستحبّ له ولغيره قضاؤه. انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

وفي "المفهم" زيادة: إن شاء"، وهذه الزيادة ما أظنها صحيحة، وليست في الصحيح. فليُفهم.

(2)

"المفهم" 4/ 552 - 553.

(3)

"شرح مسلم" 11/ 87. "كتاب الوصيّة".

ص: 160

مسأتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-8/ 3679 - وفي "الكبرى" 8/ 6479. وأخرجه (م) في "الوصايا" 1630 (أحمد) في باقي مسند المكثرين 8624. وفوائد الحديث تقدّمت قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3680 -

(أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ إِنَّ أُمِّى أَوْصَتْ أَنْ تُعْتَقَ عَنْهَا رَقَبَةٌ، وَإِنَّ عِنْدِي جَارِيَةً نُوبِيَّةً، أَفَيُجْزِئُ عَنِّي أَنْ أَعْتِقَهَا عَنْهَا؟ ، قَالَ: "ائْتِنِي بِهَا"، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَبُّكِ؟ ، قَالَتِ: اللَّهُ، قَالَ: «مَنْ أَنَا؟» ، قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: «فَأَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(موسى بن سعيد) بن النعمان بن بسّام الطَّرَسُوسيّ، أبي بكر الدَّنْدَانيّ

(1)

، صدوق [11] 26/ 1670. من أفراد المصنف.

2 -

(هشام بن عبد الملك) الباهليّ مولاهم، أبو الوليد الطيالسيّ البصريّ الحافظ، ثقة ثبت [9] 122/ 172.

3 -

(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابد [8] 18/ 288.

4 -

(محمد بن عمرو) بن علقمة بن وقّاص الليثيّ المدنيّ، صدوق، له أوهام [6] 16/ 17.

5 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ الفقيه الثقة المشهور [3]

1/ 1.

6 -

(الشريد بن سُويد) الثقفيّ، صحابيّ. قيل: إنه من حضرموت، وعِدَاده في ثقيف. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعنه ابنه عمرو، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعمرو بن نافع الثقفيّ، ويعقوب بن عاصم الثقفيّ بالشكّ في بعض الروايات. قال أبو نعيم: أردفه النبيّ صلى الله عليه وسلم وراءه. وقيل: اسمه مالك، ووفد على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسمّاه الشريد، وشهد بيعة الرضوان.

(1)

"الدَّنْدَانيّ" بمهملتين مفتوحتين، ونونين الأولى ساكنة.

ص: 161

وفي "الإصابة": قال ابن السكن: له صحبة، حديثه في أهل الحجاز، سكن الطائف، والأكثر أنه ثقفيّ، ويقال: إنه حضرميّ، حالف ثَقيفًا، وتزوّج آمنة بنت أبي العاص بن أُميّة. ويقال: كان اسمه مالكًا، فسمي الشريد؛ لأنه شرد من المغيرة بن شعبة لَما قَتَل رُفقته الثقفيين، فروى عبد الرزاق في "الجهاد" عن معمر، عن الزهريّ، قال: صحب المغيرةُ قومًا في الجاهليّة، فقتلهم

الحديث. قال معمرٌ: وسمعت أنهم كانوا تعاقدوا معه أن لا يغدر بهم حتّى يُعلمهم، فنزلوا منه منزلاً، فجعل يَحفِر بنصل سيفه، فقالوا: ما هذا؟ قال: أحفر قبوركم، فلم يفهموها، وأكلوا، وشربوا، وناموا فقتلهم، فلم ينج منهم إلا الشريد، فلذلك سمي الشريدَ. وذكر الواقديّ القصّة مطوّلةً، وفيها: أنهم كانوا دخلوا مصر جميعًا، فحباهم المقوقس، وأكرمهم، سوى المغيرة، فقصّر به، فحَقَدَ عليهم ذلك، ففعل بهم ما فعل. قال البغويّ: سكن الطائف، والمدينة، وله أحاديث. وروى مسلم وغيره من طريق عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: استنشدني النبيّ صلى الله عليه وسلم شعر أميّة بن أبي الصلت. وفي بعض طرقه عند مسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أردفه

(1)

.

علّق له البخاريّ في "كتاب القرض" من "صحيحه" حديث: "لَيُّ الواجد يُحلّ عرضه، وعقوبته"، وأخرج له في "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود، والترمذيّ في "الشمائل"، والمصنّف، وابن ماجه، وله عند المصنّف في هذا الكتاب ستة مواضيع: هذا الحديث، وأحاديث رقم-19/ 4209 و 42/ 4473 و 100/ 4716 و 4717 و 4/ 4730. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده. (ومنها): أن صحابيه من المقلين من الرواية، فليس له في الكتاب الستة إلا نحو عشرة أحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيدِ الثَّقَفِيِّ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: إِنَّ أُمِّي أَوْصَتْ أَنَّ تُعْتَقَ عَنْهَا رَقَبَةٌ) وفي نسخة: "أن أُعتِقَ عنها رقبة"(وَإِنَّ عِنْدِي جَارِيَة نُوبِيَّةً) قال في "القاموس": بالضمّ جيل من السودان، وبلاد واسعة بجنوب

(1)

"الإصابة" 5/ 71 - 72.

ص: 162

الصعيد منها بلالٌ الحبشيّ (أَفَيُجزِئُ عَنِّي أن أُعْتِقَهَا عَنْهَا؟، قَالَ: "ائْتِنِي بِهَا") أي ليعرف أهي مؤمنة، أم لا؟، وكأنها كانت أوصت بمؤمنة، أو بسبب يقتضي الإيمان، أو أنه أحبّ أن يُعتق عنها مؤمنة، لا أن الوصيّة بمطلق الرقبة لا تتأدّى إلا بالمؤمنة. قاله السنديّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد جاء التصريح بالمراد في رواية أبي داود، ولفظه:"أن أمه أوصته أن يُعتق عنها رقبة مؤمنة"، فدلّ على أن الوصيّة كانت مقيّدة بالمؤمنة. واللَّه تعالى أعلم.

(فَأَتَيْتُهُ بَها، فَقَالَ: لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَبُّكِ؟، قَالَتِ: اللَّهُ) أي ربي اللَّه (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنْ أَنَا؟ "، قَالَتْ: أَنّتَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَأَعْتِقْهَا، فَإنَّهَا مُؤمِنَةٌ") قال السنديّ: يفيد أنه لا حاجة في الإيمان إلى البرهان، بل التقليد كاف، وإلا لسألها عن البرهان، وأنه لا يتوقّف على أن يقول: لا إله إلا اللَّه، بل يكفي فيه اعتقاد ربي اللَّه، ومحمد رسول اللَّه، نعم ينبغي أن يُعتبر ذاك إيمانًا، ما لم يظهر منه ما ينافيه، من اعتقاد الشرك. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-8/ 3680 - وفي "الكبرى" 8/ 6480. وأخرجه (د) في "الأيمان والنذور" 3282 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 18691. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): مشروعيّة الوصيّة بعتق رقبة. (ومنها): استحباب استشارة أهل الفضل والعلم عند إرادة تنفيذ أمر، أو تركه. (ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنه من استفسار النبيّ صلى الله عليه وسلم لما يواجههم من أمور دينهم، ودنياهم. (ومنها): أن فيه أن الإيمان لا يعتبر إلا إذا اكتمل بشطريه، وهما الإيمان باللَّه سبحانه تعالى، والإيمان برسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا آمن الشخص بأحد هذين الشطرين، ولم يؤمن بالآخر، فلا اعتداد بإيمانه. (ومنها): أنه لا يسأل الشخص عن البراهين على الإيمان، بل إذا آمن باللَّه تعالى،

(1)

"شرح السنديّ" 6/ 252.

ص: 163

ورسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم كفاه ذلك. (ومنها): أن فيه الردّ على المتكلّمين الذين يقولون بوجوب النظر، وقد استوفيت الردّ عليهم بما نقل عن سلف هذه الأمة، في إبطالهم هذا الشرط الفاسد فيما كتبته على "الكوكب الساطع" في أصول الفقه، عند قوله:

أَوَّلُ وَاجبِ عَلَى الْمُكَلَّفِ

مَعْرِفَة اللَّهِ وَقِيلَ الْفِكْرُ فِي

دَلِيلِهِ وَقِيلَ أَوَّلُ النَّظَرْ

وَقِيلَ قَصْدُهُ إِلَيْهِ الْمُعْتَبَرْ

فهذه الأقوال غير الأول أقوال فاسدة، ليس عليها أثارة من علم، بل هي معارضة لما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل قال أبو جعفر السمنانيّ، وهو من رؤوس الأشاعرة: إن هذه المسألة -يعني وجوب النظر في الأدلة- بقيت في مقالة الأشعريّ من مسائل المعتزلة، وتفرّع عليها أن أول الواجب على كلّ مكلّف معرفة اللَّه بالأدلّة الدّالّة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك انتهى.

والحاصل أن هذا المذهب مخالف لهدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث إنه كان يلقّن كلّ من جاءه الشهادتين، ولا يطالب أحدًا بإقامة البرهان على إيمانه، كما يزعمه المتكلمون، بل قال:"أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا رسول اللَّه، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على اللَّه". متّفقٌ عليه، وسيأتي هذا البحث مستوفي في "كتاب الإيمان" إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3681 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ سَعْدًا

(2)

، سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَلَمْ تُوصِ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا، قَالَ:«نَعَمْ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و "الحسين بن عيسى": أبو عليّ البسطاميّ الْقُومسيّ، نزيل نيسابور، صدوق [10]. و"سفيان": هو ابن عيينة. "وعمرو": هو ابن دينار. و"عكرمة": هو مولى ابن عبّاس.

وحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا يُعلم شرحه من شرح حديث عائشة رضي الله عنها السابق في الباب الماضي.

أخرجه المصنّف هنا -8/ 3681 و 3682 - وفي "الكبرى" 8/ 6481 و 6482 - وأخرجه (خ) في "الوصايا" 2756 و 2770 (د) في "الوصايا" 2882 (ت) في "الزكاة"

(1)

وفي نسخة: "أنا"، وفي أخرى:"ثنا".

(2)

أي ابن عُبادة.

ص: 164

669 (أحمد) في "مسند بني هاشم"3494. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3682 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الأَزْهَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلاً، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمَّهُ تُوُفِّيَتْ، أَفَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ ، قَالَ: «نَعَمْ» ، قَالَ: فَإِنَّ لِي مَخْرَفًا، فَأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير:"أحمد بن الأزهر"، وهو أبو الأزهر العبديّ النيسابوريّ، صدوق، كان يحفظ، ثم كبر، فصار كتابه أثبت من حفظه [11] 66/ 1802 من أفراد المصنّف، والترمذيّ. و"روح بن عبادة": هو القيسيّ البصريّ، ثقة فاضل [9]. و"زكريا بن إسحاق": هو المكيّ، ثقة رُمي بالقدر [6].

وقوله: "أن رجلاً" هو سعد بن عبادة رضي الله عنه.

وقوله: "مَخْرفّا" بفتح الميم، وسكون المعجمة: الحائط من النخل، والحائط البستان. وفي "النهاية": المخرف بالفتح: يقع على النخل، وعلى الرُّطَب انتهى. وفي رواية البخاريّ: أشهدك أن حائطي المخراف صدقةٌ عليها". وهو بكسر أوله، وسكون المعجمة، وآخره فاء: أي المكان المثمر، سمّي بذلك لما يُخرَف منه، أي يُجنَى من الثمرة.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تخريجه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3683 -

(أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ أُمِّى مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا نَذْرٌ، أَفَيُجْزِئُ عَنْهَا، أَنْ أَعْتِقَ عَنْهَا؟ قَالَ: «أَعْتِقْ عَنْ أُمِّكَ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هارون بن عبد اللَّه) أبو موسى الْحَمّال البغداديّ، ثقة [10] 50/ 62.

2 -

(عفان) بن مسلم بن عبد اللَّه الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقة ثبت، قال ابن المدينيّ: كان إذا شَكَّ في حرف من الحديث تركه، وربّما وهِمَ، من كبار [10] 21/ 427.

3 -

(سليمان بن كثير) العبديّ، أبو داود، أو أبو محمد البصريّ، أخو محمد بن

ص: 165

كثير، لا بأس به في غير الزهريّ، لكن هنا لم ينفرد عن الزهريّ، بل تابعه غيره، كما سيتبيّن مما الروايات الآتية [7] 58/ 3553.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

5 -

(عبيد اللَّه بن عبد اللَّه) بن عتبة بن مسعود الهذليّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 45/ 56.

6 -

(ابن عباس) عبد اللَّه البحر الحبر - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31.

7 -

(سعد بن عبادة) الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابي الشهير - رضي اللَّه تعالى عنه - 49/ 1285. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، وشيخه بغداديّ، والباقيان بصريان. (ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) رضي الله عنه هذا فيه أن ابن عباس رضي الله عنهما أخذه عن سعد ابن عبادة، فيكون من مسند سعد رضي الله عنه، وسيأتي في الرويات الآتية:"عن ابن عباس، أن سعد بن عبادة استفتى الخ"، فيكون من مسند ابن عباس رضي الله عنهما، وقد أخرجه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بالوجهين، كما سيترجم في الترجمة التالية بقوله:"ذكر الاختلاف على سفيان"، قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ما حاصله: إن ابن عبّاس رضي الله عنهما لم يشهد القصّة، لأنها وقعت سنة خمس، والنبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة دومة الجندل، وابن عبّاس في ذلك الوقت كان مع أبويه بمكة، فالذي يظهر أنه سمعه من سعد بن عبادة رضي الله عنه، فيتعيّن ترجيح رواية من زاد في السند "عن سعد بن عبادة"، ويكون ابن عبّاس قد أخذه عنه.

ويحتمل أن يكون أخذه عن غيره، ويكون قول من قال:"عن سعد بن عبادة" لم يقصد به الرواية، وإنما أراد عن قصّة سعد بن عبادة، فتتّحد الرويتان. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني يبعده ما سيأتي في رواية محمد بن

عبد اللَّه بن يزيد، عن سفيان، بلفظ: "عن ابن عبّاس، عن سعد أنه قال: ماتت أمي،

وعليها نذرٌ، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمرني أن أقضيه عنها". فإنه صريح في كون ابن عبّاس

(1)

"فتح" 6/ 41 و 45. "كتاب الوصايا".

ص: 166

- رضي الله عنهما أخذه عن سعد رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم.

(أنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ أُمّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا نَذْرٌ) زاد في رواية مالك: "لم تقضه) (أَفَيُجزِئُ عَنْهَا) يحتمل أن يكون بضمّ حرف المضارعة، من الإجزاء، رباعيًّا، ويحتمل أن يكون بفتحه، بدون همز، من جزى يَجزي، كما في قوله تعالى: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} الآية [البقرة: 48] (أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا؟) بضمّ الهمزة، من الإعتاق رباعيَّا، ولا يجوز فتحها؛ لأنه لا يتعدّى، فتنبّه، فكثيرًا ما يغلط فيه عامّة الناس (قَالَ: "أَعْتِقْ عَنْ أُمِّكَ) بفتح الهمزة هنا، لا غير؛ لأنه أمر من الإعتاق، رباعيًّا.

وهذه الرواية تفيد بيان النذر الواقع في بقية الرويات، فإنها بلفظ:"ماتت أمي، وعليها نذر"، ونحو ذلك، مبهمًا، فتبيّن بهذه الرواية أن نذرها كان عتق رقبة، فماتت قبل أن تفعل.

قال الحافظ: ويحتمل أن تكون نذرت نذزا مطلقًا، غير معيّن، فيكون في الحديث حجة لمن أفتى في النذر المطلق بكفّارة يمين، والعتقُ أعلى كفّارات الأيمان، فلذلك أمره صلى الله عليه وسلم أن يُعتق عنها.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاحتمال بعيدٌ، تبعده هذه الرواية، المفسّرة، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

وحكى ابن عبد البرّ عن بعضهم أن النذر الذي كان على والدة سعد صيام، واستند إلى حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: "أن رجلاً قال: يا رسول اللَّه، إن أمي ماتت، وعليّها صوم

" الحديث. ثم ردّه بأن في بعض الروايات عن ابن عبّاس: "وجاءت امرأة، فقالت: إن أختي ماتت". قال الحافظ: والحقّ أنها قصّة أخرى. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-8/ 3683 و 3684 و 3685 و 3686 و 3687 و 3688 و 3689 و 3690 - وفي "الكبرى" 8/ 6483 و 6484 و 6485 و 6486 و 9/ 6487 و 6488 و 64896490. وأخرجه (خ) في "الوصايا" 2761 و"الأيمان والنذور" 6698

(1)

"فتح" 6/ 45 - 46.

ص: 167

و"الحيل" 6959 (م) في "النذور والأيمان" 1638 (د) في "الأيمان والنذور" 3307 (ت) في "النذور والأيمان" 1546 (ق) في "الكفّارات" 2132 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 1896 و 3040 "الموطّأ" في "النذور"1025. وفوائد الحديث تقدّم في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجِع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3684 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، أَبُو يُوسُفَ الصَّيْدَلَانِيُّ، عَنْ عِيسَى

(1)

-وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ- عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،،، أَخْبَرَهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، أَنَّهُ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَذْرٍ، كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ

(2)

قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْضِهِ

(3)

عَنْهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه تفرد به هو وابن ماجه، وهو صدوق. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3685 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَدَقَةَ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، أَنَّهُ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَذْرٍ، كَانَ عَلَى أُمِّهِ؟ ، فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْضِهِ عَنْهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن صدقة الحمصيّ": هو الْجُنْلانيّ -بضمّ، فسكون-، صدوق [11] 26/ 1668 من أفراد المصنّف. و"محمد بن شُعيب": هو ابن شابور الأمويّ موهم الدمشقيّ، نزيل بيروت، صدوقٌ، صحيح الكتاب، من كبار [9] 6/ 1190 من رجال الأربعة. والباقون من رجال الجماعة. والحديث متّفقٌ عليه، وسبق الكلام فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3686 -

(أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: اسْتَفْتَى سَعْدٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْضِهِ عَنْهَا»).

(1)

وفي نسخة: "قال: حدّثنا عيسى".

(2)

وفي نسخة: "فماتت".

(3)

وفي نسخة: "اقض".

ص: 168

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "العبّاس بن الوليد": هو الْعُذريّ -بضمّ، فسكون- البيروتيّ صدوقٌ عابدٌ [11] 40/ 1711 من أفراد المصنّف، وأبي داود. و"أبوه": هو الوليد بن مَريد -بفتح، فسكون- الْعُذريّ البيروتيّ، ثقة ثبت، قال النسائيّ: كان لا يُخطىء، ولا يدلّس [8] 40/ 1711. من أفراد المصنّف، وأبي داود أيضًا، والباقون من رجال الجماعة، والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌9 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى سُفْيَانَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "سفيان": هو ابن عيينة، ووجه الاختلاف عليه أن الحارث بن مسكين رواه عنه، فقال:"عن ابن عبّاس، أن سعد بن عُبادة استفتى النبيّ صلى الله عليه وسلم الخ"، فجعله من مسند ابن عبّاس رضي الله عنهما، وتابعه عليه الليث بن سعد، وخالفهما محمد بن عبد اللَّه بن يزيد، فرواه عنه، فقال:" عن ابن عبّاس، عن سعد الخ"، فجعله من مسند سعد رضي الله عنه، وقد تقدّم أن هذا هو الأرجح؛ لأن ابن عبّاس رضي الله عنهما لم يحضر القصّة، فكونه سمعها من سعد بن عبادة رضي الله عنه هو الظاهر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3687 -

قَالَ:

(1)

الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، اسْتَفْتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ؟ ، فَقَالَ:«اقْضِهِ عَنْهَا» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فتفرّد به هو وأبو داود، وهو ثقة حافظ. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق البحث عنه مستوفًى، في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3688 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ: مَاتَتْ أُمِّي، وَعَلَيْهَا نَذْرٌ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَهُ عَنْهَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عبد اللَّه بن يزيد": هو أبو يحيى المكيّ

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 169

الثقة [10] 11/ 11 من أفراد المصنّف، وابن ماجه، والباقون من رجال الجماعة، والحديث صحيحٌ، وقد سبق البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3689 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الأَنْصَارِيُّ، رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْضِهِ عَنْهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الحديث كلهم رجال الصحيح، وقد تقدّموا غير مرّة. و"الليث": هو ابن سعد الإمام الحجة المصريّ. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق الكلام عنه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3690 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ -هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ - عَنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا نَذْرٌ، وَلَمْ تَقْضِهِ، قَالَ: «اقْضِهِ عَنْهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الحديث كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن رجال الأربعة، ووائل بن داود، فمن رجالهم أيضًا.

و"هارون بن إسحاق الْهَمدانيّ": هو أبو القاسم الكوفيّ، صدوق، من صغار [10] 13/ 346.

و"عبدة": هو ابن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقة ثبت، من صغار [8] 7/ 339. و"بكر بن وائل": هو التيميّ الكوفيّ، صدوقٌ [8] 56/ 1945.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق الكلام عليه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3691 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ ، قَالَ: «نَعَمْ» ، قُلْتُ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ ، قَالَ: «سَقْيُ الْمَاءِ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ) الْمُخَرِّمي، أبو جعفر البغداديّ، ثقة حافظ [11].

ص: 170

2 -

(وكيع) بن الجرّاح بن مليح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة حافظ عابد، من كبار [9] 23/ 25.

3 -

(هشام) بن أبي عبد اللَّه سنبر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، وقد رُمي بالقدر [8] 30/ 34.

4 -

(قتادة) بن دعامة السدوسي، أبو الخطاب البصريّ، ثقة ثبت، يدلس [4] 30/ 35.

5 -

(سعيد بن المسيّب) بن حَزْن القرشيّ المخزومي، ثقة ثبت فقيه، من كبار [3] 9/ 9.

6 -

(سعد بن عبادة) - رضي اللَّه تعالى عنه - المذكور قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير أن فيه انقطاعًا، كما سيأتي بيانه قريبًا. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أحد الفقهاء السبعة، ابن المسيب. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ) أي وهو غائب، وهي لم توص، جمع أنها تحبّ ذلك، كما تقدّم قوله:"ولو تكلّمت تصدّقت"(أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟) أي نيابة عنها، حتى يكون لها الأجر (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (نَعَمْ) أي تصدق، فإنها تنتفع بذلك (قُلْتُ: فَأَيُّ الصَّدقَةِ أَفْضلُ؟) وفي رواية أبي داود: "أيّ الصدقة أعجب إليك؟ قال: "الماء" (قَال) صلى الله عليه وسلم (سَقْيُ الْمَاءِ) خبر لمحذوف، أي أفضل الصدقة سقي الماء، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي سقي الماء أفضلها.

زاد في رواية الحسن الآتية: "فتلك سقاية سعد بالمدينة". وفي رواية أبي داود: "فحفر بئرًا، وقال: هذه لأمّ سعد".

وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله: "سقي الماء" أي في ذلك الوقت؛ لقلّته يومئذ، أو على الدوام انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني هو الظاهر، لكن بقيد الحاجة إليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

ص: 171

حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه هذا حسّنه بعضهم

(1)

، والظاهر أنّه ضعيف؛ للانقطاع، إلاّ على قاعدة أن مراسيل سعيد بن المسيّب صحاح، فليُتأمل. قال الحافظ المنذريّ -رحمه اللَّه تعالى- في "مختصر سنن أبي داود": هو منقطع، فإن سعيد بن المسيّب، والحسن البصريّ -أي في الرواية التالية- لم يُدركا سعد بن عبادة، فإن مولد سعيد بن المسيّب سنة خمسة عشر، ومولد الحسن البصريّ سنة إحدى وعشرين، وتوفّي سعد بن عبادة بالشام سنة خمس عشرة. وقيل: سنة أربع عشرة. وقيل: سنة إحدى عشرة، فكيف يدركانه؟ انتهى. وأخرجه أبو داود أيضًا من طريق أبي إسحاق السبيعيّ، عن رجل، عن سعد بن عبادة. وفيه راو لم يسمّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-9/ 3691 و 3692 و 3693 - وفي "الكبرى" 9/ 6491 و 6492 و 6493. وأخرجه (د) في "الزكاة" 679 و 680 أو 1681 (ق) في "الأدب" 3684 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23333 (الموطأ) في "الأقضية" 1489. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3693 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ ، قَالَ: «سَقْيُ الْمَاءِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الحديث كلهم رجال الصحيح، و "هشام": هو الدستوائيّ. والحديث حسنه بعضهم، كما سبق بيانه وفيه ما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3693 -

(أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ حَجَّاجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ شُعْبَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ ، قَالَ: «نَعَمْ» ، قَالَ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ ، قَالَ: «سَقْىُ الْمَاءِ» ، فَتِلْكَ سِقَايَةُ سَعْدٍ بِالْمَدِينَةِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "حجّاج": هو ابن محمد الأعور المصّيصيّ.

والحديث سبق البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

(1)

هو الشيخ الألبانىّ.

ص: 172

‌10 - (النَّهْيُ عَنِ الْوِلَايَةِ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ)

3694 -

(أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي سَالِمٍ الْجَيْشَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ عَلَى مَالِ يَتِيمٍ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(العبّاس بن محمد) بن حاتم الدُّوريّ، أبو الفضل البغداديّ، خُوارَزْمِيُّ الأصلِ، ثقة حافظ [11102/ 135].

2 -

(عبد اللَّه بن يزيد) أبوعبد الرحمن المقرئ المكيّ، بصري الأصل، أو الأهواز، ثقة فاضل، أقرأ القرآن نيّفًا وسبعين سنةً [9] 4/ 746.

3 -

(سعيد بن أبي أيوب) مِقْلاص الْخُزَاعيّ مولاهم، أبو يحيى المصريّ ثقة ثبت [7] 27/ 1880.

4 -

(عبيد اللَّه بن أبي جعفر) يسار، أبو بكر الفقيه، مولى كنانة، أو أمية المصريّ، فقيه، ثقة، عابد [5] 83/ 2585

5 -

(سالم بن أبي سالم) سفيان بن هانئ الجيشانيّ -بجيم مفتوحة، ثم تحتانيّة ساكنة، ثمّ معجمة- المصريّ، مقبول [4].

روى عن أبيه، وعبد اللَّه بن عمرو، ومعاوية بن مُعَتِّب. وعنه ابنه عبد اللَّه، وعبيد اللَّه بن أبي جعفر، ويزيد بن أبي حبيب، والحارث بن يعقوب. ذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له مسلم، والمصنّف، وأبو داود، وله عندهم حديث الباب فقط.

6 -

(أبوه) سفيان بن هانئ بن جبر بن عمرو بن سعد بن ذاخر المصريّ، أبو سالم الجيشانيّ، حليفٌ لهم من المعافر، [2].

شهد فتح مِصر، ووفد على عليّ رضي الله عنه. ذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال العجليّ: مصريّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن منده في "الصحابة"، وقال: اختُلف في صحبته، وكذا قال غيره. وقال ابن يونس: تُوفّي بالاسكندرية في إمرة عبد العزيز بن مروان، وكان عَلَويًّا. روى له مسلم، والمصنّف، وأبو داود، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

ص: 173

7 -

(أبو ذرّ) جُندب بن جُنادة، وقيل: غير ذلك الصحابيّ المشهور رضي الله عنه 203/ 322. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من رجال الأربعة. (ومنها): أنه مسلسل بالمصريين، غير شيخه، فبغداديّ، وعبد اللَّه بن يزيد، فمكيّ، وأبي ذرّ رضي الله عنه فمدنيّ. (ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: عبيد اللَّه، وسالم، وأبوه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي ذَرِّ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا ذَرّ، إِنِيِّ أَرَاكَ ضَعِيفًا) أي غير قادر على تحصيل مصالح الإمارة، ودرء مفسادها (وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي) أي من السلامة عن الوقوع في المحذور. وقيل: تقديره لو كان حالي كحالك في الضعف، وإلا فقد كان صلى الله عليه وسلم متولّيًا على أمور المسلمين، حكما عليهم، فكيف يصِحّ قوله: "أُحبّ لك ما أُحبّ لنفسي". والتفسير الأول أقرب. واللَّه تعالى أعلم (لَا تَأَمَّرَنَّ) -بتشديد الميم، ونون التوكيد الثقلية- أي لا تسلّطّن، ولا تصيرينّ أميرًا (عَلَى اثْنَيْنِ) أراد به عدم التولّي مطلقًا، فعبّر بأقلّ ما يمكن الحكم فيه بين الخصوم (وَلَا تَوَلَّيَنَّ عَلَى مَالِ يَتِيمٍ).

وفي رواية مسلم من طريق عبد الرحمن بن حُجيرة الأكبر، عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول اللَّه، ألا تستعملني؟، قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال:"يا أبا ذرّ، إنك ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ، وإنها يوم القيامة خزيٌ، وندامةٌ، إلا من أخذها بحقّها، وأدّى الذي عليه فيها".

قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنك ضعيفٌ": أي ضعيفٌ عن القيام بما يتعيّن على الأمير، من مراعاة مصالح رعيّته الدنيويّة والدينيّة. ووجه ضعف أبي ذرّ رضي الله عنه عن ذلك أن الغالب عليه كان الزهد، واحتقار الدنيا، وترك الاحتفال بها، ومن كان هذا حالَهُ لم يَعتنِ بمصالح الدنيا، ولا بأموالها اللذين بمراعاتهما تنتظم مصالح الدين، ويتمّ أمره. وقد كان أبو ذرّ رضي الله عنه أفرط في الزهد في الدنيا، حتى انتهى به الحالُ إلى أن يُفتي بتحريم الجمع للمال، وإن أُخرجت زكاته، وكان يرى أنه الكنز الذي توعّد اللَّه عليه بكَيّ الوجوه، والْجُنُوب، والظُّهُور، فلما علم النبيّ صلى الله عليه وسلم منه

ص: 174

هذه الحالة نصحه، ونهاه عن الإمارة، وعن ولاية مال الأيتام، وأكّد النصيحة بقوله:"وإني أحبّ لك ما أُحبّ لنفسي"، وغلّظ الوعيد بقوله:"وإنها" أي الإمارة "خزيٌ، وندامة"، أي فضيحةٌ قبيحة على من لم يؤدّ الأمانة حقّها، ولم يَقُم لرعيّته برعايتها، وندامةٌ على من تقلّدها، وعلى تفريطه فيها.

وأما من عدل فيها، وقام بالواجب منها، {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، وهو من: السبعة الذين يُظلّهم اللَّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه، وقد شهد بصحّة ما قلناه قوله في

الحديث: "إلا من أخذها بحقّها، وأدّى الذي عليه فيها". انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا الحديث أصلٌ عظيمٌ في اجتناب الولايات، لا سيّما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية. وأما الخزي، والندامة، فهو في حقّ من لم يكن أهلاً لها، أو كان أهلاً، ولم يَعدِل فيها، فيُخزيه اللَّه تعالى يوم القيامة، ويَفضَحُهُ، ويَندَم على تفريطه. وأما من كان أهلاً للولاية فيها، فله فضلٌ عظيمٌ، تظاهرت به الأحاديث الصحيحة، كحديث أبى هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال. "سبعة يظلهم اللَّه تعالى في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، إمام عَدْلٌ، وشاب نشأ في عبادة اللَّه، ورجل قلبه مُعَلَّقٌ في المساجد، ورجلان تحابا في اللَّه، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف اللَّه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر اللَّه خاليا، ففاضت عيناه". متّفقٌ عليه

(2)

، وحديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، مرفوعّا:"إن المقسطين على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يَعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما وَلُوا". رواه مسلم. وغير ذلك، وإجماع المسلمين منعقدٌ عليه، ومع هذا فلكثرة الخطر فيها حذّره صلى الله عليه وسلم منها، وكذا حذّر العلماء، وامتنع منها خلائق من السلف، وصبَرُوا على الأذى حين امتنعوا. انتهى كلام النوويّ بزيادة

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

(1)

"المفهم" 4/ 21 - 22 "كتاب الإمارة والبيعة".

(2)

سيأتي للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في "كتاب آداب القضاء" برقم 5407. إن شاء اللَّه تعالى.

(3)

"شرح مسلم" 12/ 414 - 415. "كتاب الإمارة".

ص: 175

حديث أبي ذرّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-10/ 3694 - وفي "الكبرى" 10/ 6494. وأخرجه (م) في "الإمارة" 1826 (د) في "الوصايا" 2868. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان النهي عن الولاية على مال اليتيم، وهذا محمولٌ على من لا يثق بنفسه، ويرى أنها ضعيفة، لا تستطيع القيام بذلك المال حقّ القيام، وإلا فلا يُمنع، كما أشار إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"إني أراك ضعيفًا الخ". (ومنها): الحثّ على الابتعاد عن الإمارة، ولو كانت على أناس محصورين؛ لعظم مسؤوليتها، وعظم الحسرة فيها، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة". رواه البخاريّ، وسيأتي للمصنّف في "كتاب البيعة" رقم 4211.

(ومنها): شدّة رأفة النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمته، ولا سيّما أصحابه الذين كان يعيش بينهم، ويداخلهم، ويعرف أحوالهم الشخصيّة، فمن كان منهم لا يستطيع التعامل مع المجتمع، حذّره عن التعامل الذي يؤدّي إلى عدم القيام بما يجب عليه، وحثّه بالاشتغال بنفسه، وهذا مصداق قوله سبحانه وتعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌11 - (مَا لِلْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ إِذَا قَامَ عَلَيْهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر ترجمة المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أنه يرجّح القول بأنه يجوز للوصيّ إذا قام على مال اليتيم بالإصلاح أن يأخذ بالمعروف، وهذا هو الحقّ، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في ذلك في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 176

3695 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي فَقِيرٌ، لَيْسَ لِي شَيْءٌ، وَلِي يَتِيمٌ، قَالَ: «كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ، غَيْرَ مُسْرِفٍ، وَلَا مُبَاذِرٍ، وَلَا مُتَأَثِّلٍ»).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الْجَحْدريّ، أبو مسعود البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(خالد) بن الحارث الهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(حسين) بن ذكران المعلّم المكتب العوذي البصريّ، ثقة، ربما وهم [6] 122/ 174.

[تنبيه]: وقع في النسخة الهنديّة هنا "حصين" بالصاد المهملة، بدل "حسين" بالسين، وهو غلطٌ فاحش، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

4 -

(عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ) المدنيّ، ويقال: الطائفيّ، صدوق [5] 105/ 140.

5 -

(أبوه) شعيب بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو الحجازيّ الطائفيّ، صدوق ثبت سماعه من جدّه على الصحيح [3] 105/ 140.

6 -

(جدُّهُ) عبد اللَّه بن عمرو بن العاص الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنه 89/ 111. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه، عن جدّه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ) بن محمد (عَنْ أَبيهِ) شعيب بن محمد بن عبد اللَّه (عَنْ جَدِّهِ) عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - (أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّي فَقِيرٌ، لَيْسَ لِي شَيْءٌ) أي من المال الذي يكيفني من التعرّض للسؤال، أو غيره (وَلِي يَتِيمْ) زاد في رواية:"أفآكل من ماله؟ "، أي فهل يجوز لي أن آكل من ماله أجرةً لما أقوم به من إصلاحه؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ) وفي رواية:"بالمعروف" أي كلّ بالمعروف. قال السنديّ: حملوه على ما يستحقّه من الأجرة بسبب ما يعمل فيه، ويُصلِح له انتهى.

(غَيْرَ مُسْرِفٍ) بالراء، ووقع في "الكبرى":"مساوف" بالواو، والظاهر أنه تصحيف.

ص: 177

وهو منصوب على الحال من الفاعل. وقوله (وَلَا مُبَاذِرٍ) هكذا نسخ "المجتبى" بالذال المعجمة. وفي "الكبرى": "غير مبادر" بالدال المهملة. قال في "النهاية": المباذِر، والمبذّر -أي بالمعجمة-: المسرف في النفقة. باذر، وبذّر مُباذرةً، وتبذيرًا. انتهى

(1)

.

وقال السنديّ: "ولا مباذر" قيل: ولا مسرف، فهو تأكيدٌ، وعلى هذا فالذال معجمة، لكن تكرار "لا" يبعده. وقيل: ولا مبادر بلوغ اليتيم بإنفاق ماله، فالدال مهملة. انتهى (وَلَا مُتَأَثِّلِ) أي ولا متّخذ منه أصل مال. وفي "النهاية": أي غير جامع، يقال: مالٌ مؤثّلٌ، ومجدٌ مؤثّلٌ: أي مجموع ذو أصل، وأَثْلَةُ الشىء أصله. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-11/ 3695 - وفي "الكبرى" 11/ 6495. وأخرجه (د) في "الوصايا" 2872 (ق) في "الوصايا" 2718. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان ما يجوز للوصيّ من الأجرة، إذا قام على أمواله، وذلك أن يأخذ بالمعروف. (ومنها): مشروعيّة القيام على مال اليتيم، وأن النهي الوارد في حديث أبي ذرّ صلى الله عليه وسلم المتقدّم في الباب الماضي محمول على من لا يستطيع القيام عليه. (ومنها): تحريم أكل الوصيّ مال اليتيم بغير حاجة. (ومنها): أن جواز أكله مشروط بعدم الإسراف ولا التبذير. (ومنها): عدم جواز استثمار الوصيّ أموال اليتامى ليأخذ منه بعض أرباحه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في جواز أكل الوصيّ من مال اليتيم:

قيل: يجوز للوصي أن يأخذ من مال اليتيم قدر عُمالته، وهو قول عائشة رضي الله عنها، فقد أخرج الشيخان عنها في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ

(1)

"النهاية" 1/ 110.

(2)

"النهاية" 1/ 23.

ص: 178

بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]، "قالت: أُنزلت في والي اليتيم أن يُصيب من ماله إذا كان محتاجّا بقدر ماله، بالمعروف". وفي لفظ المسلم:"أنزلت في مال اليتيم الذي يقوم عليه، ويصلحه، إذا كان محتاجًا أن يأكل منه". وبه قال عكرمة، والحسن، وغيرهم.

وقيل: لا يأكل منه إلا عند الحاجة، ثم اختلفوا، فقال: عبيدة بن عمرو، وسعيد بن جبير، ومجاهد: إذا أكل، ثم أيسر قضى. وقيل: لا يجب القضاء. وقيل: إن كان ذهئا، أو فضّةٌ، لم يجز أن يأخذ منه شيئًا إلا على سبيل القرض، وإن كان غير ذلك جاز بقدر الحاجة. وهذا أصحّ الأقوال عن ابن عبّاس. وبه قال الشعبيّ، وأبو العالية، وغيرهما. أخرج جميع ذلك ابن جرير في "تفسيره"، وقال هو بوجوب القضاء مطلقًا، وانتصر له.

وذهب الشافعيّ إلى أنه يأخذ أقلّ الأمرين من أجرته، ونفقته، ولا يجب الردّ على الصحيح. أفاده في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن المذهب الأول هو الأرجح؛ لما تقدّم من قول عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: إنها نزلت في ذلك، فإن تفسير الصحابيّ المتعلّق بسبب النزول في حكم المرفوع، ولأن حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما المذكور في الباب نصّ في ذلك.

والحاصل أن من يقوم بمال اليتيم له أن يأخذ بالمعروف، وقد بينه في حديث الباب بأنه ما لا إسراف فيه، ولا تبذير، ولا أن يتّخذ منه رأس مال، بل يأخذ لحاجته فقط، وأنه لا يجب عليه الرّدّ إذا أيسر؛ لأن الشارع حين أذن له بالأكل أذن له مطلقًا، ولم يوجب عليه الردّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3696 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُدَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، وَهُوَ ابْنُ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] ، وَ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] ، قَالَ: اجْتَنَبَ النَّاسُ مَالَ الْيَتِيمِ، وَطَعَامَهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} إِلَى قَوْلِهِ: ({لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220]).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن عثمان بن حكيم) الأوديّ الكوفيّ، ثقة [11] 160/ 252.

(1)

"فتح" 6/ 48 - 49. "كتاب الوصايا".

ص: 179

2 -

(محمد بن الصّلت) بن الحجّاج الأسديّ، أبو جعفر الكوفيّ الأصمّ، ثقة، من كبار [10].

قال محمد بن عبد اللَّه بن نُمير: ثقة، وأبو غسّان النهديّ أحبّ إليّ منه. وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". مات سنة (218) وقيل: سنة (219) وقيل: سنة (222). روى عنه البخاريّ، وروى له المصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه بواسطة، وله في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

3 -

(أبو كُدينة) -بنون، مصغّرًا- يحيى بن المهلّب البجليّ الكوفيّ، صدوق [7].

قال ابن معين، وأبو داود، والنسائيّ، والعجليّ، ويعقوب بن سفيان: ثقة. وقال النسائيّ في موضع آخر: ليس به بأس. وذكره ابن حنان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ. وقال ابن سعد: ثقة، إن شاء اللَّه تعالى. وقال الدارقطنيّ: يُعتبر به. روى له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

4 -

(عطاء بن السائب) الثقفيّ، أبو محمد، أو أبو السائب الكوفيّ، صدوقٌ، اختلط [5] 152/ 243.

5 -

(سعيد بن جبير) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 28/ 436.

6 -

(ابن عباس) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 27/ 31. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، وعطاء بن السائب أخرج له البخاريّ حديثًا واحدًا في ذكر الحوض متابعة. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد العباددة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قّالّ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وَ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} ، قال: اجْتَنَبَ النَّاسُ مَالَ الْيَتِيم، وَطَعَامَهُ) وفي الرواية التالية:"قال: كان يكون في حجر الرجل اليتيم، فيعزل له طعامه، وشرابه، وآنيته". ولفظ أبي داود: "لما أنزل اللَّه تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وَ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} ، الآية، انطلق من كان عنده يتيمٌ، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضُلُ من

ص: 180

طعامه، فيحبس له، حتى يأكله، أو يفسد، فاشتدّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

" الحديث (فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ) وفي نسخة: "على الناس"، أي شقّ عليهم هذا الاجتناب، حيث يلزمهم عزل طعامه عن طعامهم، وهو يتكرّر في اليوم عدّة مرّات، وأيضّا أنه يتسبّب في فساد طعام اليتيم، إذا لم يستعب كله بالأكل (فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} إِلَى قوْلِهِ: {لَأَعْنَتَكُمْ}) رُوي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: قال: لو شاء لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى مُوبقًا. وقيل: {لَأَعْنَتَكُمْ} لأهلككم. وقيل: لضيّق عليكم وشدّد، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم. وقيل: لكلّفكم ما يشتدّ عليكم أدؤه، وأثّمكم في مخالطتهم، كما فعل بمن كان قبلكم، ولكنه خفّف عنكم. والعَنَتُ: المشقّة

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصح، وفيه عطاء بن السائب، وقد اختلط، ولا يُقبل حديثه إلا

من رواية من روى عنه قبل الاختلاط وأبوكُدينة لم يُذكر في جملة من رووا عنه قبل

الاختلاط؟.

[قلت]: لم يتفرّد به أبو كدينة، بل تابعه عليه عمران بن عيينة، كما في الرواية التاليه، وإسرائيل بن يونس، وهو ممن روى عنه قبل اختلاطه، فقد أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 278 - 279، فقال: حدّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الحسن بن عليّ بن عفّان، حدثنا يحيى بن آدم، ثنا إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال: لما نزلت: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] عزلوا أموالهم عن أموال اليتامى، فجعل الطعام يفسُد واللحم يُنتِن، فشكوا ذلك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأنزل اللَّه عز وجل:{قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} ، فخالطوهم. قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يُخرجاه، ووافقه الذهبيّ، وهو كما قالا، فإن إسرائيل ممن رووا عن عطاء بن السائب قبل اختلاطه، وهم ثمانية، وقد ذكرتهم في غير هذا المحلّ من هذا الشرح.

والحاصل أن هذا الحديث صحيح؛ لما ذُكر، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

راجع "تفسير القرطبيّ" 3/ 66.

ص: 181

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-11/ 3696 و 3697 - وفي "الكبرى" 11/ 6496 و 6497. وأخرجه (د) في "الوصايا" 2871 (أحمد) في "مسند بني هاشم" 2993. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو ما يجوز للوصيّ من مال اليتيم، ووجه الاستدلال بهذا الحديث أنه يدلّ على أن اللَّه تعالى يسرّ في خلط وليّ اليتيم ماله بماله، ومعلوم أنه إذا خُلِطَا لا يُغلمُ بالتحقيق ما يأكله اليتيم، فربما لم يأكل قدر ماله، فيأكله الوليّ، وأهله، فسومح ذلك، وهذا من الأكل الجائز من ماله؛ للضرورة. (ومنها): بيان سبب نزول الآية المذكورة. (ومنها): سماحة الشريعة، وسهولتها، حيث إنها تعتني في تسهيل الأمور عند الضيق. (ومنها): جواز مخالطة اليتيم في أمواله بالمعروف. (ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الاهتمام بأمور اليتامى، فخافوا أن يصبيهم الوعيد الذي ذكره اللَّه عز وجل بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} الآية [النساء: 10]، فاستفتوا في أمورهم، فأنزل اللَّه عز وجل:{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] الآية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: لما أذن اللَّه عز وجل في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنظر إليهم، وفيهم كان ذلك دليلاً على جواز التصرّف في مال اليتيم تصرّف الوصيّ في البيع والقسمة، وغير ذلك على الإطلاق؛ لهذه الآية، فإذا كفل الرجل اليتيم، وحازه، وكان في نظره جاز عليه فعله، وإن لم يقدّمه والٍ عليه؛ لأن الآية مطلقة، والكفالة ولايةٌ عامّة، ولم يؤثر عن أحد من الخلفاء أنه قدّم أحدًا على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم، وإنما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الخامسة): قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- أيضًا: تواترت الآثار في دفع مال اليتيم مضاربة، والتجارة فيه، وير جواز خلط ماله بماله دلالةٌ على جوار التصرّف في ماله بالبيع والشراء، إذا وافق الصلاح، وجواز دفعه مضاربة إلى غير ذلك.

واختُلف في عمله هو قراضًا، فمنعه اشهب، وقاسه على منعه من أن يبيع لهم من نفسه، أو يشتري لها. وقال غيره: إذا أخذه على جزء من الربح بنسبة قراض مثله فيه

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 63.

ص: 182

أُمضي، كشرائه شيئًا لليتيم بتعقّب

(1)

، فيكون أحسن لليتيم. قال محمد بن عبد الحكم: وله أن يبيع له بالدين إن رأى ذلك نظرًا. قال ابن كنانة: وله أن يُنفق في عُرس اليتيم ما يصلح من صنيع، وطيب، ومصلحتُهُ بقدر حاله، وحال من يُزوَّج إليه، وبقدر كثرة ماله. قال: وكذلك في ختانه، فإن خشي أن يُتَّهم رفع ذلك إلى السلطان، فيأمره بالقصد، وكلّ ما فعله على وجه النظر فهو جائز، وما فعله على وجه المحاباة، وسوء النظر فلا يجوز، ودلّ الظاهر على أن وليّ اليتيم يُعلّمه أمر الدنيا والآخرة، ويستأجر له، ويؤاجره ممن يعلّمه الصناعات. وإذا وُهب لليتيم شيءٌ، فللوصي أن يقبضه؛ لما فيه من الإصلاح. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهوحسبنا، ونعم الوكيل.

3697 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]، قَالَ: كَانَ يَكُونُ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ الْيَتِيمَ، فَيَعْزِلُ لَهُ طَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ، وَآنِيَتَهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ "فِي الدِّينْ

(3)

} [البقرة: 220] ، فَأَحَلَّ لَهُمْ خُلْطَتَهُمْ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن عليّ": هو الفلاّس.

و"عمران بن عُيينة" بن أبي عمران الهلاليّ، أبو الحسن الكوفيّ، أخو سفيان، صدوقٌ له أوهام [8].

قال ابن معين: صالح الحديث. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: لا يُحجّ بحديثه؛ لأنه يأتي بالمناكير. وقال الآجريّ: سُئل أبو داود، عن إبراهيم، وعمران، ومحمد بني عيينة؟، فقال: كلهم صالح، وحديثهم قريبٌ. وقال العقيليّ: في حديثه وهم وخطأ. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال أبو بكر البزّار: ليس به بأس. وقال ابن خلفون: وقال أبو صالح: صدوق. روى له الأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

وقوله: "كان يكون الخ" أحدهما زائد، ويحتمل أن تكون الكاف جارّةً، و"أن" مصدرية، ويجعل هذا بينًا لحالهم حين نزلت هذه الآية قبل أن يؤذن لهم في الخلط، أي حالهم مثل أن يكون الخ. قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-.

(1)

أي مع تعقّب، وهو أن ينظر في أمر المشترى، يرفعه إلى السوق لمعرفة ثمنه.

(2)

"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 63.

(3)

وفي نسخة إسقط قوله: "في الدين".

ص: 183

وقوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} الآية [البقرة: 220]. قال القرطبيّ: هذه المخالطة، كخلط المثل بالمثل، كالتمر بالتمر. وقال أبو عبيد: مخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال، ويشقّ على كافله أن يُفرد طعامه عنه، ولا يجد بُدًّا من خلطه بعياله، فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحرّي، فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد يقع فيه الزيادة والنقصان، فجاءت الآية الناسخة بالرخصة فيه. قال أبو عبيد: وهذا عندي أصلٌ لما يفعله الرفقاء في الأسفار، فإنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسويّة، وقد يتفاوتون في قلّة المطعم، وكثرته، وليس من قلّ مطعمه تطيب نفسه بالتفضّل على رفيقه، فلما كان هذا في اموال اليتامى واسعًا، كان في غيرهم أوسع، ولولا ذلك لَخِفتُ أن يضيّق فيه الأمر على الناس. انتهى

(1)

.

والحديث صحيح، وقد سبق البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌12 - (اجْتِنَابُ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ)

3698 -

(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ» ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هِيَ؟ ، قَالَ:«الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ»

(2)

.

رجال هذا الإسناد: ستة.

1 -

(الربيع بن سليمان) أبو محمد المصريّ الجِيزيّ الأعرج، ثقة [11] 122/ 173.

2 -

(ابن وهب) هو عبد اللَّه، أبو محمد المصريّ، ثقة حافظ عابد [9] 9/ 9.

3 -

(سليمان بن بلال) التيمي مولاهم، أبو محمد، وأبو أيوب المدينيّ، ثقة [8] 30/ 558.

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 65.

(2)

يوجد هنا في النسخة الهندية: ما نصّه: "آخر الوصيّة".

ص: 184

4 -

(ثور بن زيد) الدِّيليّ المدنيّ، ثقة [6] 11/ 1201.

[تنبيه]: وقع في كلّ نسخ "المجتبى"، و "الكبرى" التي بين يديّ:"ثور بن يزيد" بالياء التحتانيّة، وهو غلطٌ، والصواب "ثور بن زيد" بدونها، وهو الواقع في "الصحيحين"، وفي "تحفة الأشراف" ج 9/ ص 458، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

و"ثور بن يزيد" راو آخر، وهو أبو خالد الحمصيّ، ثقة ثبت، إلا أنه يرى القدر [7] 7/ 504.

5 -

(أبو الغيث) سالم مولى ابن مُطيع المدنيّ، ثقة [3] 78/ 2577.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه فقد تفرد به هو، وأبو داود، وهو ثقة. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من سليمان، وشيخُهُ، وابنُ وهب مصريان. (ومنها): أن فيه أبا هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) بموحّدة، وقاف: أي المهلكات، جمع مُوبِقّة، من أوبقه: إذا أهلكه. قال في "القاموس": وَبَقَ، كوَعَدَ، وَوَجِلَ، وَوَرِثَ، وُبُوقًا، ومّوْبِقًا: هَلَك، كاستَوبَقَ، وكمجلِسِ: المَهْلِك، والْموْعِد، والْمَحِبِسُ، ووادٍ في جهنّم، وكلُّ شيء حال بين شيئين، وأوبقه: حَبَسَهُ، وأهلكه. انتهى.

قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وسمّيت هذه الكبائر موبقات؛ لأنها تُهلك فاعلها في الدنيا بما يترتّب عليها من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب.

ولا شكّ في أن الكبائر أكثر من هذه السبع بدليل الأحاديث المذكورة في هذا الباب

(1)

وفي غيره، ولذلك قال ابن عبّاس رضي الله عنهما حين سئل عن الكبائر، فقال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وفي رواية عنه: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع. وعلى هذا فاقتصاره صلى الله عليه وسلم على هذه السبع في هذا الحديث يحتمِل أن يكون لأنها هي التي أُعلم بها في ذلك الوقت بالوحي، ثم بعد ذلك أُعلم بغيرها. ويحتمل أن يكون ذلك

(1)

يعني في "صحيح مسلم".

ص: 185

لأن تلك السبع هي التي دعت الحاجة إليها في ذلك الوقت، أو التي سُئل عنها في ذلك الوقت، وكذلك القول في كلّ حديث خصّ عددًا من الكبائر. واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

(قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هِيَ؟، قَالَ: "الشِّركُ بِاللَّهِ) يجوز في "الشرك" وما عطف عليه النصب، والرفع، فالنصب على البدلية من "السبع"، أو على أنه مفعول لفعل محذوف، أي "أعني"، ونحوه.

وكون الشرك من الكبائر، بل هو أكبرها على الإطلاق، صريح النصّ القرآنيّ، حيث قال سبحانه وتعالى:{وَإِذْ قَالَ: لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. وأخرج الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول اللَّه، أيُّ الذنب أعظم؟، قال:"أن تجعل للَّه ندا، وهو خلقك"، قلت: ثم أيّ؟، قال:"أن تقتل ولدك، خشية أن يأكل معك"، قال: ثم أيّ؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك"، وأنزل اللَّه تصديق قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية [الفرقان: 68].

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وأما قبح الكفر، وكونه من أكبر الكبائر، فكان معروفًا عندهم، ولا يتشكّك أحدٌ من أهل القبلة في ذلك. انتهى

(2)

.

(وَالسِّحْرُ) هكذا في النسخة الهنديّة، وهو الموافق لما في "الصحيحين"، ووقع في النسختين المطبوعتين:"والشحّ"، بدل "السحر"، وسقطت هذه الكلمة من "الكبرى" أصلًا

(3)

، والظاهر أنها سقطت من النسّاخ، لا من أصل الرواية؛ لأن السبع تكون ناقصة بدونها، فتنبّه.

و"السحر" -بكسر، فسكون-: قال ابن فارس: هو إخراج الباطل في صورة الحقّ، ويقال: هو الخديعة، وسَحَره بكلامه: استماله برقّته، وحسن تركيبه. قال الإمام فخر الدين في "التفسير": ولفظ السحر في عرف الشرع مختصّ بكلّ أمر يخفَى سببه، ويُتخيّل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه، والخِداع. قال اللَّه تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، وإذا أُطلق ذُمّ فاعله. وقد يستعمل مُقيّدًا فيما يُمدح، ويُحمد، نحو قوله صلى الله عليه وسلم:"إن من البيان لسحرًا" أي إن بعض البيان سحرٌ؛ لأن صاحبه يوضّح المشكل، ويَكشِف عن حقيقته بحسن بيانه، فيستميل القلوب، كما تُستمالُ

(1)

"المفهم" 1/ 283.

(2)

"شرح مسلم" 2/ 88.

(3)

وقد ألحق المحقّق به من "المجتبى" لفظة "والشحّ".

ص: 186

بالسحر. وقال بعضهم: لما كان في البيان من إبداع التركيب، وغرابة التأليف ما يَجذب السامع، ويُخرجه إلى حدّ يكاد يَشغَلُهُ عن غيره، شُبّه بالسحر الحقيقيّ. وقيل: هو السحر الحلال. ذكره الفيّوميّ. وسيأتي بسط فيما يتعلّق بالسحر في "كتاب المحاربة"، إن شاء اللَّه تعالى.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وأما عدّه صلى الله عليه وسلم السحر من الكبائر، فهو دليلٌ لمذهبنا الصحيح المشهور، ومذهب الجماهير أن السحر حرام، من الكبائر فعله، وتعلّمه، وتعليمه. وقال بعض أصحابنا: إن تعلّمه ليس بحرام، بل يجوز؛ ليعرف، ويردّ على صاحبه، ويميّز عن الكرامة للأولياء، وهذا القائل يمكنه أن يحمل الحديث على فعل السحر. واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

وأما "الشح"، إن صحّت به الرواية، فهو أشدّ البخل، وهو أبلغ في المنع من البخل. وقيل: هو البخل مع الحرص. وقيل: البخل في أفراد الأمور، وآحادها، والشّحّ عامّ. وقيل: البخل بالمال، والشحّ بالمال والمعروف. يقال: شحّ يشُحّ - بالضمّ- فهو شَحِيح، والاسم الشُّحّ. أفاده ابن الأثير

(2)

.

(وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمّ اللَّهُ، إِلاَّ بِالْحَقِّ) أي كأن تقتل بريئًا عمدًا، فيقتصّ منها، أو زنت محصنة، فترجم (وَأَكْلُ الرِّبَا) قال اللَّه عز وجل:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} الآية [البقرة: 275](وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيم) قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (وَالتَّوّلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ) أي الفرار من الجهاد، ولقاء العدوّ في الحرب. والزَّحفُ: الجيش يزحفون إلى العدوّ: أي يمشون، يقال: زَحف إليه زَحفًا، من باب منع: إذا مشى نحوه. أفاده في "النهاية"

(3)

.

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: والزحف: القتال، وأصله المشي المتثاقل، كالصبيّ يزحف قبل أن يمشي، والبعير إذا أعيى، فَجَرَّ فِرْسَنَه

(4)

. وقد سمّي الجيش بالزحف؛ لأنه يُزحَفُ فيه، والتوليّ عن القتال إنما يكون كبيرةً إذا فرّ إلى غير فئة، وإذا كان العدوّ ضعفي المسلمين. انتهى

(5)

.

(1)

"شرح النوويّ" 2/ 88.

(2)

"النهاية" 2/ 448.

(3)

"النهاية" 2/ 297.

(4)

أي طرف خفّه.

(5)

"المفهم" 4/ 284.

ص: 187

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وأما عدّه صلى الله عليه وسلم التولّي يَوْمَ الزحف من الكبائر، فدليلٌ صريحٌ لمذهب العلماء كافّةً في كونه كبيرةً، إلا ما حُكي عن الحسن البصريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أنه قال: ليس هو من الكبائر، قال: والآية الكريمة في ذلك إنما وردت في أهل بدر خاصّة. والصواب ما قاله الجماهير أنه عامّ باقٍ. واللَّه أعلم انتهى

(1)

.

(وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) أي رميهنّ بالزنى، والإحصانُ هنا: العفّة عن الفواحش. والغافلات يعني عما رُمين به من الفاحشة، أي هنّ بريئات من ذلك، لا خبر عندهنّ منه. قاله القرطبيّ.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وأما المحصنات الغافلات، فبكسر الصاد، وفتحها قراءتان في السبع قرأ الكسائيّ بالكسر، والباقون بالفتح، والمراد بالمحصنات هنا العفاف، وبالغافلات الغافلات عن الفواحش، وما قُذِفْنَ به، وقد ورد الإحصان في الشرع على خمسة أقسام: العفّة، والإسلام، والنكاح، والتزويج، والحرّيّة، وقد بيّنت مواطنه، وشرائطه، وشواهده في "كتاب تهذب الأسماء واللغات". واللَّه أعلم. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 12/ 3698 - وفي "الكبرى" 12/ 6498. وأخرجه (خ) في "الوصايا" 2766 و"الطبّ" 5764 و"الحدود" 6857 (م) في "الإيمان" 89 (د) في "الوصايا" 2874. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان وجوب اجتناب أكل مال اليتيم. (ومنها): تقسيم الذنوب إلى كبائر، وصغائر. (ومنها): وجوب الاجتناب عن هذه الذنوب الكبائر السبع. وسيأتي ذكر بيان الاختلاف بين العلماء في حد الكبيرة، وتقسيم الذنوب إلى صغيرة وكبيرة، وبعض أمثلة الكبائر في باب "ذكر الكبائر" من "كتاب المحاربة"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(1)

"شرح مسلم" 2/ 88.

(2)

"شرح مسلم" 2/ 84.

ص: 188

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌30 - (كِتَابُ النُّحْلِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "النُّحْلُ":-بضمّ النون، وسكون الحاء المهملة-:

العطيّةُ والهبة ابتداء من غير عوض، ولا استحقاق، يقال: نحله يَنْحَلُهُ، من باب فتح نُحْلاً بالضمّ. والنَّحْلة بالكسر العطية. أفاده في "النهاية"

(1)

.

وقال الفيّوميّ: نَحَلتُهُ أنحله -بفتحتين نُحلاّ، مثل قُفْل: أعطيته شيئًا من غير عِوَض بطيب نفس. ونَحَلتُ المرأة مهرها نِحْلَةً بالكسر: أعطيتها. والنَّحْلةُ: الدَّعْوَى. انتهى. وفي "اللسان": والنُّحْلُ بالضمّ: إعطاؤك الإنسان شيئًا بلا استعاضة، وعمّ بعضهم جميع أنواع العطاء. وقيل: هو الشيء المعطَى، وقد أنحله مالاّ ونحله إياه، وأبى بعضهم هذه الأخيرة. ونُحْلُ المرأة: مهرُها، والاسم النِّحْلة بالكسر: تقول أعطيتها مهرها نِحلةً: إذا لم تُرد منها عوضًا. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

‌1 - (ذِكْرُ اخْتِلافِ أّلْفَاظِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرِ فِي النُّحْلِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن جمهور الرواة جعلوه من مسند النعمان بن بشير رضي الله عنهما، وخالف في ذلك الأوزاعيّ عن ابن شهاب، أن محمد بن النعمان، وحميد بن عبد الرحمن حدثاه، عن بشير بن سعد، فجعله من مسند بشير، فشذّ بذلك، والمحفوظ رواية الجماعة، أنهما يرويانه عن النعمان رضي الله عنه، لا عن أبيه بشير رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3699 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: سَمِعْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ أَبَاهُ نَحَلَهُ غُلَامًا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يُشْهِدُهُ، فَقَالَ: «أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ؟» ، قَالَ: لَا، قَالَ: «فَارْدُدْهُ». وَاللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ).

(1)

"النهاية" 5/ 29.

ص: 189

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قتيية بن سعيد) الثقفي البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(محمد بن منصور) الجوّاز المكيّ، ثقة [10] 19/ 20 من أفراد المصنف.

3 -

(سفيان) بن عُيينة، أبو محمد المكي، ثقة ثبت حجة [8] 1/ 1.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت [4] 1/ 1.

5 -

(حُميد بن عبد الرحمن) بن عوف الزهريّ المدنيّ ثقة [2] 32/ 725.

6 -

(محمد بن النعمان) بن بشير الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ، ثقة [3].

روى عن أبيه، وجدّه. وروى عنه الزهريّ، مقرونًا بحميد بن الرحمن. قال العجليّ: مدنيّ تابعي ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقد ذكره مسلم في الطبقة الأولى من أهل المدينة. روى له الجماعة، سوى أبي داود حديث النُّحْل مقرونًا، ورواه النسائيّ وحده من حديث الزهريّ، عن محمد وحده عن جدّه بشير. قال الحافظ: وهو خطأ من الراوي عن الزهريّ. قال: وقرأت بخط الذهبيّ: حديثه عن جدّه مرسل انتهى. وهذا بناء على روايته عنه انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "من حديث الزهريّ، عن محمد وحده" هذا غير صحيح، فإن رواية النسائيّ مقرونة بحميد بن عبد الرحمن، كما سيأتي برقم (3702) فليُتنبّه.

7 -

(النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ) بن سعد بن ثعلبة الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابي ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، سكن الشام، ثم ولي إمرة الكوفة، ثم قُتل بحمص سنة (65)، وله (64) سنة، تقدمت ترجمته في -19/ 528. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه الثاني، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، وقتيبة بغلاني، ومحمد بن منصور، وسفيان مكيّان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّين، والابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ) بن سعد - رضي اللَّه تعالى عنهما -.

(1)

"تهذيب التهذيب" 3/ 719.

ص: 190

[تنبيه]: قد روى هذا الحديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عدد كثير من التابعين، غير حميد بن عبد الرحمن، ومحمد بن بن النعمان، منهم: عروة بن الزبير، عند مسلم، والمصنّف، وأبي داود، وأبو الضُّحى عند المصنّف، وابنِ حبّان، وأحمد، والطحاويّ. والمفضل بن المهلَّب، عند المصنّف، وأحمد، وأبي داود. وعبدُ اللَّه ابن عُتبة بن مسعود، عند أحمد. وعون بن عبد اللَّه، عند أبي عوانة. والشعبيّ عند المصنّف، وفي "الصحيحين"، وأبي داود، وأحمد، وابن ماجه، وابن حبّان، وغيرهم. ورواه عن الشعبيّ عدد كثير أيضًا، وسنذكر ما في رواياتهم من الفوائد الزائدة على هذا الطريق، مفضلاّ، إن شاء اللَّه تعالى، كما اعتنى بذلك الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، وغيره.

(أَنَّ أَبَاهُ) بشير بن سعد بن ثعلبة بن الْجُلَاس -بضمّ الجيم، وتخفيف اللام- الخزرجيّ، صحابيّ مشهور، شهد بدرّا، وغيرها، ومات في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة، ويقال: إنه أول من بايع أبا بكر من الأنصار. وقيل: عاش إلى خلافة عمر.

روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الحديث فقط، على خلاف فيه. وروى عنه ابنه النعمان، وابن ابنه محمد، وعروة، وحُميد بن عبد الرحمن بن عوف. وروايتهم عنه مرسلة، سوى النعمان. وذكر ابن سعد في "الطبقات" أنه كان يكتب بالعربيّة في الجاهليّة، وأمّره النبيّ صلى الله عليه وسلم على بعض السرايا، واستعمله على المدينة في عمرة القضاء.

وذكر ابن إسحاق، والواقديّ أنه قُتل يَوْمَ عين التمر مع خاقد بن الوليد مُنصرَفه من اليمامة سنة (12)، لكن روى البخاريّ في "تاريخه" من طريق الزهريّ، عن محمد بن النعمان بن بشير، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قال يومًا، وحوله المهاجرون والأنصار: أرأيتم لو ترخّصت في بعض الأمر، ماذا كنتم فاعلين؟ قال: فقال له بشير ابن سعد: لو فعلت قوّمناك تقويم الْقِدْح، فقال عمر: أنتم إذًا أنتم. وهذا يدلّ على أنه بقي إلى خلافة عمر رضي الله عنهما

(1)

.

(نَحَلَهُ) من باب فتح: أي أعطاه. وفي الرواية التالية: "إن أباه أتى به إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، وفي رواية الشعبيّ:"أعطاني أبي عطيّة، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطيّة"، وفي رواية أبي حيّان، عن الشعبيّ

(2)

بيان سبب سؤالها شهادة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولفظه: عن النعمان، قال: سَأَلَتْ أمي أبي بعضّ الموهبة لي من ماله، فالتوى بها

(1)

"فتح" 5/ 528 "كتاب الهبة"، و"تهذيب التهذيب" 1/ 234.

(2)

يأتي برقم 3707 و 3708 و 3709.

ص: 191

سنة" أي مطلها. وفي رواية ابن حبّان من هذا الوجه: "بعد حولين"، ويُجمع بينهما بأن المدة كانت سنة وشيئًا، فجبر الكسر تارة، وألغاه أخرى، قال: "ثم بدا له، فوهبها لي، فقالت له: لا أرضى حتى تُشهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فأخذ بيدي، وأنا غلام"، ولمسلم من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، عن النعمان: "انطلق بي أبي، يحملني إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "، ويجميع بينهما بأنه أخذ بيده، فمشى معه بعض الطريق، وحمله في بعصها لصغر سنّة، أو عبّر عن استتباعه إياه بالحمل.

(غُلَامًا) الأصل فيه الابن الصغير، ويُطلق مجازًا على الرجل باعتبار ما كان عليه، ويُجمع على غِلْمة في القلّة، وعلى غِلمان في الكثرة، والمراد به هنا العبد.

ثمّ إن رواية هذا الباب صريحة في أن الذي أعطى بشير وقده النعمان هو غلام، ووقع في رواية ابن حنان، والطبرانيّ من طريق أبي حّرِيز -بمهملة، وراء، ثم زاي، بوزن عظيم- عن الشعبيّ:"أن النعمان بن بشير، خطب بالكوفة، فقال: إن والدي بشير بن سعد أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عمرة بنت رواحة نُفست بغلام، وإني سمّيته النعمان، وإنها أبت أن تربّيه حتى جعلت له حديقة من أفضل مال، هو لي، وأنها قالت: أشهِد على ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا أشهد على جور".

وجمع ابن حبّان بين الروايتين بالحمل على واقعتين: إحداهما عند ولادة النعمان، وكانت العطيّة حديقةً، والأخرى بعد أن كبر النعمان، وكانبت العطيّة عبدًا. وهو جمع لا بأس به، إلا أنه يعكُر عليه أنه يبعد أن ينسى بشير بن سعد مع جلالته الحكم في المسألة حتى يعود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيستشهده على العطيّة الثانية بعد أن قال له في الأولى:"لا أشهد على جَوْر".

وجوّز ابن حبّان أن يكون بشير ظنّ نسخ الحكم. وقال غيره: يحتمل أن يكون حمل الأول على كراهة التنزيه، أو ظنّ أنه لا يلزم من الامتناع في الحديقة الامتناع في العبد؛ لأن ثمن الحديقة في الأغلب أكثر من ثمن العبد.

قال الحافظ: ثم ظهر وجهٌ آخر من الجمع، يسلم من هذا الخدش، ولا يحتاج إلى جواب، وهو أن عمرة لمَاّ امتنعت من تربيته، إلا أن يهب له شيئًا، يخصّه به وهبه الحديقة المذكورة تطييبًا لخاطرها، ثم بدا له، فارتجعها؛ لأنه لم يقبضها منه أحدٌ غيره، فعاودته عمرة في ذلك، فمطلها سنة، أو سنتين، ثم طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلاما، ورضيت عمرة بذلك، إلا أنها خشيت أن يرتجعه أيضًا، فقالت له: أشهد على ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، تريد بذلك تثبيت العطيّة، وأن تأمن من رجوعه فيها، ويكون مجيئه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم للإشهاد مرّة واحدةً، وهي الأخيرة، وغاية ما فيه أن بعض الرواة

ص: 192

حفظ ما لم يحفظ بعض، أو كان النعمان يقصّ بعض القصّة تارة، ويقصّ بعضها أخرى، فسمع كلٌّ ما رواه، فاقتصر عليه. واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن هذه التأويلات كلّها يظهر ليها التعسّف، والتكلّف، فالأولى أن تُجعل رواية الجماعة في أن ما وهبه غلام هي المحفوظة، ورواية الحديقة شاذّة. واللَّه تعالى أعلم.

(فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يُشهِدُهُ) بضم أوله، من الإشهاد (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَكُلَّ ولَدِكَ) زاد في رواية أبي حيّان:"فقال ألك ولد سواه؟ قال: نعم". وقال مسلم لَمّا رواه من طريق الزهريّ: أما يونس ومعمر، فقالا:"أكلّ بنيك"، وأما الليث وابن عيينة، فقالا:"أكلّ ولدك". ولا منافاة بينهما؛ لأن لفظ الولد يشمل ما لو كانوا ذكورًا، أو إناثًا وذكورًا، وأما لفظ البنين، فإن كان ذكورًا، فظاهر، وإن كانوا إناثًا وذكورًا، فعلى سبيل التغليب. ولم يذكر ابن سعد لبشير واقد النعمان ولدًا غير النعمان، وذكر له بنتًا اسمها أُبية - بالموحّدة، تصغير أبى. قاله في "الفتح" (نَحَلْتَ؟) وفي رواية مالك:"أكلّ ولدك نحلته"، وفي رواية عروة، عن بشير:"أكلّ ولدك نحلته مثل ذا"، وفي رواية داود، عن الشعبيّ:"كلّ ولدك نحلت مثل الذي نحلت نعمان"، وفي رواية له:، أفكلهم وهبت لهم مثل الذي وهبت لابنك هذا؟ "، وفي رواية له: "فأعطيتهم مثل ما أعطيت لهذا" (قَالَ) بشير (لَا) وفي رواية ابن القاسم، في "الموطّآت للدارقطنيّ عن مالك: "قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَارْدُدْهُ) وفي رواية مالك التالية: "فارجعه"، وفي رواية الشعبيّ:"فلا أشهد على شيء"، هذا لفظ "المجتبى"، ولفظ "الكبرى":"فأَشْهِدْ على هذا غيري، أليس يسرّك أن يكونوا إليك في البرّ سواءً؟، قال: بلى، قال: فلا إذًا"، وفي رواية له:"فلا تشهدني إذًا، فإني لا أشهد على جور"، وفي رواية عروة:"فكره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشهد له"، وفي رواية أبي الضحى، عن النعمان:"ألا سوّيت بينهم"، وفي رواية الشعبيّ عند البخاريّ:"قال: فرجع، فردّ عطيّته"، ولمسلم:"فردّ تلك الصدقة"، وفي رواية المغيرة، عن الشعبيّ، عند مسلم:"اعدلوا بين أولادكم في النُّحل، كما تحبّون أن يعدِلوا بينكم في البرّ"، وفي رواية مجالد، عن الشعبيّ، عند أحمد:"إن لبنيك عليك من الحقّ أن تعدل بينهم، فلا تشهدني على جور، أيسرّك أن يكونوا إليك في البرّ سواءً؟ قال: بلى، قال: فلا إذًا"، ولأبي داود من هذا الوجه:"إن لهم عليك من الحقّ أن تعدل بينهم، كما أن لك عليهم من الحقّ أن يبرّوك".

(1)

"فتح" 5/ 528 - 529. "كتاب الهبة".

ص: 193

وكلّ هذه الألفاظ المختلفة في هذه القصّة متقاربة في المعنى.

(واللَّفْظُ لِمُحَمَّدِ) يعني أن هذا السياق لشيخه محمد بن منصور، وأما شيخه قتيبة، فرواه بمعناه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- من رقم-3699 - إلى 3713 - وفي "الكبرى" 1/ 6499 - 6514. وأخرجه (خ) في "الهبة" 2586 و 2587 و "الشهادات" 2650 (م) في "الهبات" 1623 (د) في "البيوع" 3542 و 3544 (ت) في "الأحكام" 1367 (ق) في "الأحكام" 2375 و2376 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 17890 و 17902 و17911 (الموطأ) في "الأقضية" 1473. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعيّة النُّحل إذا لم يكن هناك ما يمنعه، من تفضيل بعض الأولاد على بعض. (ومنها): الندب إلى التأليف بين الإخوة، وترك ما يوقع بينهم الشحناء، أو يورث العقوق للآباء. (ومنها): أن عطيّة الأب لابنه الصغير في حجره لا تحتاج إلى قبض، وأن الإشهاد فيها يُغني عن القبض. وقيل: إن كانت الهبة ذهبًا، أو فضّةً فلا بدّ من عزلها، وإفرازها. (ومنها): كراهة تحمّل الشهادة فيما ليس بمباح. (ومنها): مشروعيّة الإشهاد في الهبة، وليس بواجب. (ومنها): جواز الميل إلى بعض الأولاد، والزوجات، دون بعض، وإن وجبت التسوية بينهم في غير ذلك. (ومنها): أن للإمام الأعظم أن يتحمّل الشهادة، وتظهر فائدتها، إما ليحكم في ذلك بعلمه عند من يُجيزه، أو يؤدّيها عند بعض نُوّابه. (ومنها): مشروعيّة استفصال الحاكم، والمفتي عما يحتمل الاستفصال، لقوله صلى الله عليه وسلم:"ألك ولدٌ غيره؟ "، فلما قال: نعم، قال:"أفكلهم أعطيت مثله"، فلما قال: لا، قال:"لا أشهد"، فيفهم منه أنه لو قال: نعم، لشهد. (ومنها): جواز تسمية الهبة صدقةً. (ومنها): أن للإمام كلامّا في مصلحة الولد. (ومنها): المبادرة إلى قبول الحقّ، وأمر الحاكم، والمفتي بتقوى اللَّه في كلّ حال. (ومنها): أن فيه إشارةً إلى سوء عاقبة الحرص، والتنطّع؛ لأن عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده لما رجع فيه، فلما اشتدّ حرصها في تثبيت ذلك

ص: 194

أفضى إلى بطلانه. (ومنها): ما قال المهلّب: فيه أن للإمام أن يردّ الهبة، والوصيّة ممن يعرف منه هروبًا عن بعض الورثة.

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن للأب أن يرجع فيما وهبه لابنه، وكذلك الأمّ، وهو قول أكثر الفقهاء، وسيأتي تحقيق المذاهب، وأدلّتها في محله، من "كتاب الهبة"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم هل التسوية في العطيّة بين الأولاد واجبة، أم لا؟:

ذهب طائفة منهم إلى وجوبه، وبه صرّح البخاريّ، وهو قول طاوس، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وقال به بعض المالكيّة، ثم المشهور عن هؤلاء أنها باطلة. وعن أحمد تصحّ، ويجب أن يرجع، وعنه يجوز التفاضل إن كان له سبب، كأن يحتاج الولد لزمانته ودَينه، أو نحو ذلك، دون الباقين. وقال أبو يوسف: تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار.

وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبّة، فإن فضّل بعضًا صحّ، وكُره، واستُحبّ المبادرة إلى التسوية، أو الرجوع، فحملوا الأمر على الندب، والنهي على التنزيه.

ومن حجة من أوجبه أنه مقدّمة الواجب؛ لأن قطع الرحم، والعقوق محرّمان، فما يؤدّي إليهما يكون محرّما، والتفضيل مما يؤدّي إليهما.

ثم اختلفوا في صفة التسوية، فقال محمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، وبعض الشافعيّة، والمالكيّة: العدل أن يعطي الذكر حظّين كالميراث، واحتجّوا بأنه حظّها من ذلك المال لو أبقاه الواهب في يده حتى مات. وقال غيرهم: لا فرق بين الذكر والأنثى. وهذا هو الأرجح؛ لأن ظاهر الأمر بالتسوية يدلّ عليه، ويدلّ عليه أيضًا حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، رفعه:"سوّوا بين أولادكم في العطيّة، فلو كنت مفضّلاً أحدًا لفضّلت النساء". أخرجه سعيد بن منصور، والبيهقيّ من طريقه. قال الحافظ: وإسناده حسن.

وأجاب من حمل الأمر بالتسوية على الندب عن حديث النعمان رضي الله عنه بأجوبة:

[أحدها]: أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده، ولذلك منعه، فليس فيه حجة على منع التفضيل. حكاه ابن عبد البرّ عن مالك. وتعقّبه بأن كثيرًا من طرق حديث النعمان رضي الله عنه صرّح بالبعضيّة. وقال القرطبيّ: ومن أبعد التأويلات أن النهي إنما يتناول من وهب جميع ماله لبعض ولده، كما ذهب إليه سحنون، وكأنه لم يسمع في نفس هذا الحديث أن الموهوب كان غلامًا، وأنه وهبه له لما سألته الأم الهبة من بعض ماله،

ص: 195

قال: وهذا يُعلَم منه على القطع أنه كان له مالٌ غيره.

[ثانيها]: أن العطية المذكورة لم تُتنجّز، وإنما جاء بشيرٌ يستشير النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأشار عليه بأن لا يفعل، فترك. حكاه الطحاويّ، وفي أكثر طرق حديث الباب ما يُنابذه.

[ثالثها]: أن النعمان كان كبيرّا، ولم يكن قبض الموهوب، فجاز لأبيه الرجوع، ذكره الطحاويّ، وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث أيضًا خصوصًا قوله:"ارجعه"، فانه يدلّ على تقدّم وقوع القبض، والذي تضافرت عليه الروايات أنه كان صغيرًا، وكان أبوه قابضًا له لصغره، فأمر بردّ العطيّة المذكورة بعد ما كانت في حكم المقبوض.

[رابعها]: أن قوله: "ارجعه" دليل على الصحّة، ولو لم تصحّ الهبة لم يصحّ الرجوع، وإنما أمره بالرجوع لأن للواقد أن يرجع فيما وهبه لولده، وإن كان الأفضل خلاف ذلك، لكن استحباب التسوية رجح على ذلك، فلذلك أمره به، وفي الاحتجاج بذلك نظر، والذي يظهر أن معنى قوله:"ارجعه"، أي لا تمض الهبة المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدّم صحّة الهبة.

[خامسها]: أن قوله: "أشهد على هذا غيري" إذن بالإشهاد على ذلك، وإنما امتنع من ذلك لكونه الإمام، وكأنه قال: لا أشهد؛ لأن الإمام ليس من شأنه أن يشهد، وإنما من شأنه أن يحكم، حكاه الطحاويّ أيضًا، وارتضاه ابن القصّار.

وتُعُقّب بأنه لا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمّل الشهادة، ولا من أدائها إذا تعيّنت عليه، وقد صرّح المحتجّ بهذا أن الإمام إذا شهد عند بعض نؤابه جاز، وأما قوله: إن قوله: "أشهِدْ" صيغة إذن، فليس كذلك، بل هو للتوبيخ لما يدلّ عليه بقيّة ألفاظ الحديث، وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع.

وقال ابن حبّان: قوله: "أَشهِد" صيغة أمر، والمراد نفي الجواز، وهو كقوله لعائشة:"اشترطي لهم الولاء" انتهى.

[سادسها]: التمسّك بقوله: "ألا سوّيت بينهم" على أن المراد بالأمر الاستحباب، وبالنهي التنزيه، وهذا جيّد لولا ورود تلك الألفاظ الزائدة على هذه اللفظة، ولا سيّما أن تلك الرواية بعينها وردت بصيغة الأمر أيضًا، حيث قال:"سوّ بينهم".

[سابعها]: وقع عند مسلم عن ابن سيرين ما يدلّ على أن المحفوظ في حديث النعمان: "قاربوا بين أولادكم"، لا "سوّوا". وتعُقّب بأن المخالفين لا يوجبون المقاربة، كما لا يوجبون التسوية.

[ثامنها]: في التشبيه الواقع في التسوية بينهم بالتسوية منهم في برّ الوالدين قرينة تدلّ

ص: 196

على أن الأمر للندب. لكن إطلاق الجور على عدم التسوية، والمفهوم من قوله:"لا اشهد إلا على حقّ"

(1)

. وقد قال في آخر الرواية التي وقع فيها التشبيه: "قال: فلا إذًا".

[تاسعها]: عمل الخليفتين: أبي بكر، وعمر بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم على عدم التسوية قرينة ظاهرة في أن الأمر للندب، فأما أبو بكر، فرواه في "الموطّإ" بإسناد صحيح، عن عائشة أن أبا بكر قال لها في مرض موته:"إني كنت نحلتك نُحلاً، فلو كنت اخترتيه لكان لك، وإنما هو اليوم للوارث". وأما عمر، فذكره الطحاويّ وغيره أنه نحل ابنه عاصمًا دون سائر ولده. وأجاب عروة عن قصّة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين بذلك. ويجاب بمثل ذلك عن قصّة عمر رضي الله عنه.

[عاشر الأجوية]: أن الإجماع انعقد على جواز عطيّة الرجل ماله لغير ولده، فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله، جاز له أن يُخرج عن ذلك بعضهم. ذكره ابن عبد البرّ. ولا يخفى ضعفه؛ لأنه قياس مع وجود النصّ. وزعم بعضهم أن معنى قوله:"لا أشهد على جور"، أي لا أشهد على ميل الأب لبعض الأولاد دون بعض. وفي هذا نظر لا يخفى، ويردّه قوله في الرواية:"لا أشهد إلا على الحقّ". وحكى ابن التين عن الداوديّ أن بعض المالكيّة احتجّ بالإجماع على خلاف ظاهر حديث النعمان رضي الله عنه، ثم ردّه. ذكره في "الفتح".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر من تحرير الأدلة أن المذهب الأول هو الراجح، فالحقّ وجوب التسوية بين الأولاد في العطيّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3700 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ، يُحَدِّثَانِهِ

(2)

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ’ أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم’ فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِى غُلَامًا، كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ؟» ، قَالَ: لَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«فَارْجِعْهُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه الحارث، فتفرد به هو وأبو داود وهو ثقة حافظ. والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

هكذا نسخ "الفتح"، قال مصحّح بولاق: لعلّ هنا سقطا، وتمامه:"والمفهوم من قوله: لا أشهد إلا على حقّ يدلّ على أن الأمر للوجوب"، أو نحو ذلك.

(2)

وفي نسخة: "يُحدّثان".

ص: 197

3701 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ أَبَاهُ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ، جَاءَ بِابْنِهِ النُّعْمَانِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا، كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَكُلَّ بَنِيكَ نَحَلْتَ؟» ، قَالَ: لَا، قَالَ: «فَارْجِعْهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن هاشم": هو البعلبكيّ القرشيّ، صدوق، من صغار [10] 3/ 454 من أفراد المصنّف. و"الوليد بن مسلم": هو أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقة، لكنه كثير التدليس، والتسوية [8] 5/ 454. والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيان ذلك قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3702 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ النُّعْمَانِ، وَحُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَاهُ عَنْ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُنْفِذَهُ أَنْفَذْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَكُلَّ بَنِيكَ نَحَلْتَهُ؟» ، قَالَ: لَا، قَالَ: «فَارْدُدْهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن عثمان بن سعيد": هو أبو حفص الحمصيّ، صدوق [10] 21/ 535. و"الوليد": هو ابن مسلم الدمشقيّ.

والحديث تقدّم أنه بهذا الطريق شاذّ، إذا المحفوظ الذي رواه الأثبات أنه من مسند النعمان رضي الله عنه، لا من مسند أبيه بشير بن سعد رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3703 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ أَبَاهُ نَحَلَهُ نُحْلاً، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: أَشْهِدِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا نَحَلْتَ ابْنِي، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَكَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَشْهَدَ لَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه أحمد بن حرب، فإنه من أفرده، وهو صدوق [10] 102/ 135. و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم. و"هشام": هو ابن عروة. والحديث متّفق عليه، وقد سبق بيان ذلك قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3704 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدٍ -يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ- عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ بَشِيرٍ، أَنَّهُ نَحَلَ ابْنَهُ غُلَامًا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم،

ص: 198

فَأَرَادَ أَنْ يُشْهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ ذَا؟»

(1)

، قَالَ: لَا، قَالَ:«فَارْدُدْهُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح. و"محمد ابن معمر": هو القيسيّ البحرانيّ البصريّ، أحد مشايخ الستة الذين رووا عنهم بدون واسطة، وهم تسعة، وتقدّموا غير مرّة.

[تنبيه]: وقع في نسخة: "محمد بن معدان" بدل "محمد بن معمر"، وهو غلطٌ، فإن ذلك شيخ للمصنّف آخر حرّانيّ، وهذا بصريّ، وقد صرّح في "الكبرى" بأنه البصريّ. فتنبّه.

و"أبو عامر": هو عبد الملك بن عمرو العَقَديّ البصريّ. و"سعد بن إبراهيم": هو الزهريّ المدنيّ الثقة الفاضل العابد قاضي المدينة.

والحديث وإن كان فيه انقطاع؛ لأن عروة لم يلق بشير بن سعد، إلا أنه رواه عن النعمان، عنه؛ كما في الرواية التالية، فهو متّصل، وأخرجه مسلم من طريق جرير، عن هشام، عن أبيه، قال: حدثنا النعمان بن بشير

" الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3705 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(2)

عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ بَشِيرًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، نَحَلْتُ النُّعْمَانَ نِحْلَةً، قَالَ:«أَعْطَيْتَ لإِخْوَتِهِ؟» ، قَالَ: لَا، قَالَ:«فَارْدُدْهُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو مروزيّ ثقة [12] 1/ 397.

و"حِبّان" -بكسر الباء الموحّدة-: هو ابن موسى المروزيّ. و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك.

والحديث ظاهره الإرسال، فإن عروة لم يحضر القصّة، لكنه سبق في الرواية التي قبله أنه أخذه عن النعمان بن بشير، فهو متّصل صحيح، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3706 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ، قَالَ: انْطَلَقَ بِهِ أَبُوهُ، يَحْمِلُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: اشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَحَلْتُ النُّعْمَانَ، مِنْ مَالِي كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «كُلَّ بَنِيكَ نَحَلْتَ، مِثْلَ الَّذِي نَحَلْتَ النُّعْمَانَ؟»).

(1)

وفي نسخة: "كلّ ولدك نحلته مثل ذلك؟ ".

(2)

وفي نسخة: "أنا".

ص: 199

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير شيخه:"محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب" الأمويّ البصريّ، واسم أبي الشوارب محمد بن عبد اللَّه بن أبي عثمان بن عبد اللَّه بن خالد بن أسد بن أبي العِيص بن أميّة القرشيّ الأمويّ، أبو عبد اللَّه الأُبُلّيّ البصريّ، صدوق، من كبار [10].

قال أبو عليّ بن خاقان، عن أحمد: ما بلغني عنه إلا خير. وقال صالح بن محمد الأسديّ: شيخ جليلٌ صدوقٌ. وقال النسائيّ: لا بأس به. وقال في "مشيخته": ثقة. وقال مسلمة: بصريّ ثقة. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: شيخ صدوقٌ لا بأس به. مات بالبصرة سنة (244) لعشر بقين من جمادى الآخرة. روى عنه مسلم، والمصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وله عند المصنّف حديثان فقط، هذا الحديث، و 111/ 5375 - حديث أبي طلحة رضي الله عنه مرفوعًا:"لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب، ولا صورة تماثيل".

و"داود": هو ابن أبي هند.

وقوله: "انطلق به أبوه" فيه التفات، إذ الظاهر أن يقول: انطلق بي أبي.

وقوله: "كلّ بنيك نحلت الخ استفهام بتقدير أداته، أي أكلّ بنيك الخ، وحذف جوابه، وقد ذُكر في الروية التي بعده، وهو قوله: "لا، قال: فلا أشهد الخ.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3707 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ النُّعْمَانِ، أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يُشْهِدُ عَلَى نُحْلٍ، نَحَلَهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ: «أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَهُ؟

(1)

» ، قَالَ: لَا، قَالَ:«فَلَا أَشْهَدُ عَلَى شَيْءٍ، أَلَيْسَ يَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً» ، قَالَ: بَلَى، قَالَ:«فَلَا إِذًا» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم

تقدّموا. و"داود": هو ابن أبي هند. و"عامر": هو الشعبيّ.

وقوله: "فلا إذًا" أي فلا تختر واحدًا إذًا بكثرة الإعطاء، فإنه يُخلّ في التسوية في البرّ.

والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

وفي نسخة: "مثل الذي نحلته".

ص: 200

3708 -

(أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الأَنْصَارِيُّ

(1)

، أَنَّ أُمَّهُ ابْنَةَ رَوَاحَةَ، سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لاِبْنِهَا، فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً، ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَوَهَبَهَا لَهُ، فَقَالَتْ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ

(2)

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمَّ هَذَا، ابْنَةَ رَوَاحَةَ، قَاتَلَتْنِي عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«يَا بَشِيرُ، أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟» ، قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَفَكُلُّهُمْ وَهَبْتَ لَهُمْ، مِثْلَ الَّذِي وَهَبْتَ لاِبْنِكَ هَذَا؟» ، قَالَ: لَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه: موسى بن عبد الرحمن بن سعيد بن مسروق الكنديّ المسروقيّ، أبي عيسى الكوفيّ، فقد تفرّد به هو، والترمذيّ، وابن ماجه، وهو ثقة، من كبار [11] 74/ 91.

و"أبو أسامة": هو حماد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ. و"أبو حيّان": هو يحيى بن سعيد بن حيّان التيميّ الكوفيّ.

وقوله: "ابنة رواحة": هي واقدة النعمان بن بشير، عمرة بن رواحة بن ثعلبة الخزرجية، أخت عبد اللَّه بن رواحة الصِحابيّ المشهور. ووقع عند أبي عوانة من طريق عون بن عبد اللَّه أنهما بنت عبد اللَّه بن رواحة، والصحيح الأول، وبذلك ذكرها ابن سعد وغيره، وقالوا: كانت ممن بايع النبيّ صلى الله عليه وسلم من النساء، وفيها يقول قيس بن الخطيم- بفتح المعجمة-:

وَعَمْرَةُ مِنْ سَرَوَاتِ النِّسَاءِ

تنْفَحُ بِالْمِسْكِ أَرْدَانُهَا

(3)

وقوله: "فالتوى بها سنة" أي تثاقل، وأخّر بذلك سنة. وقد تقدّم رواية سنتين، عند ابن حبّان، ووجه الجمع بينهما بأنه كان زيادة على سنة، فتارة جبره، فقال: سنتين، وتارة ألغى الكسر، وقال: سنة.

وقوله: "قاتلتني على الذي وهبت له الخ" أي نازعتني كثيرًا، وألحّت عليّ في المطالبة به.

والحديث أخرجه مسلم، وسبق تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3709 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ،

(1)

سقط من بعض النسخ قوله: "ابن بشير الأنصاريّ".

(2)

وفي نسخة: "حتى يَشَهَدَ".

(3)

راجع "الفتح" 5/ 529 "كتاب الهبة".

ص: 201

عَنِ النُّعْمَانِ، قَالَ: سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي، بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ، فَوَهَبَهَا لِي، فَقَالَتْ: لَا أَرْضَى حَتَّى أُشْهِدَ

(1)

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَأَخَذَ أَبِي بِيَدِي، وَأَنَا غُلَامٌ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمَّ هَذَا، ابْنَةَ رَوَاحَةَ، طَلَبَتْ مِنِّي

(2)

بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ، وَقَدْ أَعْجَبَهَا، أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ:«يَا بَشِيرُ، أَلَكَ ابْنٌ غَيْرُ هَذَا؟» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:«فَوَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ مَا وَهَبْتَ لِهَذَا؟» ، قَالَ: لَا، قَالَ:«فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو داود": هو سليمان بن سيف الحرّانيّ الثقة [11]. و"يعلى": هو ابن عبيد الطنافسيّ الكوفيّ الثقة إلا في روايته عن الثوريّ، ففيه لين من كبار [9].

وقولها: "حتى أُشهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ" بضم حرف المضارعة، أي قالت أمه: لا أرضى بهذه العطيّة إلا أن أُشهد عليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وفي نسخة "حتى تُشهد" بتاء المخاطب.

وقوله: "أخذ بيدي" لا تنافي بينه وبين ما تقدّم من قوله: "فانطلق به أبوه يحمله" لإمكان حمله على أنه حمله على رأسه في بعض الطريق، وأخذ بيده في بعض الطريق.

وقوله: "طلبت مني الخ" ولفظ "الكبرى": "زاولتني" وهو بمعنى المطالبة.

والحديث أخرجه مسلم، وسبق القول فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3710 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ، أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ امْرَأَتِي عَمْرَةَ بِنْتَ رَوَاحَةَ، أَمَرَتْنِي أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهَا نُعْمَانَ بِصَدَقَةٍ، وَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«هَلْ لَكَ بَنُونَ سِوَاهُ؟» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَأَعْطَيْتَهُمْ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَ لِهَذَا؟

(3)

». قَالَ: لَا، قَالَ:«فَلَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن سليمان": هو الرُّهاويّ الثقة الحافظ.

و"محمد بن عُبيد": هو الطنافسيّ الكوفيّ، وهم إخوة خمسة بنو عبيد: محمد، ويعلى المذكور في السند السابق، وعمر، وإدريس، وإبراهيم، وكلهم ثقات، وأبوهم أيضًا ثقة قاله الدارقطنيّ.

[تنبيه]: وقع في بعض النسخ: "محمد بن عبيد اللَّه" بدل "محمد بن عبيد"، وهو

(1)

وفي نسخة: "حتى تُشهِدَ".

(2)

وفي نسخة إسقاط لفظة "منّي". وفي أخرى: "زاولتني"، وفي أخرى":"راودتني"، والمزاولة، والمراودة كلاهما بمعنى المطالبة.

(3)

وفي نسخة: "هذا" بحذف اللام.

ص: 202

غلطٌ. فتنبّه.

و"إسماعيل": هو ابن أبي خالد. و"عامر": هو الشعبيّ.

وقوله: "أخبرت" بالبناء للمجهول، وهذا لا يضرّ بصحّة الحديث، فإنه تقدّم أن الشعبيّ قال: حدثني النعمان بن بشير، فتبيّن أن مخبره هو النعمان.

وقوله: "أن أتصدّق بصدقة الخ" هو النُّحْلُ المتقدّم، سمّاه صدقة تجوّزًا، قاله القرطبيّ.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كذا قال بعضهم: إن تسميته صدقة تجوّز، وليس كما قال، بل هو صدقة حقيقة، فقد ثبت في غير هذا الحديث تسميته صدقة، فقد تقدّم للمصنّف برقم -2535 - في "كتاب الزكاة" حديث أبى هريرة رضي الله عنه بإسناد حسن، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا"، فقال رجل: يا رسول اللَّه عندي دينار، قال:"تصدق به على نفسك"، قال: عندي آخر، قال:"تصدق به على زوجتك"، قال عندي آخر، قال:"تصدق به على ولدك"، قال: عندي آخر: "قال: "تصدق به على خادمك"، قال عندي آخر: "قال: "أنت أبصر". واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح، وقد سبق تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3711 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى ابْنِي بِصَدَقَةٍ، فَاشْهَدْ، فَقَالَ:«هَلْ لَكَ وَلَدٌ غَيْرُهُ؟» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:«أَعْطَيْتَهُمْ كَمَا أَعْطَيْتَهُ» ، قَالَ: لَا، قَالَ:«أَأَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ؟» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن حاتم" هو: ابن نعيم المروزي الثقة من أفراد المصنّف. و"حبان" بالكسر، هو ابن موسى المروزي. و"عبد اللَّه" هو: ابن المبارك الإمام المشهور. و"أبو نعيم": هو الفضل بن دُكين. و"زكريا": هو ابن أبي زائدة. و"عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود": هو الْهُذليّ، ابن أخي عبد اللَّه بن مسعود، وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ووثقه العجليّ، وجماعة، وهو من كبار [2] 66/ 988.

وقوله: "أن رجلًا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم الخ" هو بشير بن سعد، والد النعمان، فقد أخرج الحديث أحمد في "مسنده" ج 4/ ص 276، فقال:

(1)

وفي نسخة: "ثنا"، وفي أخرى:"أنا".

(2)

وفي نسخة: "ثنا"، وفي نسخة:"أنا"

ص: 203

حدثنا وكيع، عن إسماعيل، عن الشعبيّ، وزكريا، عن الشعبيّ، عن عبد اللَّه بن عتبة، وفطرٍ

(1)

، عن أبي الضحى، عن النعمان بن بشير، أن بشيرا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، أراد أن ينحل النعمان نُحْلًا، قال: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: "هل لك من وقد سواه؟ "، قال: نعم، قال:"فكلهم أعطيت ما أعطيته؟ "، قال: لا، قال فطر: فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: هكذا، أي سّوِّ بينهم. وقال زكريا، وإسماعيل:"لا أشهد على جور".

فدلّ أن الرجل المبهم في رواية المصنّف هو بشير بن سعد رضي الله عنه.

وقوله: "أشهد على جور" هكذا نسخ "المجتبى"، وهو على تقدير أداة الاستفهام، أي أأشهد على جور؟، والاستفهام للانكار، ولفظ "الكبرى":"لا أشهد على جور"، وهو واضح.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3712 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ فِطْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: ذَهَبَ بِي أَبِي، إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يُشْهِدُهُ عَلَى شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ، فَقَالَ: «أَلَكَ وَلَدٌ

(2)

غَيْرُهُ؟» ، قَالَ: نَعَمْ، وَصَفَّ بِيَدِهِ بِكَفِّهِ أَجْمَعَ كَذَا، "أَلَا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمْ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الإسناد عندهم رجال الصحيح. و"عبيد اللَّه بن سعيد": هو أبو قُدامة السرخسيّ. و"يحيى": هو ابن سعيد القطّان. و "فطر": هو ابن خليفة المخزوميّ مولاهم، أبو بكر الحنّاط الكوفيّ، صدوق، رمي بالتشيّع [5] 5/ 0882"ومسلم بن صُبيح" بضم الصاد المهملة: هو أبو الضُّحى الكوفيّ العطّار، مشهور بكنيته، ثقة فاضل [4] 96/ 123.

وقوله: "وصفّ بيده بكفّه أجمع كذا" قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: لعله كناية عن إشارة النفي، أو التسوية انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لفظ أحمد في "مسنده": فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم هكذا، أي سَوِّ بينهم"، فيستفاد منه أن الذي صفّ بكفّه هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، والإشارة إلى التسوية، أي أشار إلى التسوية بكفّه، وقال بلسانه: "ألا سوّيت بيهم؟ ".

وقوله "ألا سوّيت الخ""ألا فيه" أداة تحضيض. والحديث صحيح، وسبق تمام البحث فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

قوله: "وفطر" بالجرّ عطفًا على إسماعيل، فوكيع يروي عنهما.

(2)

وفي نسخة: "لك ولد".

ص: 204

3713 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ فِطْرٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ، يَقُولُ -وَهُوَ يَخْطُبُ-: انْطَلَقَ بِي أَبِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يُشْهِدُهُ عَلَى عَطِيَّةٍ أَعْطَانِيهَا، فَقَالَ:«هَلْ لَكَ بَنُونَ سِوَاهُ؟» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:«سَوِّ بَيْنَهُمْ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن حاتم" هو: ابن نعيم المروزي. و"حبّان": بكسر المهملة ابن موسى المروزيّ. و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك. والحديث صحيح، سبق الكلام فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3714 -

(أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ حَاجِبِ بْنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ الْمُهَلَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَخْطُبُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(2)

: «اعْدِلُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمُ، اعْدِلُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يعقوب بن سفيان" بن جُوان الفارسيّ، أبو يوسف ابن أبي معاوية الْفَسَويّ، ثقة حافظ [11].

قال النسائيّ، ومسلمة بن قاسم: لا بأس به. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان ممن جمع، وصنّف، مع الورَع، والنُّسُك، والصلابة في السنّة. وقال الحاكم: كان إمام أهل الحديث بفارس، قرأت بخطّ أبي عمرو المستملي: حدّثنا أبو يوسف يعقوب ابن سفيان في مجلس محمد بن يحيى سنة إحدى وأربعين، قال الحاكم: فأما سماعه، ورحلته، وأفراد حديثه فأكثر من أن يمكن ذكرها.

وقال محمد بن يزيد العطّار: سمعت يعقوب بن سفيان يقول: كنت في رحلتي، فقلّت نفقتي، فكنت أُدمن الكتابة ليلًا، وأقرأ نهارًا، فلما كان ذات ليلة، كنت جالسًا أنسخ في السراج، وكان شتاء، فنزل الماء في عيني، فلم أبصر شيئًا، فبكيت على نفسي؛ لانقطاعي عن بلدي، وعلى ما فاتني من العلم، فغلبتني عيناي، فنِمتُ، فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في النوم، فناداني: يا يعقوب، لم بكيت؟ فقلت: يا رسول اللَّه ذهب بصري، فتحسّرتُ على ما فاتني، فقال لي: ادنُ منّي، فدنوت منه، فأمرّ يده على عيني، كأنه يقرأ عليهما، ثم استيقظت، فأبصرت، فأخذت نُسَخي، وقعدت أكتب.

وقال أبو زرعة الدمشقيّ: قدم علينا رجلان من نُبَلاء الناس: أحدهما، وأرحلهما يعقوب بن سفيان، يَعجز أهل العراق أن يروا مثله رجلًا، وكان يحيى في "التاريخ" ينتخب منه، وكان نبيلاً، جليل القدر، فبينا أنا قاعد في المسجد، إذ جاءني رجلٌ من

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا"، وفي أخرى:"أخبرنا".

(2)

وفي نسخة: "قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول

".

ص: 205

أهل خراسان، فقال لي: أنت أبو زرعة؟ قلت: نعم، فجعل يسألنى عن هذه الدقائق، فقلت. من اين جمعت هذه؟ قال: هذه كتبناها عن يعقوب بن سفيان، عنك. وقال أبو بكر الإسماعيليّ: حدّثنا محمد بن داود بن دينار، حدثنا يعقوب بن سفيان العبد الصالح. وقال أبو الشيخ: حُكي عن أبي محمد بن أبي حاتم، قال: قال لي أبي: ما فاتك من المشايخ، فاجعل بينك وبينهم يعقوب بن سفيان، فإنك لا تجد مثله. وقال أبو عبد الرحمن النَّهاونْديّ: سمعت يعقوب بن سفيان يقول: كتبت عن ألف شيخ وكَسْرٍ، كلهم ثقات. وقال أبو إسحاق بن حمزة، عن أبيه، قال: قال لي يعقوب بن سفيان: قمت في الرحلة ثلاثين سنة. وذكر عبد اللَّه بن جعفر درستويه النحويّ، وهو راويته: إنه أخبره أنه رحل سنة تسع عشرة إلى دمشق، وحمص، وفلسطين. وقال ابن يوسف: قدِم مصر مرّتين، الثانية سنة تسع وعشرين، وكُتب عنه بها. وقال محمد بن إسحاق بن ميمون الْفَسَويّ، عن عبدان بن محمد المروزيّ. رأيت يعقوب بن سفيان في النوم، فقلت: ما فعل اللَّه بك؟ قال غفر لي، وأمرني أُحدّث في السماء، كما كنت أُحدث في الأرض. قال ابن أبي حاتم، وغير واحد: مات سنة (277)، وأرخه ابن حبّان في "الثقات" سنة ثمانين، أو إحدى وثمانين. روى عنه المصنّف، والترمذيّ، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

و"سليمان بن حرب". هو الأزديّ البصريّ القاضي بمكة الثقة الإمام الحافظ [9] 181/ 288.

و"حماد بن زيد": هو أبو إسماعيل البصريّ الثقة الثبت الفقيه، من كبار [8] 3/ 3.

و"حاجب بن المُفَضَّل بن المهلَّب" بن أبي صُفْرة، ثقة، قديم من أصحاب عمر بن عبد العزيز [6].

روى عن أبيه. وعنه حمّاد بن زيد. قال سليمان بن حرب: كان عامل عمر بن عبد العزيز على عُمان. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له المصنّف، وأبو داود، وله عندهما حديث الباب فقط.

[تنبيه]: وقع هنا في نسخ "المجتبى"، و"الكبرى"" جابر بن المفضّل" -بالجيم- بدل "حاجب"، وهو تصحيفٌ فاحش، والصواب "حاجب" -بالحاء المهملة، بعدها ألف، ثم جيم، وآخره باء موحّدة، وهو الذي في النسخة الهنديّة، ولا يوجد في الرواة أصلًا من اسمه "جابر بن المفضل". فتنبّه.

و"أبوه" المفضل بن المهَلّب بن أبي صُفرة الأزديّ، أبو غسّان البصريّ، صدوقٌ، من مشاهير الأمراء [4].

ص: 206

روى عن النعمان بن بشير، وعنه ابنه حاجب، وثابتٌ البنانيّ، وجرير بن حازم. ذكره ابن حبّان في "الثقات". قُتل سنة (102). تفرّد به المصنّف، وأبو داود بحديث الباب فقط.

والحديث صحيح، وقد سبق القول فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌31 - (كِتَابُ الْهِبَةِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الْهِبَةُ" -بكسر الهاء، وتخفيف الباء الموحّدة-: مصدرٌ، يقال: وهبت لزيد مالًا أَهَبُهُ له هِبَةَ: أعطيته بلا عِوّض، يتعدّى إلى الأول باللام، وفي التنزيل العزيز:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]، وَوَهَبًا -بفتح الهاء، وسكونها- ومَوْهِبًا، ومَوْهِبَةً -بكسرهما-. قال ابن الْقُوطيّة، والسِّّّّّّّرَقُسْطِيُّ، والْمُطرِّزِيُّ، وجماعةٌ: ولا يتعدّى إلى الأول بنفسه، فلا يقال: وهبتُك مالًا، والفُقهاء يقولونه، وقد يُجعل له وجهٌ، وهو أن يُضَمَّن وَهَبَ معنى جعل

(1)

، فيتعدّى بنفسه إلى مفعولين، ومن كلامهم: وهبَني اللَّه فِدَاءَك

(2)

: أي جعلني، لكن لم يُسمع في كلام فَصِيح. وزيد مَوهُوبٌ له، والمال موهوب، واتّهبتُ الهبةَ: قَبِلتها، واستوهبتها: سألتها، وتواهبوا: وهب بعضهم بعضًا. قاله الفيّوميّ.

وقال في "الفتح": والهبة: تطلق بالمعنى الأعمّ على أنواع الإبراء، وهو هبة الدين ممن هو عليه، والصدقة، وهي هبة ما يتمحّض به طلب ثواب الآخرة، والهدّية، وهي ما يُكرم به الموهوب له. ومن خضها بالحياة أخرج الوصيّة، وهي تكون أيضًا بالأنواع الثلاثة. وتُطلق الهبة بالمعنى الأخصّ على ما لا يُقصد له بدل، وعليه ينطبق قولُ من

(1)

اعترضه بعضهم بأن "جعل" الناصبة مفعولين لا يمكن تضمين معناها وهب، لأنه يشترط أن يكون مفعولاها مبتدأ وخبرًا في الأصل، والمال لا يُخبر به عن زيد، ولو قال: بتضمين وهب معنى أعطى لكان أقرب إلى الصواب. أهـ من هامش "المصباح المنير".

(2)

وهب هنا بمعنى صيّر، ولا يصحّ أن يقال: وهبت زيدًا مالًا بمعنى صيّرت زيدًا مالًا.

ص: 207

عرّفَ الهبةَ بأنها تمليكٌ بلا عِوض. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

‌1 - (هِبَةُ الْمُشاعِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر ترجمة المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- أنه يرى جواز هبة المشاع، وهو الحقّ، وفيه اختلاف بين العلماء سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.

و"الْمُشَاعُ":-بضمّ الميم-: الشيء الذي ليس بمقسوم، ويقال: فيه أيضًا: شائعٌ، وشَاعٍ، قال في "اللسان": ويقال: نَصِيبُ فلان شائع في جميع هذه الدار، ومُشاعٌ فيها: أي ليس بمقسوم، ولا مَعزول. قال الأزهريّ: إذا كان في جميع الدار، فاتّصل كلّ جزه منه بكلّ جزء منها، قال: وأصل هذا من الناقة، إذا قطَّعَت بولها، قيل: أوزَغَت به إيزاغًا، وإذا أرسلته إرسالاً متّصلاً، قيل: أشاعت. وسَهْمٌ شائعٌ: أي غير مقسوم، وشاعٌ أيضًا، كما يقال: سائرُ اليوم، وسارُهُ. قال ابن برِّيّ: شاهده قول ربيعة بن مَقْرُوم.

لهُ وَهَجٌ مِن التَّقْرِيبِ شَاعُ

أي شائعٌ، ومثله:

خَفَضُوا أَسِنَّتهُمْ فكُلٌّ نَاعُ

أي نائع، وما في هذه الدار سهمٌ شائعٌ، وشَاعٍ، مقلوب عنه، أي مُشتهرٌ منتشرٌ. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3715 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ أَتَتْهُ وَفْدُ هَوَازِنَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا أَصْلٌ، وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ نَزَلَ بِنَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا، مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ،

فَقَالَ: «اخْتَارُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ، أَوْ مِنْ نِسَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ» ، فَقَالُوا: قَدْ خَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَحْسَابِنَا، وَأَمْوَالِنَا، بَلْ نَخْتَارُ نِسَاءَنَا، وَأَبْنَاءَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمَّا مَا كَانَ لِي، وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَهُوَ لَكُمْ، فَإِذَا صَلَّيْتُ الظُّهْرَ، فَقُومُوا، فَقُولُوا: إِنَّا نَسْتَعِينُ بِرَسُولِ اللهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" -أَوِ الْمُسْلِمِينَ-

(1)

"فتح" 5/ 509 "كتاب الهبة".

(2)

"لسان العرب" 8 ص 191.

ص: 208

فِي نِسَائِنَا، وَأَبْنَائِنَا"، فَلَمَّا صَلَّوُا الظُّهْرَ قَامُوا، فَقَالُوا ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«فَمَا كَانَ لِي، وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَهُوَ لَكُمْ» ، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: وَمَا كَانَ لَنَا، فَهُوَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَتِ الأَنْصَارُ: مَا كَانَ لَنَا، فَهُوَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَمَّا أَنَا، وَبَنُو تَمِيمٍ فَلَا، وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا، وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا، فَقَامَتْ بَنُو سُلَيْمٍ، فَقَالُوا: كَذَبْتَ، مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، رُدُّوا عَلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، فَمَنْ تَمَسَّكَ مِنْ هَذَا الْفَىْءِ بِشَيْءٍ، فَلَهُ سِتُّ فَرَائِضَ، مِنْ أَوَّلِ شَيْءٍ يُفِيئُهُ اللَّهُ عز وجل عَلَيْنَا» ، وَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَرَكِبَ النَّاسُ، اقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئَنَا، فَأَلْجَئُوهُ إِلَى شَجَرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَقَالَ:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، فَوَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لَكُمْ شَجَرَ تِهَامَةَ نَعَمًا، قَسَمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ لَمْ تَلْقَوْنِي بَخِيلاً، وَلَا جَبَانًا، وَلَا كَذُوبًا» ، ثُمَّ أَتَى بَعِيرًا، فَأَخَذَ مِنْ سَنَامِهِ وَبَرَةً، بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ:«هَا إِنَّهُ لَيْسَ لِي مِنَ الْفَيْءِ شَيْءٌ، وَلَا هَذِهِ، إِلاَّ خُمُسٌ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ» ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ بِكُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخَذْتُ هَذِهِ لأُصْلِحَ بِهَا بَرْدَعَةَ بَعِيرٍ لِي، فَقَالَ:«أَمَّا مَا كَانَ لِي، وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكَ» ، فَقَالَ: أَوَبَلَغَتْ هَذِهِ؟ ، فَلَا أَرَبَ لِي فِيهَا، فَنَبَذَهَا، وَقَالَ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَدُّوا الْخِيَاطَ، وَالْمِخْيَطَ، فَإِنَّ الْغُلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ، عَارًا وَشَنَارًا، يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عمرو بن يزيد) أبو بُريد -بموحّدة، وراء مصغّرًا- الْجَرْميّ، صدوقٌ [11] 100/ 130. من أفراد المصنّف.

[تنبيه]: وقع في "النسخ المطبوعة من "المجتبى"، و"الكبرى" "عمرو بن زيد"، وهو غلطٌ، والصواب كما في "الهنديّة": عمرو بن يزيد" بالياء التحتيّة. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

2 -

(ابن أبي عديّ) محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقة [9] 122/ 175.

3 -

(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصري، ثقة عابد [8] 181/ 288.

4 -

(محمد بن إسحاق) بن يسار، أو بكر المطّلبيّ مولاهم المدنيّ، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوقٌ، يدلّس، ورمي بالتشيّع، والقدر، من صغار [5] 5/ 480.

5 -

(عمرو بن شعيب) المدني، أو الطائفي، صدوق [5] 105/ 140.

6 -

(أبوه) شعيب بن محمد بن عبد اللَّه، صدوق [3] 105/ 140.

7 -

(جدّه) عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - 89/ 111. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 209

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، ورواية الراوي عن أبيه، عن جدّه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبِ، عَنْ أَبِيهِ) شُعيب بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو (عَنْ جَدَّهِ) عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، إِذْ أَتَتْهُ وَفْدُ هَوازِنَ) الوفد -بفتح، فسكون- قال ابن الأثير: الوفد: هم القوم الذين يجتمعون، ويَرِدون البلادَ، واحدهم وافدٌ، وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارة، واسترفاد، وانتجاع، وغير ذلك، تقول: وَفَدَ يَفِدُ، من باب وَعَدَ، فهو وافدٌ، وأو فدته فوفد، وأوفد على الشيء، فهو مُوفدٌ: إذا أشرف انتهى

(1)

. و"هوازن" -بفتح الهاء، وتخفيف الواو-: اسم قبيلة مشهورة، وكانوا في حُنين، وهو واد وراء عرفة، دون الطائف. وقيل: بينه وبين مكة ليال. وغزوة هوازن تسمّى غزوة حنين، وكانت الغنائم فيها من السبي والأموال أكثر من أن تُحصى.

وفي حديث مروان بن الحكم، والمسور بن مَخرَمة عند البخاريّ: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين. وقد ساق القصّة موسى بن عقبة مطوّلةً، ولفظه:"ثم انصرت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الطائف في شوّال إلى الجِعْرانة، وبها السبي صلى الله عليه وسلم -يعني سبي هوازن، وقدمت عليه وقد هوازن مسلمين، فيهم تسعة نفر من أشرافهم، فأسلموا، وبايعوا، ثم كلّموه، فقالوا: يا رسول اللَّه، إن فيمن أصبتم الأمهات، والأخوات، والعمّات، والخالات، وهنّ مَخَازي الأقوام، فقال: سأطلب لكم، وقد وقعت المقاسم، فأيّ الأمرين أحبّ إليكم، آلسبيُ، أم المال؟، قالوا: خيّرتنا يا رسول اللَّه بين الحسب والمال، فالحسب أحبّ إلينا، ولا نتكلّم في شاة، ولا بعير، فقال: أما الذي لبني هاشم، فهو لكم، وسوف أكلّم لكم المسلمين، فكلَّموهم، وأظهروا إسلامكم، فلما صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الهاجرة، قاموا، فتكلّم خطباؤهم، فأبلغوا، ورغبوا إلى المسلمين في ردّ سبيهم، ثم قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين فرغوا، فشفع لهم، وحضّ المسلمين عليه، وقال: قد رددت الذي لبني هاشم عليهم".

فاستُفيد من هذه القصّة عدد الوفد، وغير ذلك مما لا يخفى. وممن سُمّي من وقد

(1)

"النهاية" 5/ 209.

ص: 210

هوازن زُهير بن صُرد، وأبو مروان، ويقال: أبو ثَرْوان، أوله مثلّثةٌ بدل الميم، ويقال بموحّدة، وقاف، وهو عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الرضاعة. ذكره ابن سعد. قاله في "الفتح". (فَقَالُوا) ذكر ابن إسحاق تعيين الذي خطب لهم لي ذلك، ولفظه: "وقام خطيبهم زُهير بن صُرَد، فقال: يا رسول اللَّه، إن اللواتي لي الحظائر من السبايا خالاتك، وعمّاتك، وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك، وأنت خير مكفول، ثم أنشده الأبيات المشهورة، أولها:

امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمِ

فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ ونَدَّخِرُ

يقول فيها:

امْنُنْ عَلَى نِسْوَةِ قَدُ كُنْتَ ترْضَعُهَا

إِذْ فُوكَ تَمْلؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدَّرَرُ

(1)

(يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا أَصْلٌ) أي أصل من أصول العرب (وَعَشِيرَةٌ) بفتح، فكسر- القبيلة، ولا واحد لها من لفظها، والجمع عَشِيرات، وعشائر، أي نحن أي قبيلة من قبائل العرب، ذات سيادة، وشرف (وَقَدْ نَزَلَ بِنَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ) أي بسبب امتناعهم عن الإسلام، ومحاربتهم المسلمين (فَامْنُنْ عَلَيْنَا) -بضمّ النون الأولى، يقال: منّ عليه بالعتق وغيره مَنَّا، من باب قتل، وامتنّ عليه به أيضًا: أنعم عليه به، والاسم الْمِنَّةُ بالكسر، والجمعُ مِنَنٌ، مثلُ سدرة وسِدَر. قاله الفيّومي (مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ) الظاهر أنها جملة دعائيّة، ويحتمل أن يكون مصدرًا منصوبًا على أنه مفعول مطلقٌ نوعيّ، وهو مضافٌ إلى اسم الجلالة، أي كمنّ اللَّه تعالى عليك، فهو قريب من قوله تعالى:{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} الآية [القصص: 77](فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (اخْتَارُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ) قال السنديّ: لعله زاد "من" للدلالة على أنه يردّ عليهم من أموالهم، أو نسائهم ما يتيسّر ردّه، إذ العادة أنه لا يتيسّر ردّ الكلّ انتهى (أَوْ مِنْ نِسَائِكُمْ) وفي نسخة حذف "من"(وَأَبْنَائِكُمْ، فَقَالُوا: قَدُ خَيَّرتَنَا بَيْنَ أَحْسَابِنَا) جمع حَسَبٍ -بفتحتين-: هو ما يُعدّ من المآثر، وهو مصدرُ حَسُبَ، وزان شَرُف شَرَفًا، وكَرُمَ كَرَمًا. قال ابن السّكّيت: الحسبُ، والكرمُ يكونان في الإنسان، وإن لم يكن لآبائه شَرَفٌ، ورجلٌ حسِيبٌ كريمٌ بنفسه، قال: وأما المجد، والشرفُ، فلا يوصف بهما الشخص، إلا إذا كان فيه، وفي آبائه. ذكره الفيّوميّ (وَأَمْوَالِنَا، بَلْ نَخْتَارُ نِسَاءَنَا، وَأَبْنَاءَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أمَّا مَا كَانَ لِي، وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فهُو لكُمْ) هذا محلّ الترجمة، حيث يدلّ على جواز هبة المشاع، وذلك أن الذي وهبه لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم مما يخصّه، وبني عبد المطّلب شيء مشاع.

(1)

"فتح" 8/ 351 "كتاب المغازي".

ص: 211

وقال السنديّ: كأنه أخذ منه هبة المشاع، لكن الظاهر أن الموهوب ههنا، وإن كان مشاعًا نظرًا إلى ظاهر الكلام بين الواهب وغيره، لكن بالتحقيق نصيب كلّ ممتاز عن نصيب غيره، فلا شيوع، ثم لا شيوع بالنظر إلى الموهوب له، بل الكل هبةٌ لهم على التوزيع، بأن يكون لكلّ زوجته وأولاده، إلا أن يُعتبر صورة الشيوع في الطرفين، أو أحدهما، فليُتأمّل انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: كونه مشاعًا ظاهر، فالأولى في التوجيه ما قدّمته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(فَإذَا صَلَّيْتُ) وفي نسخة: "صليتم"(الظُّهْرَ، فَقُومُوا، فَقُولُوا: إنَّا نَسْتَعِينُ بِرَسُولِ اللَّهِ عَلَى الْمُؤمِنِينَ" -أَوِ الْمُسْلِمِينَ)"أو" فيه للشكّ من الراوي (فِي نِسَائِنَا، وَأَبْنَائِنَا) وفي نسخة: "وأموالنا"(فَلَمَّا صَلوُا الظُّهْرَ قَامُوا، فَقَالُوا ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَمَا كَانَ لِي، وَلِبَنِي عَبدِ الْمُطَّلِبِ، فَهُوَ لَكُمْ"، فَقَالَ: الْمُهَاجِرُونَ: وَمَا كَانَ لَنَا، فَهُوَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) إنما قالوا ذلك إرضاء له صلى الله عليه وسلم، والمراد أنه يردّه عليهم (وَقَالَتِ الأَنْصَارُ: مَا كَانَ لَنَا، فَهُوَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَمَّا أَنَا، وَبَنُو تَمِيمٍ فَلا) أي فلا نردّ ما أخذنا من الغنيمة (وَقَالَ عُيَينَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا، وَقَالَ العَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: أَمَّا أَنا وَبَنُو سُلَيمٍ فَلَا، فَقَامَتْ بَنُو سُلُيمٍ، فَقَالُوا: كَذَبْتَ) ردّ عليه، وإنكار لما قاله معرضًا عن شفاعة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أيُّهَا النَّاسُ، رُدُّوا عَلَيْهِم نِسَاءَهُم وَأَبْنَاءَهُمْ، فَمَنْ تَمَسَّكَ مِنْ هَذَا الفَيْءِ بِشَيْءٍ) أي من أراد أن لا يردّ إلا بعوض، فليردّه، وعلينا أن نعوّضه، ثم بين مقدار ما يعوّضه بقوله (فَلَهُ سِتُّ فَرَائِضَ) جمع فريصْة، وهي البعير المأخوذ في الزكاة، ثم اتسِع فيه حتى سُمي البعير في غير الزكاة. كذا في "النهاية"(مِنْ أَوَّلِ شَيْءٍ يُفِيئهُ) بضمّ أوله، من أفاء (اللَّهُ عز وجل عَلَيْنَا) وفي نسخة:"عليه": قال الخطّابيّ: يريد الخمس الذي جعله اللَّه له من الفيء، وكان الخمس من الفيء لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خاصّةً، يُنفق منه على أهله، ويجعل الباقي في مصالح الدين، وسدّ حاجة المسلمين، وذلك معنى قوله:"إلا الخمس، والخمس مردود عليكم" انتهى.

(وَرَكِبَ) صلى الله عليه وسلم (رَاحِلَتَهُ، وَرَكِبَ النَّاسُ) وفي نسخة: "وركبه الناس": أي أحاطو ابه

راكبين (اقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئَنَا) أي قائلين ذلك، طالبين منه قسم المال (فَألجئوهُ إِلَى شَجَرَة) أي اضطرّوه، يقال: ألجاته إلى كذا، ولَجَّأته بالهمز والتضعيف: اضطررته، وأكرهته (فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ) بكسر الطاء المهملة، من باب تَعِب، وخَطَف، من باب ضرب لغةٌ فيه: أي استلبت الشجرة بسرعة رداء النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (يَا أَيَّها النَّاسُ، رُدُّوا عَلَيَّ

ص: 212

رِدَائي، فَوَاللَّهِ لَوْ أنَّ لَكُمْ شَجَرَ تِهَامَةَ) أي مثل شجر تهامة.

قال الفيّوميّ: تِهَمَ اللبنُ واللحمُ تَهَمًا، من باب تَعِبَ: تغيّر، وأنتن. وتهِمَ الحرّ: اشتدَّ مع رُكُود الريح، ويقال: إن تِهامة -أي بكسر التاء، وتخفيف الهاء- مشتقّة من الأول؛ لأنها انخفضت عن نجد، فتغيّرت ريحها. ويقال: من المعنى الثاني؛ لشدّة حرّها. وهي أرضٌ أوّلها ذات عرق من قبل نجد إلى مكة، وما وراءها بمرحلتين، أو أكثر، ثم تتّصل بالغَوْر، وتأخذ إلى البحر. ويقال: إن تهامة تتّصل بأرض اليمن، وإن مكة من تهامة اليمن. والنسبة إليها تَهَاميّ، وتَهَامٍ أيضًا بالفتح، وهو من تغييرات النسب انتهى. (نَعَمًا) -بفتحتين-: المال الراعي، وهو جمعٌ لا واحد له من لفظه، وأكثر ما يقع على الإبل. قال أبو عبيد: النعَم: الجِمَالُ فقط، ويؤنَّث، ويُذكّر، وجمعه نُعمان -بضم، فسكون- مثلُ حَمَل وحُمْلان، وأنعامْ أيضًا. وقيل: النعم الإبل خاصّةً، والأنعام ذوات الخف، والظِّلْف، وهي الإبل، والبقر، والغنم. وقيل: تُطلق الأنعام على هذه الثلاثة، فإذا انفردت الإبل، فهي نعمٌ، وإذا انفردت البقر، والغنم لم تُسَمَّ نَعَمًا. قاله الفيّوميّ (قَسَمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ لَمْ تَلْقَونِي بَخِيلاً) أي ثم لا أتغيّر عن خُلُقي بكثرة الإعطاء، أو هو

للتراخي في الإخبار (وَلَا جَبَانًا) بفتح الجيم، وتخفيف الباء الموحّدة: أي ضعيف القلب، يقال: جَبُن جُبْنًا، وزان قَرُب قُرْبًا، وجَبَانَةً بالفتح، وفي لغة من باب قتل (وَلَا كَذُوبًا) بفتح الكاف (ثُمَّ أَتَى بَعِيرًا، فَأَخَذَ مِنْ سَنَامِهِ) بفتح السين المهملة: ما ارتفع من ظهر الجمل (وَبَرَةٌ) بفتحتين: أي شعرة (بَيْنَ إِصْبَعَيهِ) بكسر الهمزة، وفتح الباء الموحّدة أفصح لغاتها؛ إذ فيها عشر لغات، تثليث الهمزة، مع ثليث الباء، فهذه تسع، والعاشرة أُصْبُوع، بالضمّ وزان عُصْفُور، والمشهور منها كسر الهمزة، وفتح الباء، وهي التي ارتضاها الفُصَحاء. قاله الفيّوميّ (ثُمَّ يَقُولُ:"هَا) هي حرف تنبيه (إِنَّهُ لَيْسَ بِي مِنَ الْفَيءِ شَيْءٌ، وَلَا هَذِهِ) مشيرًا إلى الوبرة. ولفظ أبي داود: "فأخذ وبرة من سنامه، ثم قال: أيها الناس، إنه ليس لي من هذا الفيء شيء، ولا هذا، ورفع إصبعيه" (إِلَّا خُمُسٌ) ضُبط بالرفع والنصب، فالرفع على البدل، والنصب على الاستثناء. قاله في "عون المعبود"

(1)

(وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ") أي مصروف في مصالحكم، من السلاح، والخيل، وغيرهما (فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُل بِكُبَّةٍ) بضمّ، فتشديد الموحّدة: شعرٌ ملفوفٌ بعضه على بعض (مِنْ شَعْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذْتُ هَذِهِ لِأُصْلِحَ بَها بَرْدَعَةَ بَعِيرٍ لِي) وفي نسخة: "برذعة"، و"البردعة" -بفتح الباء الموحّدة، وسكون الراء، وفتح الدال

(1)

"عون المعبود" 7/ 360.

ص: 213

المهملة، أو الذال المعجمة، لغتان، وفي "القاموس": إهمال الدال أكثر، وجمعه بَرادِع: هي الْحِلْس، وهي بالكسر: كساء يُلقَى تحت الرحل على ظهر البعير. قال الفيّوميّ: هذا هو الأصل، وفي عرف زماننا هي للحمار ما يُرْكَب عليه بمنزلة السّرج للفرس انتهى. (فَقَالَ:(أمَّا مَا كَانَ لِي) أي من الكُبّة (وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُو لَكَ) أي أما ما كان نصيبي ونصيبهم، فاحللناه لك، وأما ما بقي من أنصباء الغانمين، فاستحلاله ينبغي أن يكون منهم (فَقَالَ) أي الرجل (أَوَبَلَغَتْ هَذِهِ؟) أي هل بلغت هذه الكبْة هذه المرتبة من العزّة. وفي نسخة:"إذ بلغت"، وفي رواية أبي داود: "أما إذا بلغت ما أرى

" (فَلَا أَرَبَ) بفتحتين: أي لا حاجة (لِي فِيهَا، فَنَبَذَهَا) أي طرحها، وردّها في جملة الغنيمة (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم وفي نسخة: "فقال" (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَدُّوا الْخِيَاطَ) وفي نسخة: "رُدُّوا الخَيْط" (وَالْمِخيَطَ) والخِيَاطُ، والْمِخيَطُ بالكسر: الإبرة، فيُحمل أحدهما على الكبيرة، فيندفع التكرار.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا قال السنديّ، والأولى من هذا ما قاله في "اللسان": أراد بالخياط هنا الْخيط، وبالمخيط ما يُخاط به.

والحاصل أن الخياط بالكسر يُطلق على الإبْرَةِ، كما في قوله تعالى:{حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] أي في ثقب الإبرة. ويطلق أيضًا على الخيط، وهو المراد هنا؛ دفعًا للتكرار. واللَّه تعالى أعلم.

(فَإنَّ الْغُلُولَ) -بضمّ الغين المعجمة-: الخيانة في المغنم، يقال: غَلّ غُلُولاً، من باب قعد، وأغلّ بالألف: خان في المغنم وغيره. وقال ابن السكّيت: لم نسمع في المغنم إلا غَلّ ثُلاثيًّا، وهو متعدّ في الأصل، لكن أُميت مفعوله، فلم يُنطق به. قاله الفيّومي (يَكُونُ عَلَى أَهْله، عَارًا وَشَنَارًا يَومَ الْقِيَامَةِ) قال في "القاموس": العارُ: كلُّ شيء لزم به عيب. قال: والشَّنار -بالفتح، وتخفيف النون-: أقبح العيب، والعارُ. انتهى. وفي "اللسان":

يقال: عاز وشَنَارٌ، وقلّما يُفردونه من عار، قال أبو ذُؤيب [من الطويل]:

فَإنِّي خَلِيقٌ أَنْ أُوَدعَ عَهْدَهَا

بِخَيْرٍ وَلَمْ يُرفَعْ لَدَينَا شَنَارُهَا

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

ص: 214

أخرجه هنا-1/ 3715 وفي "كتاب قسم الفيء" 1/ 4166 - وفي "الكبرى" 1/

6515 وأخرجه (د) في "الجهاد"2694. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعيّة هبة المشاع، وفيه اختلاف بين العلماء، سنحققه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها). حِلّ الغنائم، وهو من خصوصيّات هذه الأمة؛ لحديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسا، لم يُعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نُصِرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأُحلت لي الغنائم، وكان النبيّ يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة". متّفقٌ عليه، وتقدّم للمصنّف برقم -432 - (ومنها): أن للإمام أن يشفع لبعض الرعية إلى بعضهم. (ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، من حسن الخلق، وتحمّل الأذى من السفهاء، وعدم مؤاخذتهم بما يصدر منهم مما يُخلّ بواجب احترامه، فكان تمسكه بما أمره تعالى به في قوله عز وجل:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] أتمّ تمسّك صلى الله عليه وسلم.

(ومنها): أنه يجوز للإمام أن يمنّ على الأسارى إذا رأى ذلك مصلحة، قال الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى-: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبيّ- صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن للإمام أن يمنّ على من شاء من الأسارى، في قتل من شاء منهم، ويفدي من شاء. واختار بعض أهل العلم القتل على الفداء. وقال الأوزاعيّ: بلغني أن هذه الآية منسوخة يعني قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [سورة محمد صلى الله عليه وسلم: 4] نسخها قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191]، وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: إذا أسر الأسير يقتل، أو يفادى أحبّ إليك؟، قال: إن قدر أن يفادى، فليس به بأس، وإن قتل، مما أعلم به بأسًا. قال إسحاق بن إبراهيم: الإثخان أحبّ إليّ إلا أن يكون معروفًا، فأطمع به الكثير انتهى.

وقال الخطّابيّ: ما حاصله: إن الإمام مخيّر في الأسارى البالغين، إن شاء من عليهم، وأطلقهم من غير فداء، وإن شاء فاداهم بمال معلوم، وإن شاء قتلهم، وأيّ ذلك كان أصلح، ومن أمر الدين، وإعزاز الإسلام أوقع. وإلى هذا ذهب الشافعيّ، وأحمد، وهو قول الأوزاعيّ، وسفيان الثوريّ. وقال أصحاب الرأي: إن شاء قتلهم، وإن شاء فاداهم، وإن شاء استرقّهم، ولا يمنّ عليهم، فيُطلقهم بغير عوض. وزعم بعضهم أن المنّ كان خاصًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، دون غيره، قال: والتخصيص في أحكام الشريعة

ص: 215

لا يكون إلا بدّليل، والنبيّ صلى الله عليه وسلم إذا حكم بحكم في زمانه، كان ذلك سنّة، وشريعة في سائر الأزمان، وقد قال سبحانه وتعالى:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} الآية [محمد صلى الله عليه وسلم: 4]، وهذا خطاب لجماعة الأمّة كلّهم، ليس فيه تخصيص للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما كان فعله امتثالاً للآية.

وأما الذين اعتلّوا به من تقوية الكفر، فإن الإمام إذا رأى أن يعطى كافرًا عطيّة، يستمليه بها إلى الإسلام، كان ذلك جائزًا، وإن كان في ذلك تقوية لهم، فكذلك هذا، وقد أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً من الكفار غنمًا بين جبلين. انتهى

(1)

.

(ومنها): أنه استدلّ بعضهم بقوله صلى الله عليه وسلم: (والخمس مردود عليكم" على أن سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ساقطٌ بعد موته، ومردود على شركائه المذكورين معه في الآية، وكذلك سهم ذوي القربى. وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي. وقال بعضهم: هو للخليفة بعده، يَصرفه فيما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصرفه فيه أيام حياته. وقال الشافعيّ: هو موضوع في كلّ أمر حُصِّنَ به الإسلام وأهله، من سدّ ثغر، واعداد كُراع، وسُلاح، وما دعا إلى مصلحة فيه. قاله الخطّابيّ.

(ومنها): أن قوله: "أدّوا الخياط والمخياط" دليل على أن قليل ما يُغنم وكثيره مقسوم بين من شهد الوقعة، ليس لأحد أن يستبدّ بشيء منه، وإن قلّ، إلا الطعام الذي قد وردت فيه الرخصة، وهذا قول الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-، وقال مالك -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: إذا كان شيئًا خفيفًا، فلا أرى به بأسًا أن يرتفق به آخذُهُ دون أصحابه. قاله

الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

. (ومنها): شدّة أمر الغلول، وإن كان في الشيء التافه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم هبة المشاع:

قال العلاّمة ابن قُدَامة -رحمه اللَّه تعالى-: تصحّ هبة المشاع، وبه قال مالكٌ، والشافعيّ، وأحمد، قال الشافعيّ: وسواء في ذلك ما أمكن قسمته، أو لم يمكن. وقال أصحاب الرأي: لا تصحّ هبة المشاع الذي يمكن قسمته؛ لأن القبض شرط في الهبة، ووجوب القسمة يمنع صحّة القبض وتمامه، فإن كان مما لا يمكن قسمته، صحّت هبته؛ لعدم ذلك فيه، وإن وهب اثنان شيئًا مما ينقسم لم يجز عند أبي حنيفة، وجاز عند صاحبيه، وإن وهب اثنان اثنين شيئًا مما ينقسم، لم يصحّ في قياس قولهم؛ لأن كلّ واحد من المتَّهبين قد وُهب له جزء مشاع.

(1)

"معالم السنن" 4/ 25.

(2)

"معالم السنن" 4/ 28.

ص: 216

واحتجّ الأولون بحديث الباب، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"ما كان لي، ولبني عبد المطّلب، فهو لكم" هبة مُشاع، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: للرجل الذي جاء بكبّة شعر: "ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لك" أيضًا يدلّ على جواز هبة المشاع. وبما أخرجه أحمد في "مسنده" 3/ 418، والنسائيّ برقم 2818 - واللفظ له بإسناد صحيح، عن عمير بن سلمة الضمري، أنه أخبره عن البَهْزي، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، خرج يريد مكة، وهو محرم، حتى إذا كانوا بالرَّوحاء إذا حمار وحش عَقِير، فذُكر ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"دَعُوه، فإنه يوشك أن يأتي صاحبه"، فجاء البَهْزي، وهو صاحبه، إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول اللَّه، صلى اللَّه عليك وسلم، شأنَكُم بهذا الحمار، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فقسمه بين الرِّفاق

الحديث.

ولأنه يجوز بيعه، فجازت هبته كالذي لا ينقسم؛ ولأنه مشاعٌ، فأشبه ما لا ينقسم. وقولهم: إن وجوب القسمة يمنع صحّة القبض: لا يصحّ، فإنه لم يمنع صحته في البيع، فكذا هنا. انتهى كلام ابن قُدامة بتصرّف

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذُكر أن الراجح هو المذهب الأول، وهو جواز هبة المشاع؛ لقوّة دليله، والمانعون لم يأتوا بحجة مقنعة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌2 - (رُجُوعُ الْوَالِدِ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَذِكْرِ اخْتِلَافِ النَّاقِلِينَ لِلْخَبَرِ فِي ذَلِك)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف الذي أشار إليه أن عامرًا الأحول رواه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه. وخالفه حسين المعلّم فرواه عن عمرو بن شعيب، عن طاوس، عن ابن عمر، وابن عبّاس رضي الله عنهم.

(1)

"المغني" 247 - 248.

ص: 217

ورواه وُهيب بن خالد، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، موصولاً، وخالفه الحسن بن مسلم، فرواه عن طاوس، مرسلاً. ولكن هذه الاختلافات لا تضرّ بصحة الحديث، ولذا اتفق الشيخان على إخراجه في "صحيحيهما"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3716 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ عَامِرٍ الأَحْوَلِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يَرْجِعُ أَحَدٌ فِي هِبَتِهِ، إِلاَّ وَالِدٌ مِنْ وَلَدِهِ، وَالْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ، كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ»).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أحمد بن حفص) أبو عليّ بن أبي عمرو السلميّ النيسابوريّ، صدوق [11] 7/ 409.

2 -

(أبوه) حفص بن عبد اللَّه بن راشد السلميّ، أبو عمرو النيسابوريّ قاضيها، صدوق [9] 7/ 409.

3 -

(إبراهيم) بن طهمان الخراسانيّ، ثم المكيّ، ثقة، يُغْرب [7] 7/ 409.

4 -

(سعيد بن أبي عَروبة) مِهران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقة حافظ، اختلط أخيرًا [6] 34/ 38.

5 -

(عامر الأحول) ابن عبد الواحد البصريّ، صدوقٌ يُخطىء [6] 4/ 630. والباقون تقدّموا في السند الماضي. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(ومنها): أنه من ثمانيات المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها)؛ أن رجاله كلهم ثقات. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، ورواية الراوي عن أبيه، عن جدّه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب بن محمد (عَنْ جدِّهِ) عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يَرْجِعُ أَحَدٌ فِي هِبَتِهِ) قال السنديّ: أي لا ينبغي له الرجوع، وهذا لا ينفي صحّة الرجوع، إذا رجع صار الموهوب ملكًا له، وإن كان الفعل غير لائق انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قاله السنديّ غير صحيح، بل الحديث ظِاهر في تحريم الرجوع في الهبة، فلا يؤوّل بما يصرفه عن ظاهره؛ لمخالفته للمذهب

ص: 218

الحنفيّ. فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.

(إِلَّا وَالِدْ مِنْ وَلَدِهِ) أي فإنه يجوز له أن يرجع، وهذا نصّ صريح في الردّ على القائلين بعدم جواز رجوع الوالد فيما وهبه لولده، فقول السنديّ: من لا يرى له الرجوع يحمله على أنه يجوز للوالد أن يأخذه عنه، ويصرفه في نفقته، عند الحاجة، كسائر أمواله أنْ غير صحيح، أيضًا، فإنه نصر لمذهب الحنفيّة، وتأويل للحديث الصحيح بتأويل غير مقبول. واللَّه تعالى أعلم.

(وَالْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ) أي العائد في هبته إلى الموهوب، وهو كقوله تعالى:{أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88](كَالعَائِدِ فِي قَيئِهِ) أي كالكلب الذي يأكل حتى يشبع، ثم يقيء، فيعود لأكل قيئه.

قال السنديّ: قيل: هو تحريم للرجوع. وقيل: تقبيحٌ، وتشنيع له؛ لأنه شبّه بكلب يعود في قيئه، وعود الكلب في قيئه لا يوصف بحرمة. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بل الأرجح أنه للتحريم، كما سيأتي تحقيقه، في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما هذا صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، أخرجه هنا-2/ 3716 - وفي "الكبرى" 2/ 6516. وأخرجه (أحمد) في "مسند المكثرين" 6666. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في فوئده

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز رجوع الوالد فيما يُعطي لولده، وفيه اختلاف بين العلماء، سنحقّقه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): تحريم الرجوع في الهبة، وفيه أيضًا اختلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه أيضًا. (ومنها): جواز التمثيل بالشيء المستقبح؛ مبالغة في التنفير عن المنهيّ عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم رجوع الوالد فيما أعطى ولده: ذهب مالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وإسحاق، وأبي ثور، وهو ظاهر مذهب أحمد إلى أن للوالد الرجوع فيما وهب لولده.

وذهب أصحاب الرأي، والثوريّ، وهي رواية عن أحمد إلى أنه ليس له الرجوع

ص: 219

فيها؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "العائد في هبته، كالعائد في قيئه"، متّفقٌ عليه. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"من وهب هبةً، يرى أنه أراد بها صلة رحم، أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة أراد بها الثواب، فهو على هبته، يرجع فيها إذا لم يُرْضَ منها. رواه مالك في "الموطّإ". ولأنها هبةٌ يحصل بها الأجر من اللَّه تعالى، فلم يجز الرجوع فيها، كصدقة التطوّع.

واحتجّ الأولون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، رضي الله عنه المذكور في الباب، فإنه صريح في عدم الجواز، وبقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لبشير بن سعد رضي الله عنه:"فاردده"، وفي رواية:"فارجعه"، فأمره بالرجوع في هبته، وأقلّ أحوال الأمر الجواز، وقد امتثل بشير بن سعد ذلك، فرجع في هبته لولده، ألا ترى أن النعمان قال في الحديث: فرجع أبي، فردّ تلك الصدقة

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الأولون هو الحقّ، وحاصله جواز رجوع الوالد فيما وهب لولده؛ لصحة حديث الباب، وهو صريح في جواز ذلك للوالد، ففي لفظ:"لا يرجع"، وفي لفظ:"لا يحلّ لرجل الخ"، فتأويل مثل هذا النصّ الصريح في التحريم بأنه للكراهة، مما لا يُلتفت إليه، فتبصّر، ولا تتحيّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الرجوع في الهبة:

ذهب الشافعيّ، وأبو ثور، وأحمد إلى أنه لا يحلّ الرجوع لمن وهب شيئًا، إلا الوالد، كما تقدّم في المسألة السابقة، واحتجّوا بحديث الباب.

وذهب النخعيّ، والثوريّ، وإسحاق، وأصحاب الرأي إلى أن من وهب لغير ذي رحم له الرجوع ما لم يُثَب عليها، وروي ذلك عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، واحتجّوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"الرجل أحقّ بهبته ما لم يُثب منها". رواه ابن ماجه

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي ما ذهب إليه الأولون؛ د صحّة حديث الباب الظاهر في تحريم الرجوع في الهبة، إلا للوالد، وأما حديث ابن ماجه، فضعيف؛ لأن في سنده إبراهيم بن إسماعيل بن مجمّع، وهو ضعيف، بل قال بعضهم: متروك الحديث، فلا يصلح لمعارضة حديث الباب الصحيح، فتبصّر، ولا تتحيّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3717 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ

(1)

راجع "المغني" 8/ 277 - 278.

(2)

راجع "المغني" لابن قُدامة 8/ 277 - 278.

ص: 220

عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي طَاوُسٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، يَرْفَعَانِ الْحَدِيثَ، إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُعْطِي عَطِيَّةً، ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا، إِلاَّ الْوَالِدَ، فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي عَطِيَّةً، ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا، كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَكَلَ، حَتَّى إِذَا شَبِعَ قَاءَ، ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "ابن أبي عديّ": هو محمد بن إبراهيم. و"حسين": هو ابن ذكوان المعلّم. و"ابن عمر": هو عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

والحديث صحيح، أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فقد أخرجه المصنّف هنا - 2/ 3717 و 4/ 3730 - وفي "الكبرى" 2/ 6517 و 4/ 6533. و (د) في البيوع" 3539 (ت) في "البيوع" 1299 و "الولاء والهبة" 2131 و 2132 (ق) في "الأحكام" 2377 و 2875.

وأما حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما فقد أخرجه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا - من 3717 إلى 3732 - وفي "الكبرى" من 6517 - إلى 6536. وأخرجه (خ) في "الهبة" 2589 (م) في "الهبات" 1632 و (أحمد) في "مسند بني هاشم" 2525 و 2641 و 3006 و 3136 و 1367 و 3211. وأما شرح الحديث، وبيان ما يتعلّق به من المسائل، فقد استوفيتهما في الذي قبله، وللَّه الحمد والمنّة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3718 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَنْجِيُّ الْمَقْدِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ -وَهُوَ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ- عَنْ وُهَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -. "محمد بن عبد اللَّه الْخَلَنْجيّ المقدسيّ": هو أبو الحسن الْخُزاعيّ، صدوق [10] من أفراد المصنّف. و"أبو سعيد مولى بني هاشم": هو عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عُبيد البصريّ، نزيل مكة، لقبه جَرْدَقَة -بفتح الجيم، والدال، بينهما راء ساكنة، ثم قاف- صدوقٌ ربّما أخطأ [9] 43/ 1724. و"وُهيب": وابن خالد الباهليّ البصريّ الثقة الثبت [7] 21/ 427.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى""وهب" مكبّرًا، وهو غلطٌ، والصحيح "وُهيب" مصغّرًا، وهو الذي في "الكبرى". فتنبّه.

و"ابن طاوس": هو عبد اللَّه. والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق القول فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3719 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا

ص: 221

يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَهَبَ هِبَةً، ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا، إِلاَّ مِنْ وَلَدِهِ» ، قَالَ طَاوُسٌ: كُنْتُ أَسْمَعُ، وَأَنَا صَغِيرٌ:"عَائِدٌ فِي قَيْئِهِ"، فَلَمْ نَدْرِ أَنَّهُ ضَرَبَ لَهُ مَثَلاً، قَالَ:«فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ، ثُمَّ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» ).

قال: الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن حاتم": هو المروزيّ، ثقة [12]. و"حِبّان" بالكسر: وابن موسى بن سوّار المروزيّ [10]. و"عبد اللَّه": وابن المبارك الإمام الحجة الثبت [8] وكلهم تقدّموا قريبًا. و"إبراهيم بن نافع": هو المخزوميّ المكيّ الثقة الحافظ [7] 115/ 1017. و"الحسن بن مسلم ابن يَنّاق: هو المكيّ الثقة [5] 61/ 2547.

وقوله: "قال طاوس: كنت أسمع الخ" سيأتي -4/ 3731 - بلفظ: "قال طاوس: كنت أسمع الصبيان، يقولون: يا عائدا في قيئه، ولم أشعُر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ضرب ذلك مثلا، حتى بلغنا، أنه كان يقول: "مثل الذي يهب الهبة، ثم يعود فيها -وذكر كلمة معناها- "كمثل الكلب يأكل قيئه".

والحديث تفرّد به المصنّف بهذا السياق، وهو مرسل، ولكنه تقدّم، ويأتي بالأسانيد المتصلة، فهو صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌3 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ لِخَبَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ رضي الله عنهما فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "لخبر عبد اللَّه" اللام بمعنى "في".

ووجه الاختلاف أن سعيد بن المسيّب رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: "مثل الذي يرجع الخ"، ورواه عكرمة مولى ابن عباسْ عنه، بلفظ:"ليس لنا مثل السَّوْء الخ"، ثم هذا الاختلاف لا يضرّ بصحة الحديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3720 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الَّذِي يَرْجِعُ فِي صَدَقَتِهِ، كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي

ص: 222

قَيْئِهِ، فَيَأْكُلُهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمود بن خالد": هو السلميّ، أبو عدي الدمشقيّ، ثقة، من صغار [10] 45/ 595. و"عُمر": وابن عبد الواحد بن قيس السلميّ، أبو حفص الدمشقيّ، ثقة [9] 45/ 56. و"محمد بن عليّ بن الحسين": هو الهاشمي أبو جعفر المدنيّ المعروف بالباقر الحجة الثقة الثبت [4] 123/ 182.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق القول فيه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه الموجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3721 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَرْبٌ -وَهُوَ ابْنُ شَدَّادٍ- قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى -هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ- قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو، وَهُوَ الأَوْزَاعِيُّ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَدَّثَهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَثَلُ الَّذِي يَتَصَدَّقُ بِالصَّدَقَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا، كَمَثَلِ الْكَلْبِ، قَاءَ ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ، فَأَكَلَهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجَال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"إسحاق بن منصور": هو الكوسج. و"عبد الصمد": وابن عبد الوارث. و"محمد بن عليّ": هو المذكور في السند السابق.

والحديث متّفقٌ عليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3722 -

(أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عِمْرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -وَهُوَ ابْنُ بَكَّارِ بْنِ بِلَالٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ حَدَّثَهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَثَلُ الَّذِي يَرْجِعُ فِي صَدَقَتِهِ، كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» ، قَالَ الأَوْزَاعِيُّ: سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الهيثم بن مروان بن الهيثم بن عمران" بن عبد اللَّه بن جَرْوَل العنسي -بمهملتين، بينهما نون ساكنة- أبو الحكم الدمشقيّ، مقبول [11].

روى عنه النسائيّ، وأبو داود في غير "السنن"، وجماعة. قال النسائيّ: لا بأس به. تفرّد به المصنّف، وله عنه ثلاثة أحاديث: هذا، وحديث عمارة بن ثابت -81/ 4673 - :"فجعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة شهادة رجلين"، وحديث عمرو بن حزم 46/ 4881 - :"كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن".

و"محمد بن بكّار بن بلال" العامليّ، أبو عبد اللَّه الدمشقيّ القاضي، صدوق [9].

ص: 223

ذكره أبو زرعة الدمشقيّ في أهل الفتوى بدمشق، وقد شهد جنازته منصرفه من الحجّ سنة (216). وقال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبي سنة (215) وسئل عنه، فقال: صدوق. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (216) وكذا قال ابنه، وزاد: كان مولده سنة (142). روى له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله عند المصنّف في هذا الكتاب أربعة أحاديث: الثلاثة المذكورة آنفًا في ترجمة الهيثم، والرابع حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما 1/ 3752 - :"إن العمرى جائزة".

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق القول فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3723 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ، كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3724 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ، كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"أبو الأشعث": هو أحمد بن المِقدَام العجليّ البصريّ، صدوق [10] 138/ 319. و"خالد": هو ابن الحارث الْهُجَيميّ البصريّ.

وقوله: "عن شعبة" هكذا نسخ "المجتبى"، والذي في "الكبرى""عن سعيد"، وفي "تحفة الأشراف" 4/ 463 - : ما نصّه: "عن خالد بن الحارث، عن سعيد، وفي نسخة عن شعبة. انتهى. والظاهر أن النسختين صحيحتان، فالحديث مرويّ عن كليهما، ولذا أخرجه مسلم في "صحيحه" بالطريقين. وسعيد وابن أبي عروبة. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع،

والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3725 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ -وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ- عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ، كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ»).

ص: 224

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح.

و"أبو خالد": هو الأحمر، سليمان بن حيان. و"أيوب": هو السختيانيّ.

وقوله: "ليس لنا مثل السوء" بفتح السين المهملة: أي لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة يشابهنا فيها أخسّ الحيوانات في أخسّ أحوالها، قال اللَّه تعالى:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، ولعلّ هذا أبلغ في الزجر عن ذلك، وأدلّ على التحريم مما قال مثلاً: لا تعودوا في الهبة، وإلى القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تُقبض ذهب جمهور العلماء، إلا هبة الوالد لولده، جمعًا بين هذا الحديث، وحديث النعمان الماضي. وقال الطحاويّ: وقوله: "لا يحلّ" لا يستلزم التحريم، وهو كقوله:"لا تحلّ الصدقة لغنيّ"، وإنما معناه لا تحلّ له من حيث تحلّ لغيره من ذوي الحاجة، وأراد بذلك التغليظ في الكراهة. قال: وقوله: "كالعائد في قيئه"، وإن اقتضى التحريم؛ لكون القيء حرامًا، لكن الزيادة في الرواية الأخرى، وهي قوله:"كالكلب" تدلّ على عدم التحريم؛ لأن الكلب غير متعبّد، فالقيء ليس حرامًا عليه، والمراد التنزيه عن فعل يشبه فعل الكلب.

وتُعُقّب باستبعاد ما تأوّله، ومنافرة سياق الأحاديث له، وبأن عرف الشرع في مثل هذه الأشياء المبالغة في الزجر، كقوله:"من لعب بالنردشير، فكأنما غمس يده في لحم خنزير". قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن تأويل الطحاويّ بما سبق، مناصرة لمذهبه من التعسّفات التي لا يقبلها المنصف، فالحقُّ ما عليه الجمهور من تحريم الرجوع في الهبة إلا الوالد لولده؛ لوضوح أدلّته، فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّر بالاعتساف.

والحديث أخرجه البخاريّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3726 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ»).

قَالَ: الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وهو مسلسلٌ بالبصريين، إلا شيخه، فنيسابوريّ. و"إسماعيل": وابن عليّة.

والحديث أخرجه البخاريّ، كما سبق القول فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"فتح" 5/ 557. "كتاب الهبة" رقم 2622.

ص: 225

3715 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الرَّاجِعُ فِي هِبَتِهِ، كَالْكَلْبِ فِي قَيْئِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "حِبان": وابن موسى. و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك". و"خالد": هو ابن مهران الحذاء البصريّ.

والحديث تفرّد به المصنّف بهذا السند، وإلا فقد أخرجه البخاريّ، كما سبق بيانه قبل حديث. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌4 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى طَاوُسٍ فِي الرَّاجِعِ فِي هِبَتِهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -. وجه الاختلاف المذكور أن عبد اللَّه بن طاوس رواه عن أبيه، عن ابن عبّاس - رضي اللَّه تعالى عنهما -، موصولاً، وتابعه أبو الزبير، وعمرو بن شُعيب، وخالفهم الحسن بن مسلم، فرواه عن طاوس، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مرسلاً، ورواه حنظلة بن أبي سفيان، عن طاوس، عن بعض من أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأبهمه. لكن هذا الاختلاف لا يضرّ بصحة الحديث، فالحكم لمن وصل، ولذلك أخرج الحديث الشيخان في "صحيحيهما". واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3728 -

(أَخْبَرَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ

(1)

، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ

(2)

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الَإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو أبو عبد الرحمن السجزيّ، نزيل دمشق المعروف بخيّاط السنّة، ثقة حافظ [12] 189/ 1161. و"إسحاقُ": وابن راهويه. و"المخزوميّ": هو المغيرة

(1)

ووقع في نسخة: "أخبرنا وهب، وهو غلطٌ، والصواب "وُهيب" مصغّرًا.

(2)

وفي نسخة: "عن".

ص: 226

ابن سلمة أبو هشام البصريّ الثقة الثبت، من صغار [9] 28/ 815.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3729 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ، كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن حرب": هو الطائيّ الموصليّ، صدوقٌ [10] 102/ 135 من أفراد المصنّف. و "أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير الكوفيّ. و"حجاج": وابن أرطاة النخعيّ، أبو أرطاة الكوفيّ، القاضي، أحد الفقهاء، صدوق، كثير الخطأ، والتدليس [7] 13/ 2127.

و"أبو الزبير": هو محمد بن مسلم بن تَدرُس المكيّ، صدوق، يدلّس [4] 31/ 35.

والحديث بهذا الطريق من أفراد المصنّف، وهو صحيح بما تقدّم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3730 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ،

قَالَ: حَدَّثَنَا بِهِ حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ لأَحَدٍ، أَنْ يُعْطِىَ الْعَطِيَّةَ، فَيَرْجِعَ فِيهَا، إِلاَّ الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ، فَيَرْجِعُ فِيهَا، كَالْكَلْبِ، يَأْكُلُ حَتَّى إِذَا شَبِعَ قَاءَ، ثُمَّ عَادَ، فَرَجَعَ

(1)

فِي قَيْئِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلاَّمٍ": هو البغداديّ، ثم الطرسوسيّ، أبو القاسم، مولى بني هاشم، لا بأس به [11] 172/ 141 امن أفراد المصنّف، وأبي داود، و"إسحاق الأزرق": وابن يوسف الواسطي، ثقة [9].

و"حسين المُعَلِّمُ": وابن ذكوان البصريّ، ثقة ربما وهم [6].

والحديث صحيحٌ، وقد سبق قبل باب -2/ 3717 - فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3731 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا يَحِلُّ لأَحَدٍ، يَهَبُ هِبَةً، ثُمَّ يَعُودُ فِيهَا، إِلاَّ الْوَالِدَ»).

(1)

وفي نسخة: "فيرجع".

ص: 227

قَالَ طَاوُسٌ: كُنْتُ أَسْمَعُ الصِّبْيَانَ، يَقُولُونَ: يَا عَائِدًا فِي قَيْئِهِ، وَلَمْ أَشْعُرْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ضَرَبَ ذَلِكَ مَثَلاً، حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:«مَثَلُ الَّذِي يَهَبُ الْهِبَةَ، ثُمَّ يَعُودُ فِيهَا -وَذَكَرَ كَلِمَةً، مَعْنَاهَا- كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ قَيْئَهُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد الحميد بن محمد" بن الْمُستام، أبوعمر الحرّانيّ، إمام مسجدها، ثقة [11] 22/ 932 من أفراد المصنّف. و"مخلد": وابن يزيد القرشيّ الحرّانيّ، صدوق له أوهام، من كبار [9] 141/ 222.

والحديث مرسل بهذا السند، وقد تقدّم تمام البحث فيه قبل باب في 2/ 3719.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3732 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ حَنْظَلَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا، يَقُولُ: (أَخْبَرَنَا بَعْضُ مَنْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ الَّذِي يَهَبُ

(1)

، فَيَرْجِعُ فِي هِبَتِهِ، كَمَثَلِ الْكَلْبِ، يَأْكُلُ فَيَقِيءُ، ثُمَّ يَأْكُلُ قَيْئَهُ»)

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "حنظلة": وابن أبي سفيان الْجُمَحيّ المكيّ، ثقة حجة [6] 12/ 12.

وقوله: "بعض من أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، يحتمل أن يكون هو ابن عبّاس رضي الله عنهما.

والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو صحيح، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌32 - (كِتَابُ الرُّقْبَى)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: (الرُّقْبَى) -بضم الراء، وسكون القاف، بعدها باء موحّدة، مقصورًا، على وزن حُبْلَى-: اسم من الإرقاب، يقال: أرقبت زيدًا الدار إرقابًا: إذا قلت له: هذه الدار لك، فإن من قبلك، فهي لك، وإن متَّ قبلي عادت إليّ، فهي من المراقبة؛ لأن كلّ واحد منهما يرقُب موت صاحبه؛ لتبقى له الدار.

قال ابن منظور: الرُّقْبَى أن يُعطي الإنسان لإنسان دارًا، أو أرضًا، فأيّهما مات، رجع

(1)

وفي نسخة: "يهب الهبة".

(2)

يوجد في "الهندية": ما نصّه: "آخر كتاب النحل".

ص: 228

ذلك المال إلى ورثته، وهي من المراقبة، سمّيت بذلك؛ لأن كلّ واحد منهما يُراقب موت صاحبه. وقيل: الرُّقْبَى أن تجعل المنزل لفلان يَسكُنُه، فإن مات سكنه فلانٌ، فكلّ واحد منهما يَرقُب موت صاحبه، وقد أرقبه الرُّقْبَى. وقال اللحيانيّ: أرقبه الدار: جعلها له رُقْبَى، ولعقبه بعده بمنزلة الوقف. وفي "الصحاح": أرقبته دارًا، أو أرضًا: إذا أعطيته إياها، فكانت للباقي منكما، وقلت: إن متّ قبلك، فهي لك، وإن متَّ قبلي فهي لي، والاسم الرُّقْبَى. وفي حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم في العُمْرَى، والرقبَى أنها لمن أُعْمِرَها، ولمن أرقبها، ولورثتهما من بعدهما، قال أبو عُبيد: حدّثني ابن عُليّة، عن حجاج، أنه سأل أبا الزبير، عن الرقبَى، فقال: هو أن يقول الرجل للرجل، وقد وهب له دارًا: إن متَّ قبلي رجعت إليّ، وإن متّ قبلك فهي لك. قال أبو عبيد: وأصل الرُّقْبَى من المراقبة، كأنّ كلّ واحد منهما إنما يرقُبُ موت صاحبه، ألا ترى أنه يقول: إن متَّ قبلي رجعت إليّ، وإن متُّ قبلك فهي لك، فهذا ينبئك عن المراقبة، قال: والذي كانوا يُريدون من هذا أن يكون الرجل يريد أن يتفضّل على صاحبه بالشيء، فيستمتع به ما دام حيًّا، فإذا مات الموهوب له لم يصل إلى ورثته منه شيء، فجاءت سنّة النبيّ صلى الله عليه وسلم بنقض ذلك أنه من مَلَكَ شيئًا حياتَهُ، فهو لورثته من بعده.

قال: وهي أصلٌ لكلّ من وهب هبةْ، واشترط فيها شرطًا أن الهبة جائزة، وأن الشرط باطلٌ. ويقال: أرقبت فلانًا دارًا، وأعمرته دارًا: إذا أعطيته إياها بهذا الشرط، فهو مُرْقَبٌ، وأنا مُرْقِبٌ. انتهى كلام ابن منظور بتصرّف

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

‌1 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ فِي خَبَرِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن عبيد اللَّه بن عمرو رواه، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن طاوس، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه. وخالفه محمد ابن يوسف الفريابيّ، فرواه عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن طاوس، عن رجل، عن زيد صلى الله عليه وسلم. وخالفهما عبد الجبّار بن العلاء، فرواه عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن طاوس، قال: لعله عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، فشكّ فيه، وجعله موقوفًا أيضًا.

(1)

"لسان العرب" 1/ 426.

ص: 229

والحاصل أن حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه مضطرب، غير أن متن الحديث ثابت عن جابر، وأبي هريرة، وغيرهم - رضي اللَّه تعالى عنهم -،، كما سيأتي بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3733 -

(أَخْبَرَنَا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ -وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو- عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الرُّقْبَى جَائِزَةٌ»).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هلال بن العلاء) الباهليّ مولاهم، أبو عمرو الرّقّيّ، صدوق [11] 10/ 1199 من أفراد المصنّف.

2 -

(أبوه) العلاء بن هلال بن عمرو بن هلال الباهليّ، أبو محمد الرّقّيّ، فيه لينٌ [9] 190/ 1167 من أفراد المصنّف أيضًا.

3 -

(عبيد اللَّه بن عمرو) أبو وهب الأسديّ الرّقّيّ، ثقة فقيه، ربّما وهم [8] 177/ 280.

4 -

(سفيان) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ الإمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.

5 -

(ابن أبي نَجيح) هو عبد اللَّه بن بن أبي نَجيج يسار الثقفيّ مولاهم، أبو يسار المكيّ، ثقة رمي بالقدر، وربما دلّس [6] 112/ 155.

6 -

(طاوس) بن كيسان المذكور في قريبًا.

7 -

(زيد بن ثابت) بن الضحاك الأنصاريّ النجّاريّ، أبو سعيد، وأبو خارجة الصحابيّ الشهير، كاتب الوحي، قال مسروق: كان من الراسخين في العلم، مات رضي الله عنه سنة خمس، أو ثمان وأربعين، وقيل: بعد الخمسين، تقدّمت ترجمته في 122/ 179. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، وشيخ شيخه، فإنهما من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالرقّيين إلى عمرو، وسفيان كوفيّ، وابن أبي نجيح مكى، وطاوس يماني، وزيد - رضي اللَّه تعالى عنه - مدنيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "الرُّقْبَى) -بضمّ، فسكون، مقصورًا، قال ابن الأثير: هو أن يقول الرجل للرجل: قد وهبت لك هذه

ص: 230

الدار، فإن متّ قبلي رجعت إليّ، وإن متُّ قبلك فهي لك. وهي فُعْلَى من المراقبة؛ لأن كلّ واحد منهما يرقُب موت صاحبه. والفقهاء فيها مختلفون، منهم يجعلها تمليكًا، ومنهم من يجعلها كالعارية. انتهى

(1)

(جَائِزَةٌ) وفي حديث ابن عبّاس صلى الله عليه وسلم الآتى 2/ 3737 - : "الرقبى جائزة لمن أُرقبها". وفي حديث جابر رضي الله عنه: عند أبي داود: "الرقبى جائزة لأهلها". والمعنى أنها ثابتةٌ، ومستمرّة لمن جُعلت له إلى الأبد، لا رجوع فيها للمعطي أصلاً. [فإن قلت]: هذه الروايات تخالف روايات: "لا رُقبى"، وفي لفظ:"لا ترقبوا أموالكم"، وفي لفظ:"لا تحلّ الرقبى"، وفي رواية:"نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن العمرى، والرقبى"، وفي رواية:"لا عمرى، ولا رقبى"، وغير ذلك من الألفاظ المختلفة التي ستأتي للمصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، فكيف تجمع بينها؟.

[قلت]: أجاب العلماء -رحمهم اللَّه تعالى- عن هذه الروايات المختلفة ظاهرًا، بأن النهي محمول على ما كان يفعله الجاهليّون، من أنهم كانوا يجعلون شيئًا للشخص حياته، فإذا مات ردّت إلى صاحبها، فأبطل ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحكم بأن الرقبى والعمرى جائزتان على أنهما عطاء مؤبّد موروث لورثة الموهوب له.

والحاصل أن النهي لما كان على صفة الجاهليّة، والجواز على ما كان على الصفة الشرعيّة، وهي أن تكون مؤبّدة، لا مؤقّتةً. واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "الفتح". وقال الماورديّ: اختلفوا إلى ماذا يوجه النهي؟ والأظهر أنه يتوجّه إلى الحكم. وقيل: يتوجه إلى اللفظ الجاهليّ، والحكم المنسوخ. وقيل: النهي إنما يمنع صحّة ما يفيد المنهي عنه فائدة، أما إذا كان صحّة المنهيّ عنه ضررًا على مرتكبه، فلا يمنع صحته، كالطلاق في زمن الحيض، وصحّةُ العمرى ضرر على المُعمِر، فإن ملكه يزول بغير عوض. هذا كله إذا حمل النهي على التحريم، فإن حُمل على الكراهة، أو الإرشاد لم يحتج إلى ذلك، والقرينة الصارفة ما ذُكر في آخر الحديث من بيان حكمه، ويُصرّح بذلك قوله:(العمرى جائزة)، وللترمذيّ من طريق أبي الزبير، عن جابر رفعه:"العمرى جائز لأهلها، والرقبى جائزة لأهلها". واللَّه أعلم.

قال بعض الحذّاق: إجازة العمرى، والرقبى بعيد عن قياس الأصول، ولكن الحديث مقدّم، ولو قيل بتحريمهما للنهي، وصحّتهما للحديث لم يبعُد. وكأن النهي لأمر خارج، وهو حفظ الأموال، ولو كان المراد فيهما المنفعة كما قال مالك لم يُنهَ

(1)

"النهاية" 2/ 249.

ص: 231

عنهما، والظاهر أنه ما كان مقصود العرب بهما الرقبة بالشرط المذكور، فجاء الشرع بمراغمتهم، فصحّح العقد على نعت الهبة المحمودة، وأبطل الشرط المضادّ لذلك، فإنه يشبه الرجوع في الهبة، وقد صحّ النهي عنه، وشبّه بالكلب يعود في قيئه. وقد روى النسائيّ عن طريق أبى الزبير، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما رفعه:"العمرى جائزة لمن أُعمرها، والرقبى جائزة لمن أرقبها، والعائد في هبته كالعائد في قيئه"، فشرط الرجوع المقارن للعقد مثل الرجوع الطارئ بعده، فنهى عن ذلك، وأمر أن يُبقيها مطلقًا، أو يُخرجها مطلقًا، فإن أخرجها على خلاف ذلك بطل الشرط، وصحّ العقد، مراغمة له، وهو نحو إبطال شرط الولاء لمن باع عبدًا، كما تقدّم في قصّة بريرة رضي الله عنها ". انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث زيد بن ثابت - رضي اللَّه تعالى عنه -، وإن كان في سنده اضطراب، إلا أن متنه صحيح؛ لأنه متّفقٌ عليه من حديث جابر، ومن حديث أبي هريرة، الآتيين للمصنّف أيضًا. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 1/ 3733 و 3734 و 3735 - وفي "الكبرى" 1/ 6537 و 6538 و 6539. وأخرجه (د) في "البيوع" 3559 (أحمد) في "مسند الأنصار" 21136. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم الرقبى، والْعُمْرَى:

قال الإمام الترمذيّ -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن أخرج الحديث: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهم أن الرُّقبى جائزة، مثل العُمْرَى، وهو قول أحمد، وإسحاق. وفرّق بعض أهل العلم، من أهل الكوفة، وغيرهم بين الْعُمْرّى، والرُّفبَى، فأجازوا العمرَى، ولم يُجيزوا الرُّقبى. انتهى.

وقال في "الفتح": ما حاصله: الجمهور على أن العمرى إذا وقعت كانت ملكًا

للآخذ، ولا ترجع إلى الأول، إلا إن صرّح باشتراط ذلك. وذهب الجمهور إلى صحّة العمرى، إلا ما حكاه أبو الطيّب عن بعض الناس، والماورديُّ عن داود، وطائفة. لكن ابن حزم قال بصحّتها، وهو شيخ الظاهريّة. ثم اختلفوا إلى ما يتوجّه إليه التمليك،

(1)

"فتح" 5/ 563 - 564. "كتاب الهبة".

ص: 232

فالجمهور أنه يتوجّه إلى الرقبة، كسائر الهبات، حتى لو كان المعمَر عبدًا، فأعتقه الموهوب له نفذ بخلاف الواهب. وقيل: يتوجّه إلى المنفعة، دون الرقبة، وهو قول مالك، والشافعيّ في القديم، وهل يُسلك به مسلك العارية، أو الوقف؟ روايتان عند المالكيّة. وعن الحنفيّة التمليك في العمرى يتوجّه إلى الرقبة، وفي الرقبى إلى المنفعة، وعنهم أنها باطلة. انتهى

(1)

.

وقال العلاّمة ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: العُمرى، والرُّقبَى نوعان من الهبة يَفتقران إلى ما يفتقر إليه سائر الهبات، من الإيجاب والقبول، والقبض، أو ما يقوم مقام ذلك عند من اعتبره. ثم ذكر صورة كلّ منهما، على ما سبق بيانه، ثم قال: وكلاهما جائزٌ في قول أكثر أهل العلم. وحُكي عن بعضهم أنها لا تصحّ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُعمِرُوا، ولا تُرقبوا". وحجة الجمهور حديث جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "العمرى جائزة لأهلها، والرقبى جائزة لأهلها". وهو حديث صحيح، رواه أصحاب السنن.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تعمروا الخ" فالنهي فيه إنما ورد على سبيل الإعلام لهم أنهم إن أعمروا، أو أرقبوا يكون ذلك للمُعمَر، والمُرْقَب، ولا يعود إليهم منه شيء، وسياق الحديث يدلّ على هذا، فإنه قال:"فمن أعمر عمرى، فهي لمن أُعمرها حيا وميتًا، ولعقبه".

إذا ثبت هذا، فإن العمرى تنقُل الملك إلى المعمر له. وبهذا قال جابر بن عبد اللَّه، وابن عمر، وابن عبّاس، وشُريحٌ، ومجاهد، وطاوس، والثوريّ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن عليّ.

وقال مالك، والليث: العمرى تمليك المنافع، لا تُملك بها رقبة المعمَر بحال، ويكون للمعمَر السكنى، فإذا مات عادت إلى المعمِر، وإن قال: له، ولعقبه، كان سكناها لهم، فإذا انقرضوا عادت إلى المعمر.

واحتجا بما روى يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، قال: سمعت مكحولاً يسأل القاسم بن محمد عن العمرى ما يقول الناس فيها؟ فقال القاسم: ما أدركت الناس إلا على شروطهم في أموالهم، وما أَعطَوا. وقال إبراهيم بن إسحاق الحربيّ، عن ابن الأعرابيّ: لم يَختلف العرب في العمرى، والرقبى، والإفقار، والإخبال، والمنحة، والعريّة، والسكنَى، والإطراق أنها على ملك أربابها، ومنافعها

(1)

"فتح" 5/ 561. "كتاب الهبات".

ص: 233

لمن جُعلت له. ولأن التمليك لا يتأقّت، كما لو باعه إلى مدّة، فهذا كان لا يتأقّت، حُمل قوله على تمليك المنافع؛ لأنه يصحّ توقيته.

وحجة الأولين حديث جابر رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فإنه من أَعمر عمرى، فهي للذي أُعمِرها حيا وميتًا ولعقبه". رواه مسلم. وفي لفظ: "قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن وُهبت له". متّفقٌ عليه.

قال. وقد روى مالك حديث العمرى في "موطئه"، وهو صحيح، رواه جابر، وابن عمر، وابن عبّاس، ومعاوية، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة رضي الله عنه. وقول القاسم لا يُقبل في مخالفة من سمّينا من الصحابة والتابعين، فكيف يُقبل في مخالفة قول سيّد المرسليين صلى الله عليه وسلم، ولا يصحّ أن يُدّعَى إجماع أهل المدينة؛ لكثرة من قال بها منهم، وقضى بها طارقٌ بالمدينة بأمر عبد الملك بن مروان. وقول ابن الأعرابيّ: إنها عند العرب تمليك المنافع، لا يضرّ إذا نقلها الشرع إلى تمليك الرقبة، كما نقل الصلاة من الدعاء إلى الأفعال المنظومة، ونقل الظهار، والإيلاء من الطلاق إلى أحكام مخصوصة. وقولهم: إن التمليك لا يتأقّت. قلنا: فلذلك أبطل الشرع تأقيتها، وجعلها تمليكًا مطلقًا. انتهى كلام ابن قدامة ببعض تصرّف

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن مما ذُكر أن الأرجح قول أكثر أهل العلم: إن الرقبى، والعمرى جائزتان لمن جُعلتا له، ولعقبه بعد موته؛ لأن الأدلّة على ذلك صحيحة صريحة، لا يمكن مخالفتها لأجل قول بعض الناس، أو لدليل عقليّ؛ إذ هو في مقابلة الدليل الشرعيّ فاسد الاعتبار، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال:

إَذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يومًا

تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الكِفَاحِ

غدَتْ شُبَهُ القِياسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3734 -

(أَخْبَرَنِي

(2)

مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -وَهُوَ ابْنُ يُوسُفَ- قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، جَعَلَ الرُّقْبَى لِلَّذِى أُرْقِبَهَا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عليّ بن ميمون": هو الرقيّ، أبو العبّاس العطّار، ثقة [11] 14/ 418 من أفراد المصنّف.

(1)

"المغني" 8/ 281 - 284.

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 234

و "محمد بن يوسف": هو الفريابيّ. و"سفيان": هو الثوريّ. والحديث صحيح بشواهده، وقد سبق البحث فيه، في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3735 -

(أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ طَاوُسٍ، لَعَلَّهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَا رُقْبَى، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا، فَهُوَ سَبِيلُ الْمِيرَاثِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "زكريّا": هو السجزيّ خيّاط السنّة المذكور في الباب الماضي. و "عبد الجبّار بن العلاء": هو العطّار، أبو بكر البصريّ، نزيل مكة، لا بأس به، من صغار [10] 132/ 199.

و"سفيان" هنا: الظاهر أنه ابن عيينة؛ لأن عبد الجبار بن العلاء متأخّر، وأيضًا فلم يُذكر في "تهذيب الكمال"، ولا في "تهذيب التهذيب" من شيوخه الثوريّ، وإنما ذُكر ابن عيينة فقط، وأما في الإسنادين السابقين، فهو الثوريّ. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "فمن أرقب" بالبناء للمفعول: أي من جُعل له رُقْبَى. وقوله: "سبيل الميراث": أي طريقته طريقة ميراث أموال الموهوب له، بمعنى أنه لا يرجع إلى الواهب. والحديث صحيح، وقد سبق البحث فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌2 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى أَبِي الزُّبَيْرِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن زيد بن أبي أنيسة رواه عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مرفوعًا، وتابعه حجاج بن أرطاة في رواية، وخالفهما الثوريّ، فرواه عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما موقوفًا، وتابعه حجاج بن أرطاة في رواية، وخالف أبا الزبير حنظلةُ بْنُ أبي سفيان، فرواه عن طاوس، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تحلّ الرقبى

" الحديث.

لكن الحديث ثابت، مرفوعًا، متصلًا؛ فقد رواه جابر، وأبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي، وقد أخرجه الشيخان من حديثهما. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

ص: 235

3736 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا تُرْقِبُوا أَمْوَالَكُمْ، فَمَنْ أَرْقَبَ شَيْئًا، فَهُوَ لِمَنْ أُرْقِبَهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن وهب": هو أبو المعافى الحرّانيّ، صدوق [10] 191/ 306. من أفراد المصنّف.

و"محمد بن سلمة": هو الباهليّ مولاهم الحرّانيّ، ثقة [9] 191/ 306.

و"أبو عبد الرحيم": هو خالد بن أبي يزيد سماك بن رستم الأمويّ مولاهم الحرّانيّ، ثقة [6] 191/ 306.

و"زيد": وابن أبي أُنيسة زيد، أبو أسامة الجزريّ، كوفي الأصل، ثم سكن الرُّها، ثقة له أفراد [6] 191/ 306. و"أبو الزبير": هو محمد بن مسلم، تقدّم قريبًا.

وقوله: "لا تُرقبوا أموالكم" بضم التاء الفوقيّة، وسكون الراء، وكسر القاف: أي لا تجعلوها رُقبى، فهو نهي، وعلله بقوله:"فمن أَرقَبَ شيئًا" بالبناء للفاعل: أي من جعل شيئًا من ماله رُقبى "فهو لمن أُرقبه" بالبناء للمفعول: أي للذي جُعل له رُقبى. وحاصل المعنى: لا تضيعوا أموالكم، ولا تُخرجوها من أملاككم بالرقبى، فالنهي بمعنى أنه لا يليق بالمصلحة، وإن فعلتم يكون صحيحًا. وقيل: النهي قبل التجويز، فهو منسوخ بأدلة الجواز. وهذا ضعيف.

والحديث صحيح، تفرّد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-2/ 3736 و 3737 و 3738 و 3739 و 3740 و 3741 - وأخرجه في "الكبرى" 2/ 6540 و 6541 و 6542 و 6543 و 6544 و 6545. وأخرجه (أحمد) في "مسند بني هاشم" 2250. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3737 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُعْمِرَهَا، وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُرْقِبَهَا، وَالْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ، كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد تقدّم قبل باب. و"حجاج": وابن أرطاة.

وقوله؛ "أُعمر" بضمّ أوله، على بناء المفعول، وكذا "أُرقب".

والحديث صحيح، وقد تفرّد به المصنّف، كما سبق البيان في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3738 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي

ص: 236

الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:"الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى سَوَاءٌ").

قال الجامع عفا اللَّهَ تعالى عنه: "يحيى": وابن سعيد القطّان. و"سفيان": هو الثوريّ.

وقوله: "سواء" أي حكمهما سيان، لا اختلاف بينهما في كونهما للتأبيد، ولا يرجعان إلى الواهب، بل يورثان.

والحديث موقوف صحيح، من أفراد المصنّف، وقد سبق بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3739 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "لَا تَحِلُّ الرُّقْبَى، وَلَا الْعُمْرَى، فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا، فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يعلى": وابن عبيد الطنافسيّ. و"سفيان": هو الثوريّ.

وقوله: "فمن أُعمر شيئًا الخ" بالبناء للمفعول، وكذا قوله:"ومن أُرقب": أي من جُعل له عمرى، ورُقبى.

والحديث من أفراد المصنّف، وهو موقوف صحيح، وقد صحّ أيضًا مرفوعًا، كما سبق، وأخرجه ابن حبّان في "صحيحه"1151 - ، والضياء المقدسيّ في "المختارة" من رواية أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا ترقبوا أموالكم، فمن أرقب شيئًا، فهو للذي أُرقبه، والرقبى أن يقول الرجل: هذا لفلان ما عاش، فإن مات فلان فهو لفلان"

(1)

وأخرجه أحمد 1/ 250 - مختصرًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3740 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "لَا تَصْلُحُ الْعُمْرَى، وَلَا الرُّقْبَى، فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا، أَوْ أَرْقَبَهُ، فَإِنَّهُ لِمَنْ أُعْمِرَهُ، وَأُرْقِبَهُ، حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ". أَرْسَلَهُ حَنْظَلَةُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن بشر": هو العبدي، أبو عبد اللَّه الكوفيّ الثقة الحافظ [9] 5/ 882. و"حجاج": وابن أرطاة. والحديث من أفراد المصنّف، وهو موقوف صحيح أيضًا، وقد من البحث عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

راجع "إرواء الغليل" للشيخ الألباني 6/ 54 - 55.

ص: 237

وقوله: "أرسله حنظلة"، أي روى هذا الحديث حنظلة بن أبي سفيان الجمحيّ المكيّ عن طاوس مرسلاً بإسقاط ابن عبّاس، فخالف فيه أبا الزبير، ثم أورد رواية حنظلة، فقال:

3741 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ حَنْظَلَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحِلُّ الرُّقْبَى، فَمَنْ أُرْقِبَ رُقْبَى

(1)

، فَهُوَ

(2)

سَبِيلُ الْمِيرَاثِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "حبّان" بالكسر: وابن موسى. و"عبد اللَّه": هو ابن المبارك.

وقوله: "فمن أُرقب" بالبناء للمفعول. وقوله: "فهو سبيل الميراث" أي فهو طريق من طرائق الميراث، يْعني أنه من الأسباب التي يوجد بها الميراث في المال، حيث إنه ملّكه تمليكًا مطلقًا، فصار كسائر أملاكه. والحديث مرسل صحيح بما قبله، وهو من أفراد المصنّف أيضًا، وقد سبق القول فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3742 -

(أَخْبَرَنِي عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعُمْرَى مِيرَاثٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا نسخ (المجتبى) ذُكر فيها روايات حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه في العمرى مفرّقة بعضها في هذا الباب، وبعضها في الباب التالي، وكان الأولى له ما صنعه في "الكبرى" حيث جعل كلّها تحت ترجمة "كتاب العمرى"، فإن ذلك مما لا يخفى حسنه. فتأمل. واللَّه تعالى أعلم.

و"عبدة بن عبد الرحيم": هو أبو سعيد المروزيّ، نزيل دمشق، صدوق، من صغار [10] 45/ 597 من أفراد المصنّف. و"سفيان": هو الثوريّ.

والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف، وقد أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ. "العمرى ميراث لأهلها". ومعنى "ميراث" أن وارث المعمَر له يرثونها؛ لأنها كسائر أمواله، ولا ترجع إلى المعمِر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3743 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُجْرٍ الْمَدَرِيِّ، عَنْ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعُمْرَى لِلْوَارِثِ»).

(1)

وفي نسخة: "برقبى".

(2)

وفي نسخة: "فهي".

ص: 238

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عبد اللَّه بن يزيد،: هو أبو يحيى المكيّ الثقة [10] 11/ 11 من أفراد المصنّف، وابن ماجه. و"سفيان": وابن عيينة. و"ابن طاوس": هو عبد اللَّه

و"حجر" -بضمّ المهملة، وسكون الجيم- ابن قيس الهَمْدانيّ المدَرِيُّ -بفتحتين- اليمنيّ، ويقال. الْحَجُوريّ -بفتح المهملة، وضم الجيم- ثقة [3].

روى عن زيد بن ثابت، وعليّ، وابن عبّاس رضي الله عنهما وعنه طاوس، وشَدّاد بن جابان. قال العجليّ: تابعي ثقة، وكان من خيار التابعين. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، أخرجوا له هذا الحديث فقط.

والحديث صحيح، كما سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3744 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُجْرٍ الْمَدَرِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عبيد": هو المحاربيّ، أبو جعفر النحاس الكوفيّ، صدوق [10] 144/ 226.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3745 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الْعُمْرَى لِلْوَارِثِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الإسناد هو الإسناد السابق، غير أن الأول فيه زيادة "حجر المدريّ" بين طاوس وبين زيد بن ثابت، ولعل طاوسًا أخذه من حجر، ثم سمعه من زيد نفسه.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3746 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ، يُحَدِّثُ عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ حُجْرٍ الْمَدَرِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْعُمْرَى لِلْوَارِثِ» ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد اللَّه": هو ابن المبارك. والحديث صحيح، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

ص: 239

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌33 - (كِتَابُ الْعُمْرَى)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الْعُمْرَى":-بضمّ العين المهملة، وسكون الميم، مع القصر، وحكي ضمّ الميم مع ضمّ أوله، وحُكي فتح أوله، مع السكون- مأخوذ من العمر، سمّيت بذلك لأنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهليّة، فيُعطي الرجل الدارَ، ويقول له: أعمرتك إياها، أي أبحتها لك مدّة عمرك، فقيل لها عمرى لذلك. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

وقال أيضًا عند قوله: "قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعمرى أنها لمن وُهبت له": هو بفتح "أنها" أي قض بأنها. وفي رواية الزهريّ، عن أبي سلمة عند مسلم:"أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أُعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاء، وَقَعت فيه المواريث"

(2)

، هذا لفظه من طريق مالك، عن الزهريّ، وله نحوه من طريق ابن جريج، عن الزهريّ، وله من طريق الليث عنه:"فقد قطع قوله حقّه فيها، وهي لمن أُعمر، ولعقبه"، ولم يذكر التعليل الذي في آخره. وله من طريق معمر، عنه:"إنما العمرى التي أجازها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما الذي قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها"، قال معمر: كان الزهريّ يُفتي به، ولم يذكر التعليل أيضًا، وبين من طريق ابن أبي ذئب، عن الزهريّ أن التعليل من قول أبي سلمة. وأخرجه مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر، قال:"جعل الأنصار يُعمرون المهاجرين، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فإنه من أَعمَر عمرى، فهي للذي أُعمرها حيًا وميتًا، ولعقبه".

فيجتمع من هذه الروايات ثلاثة أحوال:

[أحدها]: أن يقول: هي لك ولعقبك، فهذا صريحٌ في أنها للموهوب له ولعقبه.

[ثانيها]: أن يقول: هي لك ما عشتَ، فإذا متَّ رجعت إليّ، فهذه عاريةٌ مؤقّتة،

(1)

"فتح" 5/ 561.

(2)

سيأتي للمصنّف برقم 3772.

ص: 240

وهي صحيحة، فإذا مات رجعت إلى الذي أَعطَى، وقد بينت هذه، والتي قبلها رواية الزهريّ. وبه قال أكثر العلماء، ورجّحه جماعة من الشافعيّة، والأصحّ عند أكثرهم لا ترجع إلى الواهب، واحتجّوا بأنه شرط فاسد، فأُلغي.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما صححه الأكثر هو الأرجح عندي؛ لظواهر الأحاديث. واللَّه تعالى أعلم.

[ثالثها]: أن يقول أعمرتكها، ويُطلق، فرواية أبي الزبير هذه تدلّ على أن حكمها حكم الأول، وأنها لا ترجع إلى الواهب، وهو قول الشافعيّ في الجديد، والجمهور، وقال في القديم: العقد باطل من أصله، وعنه كقول مالك، وقيل: القديم عن الشافعيّ كالجديد. وقد روى النسائيّ -4/ 3782 - أن قتادة حكى أن سليمان بن هشام بن عبد الملك سأل الفقهاء

(1)

عن هذه المسألة -أعني صورة الإطلاق- فذكر له قتادة، عن الحسن وغيره أنها جائزة، وذكر له حديث أبي هريرة رضي الله عنه بذلك، قال: وذكر له عن عطاء، عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، قال: فقال الزهريّ: إنما العمرى -أي الجائزة- إذا أعمر له ولعقبه من بعده، فهذا لم يجعل عقبه من بعده كان للذي يجعل شرطه، قال قتادة: واحتجّ الزهريّ بأن الخلفاء لا يقضون بها، فقال عطاء: قضى بها عبد الملك بن مروان. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

347735 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ طَاوُسًا، يُحَدِّثُ

(3)

عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«الْعُمْرَى هِيَ لِلْوَارِثِ» ).

قال الجامع عفا اللَّهَ تعالى عنه: "خالدٌ": هو ابن الحارث الْهُجيميّ. والحديث صحيح، وقد سبق في الباب الماضي 3744 - . واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3748 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ:

(1)

الذي في رواية النسائيّ الآتي برقم 3782 أن المسؤول هو قتادة نفسه.

(2)

"فتح" 5/ 562. "كتاب الهبة" رقم 2625.

(3)

وقع في النسخة الهنديّة زيادة "عن حجر المدريّ"، ونصه:"سمعت طاوسًا، يحدّث عن حجر المدريّ، عن زيد بن ثابت"، وهو غلطٌ، فإن هذه الرواية ليس فيها ذكر لحجر المدريّ، فقد ذكره الحافظ المزّيّ في "تحفة الأشراف" 3/ 216 في ترجمة طاوس، عن زيد بن ثابت، وإنما يذكر حجر المدريّ في الروايات الآتية. فتنبّه.

ص: 241

أَخْبَرَنِي

(1)

عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ طَاوُسًا، يُحَدِّثُ عَنْ حُجْرٍ الْمَدَرِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«الْعُمْرَى لِلْوَارِثِ» ).

قَالَ: الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن عليّ": هو الفلاّس. و"أبو داود": هو سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، صاحب "المسند".

والحديث صحيح، سبق في الباب الماضي-3746. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3749 -

(2)

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ حُجْرٍ الْمَدَرِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَضَى بِالْعُمْرَى لِلْوَارِثِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "سفيان": هو ابن عيينة. والحديث صحيح، سبق قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل

3750 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، أَنَّهُ عَرَضَ عَلَيَّ مَعْقِلٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ حُجْرٍ الْمَدَرِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا، فَهُوَ لِمُعْمَرِهِ، مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ، وَلَا تَرْقُبُوا، فَمَنْ أَرْقَبَ شَيْئًا، فَهُوَ لِسَبِيلِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عُبيد اللَّه بن يزيد بن إبراهيم": هو أبو جعفر الْقُرْدوانيّ القاضي، صدوق فيه لين [11] 51/ 2272 من أفراد المصنّف.

و"أبوه" عبيد اللَّه بن يزيد بن إبراهيم الْحَرّانيّ الْقُرْدُوانيّ -بضمّ القاف، والدال، بينهما راء ساكنة- مجهول [10]. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

و"معقل" -بكسر القاف-: هو ابن عبيد اللَّه الجزريّ، أبو عبد اللَّه الْعَبْسيّ مولاهم، صدوقٌ يُخطىء [8] 37/ 940.

وقوله: "عرض عليّ" العرض هو القراءة عن ظهر القلب، يقال: عرضت الكتاب عَرْضًا، من باب ضرب: قرأتُهُ عن ظهر القلب. أفاده الفيّوميّ. يعني أنه قرأ عليه ما حدّثه عمرو بن دينار.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

[تنبيه]: يوجد في النسخة الهنديّة هنا زيادة حديث، وهو موجود في "الكبرى": ونصه: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ حُجْرٍ الْمَدَرِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ:"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَضَى بِالْعُمْرَى لِلوَارِثِ". ولم يذكره الحافظ المزيّ في "تحفته". و"سفيان" هو ابن عيينة، و"عمرو": هو ابن دينار. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 242

وقوله: "لمعمره" بضمّ الميم الأولى، وفتح الثانية، اسم مفعول، أي لمن جعل له العمرى. وقوله:"محياه ومماته" منصوبان على الظرفيّة. وقوله: "فهو لسبيله": معناه أنه لمُرقَبه بصيغة اسم المفعول.

والحديث صحيح، بما تقدّمه، وبما يأتي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3751 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ الْحَجُورِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«الْعُمْرَى جَائِزَةٌ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "زكريا بن يحيى": هو السجزيّ، خيّاط السنّة تقدّم قبل باب. و"زيد بن أخزم" -بالخاء، والزاي المعجمتين-: هو الطائيّ البصريّ الثقة الحافظ [11] 71/ 1322.

و"هشام": هو الدستوائيّ. و"الحجوريّ": هو حُجر بن قيس.

والحديث صحيح، تفرّد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3752 -

(أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَكَّارِ بْنِ بِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ -هُوَ ابْنُ بَشِيرٍ- عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْعُمْرَى جَائِزَةٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "هارون بن محمد بن بكّار بن بلال": هو العامليّ الدمشقيّ، صدوق [11] 128/ 1091.

و"أبوه": هو محمد بن بكار بن بلال العامليّ الدمشقيّ القاضي، ثقة [9] 3/ 3722.

و"سعيد بن بشير" الأزديّ مولاهم، أبو عبد الرحمن، أو أبو سلمة الشاميّ، بصريّ الأصل، أو واسطيّ، ضعيف [8].

قال ابن سعد: كان قدريًا. وقال بقية، عن شعبة: ذاك صدوق اللسان. وفي رواية: صدوق الحديث. وفي رواية: صدوق اللسان في الحديث، قال بقيّة: فحدّثت به سعيد بن عبد العزيز، فقال لي: بُثّ هذا يرحمك اللَّه في جندنا، فإن الناس عندنا كأنهم ينتقصونه. وقال أبو حاتم: قلت لأحمد بن صالح: سعيد بن بشير دمشقيّ، كيف هذه الكثرة عن قتادة؟، قال: كان أبوه شريكًا لأبي عَرُوبة، فأقدم بشير ابنه سعيدًا البصرة،

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 243

فبقي يطلب مع سعيد بن أبي عروبة. وقال مروان بن محمد: سمعت ابن عُيينة يقول: حدثنا سعيد بن بشير، وكان حافظًا. وقال يعقوب بن سفيان: سألت أبا مسهر عنه؛ فقال: لم يكن في جندنا أحفظ منه، وهو ضعيفٌ، منكر الحديث. وقال أبو زرعة الدمشقيّ: قلت لأبي مسهر: كان سعيد بن بشير قدريًا" قال: معاذ اللَّه. قال: وسألت عبد الرحمن بن إبراهيم عن قول من أدرك فيه؛ فقال: يوثّقونه، وسألته عن محمد بن راشد، فقدّم سعيدًا عليه. وقال عثمان الدارميّ: سمعت دُحيمًا يوثّقه. وقال سعيد بن عبد العزيز: كان حاطب ليل. وقال عمرو بن عليّ، ومحمد بن المثنّى: حدّث عنه ابن مهديّ، ثم تركه. وكذا قال أبو داود عن أحمد. وقال الميمونيّ: رأيت أبا عبد اللَّه يُضعّف أمره. وقال الدوريّ وغيره، عن ابن معين: ليس بشيء. وقال عثمان الدارميّ وغيره، عن ابن معين: ضعيفٌ. وقال عليّ بن المدينيّ: كان ضعيفًا. وقال محمد بن عبد اللَّه بن نمير: منكر الحديث، ليس بشيء، ليس بقوي الحديث، يروي عن قتادة المنكرات. وقال البخاريّ: يتكلّمون في حفظه، وهو يُحتَمَل. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: محلّه الصدق عندنا، قلت: يُحتج بحديثه؟ قالا: يُحتجّ بحديث أبي عروبة، والدستوائيّ، هذا شيخٌ يُكتب حديثه. وقال النسائيّ: ضعيف. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقويّ عندهم. وقال ابن عديّ: له عند أهل دمشق تصانيف، ولا أرى بما يرويه بأسًا، ولعله يَهِم في الشيء بعد الشيء، ويِغلَط، والغالب على حديثه الاستقامة، والغالب عليه الصدق. وقال الساجيّ: حدّث عن قتادة بمناكير. وقال الآجريّ، عن أبي داود: ضعيف. وقال ابن حبّان: كان رديء الحفظ، فاحش الخطإ، يروي عن قتادة ما لا يتابع عليه، وعن عمرو بن دينار ما ليس يُعرف من حديثه. وقال أبو بكر البزار: هو عندنا صالح ليس به بأس. قال أبو الجماهير وغيره: مات سنة (168) وقال الوليد وغيره: مات سنة (169). وقال ابن سعد: سنة (170). قال ابن حبّان: وله (89). روى له الأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-. واللَّه تعالى أعلم

بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3753 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَكْحُولٌ، عَنْ طَاوُسٍ، بَتَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: (بتل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخ" -بفتح الموحّدة، والمثنّاة الفوقية، آخره لام-: أي قطع العمرى والرقبى عن الواهب، فلا يرجعان إليه أبدًا. يقال: بتل الشيءَ يبتُلُه، من باب قتل: قطعه وأبانه، وطلّقها طَلْقةً بتّةً، وبَتْلَةً،

ص: 244

وتبتّل إلى العبادة: تفرغ، وانقطع. أفاده الفيّوميّ.

وقال ابن الأثير. ما معناه: أنه أوجبهما، وملّكهما ملكًا لا يتطرّق إليه نقض. انتهى.

وحاصل المعنى: أنه صلى الله عليه وسلم حكم بأن العمرى والرقبى اللتين كان الواهب يعلّقهما بمدّة ثم يرجعان إليه مفصولتان عنه، لا صلة له بهما، فلا يجوز له الرجوع إليهما أبدًا.

والحديث، وإن كان مرسلاً، إلا أنه صحيح بما سبق، وهو من أفراد المصنّف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(ذِكْرُ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ جَابِرِ رضي الله عنه فِي الْعُمْرَى)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف على جابر رضي الله عنه أن بعضهم رواه عن عطاء، عنه، وبعضهم أسقطه، فجعله مرسلاً، وبعضهم جعله من مسند ابن عمر، ولكنه لا يصحّ، كما سينبّه عليه المصنّف.

وأن بعضهم رواه بلفظ: (العمرى جائزة)، وبعضهم رواه بلفظ:"فهي عن العمرى الخ"، وبعضهم رواه بلفظ:"لا تُرقبوا، ولا تُعمروا الخ"، وبعضهم رواه بلفظ:"لا عمرى، ولا رُقبى الخ"، وغير ذلك، لكن لا تعارض بين هذه الاختلافات، فلا تضرّ بصحة الحديث، إذ كلها ترجع إلى معنى واحد، وهو أن النهي بمعنى أنه لا ينبغي فعلهما، لكن إن فُعلتا، وقعتا جائزتين، لازمتين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3754 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِسْطَامُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَهُمْ، فَقَالَ: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو داود": هو الطيالسيّ. و "بسطام بن مسلم" - بكسر الموحّدة-: هو الْعَوْذيّ البصريّ، ثقة [7] 83/ 2586. و"مالك بن دينار": هو أبو يحيى البصريّ الزاهد، صدوقٌ عابدٌ [5] 77/ 2807. و"عطاء": وابن أبي رباح الإمام الحجة الفاضل الثبت المكيّ.

والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3755 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى، قُلْتُ: وَمَا الرُّقْبَى؟ ، قَالَ: يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: هِيَ لَكَ حَيَاتَكَ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ، فَهُوَ جَائِزَةٌ).

ص: 245

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أحمد بن سليمان" تقدّم قريبًا. و"عبيد اللَّه": وابن موسى بن أبي المختار العبسيّ. و"إسرائيل": وابن يونس. و"عبد الكريم": هو ابن مالك الجزريّ.

وقوله: "فهو جائز" هكذا النسخ كلها بتذكير المبتدإ، وتانيث الخبر، وله وجه، فالضمير يرجع إلى الفعل المفهوم من "فعلتم"، وأنّث الخبر لأنه بمعنى "العمرى"، أو "الرقبى".

والحديث وإن كان مرسلاً إلا أنه صحيح بما سبق، وبما يأتي، وهو من أفراد المصنّف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3756 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد": وابن جعفر المعروف بغندر. والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3757 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أُعْطِىَ شَيْئًا، حَيَاتَهُ فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ»).

قاله الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد اللَّه": وابن المبارك. و"عبد الملك بن أبي سليمان" ميسرى العَرْزَميّ الكوفيّ، صدوق، له أوهام [5] 7/ 406. والحديث، مرسل صحيح بما بعده، وهو من أفراد المصنّف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3758 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَا تُرْقِبُوا، وَلَا تُعْمِرُوا، فَمَنْ أُرْقِبَ، أَوْ أُعْمِرَ شَيْئًا، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عبد اللَّه بن يزيد": هو أبو يحيى المكيّ الثقة. و"سفيان": هو ابن عيينة.

وقوله: "لا تُرقبوا" بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإرقاب، وكذا قوله:"لا تُعمروا" من الإعمار. "فمن أُرقب، أو أعمر" بضم أولهما، على البناء للمفعول. والضمير في قوله:"لورثته" راجع إلى الموهوب له، أي يرثه ورثة الموهوب له، ولا يرجع إلى الوارث.

ص: 246

والحديث صحيح، وابن جريج، لكان كان مدلّسًا، فإنما تُتَّقَى عنعنته في غير عطاء، فقد صحّ عنه أنه قال:"إذا قلت: قال عطاء، فأنا سمعته منه، وإن لم أقلّ: سمعتُ"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3759 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، أَنْبَأَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا عُمْرَى، وَلَا رُقْبَى، فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا، أَوْ أُرْقِبَهُ، فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ، وَمَمَاتَهُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "إسحاق بن إبراهيم": هو الحنظليّ المعروف بابن راهويه.

وقوله: "لا عمرى، ولا رُقبى" أي لا ينبغي فعلهما، نظرًا للمصلحة، إذ لا رجوع للواهب فيهما. وقوله:"فمن أُعمر، أو أرقبه" بالبناء للمفعول.

وقد أخرج الحديث ابن الجارود من طريق ابن جريج، بهذا السند، مرفوعًا، بلفظ:"لا رقبى، ولا عُمرى، فمن أُعمر شيئًا، أو أُرقبه، فهو له حياته ومماته، قال: والرقبى أن يقول هو للآخِرِ منّي، ومنك، والعُمرَى أن يجعل له حياته أن يُعمره حياتهما، قال عطاء: فإن أعطاه سنة، أو سنتين، أو شيئًا يُسمّيه، فهي منحة يمنحها إياه، ليس بعمرى".

والحديث بهذا السند فيه انقطاع، كما سيذكره المصنّف في السند التالي، لكنه صحيح بشواهده، فقد أخرج ابن حيّان في "صحيحه" 1151 - والضياء في "المختارة" من رواية أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُرقبوا أموالكم، فمن أَرقَبَ شيئًا، فهو للذي أرقبه، والرقبى أن يقول الرجل: هذا لفلان ما عاش، فإن مات فلان فهو لفلان". وفيه عنعنة أبي الزبير، وهو مدلّس، لكن الشواهد التي عند المصنّف السابقة، واللاحقة، تكفي في المقصود. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3760 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -وَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا عُمْرَى، وَلَا رُقْبَى، فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا، أَوْ أُرْقِبَهُ، فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ» ، قَالَ عَطَاءٌ: هُوَ لِلآخَرِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبيد اللَّه بن سعيد": هو أبو قُدامة السرخسيّ الحافظ الثبت. و"محمد بن بكر": هو البُرْسَانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوق يخطئ [9].

(1)

راجع "إرواء الغليل" 6/ 53 رقم 1609.

(2)

وفي نسخة: "أنا".

ص: 247

وقوله: " "أُمر، وأرقب" بالبناء للمفعول. وقول عطاء:"هو للآخر" بفتح الخاء المعجمة، أي الْمُعْمَر، والْمُرْقَب بصيغة اسم المفعول.

وقوله: "ولم يسمعه منه": أيَ لم يسمع حبيب بن أبي ثابت هذا الحديث من ابن عمر صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه من غيره منه، وهذا يعارض ما يأتي في السند التالي من طريق يزيد بن زياد بن أبي الجعد، من التصريح بسماعه منه، حيث قال:"سمعت ابن عمر"، لكن ترجّح هذه الرواية؛ لأن عطاء بن أبي رباح أحفظ، وأتقن من يزيد بن زياد، كما يظهر من ترجمتهما، فلا ينبغي أن يقال: إن المثبت مقدّم على النافي، نبّه على ذلك الشيخ الألبانيّ

(1)

.

وعدى أي حال فالحديث صحيح بالطرق السابقة واللاحقة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3761 -

(أَخْبَرَنِي عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الرُّقْبَى، وَقَالَ: «مَنْ أُرْقِبَ رُقْبَى، فَهُوَ لَهُ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبدة بن عبد الرحيم": هو المروزيّ، ثم الدمشقيّ، صدوق، من صغار [10] 45/ 597. و"يزيد بن زياد بن أبي الجعد": هو الأشجعيّ الكوفيّ، صدوقٌ [7] 51/ 2532.

والحديث سبق البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3762 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا

(2)

، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا، فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "أبو عاصم": هو الضحاك بن مخلد النبيل.

والحديث أخرجه مسلم مطوّلًا، ولفظه، من طريق عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، عن جابر، قال: "أَعمَرت امراةٌ بالمدينة، حائطا لها، ابنا لها، ثم تُوُفي، وتوفيت بعده، وتركت ولدا، وله إخوة بنون للمُعمِرة، فقال ولد الْمُعمِرة: رجع الحائط إلينا، وقال بنو الْمُعْمَرِ: بل كان لأبينا حياته وموته، فاختصموا إلى طارق

(3)

،

(1)

راجع "الإرواء" 6/ 54.

(2)

وفي نسخة: "جابر بن عبد اللَّه".

(3)

هو طارق بن عمرو، ولاّه عبد الملك بن مروان المدينة بعد إمارة ابن الزبير. قاله النوويّ.

ص: 248

مولى عثمان، فدعا جابرا، فشهد على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بالعمرى لصاحبها، فقضى بذلك طارق، ثم كتب إلى عبد الملك، فأخبره ذلك، وأخبره بشهادة جابر، فقال عبد الملك: صدق جابر، فأمضى ذلك طارق، فإن ذلك الحائط لبني الْمُعمَرِ حتى اليوم". واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3763 -

(أَخْبَرَنِي

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ صُدْرَانَ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ الصَّوَّافُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، امْسِكُوا عَلَيْكُمْ -يَعْنِي أَمْوَالَكُمْ- لَا تُعْمِرُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ لِمَنْ أُعْمِرَهُ حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: (محمد بن إبراهيم بن صُدْران" -بضم الصاد، وسكون الدال المهملتين-: هو الأزديّ، أبو جعفر البصريّ المؤذن، صدوقٌ [10] 66/ 82. و"بشر بن المفضل": هو أبو إسماعيل الرقَاشيّ البصريّ، ثقة ثبت عابد [8] 66/ 82.

و"الحجّاج الصوّاف": هو الحجّاج بن أبي عثمان ميسرة، أو سالم، أبو الصَّلْت الكنديّ مولاهم البصريّ الثقة الحافظ [6] 12/ 790.

والحديث أخرجه مسلم، من طريق أبي خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فإنه من أَعمرَ عمرى، فهي للذي أُعمِرها حيا وميتا، ولعقبه".

ومن طريق أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر، قال:"جعل الأنصار يُعْمِرُونَ المهاجرين، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم".

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: المراد إعلامهم أن العمرى هبةٌ صحيحة ماضيةٌ، يملكها الموهوب له، ملكاً تامًّا، لا يعود إلى الواهب أبداً، فإذا علِموا ذلك، فمن شاء أَعمَرَ، ودخل على بصيرة، ومن شاء ترك؛ لأنهم كانوا يتوهّمون أنها كالعارية، ويرجع فيها. وهذا دليلٌ للشافعيّ، وموافقيه انتهى

(2)

.

وقوله: "يعني أموالكم" هو من قول بعض الرواة، إما من الحجاج، أو ممن دونه؛ لأنها في رواية هشام الدستوائيّ التالية بالجزم، فدلّ على أنها من الحجّاج، أو ممن دونه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

"شرح مسلم" 11/ 75. "كتاب الهبات".

ص: 249

3764 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «امْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُعْمِرُوهَا، فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا حَيَاتَهُ، فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ»)

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "خالدٌ": وابن الحارث الهجيميّ. و"هشام": هو ابن أبي عبد اللَّه الدستوائيّ. والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق بيانه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعمِ الوكيل.

3765 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الرُّقْبَى لِمَنْ أُرْقِبَهَا»).

"خالد": هو المذكور في السند الماضي. و"داود بن أبي هند": هو القشيريّ مولاهم البصريّ، ثقة متقنٌ، كان يَهِم بآخره [5] 21/ 538.

وقوله: "لمن أُرقبها" ببناء الفعل للمفعول. والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3766 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لأَهْلِهَا، وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لأَهْلِهَا»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "هُشيم": وابن بَشِير الواسطيّ. و"داود": هو المذكور قبله. والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌1 - (ذِكْرُ الاخْتِلَافِ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِيهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف على الزهريّ أن الأوزاعيّ رواه عنه، عن عروة، عن جابر، مرفوعًا، بلفظ:"من أُعمِر عمرى، فهي له ولعقبه، يرثها من يرثه من عقبه"، ورواه عنه، عن أبي سلمة، بنحوه، ورواه الليث، عن أبي سلمة، بلفظ:"من أَعمَر رجلاً عُمرَى له ولعقبه، فقد قطع قوله حقَّه، وهي له ولعقبه"، ورواه مالك،

(1)

وفي نسخة: "وبعد مماته".

ص: 250

عنه، عن أبي سلمة، مع ذكر التعليل، ولفظه:"أيما رجل أُعمِر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي يُعطاها، لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث"، ورواه شعيب بن أبي حمزة، عنه، عن أبي سلمة، بلفظ: (أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضى أنه من أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أُعمرها، يرثها من صاحبها الذي أعطاها ما وقع من مواريث اللَّه وحقَّه"، وليس فيه التصريح بالتعليل، ورواه ابن أبي ذئب، عنه، عن أبي سلمة، بلفظ: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضى فيمن أُعمر عُمرى له ولعقبه، فهي له بتلةٌ، لا يجوز للمعطي منها شرط، ولا ثُنيا، قال أبو سلمة: لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث، فقطعت المواريثُ شرطَه". وفيه بيان أن التعليل من قول أبي سلمة، وليس مرفوعًا. ورواه صالح بن كيسان، عنه، عن أبي سلمة، وفيه ذكر التعليل مدرجًا، بلفظ: "من أجل أنه أعطاها عطاء وقعت فيه المواريث". ورواه يزيد بن أبي حبيب، عنه، عن أبي سلمة، وليس فيه ذكر التعليل. وهذه الاختلافات لا تضرّ بصحّة الحديث، ولذا أخرج الحديث الإمام مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في "صحيحه" بهذه الألفاظ المختلفة، وغاية ما فيها أن في رواية ابن أبي ذئب جعل التعليل من قول أبي سلمة، فيتبيّن به أنه مدرج في رواية مالك وغيره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3767 -

(أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ .... قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، أَنْبَأَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى، فَهِيَ لَهُ وَلِعَقِبِهِ، يَرِثُهَا مَنْ يَرِثُهُ مِنْ عَقِبِهِ»).

قال الجامع عفا اللَّه تعالىَ عنه: "محمود بن خالد": هو السلميّ الدمشقيّ الثقة [10]. و"عمر": هو ابن عبد الواحد الدمشقيّ، ثقة [9]. و"عمرو بن عثمان": هو الحمصيّ، صدوقٌ [10]. و"عروة": وابن الزبير.

[تنبيه]: القائل: "وأخبرني عمرو بن عثمان الخ": هو المصنف، فهو سند آخر له، فتنبّه.

وقوله: "أعمر" بضمّ أوده مبنيا للمفعول. والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم

بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3768 -

(أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ مُسَاوِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعُمْرَى لِمَنْ أُعْمِرَهَا، هِيَ لَهُ، وَلِعَقِبِهِ يَرِثُهَا مَنْ يَرِثُهُ مِنْ عَقِبِهِ»).

"عيسى بن مُساور": هو أبو موسى البغداديّ، صدوقٌ، من صغار [10] 71/ 2374

ص: 251

من أفراد المصنّف. و"الوليد": هو ابن مسلم، أبو العباس الدمشقيّ. و"أبو عمرو": هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعيّ. و"أبوسلمة": وابن عبد الرحمن بن عوف. والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3769 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَعْلَبَكِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعُمْرَى لِمَنْ أُعْمِرَهَا، هِيَ لَهُ، وَلِعَقِبِهِ، يَرِثُهَا مَنْ يَرِثُهُ مِنْ عَقِبِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن هاشم البعلبكيّ". هو القرشيّ، صدوق، من صغار [10] 3/ 454 من أفراد المصنّف.

[تبيه]: وقع في بعض النسخ "محمد بن هشام" بدل "هاشم"، وهو تصحيفٌ، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3770 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ أَبِي عُمَرَ الصَّنْعَانِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ رَجُلاً عُمْرَى، لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَهِيَ لَهُ، وَلِمَنْ يَرِثُهُ مِنْ عَقِبِهِ مَوْرُوثَةٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن عبد اللَّه بن عبد الرحيم": هو المصريّ

الْبَرْقيّ، ثقة [11] 17/ 1540 من أفراد المصنّف، وأبي داود.

و"عَمْرُو بن أبي سلمة" التِّنِّيسيّ- بمثنّاة، ونون ثقيلة، بعدها تحتانيّة، ثم مهملة- أبو حفص الدمشقيّ، مولى بني هاشم، صدوقٌ له أوهام، من كبار [10].

قال أحمد بن صالح المصريّ: كان حسن المذهب، وكان عنده شيء سمعه من الأوزاعيّ، وشيء عَرَضه، وشيء أجازه له، فكان يقول فيما سمع: حدثنا الأوزاعيّ، ويقول في الباقي: عن الأوزاعيّ. وقال حُميد بن زَنْجويه: لَمّا رجعنا من مصر قال لنا أحمد: مررتم بأبي حفص؟ قلنا: وأيّ شيء عنده؟ إنما عنده خمسون حديثًا، والباقي مناولة، قال: المناولة كنتم تأخذون منها، وتنظرون فيها. وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ضعيف. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به. وقال العقيليّ: في حديثه وهم. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الساجيّ: ضعيف. وقال أحمد: روى عن زُهير أحاديث بواطيل، كأنه سمعها من صدقة بن عبد اللَّه، فغلط، فقلبها عن

ص: 252

زُهير، وساق الساجيّ منها حديثه عن زهير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسلّم تسليمة، وقال عقبه: وقفه الوليد بن مسلم، عن زهير، عن عائشة. قال ابن يونس: كان من أهل دمشق قَدِم مصر، وسكن تنّيس، حدّث عن الأوزاعيّ، وعن مالك بالموطّإ، كان ثقة، تُوفّي بتنّيس سنة (213)، وقال مرّةً: سنة (14)، وقال البخاريّ، عن الحسن بن عبد العزيز الْجَرَويّ: مات قريبًا من سنة (12)، وقال أبو زرعة الدمشقيّ وغيره: مات سنة (14). أخرج له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط، وله عند أبي داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الاستطالة في عِرْض المسلم.

و"أبو عمر الصنعاني": هو حفص بن ميسرة العُقيليّ الصنعانيّ، نزيل عسقلان، ثقة، ربّما وهم [8] 89/ 1346.

وقوله: "أَعَمَر عُمْرَى" ببناء الفعل للفاعل: أي وهب عُمْرَى. وقوله: "موروثة" خبر لمحذوف: أي هي موروثة لورثة الْمُعْمَرِ له. والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3771 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «مَنْ أَعْمَرَ رَجُلاً عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَقَدْ قَطَعَ قَوْلُهُ حَقَّهُ، وَهِيَ لِمَنْ أُعْمِرَ وَلِعَقِبِهِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الليث": هو ابن سعد الإمام المصريّ. وقوله: "فقد قطع قوله حقّه" برفع "قولُه" على الفاعلية، ونصب "حقَّهُ" على المفعولية. يعني أن قوله: أعمرتك عمرى لك ولعقبك يقطع حقّ الرجوع في الهبة؛ لأنها صارت ملكًا للموهوب له، ولعقبه. والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3772 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ عُمْرَى، لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا، لَا تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا؛ لأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً، وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ»)

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح. غير شيخه الحارث، وهو ثقة. والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه

(1)

وفي نسخة: "الميراث".

ص: 253

المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3773 -

(أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ جَابِرًا أَخْبَرَهُ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَضَى أَنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ رَجُلاً عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْمِرَهَا، يَرِثُهَا مِنْ صَاحِبِهَا الَّذِي أَعْطَاهَا، مَا وَقَعَ مِنْ مَوَارِيثِ اللَّهِ، وَحَقِّهِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو حمصيّ ثقة. و"أبواليمان": هو الحكم بن نافع الحمصيّ. و"شعيب": هو أبي حمزة الحمصيّ.

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3774 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَضَى فِيمَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى، لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَهِيَ لَهُ بَتْلَةٌ، لَا يَجُوزُ لِلْمُعْطِي مِنْهَا شَرْطٌ، وَلَا ثُنْيَا، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: لأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً، وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ، فَقَطَعَتِ الْمَوَارِيثُ شَرْطَهُ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو مصريّ فقيه ثقة [11] 120/ 166.

و"ابن أبي فُديك" -بضمّ الفاء مصغرًا -: هو محمد بن إسماعيل بن مسلم المدنيّ، صدوق، من صغار [8] 51/ 962. و"ابن أبي ذئب": هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب العامري المدنيّ، ثقة فقيه فاضل [7] 41/ 685.

وقوله: "بتلة" -بفتح الموحّدة، وسكون المثنّاة الفوقيّة-: أي عطيّةٌ ماضية، غير راجعة إلى الواهب. قاله النوويّ. وقال السنديّ: أي ملك واجبٌ، لا يتطرّق إليه نقص.

وقوله: "للمعطي" بكسر الطاء المهملة، أي للواهب. وقوله:"ولا ثُنيا" -بضمّ الثاء المثلّثة، وسكون النون، مقصورًا، على وزن دُنْيا: اسم بمعنى الاستثناء، أي ليس له أن يردّ منها إلى نفسه شيئًا بشرط أنها له بعد الموت، أو بسب أنه استثنى له منها شيئًا، وجعله له بعد الموت.

والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3775 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا

ص: 254

أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ، أَخْبَرَهُ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ رَجُلاً عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ، قَالَ: قَدْ أَعْطَيْتُكَهَا، وَعَقِبَكَ مَا بَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدٌ، فَإِنَّهَا لِمَنْ أُعْطِيَهَا، وَإِنَّهَا لَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَعْطَاهَا، عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ» ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، حرّانيّ ثقة حافظ. و"يعقوب": وابن إبراهيم بن سعد الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد. و"أبوه": هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ. و"صالح": هو كيسان الغفاريّ المدنيّ.

والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3776 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْعُمْرَى، أَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ، وَلِعَقِبِهِ الْهِبَةَ، وَيَسْتَثْنِى إِنْ حَدَثَ بِكَ حَدَثٌ وَبِعَقِبِكَ، فَهُوَ إِلَيَّ، وَإِلَى عَقِبِى، إِنَّهَا لِمَنْ أُعْطِيَهَا وَلِعَقِبِهِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو وابنُ ماجه، وهو مكيّ ثقة. و"أبوه": هو عبد اللَّه بن يزيد المقرئ، أبو عبد الرحمن المكيّ بصريّ الأصل، أو الأهواز الثقة الفاضل، أقرأ القرآن نيّفًا وسبعين سنة [9] 4/ 746.

و"سعيد": وابن أبي أيوب مِقْلاص الخزاعيّ، أبو يحيى المصريّ الثقة الثبت [7]

27/ 1880. و"يزيد بن أبي حبيب سُويد" المصريّ الفقيه الثقة [5] 134/ 207.

والحديث أخرجه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

ص: 255

‌2 - (ذِكْرُ اخْتِلَافِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى أَبِي سَلَمَةَ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وجه الاختلاف المذكور أن يحيى رواه عن أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه، ورواه محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولكن هذا الاختلاف لا يضرّ بصحة الحديث، فإنه ثابتٌ مرويّ عنهما جميعًا، ولذا أخرجه الشيخان من حديثهما، لكن حديث أبي هريرة رضي الله عنه من طريق النضر بن أنس، عن بَشير بن نهِيك، عنه، وهي الرواية الخامسة عند المصنّف في هذا الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3777 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ

(1)

، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا، يَقُولُ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح. و"خالد بن الحارث": هو الهُجيميّ البصريّ. و"هشام": وابن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ البصريّ.

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3778 -

(أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ دُرُسْتَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ، حَدَّثَهُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "يحيى بن درست" -بضمتين، وسكون المهملمة- البصريّ، ثقة [10] 23/ 24. و"أبو إسماعيل": هو إبراهيم بن عبد الملك القّنَّاد البصريّ، صدوقٌ في حفظه شيء [7] 24/ 23. و "يحيى": وابن أبي كثير.

والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

وفي نسخة: "أبو سلمة بن عبد الرحمن".

ص: 256

3779 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ

(1)

مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا عُمْرَى، فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح. و"إسماعيل": وابن جعفر بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ المدنيّ. و"محمد": هو ابن عمرو بن علقمة بن وقّاص الليثيّ المدنيّ.

[تنبيه]: وقع في بعض النسخ: "أخبرنا إسماعيل بن محمد" وهو غلطٌ تصحّفت فيه كلمة "عن" إلى "ابن"، وهو تصحيف فاحش، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث صحيح، تفرّد به المصنّف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3780 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، وَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح. و"إسحاق بن إبراهيم": وابن راهويه. و"عيسى": وابن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ. و"عبدة ابن سليمان": هو الكلابيّ الكوفيّ.

وقوله: "من أُعمر الخ" ببناء الفعل للمفعول. والحديث صحيح، تفرد به المصنّف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3781 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْعُمْرَى جَائِزَةٌ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح. و"محمد": هو ابن جعفر غندر. و"النضر بن أنس": هو أبو مالك البصريّ، ولد أنس بن مالك الأنصاريّ الصحابي الشهير رضي الله عنه، ثقة [3] 2/ 3393. و"بَشِير بن نهَيك" -بفتح النون، وكسر الهاء، آخره كاف- السدوسيّ، أبو الشعثاء البصريّ، ثقة [3] 141/ 1107. والسند مسلسلٌ بالبصريين، غير أبي هريرة رضي الله عنه، فمدنيّ، وشيخ المصنّف هو أحد مشايخ الستة الذين يروون عنهم بلا واسطة، وهم تسعة، وقد تقدّموا غير مرّة. والحديث متّفقٌ عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو

(1)

وفي نسخة: "ثنا".

ص: 257

حسبنا، ونعم الوكيل.

3782 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَأَلَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ عَنِ الْعُمْرَى؟ ، فَقُلْتُ: حَدَّثَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ شُرَيْحٍ، قَالَ:"قَضَى نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ الْعُمْرَى جَائِزَةٌ". قَالَ: قَتَادَةُ: قُلْتُ:

(1)

: حَدَّثَنِي

(2)

النَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْعُمْرَى جَائِزَةٌ"، قَالَ: قَتَادَةُ: وَقُلْتُ: كَانَ الْحَسَنُ، يَقُولُ: الْعُمْرَى جَائِزَةٌ، قَالَ قَتَادَةُ: فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّمَا الْعُمْرَى، إِذَا أُعْمِرَ وَعَقِبَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَإِذَا

(3)

لَمْ يَجْعَلْ عَقِبَهُ مِنْ بَعْدِهِ، كَانَ لِلَّذِي يَجْعَلُ شَرْطَهُ، قَالَ قَتَادَةُ: فَسُئِلَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ؟، فَقَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْعُمْرَى جَائِزَةٌ"، قَالَ قَتَادَةُ: فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ الْخُلَفَاءُ لَا يَقْضُونَ

(4)

بِهَذَا، قَالَ عَطَاءٌ: "قَضَى بِهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح.

وقوله: "إذا أُعمر، وعَقِبَه من بعده""أُعمِرَ" بالبناء للمفعول، و"عقبَه" بالنصب على المعية، ولا يصحّ الرفع بالعطف على الضمير المرفوع في "أُغمِر"؛ لعدم التأكيد والفصل. كذا قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: العطف بلا فاصل ضعيف، وليس ممتنعًا قطعًا، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْع مُتْصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ مَا وَبِلَا فَصْل يَرِدْ

فِي النَّظمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

وقال في "باب المفعول معه":

وَالْعَطْفُ إِنْ يُمْكِنْ بِلَا ضُعْفٍ أَحَقُّ

وَالنَّصْبُ مُخْتَارٌ لَدَى ضُعْفِ النَّسَقْ

فجعله مختارًا، والحاصل أن الرواية إن كانت بالنصب، فذاك؛ لأنه الموافق للجادّة، وإن كانت بالرفع، فله وجه على قلّة. ويمكن أن يُجعل قوله:"وعقبُهُ من بعده" مبتدأ وخبرًا، والجملة في محلّ نصب على الحال، وهذا أقرب. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "فإذا لم يجعل عقبَهُ من بعده" أي إذا لم يذكر عقبه من بعد ذكر المُعمَر له،

(1)

وفي نسخة: "وقلت"، وفي أخرى:"فقلت".

(2)

وفي نسخة: "حدّث".

(3)

وفي نسخة: "وإذا".

(4)

وفي نسخة: "إن الخلفاء لا يقضون"، وفي أخرى:"فكان الخلفاء الخ"

ص: 258

بل اقتصر على ذكره فقط. وقوله: "شرطه" بالرفع اسم كان مؤخّرًا، وخبره الجارّ والمجرور السابق، يعني أنه إذا لم يذكر عقبه من بعده، وشرط أن يرجع إليه بعد موت المعمَر له، فله هذا الشرط الذي شرطه.

وحاصل هذا الكلام أن الزهريّ -رحمه اللَّه تعالى- يرى أن العمرى الواجبة اللازمة هي التي يقول فيها الواهب: هي لك، ولعقبك من بعدك، وأما إذا لم يذكر قوله:"ولعقبك من بعدك" فإنها ترجع للواهب، وقد تقدّم أن الجمهور لا يرون الرجوع في هذه الصورة أيضًا كالأولى، وهو الأرجح، وإنما هذا رأي للزهريّ، واحتجّ بعدم قضاء الخلفاء به، وعارضه عطاء بن أبي رباح بأن من الخلفاء من قضى به، وهو عبد الملك بن مروان، عملاً بظاهر النصّ، وبما عليه جمهور أهل العلم، وهو الحقّ.

وقد تقدّم قول ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى- بعد أن ذكر الاختلاف، ومخالفة القاسم بن محمد في المسألة: ما نصّه: وقول القاسم: لا يُقبل في مخالفة من سمّينا من الصحابة والتابعين، فكيف يُقبل في مخالفة قول سيّد الموسلين صلى الله عليه وسلم، ولا يصحّ أن يدّعَى إجماع أهل المدينة؛ لكثرة من قال بها منهم، وقضى طارق بالمدينة بأمر عبد الملك بن مروان. انتهى. واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "لا يقضون بهذا" أي بهذا الإطلاق، بل يأخذون على وفق التقييد. وقوله:"قضى بها" أي بالعمرى على إطلاقها.

والحديث أخرجه مسلم، مختصرا، دون قصّة هشام، ودون قولي الزهريّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌3 - (عَطِيَّةُ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم البحث في حكم عطية المرأة بغير إذن زوجها لها في "كتاب الزكاة" مستوفًى، وأن الأصحّ، وهو ما عليه أكثر أهل العلم أن النهي في حديث الباب محمولٌ على معنى حسن العشرة، واستطابة نفس الزوج، وقد نُقل عن الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- أن الحديث ليس بثابت، وكيف نقول به، والقرآن يدلّ على خلافه، ثم السنّة، ثم الأثر، ثم العقول. ويمكن أن يكون هذا في موضع

ص: 259

الاختيار، مثل: ليس لها أن تصوم، وزوجها حاضر إلا بإذنه، فإن فعلت جاز صومها، وإن خرجت بغير إذنه، فباعت، جاز بيعها، وقد أعتقت ميمونة رضي الله عنها قبل أن يعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يَعِب ذلك عليها، فدلّ هذا مع غيره على أن الحديث إن ثبت فهو محمول على الأدب والاختيار.

وقال البيهقيّ: إسناد هذا الحديث إلى عمرو بن شُعيب صحيح، فمن أثبت عمرو بن شعيب لزمه إثبات هذا، إلا أن الأحاديث المعارضة له أصحّ إسنادًا، وفيها وفي الآيات التي احتجّ بها الشافعيّ دلالة على نفوذ تصرّفها في مالها دون الزوج، فيكون حديث عمرو بن شعيب محمولًا على الأدب والاختيار، كما أشار إليه الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3783 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، ح وأَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُدَ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ- وَحَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ، هِبَةٌ فِي مَالِهَا، إِذَا مَلَكَ زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا" -اللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ-).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن معمر": هو البحرانيّ القيسيّ البصريّ. و"حبّان" -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة-: وابن هلال البصريّ. و"إبراهيم ابن يونس بن محمد": هو البغداديّ، نزيل طَرَسوس، صدوقٌ [11] 54/ 1753 من أفراد المصنّف. و"أبوه": هو يونس بن محمد البغداديّ المؤدّب، ثقة ثبت، من صغار [9] 15/ 1632.

و"حبيب المعلّم"، أبو محمد البصريّ، مولى مَعقِل بن يسار، وهو حبيب بن أبي قُرَيبة، واسمه زائدة، ويقال: حبيب بن زيد، ويقال: ابن أبي بَقِيّة، صدوقٌ [6].

قال عمرو بن عليّ: كان يحيى لا يُحدّث عنه، وكان عبد الرحمن يُحدّث عنه. وقال أحمد: ما أصحّ حديثه. وقال أحمد، وابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال النسائيّ: ليس بالقويّ. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (130). روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

والحديث صحيح. وقد تقدّم في "كتاب الزكاة" -58/ 2540 - "عطيّة المرأة بغير إذن زوجها"، وتقدّم هناك شرحه، وتخريجه، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3784 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ

ص: 260

الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، أَنَّ أَبَاهُ، حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ح وأَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ:"لَا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "خالد": وابن الحارث الْهُجَيميّ. والحديث صحيح، سبق القول فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3785 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ هَانِئٍ، عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلْقَمَةَ الثَّقَفِّيِّ، قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ ثَقِيفٍ، عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُمْ هَدِيَّةٌ، فَقَالَ: "أَهَدِيَّةٌ، أَمْ صَدَقَةٌ؟ ، فَإِنْ كَانَتْ هَدِيَّةٌ، فَإِنَّمَا يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَةٌ، فَإِنَّمَا يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ عز وجل"، قَالُوا: لَا، بَلْ هَدِيَّةٌ، فَقَبِلَهَا مِنْهُمْ، وَقَعَدَ مَعَهُمْ يُسَائِلُهُمْ، وَيُسَائِلُونَهُ، حَتَّى صَلَّى الظُّهْرَ مَعَ الْعَصْرِ).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: مناسبة هذا الحديث، والذي بعده للترجمة غير ظاهرة، فليُتأمّل.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هنّاد بن السريّ) التيميّ، أبو السريّ الكوفيّ، ثقة [10] 23/ 25.

2 -

(أبو بكر بن عيّاش) الأسديّ الكوفيّ المقرئ، مشهور بكنيته، والأصحّ أنها اسمه، وقيل: اسمه محمد، أو عبد اللَّه، أو سالم، أو شعبة، أو غير ذلك، ثقة عابد، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح [7] 98/ 127.

3 -

(يحيى بن هانئ) بن عروة المراديّ، أبو داود الكوفيّ، ثقة [5] 33/ 821.

[تنبيه]: وقع في بعض النسخ: "عن يحيى بن أبي هانئ" وهو غلط، فتنبّه.

4 -

(أبو حُذيفة) غير منسوب، يقال: أسمه عبد اللَّه بن محمد الكوفيّ، روى عن عبد الملك بن محمد بن بشير، وعنه يحيى بن هانئ، مجهول [6] تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

5 -

(عبد الملك بن محمد بن بَشِير) الكوفيّ، مجهول [6].

روى عن عبد الرحمن بن علقمة الثقفيّ في قدوم وقد ثَقيف. وعنه أبو حُذيفة الْهُذليّ. قال البخاريّ: لم يتبيّن سماع بعضهم من بعض. روى له المصنّف هذا الحديث الواحد، وقد اختُلف فيه. ضبط ابن ماكولا بشيرًا جدّ عبد الملك بالنون،

ص: 261

والسين المهملة. وقال ابن عديّ: ليس له إلا الشيء اليسير.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى" كلها، و"الكبرى" اسم جدّ عبد الملك "بشير، بموحّدة، وستين معجمة، مكبّرًا، وهو الذي في "تهذيب الكمال" 18/ 399 و"تهذيب التهذيب" 2/ 623 - وضبطه الحافظ في "التقريب" بالنون، والسين المهملة، مصغّرًا، واعتمد في ذلك على ضبط ابن ماكولا، فقد ضبطه هكذا في "الإكمال" فراجعه في جـ1 ص 302. واللَّه تعالى أعلم.

6 -

(عبد الرحمن بن علقمة الثقفيّ) ويقال: ابن أبي علقمة، مختلفٌ في صحبته. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الحديث. وقيل: عن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفيّ، وروى أيضًا عن عبد اللَّه بن مسعود. وعنه أبو صخر جامع بن شدّاد المحاربيّ، وعبد الملك بن محمد بن بشير الكوفيّ، وعون بن أبي جحيفة. قال ابن أبي حاتم، عن أبيه: ليست له صحبة. وقال ابن حبّان: يقال: له صحبة. وقال الدارقطنيّ: لا تصحّ له صحبة، ولا نعرفه. تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلْقَمَةَ الثَّقَفِّيِّ) أنه (قَالَ: قَدِمَ) بكسر الدال المهملة (وَفْدُ ثَقِيفٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُمْ هَدِيَّةٌ) جملة في محلّ نصب على الحال (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَهَدِيَّةٌ، أَمْ صَدَقَةٌ؟) وإنما سألهم عن ذلك ليأكل إن قيل: هديّة، ويترك للصحابة إن قيل. صدقة؛ لأنه لا يأكل الصدقة، وقد تقدّم في "كتاب الزكاة" برقم 2613 - من طريق بهز ابن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أُتي بشيء، سأل عنه، أهدية أم صدقة؟، فإن قيل: صدقة لم يأكل، وإن قيل هدية بسط يده.

(فَإِنْ كَانَتْ هَدِيَّة) بالنصب على أنه خبر "كان"، واسمها ضمير يعود إلى المدفوعة، أي إن كانت المدفوعة إليه صلى الله عليه وسلم هدية (فَإِنَّمَا يُبْتَغَى) بالبناء للمفعول: أي يطلب (بِهَا وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَة) بالنصب على الخبرية، وإعرابه كإعراب سابقه، (فَإِنَّمَا يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ عز وجل) فيه بيان الفرق بين الهديّة والصدقة، وأن الهديّة ما يُقصد به التقرّب إلى المهدَى إليه، والصدقة ما يُقصَد به التقرّب إلى اللَّه عز وجل (قَالُوا: لَا) أي ليس صدقة (بَلْ) هو (هَدِيَّةٌ، فَقَبِلَهَا مِنْهُمْ، وَقَعَدَ مَعَهُمْ يُسَائِلُهُمْ، وَيُسَائِلُونَهُ) وفي نسخة: "يسألهم، ويسألونه"، وفي أخرى:"يسائلهم، ويسألونه". يعني أنهم صلى الله عليه وسلم جلس مع هؤلاء الثقفيين يسالهم عن قومهم، وأوضاع بلدهم، ويسألونه عن أمور دينهم. واللَّه تعالى أعلم (حَتَّى صَلَّى الظُّهْرَ مَعَ الْعَصْرِ) قال السنديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ظاهره أنه جمع بينهما وقتًا، ويلزم منه الجمع بلا سفر، وذلك لأن قدوم الوفد

ص: 262

كان بالمدينة، لا في محلّ السفر، والجمع بلا سفر، لا يجوز عند القائلين به، إلا ببعض الأعذار، وهي غير ظاهرة ههنا، سيّما لتمام الجماعة الحاضرة، فلا بدّ من الحمل على الجمع فعلاً، بأن أخّر الأولى، فصلّاها في آخر وقتها، وقدّم الثانية، فصلّاها في أول وقتها، أو الجمع مكانًا، بمعنى أنه قعد في ذلك المكان، حتى فرغ من الصلاتين، فصلّى الظهر في وقتها، ثم قعد يتحدّث معهم حتى صلّى العصر في ذلك المكان. واللَّه تعالى أعلم. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لا مانع من حمله على ظاهره، فقد صحّ جمعه صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في المدينة، في غير خوف ولا مرض، قد صحّ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، وهو حديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم في "كتاب الصلاة" برقم -589 - وفي رواية مسلم: قيل ابن عبّاس رضي الله عنهما: لم فعل ذلك؟، قال: كي لا يُحرج أمته، وفي رواية: أراد أن لا يُحرج أمته، فدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين تلك الصلوات أحيانًا، بيانًا للجواز، فحمل ما في هذه القصّة إن صحّت على هذا الظاهر لا يبعُد لكنها لا تصح، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

والحديث من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-5/ 3785 - وفي "الكبرى" في 5/ 6593 - وهو حديث ضعيف؛ للجهالة في رواته، كما تقدّم في تراجمهم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3786 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ خُشَيْشُ بْنُ أَصْرَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أَقْبَلَ هَدِيَّةً، إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ، أَوْ أَنْصَارِيٍّ، أَوْ ثَقَفِيٍّ، أَوْ دَوْسِيٍّ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: تقدّم في الحديث الماضي أن مناسة الباب للحديث غير ظاهرة، فليُتأمّل.

ورجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أبو عاصم، خُشيش بن أصرم) النسائيّ، ثقة حافظ [11] 44/ 590.

2 -

(عبد الرزّاق) بن همّام الصنعانيّ، ثقة حافظ مصنف شهير، عمي في آخره، فتغير، وكان يتشيّع [9] 77/ 61.

3 -

(معمر) بن راشد، أبوعروة الصنعاني، ثقة ثبت [7] 10/ 10.

4 -

(ابن عجلان) محمد المدني، صدوق، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة [5] 36/ 40.

5 -

(سعيد) بن أبي سعيد كيسان المقبريّ، أبو سَعْد المدني، ثقة، تغيّر قبل موته

ص: 263

بأربع سنين [3] 95/ 117.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنسائيّ، وعبد الرزاق، ومعمر، فصنعانيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة صلى الله عليه وسلم من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ) وفي نسخة: "أن نبيّ اللَّه" (صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لَقَدْ هَمَمْتُ" من باب قتل، يقال: همَمتُ بالشيء هَمًا: إذا أردته، ولم تفعله. قاله الفيّوميّ. وفي رواية أبي داود من طريق محمد بن إسْحَاقَ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وايم اللَّه، لا أقبل بعد يومي هذا، من أحد هدية، إلا أن يكون مهاجرا قرشيا، أو أنصاريا، أو دوسيا، أو ثقفيا". وقد بين سَبَبَ قوله صلى الله عليه وسلم هذا، في رواية الترمذيّ، من طريق ابن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: أهدى رجل من بني فزارة، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ناقة من إبله، التي كانوا أصابوا بالغابة، فعوّضه منها بعض العوض، فتسخطه، فسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على هذا المنبر، يقول:"إن رجالا من العرب، يُهدِي أحدهم الهديّة، فأُعوِّضه منها بقدر ما عندي، ثم يتسخطه، فيظل يتسخط عليّ، وايم اللَّه، لا أقبل بعد مقامي هذا، من رجل من العرب هدية، إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي". قال أبو عيسى هذا حديث حسن.

وفي رواية أيوب بن مسكين، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، أن أعرابيا أهدى لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بَكْرَةً، فعوّضه منها ست بكرات، فتسخطه، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، ثم قال:"إن فلانا أهدى إلى ناقة، فعوضته منها ست بكرات، فظل ساخطا، ولقد هممت أن لا أقبل هدية، إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي".

(أَنْ لَا أَقْبَلَ هَدِيَّةً إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ) أي إلا ممن لا يطمع في ثوابها بهذا القدر، وقوله: (إلا من قرشيّ، أو أنصاريّ الخ" كلمة "أو" فيه للتعميم، فلا يُفيد منع الجمع بين القبول لهدايا من استثنى، ولا يلزم أن لا يقبل إلا

ص: 264

هدية واحد من هؤلاء، فإذا قبِل هديّة واحد فليس له أن يقبل هديّة الآخر، ومثله قوله

عز وجل: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146].

وقد ذكر السيوطيّ في "شرحه" نقلًا عن الأندلسيّ في "شرح المفصّل"، قال: سئل المزنيّ عن رجل حلف لا يكلّم أحدًا إلا كوفيًا، أو بصريًا، فكلّم كوفيًا وبصريًا؟، فقال: ما أراه إلا حانثًا، فأُنهي ذلك إلى بعض أصحاب أبي حنيفة المقيمين بمصر، فقال: أخطأ المزنيّ، وخالف الكتاب والسنّة، أما الكتاب، فقوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} إلى قوله: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146]، وأما السنّة فقوله صلى الله عليه وسلم:"لقد هممت أن لا أقبل هديّةً إلا من قرشيّ، أو ثقفيّ"، فالمفهوم أن القرشيّ والثقفيّ كانا مستثنيين، فذُكر أن المزنيّ لَمّا سمع بذلك رجع إلى قوله. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

أفإن قلت،: كيف يصحّ، وفيه ابن عجلان، وقد سبق آنفًا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه؟.

[قلت]: إنما صح لشواهده، فمنها ما تقدّم قريبًا من رواية أبي داود، والترمذيّ من طريق ابن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه، وما أخرجه الترمذيّ أيضًا من طريق أيوب بن مسكين، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأيوب -كما في "التقريب" -صدوق، له أوهام، وما أخرجه أحمد 2/ 292 من طريق أبي معشر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأبو معشر اسمه نجيح بن عبد الرحمن، وهو ضعيف. وهذه الطرق، وإن كان فيها مقال، إلا أن مجموعها يصلح لتقوية رواية ابن عجلان. وله أيضًا شاهد من حديث ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنهما - عند ابن حبان (1145) والضياء المقدسي 62/ 281، وسنده صحيح، كما قال الشيخ الألبانيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

(1)

راجع "زهر الربى" 6/ 280.

(2)

راجع "السلسلة الصحيحة" 4/ 253 - 254 رقم الحديث (1684).

ص: 265

والحاصل أن حديث الباب صحيح؛ لما ذُكر، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-5/ 3786 - وفي "الكبرى" 5/ 6594. وأخرجه (د) في "البيوع" 3537 (ت) في "المناقب" 3945 و 3946. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): مشروعيّة قبول الهديّة، وقد ورد النهي عن ردّها، فقد أخرج أحمد في "مسنده" - 1/ 404 - 405، والبخاريّ في "الأدب المفرد" رقم-157 - بسند صحيح، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أجيبوا الداعي، ولا تردّوا الهديّة، ولا تضربوا المسلمين"

(1)

.

(ومنها): مشروعيّة مكافأة المهدي، وقد ورد الأمر بذلك، فقد أخرج أحمد-5342 بإسناد صحيح، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من استعاذ باللَّه فأعيذوه، ومن سألكم باللَّه فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه، فادعوا له، حتى تعلموا أن قد كافأتموه".

(ومنها): أنه يستحبّ عدم قبول الهديّة، إذا كان المهدي طامعًا في العوض، ولا يُرضيه ما يعطيه المهدي إليه، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لقد هممت أن لا أقبل الهديّة إلا من قرشيّ الخ"، فإنه يدلّ على أن شرط قبول الهديّة أن يكون صاحبها قانعًا بما يُعطى.

(ومنها): جواز الإهداء بقصد أخذ العوض، وأنه لا ينقص به فضل الإهداء، بخلاف الصدقة، فإنه لا يؤخذ عليها عوض. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3787 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِلَحْمٍ، فَقَالَ: "مَا هَذَا؟ "، فَقِيلَ: تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: "هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ")

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"إسحاق بن إبراهيم": هو الحنظليّ المعروف بابن راهويه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم في "كتاب الزكاة" -99/ 2614 - "إذا تحوّلت الصدقة"، وقد استوفيتُ شرحه، وبيان مسائله هناك، وللَّه الحمد والمنّة، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

(1)

راجع "إرواء الغليل" للشيخ الألبانيّ 6/ 59 - رقم الحديث 1616.

(2)

يوجد في النسخة الهنديّة هنا: ما نصّه: "آخر كتاب الرقبى، والعمرى".

ص: 266

واستدلال المصنّف به على الترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم قبل هديّة بريرة رضي الله عنها، مع أنه كان لها زوجٌ، فدلّ على أن النهي في حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما المتقدم محمول على حسن المعاشرة، وتطييب خاطر الزوج، كما تقدّم بيانه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌34 - (كِتَابُ الْأَيْمَانِ، وَالنُّذُورِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الأيمان" -بفتح الهمزة- جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة اليد، وأُطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخَذَ كلّ بيمين صاحبه. وقيل: لأن اليد اليمنى من شأنها حفظ الشيء، فسُمّي الحلف بذلك لحفظ المحلوف عَليه، وسمّي المحلوف عليه يميناً لتلبّسه بها. ويُجمع اليمين أيضًا على أَيمُن، كرَغِيفِ وأَرْغُف. وعُرِّفت شرعًا بأنها توكيد الشيء بذكر اسم، أو صفة للَّه تعالى. وهذا أخصر التعاريف، وأقربها. قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: الأصل في مشروعيّة الأيمان الكتاب، والسنّة، والإجماع، أما الكتاب، فقوله سبحانه وتعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} الآية [المائدة: 89]. وقال تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] وأمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بالحلف في ثلاثة مواضع، فقال:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} الآية [يونس: 53]، وقال تعالى:{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} الآية [سبأ: 3]، والثالث:{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} الآية [التغابن: 7].

وأما السنّة فقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إني واللَّه إن شاء اللَّه، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وتحلّلتها"، متّفقٌ عليه. وكان أكثر قسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ومُصَرِّفِ القلوب"، و"مقلّب القلوب"، ثبت هذا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في آي، وأخبار سوى هذين كثيرة. وأجمعت الأمة على مشروعيّة اليمين، وثبوت حكمها، ووضعُها في الأصل لتوكيد المحلوف عليه. انتهى

(2)

.

(1)

"فتح" 13/ 361.

(2)

"المغني" 13/ 435.

ص: 267

و"النُّذور" جمع نَذْر، هو في الأصل مصدر نَذَر ينذِرُ، من باب ضرب، وفي لغة من باب قتل. أفاده الفيّوميّ.

وقال في "القاموس"، و"شرحه": ونذَرَ على نفسه ينذِر -بالكسر- وينذُرُ -بالضمّ- نَذْرًا -بالفتح- ونُذُورًا -بالضم-

(1)

: أوجبه، كانتذر، ونذَرَ ماله، ونذر للَّه سبحانه وتعالى كذا: أو جبه على نفسه تبرّعًا، من عبادة، أو صدقة، أو غير ذلك، وفي الكتاب العزيز:{إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} الآية [آل عمران: 35]، قالته امرأة عمران، أم مريم. قال الأخفش: تقول العرب: نذر على نفسه نذْرًا، ونذرت مالي، فأنا أنذره نذرًا. رواه يونس عن العرب. أو النذر: ما كان وعدًا على شرط، فَعَلي إن شفَى اللَّهُ مريضي كذا، نذْرٌ، وعلى أن أتصدّق بدينارٍ، ليس بنذر. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": وأصله الإنذار، بمعنى التخويف. وعرّفه الراغب بأنه إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر انتهى

(3)

.

وقال ابن الأثير: وقد تكرّر في أحاديث النذر ذكر النهي عنه، وهو تأكيد لأمره، وتحذيرٌ عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجرَ عنه حتى لا يُفعَلَ، لكان في ذلك إبطالا حكمه، وإسقاطُ لزوم الوفاء به، إذ كان بالنهي يصير معصيةً، فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمرٌ لا يجرّ لهم في العاجل نفعًا، ولا يصرِف عنهم ضرًا، ولا يردّ قضاءً، فقال: لا تنذِرُوا على أنكم قد تدركون بالنذر شيئًا لم يُقدّره اللَّه لكم، أو تصرفون به عنكم ما جرى به القضاء عليكم، فإذا نذرتم، ولم تعتقدوا هذا، فأخرجوا عنه بالوفاء، فإن الذي نذرتموه لازم لكم. انتهى

(4)

.

وقال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: الأصل في النذر الكتاب، والسنّة، والإجماع، أما الكتاب، فقول اللَّه عز وجل:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، وقال تعالى:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحجّ: 29]، وأما السنّة، فروت عائشة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللَّه فلا يعصه". رواه البخاريّ، ويأتي للنسائيّ برقم -3833 - وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" - قال عمران: لا أدري ذكر ثنتين، أو ثلاثا، بعد قرنه-

(1)

على هذا ليس "النذور" جمعًا لنذر، بل هو مصدر مفرد، كالقعود، والجلوس، فافهم.

(2)

راجع "القاموس"، وشرحه "تاج العروس" 3/ 561.

(3)

"فتح" 13/ 361.

(4)

"النهاية" 5/ 39.

ص: 268

"ثم يجيء قوم ينذُرون، ولا يَفُون، ويخونون، ولا يؤتمنون، ويشهدون، ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السمن". رواه البخاريّ، ويأتي للنسائيّ برقم -3836. قال: وأجمع المسلمون على صحّة النذر في الجملة، ولزوم الوفاء به. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أنه سقط من النسّاخ كتابة الترجمة بلفظ: "الحلف بمقلّب القلوب"، بدليل أنه موجود هكذا في "الكبرى"، وبدليل الترجمة التالية. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3788 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرُّهَاوِيُّ

(2)

، وَمُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَتْ يَمِينٌ، يَحْلِفُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ").

رجالَ هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرُّهَاوِيُّ) أبو الحسين الثقة الحافظ [11] 38/ 42.

2 -

(مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن سعيد بن مسروق الكندي المسروقي، أبو عيسى الكوفيّ، ثقة، من كبار [11] 74/ 91.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبدي، أبو عبد اللَّه الكوفي، ثقة حافظ [9] 5/ 882.

4 -

(سفيان) بن سعيد الثوري الإمام الحجة الثبت [7] 33/ 37.

5 -

(موسى بن عقبة) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم المدنيّ، ثقة فقيه، إمام في المغازي [5] 96/ 122.

6 -

(سالم بن عبد اللَّه بن عمر) بن الخطاب العدويّ المدنيّ، ثقة ثبت فقيه [3] 23/ 490.

7 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخيه، فالأول من أفراده، والثاني تفرد به هو، والترمذيّ، وابن ماجه. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين إلى سفيان، غير شيخه أحمد، فرُهاويّ، والباقون مدنيون.

(1)

"المغني" 13/ 621. "كتاب النذور".

(2)

"الرُّهاويّ" بالضم: نسبة إلى رُها مدينة بالجزيزة. قاله في "لبّ اللباب" 1/ 363.

ص: 269

(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، موسى، عن سالم. (ومنها): أن سالمًا من الفقهاء السبعة على بعض الأقوال. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العباددة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ سَالِمِ) هكذا في رواية الثوريّ، عن موسى بن عقبة، وكذا قال ابن المبارك، عن موسى بن عُقبة، عند البخاريّ في "القدر"، وهو المحفوظ، وشذّ النفيليّ، فقال:"عن ابن المبارك، عن موسى، عن نافع"، بدل "سالم"، أخرجه أبو داود في رواية ابن داسة. أفاده في "الفتح"

(1)

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما، أنه (كَانَتْ يَمِينٌ) اليمين مؤنثة؛ ولذا أُلحقت التاء بـ "كان". قال الفيّوميّ: ويَمِين الحلفِ أنثى، وتُجمع على أَيمُنٍ، وأَيْمَانٍ. قاله ابن الأنباريّ. قيل: سمّي الحلِفُ يمينًا؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كلُّ واحد منهم بيمينه على يمين صاحبه، فسمّي الحلف يمينًا مجازًا. انتهى.

وقال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: المراد باليمين المحلوف به، و"عليها" بمعنى "بها"،

ثم الظاهر نصب "اليمين" على الخبريّة؛ لأن قوله: "لا، ومقلّب القلوب" قد أُريد به

لفظه، فيجري عليه حكم المعارف، فيتعيّن أن يكون اسم "كانت"، إلا أن يقال:

"كانت" فيها ضمير القصّة. انتهى.

(يَحْلِفُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم) أي كثيرًا ففي رواية البخاريّ من طريق ابن المبارك، عن موسى بن عقبة في "القدر": "كثيرًا ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحلف

"، ومن طريقه أيضًا في "التوحيد": "أكثر ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحلف

". وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر عن الزهريّ، بلفظ: "كان أكثر أيمان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا، ومصرّف القلوب"

("لَا) إما زائدة لتأكيد القسم، كما في قوله تعالى:{لَا أُقْسِمُ} [القيامة: 1]، أو لنفي ما تقدّم من الكلام، مثل أن يقال له: هل الأمر كذا، فيقول:"لا، ومقلّب القلوب". قاله السنديّ.

(وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ) هذا هو المقسَم به.

والمرادَ بتقليبَ القلوب تقليب أعراضها، وأحوالها، لا تقليب ذات القلب. فالمعنى أنه تعالى متصرّف في قلوب عباده بما شاء، لا يمتنع عليه شيء منها، ولا تفوته إرادة.

وقال الكرمانيّ: ما معناه: كان يحتمل أن يكون المعنيُّ بقوله: "مقلّب القلوب" أن يجعل القلب قلبًا، لكن مظانّ استعماله تنشأ عنه، ويستفاد منه أن أعراض

(1)

"فتح" 13/ 356. "كتاب القدر".

ص: 270

القلب، كالإرادة وغيرها بخلق اللَّه تعالى، وهي من الصفات الفعليّة، ومرجعها إلى القدرة. انتهى

(1)

.

وقال الراغب الأصفهانيّ: قَلبُ الشيء: تصريفه، وصرفه عن وجه إلى وجه، كقلب الثوب، وقلب الإنسان، أي صرفه عن طريقته. قال: وتقليب القلوب والبصائر: صرفها من رأي إلى رأي، والتقلُّبُ: التصرُّفُ. قال تعالى. {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} الآية [النحل: 46]. وقلب الإنسان سُمي به؛ لكثرة تقلّبه.

وُيعبّر بالقلب عن المعاني التي يختصّ بها، من الروح، والعلم، والشجاعة، وقوله تعالى:{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} الآية [الأحزاب: 10] أي الأرواح، وقوله تعالى:{لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} الآية [ق: 37] أي علمٌ، وفهمٌ، وقوله تعالى:{وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} الآية [الأنفال: 10]، أي تثبت به شجاعتكم، ويزول خوفكم. انتهى الراغب

(2)

.

وقال القاضي أبو بكر بن العربيّ: القلب جزء من البدن، خلقه، وجعله للإنسان محلّ العلم، والكلام، وغير ذلك، من الصفات الباطنة، وجعل ظاهر البدن محلّ التصرّفات الفعليّة والقوليّة، ووكل بها ملكًا يأمر بالخير، وشيطانًا يأمر بالشرّ، فالفعل بنوره يهديه، والهوى بظلمته يُغويه، والقضاء والقدر مسيطرٌ على الكلّ، والقلب يتقلّب بين الخواطر الحسنة والسيّئة، واللِّمَّة من الملك تارة، ومن الشيطان أخرى، والمحفوظ من حفظه اللَّه تعالى انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 1/ 3788 و 3789 - وفي "الكبرى" 2/ 4703 و 3/ 4704. وأخرجه (خ) في "القدر" 6617 و"الأيمان والنذور" 6627 و"التوحيد" 7391 (د) في "الأيمان والنذور" 3263 (ت) في "الأيمان والنذور" 1540 (في) في "الكفارات" 2092 (أحمد)

(1)

"فتح" 15/ 330 "كتاب التوحيد". رقم الحديث 7391.

(2)

"مفرات ألفاظ القرآن" ص 681 - 682.

(3)

راجع "الفتح" 13/ 374.

ص: 271

في "مسند المكثرين" 5345 و 6074. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): أن فيه دلالة على مشروعيّة الحَلِفِ على الشيء؛ تأكيدًا له. (ومنها): استحباب الحلف بقوله: "لا، ومقلّب القلوب". (ومنها): أن فيه أن أعمال القلوب من الإرادات، والدواعي، وسائر الأعراض بخدق اللَّه تعالى. (ومنها): أن فيه جواز تسمية اللَّه تعالى بـ "مقلّب القلوب"، و "مصرّف القلوب"، ونحو ذلك مما ثبت من صفاته تعالى في الكتاب والخبر الصحيح، وإن لم يتواتر، على الوجه الذي يليق به. (ومنها): إثبات

صفة التقليب للَّه سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله. (ومنها): أن في الحديث حجةً لمن أوجب الكفّارة على من حلف بصفة من صفات اللَّه تعالى، فحنث، ولا نزاع في أصل ذلك، وإنما الخلاف في أيُّ صفة تنعقد بها اليمينُ؟، والتحقيق أنها مختصّة بالتي لا يُشاركه فيها غيره، كمقلّب القلوب. (ومنها): ما قاله القاضي أبو بكر بن العربيّ -رحمه اللَّه تعالى-: في الحديث جواز الحلف بأفعال اللَّه تعالى، إذا وُصف بها، ولم يُذكر اسمه، قال: وفرّق الحنفيّة بين القدرة والعلم، فقالوا: إن حلف بقدرة اللَّه انعقدت يمينه، وإن حلف بعلم اللَّه، لم تنعقد؛ لأن العلم يُعبّر به عن المعلوم، كقوله تعالى:{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} الآية [الأنعام: 148].

والجواب أنه هنا مجازٌ، إن سُلّم أن المراد به المعلوم، والكلام إنما هو في الحقيقة انتهى

(1)

. (ومنها): ما قال البيضاويّ: في نسبة تقليب القلوب إلى اللَّه تعالى إشعارٌ بأنه يتولى قلوب عباده، ولا يكلها إلى أحد من خلقه. وفي دعائه صلى الله عليه وسلم "يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك" إشارة إلى شمول ذلك للعباد حتى الأنبياء، ورفع توهّم من يتوهّم أنهم يُستثنَون من ذلك، وخصّ نفسه بالذكر إعلامًا بأن نفسه الزكيّة إذا كانت مفتقرةً إلى أن تلجأ إلى اللَّه سبحانه وتعالى، فافتقار غيرها ممن هو دونه أحقّ بذلك

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

(1)

راجع "الفتح" 13/ 374 "كتاب الأيمان والنذور".

(2)

راجع "الفتح" 15/ 5330 "كتاب التوحيد".

ص: 272

‌2 - (الْحَلِفُ بِـ"مُصَرِّفِ الْقُلُوبِ")

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الْحَلِفُ" -بفتح الحاء المهملة، وكسر اللام، وتسكّن تخفيفًا، مصدر حَلَف، يقال: حلَفتُ باللَّه حَلِفًا، وتؤنّث الواحدة بالهاء، فيقال: حَلِفةٌ، ويقال في التعدّي أحلفته إحلافًا، وحلّفته تحليفًا، واستحلفته. قاله الفيّوميّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3789 -

(أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، أَبُو يَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا، "لَا، وَمُصَرِّفِ الْقُلُوبِ").

قَالَ الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، و"محمد بن يحيى بن عبد اللَّه": هو الذهليّ النيسابوريّ الحافظ الشهير [11] 196/ 314.

و"محمد بن الصَّلْت، أبو يعلى" البصريّ التَّوَّزيّ -بفتح المثنّاة، وتشديد الواو، بعدها زاي- أصله من تَوَّز، ويقال: جَوَّز بالجيم: بلدة بفارس- صدوق يَهِم [10].

قال أبو حاتم: صدوقٌ كان يُملي علينا من حفظه التفسير وغيره، وربّما وهِم. وقال الدارقطنيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (228). وقال ابن حزم: مجهول. روى عنه البخاريّ حديثين، والمصنّف بواسطة محمد بن يحيى الذهليّ هذا الحديث فقط.

و"عبد اللَّه بن رجاء": هو أبو عمران البصريّ، نزيل مكة، ثقة تغيّر حفظه قليلًا، من صغار [8] 193/ 3002.

و"عبّاد بن إسحاق": هو عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد اللَّه بن الحارث بن كنانة المدنيّ، صدوقٌ، رُمي بالقدر [6].

والحديث حسنٌ، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

ص: 273

‌3 - (الْحَلِفُ بِعِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى)

3790 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، أَرْسَلَ جِبْرِيلَ عليه السلام إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَالَ: انْظُرْ إِلَيْهَا، وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَرَجَعَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَأَمَرَ بِهَا، فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهَا، فَانْظُرْ إِلَيْهَا، وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ، قَالَ: اذْهَبْ، فَانْظُرْ إِلَى النَّارِ، وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَرَجَعَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ، لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ، فَأَمَرَ بِهَا، فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، فَقَالَ: ارْجِعْ، فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ ،قَدْ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، فَرَجَعَ، وَقَالَ: وَعِزَّتِكَ، لَقَدْ خَشِيتُ، أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ، إِلَّا دَخَلَهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إسحاق بن إبراهيم) الحنظليّ المروزيّ المعروف بابن راهويه، ثقة ثبت فقيه [10] 2/ 2.

2 -

(الفضل بن موسى) السِّينانيّ، أبو بو عبد اللَّه المروزيّ، ثقة ثبت، ربما أغرب، من كبار [9] 83/ 100.

3 -

(محمد بن عمرو) بن علقمة بن وقّاص الليثيّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهام [6] 16/ 17.

4 -

(أبوسلمة) بن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ الفقيه [3] 1/ 1.

5 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فمروزيان. (ومنها): أن فيه أبا سلمة من الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 274

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ عليه السلام إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَالَ: انْظُرْ إِلَيْهَا، وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا) أي من النعيم المقيم، والعزّ المسنديم (فَنَظَرَ) جبريل (إِلَيْهَا، فَرَجَعَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ) هذا محلّ الشاهد، حيث أقسم جبريل عليه السلام بعزة اللَّه تعالى، فدلّ على مشروعيّة القسم بعزّة اللَّه تعالى.

(لَا يَسْمَعُ بِهَا) أي بصفات الجنَّة، وبما أُعدّ فيها من أنواع النعيم المقيم، وأصناف العزّ المستديم (أَحَدٌ، إِلاَّ دَخَلَهَا) قال السنديّ: يريد أن مقتضى ما فيها من اللذّة، والخير، والنعمة أن لا يتركها أحدٌ سمع بها في أيّ نعمة كان، ولا يَمْنَعُ عنها شيء من النعم، ولا يستغني عنها أحد بغيرها أيَّ شيء كان، والمطلوب مدحها، ومدح ما أُعدّ فيها، وتعظيمها، وتعظيم ما فيها، وأنها دارٌ لا يساويها دارٌ، وليس المراد الحقيقة، حتّى يقال: يلزم أن يكون جبريل بهذا الحلف حانثًا، ويكون في هذا الخبر كاذبًا، وهذا ظاهرٌ. ويحتمل أن المراد: لايسمع بها أحدٌ إلا دخلها، إن بقيت على هذه الحالة. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاحتمال الثاني هو الصواب، وأما الاحتمال الأول، ففيه نظر لا يخفى، فإن أسلوبه غير لائق بالمقام، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(فَأَمَرَ) اللَّه سبحانه وتعالى. وفي نسخة: "وأمر"(بِهَا) أي بالجنة (فَحُفَّتْ) بالحاء المهملة، والفاء، والبناء للمفعول، من الحَفَاف، وهو ما يُحيط بالشيء، حتى لا يُتوصل إليه إلا بتخطّيه، فالجنة لا يُتوصّل إليها إلا بقطع مفاوز المكاره، والنار لا يُنجَى منها إلا بترك الشهوات

(1)

(بِالْمَكَارِهِ) جمع مكروه، كما في "اللسان".

قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: أي جُعلت سبل الوصول إليها المكارهَ والشدائد على الأنفس، كالصوم، والزكاة، والجهاد، ولعلّ لهذه الأعمال وجودًا مثاليًا ظهر بها في ذلك العالم، وأحاطت الجنة من كلّ جانب، وقد جاء الكتاب والسنّة بمثله، ومن جملة ذلك قوله تعالى:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ -أي المسميات- عَلَى الْمَلَائِكَةِ} [البقرة: 31]، ومعلومٌ أن فيها المعقولات، والمعدومات. واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهَا، فَانْظُرْ إِلَيْهَا، وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ

(1)

"فتح" 13/ 117.

(2)

"شرح السنديّ" 7/ 3 - 4.

ص: 275

(قَدْ حُفَّتْ) وفي نسخة: "حُجِبت"(بِالْمَكَارِهِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ) أي لصعوبة الوصول إليها، حيث حُفّت بالمكاره (قَالَ) سبحانه وتعالى (اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَى النَّارِ، وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا) من السعير، والشرّ المستطير (فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ

(1)

بَعْضُهَا بَعْضًا) أي يعلو بعضها على بعض، حتى يأكله، وهو بمعنى الحديث الآخر في "كتاب الكسوف"، حيث قال صلى الله عليه وسلم: ولقد رأيت جهنّم يَحطِم بعضُها بعضا

" (فَرَجَعَ) جبريل عليه السلام إلى ربه عز وجل (وَعِزَّتِكَ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ) أي لما بها من شدة العذاب (فَأَمَرَ) سبحانه وتعالى (بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ) أي أحيطت بالأمور التي تشتهيها النفس، من لذات المعاصي، والمخالفات (فَقَالَ: سبحانه وتعالى لجبريل: ارْجِعْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ، قَدْ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، فَرَجَعَ، وَقَالَ: وَعِزَّتِكَ، لَقَدْ خَشِيتُ، أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ، إِلَّا دَخَلَهَا) قال السنديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: الظاهر أن جملة "إلا دخلها" حال بتقدير "قد" مستثنى من عموم الأحوال، ولا يخفى أنه لا يُتصوَّر النجاة فيها إذا دخلها، فالاستثناء من قبيل التعليق بالمستحيل، أي لا ينجو منها أحدٌ في حال إلا حال دخوله فيها، وهو مستحيلٌ، فصارت النجاة مستحيلةً، وقد قيل بمثله في قوله تعالى:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 25، 26]، وقوله تعالى:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] انتهى

(2)

.

[تنبيه]: هذا الحديث أخرجه البخاريّ في "صحيحه" مختصرًا، فقال في "كتاب الرِّقاق" -6487 - : حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"حُجبت النار بالشهوات، وحُجبت الجنّة بالمكاره".

فقال في "الفتح": قوله: "حجبت" كذا للجميع في الموضعين، إلا الفرويّ، فقال:"حُفّت" في الموضعين، وكذا هو عند مسلم من رواية ورقاء بن عمر، عن أبي الزناد، وكذا أخرجه مسلم، والترمذيّ من حديث أنس رضي الله عنه. وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وبديع بلاغته في ذمّ الشهوات، وإن مالت إليها النفوس، والحضّ على الطاعات، وإن كرهتها النفوس، وشقّ عليها، وقد ورد إيضاح ذلك من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، فأخرج أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن حبّان، والحاكم، من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه: "لَما خلق اللَّه الجنّة

، فذكر حديث الباب، ثم قال: فهذا يفسّر

(1)

وفي نسخة: "يتركّب" ولعله تصحيف.

(2)

"شرح السنديّ" 7/ 4.

ص: 276

رواية الأعرج، فإن المراد بالمكاره هنا ما أُمر المكلّف بمجاهدة نفسه فيه فعلاً، وتركًا، كالإتيان بالعبادات على وجهها، والمحافظة عليها، واجتناب المنهيّات قولاً وفعلاً، وأطلق المكاره لمشقّتها على العامل، وصعوبتها عليه، ومن جملتها الصبر على المصيبة، والتسليم لأمر اللَّه فيها.

والمراد بالشهوات ما يُستلذّ من أمور الدنيا، مما منَعَ الشرع من تعاطيه، إما بالأصالة، وإما لكون فعله يستلزم ترك شيء من المأمورات، ويلتحق بذلك الشبهات، والإكثار مما أبيح، خشيةَ أن يوقع في المحرم، فكأنه قال: لا يُوصل إلى الجنّة إلا بارتكاب المشقّات، المعبّر عنها بالمكروهات، ولا إلى النار إلا بتعاطي الشهوات، وهما محجوبتان، فمن هتك الحجاب اقتحم.

ويحتمل أن يكون هذا الخبر، وإن كان بلفظ الخبر، فالمراد به النهي

(1)

.

وقال ابن العربيّ: معنى الحديث أن الشهوات جُعلت على حفافي النار، وهي جوانبها، وتوهّم بعضهم أنها ضرب بها المثل، فجعلها في جوانبها من خارج، ولو كان ذلك ما كان مثلاً صحيحًا، وإنما هي من داخل، وهذه صورتها:

(2)

فمن اطّلع الحجاب، فقد واقع ما وراءه، وكلّ من تصوّرها من خارج، فقد ضلّ عن معنى الحديث. ثم قال: فإن قيل: فقد جاء في البخاريّ: "حُجبت النار بالشهوات"، فالجواب أن المعنى واحد؛ لأن الأعمى عن التقوى الذي قد أخذت الشهوات سمعه، وبصره يراها، ولا يرى النار التي هي فيها، وذلك لاستيلاء الجهالة، والغفلة على قلبه، فهو كالطائر يرى الحبّة في داخل الفخّ، وهي محجوبةٌ به، ولا يرى الفخّ لغلبة شهوة الحبّة على قلبه، وتعلّق باله بها.

قال الحافظ: وقد بالغ كعادته في تضليل من حمل الحديث على ظاهره، وليس ما قاله غيره ببعيد، وأن الشهوات على جانب النار من خارج، فمن واقعها، وخرق الحجاب دخل النار، كما أن الذي قاله القاضي محتمل. واللَّه أعلم. انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه البخاريّ.

(1)

هكذا العبارة في "الفتح" 13/ 117 - وفيها ركاكة، ولعلّ الصواب (مرادًا به النهي"، فتأمل.

(2)

راجع الرسم في "الفتح" 13/ 117 "كتاب الرقاق".

(3)

"فتح" 13/ 117 "كتاب الرِّقَاق".

ص: 277

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-3/ 3790 - وفي "الكبرى" 1/ 4702. وأخرجه (خ) في "الرقاق" 6487 مختصرًا (د) في "السنّة" 4744 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 27512 و 8434 و 8644. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو جواز الحلِف بعزّة اللَّه تعالى. قال في "الفتح": ما حاصله: إن الأيمان تنقسم إلى صريح، وكناية، ومتردّد بينهما، وهو الصفات، وأنه اختُلف هل يلتحق بالصريح، فلا يحتاج إلى قصد، أو لا، فيحتاج، والراجح أن صفات الذات منها تلتحق بالصريح، فلا تنفع معها التورية، إذا تعلّق به حقّ آدميّ، وصفات الفعل تلتحق بالكناية، فعزّة اللَّه من صفات الذات، وكذا جلاله، وعظمته. قال الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- فيما أخرجه البيهقيّ في "المعرفة": من قال: وحقّ اللَّه، وعظمة اللَّه، وجلال اللَّه، وقدرة اللَّه، يريد اليمين، أو لا يريده، فهي يمين. انتهى. وقال غيره: والقدرة تحتمل صفة الذات، فتكون اليمين صريحة، وتحتمل إرادة المقدور، فتكون كناية، كقول من يتعجّب من الشيء: انظر إلى قدرة اللَّه، وكذا العلم، كقوله: اللَّهم اغفر لنا علمك فينا، أي معلومك. انتهى

(1)

.

(ومنها): أن الجنّة والنار مخلوقتان اليوم، وقد دنت الأدلة من الكتاب والسنّة على ذلك، وزعمت المعتزلة أنهما يُخلَقان يوم الجزاء، وهو مذهب باطلٌ، منابذ للنصوص الصحيحة الصريحة. (ومنها): منقبة جبريل عليه السلام، حيث إنه هو المرسل إلى الأمور المهمّة. (ومنها): إثبات كلام اللَّه عز وجل، يكلّم من شاء من ملائكته، وأنبيائه إذا شاء. (ومنها): صعوبة الوصول إلى الجنّة، حيث إنها محفوفة بالمكاره، فلا يصل إليها إلا من أزال تلك الحجب، ولن يكون ذلك إلا ممن وفقه اللَّه تعالى للطاعات، وجنّبه المعاصي والزلات، فالسعيد هو الموفّق، وققنا اللَّه تعالى لكلّ خير، وجنّبنا كلّ ضير. (ومنها): قرب النار، وأن الوصول إليها أمر لا عُسر فيه، حيث إنها محفوفةٌ بشهوات النفس، و {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53]، اللَهنم أجرنا من النار. اللهم إنا نسألك الجنّة، وما قرّب إليها من قول، وعمل، ونعوذ بك من النار، وما قرّب إليها، من قول، وعمل. برحمتك يا أرحم الراحمين. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(1)

"فتح" 13/ 396.

ص: 278

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌4 - (التَّشْدِيدُ فِي الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى)

3791 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ -وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلَا يَحْلِفْ إِلَّا بِاللَّهِ"، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا، فَقَالَ: "لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عليّ حجر) السعديّ المروزيّ، ثقة حافظ، من صغار [9] 13/ 13.

2 -

(إسماعيل بن جعفر) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرقي المدنيّ، ثقة ثبت [8] 16/ 17.

3 -

(عبد اللَّه بن دينار) العدويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة [4] 167/ 260.

4 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من رباعيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو (183) من رباعيات الكتاب. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فمروزي. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد العبادلة الأربعة، وقد أشار إليهم الحافظ السيوطيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "ألفيّة الحديث" بقوله:

وَالحَبْرُ وَابْنَا عُمَرٍ وَعَمْرِو

وَابْنُ الزُّبَيْرِ فِي اشتِهَارٍ يَجْرِي

دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَهُمْ عَبَادِلَة

وَغَلَّطُوا مَنْ غَيْرَ هَذا مَالَ لَهْ

وهو أحد المكثرين السبعة، المجموعين في قولي:

المُكثِرُونَ فِي رِوايَةِ الْخَبَرْ

مِنَ الصَّحَابَةِ الأَكَابِرِ الْغُرَرْ

أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ

فَأَنَسٌ فَزَوْجةُ الهَادِيَ الأَبَرُّ

ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ يَلِيهِ جَابِرُ

وَبَعْدَهُ الخُدْرِيُّ فَهْوَ الآخِرُ

ص: 279

روى (2630) حديثًا، وهذا كله قد تكرر في هذا الشرح غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن كَانَ حَالِفًا) أي مريدًا للحدف (فَلَا يَحلِف إِلَّا بِاللَّهِ) قال العلماء: السرّ في النهي عن الحلف بغير اللَّه أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي للَّه وحده. وظاهر الحديث يقتضي تخصيص الحلف باللَّه خاصة، لكن اتفق الفقهاء على أن اليمين تنعقد باللَّه، وذاته، وصفاته العليّة، واختلفوا في انعقادها ببعض الصفات، كما سبق، وكأن المراد بقوله: "باللَّه" الذات، لا خصوص لفظ "اللَّه"، وأما اليمين بغير ذلك، فقد ثبت المنع منها، وهو للتحريم على الأرجح، وسيأتي البحث فيه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

(وَكَانَتْ قُرَيْشٌ) القبيلة المعروفة (تَحْلِفُ بِآبَائِهَا، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ) وفي الرواية التالية: "إن اللَّه ينهاكم أن تحلفوا بأبائكم". وفي رواية الليث، عن نافع عند البخاريّ:"فناداهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ". ووقع في مصنّف ابن أبي شيبة من طريق عكرمة، قال:"قال عمر. حدّثتُ قومًا حديثًا، فقلت: لا وأبي، فقال رجلٌ من خلفي: لا تحفلوا بآبائكم، فالتفتْ، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك، والمسيح خير من آبائكم". قال الحافظ: وهذا مرسل يتقوّى بشواهده. وقد أخرج الترمذيّ من وجه آخر، عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يقول: والكعبةِ، فقال: لا تحلف بغير اللَّه، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"من حلف بغير اللَّه فقد كفر"، أو "أشرك". قال الترمذيّ: حسنٌ، وصححه الحاكم. والتعبير بقوله:"فقد كفر"، أو "أشرك" للمبالغة في الزجر، والتغليظ في ذلك، وقد تمسّك به من قال بتحريم ذلك، وهو الحقّ، كما سيأتي في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-4/ 3791 و 3792 و 5/ 3793 و 3794 و 3795 - وفي "الكبرى" 4/

ص: 280

4705 و 4706 و 5/ 4707 و 4708 و 4709. وأخرجه (خ) في الشهادات" 2679 و"المناقب" 3836 و"الأدب" 6108 و"الأيمان والنذور" 6646 و 6647 و "التوحيد" 7401 (م) في "الأيمان والنذور" 1646 (د) في "الأيمان والنذور" 3249 (ت) في "النذور والأيمان" 1533 و 1534 و 1535 (في) في "الكفّارات" 2094 (أحمد) في "مسند العشرة" 113 و 242 و 4509 و 4534 و 4579 و 4653 و 4689 و 5439 و 5568 و 6036 و 6252 (الموطأ) في "النذور والأيمان" 1037. واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: هذا الحديث روي من مسند عمر، ومن مسند ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -، قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: أخرجه من الطريق الأولى -يعني كونه عن عمر رضي الله عنه مسلم، وأبو داود من رواية أبي الحسن بن العبد من هذا الوجه من طريق عبد الرزّاق، عن معمر، واتّفق الشيخان من طريق يونس بن يزيد، وأخرجه مسلم من رواية عُقيل بن خالد، والنسائيّ-5/ 3767 - وابن ماجه من رواية ابن عيينة، والنسائيّ- 5/ 3768 - من رواية الزبيديّ، أربعتهم عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، عن عمر، وفي رواية عُقيل:"ما حلفت بها منذ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، ولا تكلمت بها"؛ ولم يقل: "ذاكرًا، ولا آثرًا".

وأخرجه من الطريق الثانية -يعني كونه عن ابن عمر- مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ- 5/ 2766 - من هذا الوجه من رواية سفيان بن عُيينة، عن الزهريّ، بن سالم، عن أبيه. وذكره البخاريّ تعليقًا، فقال: بعد ذكر الطريق الأولى: تابعه عُقيلٌ، والزُّبيديّ، وإسحاق الكلبيّ، عن الزهريّ. وقال ابن عيينة، ومعمر، عن الزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر، سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمر. انتهى.

وقد ظهر بذلك الاختلاف على سالم، أو الزهريّ في أن الحديث في مسند عمر، أو ابن عمر، والاختلاف على ابن عيينة أيضًا، فالجمهور جعلوه من طريقه من مسند ابن عمر، حكاه عنهم الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح الترمذيّ". ورواه محمد ابن عبد اللَّه بن يزيد المقرئ، وسعيد بن عبد الرحمن المخزوميّ، ومحمد بن يحيى ى بن أبي عمر عنه بإثبات عمر.

وأخرجه من الطريق الثالثة -يعني طريق نافع- البخاريّ، من طريق مالك، والشيخان من طريق الليث بن سعد، ومسلم، والترمذيّ، والنسائيّ في "الكبرى" من طريق عبيد اللَّه بن عمر، ومسلم أيضًا من طريق أيوب السختيانيّ، والوليد بن كثير، وإسماعيل بن أميّة، والضحّاك بن عثمان، وابن أبي ذئب، وعبد الكريم الجزريّ، تسعتهم عن نافع، عن ابن عمر.

ص: 281

ورواه أبو داود عن أحمد بن يونس، عن زُهير، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر. وجعل المزّيّ في "الأطراف" رواية عبد الكريم الجزريّ عند مسلم بإثبات عمر، وليس كذلك. وقد ظهر الاختلاف فيه على نافع كسالم. انتهى كلام وليّ الدين

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو التشديد في الحلف بغير اللَّه تعالى، وإنما خصّ في حديث عمر بالآباء؛ لوروده على سبب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم مرّ به، وهو يحلف بأبيه، فقال له ذلك. أو خصّ لكونه غالبًا عليهم؛ كما بيّنه في هذه الرواية بقوله:"وكانت قريش تحلف بآبائها، ويدلّ على التعميم قوله: "من كان حالفًا، فلا يحلف إلا باللَّه". وأما ما ورد في القرآن من القسم بغير اللَّه تعالى، فللعلماء فيه جوابان، سيأتي بيانهما قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

(ومنها): أن من حلف بغير اللَّه تعالى مطلقًا لا تنعقد يمينه، وسيأتي تمام البحث فيه أيضًا. (ومنها): أن فيه الردّ على من قال: إن من قال: إن فعلت كذا كذا، فأنا يهوديّ، أو نصرانيّ، أو كافر أنه ينعقد يمينًا، ومتى فعل تجب عليه الكفّارة. وقد نُقل ذلك عن الحنفيّة، والحنابلة. ووجه الدلالة من الخبر أنه لم يحلف باللَّه، ولا بما يقوم مقام ذلك. (ومنها): أن من قال: أقسمت لأفعلنّ كذا، لا يكون يمينًا، وعند الحنفيّة يكون يمينًا، وكذل قال مالك، وأحمد، لكن بشرط أن ينوي بذلك الحلف باللَّه، وهو متّجه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هكذا قال في "الفتح"، وعندي أنه غير متّجه؛ لأنه يصدق عليه أنه حلف بغير اللَّه، ولا تنفعه النيّة المذكورة، وإلا فيلزمنا أن نجيز بالتأويل حلف من قال:"وأبي"، أي أحلف برب أبي، وهو باطلٌ، فتأمل. واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): أن الحلف بالأمانة ليس يمينًا؛ لانتفاء الاسم والصفة، وبه قال الشافعيّ، حكاه عنه الخطّابيّ. قال وليّ الدين: والذي في كتب أصحابنا أنه إذا قال: عليّ أمانة اللَّه لأفعلنّ كذا، وأراد اليمين، فهو يمين، وإن أراد غير اليمين كالعبادات، فليس يمينًا، وإن أطلق فوجهان، أصحّهما أنه ليس يمينًا؛ لتردّد اللفظ، وقد فُسّرت الأمانة في قوله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} الآية [الأحزاب: 72] بالعبادات. وقال المالكيّة: يكره

الحلف بأمانة اللَّه، وفيه الكفارة إن قصد الصفة. وقال الحنابلة: إن قال: وأمانةِ اللَّه،

فهو يمين، وإن قال: والأمانة دم يكن يمينًا إلا أن ينوي صفة اللَّه. وعن أحمد رواية

(1)

"طرح التثريب" 7/ 140 - 142.

ص: 282

أخرى أنه يمين مطلقًا. وحكى الخطّابيّ عن أصحاب الرأي أنه إذا قال: وأمانة اللَّه كان يمينًا، ولزمته الكفّارة فيها. وفي "سنن أبي داود" بإسناد صحيح، عن بريدة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من حلف بالأمانة، فليس يمينًا".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما تقدّم عن الإمام الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى- من أن الحلف بالأمانة ليس يمينا مطلقًا هو الحقّ؛ لدخوله في نهي: "من كان حالفًا، فلا يحلف إلا باللَّه"، وأصرح منه حديث أبي داود المذكور، وهو حديثٌ صحيحٌ، فإنه نصّ في النهي عن الحلف بالأمانة، فلا يجوز. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(ومنها): ما قال المهلّب -رحمه اللَّه تعالى-: كانت العرب تحلف بآبائها، وآلهتها، فأراد اللَّه نسخ ذلك من قلوبهم؛ ليُنسيهم ذكر كلّ شيء سواه، ويبقى ذكره؛ لأنه الحقّ المعبود، فلا يكون اليمين إلا به، والحلف بالمخلوقات في حكم الحلف بالآباء.

(ومنها): ما قال الطبريّ -رحمه اللَّه تعالى-: في حديث عمر رضي الله عنه -يعني حديث الباب- أن اليمين لا تنعقد إلا باللَّه، وأن من حلف بالكعبة، أو آدم، أو جبريل، ونحو ذلك لم تنعقد يمينه، ولزمه الاستغفار؛ لإقدامه على ما نهي عنه، ولا كفّارة في ذلك. وأما ما وقع في القرآن من القسم بشيء من المخلوقات، فقال الشعبيّ: الخالق يُقْسِمُ بما شاء من خلقه، والمخلوق لا يُقسم إلا بالخالق، قال: ولأن أُقسم باللَّه، فاحنث أحبّ إليّ من أُقسم بغيره، فأبرّ. وجاء مثله عن ابن عبّاس، وابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم ثم أسند عن مطرّف، عن عبد اللَّه أنه قال: إنما أقسم اللَّه بهذه الأشياء ليُعَجْبَ بها المخلوقين، ويُعرّفهم قدرته لعظم شأنها عندهم، ولدلالتها على خالقها. وقد أجمع العلماء على أن من وجبت له يمين على آخر في حقّ عليه أنه لا يحلف له إلا باللَّه، فلو حلف له بغيره، وقال: نويت ربّ المحلوف به لم يكن ذلك يمينًا. انتهى.

(ومنها): ما قال ابن هُبيرة -رحمه اللَّه تعالى- في "كتاب الإجماع": أجمعوا على أن اليمين منعقدة باللَّه، وبجميع أسمائه الحسنى، وبجميع صفات ذاته، كعزّته، وجلاله، وعلمه، وقوّته، وقدرته، واستثنى أبو حنيفة علم اللَّه، فلم يره يمينًا، وكذا حقّ اللَّه. واتفقوا على أنه لا يحلف بمعظّم غير اللَّه، كالنبيّ، وانفرد أحمد في رواية، فقال: تنعقد انتهى.

(ومنها): ما قال عياض -رحمه اللَّه تعالى-: لا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الحلف بأسماء اللَّه، وصفاته لا زم، إلا ما جاء عن الشافعيّ من اشتراط نية اليمين في الحلف بالصفات، وإلا فلا كفّارة. وتُعُقّب إطلاقه ذلك عن الشافعيّ، وإنما يحتاج إلى النيّة عنده ما يصحّ إطلاقه عليه سبحانه وتعالى، وعلى غيره، وأما ما لا يُطلق في معرض

ص: 283

التعظيم شرعًا إلا عليه، تنعقد اليمين به، وتجب الكفّارة إذا حنث، كمقلّب القلوب، وخالق، ورازق كلّ حيّ، وربّ العالمين، وفالق الحبّ، وبارىء النسمة، وهذا في حكم الصريح، كقوله: واللَّه. وفي وجه لبعض الشافعيّة أن الصريح اللَّه فقط. ويظهر أثر الخلاف فيما لو قال: قصدت غير اللَّه، هل ينفعه في عدم الحنث.

والمشهور عند المالكيّة التعميم، وعن أشهب التفصيل في مثل وعزّة اللَّه، إن أراد التي جعلها بين عباده، فليست بيمين، وقياسه أن يطّرد في كلّ ما يصحّ إطلاقه عليه، وعلى غيره. وقال به سحنون منهم في عزّة اللَّه. وفي "العتبيّة": أن من حلف بالمصحف لا تنعقد، واستنكره بعضهم، ثم أولها على أن المراد إذا أراد جسم المصحف. والتعميم عند الحنابلة، حتى لو أراد بالعلم، والقدرة المعلوم، والمقدور، انعقدت. ذكره في "الفتح"

(1)

.

(ومنها): ما قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: إن قيل: فقد أقسم اللَّه تعالى بمخلوقاته، فإنه قال تعالى:{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} ، {وَالذَّارِيَاتِ} ، {وَالطُّورِ}. فالجواب أن للَّه تعالى: أن يُقسم بما شاء من مخلوقاته، تنبيهًا على شرفه. انتهى.

قال وليّ الدين. وتعبيره بقوله: "للَّه" منكرٌ، ولو قال: إن اللَّه تعالى يُقسم بما يشاء، لكان أحسن. وفي "مصنّف ابن أبي شيبة"، عن ميمون بن مهران، قال: إن اللَّه تعالى يُقسم بما شاء من خلقه، وليس لأحد أن يُقسم إلا باللَّه. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": وأما ما ورد في القرآن من القسم بغير اللَّه، ففيه جوابان:

[أحدهما]: أن فيه حذفا، والتقدير ورب الشمس، ونحوه.

[والثاني]: أن ذلك يختصّ باللَّه تعالى، فهذا أراد تعظيم شيء من مخلوقاته أقسم به، وليس لغيره ذلك. انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الجواب الثاني هو الصحيح، وأما الأول ففيه نظر لا يخفى. فتأمل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الحلف بغير اللَّه تعالى:

قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-. وقد اختلف العلماء في أن الحلف بمخلوق حرامٌ، أو مكروه، والخلاف عند المالكيّة، والحنابلة، لكن المشهور عند المالكيّة الكراهة، وعند الحنابلة التحريم، وبه قال أهل الظاهر، ويوافقه ما جاء عن ابن عبّاس

(1)

"فتح" 13/ 384.

(2)

"طرح التثريب" 7/ 145.

(3)

"فتح" 13/ 382. "كتاب الأيمان والنذور".

ص: 284

- رضي الله عنهما: "لأن أحلف باللَّه مائة مرّة، فآثم، خيرٌ من أن أحلف بغيره، فأبرّ".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ما قاله الحنابلة، والظاهريّة من أنه للتحريم هو الحقّ؛ لتوافق الأدلّة الصحيحة الصريحة على ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تحلفوا بآبائكم"، وقوله:"من كان حالفًا، فلا يحلف إلا باللَّه"، وقوله:"من حلف بغير اللَّه فقد كفر"، وغير ذلك. واللَّه تعالى أعلم.

وقال ابن عبد البرّ: فيه -يعني حديث الباب- أنه لا يجوز الحلف بغير اللَّه، وهذا أمر مجمع عليه، ثم قال: أجمع العلماء على أن اليمين بغير اللَّه مكروهة، منهيّ عنها، لا يجوز الحلف لأحد بها، واختلفوا في الكفّارة إذا حنث، فأوجبها بعضهم، وأباها بعضهم، وهو الصواب. انتهى.

وقال الشافعيّ: أخشى أن يكون الحلف بغير اللَّه معصيةً، قال أصحابه: أي حرامًا وإثمًا، قالوا: فأشار إلى تردّد فيه، وقال إمام الحرمين: المذهب القطع بأنه ليس بحرام، بل مكروه، ولذا قال النوويّ في "شرح مسلم": هو عند أصحابنا مكروهٌ، وليس بحرام، ويوافقه تبويب الترمذيّ عليه "كراهية الحلف بغير اللَّه".

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حمل كلام الترمذي على الكراهة بمعنى خلاف الأولى غير صحيح، بل مراد الترمذي بهذه العبارة التحريم، وعليك أن تتبّع تراجمه بهذه العبارة في كثير من المحرّمات التي لا خلاف في تحريمها تجده واضحًا، وذلك أن السلف لا يطلقون الكراهة إلا على الحرام، وهو الموافق لكتاب اللَّه؛ فإنه سبحانه وتعالى قال- بعد ذكر عدّة محرّمات، من الشرك، والقتل، والزنا، وغيرها -:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38]، وإنما استعمل الكراهة لخلاف الأولى هم متأخرو الفقهاء، فتنبّه لذلك، فإنه مزلّة أقدام. واللَّه تعالى أعلم.

قال وليّ الدين: وقيد ذلك -أي القول بالكراهة- في "شرح الترمذيّ" بالحلف بغير اللات والعزّى، وملّة غير الإسلام، فأما الحلف بنحو هذا فهو حرامٌ، وكأن ذلك لأنها قد عُظمت بالعبادة. وقد قال أصحابنا: إنه لو اعتقد الحالف بالمخلوق في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في اللَّه تعالى كفر، وعلى هذا يُحمل ما روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من حلف بغير اللَّه، فقد كفر". انتهى.

فمعظّم اللات والعزى كافرٌ؛ لأن تعظيمها لا يكون إلا للعبادة، بخلاف مُعَظِّم الأنبياء، والملائكة، والكعبة، والآباء، والعلماء، والصالحين، لمعنى غير العبادة، لا تحريم فيه، لكن الحلف به مكروه، أو محرّم على الخلاف في ذلك؛ لورود النهي عنه.

وحكمته أن حقيقة العظمة مختصّة باللَّه تعالى، كما قال تعالى: "الكبرياء ردائي،

ص: 285

والعظمة إزاريّ

"

(1)

، فلا ينبغي مضاهات غيره به في الألفاظ، وإن لم تُرَد تلك

العظمة المخصوصة بالإله المعبود.

قال الجامع. قد عرفت فيما سبق أن الحقّ تعميم التحريم، فإن نصوص التحريم لم تفرّق بين الأنبياء، والملائكة، والأصنام، واللات والعزّى، بل قال صلى الله عليه وسلم:"من حلف بغير اللَّه فقد كفر". فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

قال: وأما الحلف بالنصرانيّة، ونحوها، فلا أشكّ في أنه كفر؛ لأن تعظيمها باقي وجه كان يقتضي حقيّتها، وذلك كفر، إلا أن يتأول الحالف أنه أراد تعظيمها حين كانت حقا قبل نسخها، فلا أكفّره حينئذ، ولكن أحكم عليه بالعصيان؛ لبشاعة هذا اللفظ، والتشبه فيه بأهل الكفر والضلال. واللَّه أعلم انتهى كلام الحافظ العراقيّ.

قال وليّ الدين: وهذا الذي ذكره أصحابنا، رواه الترمذيّ، عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا تحلف بغير اللَّه، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"من حلف بغير اللَّه، فقد كفر"، أو "أشرك". وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن. وأخرجه الحاكم في "مستدركه"، وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين، وهو في "سنن أبي داود" في رواية ابن العبد، دون رواية اللؤلؤيّ.

وقال الترمذيّ: تفسير هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله: "كفر"، أو "أشرك" على التغليظ، والحجة في ذلك حديث ابن عمر:"إن اللَّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"، وحديث أبى هريرة رضي الله عنه:"من حلف، فقال في حلفه: واللات والعزّى، فليقل: لا إله إلا اللَّه"، وهذا مثل ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الرياء شرك"، فقد فسّر أهل العلم هذه الآية:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ} [الكهف: 110]، قال: لا يرائي. انتهى.

وقال ابن العربيّ: يريد به شرك الأعمال، وكفرها، ليس شرك الاعتقاد، ولا كفره، كقوله صلى الله عليه وسلم:"من أبق من مواليه، فقد كفر"، ونسبة الكفر إلى النساء.

وفي "مصنّف ابن أبي شيبة" عن الحسن، قال: مرّ عمر بالزبير رضي الله عنهما، وهو يقول: لا، والكعبة، فرفع عمر الدّرّة، وقال: الكعبة، لا أمّ لك، تُطعمك، وتسقيك؟. وهذا منقطع. وعن عكرمة، قال: قال عمر رضي الله عنه: حدّثت قومًا حديثًا، فقلت: لا، وأبي، فقال رجل من خلفي: لا تحلفوا بآبائكم، قال: فالتفت، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن أحدكم حلف بالمسيح هلك، والمسيح خيرٌ من آبائكم". وهذا منقطع أيضًا. وعن

(1)

أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وهوكان كان في إسناد عطاء بن السائب، إلا إنّه مما رواه عنه الثوريّ، وابن عيينة، وهما ممن روى عنه قبل اختلاطه، فهو صحيح.

ص: 286

كعب الأحبار أنه قال: إنكم تشركون، قالوا: وكيف، يا أبا إسحاق؟، قال: يحلف الرجل، لا وأبي، لا وأبيك، لا لعمري، لا لحياتي، ولا وحرمة المسجد، لا والإِسلام، وأشباهه من القول. وعن القاسم بن مُخيمِرةَ قال: ما أبالي حلفت بحياة رجل، أو بالصليب. رواها كلها ابن أبي شيبة. انتهى كلام وفي الدين -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

وقال في "الفتح": قال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في معنى النهي عن الحلف بغير اللَّه، فقالت طائفة: هو خاصّ بالأيمان التي كان أهل الجاهليّة يحلفون بها تعظيما لغير اللَّه تعالى، كاللات، والعزّى، والآباء، فهذه يأثم الحالف بها، ولا كفّارة فيها، وأما ما كان يؤول إلى تعظيم اللَّه، كقوله: وحقِّ النبيّ، والإسلام، والحجّ، والعمرة، والهدي، والصدقة، والعتق، ونحوها، مما يراد به تعظيم اللَّه، والقربة إليه، فليس داخلاً في النهي.

وممن قال بذلك أبو عُبيد، وطائفة، ممن لقيناه، واحتجّوا بما جاء عن الصحابة من إيجابهم على الحالف بالعتق، والهدي، والصدقة ما أوجبوه مع كونهم رأوا النهي المذكور، فدلّ على أن ذلك عندهم ليس على عمومه، إذ لو كان عامًا لنهوا عن ذلك، ولم يوجبوا فيه شيئًا انتهى.

وتعقّبه ابن عبد البرّ بأن ذكر هذه الأشياء، وإن كانت بصورة الحلف، فليست يمينًا في الحقيقة، وإنما خرج على الاتّساع، ولا يمين في الحقيقة إلا باللَّه. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الخامسهَ): في أقوال أهل العلم في الجمع بين أحاديث النهي عن الحلف بغير اللَّه تعالى، وبين قول النبيّ صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ:"أفلح وأبيه إن صدق": فقد أجابوا عن ذلك بأجوبة:

[أحدها]: تضعيف هذا الحديث، وإن كان في "الصحيح"، قال ابن عبد البرّ: هذه لفظة غير محفوظة في هذا الحديث من حديث من يُحتجّ به، وقد روى هذا الحديث مالك وغيره، لم يقولوا ذلك، وقد روي عن إسماعيل بن جعفر هذا الحديث، وفيه:"أفلح واللَّه، إن صدق، أو دخل الجنّة واللَّه إن صدق"، وهذا أولى من رواية من روى "وأبيه"؛ لأنها لفظة منكرة، تردّها الآثار الصحاح. انتهى. وزعم بعضهم أن بعض الرواة عنه صحّف قوله:"وأبيه" من قوله: "واللَّه"، وهو محتملٌ، ولكن مثل ذلك لا

(1)

"طرح التثريب" 7/ 142 - 144.

(2)

"فتح" 13/ 383 - 384.

ص: 287

يثبت بالاحتمال، وقد ثبت مثل ذلك من لفظ أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه في قصَّة السارق الذي سرق حلي ابنته، فقال في حقّه:"وأبيك ما ليلك بليل سارق". أخرجه في "الموطّإ" وغيره. قال السهيليّ: وقد ورد نحوه في حديث آخر مرفوع، قال للذي سأل أيّ الصدقة أعظم أجرًا؛ فقال:"أما وأبيك لَتُنَبَّأَنَّهُ"، أخرجه مسلم

(1)

. فإذا ثبت ذلك، فيجاب بأجوبة:

[الأول]: أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم، والنهي إنما ورد في حقّ من قصد حقيقة الحلف، وإلى هذا جنح البيهقيّ، وقال النوويّ: إنه الجواب المرضيّ.

[الثاني]: أنه كان يقع على وجهين: أحدهما: للتعظيم، والآخر للتأكيد، والنهي إنما وقع عن الأول، فمن أمثلة ما وقع في كلامهم للتأكيد، لا للتعظيم قول الشاعر:

لَعْمْرُ أَبِي الْوَاشِينَ إِنِّي أُحِبُّهَا

وقول الآخر [من الطويل]:

فَإِنْ تَكُ لَيْلَى اسْتَوْدَعَتْنِي أَمَانَةً

فَلَا وَأَبِي أَعْدَائِهَا لَا أُذِيعُهَا

فلا يُظنّ أن قائل ذلك قصد تعظيم والد أعدائها، كما لم يقصد الآخر تعظيم والد من وشى به، فدلّ على أن القصد بذلك تأكيد الكلام، لا التعظيم. وقال البيضاويّ: هذا اللفظ من جملة ما يُزاد في الكلام لمجرد التقرير، والتأكيد، ولا يُراد به القسم، كما تزاد صيغة النداء لمجرّد الاختصاص، دون القصد إلى النداء.

وقد تُعقّب الجواب بأن ظاهر سياق حديث عمر يدلّ على أنه كان يحلّفه؛ لأن في بعض طرقه أنه كان يقول: لا وأبي، لا وأبي، فقيل له. لا تحلفوا، فلولا أنه بصيغة الحلف ما صادف النهي محلاًّ، ومن ثمّ قال بعضهم: وهو:

[الجواب الثالث]: إن هذا كان جائزًا، ثمّ نسخ. قاله الماورديّ، وحكاه البيهقيّ، وقال السبكيّ: أكثر الشرّاح عليه، حتى قال ابن العربيّ: ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه حتى نُهي عن ذلك، قال: وترجمة أبي داود تدلّ على ذلك. يعني قوله: "باب الحلف بالآباء"، ثم أورد الحديث المرفوع الذي فيه:"أفلح وأبيه، إن صدق". قال السهيليّ: ولا يصحّ؛ لأنه لا يُظنّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يحلف بغير اللَّه، ولا يُقسم بكافر، تالله إن ذلك لبعيد من شيمته. وقال المنذريّ: دعوى النسخ ضعيفة؛ لإمكان الجمع، ولعدم تحقّق التاريخ.

[والجواب الرابع]: أن في الجواب حذفًا، تقديره: أفلح وربّ أبيه. قاله البيهقيّ، وقد تقدّم.

(1)

أخرجه مسلم في "كتاب الزكاة" رقم (1032).

ص: 288

[الخامس]: أنه للتعجّب. قاله السهيليّ، قال: ويدلّ عليه أنه لم يرد بلفظ "أبي"، وإنما ورد بلفظ "وأبيه" بالإضافة إلى ضمير المخاطب حاضرًا، أو غائبًا.

[السادس]: أن ذلك خاصّ بالشارع، دون غيره من أمّته. وتُعُقّب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال. قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أرجح الأقوال قول من قال: إنه لمجرّد التأكيد لا للتعظيم، كالبيتين السابقين، وكقول الآخر [من الطويل]:

أَطِيبُ سَفَاهًا من سَفَاهَةِ رَأْيِهَا

لأَهْجُوَهَا لَمَّا هَجَتْنِي مُحَارِبُ

فَلَا وَأَبِيهَا إِنَّنِي بِعَشِيرَتِي

وَنَفْسِيَ عَنْ ذَاكَ الْمَقَامِ لَرَاغِبُ

فإنه محالٌ أن يُقسم بأبي من يهجوه على سبيل الإعظام لحقّه، في أمثلة كثيرة، والنهي إنما ورد في التعظيم.

والحاصل أن ما وقع في الحديث المذكور من قوله: "أفلح وأبيه" من هذا النوع، وما تقدّم من التعقّب بأن ظاهر سياق حديث عمر يدلّ على أنه كان يحلفه الخ، فنقول: نعم إنه كان حالفًا به، على الوجه المذموم، كما هو عادة قريش، فنهاه الشارع من أجل هذا، وأما استعماله صلى الله عليه وسلم فليس من هذا الباب، بل من النوع الآخر الذي مجرد التأكيد، فافهم الفرق بينهما تُرشَدْ، واللَّه الهادي إلى سواء السبيل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3792 -

(أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ، مِنْ بَنِي غِفَارٍ، فِي مَجْلِسِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ- وَهُوَ يَقُولُ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و (زياد بن أيوب): هو أبو هاشم البغداديّ الطوسي الأصل الملقّب بدلّويه الثقة الحافظ [10] 101/ 132. و"يحيى بن أبي إسحاق": هو الحضرميّ مولاهم، البصريّ النحويّ، صدوقٌ ربّما أخطأ [5] 1/ 1438.

وقول يحيى بن أبي إسحاق: حدّثني رجل الخ الظاهر أنه حدثه بحديث يتعلّق بالحلف بالآباء، ولذا ذكر له سالم حديث عمر رضي الله عنه. ثم إن قوله:"رجل الخ" لا يضرّ بالسند لأنه ليس مقصودًا في السند، وإنما المقصود سالم، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم،

(1)

"فتح" 13/ 382 - 383. "كتاب الأيمان والنذور".

ص: 289

وقد سمع منه يحيى، فهو متّصل. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌5 - (الْحَلِفُ بِالآبَاءِ)

3793 -

(أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، عُمَرَ مَرَّةً، وَهُوَ يَقُولُ: وَأَبِي، وَأَبِي، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا بَعْدُ، ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و "سفيان": هو ابن عيينة.

وقوله: "فواللَّه ما حلفتُ الخ" هو من كلام عمر رضي الله عنه. وقوله: "بها" أي بالآباء، أو بهذه اللفظة، وهي:"وأبي".

وقوله. "ذاكرا" أي من نفسي.

وقوله: "آثرًا" بالمدّ، وبكسر الثاء المثلّثة، أي حاكيًا له عن غيري، أي ما حلفت بها، ولا حكيت عن غيري أنه حلف بها، يقال: أثرتُ الحديث أَثْرًا، من قتل: إذا ذكرته عن غيرك، ومنه -كما قيل- قوله تعالى:{أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4]، ويدلّ لذلك قوله في رواية لمسلم:"ولا تكلّمت بها".

[فإن قلت]: الحاكي لذلك عن غيره ليس حالفًا به.

[قلت]: يجوز أن يكون العامل فيه محذوفًا: أي ما حلفت بها ذكرًا، ولا ذكرته آثرًا. وإن تضمّن حلفت معنى نطقتُ، أو قلتُ، أو نحو ذلك مما يصلح للعمل فيهما، كما قد ذُكر الوجهان في قول الشاعر:

عَلَفتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا

حَتَّى غَدَتْ هَمَّالَةً عَيْنَهَا

إما أن يقدّر سقيتها، واما أن يُضمّن علفتها معنى أَنَلْتُها، وما أشبه ذلك.

[فإن قلت]: إذا تورّع عن النطق بذلك حاكيًا له عن غيره، فكيف نطق به حاكيًا له عن نفسه؟.

ص: 290

[قلت]: حكايته له عن نفسه من ضرورة تبليغ هذه القصّة، وروايتها، وأيضًا فقد يريد نفي حكايته كلام الحالف به بعد النهي عنه، وأما هو فإنما حلف به قبل النهي عنه. وجوّز الحافظ العراقيّ -رحمه اللَّه تعالى- في معنى قوله:"آثرًا" وجهين آخرين:

[أحدهما]: أن يكبرن معناه مُختارًا، يقال: أثر الشيء: اختاره، وعلى هذا فيكون قوله؛ "ذاكرًا"، من الذُّكر بالضمّ خلاف النسيان، أي ما حلفت بها ذاكرًا اليمين، غير مجبر، ولا مختار، مريدًا لذلك.

[ثانيهما]: أن يكون معنى قوله: "آثرًا" أي على طريق التفاخر بالآباء، والإكرام لهم، يقال: آثره أي أكرمه، لكن على عادة العرب في النطق بذلك، لا على سبيل التعظيم والإكرام انتهى. ذكره الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق القول فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3794 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ"، قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا بَعْدُ، ذَاكِرًا، وَلَا آثِرًا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخيه، وهما ثقتان. و"سفيان": وابن عيينة.

والحديث متّفقٌ عليه، وسبق القول فيه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3795 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدٌ -وَهُوَ ابْنُ حَرْبٍ- عَنْ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ"، قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا بَعْدُ، ذَاكِرًا، وَلَا آثِرًا).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو حمصيّ ثقة. و"محمد بن حرب": هو الحمصيّ المعروف بالأبرش. و"الزُّبيدي" - بضمّ الزاي، مصغّرًا -: هو محمد بن الوليد أبو الهُذيل الحمصيّ الحافظ الحجة، من أثبت من روى عن الزهريّ.

(1)

"طرح التثريب" 7/ 145 - 146.

ص: 291

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع،

والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌6 - (الْحَلِفُ بِالْأُمَّهَاتِ)

3796 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أبو بكر بن عليّ) هو أحمد بن عليّ بن سعيد بن إبراهيم المروزيّ القاضي، ثقة حافظ [12] 1/ 2094.

2 -

(عبيد اللَّه بن معاذ) العنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقة حافظ، رجّح ابن معين أخاه المثنى عليه [10] 37/ 581.

3 -

(أبوه) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقة متقن، من كبار [9] 34/ 38.

4 -

(عوف) بن أبي جَمِيلة بندويه الأعرابي العبديّ البصريّ، ثقة رُمي بالقدر، والتشيّع [6] 46/ 57.

5 -

(محمد بن سيرين) الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقة ثبت فقيه عابد [3] 46/ 57.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فمروزيّ، والصحابي، فمدنيّ، (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 292

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَال: قَالَ: رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ) تقدّم أن المراد به المخلوقات مطلقًا، وإنما خصّ الآباء بالذكر، إما لكونه ورد عَلى سبب، وهو قصَّة عمر رضي الله عنه المتقدّمة، وإما أن يقال: خرج مخرج الغالب، فإن الغالب فيهم أن يحلفوا بآبائهم، كما تقدّم قوله:"وكانت قريشٌ تحلف بآبائها". واللَّه تعالى أعلم (وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ) هكذا زاد في هذا الحديث الحلف بالأمهات، وهو مما يؤيّد ما قلناه آنفًا من المراد من النهي عن الحلف بالآباء الحلف بغير اللَّه تعالى، وكذا قوله (وَلَا بِالأَنْدَادِ) بفتح الهمزة: جمع نِدّ بكسر النون، وتشديد الدال المهملة، مثلُ حِمْل وأحمال، قال الفيّوميّ: النِّدّ بالكسر المثل، والنَّدِيد مثله، ولا يكون النِّدّ إلا مخالفًا. انتهى. والمراد هنا الأصنام، والأوثان، وكلّ ما عُبد من دون اللَّه تعالى (وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا باللَّهِ) أي باسم بن أسمائه الحسنى، أو صفة من صفاته العُليا، وليس المراد خصوص هذا اللفظ (وَلَا تَحْلِفوا إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ) فيه تحريم الحلف كاذبًا، وهو من الكبائر، إن تعلق به حقّ، لما سيأتي للمصتف في "كتاب تحريم الدم" -وأخرجه البخاريّ أيضًا - من حديث عبد اللَّه بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"الكبائر: الإشراك باللَّه، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغَمُوس". وقد فُسّر "اليمين الغَموس" في الحديث، فقد ثبت في رواية زيادة:"وما اليمين الغموس؟ " قال: "التي تَقتطع مال امرئ مسلم، هو فيها كاذب"، والسائل هو فراس بن يحيى، والمجيب هو الشعبيّ، كما بين في "صحيح ابن حبّان"، قاله الحافظ في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-6/ 3796 - وفي "الكبرى" 6/ 4710. وأخرجه (د) في (الأيمان والنذور" 3248. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو تحريم الحلف بالأمهات.

(1)

"فتح" 13/ 410.

ص: 293

(ومنها): الحلف بالأصنام، والأوثان، وغيرها من المخلوقات. (ومنها): وجوب الحلف باللَّه تعالى. (ومنها): تحريم الحلف كاذبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقى إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌7 - (الْحَلِفُ بِمِلَّةٍ سِوَى الإِسْلَامِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ترجم الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- هنا بقوله: "باب من حلف بملّةٍ، سوى الإسلام"، فقال في "الفتح": ما نصّه: ولم يجزم المصنّف بالحكم، هل يَكفُر الحالف بذلك، أو لا، لكن تصرّفه يقتضي أن لا يَكفُر بذلك؛ لأنه علّق حديث:"من حلف باللات والْعُزَّّى، فليقل: لا إله إلا اللَّه"، ولم يَنسبه إلى الكفر، وتمام الاحتجاج أن يقول: لكونه اقتصر على الأمر يقول: لا إله إلا اللَّه، ولو كان ذلك يقتضي الكفر لأمره بتمام الشهادتين. انتهى. وسيأتي التفصيل قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

3797 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ خَالِدٍ ح وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ، سِوَى الْإِسْلَامِ كَاذِبًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ".

قَالَ: قُتَيْبَةُ، فِي حَدِيثِهِ:"مُتَعَمِّدًا"، وَقَالَ يَزِيدُ:"كَاذِبًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عَذَّبَهُ اللَّهُ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(محمد بن عبد اللَّه بن بَزِيع) -بفتح الباء الموحّدة، وكسر الزاي- البصريّ، ثقة [10] 43/ 588.

3 -

(ابن أبي عديّ) هو محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقة [9] 122/ 175.

4 -

(يزيد) بن زُريع، أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8] 5/ 5.

5 -

(خالد) بن مِهْران المعروف بالحذّاء البصريّ، ثقة يرسل [5] 7/ 634.

ص: 294

6 -

(أبو قِلابة) عبد اللَّه بن زيد بن عمرو الجرميّ البصريّ، ثقة فاضل، كثير الإرسال، قيل: فيه نصب يسير [3] 103/ 322.

7 -

(ثابت بن الضحاك) بن خَليفة الأشهليّ الأوسيّ، أبو زيد المدنيّ، وهو ممن بايع تحت الشجرة، وكان رديف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، ودليله إلى حمراء الأسد. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ". وروى عنه عبد اللَّه بن معقِل بن مُقَرِّن الْمُزَنيّ، وأبو قلابة عبد اللَّه بن زيد الْجَرْميّ. وقال البخاريّ، والترمذيّ: شهد بدرًا. مات في فتنة ابن الزبير سنة (64) على الصحيح. وقيل: سنة 45). روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، فكلّهم بصريون، غير قُتيبة، فبغلاني، وهي قرية من قرى بَلخ.، وغير الصحابيّ، فمدنيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن صحابيه من المقلّين من الرواية، فإنه ليس له في الكتب الستة إلا أربعة أحاديث: حديثُ الباب عند الجماعة، وحديثُ البيعة تحت الشجرة، عند البخاريّ، ومسلم، وأبي داود، وحديثُ النهي عن المزارعة عند مسلم، وحديثُ: "نَذَرَ رجل أن ينحر إبلًا ببُوَانَةَ

" الحديث عند أبي داود. راجع "تحفة الأشراف" جـ1ص 199 - 121. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ) زاد في رواية مسلم: "على يمين"، فقال القرطبيّ: اليمين هنا يعني به المحلوف عليه، بدليل ذكره المحلوف به، وهو بـ "ملة غير الإسلام"، ويجوز أن يقال: إنّ "على" صلةٌ، وينتصب "يمين" على أنه مصدر مُلاقٍ في المعنى، لا في اللفظ. انتهى.

(بِمِلَّةٍ) بكسر الميم، وتشديد اللام: الدين والشريعة، وهي نكرة في سياق الشرط، فتعمّ جميع الملل، من أهل الكتاب، كاليهود، والنصرانيّة، ومن لَحِق بهم من المجوسية، والصابئة، وأهل الأوثان، والدهريّة، والمعطِّلة، وعبدة الشياطين، والملائكة، وغيرهم (سِوَى الإِسْلَامِ) بالجرّ صفة و"ملةٍ"، أي بملّة غير الإسلام، أيَّ دين كان، كما ذُكر بيانه آنفًا (كَاذِبًا) وفي رواية:"متعمّدا"، كما سيبيّنه المصنّف بعدُ.

قال الصنعانيّ في "العدّة": اعلم أنه لا يتبادر من قوله "على يمينٍ بملّة" إلا أن الملّة

ص: 295

محلوف بها، وأنه قال الحالف: وملّةِ اليهوديّة، وقوله:"كاذبًا" حال من فاعل حلف، وحَلَفَ يتضمّن عَظَّم، إذ الحلف تعظيم للمحلوف به قطعًا، فقوله:"كاذبًا"، فكأنه قال: من حلف معظّمًا لملة اليهوديّة، حال كونه كاذبًا في تعظيمه إياها بحلفه، إذ الحلف يتفرّع عن تعظيم ما حلف به، فكذبه كان بتعظيمه ما أهانه اللَّه تعالى، والحلف بالشيء يتضمّن الإخبار بتعظيمه، ولذا يقول صاحب الملك: وحياةِ الملك، فإن هذا حلف يتضمّن الإخبار باعتقاده، وتعظيم من حلف به، هذا مما لا ريب فيه. انتهى

(1)

.

(فَهُوَ كَمَا قَالَ) هذا بظاهره يفيد أنه يصير كافرًا، لكن يحتمل أن يكون المراد ضعفه في دينه، وخروجه عن الكمال فيه. ويحتمل أن يكون المراد إن كان راضيًا بالدخول في تلك الملّة، فيكون كافرًا على ظاهره، خارجًا عن الإسلام.

قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: يحتمل أن يريد به النبيّ صلى الله عليه وسلم: من كان معتقدًا لتعظيم تلك الملّة المغايرة لملّة الإسلام، وحينئذ يكون كافرًا حقيقةً، فيبقى اللفظ على ظاهره، و"كاذبًا" منصوبٌ على الحال، أي في حال تعظيم تلك الملّة التي حلف بها، فتكون هذه الحال من الأحوال اللازمة، كقوله تعالى:{وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91]؛ لأن من عظّم ملّةَ غير الإسلام كان كاذبًا في تعظيمه دائمًا في كلّ حال، وكلّ وقتٍ، لا ينتقل عن ذلك، ولا يصلح أن يقال: إنه يعني بكونه كاذبًا في المحلوف عليه؛ لأنه يستوي في ذمّه كونه صادقًا، أو كاذبًا إذا حلف بملّة غير الإسلام؛ لأنه إنما ذمّه الشرع من حيث إنه حلف بتلك الملّة الباطلة، معظّمًا لها، على نحو ما تُعظّم به ملّة الإسلام الحقّ، فلا فرق بين أن يكون صادقًا، أو كاذبًا في المحلوف عليه. واللَّه تعالى أعلم.

وأما إن كان الحالف بذلك غير معتقد لذلك فهو آثمٌ، مرتكبٌ كبيرة، إذ قد نسبه في قوله لمن يعظّم تلك الملّة، ويعتقدها، فغلّظ عليه الوعيد، بأن صيّره كواحد منهم، مبالغة في الردع، والزجر، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

وقال في "الفتح": قال ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى-: الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به، وإدخال بعض حروف القسم عليه، كقوله: واللَّه، والرحمن، وقد يُطلق على التعليق بالشيء يمين، كقولهم: من حلف بالطلاق، فالمراد تعليق الطلاق، وأُطلق عليه الحلف لمشابهته باليمين في اقتضاء الحثّ والمنع. وإذا تقرَر ذلك، فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني؛ لقوله:"كاذبًا متعمّدًا"، والكذب يدخل القضيّة الإخباريّة

(1)

"العدّة حاشية العمدة" 4/ 403 - 404.

(2)

"المفهم" 1/ 312 "كتاب الإيمان".

ص: 296

التي يقع مقتضاها تارةً، ولا يقع أخرى، وهذا بخلاف قولنا: واللَّه، وما أشبهه، فليس الإخبار بها عن أمر خارجيّ، بل هي لإنشاء القسَم، فتكون صورة الحلف هنا على وجهين:[أحدهما]: أن يتعلّق بالمستقبل، كقوله: إنّ فعل كذا، فهو يهوديّ، والثاني يتعلّق بالماضي، كقوله: إن كان فعل كذا فهو يهوديّ. وقد يتعلّق بهذا من لم ير فيه الكفّارة؛ لكونه لم يَذكُر فيه كفّارةً، بل جعل المرتّب على كذبه قوله:"فهو كما قال".

قال ابن دقيق العيد: ولا يَكفُرُ في صورة الماضي، إلا إن قصد التعظيم، وفيه خلاف عند الحنفيّة؛ لكونه يتخيّر معنى، فصار كما لو قال: هو يهوديّ. ومنهم من قال: إن كان لا يعلم أنه يمين لم يَكفُر، وإن كان يعلم أنه يكفر بالحثّ به كفر؛ لكونه رضي بالكفر حين أقدم على الفعل.

وقال بعض الشافعيّة: ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذبًا، والتحقيق، فإن اعتقد تعظيم ما ذُكر كفَرَ، وإن قصد حقيقة التعليق، فيُنظر، فإن كان أراد أن يكون متّصفًا بذلك كفَرَ؛ لأن إرادة الكفر كفرٌ، وإن أراد البعد عن ذلك لم يكفر، لكن هل يحرم عليه ذلك، أو يُكره تنزيهًا؟ الثاني هو المشهور

(1)

.

قال الجامع: عندي أن الأول هو الظاهر؛ لظاهر النصّ. واللَّه تعالى أعلم.

وقال عياضٌ: قوله: "كاذبًا" تفرّد بزيادتها سفيان الثوريّ، وهي زيادة حسنة، يستفاد منها أن الحالف المتعمّد إن كان مطمئنّ القلب بالإيمان" وهو كاذبٌ في تعظيم ما لا يُعتقد تعظيمه لم يكفر، وإن قاله معتقدًا لليمين بتلك الملّة لكونها حقًا كفر، وإن قالها لمجرّد التعظيم لها احتمل. قال الحافظ: وينقدح بأن يقال: إن أراد تعظيمها باعتبار ما كانت قبل النسخ لم يكفر أيضًا

(2)

.

ودعوى عياض تفرد سفيان بهذه الزيادة إنما هو بالنسبة لرواية مسلم، وإلا فقد أخرجها النسائيّ هنا من طريق ابن أبي عديّ، عن خالد الحذّاء. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ قُتَيبَةُ) بن سعيد (فِي حَدِيثِهِ) أي في روايته هذا الحديث عن ابن أبي عديّ (مُتَعَمِّدًا) أي بدلاً عن "كاذبًا" الذي أشار إليه بقوله (وَقَالَ يَزِيد: "كَاذبًا") يزيد هو ابن زُريع، هكذا نسخ "المجتبى"، وكان الظاهر أن يقول: وقال محمد بن عبد اللَّه؛ لأنه الذي في مقابلة قتيبة، وليس هذا في "الكبرى"، ولفظه: (وقال قتيبة في حديثه: بشيء متعمّدًا". انتهى.

(1)

"فتح".

(2)

"فتح" 13/ 388.

ص: 297

وقوله (فَهُوَ كَمَا قَالَ) مكرّرٌ مع ما تقدّم.

(وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عَذِّبَهِ اللَّه بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) وفي رواية: "ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذب به يوم القيامة". وقوله: "بشيء" أعمّ مما وقع في رواية مسلم "بحديدة"، وله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ومن تحسّى سمّا". قال ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى-: هذا من باب مجانسة العقوبات الأخرويّة للجنايات الدنيويّة، ويؤخذ منه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم؛ لأن نفسه ليست ملكًا له مطلقًا، بل هي للَّه تعالى، فلا يتصرّف فيها إلا بما أذن له فيه.

قيل: وفيه حجة لمن أوجب المماثلة في القصاص؛ خلافًا لمن خصّصه بالمحدود.

وردّه ابن دقيق العيد بأن أحكام اللَّه لا تُقاس بأفعاله، فليس كلّ ما ذُكر أنه يفعله في الآخرة يشرع لعباده في الدنيا، كالتحريق بالنار مثلًا، وسقي الحميم الذي يقطع به الأمعاء.

وحاصله أنه يستدلّ للماثلة في القصاص بغير هذا الحديث، وقد استدلّوا بقوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ويأتي بيان ذلك في "القصاص والديات"، إن شاء اللَّه تعالى

(1)

.

[تنبيه]: جملة الخصال التي ذكر المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- في حديث ثابت بن الضحاك صلى الله عليه وسلم هذا ثلاث أشياء:

1 -

"من حلف بملة غير الإسلام"، و 2 - "ومن قتل نفسه بشيء". و 3 - ما يأتي في -31/ 3840 - :"وليس على رجل نذرٌ فيما لا يملك".

وقد أخرج البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- الحديث في "كتاب الأدب" من "صحيحه" بأتمّ من هذا، ولفظه:

6047 -

حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، أن ثابت بن الضحاك، وكان من أصحاب الشجرة حدثه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"من حلف على ملة غير الإسلام، فهو كما قال، وليس على ابن آدم نذر، فيما لا يملك، ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا، عذب به يوم القيامة، ومن لعن مؤمنا، فهو كقتله، ومن قذف مؤمنا بكفر، فهو كقتله".

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: مدار هذا الحديث في الكتب الستّة، وغيرها على أبي قلابة، عن ثابت بن الضحّاك، ورواه عن أبي قلابة خالد الحذّاء، ويحيى بن أبي كثير، وأيوب، فأخرجه البخاريّ في "الجنائز" من رواية يزيد بن زريع، عن خالد الحذّاء،

(1)

"فتح"389.

ص: 298

فاقتصر على خصلتين: الأولى: "من حلف بملة غير الإسلام". والثانية: "من قتل نفسه بحديدة". وأخرجه مسلم من طريق الثوريّ، عن خالد الحذاء، ومن طريق شعبة، عن أيوب كذلك. وأخرجه مسلم أيضًا من طريق هشام الدستوائيّ، عن يحيى، فذكر خصلة النذر، ولعن المؤمن كقتله، "ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة"، ولم يذكر الخصلتين الباقيتين، وزاد بدلهما:"ومن حلف على يمينٍ صبرٍ فاجرة، ومن ادّعى دعوى كاذبة ليتكثّر بها لم يزده اللَّه إلا قلّة"، فهذا ضُمّ بعض هذه الخصال إلى بعض اجتمع منها تسعة

(1)

. انتهى كلام الحافظ بتصرّف. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ثابت بن الضّحّاك - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-7/ 3797 و 3798 و 31/ 3840 - وفي "الكبرى" 7/ 4811 و 1472 و 8/ 4755. وأخرجه (خ) في "الجنائز" 1364 و"الأدب" 6047 و 1605 و"الأيمان والنذور" 6653 (م) في "الإيمان" 110 (د) في "الأيمان والنذور" 3257 (ت) في "النذور والأيمان" 1543 و"الإيمان" 2636 (ق) في "الكفّارات" 2098 (أحمد) في "مسند المدنيين" 15950 و 15956 (الدارمي) في "الديات" 2361. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان تحريم الحلف بملّة سوى الإسلام. (ومنها): الوعيد الشديد لمن حلف بملّةٍ سوى الإسلام. (ومنها): تحريم قتل الإنسان نفسه. (ومنها): مجانسة الجزاء الأخرويّ للجناية الدنويّة. (ومنها): أن نفس الإنسان ليست ملكًا له يتصرّف فيها كيف شاء، بل هي للَّه تعالى، لا يجوز أن تعامل إلا بما شرع اللَّه تعالى أن تعامل به، فلا يجوز إلحاق الضرر بها، من التجويع، والتعطيش، وغير ذلك من إلحاق الأذى بها مما يعتقده جهالة الزهاد، ويرونه رياضة للنفس، وهم في ذلك مخطئون، فإن الرياضة لا تجوز إلا بما شرعه اللَّه تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الكفّارة لمن حلف بملّة غير الإسلام، أو نحو ذلك:

(1)

قوله: "تسعة" فيه نظر، ولعلها مصحّفة من "سبعة". فليحرّر.

ص: 299

قال ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: اختُلف فيمن قال: أكفر باللَّه، ونحو ذلك، إن فعلت، ثم فعل، فقال ابن عبّاس، وأبو هريرة، وعطاء، وقتادة، وجمهور فقهاء الأمصار: لا كفّارة عليه، ولا يكون كافرًا، إلا إن أضمر ذلك بقلبه. وقال الأوزاعيّ، والثوريّ، والحنفيّة، وأحمد، وإسحاق: هو يمين، وعليه الكفّارة. قال ابن المنذر: والأول أصحّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف باللات والعزّى، فليقل: لا إله إلا اللَّه"، ولم يذكر كفّارة. زاد غيره: ولذا قال: "من حلف بملّة غير الإسلام، فهو كما قال"، فأراد التغليظ في ذلك حتى لا يجترىء أحدٌ عليه. ذكره في "الفتح".

(1)

.

وقال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى- بعد ذكر الروايتين عن أحمد: والرواية الثانية -يعني القول بعدم الكفّارة- أصحّ، إن شاء اللَّه تعالى؛ فإن الوجوب من الشارع، ولم يرد في هذه اليمين نصّ، ولا هى في قياس المنصوص؛ فإن الكفّارة إنما وجبت في الحلف باسم اللَّه تعظيمًا لاسمه، وإظهارًا لشرفه وعظمته، ولا تتحقّق التسوية. انتهى

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه عنه -: هذا الذي قاله ابن قدامة، وقبله ابن المنذر، من تصحيح القول بعدم وجوب الكفّارة على من حلف بملّة سوى الإسلام، أو هو يهوديّ، أو نصرانيّ، أو نحو ذلك، ثم حنث. هو الأرجح عندي؛ لوضوح دليله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3798 -

(أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى، أَنَّهُ حَدَّثَهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ، سِوَى الْإِسْلَامِ كَاذِبًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ، عُذِّبَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، وهو دمشقيّ ثقة. و"الوليد": وابن مسلم، أبو العباس الدمشقيّ. و"أبو عمرو": هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعيّ. و"يحيى": وابن أبي كثير أبو نَصْرٍ صالح بن المتوكّل، اليماميّ.

والحديث متّفقٌ عليه. وقد سبق القول فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

(1)

"فتح" 13/ 387.

(2)

"المغني" 13/ 464 - 465.

ص: 300

‌8 - (الْحَلِفُ بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْإِسْلَامِ)

3799 -

(أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ،، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، لَمْ يَعُدْ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الحسين بن حريث) الخزاعي مولاهم، أبو عمار المروزيُّ، ثقة [10] 44/ 52.

2 -

(الفضل بن موسى) السيناني، أبو عبد اللَّه المروزيّ، ثقة ثبت، ربما أغرب، من

كبار [9] 83/ 100.

3 -

(حسين بن واقد) أبو عبد اللَّه القاضي المروزي، ثقة له أوهام [7] 5/ 463.

4 -

(عبد اللَّه بن بريدة) بن الحصيب الأسلميّ المروزيّ قاضيها، ثقة [3] 25/

393.

5 -

(أبوه) بُريدة بن الْحُصَيب، أبو سهل الأسلميّ الصحابيّ الشهير، أسلم قبل بدر،

ومات رضي الله عنه سنة (63)، وتقدّمت ترجمته 101/ 133. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمراوزة، فكلّهم مروزيّون، حتى الصحابيّ رضي الله عنه. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) بريدة بن الحصيب - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنَ الإِسلَامِ) ولفظ أحمد من طريق زيد بن الحباب عن حسين بن واقد: "من حلف أنه بريء من الإسلام

" قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: أي علّق براءته من الإسلام على أمر، كأن قال: إن فعل -يعني نفسه- كذا فهو يهوديّ، أو نصرانيّ، أو كافر. قال: وقد دلّ على هذا تقسيم حاله إلى كاذب وصادق، ولا يتأتّى ذلك إلا مع التعليق. انتهى

(1)

.

(1)

"طرح التثريب" 7/ 166.

ص: 301

(فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا) أي في حلفه على زعمه (فَهُوَ كَمَا قَالَ) قال الحافظ وليّ الدين: أي أخبر بأمر ماض، وعلّق براءته من الإسلام على كذبه في ذلك الإخبار، وكان كاذبًا، فهو كما قال، أي من البراءة من الإسلام، وهو صريحٌ في أن هذا الكلام كفرٌ، وهو ظاهر المعنى، كما لو علّق طلاق زوجته، أو عتق عبده على دخوله الدار في الماضي، وكان قد دخل، نعم لو بني إخباره بذلك على ظنّه أنه كذلك، فينبغي أن لا يكفر؛ لأنه ربط الكفر بأمر يظنّ أنه غير حاصل، فلا خلل في اعتقاده، ولا في لفظه باعتبار ظنّه، ولم يتناول الحديث هذه الصورة عند من يشترط التعمّد في حقيقة الكذب، وأما عند من لا يشترطه، فهو عامّ مخصوص، ويدلّ لذلك قوله في حديث ثابت بن الضّحّاك. "من حلف بملّةٍ غير الإسلام، كاذبًا متعمّدًا، فهو كما قال"، وهو في "الصحيحين" بهذا اللفظ. واللَّه أعلم انتهى كلام وليّ الدين.

وقال في "الفتح": ويحتمل أن يكون المراد بهذا الكلام التهديد، والمبالغة في الوعيد، لا الحكم، وكأنه قال: مستحقّ مثل عذاب من اعتقد ما قال، ونظيره:"من ترك الصلاة، فقد كفر": أي استوجب عقوبة من كفر. وقال ابن المنذر: قوله: "فهو كما قال" ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكفر، بل المراد أنه كاذب ككذب المعظّم لتلك الجهة. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن يقال بالتفصيل السابق؛ لأن الحديث بمعنى الحديث الماضي، وهو أنه على ظاهره، يكفر به صاحبه إن قاله متعمّدًا معتقدًا البراءة والخروج من الإسلام -عياذا باللَّه تعالى من ذلك- وإلا فهو منكر من القول، وزور، محرّم عليه، وهو عاص بذلك، تجب التوبة عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(وَإِنْ كَانَ صَادِقًا) أي في حلفه على زعمه، أعمّ من أن يكون مطابقًا للواقع، أم لا؟ (لم يَعُدْ إِلَى الإسْلَام سَالِمًا) قال وليّ الدين: معناه أنه نقص كمال إسلامه بما صدر منه من هذا اللفظ، قَالَ: ولفظ ابن ماجه: "لم يَعُد إليه الإسلام سالمًا"، قال: واللفظان صحيحان، فنقص هو بتعاطي هذا اللفظ، ونقص إسلامه بذلك، وهذا يدلّ على تحريم هذا اللفظ، ولو كان صادقًا في كلامه. وقد استدلّ به على ذلك الخطّابيّ، فقال: فيه دليلٌ على أن من حلف بالبراءة من الإسلام، فإنه يأثم. وصرّح أيضًا بتحريم ذلك، ووجوب التوبة منه الماورديّ في "الحاوي"، والنوويّ في "الأذكار"، وقال في "شرح مسلم": فيه بيان غلظ تحريم الحلف بملّة، سوى الإسلام، كقوله: هو يهوديٌّ،

(1)

"فتح" 13/ 388 - 389. "كتاب الأيمان والنذور" رقم 6652.

ص: 302

أو نصرانيٌّ، إن كان كذا، أو واللاتِ، والعزّى، وشبه ذلك، ثم قال: وقوله: "كاذبًا"، ليس المراد به التقييد، والاحتراز من الحلف بها صادقًا؛ لأنه لا ينفكّ الحالف بها عن كونه كاذبًا، وذلك لأنه لا بدّ أن يكون معظّمًا لما حلف به، فإن كان معتقدًا عظمته بقلبه، فهو كاذبٌ في ذلك، وإن كان غير معتقد ذلك بقلبه، فهو كاذبٌ في الصورة؛ لأنه عظّمه بالحلف به، وإذا عُلم أنه لا ينفكّ عن كونه كاذبًا حُمل التقييد بكونه كاذبًا على أنه بيان لصورة الحال، ويكون التقييد خرج على سبب، فلا يكون له مفهوم، ويكون من باب قوله تعالى:{وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 112]، ونظائره، فإن كان الحالف معظّمًا لما حلف به كان كافرًا، وإن لم يكن معظّمًا، بل كان قلبه مطمئنًا بالإيمان، فهو كاذب في حلفه بما لا يحلف به، ومعاملته إياه معاملة ما يُحلف به، ولا يكون كافرًا، خارجًا عن ملة الإسلام، ويجوز أن يُطلق عليه اسم الكفر، وُيراد كفر النعمة. انتهى.

قال الحافظ وليّ الدين: والتقسيم الذي في حديث بُريدة رضي الله عنه يردّ عليه، والظاهر أن كلامه هذا إنما هو في مثل قوله: واللات، والعزى، وإن كان ذكر في صدر كلامه أيضًا. وقوله: "هو يهوديّ إن كان كذا. انتهى كلام وليّ الدين

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث بريدة بن الْحُصيب - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 8/ 3799 - وفي "الكبرى" 8/ 4713.

وأخرجه (د) في "الأيمان والنذور" 3258 (ق) في "الكفّارات" 2100 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار"22497. وفوائده تقدّمت قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: تقسيمه حاله إلى صادق وكاذب يدلّ على أن ذلك في الإخبار عن ماضٍ، كما تقدّم، فإن الخبر هو المحتمل للصدق والكذب، أما إذا وقع منه مثل هذا في التعليق على وقوع أمر في المستقبل، فقد يقال: يُلحق بالماضي، ويقال: إن فعل ذلك المحلوف عليه كفر، وإلا فلا. وقد يقال: إن لفظ الحديث أوّلًا متناول له، إلا أنه لَمَّا فَصّل اقتصر على أحد القسمين، ويُعرف منه

(1)

"طرح التثريب" 7/ 167 - 168.

ص: 303

حكم القسم الآخر. وقد يقال: إذا كان عن ماضٍ، فقد حقّق الكفر على نفسه، وأما إذا كان على مستقبل، فقد يقع ذلك الأمر، وقد لا يقع، والغالب من حال الآتي بهذا اللفظ أنه إنما يقصد به إبعاد نفسه عن ذلك الأمر بربطه بأمرٍ لا يقع منه، وهذا أقرب، ويوافقه كلام الرافعيّ، حيث قال: إن هذا اللفظ يتضمّن تعظيم الإسلام، وإبعاد النفس عن التهوّد، ثم قال: هذا إذا قصد القائل تبعيد النفس عن ذلك، فأما من قال ذلك على قصد الرضى بالتهوّد، وما في معناه إذا فعل ذلك الفعل، فهو كافر في الحال، وسكت الرافعيّ عن حالة الإطلاق، وهو أن لا يقصد تبعيد النفس عن التهوّد، ولا الرضى به، أو لم يُعلم قصده بموته سريعًا، أو تعذر مراجعته، وقال في ذلك شيخنا الإمام جمال الدين عبد الرحيم الإسنويّ: إن القياس التكفير، إذا عري عن القرائن الحاملة على غيره؛ لأن اللفظ بوضعه يقتضيه، قال: وكلام النوويّ في "الأذكار" يقتضي أنه لا يكفر بذلك، والقياس خلافه. انتهى.

وما ذكره الرافعيّ من أن هذا اللفظ يتضمّن تعظيم الإسلام، وإبعاد النفس عن التهوّد يقتضي أنه لا يحرم الإتيان به، لكن تقدّم عن الخطّابيّ إطلاق الإثم، ولم يفصّل بين الحلف على الماضي، والمستقبل، وصرّح بذلك النوويّ في "الأذكار"، فقال: ويحرم أن يقول: إن فعلت كذا، فأنا يهوديّ، أو نصرانيّ، أو نحو ذلك، فإن قاله، وأراد حقيقة فعله، وخروجه عن الإسلام بذلك صار كافرًا في الحال، وجرت عليه أحكام المرتدّين، وإن لم يُرد ذلك لم يكفر، لكنه ارتكب مُحرَّمًا، فيجب عليه التوبة. وكذا قال ابن الرفعة في "المطّلب": معصية. انتهى كلام وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا التفصيل الذي ذكره النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "الأذكار" تفصيلٌ حسنٌ جدًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

(1)

"طرح التثريب" 7/ 168 - 169.

ص: 304

‌9 - (الْحَلِفُ بِالْكَعْبَةِ)

3800 -

(أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ قُتَيْلَةَ، امْرَأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ، أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ، وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، تَقُولُونَ مَا شَاءَ، اللَّهُ، وَشِئْتَ، وَتَقُولُونَ: وَالْكَعْبَةِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا، أَنْ يَقُولُوا: "وَرَبِّ الْكَعْبَةِ"، وَيَقُولُونَ: "مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ شِئْتَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يوسف بن عيسى) الزهريّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقة فاضل [10] 32/ 924.

2 -

(الفضل بن موسى) هو السِّنَانيّ المذكور في الباب الماضي.

3 -

(مِسْعَر) بن كِدَام بن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقة ثبت فاضل [7] 8/ 8.

4 -

(مَعْبَد بن خالد) القيسيّ الْجَدَليّ الكوفيّ، ثقة عابد [3] 39/ 1422.

5 -

(عبد اللَّه بن يسار) الْجُهَنيّ الكوفيّ، ثقة، من كبار [3] 111/ 2052.

6 -

(قُتَيلة) -بالمثنّاة الفوقيّة، والتصغير- بنت صَيفِيِّ الجهنيّة، صحابيّة، من المهاجرات الأُوَل، لها حديث الباب فقط. تفرّد بها المصنّف بهذا الحديث. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير الصحابية، فتفرد بها المصنف، وغير عبد اللَّه بن يسار، فإنه ممن تفرّد به المصنّف، وأبو داود. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فمروزيان. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن صحابيته من المقلين من الرواية، فليس لها إلا هذا الحديث عند المصنف فقط. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ قُتَيْلَةَ) بصيغة التصغير (امْرَأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ) -بضمّ الجيم، وفتح الهاء، آخره نون: نسبة إلى جُهَينة، قبيلة من قُضاعة، واسمه زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قُضاعة، نزلوا الكوفة والبصرة. قاله في "اللباب" 1/ 317 - 318 (أَنَّ يَهُودِيًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ) ضبط بتشديد الدال الأولى: أي تتّخذون أندادًا، وهو جمع نِدّ

ص: 305

-بكسر، وتشديد الدال المهملة-وهو مثل الشيء الذي يُضادّه في أموره، ويُنادُّه، أي يخالفه، والمراد أنكم تتّخذون آلهة من دون اللَّه

(1)

(وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ) أي لأن الواو للتشريك، فيلزم منه تسوية المخلوق بالخالق (وَتَقُولُونَ: وَالْكَعْبَةِ) أي تقولون في حلفكم: والكعبة، فالواو واو القسم، و"الكعبة" مجرور به (فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا، أَنْ يَقُولُوا: وَرَبِّ الْكَعْبَةِ) أي ليكون القسم باللَّه، لا بمخلوق سواه (وَيَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ شِئْتَ") أي لأن "ثُمّ" للتراخي، فتكون مشيئة العبد بعد مشيئة اللَّه سبحانه وتعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث بُريدة رضي الله عنه تعالى هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له:

أخرجه هنا-9/ 3800 - وفي "الكبرى" 9/ 4714. وهو من أفراد المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، لم يُخرجه أحد من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 26553. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم الحلف بالكعبة، وهو التحريم، وأنه من الشرك باللَّه تعالى، فإن كان يعتقد ذلك، فهو شرك أكبر، مخرج من الملّة، وإن كان لا يعتقد، فهو من الإشراك في اللفظ، وهو محرّم تجب التوبة منه. (ومنها): أنه يدلّ على أن الشرك جريمة كبرى، معروفة حتى في الأديان المحرّفة، كاليهوديّة، والنصرانيّة، فإنهم يعرفون خطر الشرك، ثم يقعون فيه. (ومنها): أن على طالب الحقّ، ومتّبع الصواب أن يأخذ الحقّ أينما وجده، ولو كان عند غير أهله، كما يقال: الحكمة ضالّة المؤمن، أينما وجدها أخذها، فلا يمنع الإنسان العداوة الشخصيّة، أو الدينيّة، أو غيرها من قبول الحقّ، والإذعان له كيفما كان، وهذا هو المصيبة الطامة عند العوامّ، فإنهم لا يتلقّون الحقّ إلا عند من يعتقدونه، ولو أتاهم غيره بالحق الواضح لا يقبلونه، بل يردّونه، فقول من يعتقدونه؛ قال الشيخ الفلانيّ، أحبّ إليهم من قول من لا يعتقدونه: قال اللَّه تعالى، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الداهية

(1)

راجع "النهاية" 5/ 35.

ص: 306

العُظمى حلّت بضعفاء الإيمان، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا أتاه هذا اليهوديّ، وقاله ما تقدّم قبل منه ذلك؛ لأنه حقّ، ونبّه أمته، وأرشدهم إلى ما هو الصواب، ولم يقل: إنه يهوديّ لا يؤمن به، فيُردّ قوله كلا، وحاشا، اللَّهمّ أرنا الحقّ حقًا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه. آمين.

(ومنها): أن قول الإنسان: ما شاء اللَّه، وشئت من الإشراك باللَّه تعالى، فيحرم عليه، فإن كان يعتقد التشريك، فهو شرك أكبر، مخرج من الملّة، وإن كان لا يعتقد ذلك، فهو إشراك في اللفظ، فيكون شركًا أصغر، محرّمًا تجب التوبة منه.

وقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده"، والمصنّف في "عمْل اليوم والليلة"، وابن ماجه في "سننه"، من رواية يزيد بن الأصم، عن ابن عبّاس، قال. قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إذا حلف أحدكم، فلا يقل: ما شاء اللَّه وشئت، ولكن ليقل: ما شاء اللَّه ثم شئت".

وفي أول حديث أحمد، والنسائيّ، قصّة، ولفظها:"أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء اللَّه، وشئت، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني واللَّه عَدْلاً

(1)

، بل ما شاء اللَّه وحده".

وأخرج أحمد، والنسائيّ، وابن ماجه أيضًا، عن حذيفة رضي الله عنه:"أن رجلا من المسلمين، رأى في النوم، أنه لقي رجلا من أهل الكتاب، فقال: نعم القوم أنتم، لولا أنكم تشركون، تقولون: ما شاء اللَّه، وشاء محمد، وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أما واللَّه، إن كنت لأعرفها لكم، قودوا: ما شاء اللَّه، ثم شاء محمد". لفظ ابن ماجه.

هكذا رواية ابن عيينة، عن عبد الملك بن عُمير، عن ربعي، عن حذيفة، وخالفه غيره، حماد بن سلمة، عند أحمد، وشعبة، وعبد اللَّه بن إدريس، وأبو عوانة كلهم عن عبد الملك بن عمير، عن ربعيّ، عن الطفيل بن سَخْبرة، أخي عائشة رضي الله عنها، وهو الذي رجحه الحفاظ، وقالوا: إن ابن عيينة وَهِم في قوله: عن حذيفة.

ولفظ أحمد-20171 - من طريق حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حِرَاش، عن طُفَيل بن سَخْبَرة، أخي عائشة لأمها، أنه رأى فيما يرى النائم، كأنه مَرّ برهط من اليهود، فقال: من أنتم؟، قالوا: نحن اليهود، قال: إنكم أنتم القوم، لولا أنكم تزعمون أن عزيرا ابن اللَّه، فقالت اليهود: وأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء اللَّه، وشاء محمد، ثم مر برهط من النصارى، فقال: من أنتم؟، قالوا: نحن النصارى، فقال: إنكم أنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن اللَّه، قالوا: وإنكم أنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء اللَّه، وما شاء محمد، فلما أصبح أخبر بها، من أخبر، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: هل أخبرت بها أحدا؟ -قال عفان- قال: نعم، فدما صَلَّوا خطبهم، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، ثم قال: "إن طُفيلا رأى رؤيا، فأخبر بها

(1)

بنصب "اللَّهَ" على المعية، و"عَدْلا" بالفتح: أي مثلًا.

ص: 307

من أخبر منكم، وانكم كنتم تقولون كلمة، كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها، قال: لا تقودوا: ما شاء اللَّه، وما شاء محمد". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌10 - (الْحَلِفُ بِالطَّوَاغِيتِ)

3801 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(1)

هِشَامٌ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أحمد بن سليمان) الرُّهاويّ ثقة حافظ [11] 38/ 42.

2 -

(يزيد) بن هارون الواسطيّ، ثقة متقن عابد [9] 153/ 244.

3 -

(هشام) بن حكان القردوسيّ البصريّ، ثقة من أثبت الناس في ابن سرين، وفي روايته عن الحسن، وعطاء مقال، لأنه كان يرسل عنهما [6] 188/ 300.

4 -

(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصريّ، ثقة فاضل فقيه مشهور يرسل ويدلس [3] 32/ 36.

5 -

(عبد الرحمن بن سمرة) بن حبيب بن عبد شمس العبشميّ، صحابيّ، من مسلمة الفتح، يقال: كان اسمه عبد قال، افتتح سجستان، ثم سكن البصرة، ومات بها سنة (50) أو بعدها رضي الله عنه، تقدّمت ترجمته 2/ 1460. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه أيضًا، فإنه رُهاويّ. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا"، وفي أخرى:"حدّثنا".

ص: 308

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ) تقدّم البحث عنه مستوفًى في شرح حديث عمر رضي الله عنه (وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ) أي الأصنام. قال الفيّوميّ: الطاغوتُ: تاؤها زائدة، وهي مشتقّة من طغا، والطاغوت يُذكّر، ويؤنّث، والاسم الطُّغيان، وهو مجاوزة الحدّ، وكلّ شيء جاوز المقدار والحدَّ في العصيان، فهو طاغ، وأطغيته: جعلته طاغيًا، وطغا السيل: ارتفع حتى جاوز الحدّ في الكثرة، والطاغوت: الشيطان، وهو في تقدير فَعَلُوت بفتح العين، لكن قُدّمت اللام موضع العين، واللامُ واوٌ محرّكةٌ، مفتوحٌ ما قبلها، فقُلبت ألفًا، فبقي في تقدير فَلَعُوت، وهو من الطغيان. قاله الزمخشريّ. انتهى.

ولفظ مسلم: "بالطواغي" بدون التاء، قال النوويّ في "شرحه": قال أهل اللغة، والغريب: الطواغي هي الأصنام، واحدتها طاغية، ومنه هذه "طاغية دوس": أي صنمهم، ومعبودهم، سُمّي باسم المصدر لطغيان الكفار بعبادته؛ لأنه سبب طغيانهم وكفرهم. وكلّ ما جاوز الحدّ في تعظيم، أو غيره، فقد طغى، فالطغيان المجاوزة للحدّ، ومنه قوله تعالى:{لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} الآية [الحاقّة: 11]، أي جاوز الحدّ. وقيل: يجوز أن يكون المراد بالطواغي هنا مَنْ طغى من الكفّار، وجاوز القدر المعتاد في الشرِّ، وهم عُظماؤهم. وروي هذا الحديث في غير مسلم:"لا تحلفوا بالطواغيت"، وهو جمع طاغوت، وهو الصنم، ويُطلق على الشيطان أيضًا، ويكون الطاغوت واحدًا، وجمعًا، ومذكّرًا، ومؤنّثًا، قال اللَّه تعالى:{اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} الآية [الزمر: 17]، وقال تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} الآية [النساء: 60]

(1)

انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في شرحه لهذا الحديث: ما نصّه: الطواغي: جمع طاغية، كالروابي: جمع رابية، والدوالي: جمع دالية، وهي مأخوذ من الطغيان، وهو الزيادة على الحدّ، ومنه قوله تعالى:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ، أي زاد. قال: والطواغي، والطواغيت: كلّ معبود سوى اللَّه تعالى. قال: وقد تقرّر أن اليمين بذلك محرّم، وعلى ذلك فلا كفّارة فيه عند الجمهور؛ لأجل الحلف بها، ولا لأجل الحنث فيها، أما الأول؛ فلأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد قال:"من قال: واللات والعزّى، فليقل: لا إله إلا اللَّه"، ولم يذكر كفّارةً، ولو كانت لوجب تبيينها لتعيّن الحاجة لذلك.

(1)

"شرح مسلم" 11/ 111.

ص: 309

وأما الثاني، فليست بيمين منعقدة، ولا مشروعة، فيلزم بالحنث فيها الكفّارة، وقد شذّ بعض الأئمة، وتناقض فيما إذا قال: أُشرك باللَّه، أو أكفُر باللَّه، أو هو يهوديٌّ، أو نصرانيّ، أو بريء من الإسلام، أو من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو من القرآن، وما أشبه ذلك، فقال: هي أيمانٌ يلزم بها كفّارةٌ إذا حنِثَ فيها، أما شذوذه، فلأنه لا سلف له فيه من الصحابة، ولا موافق له من أئمّة الفتوى فيما أعلم. وأما تناقضه، فلأنه قال: لو قال: واليهوديّةِ، والنصرانيّة، والنبيِّ، والكعبةِ، لم يجب عليه كفّارة عنده، مع أنها على صيغ الأيمان اللغويّة، فأوجب الكفّارة فيما لا يُقال عليه يمين، لا لغةً، ولا شرعًا، ولا هو من ألفاظها، ولو عكس لكان أولى، وأمسّ، ولا حجة له في آية كفّارة اليمين؛ إذ تلك الكلمات ليست أيمانًا، كما بيّنّاه، ولو سلمنا أنها أيمان، فليست بمنعقدة، فلا يتناولها العموم، ثم يلزم بحكم العموم أن يوجب الكفّارة في كلّ ما يقال عليه يمينٌ لغة، وعرفًا، ولم يقل بذلك. واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- بتصرّف يسير

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد الرحمن بن سَمُرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا- 10/ 3801 - وفي "الكبرى"10/ 4715. وأخرجه (م) في "الأيمان والنذور" 1648 (ق) في "الكفّارات" 2095 (أحمد) في "مسند البصريين" 20101. وبقيّة متعلّقات الحديث من الفوائد، وغيرها تقدّمت. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

(1)

"المفهم" 4/ 624 - 625. "كتاب النذور والأيمان".

ص: 310

‌11 - (الْحَلِفُ بِاللَّاتِ)

3802 -

(أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ: بِاللَّاتِ، فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(كثير بن عُبيد) بن نمير الْمَذْحِجِيّ، أبو الحسن الحمصيّ الحذّاء المقرئ، ثقة [10] ، 5/ 486.

2 -

(محمد بن حرب) الخَوْلَاني الحمصيّ الأبرش، ثقة [9] 122/ 172.

3 -

(الزُّبيديّ) - مصغّرًا - محمد بن الوليد بن عامرن أبو الهذيل الحمصيّ القاضي، ثقة ثبتٌ، من كبار أصحاب الزهريّ [7] 45/ 56.

4 -

(الزهريّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت المدنيّ [4] 1/ 1.

5 -

(حميد بن عبد الرحمن) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة [2] 32/ 725.

6 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرد به هو، وأبو داود، وابن ماجه. (ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالحمصيين، والثاني بالمدنيين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ: بِاللَّاتِ) أي قال في حلفه باللات، أي بلا قصد، بل جرى على لسانه، كما جرت العادة بينهم بذلك؛ حيث كانوا قريبي عهد بجاهلية.

أخرج البخاريّ في "صحيحه" من طريق أبي الأشهب -جعفر بن حيان-، عن أبي الجوزاء- أوس بن عبد اللَّه-، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله "اللات، والعُزّى": كان اللات رجلاً يَلُتُّ سويق الحاجّ. قال في "الفتح": قال الإسماعيليّ: هذا التفسير على

ص: 311

قراءة من قرأ "اللات" بتشديد التاء. قال الحافظ: وليس بلازم، بل يحتمل أن يكون هذا أصله، وخُفّف لكثرة الاستعمال، والجمهور على القراءة بالتخفيف. وقد روي التشديد عن قراءة ابن عبّاس، وجماعة من أتباعه، ورويت عن ابن كثير أيضًا، والمشهور عنه التخفيف كالجمهور. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عبّاس، ولفظه فيه زيادة:"كان يلُتّ السويق على الحجر، فلا يشرب منه أحدٌ إلا سَمِنَ، فعبدوه". واختُلف في اسم هذا الرجل، فروى الفاكهيّ من طريق مجاهد، قال: كان رجلٌ في الجاهليّة على صخرة بالطائف، وعليها له غنمٌ، فكان يسلو من رِسْلها، ويأخذ من زبيب الطائف، والأقط، فيجعل منه حَيْسًا، ويُطعم من يمرّ به من الناس، فلَمّا مات عبدوه"، وكان مجاهد يقرأ "اللات" مشدّدةً. ومن طريق ابن جُريج نحوه، قال: وزعم بعض الناس أنه عامر بن الظَّرِب انتهى. وهو -بفتح الظاء المشالة، وكسر الراء، ثم موحّدة -وهو العُدْوانيّ -بضمّ المهملة، وسكون الدال- وكان حَكَمَ العرب في زمانه، وفيه يقول شاعرهم:

وَمِنَّا حَكَمٌ يَقْضِي

وَلَا يُنقَضُ مَا يَقْضِي

وحكى السهيليّ أنه عمرو بن لُحيّ بن قمعة بن إلياس بن مضر، قال: ويقال: هو عمرو بن لُحَيّ، وهو ربيعة بن حارثة، وهو والد خزاعة انتهى. وحرّف بعض الشرّاح كلام السهيليّ، وظنّ أن ربيعة بن حارثة قول آخر في اسم اللات، وليس كذلك، وإنما ربيعة بن حارثة اسم لُحيّ فيما قيل. والصحيح أن اللات غير عمرو بن لُحيّ، فقد أخرج الفاكهيّ من وجه آخر، عن ابن عبّاس أن اللات لمّا مات قال لهم عمرو بن لُحيّ: إنه لم يمت، ولكنّه دخل الصخرة، فعبدوها، وبنوا عليها بيتًا. وقد ثبت أن عمرو بن لُحيّ هو الذي حمل العرب على عبادة الأصنام. وحكى ابن الكلبيّ أن اسمه صرمة بن غنم، وكانت اللاتّ بالطائف. وقيل: بنخلة. وقيل: بعكاظ، والأول أصحّ. وقد أخرجه الفاكهيّ أيضًا من طريق يقسم، عن ابن عبّاس، قال هشام بن الكلبيّ: كانت مناة أقدم من اللات، فهدمها عليّ عام الفتح بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانت اللات أحدث من مناة، فهدمها المغيرة بن شعبة بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أسلمت ثقيف، وكانت العربيّ أحدث عن اللات، وكان الذي اتّخذها ظالم بن سعد بوادي نخلة فوق ذات عرق، فهدمها خالد بن الوليد بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الفتح. انتهى

(1)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: اللات، والعزّى، ومناة أصنامٌ ثلاثةٌ

(1)

"فتح" 9/ 594 - 595. "كتاب التفسير".

ص: 312

كانت في جوف الكعبة. وقيل: اللات بالطائف، والعُزّى بغطفان، وهي التي هدمها خالد بن الوليد، ومناة بقُدَيد. وقيل: بالمشلَّل. فأما اللات، فقيل: إنهم أرادوا به تأنيث اسم اللَّه تعالى. وقيل: أرادوا يسمّوا بعض آلهتهم باسم اللَّه تعالى، فصرف اللَّه ألسنتهم عن ذلك، فقالوا: اللات؛ صيانة لذلك الاسم العظيم أن يُسمّى به غيره، كما صرف ألسنتهم عن سبّ محمد صلى الله عليه وسلم إلى مُذَمَّم، فكانوا إذا تكلّموا باسمه في غير السبّ، قالوا: محمد، فإذا أرادوا أن يسبّوه، قالوا: مذمّم، حتى قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ألا تعجبون مما صرف اللَّه عنّي من أذى قريش؟ يسبون مذمّمًا، وأنا محمد"، رواه البخاريّ-3533، والنسائيّ-6/ 159.

ولَمّا نشأ القوم على تعظيم تلك الأصنام، وعلى الحلف بها، وأنعم اللَّه عليهم بالإِسلام، بقيت تلك الأسماء تجري على ألسنتهم من غير قصد للحلف بها، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم من نطق بذلك أن يقول بعده: لا إله إلا اللَّه، تكفيرًا لتلك اللفظة، وتذكيرًا من الغفلة، وإتمامًا للنعمة. وخصَّ اللات بالذكر في هذا الحديث؛ لأنها أكثر ما كانت تجري على ألسنتهم، وحكم غيرها من أسماء آلهتهم حكمها؛ إذ لا فرق بينها.

والعُزَّى تأنيث الأعزّ، كالْجُلَّى تأنيث الأجلّ. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-

(1)

.

(فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أي استدراكا لما فاته من تعظيم اللَّه تعالى في محله، ونفيًا لما تعاطى من تعظيم الأصنام صورةً، وأما من قصد الحلف بالأصنام تعظيمًا لها، فإنه كافر بلا خلاف، -نعوذ باللَّه تعالى من ذلك-.

وقال الخطّابيّ: اليمين إنما تكون بالمعبود المعظّم، فإذا حلف باللات، ونحوها، فقد ضاهى الكفّار، فأمر أن يتدارك بكلمة التوحيد. وقال ابن العربيّ: من حلف بها جادًّا، فهو كافر، ومن قالها جاهلاً، أو ذاهلًا، يقول: لا إله اإلا اللَّه، يكفّر اللَّه عنه، ويردُّ قلبه عن السهو إلى الذكر، ولسانه إلى الحقّ، وينفي عنه ما جرى به من اللغو.

(وَمَنْ قَالَ: لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ) بالجزم على أنه جواب الأمر، والمقامرة مصدر قامره: إذا طلب كلّ منهما أن يغلب على صاحبه في فعل أمر، أو قول، ليأخذ مالاً جَعلاه للغالب منهما، وهذا حرام بالإجماع، إلا أنه استُثني منه نحو سباق الخيل، على ما سبق بيانه في بابه. واللَّه تعالى أعلم

(2)

.

(فَلْيَتَصَدَّقْ) قال الخطّابيّ: أي بالمال الذي كان يريد أن يقامر به. وقيل: بصدقة ما

(1)

"المفهم" 4/ 625 - 626."كتاب النذور والأيمان".

(2)

راجع "شرح السنديّ" 7/ 7.

ص: 313

لتكفّر عنه القول الذي جرى على لسانه. قال النوويّ: وهذا هو الصواب، وعليه يدلّ ما في رواية مسلم:"فليتصدّق بشيء"، وزعم بعض الحنفيّة أنه يلزمه كفّارة يمين، وفيه ما فيه. انتهى

وقال القرطبيّ: القول فيه كالقول في اللات؛ لأنهم كانوا اعتادوا المقامرة، وهي من أكل المال بالباطل، ولما ذمها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالغ في الزجر عنها، وعن ذكرها، حتّى إذا ذكرها الإنسان طالبًا للمقامرة بها أمره بصدقة.

والظاهر وجوبها عليه؛ لأنها كفارة مأمور بها، وكذلك قول لا إله إلا اللَّه على من قال: واللاتِ.

ثم هذه الصدقة غير محدودة، ولا مقدّرة، فيتصدّق بما تيسر له مما يصدق عليه الاسم، كالحال في صدقة مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} الآية [المجادلة: 12]، فإنها غير مقدّرة. وقال الخطّابيّ: يتصدّق بقدر ما أراد أن يقامر به، وليس في اللفظ ما يدلّ عليه، ولا في قواعد الشرع، ولا للعقل مجالٌ في تقدير الكفّارات، فهو تحكّم. وأبعد من هذا قولُ من قال من الحنفيّة: إن المراد بها كفّارة اليمين. وهذا فاسدٌ قطعًا؛ لأن كفّارة اليمين ما هي صدقة فقط، بل عتقٌ، أو كسوةٌ، أو إطعامٌ، فإن لم يجد فصيامٌ، فكيف يصحّ أن يقال: أطلق الصدقة، وهو يُريد به إطعام عشرة مساكين، وأنه مخيّرٌ بينه وبين غيره، من الخصال المذكورة معه في الآية؛. وأيضًا فإنه لا يتمشّى على أصل الحنفيّة المتقدّم الذكر، فإنهم قالوا: لا تجب الكفّارة إلا بالحنث في قوله: يهوديّ، أو نصرانيّ، إلى غير ذلك، مما ذكروه، وهذا حكم معلّقٌ على نطق بقولٍ ليس فيه يمين، ولا التزام، وإنما هو استدعاءٌ للمقامرة، فأين الأرض من السماء؟، والعرش من الثرى؟. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

وهو تحقيق نفيس. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-11/ 3802 - وفي "الكبرى" 11/ 4716. وأخرجه (خ) في

(1)

"المفهم" 4/ 626 - 627.

ص: 314

"التفسير 4860 و "الأدب" 6107 و"الاستئذان" 6301 و"الأيمان والنذور" 6650 (م) في "الأيمان والنذور" 1647 (د) في "الأيمان والنذور" 3247 (ت) في "الأيمان والنذور" 1545 (ق) في "الكفّارات" 2096 (أحمد) في باقي مسند المكثرين"8026. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم الحلف باللات، وهو وجوب قول "لا إله إلا اللَّه" على من حلف بذلك. (ومنها): تحريم الحلف بالأصنام، والأوثان، وغيرها مما يعظّم من دون اللَّه سبحانه. (ومنها): تحريم القمار، كما نصِّ اللَّه عز وجل عليه في كتابه المبين، حيث قال تعالى:{أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].

(ومنها): أن من طلب من آخر أن يقامره، وجب عليه أن يتصدّق بشيء من ماله؛ كفّارة لمعصيته، وأما ما قاله السنديّ تبعًا لغيره من أن التصدّق مندوب، غير صحيح، بل الأصحّ أنه واجب، كما تقدّم تحقيقه في كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-؛ كما أن قول: لا إله إلا اللَّه الماضي واجبٌ؛ وذلك لأنه أتى به الأمر، وأمر الشارع للوجوب، إذا لم يوجد له صارف، وليس له هنا صارف، فتنبّه. (ومنها): أن بعضهم قال: في هذا الحديث حجة للجمهور أن العزم على المعصية إذا استقرّ في القلب كان ذنبًا يكتب عليه، بخلاف المخاطر الذي لا يستمرّ. وتعقّبه الحافظ، فقال: ولا أدري من أين أخذ ذلك مع التصريح في الحديث بصدور القول حيث نطق بقوله: "تعال أُقامرك"، فدعاه إلى المعصية، والقمار حرامٌ باتفاق، فالدعاء إلى فعله حرام، فليس هنا عزمٌ مجرّد

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

(1)

"فتح" 9/ 595 "كتاب التفسير".

ص: 315

‌12 - (الْحَلِفُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى)

3803 -

(أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا نَذْكُرُ بَعْضَ الْأَمْرِ، وَأَنَا حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَحَلَفْتُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ لِي أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بِئْسَ مَا قُلْتَ: ائْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبِرْهُ، فَإِنَّا لَا نَرَاكَ إِلَّا قَدْ كَفَرْتَ، فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ لِي: "قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَا تَعُدْ لَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أبو داود) سليمان بن سيف الطائيّ مولاهم، الْحَرّانيّ، ثقة حافظ [11] 103/

136.

2 -

(الحسن بن محمد) بن أعين، أبو عليّ الحرّانيّ، صدوقٌ [9] 16/ 649.

3 -

(زهير) بن معاوية بن حُدَيح، أبو خيثمة الْجُعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقة ثبت، إلا أن سماعه من أبى إسحاق بأخرة [7] 38/ 42.

4 -

(أبو إسحاق) عمرو بن عبد اللَّه بن عُبيد الهمدانيّ السببِيعيّ الكوفيّ، ثقة عابد مكثر، اختلط بآخره، وكان يدلّس [3] مكثر 38/ 42.

5 -

(مُصعب بن سعد) الزهريّ، أبو زُرارة المدنيّ، ثقة [3] 91/ 1032.

6 -

(أبوه) سعد بن أبي وقّاص مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق، مات - رضي اللَّه تعالى عنه - بالعقيق سنة (55) على المشهور 96/ 121. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أن فيه حرّانيين: شيخه، والحسن، وكوفيين: زهير، وأبو إسحاق، ومدنيين: مصعب، وأبوه. (ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، ورواية الابن، عن أبيه. (ومنها): أن صحابيّه، أحد العشرة المبشّرين بالجنة رضي الله عنهم، وأول من رمى بسهم في سبيل اللَّه، وآخر من مات من العشرة - رضي اللَّه تعالى عنهم - مات سنة (55) على الأصح. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 316

شرح الحديث

(عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ) سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كُنَّا نَذْكُرُ بَعْضَ الْأَمْرِ، وَأَنَا حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ) أي قريب الدخول إلى الإسلام، ولم تزل منه آثار الجاهليّة، والجاهليّة: ما قبل الإسلام، مما كانت فيه العرب، من الجهل باللَّه سبحانه وتعالى، وبأحكامه، حتى أخرجها اللَّه تعالى من ذلك الضلال ببعث النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم (فَحَلَفْتُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى) أي جرى ذلك منه على العادة، وليس قاصدًا لذلك، كما يُرشد إليه السياَق (فَقَالَ لِي أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية:"أصحابي"، ولا تنافي بينهما؛ وإن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هم أصحابه (بِئْسَ مَا قُلْتَ) أي من الحلف باللات، والعزّى، فإنه منكرٌ من القول، وزورٌ، وفي الرواية التالية زيادة:"قُلتَ هُجرًا"، وهو -بضمّ الهاء، وسكون الجيم-: هو القبيح من الكلام (ائْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبِرْهُ، فَإِنَّا لَا نَرَاكَ إِلَّا قَدْ كَفَرْتَ) هذا ظنّ من الصحابة رضي الله عنهم، أدّاهم إليه شدّة بغضهم لما كانوا عليه من الجهل باللَّه تعالى، وبأحكامه، فظنّوا أن من قال ذلك، ولو كان غير قاصد يكفر به (فَأَتَيْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (فَأَخْبَرْتُهُ) أي بما جرى له من الحلف المذكور (فَقَالَ: لِي: " قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ) زاد في الرواية التالية: "له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير". وفي نسخة:(إسقاط جملة: "لا شريك له" (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) إنما أمره بتكرارها -واللَّه أعلم- مبالغة في التبرّي من الأصنام (وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ) أي لأن هذا من عمله؛ إذْ هو الحامل على المنكر من القول والفعل، كما قال اللَّه تعالى:{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169](ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَاتْفُلْ) -بضمّ الفاء، وكسرها، أمر من تفل، من بابي ضرب، وقتل، يقال: بزَق، ثم تفَل، ثم نَفَث، ثم نَفَخ. قاله الفيّومي. أي فالتَّفْل أشدّ من البَزْق، ويليه النَّفْثُ، ويليه النفخ (عَنْ يَسَارِكَ) وفي نسخة:"عن شمالك"، وإنما أمره بالتفل في يساره؛ لأنه موقف الشيطان، من الإنسان، فإن اليمين للملك، واليسار للشيطان، ويشهد له ما أخرجه مسلم في "صحيحه" من طريق أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها، فليبصق عن يساره ثلاثا، وليستعذ باللَّه من الشيطان ثلاثا، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه".

ويؤيّده أيضًا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يبصق أمامه، فإنما يناجي اللَّه ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه، فإن عن يمينه ملكا، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه، فيدفنها"، متّفقٌ عليه، وقد بُيَّنَ كونُ

ص: 317

اليسار موقف الشيطان، فيما رواه ابن أبي شيبة، من حديث أبي أُمامة رضي الله عنه في هذا الحديث:"فإنه يقوم بين يدي اللَّه، وملكه عن يمينه، وقرينه عن يساره".

(ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَا تَعُدْ لَهُ) -بضمّ العين المهملة، من العَوْد، وهو الرجوع، أي لا ترجع لمثل هذا القول مرّة أخرى؛ لأنه من عمل الشيطان الذي هو عدوّ الإنسان، واللَّه تعالى أمرنا بمخالفته، واتخاذه عدوًّا، فقال تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سعد بن أبي وقّاص - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه أبو إسحاق مدلّسٌ، وقد عنعنه، وهو أيضًا ممن اختلط في آخره، وزهير بن معاوية إنما سمع منه بعد اختلاطه؟

(1)

.

[قلت]: أما عنعنته فقد زالت بتصريحه بالتحديث في الرواية التالية، وأما اختلاطه، فإن زهيرًا، وإن كان أخذه عنه بآخره، إلا أنه تابعه إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، فرواه عنه، كما أخرجه أحمد في "مسنده" من طريقه -1/ 183 و 186 - 187 - وإسرائيل في جدّه أبي إسحاق، أثبت حتّى من شعبة، والثوريّ، كما قاله ابن مهديّ، وقال ابن مهديّ أيضًا: ما فاتني الذي فاتني من حديث الثوريّ عن أبي إسحاق، إلا لما اتّكلت به على إسرائيل؛ لأنه كان يأتي به أتمّ. وقال حجاج الأعور: قلنا لشعبة: حدّثنا حديث أبي إسحاق، قال: سلوا عنها إسرائيل، فإنه أثبت فيها منّي. مع أن يحيى بن معين: قال أثبت أصحاب أبي إسحاق سفيان، وشعبة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-12/ 3803 و 3804 - وفي "الكبرى" 12/ 4717 و 4718. وأخرجه (ق) في "الكفارات" 2097 (أحمد) في "مسند العشرة" 1593. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم الحلف باللات والعزّى، وهو ما ذُكِرَ في الحديث. (ومنها): أن من تكلّم بالمكفّرات، لجهله،

(1)

ضعّفه الشيخ الألبانيّ بسبب هاتين العلتين، انظر "الإرواء" 8/ 192 - 193.

ص: 318

ّأو نسيانه، بأن كان قريب عهد بالجاهليّة، لا يكفر بذلك، ولا يخرج عن الإسلام؛ لأنه غير قاصد لذلك. (ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الاشمئزاز، والنَّفْرة حينما يسمعون ألفاظًا منكرة، وقيامهم بالإنكار على من رأوا ذلك منه، وهذا هو الواجب على كلّ مسلم عند ما يرى المنكر، من القول والفعل، فقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". (ومنها): أن من وقع في المخالفات ينبغي له أن يتعوّذ من الشيطان، ويذكر اللَّه تعالى؛ ليبعده عنه؛ فإن ذكر اللَّه سبحانه وتعالى حصنٌ حصين منيع، لا يصل الشيطان إلى ابن آدم ما دام متحصّنًا به. (ومنها): وجوب التوبة على من اقترف معصية، وعدم الرجوع إليها، وهذا من شروط التوبة الصحيحة، فإنها الندم، والإقلاع عنها في الحال، والعزم على أن لا يعود في المستقبل، وإذا تعلّقت بحقّ آدميّ شُرط الخروج عن تلك المظلمة، إن أمكنه ذلك، قال في "الكوكب الساطع":

وَاعرِضْ عَلَى نَفْسِكَ تَوْبَةً تُؤَمُّ

وَمَا حَوَتْ مِنْ حَسَنٍ وَهْيَ النَّدَمْ

وَشَرْطُهَا الإقْلَاعُ وَالعَزْمُ السَّنِي

أَنْ لَا يَعُودَ وَادِّرَاكُ الْمُمْكِنِ

وقوله: "وادراك الممكن" افتعال من الدرك، أي تدارك ما أمكن تداركه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3804 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَلَفْتُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ لِي أَصْحَابِي: بِئْسَ مَا قُلْتَ: قُلْتَ هُجْرًا، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:"قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَانْفُثْ عَنْ يَسَارِكَ، ثَلَاثًا، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ لَا تَعُدْ"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عبد الحميد بن محمد": هو أبو عمر الحرّانيّ، إمام مسجدها، ثقة [11] 22/ 932 من أفراد المصنّف. و"مخلد": هو ابن يزيد القرشيّ الحرّانيّ، صدوق، له أوهام، من كبار [9] 141/ 222. و"يونس بن أبي إسحاق": هو أبو إسرائيل الكوفيّ، صدوق يَهِم قليلاً [5] 16/ 652.

وقوله: "هُجرًا" -بضمّ، فسكون-: أي كلامًا قبيحًا. وقوله: "وانفث" بضمّ الفاء،

(1)

وفي نسخة: "ولا تَعُد".

ص: 319

أمر من نفث، من باب ضرب، يقال: نفث: إذا بزَقَ، ومنهم من يقوله: إذا بزق، ولا ريق معه. قاله الفيّوميّ. والحديث صحيح، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌13 - (إِبْرَارُ الْقَسَمِ)

3805 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِسَبْعٍ: أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَرَدِّ السَّلَامِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجالَ هذا الإسناد رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة، و"محمد": هو ابن جعفر غندر. و"الأشعث بن سُليم": هو ابن أبي الشعثاء المحاربيّ الكوفيّ، ثقة [6] 90/ 112. و "معاوية بن سُويد بن مُقَرِّن": هو المزنيّ، أبو سُويد الكوفيّ، ثقة [3] 52/ 1479.

وقوله: "اتباع الجنائز": أي تشييعه إلى محلّ الصلاة عليه، ودفنه. وتقدّم تمام البحث فيه في "كتاب الجنائز".

وقوله: "وعيادة المريض": أي زيارته، وتفقّده، يقال: عاد يعوده عيادة: إذا زاره. وقوله: "وتشميت العاطس": بالشين المعجمة، هو الدعاء له إذا عطس، وحَمِدَ اللَّه تعالى، فعلى المشمّت أن يقول له:"يرحمك اللَّه"، كما بيّنه ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا عطس أحدكم، فليقل: الحمد للَّه، وليقل له أخوه) -أو- "صاحبه: يرحمك اللَّه، فإذا قال له: يرحمك اللَّه، فليقل: يَهدِيكم اللَّه، ويُصلح بالكم".

وقوله: "وإجابة الداعي" تعمّ الوليمة، وغيرها، ويتأكد في الوليمة، وقد تقدم بيانه في "النكاح".

وقوله: "ونصر المظلوم": أي إعانته على ظالمه، وتخليصه منه. وقوله:"ورد السلام": وفي رواية: "وإفشاء السلام": أي إشاعته، ولا يخصّ به من يعرف، دون من لا يعرف.

ص: 320

وهذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم للمصنّف في "كتاب الجنائز" -153/ 939 - "الأمر باتّباع الجنائز"، وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، وإنما أتكلّم هنا ما يتعلّق بما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو إبرار "القسم"، وفي رواية:"إبرار المقسم"، واختُلف في ضبط سينه، فالمشهور أنها بالكسر، وضمّ أوله، على أنه اسم فاعل. وقيل: بفتحها: بمعنى الإقسام؛ لأن المصدر الزائد على الثلاثيّ يأتي بصيغة اسم المفعول، مثلُ أدخلته مُدخَلًا، أي إدخالًا.

و"الأبرار" -بكسر الهمزة: مصدر أبرّ يُبِرّ، و"القسم" بفتحتين: الحلف، وأصله من القَسَامة، وهي الأيمان التي على أولياء المقتول، سميت قَسامة لأن الأيمان تُقسم على أولياء القتيل، ثم استعمل القسم في كلّ حلف. أفاده في "الفتح"

(1)

.

فمعنى إبرار القَسَم: جَعْلُ الحالف بارًّا في حلفه بفعل ما أراد، إذا أمكن، كما إذا حلف واللَّه ليدخلنّ زيد اليوم داري، فعدم زيد به، وهو قادر على الدخول، ولا مانع له من ذلك، فعليه أن يُبرّه في قسمه، ولا يحنّثه.

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: وأما إبرار القسم، فهو سنّةٌ أيضًا مستحبّة، متأكّدة، وإنما يُندب إليه إذا لم يكن فيه مفسدة، أو خوف ضرر، أو نحو ذلك، فإن كان شيء من هذا لم يُبرّ قسمه، كما ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه لَمّا عبّر الرؤيا بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أصبت بعضًا، وأخطأت بعضًا، فقال: أقسمت عليك يا رسول اللَّه، لتُخبرنّي، فقال: لا تُقسم، ولم يخبره". متّفق عليه.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في قوله: "مستحبّة" نظرٌ لا يخفى، إذ ورد الأمر بها، والأمر للوجوب، إلا لصارف، فإن كان هناك، صارف، من إجماع، أو نحوه، فذاك، وإلا فالظاهر الوجوب، فتأمّل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: قال ابن المنذر -رحمه اللَّه تعالى-: اختُلف فيمن قال: أقسمت باللَّه، أو أقسمت مجرّدة، فقال قومٌ: هي يمين، وإن لم يقصد، وممن رُوي ذلك عنه ابن عمر، وابن عبّاس، وبه قال النخعيّ، والثوريّ، والكوفيّون. وقال الأكثرون: لا تكون يمينًا، إلا أن ينوي. وقال مالك: أقسمت باللَّه يمين، وأقسمت مجرّدة لا تكون يمينًا، إلا إن نوى. وقال الشافعيّ: المجرّدة لا تكون يمينًا أصلًا ولو نوى، وأقسمت باللَّه، إن نوى تكون يمينًا. وقال إسحاق: لا تكون يمينًا أصلاً. وعن أحمد رواية كالأول، وعنه كالثاني، وعنه إن قال قسمًا باللَّه، فيمين جزمًا؛ لأن التقدير أقسمت باللَّه قسمًا، وكذا

(1)

راجع الفتح" 13/ 391. "كتاب الأيمان والنذور".

ص: 321

لو قال: أليّةً باللَّه. قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الظاهر أن ما ذهب إليه الأكثرون من أنها لا تكون يمينا إلا بالنية أقرب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌14 - (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا)

3806 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي السَّلِيلِ، عَنْ زَهْدَمٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا عَلَى الْأَرْضِ يَمِينٌ، أَحْلِفُ عَلَيْهَا، فَأَرَى غَيْرَهَا، خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَتَيْتُهُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "ابن أبي عديّ": هو محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ. و"سليمان": هو ابن طرخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، ثقة عابد [4] 87/ 107.

و"أبو السليل" -بفتح المهملة" وكسر اللام -اسمه ضُرَيب- بالتصغير، آخره باء موحّدة- ابن نُقَير -بنون، وقاف، مصغّرًا - ويقال: نُفير -بالفاء- ويقال: نُفيل -باللام- الْقَيسيّ الْجُرَيريّ -بالضم مصغّرا- البصريّ، ثقة [6].

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة. وقال ابن سعد: ثقة، إن شاء اللَّه. ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نُمير، وغيره. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى له الجماعة، سوى البخاريّ، وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديث الباب فقط.

و"زهدم" -بوزن جعفر- ابن مُضَرِّب- بصيغة اسم الفاعل المضعّف الأَزديّ الْجَرْميّ، أبو مسلم البصريّ، ثقة [3].

قال العجليّ: تابعيّ ثقة. ذكره ابن حبّان في "الثقات". أخرج له الجماعة، سوى أبي داود، وابن ماجه، وله عندهم حديثان فقط: حديث الباب، وحديث: "خيركم قرني، ثم الذين يلونهم

". وله عند المصنّف في هذا الكتاب أربعة أحاديث: برقم -3806 و 3838 و 4373 و 4374.

(1)

راجع "الفتح" 13/ 392.

ص: 322

وقوله: "ما على الأرض يمين" المراد باليمين هنا: المحلوف عليه مجازًا. وقوله: "إلا أتيته" أي فعلت الخيرَ، وتركتُ المحلوف عليه. وتمام شرح الحديث، ومسائله تأتي مستوفاةً في الحديث الآتي في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌15 - (الْكَفَّارَةُ قَبْلَ الْحِنْثِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الْحِنْث" -بكسر الحاء المهملة، وسكون النون، آخره شاء مثلّثة-: نقض اليمين، والنكْثُ فيها، يقال: حَنِث في يمينه يَحْنَثُ، من باب عَلِمَ، وكأنه من الْحِنث: أي الإثم، والمعصية. أفاده في "النهاية"

(1)

.

وقال في "القاموس": الْحِنْثُ -بالكسر-: الإثم، والحلف في اليمين، والمَيْلُ من باطل إلى حقّ، وعكسه، وقد حَنِثَ كعَلِمَ، وأحنثتُهُ أنا. انتهى.

وقال الفيّوميّ: حَنِثَ في يمينه يَحنَثُ حِنْثًا: إذا لم يَفِ بموجبها، فهو حانثٌ، وحَنَّثْته: جعلتُهُ حانثًا، والحِنثُ: الذنب، وتحنث: إذا فعل ما يخرُج به من الْحِنثِ. قال ابن فارس: والتحتّثُ: التعبّد، ومنه كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتحنّث في غار حراء. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3807 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي رَهْطٍ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ، نَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: "وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ"، ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ، فَأُتِيَ بِإِبِلٍ، فَأَمَرَ لَنَا بِثَلَاثِ ذَوْدٍ، فَلَمَّا انْطَلَقْنَا، قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: لَا يُبَارِكُ اللَّهُ لَنَا، أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَسْتَحْمِلُهُ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا، قَالَ أَبُو مُوسَى: فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ، بَلِ اللَّهُ حَمَلَكُمْ، إِنِّي وَاللَّهِ، لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا، خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ").

(1)

"النهاية" 1/ 449.

ص: 323

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(حماد) بن زيد بن درهم، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبت فقيه [8] 3/ 3.

[تنبيه]: "حمّاد" هنا: هو ابن زيد؛ لأن قتيبة لم يُدرك حمّاد بن سلمة. قاله في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

3 -

(غيلان بن جرير) -بفتح الغين المعجمة، وسكون التحتانيّة- الأزديّ الْمِعْوَليّ البصريّ، ثقة [5] 124/ 1082.

4 -

(أبو بُرْدة) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر. وقيل: الحارث الكوفي،

ثقة [3] 3/ 3.

5 -

(أبو موسى الأشعريّ) عبد اللَّه بن قيس بن سُلَيم بن حَضّار الصحابيّ المشهور، أمّره عمر، ثم عثمان، وهو أحد الحكمين بصِفِّين، مات رضي الله عنه سنة (50) وقيل: بعدها، تقدّمت ترجمته في 3/ 3. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه بصريين، وكوفيين، وبغلانيّ. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ) - رضي اللَّه تعالى عنه -، أنه (قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الحديث قصَّة، في "الصحيحين"، وفي غيرهما، ولفظ البخاريّ -7555 - من طريق أيوب، عن أبي قلابة، والقاسم التميمي، عن زَهدم، قال: كان بين هذا الحي، من جَرْم، وبين الأشعريين وُدٌّ وِإخَاءٌ، فكنا عند أبي موسى الأشعري، فقُرِّب إليه الطعام، فيه لحم دجاج، وعنده رجل من بني تيم اللَّه، كأنه من الموالي، فدعاه إليه، فقال: إني رأيته يأكل شيئا، فقذرته، فحلفت لا آكله، فقال: هَلُمَّ فلأحدثك عن ذاك، إني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، في نفر من الأشعريين نستحمله، قال:"واللَّه لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم"، فأُتي النبي صلى الله عليه وسلم بنهب إبل، فسأل عنّا، فقال: (أين النفر الأشعريون؟ "، فأمر لنا بخمس ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى، ثم انطلقنا، قلنا: ما صنعنا، حَلَفَ

(1)

"فتح" 13/ 467. "كتاب كفّارت الأيمان". رقم 6719.

ص: 324

رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، أن لا يحملنا، وما عنده ما يحملنا، ثم حمدنا، تَغَفَّلْنا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يمينه، واللَّه لا نُفلح أبدا، فرجعنا إليه، فقلنا له، فقال:"لست أنا أحملكم، ولكن اللَّه حملكم، وإني واللَّه، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير منه، وتحللتها".

(فِي رَهْطٍ) -بفتح الراء، وسكون الهاء، أفصح من فتحها -: ما دون عشرة من الرجال، ليس فيهم امرأة، وهو جمعٌ لا واحد له من لفظه. وقيل: الرهط من سبعة إلى عشرة، وما دون السبعة إلى ثلاثة نَفَر. وقال أبو زيد: الرهط، والنَّفَرُ: ما دون العشرة من الرجال. وقال ثعلب أيضًا الرهط، والنفر، والقوم، والْمَعْشَرُ، والْعَشِيرةُ: معناهم الجمعُ، لا واحد لهم من لفظهم، وهم للرجال، دون النساء. وقال ابن السّكّيت: الرهط، والعَشِيرةُ بمعنًى، ويقال: الرهط ما فوق العشرة إلى الأربعين. قاله الأصمعيّ في "كتاب الضاد والظاء"، ونقله ابن فارس أيضًا. ورهطُ الرجل: قومه، وقبيلته الأقربون. قاله الفيّوميّ (مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ) -بفتح الهمزة، وسكون الشين المعجمة- نسبة أشعر قبيلة مشهورة باليمن، والأشعر هو نبت بن أُدد بن زيد بن يَشْجُب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، قيل له: الأشعر؛ لأن أمه ولدته والشعر على بدنه. قاله في "اللباب"

(1)

.

وفي رواية للبخاريّ من طريق عبد السلام بن حرب، عن أيوب بلفظ: (إنا أتينا النبيّ صلى الله عليه وسلم نفر من الأشعريين"، فاستدلّ به ابن مالك لصحّة قول الأخفش: يجوز أن يُبدل من ضمير الحاضر بدل كلّ من كلّ، وحمل عليه قوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية [الأنعام: 12]، قال ابن مالك: واحترزت بقولي بدل كلّ من كلّ عن البعض، والاشتمال، فذلك جائز اتفاقًا، وإليه أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَمِنْ ضَمِيرِ الحَاضِرِ الظَّاهِرَ لَا

تُبْدِلهُ إِلاَّ مَا إِحَاطَةَ جَلَا

أَوِ اقْتَضَى بَعْضًا أَوِ اشْتِمَالَا

كَأَنَّكَ ابْتِهَاجكَ اسْتَمَالَا

ولَمَّا حكاه الطيبيّ أقرّه، وقال: هو عند علماء البديع يُسمَّى التجريد. لكن تعقّب الحافظ ذلك، وقال: لا يحسن الاستشهاد به، إلا لو اتفقت الرواة، والواقع أنه بهذا اللفظ انفرد به عبد السلام، وقد أخرجه البخاريّ في مواضع أخرى بإثبات "في"، فقال في معظمها "في رهط"، كما هي رواية ابن عُليّة، عن أيوب في "كفّارات الأيمان"، وفي

(1)

"اللباب" 1/ 64 - 65.

ص: 325

بعضها (في نفر"، كما هي رواية حماد، عن أيوب في "فرض الخمس". انتهى

(1)

.

(نَسْتَحْمِلُهُ) أي نطلب منه ما نركبه، ويحمل أثقالنا في الغزو، وكان ذلك في غزوة تبوك. وفي رواية لمسلم:"كنّا مشاة، فأتينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نستحمله". وزاد في رواية ابن عليّة، عن أيوب:"وهو يَقسم غنمًا، من نَعَم الصدقة"، قال أيوب: أحسبه قال: "وهو غضبان"، وفي رواية عبد الوارث، عن أيوب:"فوافقته، وهو غضبان، وهو يَقسم نَعَمًا من نَعَم الصدقة"، وفي رواية وُهيب، عن أيوب عند أبي عوانة في "صحيحه": (وهو يَقسم ذَوْدًا من إبل الصدقة".

وفي رواية لمسلم-1649 - من طريق بُريد بن عبد اللَّه، عن أبي بُردة، عن أبي موسى صلى الله عليه وسلم، قال:"أرسلني أصحابي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أسأله لهم الْحُمْلان، إذهم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك، فقلت: يا نبيّ اللَّه، إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: واللَّه لا أحملكم على شيء، ووافقته، وهو غضبان، ولا أشعُرُ، فرجعت حزينًا من منع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومن مخافة أن يكون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد وجَدَ في نفسه عليّ، فرجعت إلى أصحابي، فأخبرتهم الذي قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلم أَلبَث إلا سُويعة، إذ سمعت بلالا ينادي، أَيْ عبد اللَّه بن قيس، فأجبته، فقال: أجب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: خذ هذين القرينين، وهذين القرينين، وهذين القرينين، لستة أبعرة، ابتاعهن حينئذ من سعد، فانطَلِقْ بهن إلى أصحابك، فقل: إن اللَّه -أو قال-: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يحملكم على هؤلاء، فاركبوهن، قال أبو موسى، فانطلقت إلى أصحابي بهنّ، فقلت: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يحملكم على هؤلاء، ولكن واللَّه، لا أَدَعُكم، حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حين سألته لكم، ومنعه في أول مرة، ثم إعطاءه إياي بعد ذلك، لا تظنوا أني حدثتكم شيئا، لم يقله، فقالوا لي: واللَّه إنك عندنا لَمُصَدَّق ولنفعلنّ ما أحببت، فانطلق أبو موسى بنفر منهم، حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومنعه إياهم، ثم إعطاءهم بعدُ، فحدثوهم بما حدثهم به أبو موسى سواء".

ويجمع بأن أبا موسى حضر هو والرهط، فباشر الكلام بنفسه عنهم.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ) قال القرطبيّ: فيه جواز اليمين عند المنع، ورد السائل الملْحِف عند تعذر الإسعاف، وتأديبه بنوع من الإغلاظ بالقول (وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ) أي ليس عندي شيء من الإبل أحملكم عليه، وإنما ذكر صلى الله عليه وسلم هذه الجملة-واللَّه أعلم-

(1)

"فتح" 13/ 477.

ص: 326

اعتذارًا، وبيانًا لسبب حلفه (ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ) أي من الزمن (فَأُتِيَ بِإِبِلٍ) بالبناء للمفعول. وفي رواية:"فأتي رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بنَهب إبل" -بفتح النون، وسكون الهاء، بعدها موحّدة-: أي غنيمة، وأصله ما يؤخذ اختطافًا بحسب السبق إليه على غير تسوية بين الآخذين. ووقع في رواية الأصيليّ، وكذا لأبي ذرّ، عن السرخسيّ والمستملي:"فاُتي بشائل"، يقال: ناقة شائلة، ونُوق شائلٌ، وهي التي جفّ لبنها. وعن الأصمعيّ: إذا أتى على الناقة من يوم حملها سبعة أشهر جفّ لبنها، فهي شائلة، والجمع شُول بالتخفيف، وإذا شالت بذنبها بعد اللقاح، فهي شائل، والجمع شُوَّل بالتشديد انتهى.

وفي رواية بُريدة، عن أبي بُردة أنه صلى الله عليه وسلم ابتاع الإبل التي حَمَل عليها الأشعريين من سعد، وفي الجمع بينها وبين رواية الباب عُسْرٌ، لكن يحتمل أن تكون الغنيمة لَمّا حصَلت حصل لسعد منها القدر المذكور، فابتاع النبيّ صلى الله عليه وسلم منه نصيبه، فحملهم عليه. قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَأَمَرَ لَنَا) وفي رواية ابن عُليّة عند البخاريّ: "فقيل: أين الأشعريّون؟ فأتينا، فأمر لنا"، وفي رواية حماد:"وأتي بنهب إبل، فسأل عنّا، فقال: أين النفر الأشعريّون؟ فأمر لنا"، وفي رواية يزيد:"فلم ألبث إلا سُويعة، إذ سمعت بلالاً ينادي، أين عبد اللَّه بن قيس؛ فأجبته، فقال: أجب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيته، قال: خذ".

(بثَلَاثِ ذَوْدٍ) قال النوويّ: هو من إضافة الشيء إلى نفسه، وقد يحتجّ به من يُطلق الذّود على الواحد. انتهى.

وفي نسخة: "بثلاثة ذود"، بإثبات الهاء، قال النوويّ: هو صحيح، يعود إلى معنى الإبل، وهو الأبعرة.

وقال في "الفتح": قيل: الصواب الأول؛ لأن الذّود مؤنّثٌ، ووُجِّهَ بأنه إنما ذكّره باعتبار لفظ الذود، أو أنه يُطلق على الذكور والإناث، أو الرواية بالتنوين، والذود إما بدل، فيكون مجرورًا، أو مستأنف، فيكون مرفوعًا.

و"الذَّوْد" -بفتح الذال المعجمة، وسكون الواو، بعدها مهملة-: من الثلاث إلى العشر. وقيل: إلى السبع. وقيل: من الاثنين إلى التسع من النُّوق، قال في "الصحاح": لا واحد له من لفظه، والكثير أَذْوَاد، والأكثر على أنه خاصّ بالإناث، وقد يُطلق على المذكور، أو على أعمّ من ذلك، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة" ويؤخذ من هذا الحديث أيضًا أن الذود يُطلق على الواحد، بخلاف ما أطلق

(1)

"فتح" 13/ 478.

ص: 327

الجوهويّ. انتهى.

ووقع في رواية بلفظ: "خمس ذود" قال النوويّ: لا منافاة بينهما، إذ ليس في ذكر الثلاث نفي للخمس، والزيادة مقبولة. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قال ابن التين: اللَّه أعلم أيهما يصحّ. قال الحافظ: لعلّ الجمع بينهما يحصل من الرواية التي بلفظ: "خذ هذين القرينين، وهذين القرينين، وهذين القرينين"، فلعلّ رواية الثلاث باعتبار ثلاثة أزواج، ورواية الخمس باعتبار أن أحد الأزواج كان قرينه تبعًا، فاعتدّ به تارة، ولم يعتد به أُخرى. ويمكن الجمع بأنه أمر لهم بثلاث ذَوْد أوْلًا، ثم زادهم اثنين، فإن لفظ زَهْدَم:"ثم أتي بنهب ذَوْد، غُرَّ الذُّرَى، فأعطاني خمس ذود"، فوقعت في رواية زَهْدَم جملة ما أعطاهم، وفي رواية غيلان، عن أبي بردة مبدأ ما أمر لهم به، ولم يذكر الزيادة. وأما رواية "خذ هذين القرينين ثلاث مرار"، وفي لفظ "ستة أبعرة" فيمكن أن تكون السادسة تبعًا، ولم تكن ذروتها موصوفة بذلك، كما تقدّم. أفاده في "الفتح"

(2)

.

(فَلَمَّا انْطَلَقْنَا) أي ذهبنا من عند النبيّ صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: "فاندفعنا"، وفي رواية:"فلبثنا غير بعيد"(قَالَ: بَعْضُنَا لِبَعْضٍ) وفي رواية للبخاري: "فقلت لأصحابي"، وفي رواية:"قلنا: ما صنعنا"، فيجمع على أنهم تكلّموا فيما بينهم، والبادىء هو أبو موسى رضي الله عنه (لَا يُبَارِكُ اللَّهُ لَنَا) أي فيما أعطانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الذود، إن سكتنا عن ذلك، ولم نعرفه، ثم بين سبب عدم البركة بقوله (أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَسْتَحْمِلُهُ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا) أي ثم حملنا بعد الحلف، فإن هذا مما لا يرضاه اللَّه عز وجل. وفي رواية ابن عليّة عند البخاريّ:"نسي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يمينه، واللَّه لئن تغفلنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يمينه، لا نُفلح أبدًا"، وفي رواية عبد السلام:"فلما قبضناها، قلنا: تغفّلنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يمينه، لا نفلح أبدًا"، ووقع في رواية زيادة قول أبي موسى رضي الله عنه لأصحابه:"لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، يعني في منعهم أوْلًا، وإعطائهم ثانيًا إلى آخر القصة. قال القرطبيّ: فيه استدراك جبر خاطر السائل الذي يؤدّب على الحاجة بمطلوبه إذا تيسّر، وأن من أخذ شيئًا يَعلَم أن المعطي لم يكن راضيًا بإعطائه، لا يُبارك له فيه.

(قَالَ أَبُو مُوسَى) رضي الله عنه (فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ) وفي رواية ابن عليّة عند البخاريّ: "فرجعنا، فقلنا: يا رسول اللَّه أتيناك نستحملك، فحلفت أن لا تحملنا، ثم

(1)

"شرح مسلم" 11/ 113.

(2)

راجع "الفتح" 13/ 468.

ص: 328

حملتنا، فظننا، أو فعرفنا أنك نسيتَ يمينك، قال: انطلقوا، فإنما حملكم اللَّه

" (فَقَالَ: "مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ بَلِ اللَّهُ حَمَلَكُمْ) قال في "الفتح": قال العلماء: المراد بذلك إزالة المنّة عنهم، وإضافة النعمة لمالكها الأصليّ، ولم يُرد أنه لا صنع له أصلاً في حملهم؛ لأنه لو أراد ذلك ما قال بعد ذلك:"لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وكفّرت".

وقال المازريّ: معناه أن اللَّه تعالى أعطاني ما حملتكم عليه، ولولا ذلك لم يكن عندي ما أحملكم عليه. وقيل: يحتمل أنه كان نسي يمينه، والناسي لا يُضاف إليه الفعل. ويردّه التصريح بقوله:"واللَّه ما نسيتها"، وهي في "صحيح مسلم". وقيل: المراد بالنفي عنه، والإثبات للَّه الإشارةُ إلى ما تفضل اللَّه به من الغنيمة المذكورة؛ لأنها لم تكن بتسبّب من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا كان متطلّعًا إليها، ولا منتظرًا لها، فكان المعنى: ما أنا حملتكم لعدم ذلك أوّلًا، ولكن اللَّه حملكم بما ساقه إلينا من هذه الغنيمة. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض: ويجوز أن يكون أُوحي إليه أن يحملهم، أو يكون المراد دخودهم في عموم من أمر اللَّه تعالى بالقسم فيهم. واللَّه أعلم. انتهى

(2)

.

(إِنِّي وَاللَّهِ) وفي رواية للبخاريّ: "إنى واللَّه، إن شاء اللَّه"، قال أبو موسى المدينيّ في كتابه "الثمين في استثاء اليمين": لم يقع قوله: "إن شاء اللَّه" في أكثر الطرق لحديث أبي موسى، وأشار إلى أنه صلى الله عليه وسلم قالها للتبرّك، لا للاستثناء. قال الحافظ: وهو خلاف الظاهر.

(لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ) أي محلوف يمين، فأطلق عليه لفظ "يمين"؛ للملابسة، والمراد ما شأنه أن يكون محلوفا عليه، فهو من مجاز الاستعارة، ويجوز أن يكون فيه تضمين، فقد وقع في رواية لمسلم:"على أمر"، ويحتمل أن تكون "على" بمعنى الباء، فقد وقع في رواية النسائيّ

(3)

: "إذا حلفت بيمين"، ورُجّح الأول بقوله:"فرأيت غيرها خيرًا منها"؛ لأن الضمير في "غيرها" لا يصحّ عوده على اليمين. وأجيب بأنه يعود على معناه المجازيّ للملابسة أيضًا. وقال ابن الأثير في "النهاية": الحلف هو اليمين، فقوله:"أحلف": أي أعقد شيئًا بالعزم والنيّة، وقوله:"على يمين" تأكيد لعقده، وإعلامٌ بأنه ليست لغوًا. قال الطيبيّ: ويؤيّده رواية النسائيّ بلفظ: "ما على الأرض يمين

(1)

"فتح" 13/ 480.

(2)

"راجع "شرح مسلم للنوويّ" 11/ 113.

(3)

لم أر هذه اللفظة عنده، إلا أن يحمل على اختلاف النسخ. فاللَّه تعالى أعلم.

ص: 329

أَحلِف عليها

" الحديث، قال: فقوله: "أحلف عليها" صفة مؤكّدة لليمين، قال: والمعنى: لا أحلف يمينًا جزمًا، لا لغو فيها، ثم يظهر لي أمرٌ آخر يكون فعلُه أفضل من المضيّ في اليمين المذكور إلا فعلته، وكفّرت عن يميني، قال: فعلى هذا يكون قوله: "على يمين" مصدرًا مؤكدًا لقوله: "أحلف". انتهى

(1)

.

(فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) هذا هو الذي أخذ منه المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- الترجمة المذكورة الدّالة على جواز الكفّارة قبل الحنث، لكن فيه أن التقديم اللفظيّ لا يدلّ على التقديم المعنويّ، والعطف بالواو لا يدلّ على الترتيب، فيجوز أن يكون المتأخّر متقدّمًا، نعم قد يُقال: الأمر في الرواية الآتية لا دلالة له على وجوب تقديم الحنث، كما لا دلالة له على وجوب تقديم الكفّارة، ومقتضى الإطلاق دليل للمطلوب، وعلى هذا فقول من أوجب تقديم الحنث مخالف لهذا الإطلاق، فلا بدّ له من دليل يُعارض هذا الإطلاق، ويترجّح عليه حتى يستقيم الأخذ به، وترك هذا الإطلاق. قاله السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي موسى الأشعريّ - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-14/ 3806 و 15/ 3807 و"كتاب الصيد والذبائح" -33/ 4373 و 4374 - وفي "الكبرى" 14/ 4720 و 15/ 4721 و"كتاب الصيد والذبائح" 36/ 4858 و 4859. وأخرجه (خ) في "فرض الخمس" 3133 و"المغازي" 4385 و"الذبائح والصيد" 5517 و"الأيمان والنذور" 6649 و 6680 وفي "كفارات الأيمان" 6721 و"التوحيد" 7555 (م) في "الأيمان" 4241 و 4242 و 4243 و 4245 و 4246 (د) في "الأيمان والنذور" 3276 مختصرًا (ت) في "الأطعمة": 1826 وفي "الشمائل" 148 (ق) في "الكفارات" 2107. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان جواز التكفير قبل الحنث،

(1)

راجع "الفتح" 13/ 479.

(2)

"شرح السندي" 7/ 9 - 10.

ص: 330

وتقدّم وجهه، وفيه اختلافٌ بين العلماء، سنفصله في المسألة التالية، إن شاء اللَّه

تعالى. (ومنها): أنه يدك على جواز اليمين عند التبرّم. (ومنها): جواز ردّ المسائل المثقل عند تعذّر الإسعاف. (ومنها): مشروعيّة تأديب المسائل إذا لم يتيسّر للمسؤول إعطاؤه بنوع من إغلاظ القول، وذلك أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم في حال تحقّق فيها أنه لم يكن عنده شيء، فأدّبهم بذلك القول، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بقي مترقّبًا لما يُسعِف به طَلِبَتَهم، ويجبُرُ به انكسارهم، فلَمّا يسّر اللَّه تعالى عليه ذلك أعطاهم، وجبرهم على مُقتضى كرم خُلُقه الكريم صلى الله عليه وسلم. قاله القرطبيّ. (ومنها): أن من حلف على فعل شيء، أو تركه، وكان الحنث خيرًا من التمادي على اليمين، عليه أن يحنث عن يمينه، وتلزمه الكفّارة، وهذا متّفقٌ عليه. (ومنها): أن الإمام البخاريّ -رحمه اللَّه تعالى- ترجم لهذا الحديث في "صحيحه" بقوله: "قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، وأراد أن أفعال العباد مخلوقة للَّه تعالى، وهذا مذهب أهل السنَّة؛ خلافًا للمعتزلة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم التكفير قبل الحنث:

قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: أجمعوا على أنه لا تجب الكفّارة قبل الحنث، وعلى أنه يجوز تأخيرها عن الحنث، وعلى أنه لا يجوز تقديمها على اليمين، واختلفوا في جوازها بعد اليمين وقبل الحنث، فجوّزها مالكٌ، والأوزاعيّ، والثوريّ، والشافعيّ، وأربعة عشر صحابيًّا، وجماعات من التابعين، وهو قول جماهير العلماء، لكن قالوا: يستحب كونها بعد الحنث، واستثنى الشافعيّ التكفير بالصوم، فقال: لا يجوز قبل الحنث؛ لأنه عبادة بدنيّة، فلا يجوز تقديمها على وقتها، كالصلاة، وصوم رمضان، وأما التكفير بالمال، فيجوز تقديمه كما يجوز تعجيل الزكاة. واستثنى بعض أصحابنا حنث المعصية، فقال: لا يجوز تقديم كفّارته؛ لأن فيه إعانة على المعصية، والجمهور على إجزائها كغير المعصية.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه، وأشهب المالكيّ: لا يجوز تقديم الكفّارة على الحنث بكل حال. ودليل الجمهور ظواهر هذه الأحاديث، والقياس على تعجيل الزكاة. انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

،

وقال في "الفتح": قال ابن المنذر: رأى ربيعة، والأوزاعيّ، ومالك، والليث، وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرأي أن الكفّارة تجزئ قبل الحنث، إلا أن الشافعيّ

(1)

"شرح مسلم" 11/ 112.

ص: 331

استثنى الصيام، فقال: لا يُجزىء إلا بعد الحنث. وقال أصحاب الرأي: لا تجزئ الكفّارة قبل الحنث. ونقل الباجيّ عن مالك وغيره روايتين، واستثنى بعضهم عن مالك الصدقة، والعتق، ووافق الحنفيّة أشهب من المالكيّة، وداود الظاهريّ، وخالفه ابن حزم، واحتجّ لهم الطحاويّ بقوله تعالى:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، فإن المراد إذا حلفتم، فحنِثتم. وردّه مخالفوه، فقالوا: بل التقدير: فأردتم الحنث، وأولى من ذلك أن يقال: التقدير أعلم من ذلك، فليس أحد التقديرين بأولى من الآخر.

واحتجوا أيضًا بأن ظاهر الآية أن الكفّارة وجبت بنفس اليمين. ورده من أجاز بأنها لو كانت بنفس اليمين لم تسقط عمن لم يحنث اتفاقًا. واحتجّوا أيضًا بأن الكفّارة بعد الحنث فرضٌ، واخراجها قبله تطوّعٌ، فلا يقوم التطوّع مقام الفرض. وانفصل عنه من أجاز بأنه يشترط إرادة الحنث، وإلا فلا يجزئ، كما في تقديم الزكاة. وقال عياض: اتفقوا على أن الكفّارة لا تجب إلا بالحنث، وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث، واستحبّ مالكٌ، والشافعيّ، والأوزاعيّ، والثوريّ تأخيرها بعد الحنث، قال عياض: ومنع بعض المالكيّة تقديم كفّارة حنث المعصية

(1)

؛ لأن فيه إعانة على المعصية. وردّه الجمهور.

قال ابن المنذر: واحتُجّ للجمهور بأن اختلاف ألفاظ حديثي أبي موسى، وعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنهما لا يدلّ على تعيين أحد الأمرين، وإنما أمر الحالف بأمرين، فهذا أتى بهما جميعًا، فقد فعل ما أُمر به، وإذا لم يدلّ الخبر على المنع، فلم يبق إلا طريق النظر، فاحتُجّ للجمهور بأن عقد اليمين لمّا كان يحلّه الاستثناء، وهو كلام، فلأن تحلّه الكفّارة، وهي فعل ماليّ، أو بدنيّ أولى. ويرجّح قولهم أيضًا بالكثرة. وذكر أبو الحسن بن القصّار، وتبعه عياض، وجماعة أن عدّة من قال بجواز تقديم الكفّارة أربعة عشر صحابيًّا، وتبعهم فقهاء الأمصار، إلا أبا حنيفة، مع أنه قال فيمن أخرج ظبية من الحرم إلى الحل، فولدت أولادًا، ثم ماتت في يده هي وألادها أن عليه جزاءها، وجزاء أولادها، لكن إن كان حين إخراجها أدّى جزاءها لم يكن عليه في أولادها شيء مع أن الجزاء الذي أخرجه عنها كان قبل أن تلد أولادها، فيحتاج إلى الفرق، بل الجواز في كفارة اليمين أولى. وقال ابن حزم: أجاز الحنفيّة تعجيل الزكاة قبل الحول، وتقديم زكاة الزرع، وأجازوا تقديم كفّارة القتل قبل موت المجنيّ عليه.

واحتجّ الشافعيّ بأن الصيام من حقوق الأبدان، ولا يجوز تقديمها قبل وقتها

(1)

تقدّم في كلام النوويّ عزوه لبعض الشافعيّة، ولعله محكي عن الفريقين. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 332

كالصلاة والصيام، بخلاف العتق، والكسوة، والإطعام، فإنها من حقوق الأموال، فيجوز تقديمها كالزكاة، ولفظ الشافعيّ في "الأمّ": إن كفّر بالإطعام قبل الحنث رجوت أن يُجزىء عنه، وأما الصوم فلا؛ لأن حقوق المال يجوز تقديمها، بخلاف العبادات، فإنها لا تقدّم على وقتها، كالصلاة، والصوم، وكذا لو حجّ الصغير، والعبد، لا يجزئ عنهما إذا بلغ، أو عتق. وقال في موضع آخر: من حلف، فأراد أن يحنث، فأحبّ إليّ أن لا يكفّر حتى يَحنَثَ، فإن كفّر قبل الحنث أجزأ، وساق نحوه، مبسوطًا.

وادّعى الطحاويّ أن إلحاق الكفّارة بالكفّارة أولى من إلحاق الإطعام بالزكاة. وأجيب بالمنع، وأيضًا فالفرق الذي أشار إليه الشافعيّ بين حقّ المال، وحقّ البدن ظاهر جدًّا، وإنما خصّ منه الشافعيّ الصيام بالدليل المذكور. ويؤخذ من نصّ الشافعيّ أن الأولى تقديم الحنث على الكفّارة، وفي مذهبه وجهٌ، اختَلَف فيه الترجيح أن كفّارة المعصية يُستحبّ تقديمها.

قال عياضٌ: الخلاف في جواز تقديم الكفّارة مبنيٌّ على أن الكفّارة رخصةٌ لحلّ اليمين، أو لتكفير مأثمها بالحنث، فعند الجمهور أنها رخصةٌ، شرعها اللَّه لحلّ ما عقد من اليمين، فلذلك تجزئ قبلُ وبعدُ.

قال المازريّ: للكفارة ثلاث حالات: "أحدها،: قبل الحلف، فلا تجزئ اتفاقًا. [ثانيها]: بعد الحلف والحنث، فتجزىء اتفاقًا. [ثالثها]: بعد الحلف، وقبل الحنث، ففيها الخلاف. وقد اختَلَف لفظ الحديث، فقدّم الكفّارة مرّة، وأخّرها أُخرى، لكن بحرف الواو الذي لا يوجب رتبة، ومن منع رأى أنها لم تجز، فصارت كالتطوّع، والتطوّع لا يُجزىء عن الواجب.

وقال الباجيّ، وابن التين، وجماعة: الروايتان دالّتان على الجواز؛ لأن الواو لا ترتب، قال ابن التين: فلو كان تقديم الكفّارة لا يجزئ لأبانه، ولقال: فليأت، ثم ليكفّر؛ لأن تأخير البيان عن الحاجة لا يجوز، فلما تركهم على مقتضى اللسان دلّ على الجواز، قال: وأما الفاء في قوله: "فأت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك"، فهي كالفاء الذي في قوله:"فكفّر عن يمينك، وائت الذي هو خير"، ولو لم تأت الثانية لَمَا دلّت الفاء على الترتيب؛ لأنها أبانت ما يفعله بعد الحلف، وهما شيئان: كفّارة، وحنث، ولا ترتيب فيهما، وهو كمن قال: إذا دخلت الدار، فكل، واشرب.

قال الحافظ: قد ورد في بعض الطرق بلفظ: "ثمّ" التي تقتضي الترتيب، عند أبي

ص: 333

داود، والنسائيّ

(1)

في حديث الباب، ولفظ أبو داود من طريق سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن الحسن، به:"كفّر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير"، وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه، لكن أحال بلفظ المتن على ما قبله. وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه" من طريق سعيد كأبي داود. وأخرجه النسائيّ

(2)

من رواية جرير بن حازم، عن الحسن مثله. لكن أخرجه البخاريّ، ومسلم، من رواية جرير بالواو، وهو في حديث عائشة عند الحاكم أيضًا بلفظ:"ثمّ". وفي حديث أم سلمة عند الطبرانيّ نحوه، ولفظه:"فليكفّر عن يمينه، ثم ليفعل الذي هو خير". انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما تقدّم من الأدلة أن ما ذهب إليه الجمهور، من جواز التكفير قبل الحنث هو الأرجح؛ لقوّة دليله، كما سبق تقريره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الخامسة): اختُلف هل كفّر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن يمينه المذكور، كما اختُلف، هل كفّر في قصَّة حلفه على شرب العسل، أو على غشيانه مارية - رضي اللَّه تعالى عنها -، فرُوي عن الحسن البصريّ -رحمه اللَّه تعالى- أنه قال: لم يُكفّر أصلاً؛ لأنه مغفور له، وإنما نزلت كفّارة اليمين تعليمًا للأمة. وتُعُقّب بما أخرجه الترمذيّ من حديث عمر رضي الله عنه في قصَّة حلفه على العسل، أو مارية، فعاتبه اللَّه، وجعل له كفّارة يمين. وهذا ظاهر في أنه كفّر، وإن كان ليس نصا في ردّ ما ادّعاه الحسن، وظاهر قوله أيضًا في حديث الباب:"وكفّرت عن يميني" أنه لا يترك ذلك، ودعوى أن ذلك كلّه للتشريع بعيد. قاله في "الفتح"

(4)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3808 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْنَسِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد إلى عمرو بن شُعيب رجال الصحيح، وتقدّموا. و "عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"يحيى": وابن سعيد القطّان.

و"عبد اللَّه بن الأخنس": هو النخعيّ، أبو مالك الْخَزّاز الكوفيّ، صدوق، يخطئ [7]

(1)

هو الآتي برقم 3810.

(2)

هو الحديث الآتي رقم 3810.

(3)

"فتح" 13/ 474 - 475.

(4)

"فتح" 13/ 479.

ص: 334

32/ 1686. وأما عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، فسلسلة معروفة، والراجح أنها من الأسانيد الصحيحة.

وشرح الحديث يُعلم مما قبله، وهو صحيح، تفرّد به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

، أخرجه هنا-15/ 3808 - وفي "الكبرى" 15/ 4723. وأخرجه (أحمد) في "مسند المكثرين" 6693 و 6868 و 6951.

واستدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- به على الترجمة واضح، حيث يدلّ على جواز الكفّارة قبل الحنث، كما سبق تقريره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3809 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَنْظُرِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، فَلْيَأْتِهِ»).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصريّ، ثقة [10] 5/ 5.

2 -

(المعتمر) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، ثقة، من كبار [9] 10/ 10.

3 -

(أبوه) سليمان بن طرخان التيمي، أبو المعتمر البصريّ، ثقة عابد [4] 87/ 107. والباقيان تقدّما قريبًا. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ) الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، تقدّم قبل أربعة أبواب - 10/ 3801 - وفي رواية إبراهيم بن صدقة، عن يونس بن عُبيد، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمُرة، وكان غزا معه كابل، أخرجه أبو عوانة في "صحيحه".

وكذا عند الطبرانيّ من طريق أبي حمزة إسحاق بن الربيع، عن الحسن، لكن بلفظ:"غزونا مع عبد الرحمن بن سَمُرَة". وأخرجه أيضًا من طريق عليّ بن زيد،

(1)

أي لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره.

ص: 335

عن الحسن: (حدّثني عبد الرحمن بن سمُرة. ومن طريق المبارك بن فَضّالة، عن الحسن: "حدثنا عبد الرحمن" (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هذا الحديث مشتمل على جزأين، اختصر المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- هنا على الجزء الأخير منه، وسيأتي له الجزء الأول في "كتاب آداب القضاء" -5/ 5411 - " النهي عن مسألة الإمارة" بلفظ:"لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة، وُكِلتَ إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة، أُعِنتَ عليها".

وقد ساقه الشيخان مساقًا واحدًا، ولفظ البخاريّ -6622 - من طريق جرير بن حازم، عن الحسن، حدثنا عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة، وُكِلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة، أُعِنت عليها، وإذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها، فكَفر عن يمينك، وأت الذي هو خير".

قال في "الفتح": وقد اختُلف فيما تضمّنه حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه هل لأحد الْحُكْمين تعلّقٌ بالآخر، أو لا؟، فقيل: له به تعلّقٌ، وذلك أن أحد الشِّقّين أن يعطى الإمارة من غير مسألة، فقد لا يكون له فيها أربٌ، فيمتنع، فيُلزَمُ، فيَحلِف، فأمر أن ينظر، ثم يفعل الذي هو أولى، فإن كان في الجانب الذي حلف على تركه، فيحنث، ويُكفّر، ويأتي مثله في الشقّ الآخر. انتهى

(1)

.

(قَال: "إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى يَمِينٍ) أي محلوف عليه، وقد تقدّم القول فيه مستوفًى في شرح حديث أبي موسى رضي الله عنه الماضي (فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا) أي رأى غير المحلوف عليه خيرًا منه، وظاهر الكلام عود الضمير على اليمين، ولا يصحّ عوده على اليمين بمعناها الحقيقيّ، بل بمعناها المجازيّ، كما تقدّم، والمراد بالرؤية هنا الاعتقادية، لا البصريّة.

قال عياض: معناه: إذا ظهر له أن الفعل، أو الترك خير له في دنياه، أو آخرته، أو أَوْفَقَ لمراده وشهوته ما لم يكن إثمًا. وقد وقع عند مسلم في حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه:"فرأَى غيرها أتقى للَّه، فليأت التقوى"، وهو يُشعر بقصر ذلك على ما فيه طاعة.

وينقسم المأمور به أربعة أقسام: إن كان المحلوف عليه فعلاً، فكان الترك أولى. أو كان المحلوف عليه تركًا، فكان الفعل أولى. أو كان كلٌّ منهما فعلاً وتركًا، لكن يدخل

(1)

"فتح" 13/ 483.

ص: 336

القسمان الأخيران في القسمين الأوّلين؛ لأن من لازم فعل أحد الشيئين، أو تركه تركُ الآخر، أو فعله. قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ) هذا محلّ الترجمة، حيث إنه يدلّ على جواز تقديم الكفّارة على الحنث، وقد تقدّم توجيهه. قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا أمر من النبيّ صلى الله عليه وسلم بتقديم الكفّارة على الحنث، ونصّ في الردّ على أبي حنيفة، فإن أقلّ مرات هذا الأمر أن يكون من باب الإرشاد إلى المصلحة، وأقل مراتب المصلحة أن تكون مْباحة، فالكفّارة قبل الحنث جائزة مُجزئة، وقد تضافر على هذا المعنى فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم المتقدّم في حديث أبي موسى رضي الله عنه، وأمره هذا، وكذلك حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه الآتي بعد هذا. انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

(وَلْيَنْظُرِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) قال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: أي الذي هو أكثر خيرًا، أي الذي هو أصلح -يعني- من الاستمرار على موجب اليمين، أو ما يخالف ذلك مما يحنث به، والأصح تارة يكون من جهة الثواب وكثرته، وهو الذي أشار إليه في حديث عديّ رضي الله عنه، حيث قال:"فليأت التقوى". وقد يكون من حيث المصلحة الراجحة الدنيويّة التي تطرأ عليه بسبب تركها حرجٌ ومشقّةٌ، وهي التي أشار إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"لأن يَلَجَّ أحدكم بيمينه آثم له عند اللَّه من أن يكفّر"، يعني بذلك أن استمراره على مقتضى يمينه إذا أفضى به إلى الحرج -وهو المشقّة- قد يفضى به إلى أن يأثم، فالأولى به أن يفعل ما شرع اللَّه له من تحنيثه نفسه، وفعل الكفّارة. انتهى كلام القرطبيّ

(3)

.

(فَلْيَأْتِهِ) وفي الرواية التالية: "إذا حلفت على يمين، فكفّر عن يمينك، ثم أئت الذي هو خير"، وهو نصّ في تقديم الكفّارة على الحنث؛ لأنه أتى بـ "ثُمَّ" التي للترتيب.

وسيأتي في الرواية الآتية -3818 - بلفظ: "إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها، فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك"، وهو عند البخاريّ من طريق عبد اللَّه بن عون، عن الحسن. قال في "الفتح": هكذا وقع للأكثر، وللكثير منهم:"فكفّر عن يمينك، وائت الذي هو خير".

ووقع في رواية عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه عند أبي داود:"فرأى غيرها خيرًا منها، فليدعها، وليأت الذي هو خير، فإن كفّارتها تركُها"، فأشار أبو داود إلى ضعفه، وقال: الأحاديث كلّها: "فليكفّر عن يمينه"، إلا شيئًا لا يُعبأ به. وكأنه يشير إلى

(1)

"فتح" 13/ 483 - 484.

(2)

"المفهم" 4/ 631.

(3)

"المفهم" 4/ 631 - 632.

ص: 337

حديث يحيى بن عبيد اللَّه، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"من حلف، فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خيرٌ، فهو كفّارته". ويحيى ضعيف جدًا.

وقد وقع في حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه عند مسلم ما يوهم ذلك، وأنه أخرجه بلفظ:"من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خيرٌ، وليترك يمينه"، هكذا أخرجه من وجهين، ولم يذكر الكفّارة، ولكن أخرجه من وجه آخر بلفظ:"فرأى خيرًا منها، فليكفرها، وليأت الذي هو خير"، ومداره في الطرق كلّها على عبد العزيز بن رُفيع، عن تميم بن طَرَفَة، عن عديّ، والذي زاد ذلك حافظٌ، فهو المعتمد.

قال الشافعيّ -رحمه اللَّه تعالى-: في الأمر بالكفّارة مع تعمّد الحنث دلالة على مشروعيّة الكفّارة في اليمين الغموس؛ لأنها يمين حانثة.

واستُدلّ به على أن الحالف يجب عليه فعل أيّ الأمرين كان أولى من المضيّ في حلفه، أو الحنث والكفّارة. وانفصل عنه من قال: إن الأمر فيه للندب بما مضى في قصَّة الأعرابيّ الذي قال: "واللَّه لا أزيد على هذا، ولا أنقُص منه"، فقال صلى الله عليه وسلم:"أفلح إن صدق"، فلم يأمره بالحنث والكفّارة، مع أن حلفه على ترك الزيادة مرجوحٌ بالنسبة إلى فعلها. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد الرحمن بن سَمُرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-15/ 3809 و 3810 و 3811 و 16/ 3816 و 3817 و 3818. وفي "الكبرى" 15/ 4724 و 4725 و 4726 و 16/ 4731 و 4732 و 4733. وأخرجه (خ) في "الأيمان والنذور" 6622 و"الكفّارات" 6722 و"الأحكام" 1746 و 7147 (م) في "الأيمان والنذور" 1652 (د) في "الأيمان والنذور" 3277 (ت) في " النذور والأيمان" 1529 (أحمد) في "مسند البصريين" 30095 و 20105 (الدارمي) في "النذور والأيمان"2346. وفوائد الحديث تقدمت في شرح حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(1)

"فتح" 13/ 484.

ص: 338

(المسألة الثالثة): حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه هذا مداره على الحسن البصريّ -رحمه اللَّه تعالى-، وقد رواه عنه الجمّ الغفير:

فقد أخرجه المصنّف من رواية سليمان بن طرخان، وجرير بن حازم، وقتادة في هذا الباب، ومن رواية منصور بن زاذان، ويونس بن عُبيد، وعبد اللَّه بن عون، ومنصور بن المعتمر عنه في الباب التالي.

ورواه عنه سماك بن عطية عند مسلم، وسماك بن حرب عند الطبرانيّ في "الكبير"، وحُميدٌ الطويل عند مسلم، وهشام بن حسّان عند أبي نعيم في "مستخرجه على مسلم"، والربيع وهو ابن مسلم على ما جزم به الدمياطيّ في "حاشيته"، وقال الحافظ: والذي يغلب على ظني أن ابن صَبِيح -بوزن عَظِيم، فعند أبي عوانة، والطبرانيّ، وعليّ بن زيد ابن جُدعان عند أبي عوانة، وإسماعيل بن مسلم عنده أيضًا، وإسماعيل بن أبي خالد عنده أيضًا. وقرّة بن خالد، والمبارك بن فضالة عند الطبرانيّ.

وأخرجه الطبرانيّ في "المعجم الكبير" عن نحو أربعين من أصحاب الحسن، فممن لم يتقدّم ذكره منهم: يزيد بن إبراهيم، وأبو الأشهب جعفر بن حيّان، وثابت البنانيّ، وحبيب بن الشهيد، وخُلَيد بن دُعلُج، وأبوعمرو بن العلاء، ومحمد بن نوح، وعبد الرحمن السرّاج، وعرفطة، والمعلّى بن زياد، وصفوان بن سُليم، ومعاوية بن عبد الكريم، وزياد مولى مصعب، وسهل السرّاج، وشبيب بن شيبة، وعمرو بن عُبيد، وواصل بن عطاء، ومحمد بن عُقبة، والأشعث بن سوّار، والأشعث بن عبد الملك، والحسن بن دينار، والحسن بن ذكوان، وسفيان بن حسين، والسريّ بن يحيى، وأبو عقيل الدورقيّ، وعبّاد بن كثير، فهؤلاء أربعة وأربعون نفسًا.

وقد خرّج طرقه الحافظ عبد القادر الرُّهاويّ في "الأربعين البلدانيّات" له عن سبعة وعشرين نفسًا من الرواة عن الحسن، فيهم ممن لم يتقدّم ذكره: يحيى بن أبي كثير، وجرير بن حازم

(1)

، وإسرائيل أبو موسى، ووائل بن داود، وعبد اللَّه بن عون، وقرّة بن خالد، وأبو خالد الجزّار، وأبو عبيدة الباجيّ، وخالد الحذّاء، وعوف الأعرابيّ، وحمّاد ابن نَجِيح، ويونس بن يزيد، ومطر الورّاق، وعلي بن رفاعة، ومسلم بن أبي الذّيّال، والعوّام بن جُويرية، وعقيل بن صبيح، وكثير بن زياد، وسودة بن أبي العالية. ثم قال: رواه عن الحسن العدد الكثير من أهل مكة، والمدينة، والبصرة، والكوفة، والشام، ولعلهم يزيدون على الخمسين.

(1)

هكذا قال في "الفتح" 13/ 482 - وفيه نظر، فقد تقدّم ذكر جرير بن حازم، فتنبّه.

ص: 339

ثم ذكر طرقه الحافظ يوسف بن خليل، عن أكثر من ستّين نفساً، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه.

وسرد الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن ابن الحافظ أبي عبد اللَّه بن منده في "تذكرته" أسماء من رواه عن الحسن، فبلغوا مائة وثمانين نفسًا، وزيادة. ثم قال: رواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن سمرة: عبدُ اللَّه بن عمرو، وأبو موسى، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وأنس، وعديّ بن حاتم، وعائشة، وأم سلمة، وعبد اللَّه بن مسعود، وعبد اللَّه بن عبّاس، وعبد اللَّه بن عمر، وأبو سعيد الخدريّ، وعمران بن حُصين. انتهى.

ولما أخرج الترمذيّ حديث عبد الرحمن بن سمرة، قال: وفي الباب، فذكر الثمانية المذكورين أوّلاً، وأهمل خمسة، واستدركهم الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ"، إلا ابن مسعود، وابن عمر، وزاد معاوية بن الحكم، وعوف بن مالك الجُشَميَّ والد أبي الأحوص، وأذينة والد عبد الرحمن، فكملوا ستة عشر نفسًا.

قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: أحاديث المذكورين كلّها فيما يتعلّق باليمين، وليس في حديث واحد منهم:"لا تسأل الإمارة"، لكن سأذكر من روى معنى ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في "كتاب الأحكام"، إن شاء اللَّه تعالى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: وأنا سأذكر ما ذكره الحافظ في "كتاب آداب القضاة" - في باب "النهي عن مسألة الإمارة"، إن شاء اللَّه تعالى.

قال: ولم يذكر ابن منده أن أحدًا رواه عن عبد الرحمن بن سمرة غير الحسن، لكن ذكر عبد القادر أن محمد بن سيرين رواه عن عبد الرحمن، ثم أسند من طريق أبي عامر الخرّاز عن الحسن، وابن سيرين أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: "لا تسأل الإمارة

" الحديث، وقال: غريبٌ ما كتبته إلا من هذا الوجه، والمحفوظ رواية الحسن، عن عبد الرحمن انتهى. وهذا مع ما في سنده من ضعف، ليس فيه التصريح برواية ابن سيرين عن عبد الرحمن.

وأخرجه يوسف بن خليل الحافظ من رواية عكرمة مولى ابن عبّاس، عن عبد الرحمن بن سمرة، أو رده من "المعجم الأوسط" للطبرانيّ، وهو في ترجمة محمد ابن عليّ المروزيّ بسنده إلى عكرمة، قال: كان اسم عبد الرحمن بن سمرة عبد كلوب، فسمّاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، فمرّ به، وهو يتوضّأ، فقال: "تعال يا عبد الرحمن، لا تطلب الإمارة

" الحديث، وهذا لم يصرّح فيه عكرمة بأنه حمله عن عبد الرحمن، لكنه محتملٌ. قال الطبرانيّ: لم يروه عن عكرمة، إلا عبد اللَّه بن

ص: 340

كيسان، ولا عنه إلا ابنه إسحاق، تفرّد به أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب.

قال الحافظ: عبد اللَّه بن كيسان ضعّفه أبو حاتم الرازيّ، وابنه إسحاق ليّنه أبو أحمد الحاكم. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3810 -

(أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو رُهاويّ ثقة حافظ.

والحديث متّفقٌ عليه، وسبق شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله، ودلالته على ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- واضحة، حيث قال:"ثم ائت الذي هو خير"، فإنه ظاهر في تقديم الكفّارة على الحنث، وهو مذهب الجمهور، وهو الصواب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3811 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى -وَذَكَرَ كَلِمَةً، مَعْنَاهَا- حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن يحيى" بن أبي حَزْم -بفتح المهملة، وسكون الزاي- القُطَعيّ

(2)

-بضمّ القاف، وفتح المهملة- أبو عبد اللَّه البصريّ، صدوقٌ [10].

قال أبو حاتم: صالح الحديث، صدوقٌ. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال مسلمة: بصريّ ثقة. مات سنة (253). روى عنه مسلم

(3)

، وأبو داود، والترمذيّ، والمصنّف، وله عنده هذا الحديث فقط، وبقيّة رجال الإسناد رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا غير مرّة. و"عبد الأعلى": وابن عبد الأعلى الساميّ البصريّ. و"سعيد": هو ابن أبي عَرُوبة البصريّ. والسند مسلسل بالبصريين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

(1)

"فتح" 13/ 481 - 483. "كتاب كفّارات الأيمان". رقم 6722.

(2)

"القطعي" -بضمّ القاف، وفتح الطاء المهملة: نسبة إلى قُطيعة، بطن من زُبيد، ومن قيس عيلان. أفاده في "لبّ اللباب" 2/ 184.

(3)

قال في "تهذيب التهذيب": وفي "الزهرة": روى عنه مسلم عشرة أحاديث، وسمى جدّه مِهْران، ونسبه زُبيديًا، من زُبيد اليمن. انتهى 3/ 727.

ص: 341

وقوله: "وذكر كلمة الخ" القائل هو محمد بن يحيى، والذاكر هو عبد الأعلى، ومعنى هذا أن محمد بن يحيى لم يحفظ صيغة الأداء التي ذكرها عبد الأعلى حين حدّثه بالحديث، ولكن معناها: حدّثنا سعيد الخ.

والحديث متّفقٌ عليه، وسبق البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌16 - (الْكَفَّارَةُ بَعْدَ الْحِنْثِ)

3812 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، يُحَدِّثُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد عندهم رجال الصحيح، غير:

1 -

(عبد اللَّه بن عمرو مولى الحسن بن عليّ) الهاشميّ مولاهم، مقبول [3].

روى عن عديّ بن حاتم رضي الله عنه هذا الحديث. وروى عنه عمرو بن مرّة. تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

و"إسحاق بن منصور": هو الكَوْسج المروزيّ الحافظ. و"عبد الرحمن": هو ابن مهديّ. و"عمرو بن مرّة": هو الْجَمَليّ المراديّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ الأعمى، ثقة عابد [5] 171/ 265. و"عديّ بن حاتم" بن عبد اللَّه بن سعد بن الحشرَج الطائيّ، أبو طَرِيف، الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (68) وهو ابن (120) سنة، وقيل: غير ذلك، تقدّمت ترجمته في 29/ 2169.

والحديث صحيح

(1)

، وهو من رواية عبد اللَّه بن عمرو مولى الحسن بن عليّ من أفراد

(1)

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه عبد اللَّه بن عمرو مولى الحسن، وهو مجهول عين، ولذا قال عنه في "التقريب": مقبول، أي يحتاج إلى متابع؟.

[قلت]: لم ينفرد بروايته عن عديّ، بل تابعه عليه تميم بن طرفة، كما في الروايتين الآتيتين. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 342

المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، أخرجه هنا-16/ 3812 - وفي "الكبرى" 16/ 4727.

وشرحه، وما يتعلّق به من بقية المسائل، تقدمت في الباب الماضي، واستدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- به على ما ترجم له واضحٌ في قوله:"فليأت الذي هو خير، وليُكفّر عن يمينه"، فقدّم الحنث على التكفير، وهذا مما لا خلاف في جوازه، كما تقدّم بيانه في الباب الماضي.

وقال السنديّ: قوله: "فليأت الذي هو خير" ظاهر كلام المصنّف يدلّ على أنه أخذ التقديم من التقديم اللفظيّ فقط، وقد عرفت أنه لا دلالة له على التقديم المعنويّ. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: بل دلالته على جواز التقديم واضحة، كما تقدّم وجهه، فتأمّل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3813 -

(أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ

(2)

أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَدَعْ يَمِينَهُ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْهَا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وكلهم تقدّموا. "هنّاد بن السّريّ": أبو السّرّيّ الكوفيّ، ثقة [10] 23/ 25. و"أبو بكر بن عيّاش": هو الأسديّ المقرئ الكوفيّ الحنّاط، مشهور بكنيته، والصحيح أنها اسمه، ثقة عابد، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح [7] 98/ 127. و"عبد العزيز بن رُفيع": هو أبو عبد اللَّه المكيّ، نزيل الكوفة [4] 190/ 2997. و"تميم بن طَرَفَة" - بفتحات-: هو المُسْلِيُّ الكوفيّ، ثقة [3] 28/ 816.

وحديث عديّ رضي الله عنه هذا فيه قصّة، ساقها مسلم في "صحيحه" -1651 - من طريق جرير بن عبد الحميد، عن عبد العزيز بن رفيع، عن تميم بن طرفة، قال: جاء سائل إلى عدي بن حاتم، فسأله نفقة، في ثمن خادم، أو في بعض ثمن خادم، فقال: ليس عندي ما أعطيك، إلا دِرْعِي ومغفري، فأكتب إلى أهلي أن يعطوكها، قال: فلم يرض، فغضب عدي، فقال: أما واللَّه لا أعطيك شيئًا، ثم إن الرجل رضي، فقال: أما واللَّه، لولا أني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"من حلف على يمين، ثم رأى أتقى للَّه منها، فليأت التقوى"، ما حَنَّثْتُ يميني.

(1)

"شرح السنديّ" 7/ 11.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا أبو بكر".

ص: 343

وأخرجه-1651 - من طريق سماك بن حرب، عن تميم بن طرفة، قال: سمعت عدي بن حاتم، وأتاه رجل، يسأله مائة درهم، فقال: تسألني مائة درهم، وأنا ابن حاتم، واللَّه لا أعطيك، ثم قال: لولا أني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"من حلف على يمين، ثم رأى خيرا منها، فليأت الذي هو خير".

وفي رواية: أن رجلاً سأله، فذكر مثله، وزاد: ولك أربعمائة في عطائي.

قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وغضب عديّ رضي الله عنه في الحديث الأول ويمينه سببهما أن الرجل المسائل لم يرضَ بالدرع والمِغفر، مع أنه لم يكن عنده غيرهما، ويمينه في الحديث الثاني، وما يُفهم منه من غضبه فيه سببه فيما يظهر من مساق الحديث أن عديّا استقلّ ما سُئل منه، ألا ترى قوله: تسألني مائة درهم، وأنا ابن حاتم؟ فكأنه قال: تسألني هذا الشيء اليسير، وأنا من عُرفتُ؟ أي نحنُ معروفون ببذل الكثير، فهذا غير السبب الأول. هذا ظاهر الحديث، غير أن القاضي عياضًا قال: معنى قوله عندي: وأنا ابن حاتم: أي عُرفتُ بالجود، وورِثته، ولا يُمكنني ردّ سائل إلا لعذر، وقد سأله ويعلم أنه ليس عنده ما يُعطيه، فكأنه أراد أن يُبَخِّله، فلذلك قال: واللَّه لا أعطيك، إذ لم يعذره.

قال القرطبيّ: وهذا المعنى إنما يليق بالحديث الأول، لا بالثاني، فتأمّلهما. وفيه من الفقه أن اليمين في الغضب لازمة، كما تقدّم. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تقدّم شرح الحديث، مستوفًى في الباب الماضي، فراجعه تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عديّ بن حاتم - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-16/ 3812 و 3813 و 3814 - وفي "الكبرى" 16/ 4727 و 4728 و 4729. وأخرجه (م) في "الأيمان والنذور" 1651 (ق) في "الكفّارات" 2108 (أحمد) في "مسند الكوفيين" 17787 و 17793 و 17801 و 17809 و 18890 (الدارمي) في "النذور والأيمان" 2345. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"المفهم" 4/ 632 - 633. "كتاب النذور والأيمان".

ص: 344

3814 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ تَمِيمَ بْنَ طَرَفَةَ، يُحَدِّثُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ - اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيَتْرُكْ يَمِينَهُ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده، وهو أبو بُرَيد -براء، مصغرًا - الْجَرميّ البصريّ، وثّقه المصنّف، وابن حبّان. والسند مسلسل بالبصريين.

والحديث أخرجه مسلم، وقد سبق البحث فيه مستوفًى قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3815 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزَّعْرَاءِ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ ابْنَ عَمٍّ لِي، أَتَيْتُهُ أَسْأَلُهُ، فَلَا يُعْطِينِي، وَلَا يَصِلُنِي، ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَيَّ، فَيَأْتِينِي، فَيَسْأَلُنِي، وَقَدْ حَلَفْتُ أَنْ لَا أُعْطِيَهُ، وَلَا أَصِلَهُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَأُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِي).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن منصور) الْخُزَاعيّ الْجَوّاز المكيّ، وهو ثقة [10] 20/ 21، من أفراد المصنّف.

2 -

(سفيان) بن عيينة الإمام الحجة المشهور [8] 1/ 1.

3 -

(أبو الزعْرَاء) -بفتح الزاي، وسكون العين المهملة- عمرو بن عمرو، أو ابن عامر ابن مالك بن نَضْلَة الجُشَميّ -بضمّ الجيم، وفتح الشين المعجمة- الكوفيّ، ثقة [6].

قال البخاريّ: عمرو بن عمرو، أبو الزعراء. وقال الثوريّ. عمرو بن عامر. قال أحمد: وعمرو بن عمرو أصحّ وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: شيخٌ ثقة. وقال ابن معين: أبو الزعراء عمرو بن عمرو ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبّان في "الثقات". ووثقه العجليّ، والنسائيّ في "الكنى". وقال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنه ثقة. قال ابن عُيينة: بقي بعد أبي إسحاق. روى له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، وأبو داود، وابن ماجه. وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا 16/ 1385 وحديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه -27/ 4134 - : "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".

4 -

(أبو الأحوص) عوف بن مالك بن نَضْلَة الجُشَميّ الكوفيّ، ثقة مشهور بكنيته [3] 50/ 849.

ص: 345

5 -

(أبوه) مالك بن نَضْلَة، ويقال: مالك بن عوف بن نَضلة بن خَدِيج بن حَبيب بن حُدَير ابن غَنْم بن كعب بن عُصيمة بن جُشَم بن معاوية بن بكر بن هوازن الجُشَميّ صحابيّ قليل الحديث. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه أبو الأحوص. روى له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والأربعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب أربعة أحاديث: هذا الباب، وفي "كتاب الزينة" رقم -54/ 5250 و 5251 و 82/ 5321. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله ثقات. (ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فإنه مكي، وسفيان، وإن كان مكيا، إلا أنه كوفي الأصل. (ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه. (ومنها): أن صحابيه من المقلّين من الرواية، فليس له في السنن إلا خمسة أحاديث: حديثُ الباب عند المصنّف، وابن ماجه، وحديثُ "أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في ثوب دُونٍ

" الحديث عند المصنف، وأبي داود، وحديثُ "الأيدي ثلاثة

" الحديث عند أبي داود، وحديثُ "قلت: يا رسول اللَّه الرجل أمرّ به فلا يقربني

" الحديث عند الترمذيّ، وحديثُ "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فصعّد بي البصر

" الحديث عند المصنف في "التفسير" من "الكبرى". واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ) عوف بن مالك الْجُشَميّ (عَنْ أَبيهِ) مالك بن نَضْلَة الْجُشميّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيتَ) أي أخبرني (ابْنَ عَمٍّ لِي) أي حكمًا يتعلّق بابن عمّ لي (أَتَيْتُهُ) بلفظ الماضي، وفي نسخة:"آتيه" بلفظ المضارع (أَسْأَلُهُ) أي حال كوني سائلًا إياه في قضاء حاجتي (فَلَا يُعْطِينِي) ما سألته (وَلَا يَصِلُنِي) بفتح أوله، وكسر ثانيه: مضار وَصَله، يقال: وَصَلَه وَصْلًا، وصِلَةً، من باب وَعَدَ: ضدّ هَجَرَه، وواصله مواصلة، ووصالًا، من باب قاتل، مثله. أفاده في "المصباح". وقال ابن الأثير -رحمه اللَّه تعالى-: قد تكرّر في الحديث ذكر صلة الرحم، وهي كنايةٌ عن "الإحسان إلى الأقربين، من ذوي النسب والأصهار، والتّعطّف عليهم، والرِّفق بهم، والرِّعاية لأحوالهم، وكذلك إن بَعُدُوا، أو أساءوا، وقطع الرحم ضدّ ذلك كلّه، يقال: وصَلَ رَحِمَه يَصِلُها وَصْلًا، وصِلَةً، والهاء فيها عِوضٌ من الواو المحذوفة، فكأنه بالإحسان إليهم قد وصل ما بينه وبينهم من علاقة القرابة والصِّهْر. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَيَّ فَيَأْتِينِي فَيَسْأَلُنِي، وَقَدْ حَلَفْتُ أَنْ لَا أُعْطِيَهُ وَلَا أَصِلَهُ) أي لإساءته بحرمانه مما سأله (فَأَمَرَنِي) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَنْ آتِيَ) مضارع أتى ثلاثيًا: أي أفعل (الَّذِي هُوَ

(1)

"النهاية" 5/ 191 - 192.

ص: 346

خَيرٌ) أي الذي هو إعطاء ابن عمّه ما سأل، ووصله إياه (وَأُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِي) هذا محلّ الترجمة، فإنه يدلّ على تأخير الكفّارة عن الحنث، وتقدّم وجهه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث مالك بن نَضْلَة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-16/ 3815 - وفي "الكبرى" 16/ 4730. وأخرجه (ق) في "الكفّارات" 2109 (أحمد) في "مسند الشاميين" 16777. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو مشروعيّة الكفّارة بعد الحنث، وتقدّم بيانه مستوفًى. (ومنها): وجوب الحنث على من حلف أن لا يصل رحمه. (ومنها): الحثّ على مقابلة الإساءة بالإحسان، فلا ينبغي للعبد إذا عامله أحدٌ بالسوء أن يجازيه بمثلها، بل يأخذ بالعفو، كما قال تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3816 -

(أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَنْصُورٌ، وَيُونُسُ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا آلَيْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم في الباب الماضي -15/ 3809 - وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

و"زياد بن أيوب": هو المعروف بدَلّويه البغداديّ، الذي لقّبه أحمد بشعبة الصغير. و"هُشيم": وابن بَشِير السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ. و"منصور": هو ابن زاذان الثقفيّ الواسطيّ. و "يونس": وابن عُبيد بن دينار العبديّ البصريّ.

وقوله: "آليت" بمد الهمزة، من الإيلاء: أي حلفت. وقوله: "على يمين": أي محلوف عليه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3817 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ

ص: 347

الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ: -يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، و"عمرو بن عليّ": هو الفلّاس. و"يحيى". وابن سعيد القطّان. و"ابن عون": هو عبد اللَّه بن عون بن أرطبان، أو عون البصريّ.

وقوله: "يعني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" الظاهر أن "يعني" ممن دون ابن عون، فإنها ليست في رواية البخاريّ، من رواية عثمان بن عمر، عن ابن عون. واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفق عليه، وقد سبق القول فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3818 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، فِي حَدِيثِهِ عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن قُدامة" بن أعين: هو الهاشميّ مولاهم المصِّيصيّ، ثقة [10] 19/ 528. و" جرير": وابن عبد الحميد. و"منصور": هو ابن المعتمر.

[تنبيه]: قال أبو بكر البزّار -رحمه اللَّه تعالى-: لم يرو منصور بن المعتمر، عن الحسن إلا هذا الحديث. أفاده في "الفتح"

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌17 - (الْيَمِينُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ)

3819 -

(أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْنَسِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا نَذْرَ،

(1)

"فتح" 13/ 481

ص: 348

وَلَا يَمِينَ فِيمَا لَا تَمْلِكُ، وَلَا فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إبراهيم بن محمد) التيميّ الْمَعْمَريّ، أبو إسحاق البصريّ، قاضيها، ثقة [11] 28/ 550، والباقون تقدّموا قبل باب، وكذا ذكر اللطائف. و"يحيى": هو القطّان. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - رضي اللَّه تعالى عنهما - أنه (قال: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا نَذْرَ، وَلَا يَمِينَ، فِيمَا لَا تَمْلِكُ) هكذا في بعض نسخ "المجتبى" بتاء المخاطب، وفي بعض النسخ:"فيما لا يملك" بياء الغائب، وهو الذي في "الكبرى".

يعني أنه لو نذر إنسان، أو حلف أن يتصدّق بشيء ليس في ملكه، لا يجب عليه الوفاء به، ولو دخل في ملكه بعد ذلك لم يجب عليه أن يتصدّق به (وَلَا فِي مَعْصِيَةٍ) وفي بعض نسخ "الكبرى":"ولا في معصية اللَّه". يعني أنه لو نذر شخصٌ أن يفعل شيئا من المعاصي، أو حلف عليه، فلا وفاء عليه بذلك، بل يجب عليه أن لا يفعل ذلك الشىء (وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ) من عطف الخاصّ على العامّ، فإن المعصية تعمّ قطيعة الرحم. والمعنى: أنه لو نذر، أو حلف أن يقطع رحمه، لا وفاء عليه بذلك، بل يجب عليه النكثُ، ووصل رحمه.

قال السنديّ -رحمه اللَّه تعالى-: ظاهره أنه لا ينعقد النذر واليمين في شيء من ذلك أصلاً، لكن مقتضى بعض الأحاديث أنه لا يلزم الوفاء بهما، بل يكونان سببين للكفّارة. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: لكن الأحاديث في إيجاب الكفّارة في نذر المعصية، لا تصحّ، كما يأتي البحث عنها، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد اللَّه بن عمرو - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-17/ 3819 - وفي "الكبرى" 17/ 4734. وأخرجه (د) في "الأيمان والنذور" 3273 و 3274 (ق) في "الكفّارات" 2111 (أحمد) في "مسند المكثرين"

ص: 349

6693 و 6741 و 6893 و 6951. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم اليمين فيما لا يملكه الإنسان، وهو أنه لا يلزمه الوفاء به. (ومنها): أن من نذر بشيء لا يملكه لا يلزمه الوفاء به أيضًا. (ومنها): أنه لا يجوز الحلف، ولا النذر بالمعصية، فلو فعل وجب عليه أن لا يفعله. (ومنها): أنه لو حلف، أو نذر أن يقطع رحمه حرم عليه ذلك، ووجب عليه الوصل. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): أنه استُدلّ بهذا الحديث على صحّة النذر في المباح؛ لأن فيه نفي النذر في المعصية، فبقي ما عداه ثابتًا. واحتجّ من قال: إنه يُشرع في المباح بما أخرجه أبو داود، من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، وأخرجه أحمد، والترمذيّ من حديث بُريدة رضي الله عنه: أن امرأةً قالت: يا رسول اللَّه، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدّفّ، فقال:"أوف بنذرك"، وزاد في حديث بُريدة أن ذلك وقت خروجه في غزوة، فنذرت إن ردّه اللَّه تعالى سالمًا. قال البيهقيّ: يُشبه أن يكون أذن لها في ذلك لما فيه من إظهار الفرح بالسلامة، ولا يلزم من ذلك القول بانعقاد النذر به، ويدلّ على أن النذر لا ينعقد في المباح ما أخرجه البخاريّ -6704 - من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: بينا النبيّ رضي الله عنه يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مره، فليتكلم، وليستظلَّ، وليقعد، ولْيُتِمَّ صومه".

فقد أمر صلى الله عليه وسلم هذا الناذر بأن يقوم، ولا يقعد، ولا يتكلّم، ولا يستظلّ، ويصوم، ولا يُفطر بأن يتمّ صومه، ويتكلّم، ويستظلّ، ويقعد، فأمره بفعل الطاعة، وأسقط عنه المباح.

وأصرح من ذلك ما أخرجه أحمد من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه أيضًا:"إنما النذر ما يُبتغى به وجه اللَّه".

والجواب عن قصّة التي نذرت الضرب بالدّفّ ما أشار إليه البيهقيّ، ويمكن أن يقال: إن من قسم المباح ما قد يصير بالقصد مندوبًا، كالنوم في القائلة؛ للتقّوِّي على قيام الليل، وأكلة السحر للتقوّي على صيام النهار، فيمكن أن يقال: إن إظهار الفرح بعود النبيّ صلى الله عليه وسلم سالمًا معنًى مقصودٌ يحصل به الثواب.

وقد اختُلف في جواز الضرب بالدفّ في غير النكاح، والختان، ورجّح الرافعيّ في "المحرّر"، وتبعه في "المنهاج" الإباحة، والحديث حجةٌ في ذلك. وحمل بعضهم إذنه

ص: 350

لها في الضرب بالدفّ على أصل الإباحة، لا على خصوص الوفاء بالنذر، كما تقدّم، ويُشكل عليه أن في رواية أحمد في حديث بُريدة:"إن كنتِ نذرت، فاضربي، وإلا فلا". وزعم بعضهم أن معنى قولها: "نذرتُ": حلفتُ، والإذن فيه البرّ بفعل المباح، ويؤيّد ذلك أن في آخر الحديث:"أن عمر رضي الله عنه دخل، فتركت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليخاف منك يا عمر"، فلو كان ذلك مما يُتقرّب به ما قال ذلك. لكن هذا بعينه يُشكل على أنه مباح لكونه نسبه إلى الشيطان. ويجاب بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم اطّلع على أن الشيطان حضر لمحبّته في سماع ذلك؛ لما يرجوه من تمكّنه من الفتنة به، فلَمّا حضر عمر فرّ منه؛ لعلمه بمبادرته إلى إنكار مثل ذلك، أو أن الشيطان لم يحضُر أصلاً، وإنما ذُكِر مثالاً لصورة ما صدر من المرأة المذكورة، وهي إنما شرعت في شيء أصله من اللهو، فلما دخل عمر رضي الله عنه خشيت من مبادرته لكونه لم يَعلَم بخصوص النذر، أو اليمين الذي صدر منها، فشبّه النبيّ صلى الله عليه وسلم حالها بحالة الشيطان الذي يخاف من حضور عمر رضي الله عنه، والشيء بالشيء يُذكر.

ويقرب من قصّتها قصّة القينتين اللتين كانتا تُغنّيان عند النبيّ صلى الله عليه وسلم في يوم عيد، فأنكر أبو بكر عليهما، وقال: أبمزمور الشيطان عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم بإباحة مثل ذلك في يوم عيد. أفاده في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌18 - (مَنْ حَلَفَ، فَاسْتَثْنَى)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "الاستثناء": لغة: استفعال من الثَّنْي، بمعنى العطف لأن المستثنَى معطوفٌ عليه بإخراجه من الحكم، أو بمعنى الصرف؛ لأنه مصروف عن حكم المستثنى منه. وحقيقته اصطلاحًا: الإخراج بـ"إلا"، أو إحدى أخواتها لِمَا كان داخلاً، أو كالداخل. قاله الخُضَريّ

(2)

.

(1)

"فتح" 13/ 447 - 448.

(2)

راجع "حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك" في النحو ج1/ ص 300.

ص: 351

وقال الفيّوميّ: الاستثناء استفعال، من ثنيتُ الشيءَ أثنِيه ثَنْيًا، من باب رمى: إذا عطفتُه، ورددتُه، وَثَنَيْتُهُ عن مراده: إذا صرفتُهُ عنه، وعلى هذا فالاستثناء صرف العامل عن تناول المسّتثنى، ويكون حقيقةٌ في المتصل، وفي المنفصل أيضًا؛ لأن "إلا" هي التي عدَّت الفعل إلى الاسم حتى نصبه، فكانت بمنزلة الهمزة في التعدية، والهمزةُ تُعدّي الفعلَ إلى الجنس، وغير الجنس حقيقةً وفاقًا، فكذلك ما هو بمنزلتها. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": الاستثناء: استفعالٌ من الثُّنْيا -بضمّ المثلّثة، وسكون النون، بعدها تحتانيّةٌ - ويقال لها الثَّنْوَى أيضًا بواو بدل الياء، مع فتح أوّله، وهي من ثنيت الشيء: إذا عطفته، كان المستثنيَ عطف بعض ما ذكره؛ لأنها في الاصطلاح إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، وأدواتها "إلاّ" وأخواتها. وتُطلق أيضًا على التعاليق، ومنها التعليق على المشيئة، وهو المراد في هذه الترجمة، فإذا قال: لأفعلنّ كذا، إن شاء اللَّه تعالى، استثنى، وكذا إذا قال: لا أفعل كذا إن شاء اللَّه، ومثله في الحكم أن يقول: إلا أن يشاء اللَّه، أو إلا إن شاء اللَّه، ولو أتى بالإرادة، والاختيار بدل المشيئة جاز، فلو لم يفعل إذا أثبت، أو فعل إذا نفى، لم يَحنث، فلو قال: إلا إن غير اللَّه نيّتي، أو بدّل، أو إلا أن يبدُو لي، أو يظهر، أو إلا أن أشاء،، أو أريد، أو أختار، فهو استثناء، لكن يُشترط وجود المشروط. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3820 -

(أَخْبَرَنِي

(3)

أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ حَلَفَ، فَاسْتَثْنَى، فَإِنْ شَاءَ مَضَى، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، غَيْرَ حَنِثٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن سعيد) الرباطيّ المروزيّ، أبو عبد اللَّه الأشقر، ثقة حافظ [11] 90/ 1030.

2 -

(حَبَّان) -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة- ابن هلال، أبو حَبِيب البصريّ، ثقة ثبتٌ [9] 44/ 590.

3 -

(عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان العنبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقة ثبتٌ، رُمي بالقدر، ولم يثبُت عنه [8] 6/ 6.

4 -

(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ البصريّ، ثقة ثبت فقيه عابد [5] 42/ 48.

(1)

راجع "المصباح المنير" 1/ 85.

(2)

"فتح" 13/ 465 - 366. "كتاب الأيمان والنذور".

(3)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 352

5 -

(نافع) مولى ابن عمر المدني، ثقة ثبت فقيه [3] 12/ 12.

6 -

(ابن عمر) عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه مدنيين: وهما ابن عمر، ونافع، وبصريينَ: وهم أيوب، وعبد الوارث، وحَبّان، ومروزيّ، وهو أحمد بن سعيد. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ ابْنِ عُمَرَ) - رضي اللَّه تعالى عنهما - (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى) أي قال: إن شاء اللَّه، ففي رواية وُهيب، عن أيوب الآتية في -39/ 3856 - :"من حلف على يمين، فقال: إن شاء اللَّه، فهو بالخيار، إن شاء أمضى، وإن شاء ترك"(فَإِنْ شَاءَ مَضَى) أي فهو بالخيار بين الفعل والترك، فإن شاء مضى: أي ثبت على يمينه، وفعل ما حلف عليه (وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) أي ترك فعل المحلوف عليه (غَيْرَ حَنِثٍ) -بفتح، فكسر-: أي حال كونه غير حانث في الترك، فهو حال من ضمير "ترك"، هكذا ضبطه السنديّ بكسر النون، وهذا الضبط، وإن كان قياس اسم فاعل فَعِل بكسر العين، إلا أنه لم يُذكر في "القاموس"، و "اللسان"، و"المصباح" إلا "حانثًا". ويحتمل أن يكون بكسر الحاء المهملة، وسكون النون، أو بفتحتين مصدرًا، بمعنى اسم الفاعل، أو على حذف مضاف: أي غير ذي حنث، والحنث: الْخُلف في اليمين، يقال: حنث في يمينه حِنْثًا بالكسر، وحَنَثًا بفتحتين: لم يَبَرَّ فيها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-18/ 3820 و 39/ 3854 و 3855 و 3856 - وفي "الكبرى" 18/ 4735 و 16/ 4769 و 4770 و 4771. وأخرجه (د) في "الأيمان والنذور" 3261 و 3262 (ت) في "النذور والأيمان" 1531 (ق) في "الكفّارات" 2105 و 2106 (أحمد) في

ص: 353

"مسند المكثرين" 4496 و 4567 و 5074 و 6378 و 1033 (الدارمي) في "النذور والأيمان"2342. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم الاستثناء في اليمين، وهو أن صاحبه مخيَّرٌ، إن شاء فعل، لكان شاء ترك. (ومنها): أنه لا بدّ أن يكون الاستثناء متّصلاً، إذ مطلقه ينصرف إلى المتّصل، كما هو رأي الجمهور، فلا يعتبر الاستثناء المنفصل؛ إلا بالأمر الضروريّ، كالسعال، والتنفّس، ونحو ذلك، وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أن في قوله: "فقال: إن شاء اللَّه" دليلاً على أنه لا بدّ أن يكون الاستثناء قوليًّا، فلا يكفي الاستثناء القلبيّ، وهذا قول عامّة أهل العلم، منهم: الحسن، والنخعيّ، ومالك، والثوريّ، والأوزاعيّ، والليث، والشافعيّ، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو حنيفة، وابن المنذر. قال ابن قُدامة: لا نعلم لهم مخالفًا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف، فقال: إن شاء اللَّه"، والقول هو النطق، ولأن اليمين لا تنعقد بالنيّة، فكذلك الاستثناء. وقد رُوي عن أحمد: إن كان مظلومًا، فاستثنى في نفسه رجوت أن يجوز، إذا خاف على نفسه، فهذا في حقّ الخائف على نفسه؛ لأن يمينه غير منعقدة، أو لأنه بمنزلة المتأوّل، وأما في حقّ غيره فلا. انتهى كلام ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاستثناء في اليمين:

قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: في هذا الحديث دليل على أن اليمين إذا قُرن بها "إن شاء اللَّه" لفظًا منويًا، لم يلزم الوفاء بها، ولا يقع الحنث فيها، ولا خلاف في ذلك، واختلفوا فيما إذا وقع الاستثناء منفصلًا عن اليمين، فالجمهور على أنه لا ينفع الاستثناء حتى يكون متّصلاً به، منويًا معه، أو مع آخر حرف من حروفه، وإليه ذهب مالكٌ، والشافعيّ، والأوزاعيّ، والجمهور، وقد اتفق مالك، والشافعيّ على أن السُّعال، والعطاس، وما أشبه ذلك لا يكون قاطعًا إذا كان ناويًا له. وقال بعض المالكيّة: لا ينفع الاستثناء إلا أن ينويه قبل نطقه بجميع حروف اليمين، وعند هؤلاء أن السكوت المختار الذي يقطع به كلامه، أو يأخذ في غيره لا ينفع معه الاستثناء.

وكان الحسن، وطاوس، وجاعة من التابعين يرون للحالف الاستثناء ما لم يقم من

(1)

"المغني" 13/ 485 - 486.

ص: 354

مجلسه. وقال قتادة: ما لم يقم، أو يتكلّم. وعن عطاء: قدر حَلْبة ناقة. وعن سعيد بن جُبير بعد أربعة أشهر. وروي عن ابن عبّاس بعد سنة. وقد أُنكرت هذه الرواية عنه، وضُعْفت، وتأوّلها بعضهم بأن له أن يستثني امتثالاً لأمر اللَّه تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] لا لحلّ اليمين.

وإلى هذه الاختلافات أشار السيوطي -رحمه اللَّه تعالى- في "الكوكب الساطع" في "مبحث التخصيص"، حيث قال:

فَمِنْهَا الاسْتِثنَاءُ الاخْرَاجُ بِمَا

يُفِيدُهُ مِنْ واحدٍ تَكَلَّمَا

وَقِيلَ مُطْلَقًا وَوَصْلُهُ وَجَبْ

عُرْفًا وَلِلْفَصْلِ ابْنُ عَباسٍ ذَهَبْ

قِيلَ لِشَهرٍ وَلعَامٍ وَالأَبَدْ

وَسَنَتَيْنِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَرَدْ

وَابْنُ جُبَيْرٍ ثُلْثَ عَامٍ يَأْتَسِي

وَعَنْ عَطَا وَحَسَنٍ فِي الْمَجلِسِ

وَقِيلَ قَبْلَ الأَخْذِ فِي كَلَامِ

وَقِيلَ إنْ يَقْصِدُهُ فِي الْكَلَامِ

وَقِيلَ فِي كَلَامِهِ جَلَّ فَقَط

وَالْقَصْدَ مَنْ رَأَى اتِّصَالَهُ شَرَطْ

(1)

قال القرطبيّ: والصحيح الأول، إن شاء اللَّه؛ لأنه لو لم يُشتَرط الاتصال لما انعقد يمين، ولا تُصُوّر عليها ندم، ولا حِنْث، ولا احتيج للكفّارة فيها، وكل ذلك حاصل بالاتّفاق، فاشتراط الاتصال صحيح.

وقد احتجّ من قال بفصل الاستثناء بما أخرجه الشيخان، ويأتي للمصنّف -40/ 3857 - إن سليمان عليه السلام لَمّا حلف، قال له صاحبه: قل: إن شاء اللَّه، ووجه الاستدلال به أنه إنما عرض عليه الاستثناء بعد فراغه من اليمين، فلو قالها بعد فراغ قول صاحبه لكان قولها غير متّصل باليمين، ومع ذلك فلو قالها لكانت تنفع، ولم يَحنَث، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لو قال: إن شاء اللَّه لم يحنث".

وأجاب المشترطون للاتصال بمنع أنه قاله بعد فراغه من اليمين، بل لعلّه قال ذلك في أضعاف يمينه؛ لأن يمينه كثرت كلماتها، فطالت، وليس ذلك الاحتمال بأولى من هذا، فلا حجةٌ فيه، لا له، ولا عليه.

واحتجّوا أيضًا بما رواه أبو داود عن عكرمة مولى ابن عبّاس: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "واللَّه لأغزونّ قريشًا، واللَّه لأغزونّ قريشًا، واللَّه لأغزونّ قريشًا"، ثم قال:"إن شاء اللَّه"، وفي رواية: ثم سكت، ثم قال:"إن شاء اللَّه".

(1)

راجع "الكوكب الساطع" نسخة شرحي "الجليل الصالح النافع" ص 184.

ص: 355

قال أبو داود: زاد الوليد بن مسلم، عن شريك:"ثم لم يغزهم".

لكن الحديث مرسل، وقد أُسند من حديث عبد الواحد بن صفوان، وليس حديثه بشيء

(1)

، على ما قاله أهل الحديث، والمرسل هو الصحيح.

قال القرطبيّ: وهذا الحديث حجة ظاهرةٌ على جواز الفصل بالسكوت اليسير، وأن ذلك القدر ليس بقاطع؛ لأن الحال شاهدة على الاتصال، لكن عند من يقبل المرسل. ويحتمل أن يكون ذلك السكوت عن غلبة نَفّسٍ خارج، أو أمر طارئ، وفيه بُعْدٌ.

قال القرطبيّ: ثم اختلف العلماء في الاستثناء بميشئة اللَّه تعالى، هل يرفع حكم الطلاق، والْعَتَاق، والمشي لمكة، وغيرها من الأيمان بغير اللَّه تعالى، أم لا؟ فذهب مالك، والأوزاعيّ إلى أن ذلك لا يرفع شيئًا من ذلك. وذهب الكوفيّون، والشافعيّ، وأبوثور، وبعض السلف إلى أنه يرفع ذلك كله. وقصر الحسن الرفع على العتق، والطلاق خاصّة.

وسبب الخلاف اختلافهم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: "من حلف على يمين، فاستثنى، فان شاء مضى، وإن شاء ترك"، فحمل مالك، ومن قال بقوله الحديث على اليمين الجائزة، وهي اليمين بأسماء اللَّه وصفاته، بناء على أنه هو المقصود الأصليّ، واليمين العرفيّ، وحمله المخالف على العموم في كلّ ما يمكن أن يقال عليه يمين.

قال القرطبيّ: والصحيح الأول؛ لما قدّمناه من أن هذا النوع الذي قد أطلق عليه الفقهاء يمينا، لا يُسمّى يمينًا، لا لغةً، ولا شرعًا؛ إذ ليس من ألفاظها اللغويّة، ولا من معانيها الشرعيّة، كما بينّاه. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-، وهو تحقيق نفيس. واللَّه تعالى أعلم ..

وقال في "الفتح": واتفق العلماء، كما حكاه ابن المنذر على أن شرط الحكم بالاستثناء أن يتلفظ المستثنى به، وأنه لا يكفي القصد إليه بغير لفظ. وذكر عياضٌ أن بعض المتأخّرين منهم خرّج من قول مالك: إن اليمين تنعقد بالنية أن الاستثناء يجزئ بالنية، لكن نقل في "التهذيب" أن مالكًا نصّ على اشتراط التلفّظ باليمين. وأجاب الباجيّ بالفرق بأن اليمين عقد، والاستثناء حل، والعقد أبلغ من الحل، فلا يلتحق باليمين.

قال ابن المنذر: واختلفوا في وقته، فالأكثر على أنه يشترط أن يتّصل بالحلف، قال مالك: إذا سكت، أو قطع كلامه فلا ثُنيا. وقال الشافعيّ: يُشترط وصل الاستثناء

(1)

هذا الكلام لابن معين، وقال مرة: صالح. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال في "التقريب": مقبول. أي يحتاج إلى متابع، وخالف فوصل المرسل، فلا يصحّ حديثه. فتنبّه.

ص: 356

بالكلام الأول، ووصله أن يكون نَسَقًا، فإن كان بينهما سكوت انقطع، إلا إن كانت سكتة تذكر، أو تنفّس، أو عِيّ، أو انقطاع صوت، وكذا يقطعه الأخذ في كلام آخر، ولخّصه ابن الحاجب، فقال: شرطه الاتصال لفظًا، أو فيما في حكمه، كقطعه لتنفّس، أو سُعال، ونحوه، مما لا يمنع الاتصال عرفًا، واختلف هل يقطعه ما يقطع القبول عن الإيجاب؟ على وجهين للشافعيّة، أصحّهما أنه ينقطع بالكلام اليسير الأجنبيّ، وإن لم ينقطع به الإيجاب والقبول، وفي وجه لو تخلّل أستغفر اللَّه لم ينقطع، وتوقّف فيه النوويّ، ونصّ الشافعيّ يؤيّده، حيث قال: تذكر فإنه من صور الذكر عرفًا، ويلتحق به لا إله إلا اللَّه، ونحوها. وعن طاوس، والحسن له أن يستثني ما دام في المجلس. وعن أحمد نحوه، وقال: ما دام في ذلك الأمر. وعن إسحاق مثله، وقال: إلا أن يقع سكوت. وعن قتادة إذا استثنى قبل أن يقوم، أو يتكلّم. وعن عطاء قدر حلب ناقة. وعن سعيد بن جبير إلى أربعة أشهر. وعن مجاهد بعد سنتين. وعن ابن عبّاس أقوال: منها ولو بعد حين. وعنه كقول سعيد. وعنه شهر. وعنه سنة. وعنه أبدًا. قال أبو عُبيد: وهذا لا يؤخذ على ظاهره؛ لأنه يلزم منه أن لا يحنث أحدٌ في يمينه، وأن لا تتصوّر الكفّارة التي أوجبها اللَّه تعالى على الحالف، قال: ولكن وجه الخبر سقوط الإثم عن الحالف لتركه الاستثناء؛ لأنه مأمور به في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، فقال ابن عبّاس: إذا نسي أن يقول: إن شاء اللَّه يستدركه، ولم يُرد أن الحالف إذا قال ذلك بعد أن انقضى كلامه أن ما عقده باليمين ينحلّ.

وحاصله حمل الاستثناء المنقول عنه على لفظ إن شاء اللَّه فقط، وحمل إن شاء اللَّه على التبرّك، وعلى ذلك حمل الحديث المرفوع الذي أخرجه أبو داود وغيره، موصولاً، ومرسلاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لأغزونّ قريشًا"، ثلاثًا، ثم سكت، ثم قال:"إن شاء اللَّه"، أو على السكوت لتنفّس، أو نحوه. وكذا ما أخرجه ابن إسحاق في سؤال من سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قصَّة أصحاب الكهف:"غدًا أجيبكم"، فأخّر الوحي، فنزلت:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، فقال: إن شاء اللَّه، مع أن هذا لم يرد هكذا من وجه ثابت.

ومن الأدلة على اشتراط اتصال الاستثناء بالكلام قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير". فإنه لو كان الاستثناء يفيد بعد قطع الكلام لقال: فليستثن؛ لأنه أسهل من التكفير، وكذا قوله تعالى:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} ، فإن قوله: استثن أسهل من التحيّل لحلّ اليمين

ص: 357

بالضرب، وللزم بطلان الإقرارات، والطلاق، والعتق، فيستثني من أقرّ، أو طلّق، أو أعتق بعد زمان، ويرتفع حكم ذلك، فالأولى تأويل ما نُقل عن ابن عبّاس وغيره من السلف في ذلك.

وإذا تقرّر ذلك، فقد اختُلِفَ، هل يُشترط قصد الاستثناء من أول الكلام، أولاً، حَكَى الرافعي فيه وجهين، ونُقل عن أبي بكر الفارسيّ أنه نقل الإجماع على اشتراط وقوعه قبل فراغ الكلام، وعلّله بأن الاستثناء بعد الانفصال ينشأ بعد وقوع الطلاق مثلاً، وهو واضحٌ، ونقله معارض بما نقله ابن حزم أنه لو وقع متّصلاً به كفى، واستدلّ بحديث ابن عمر رضي الله عنهما رفعه:"من حلف، فقال: إن شاء اللَّه، لم يحنث"، واحتجّ بأنه عقّب الحلف بالاستثناء باللفظ، وحينئذ يتحصّل ثلاث صور: أن يقصد من أوله، أو من أثنائه، ولو قبل فراغه، أو بعد تمامه، فيختصّ نقل الإجماع بأنه لا يفيد في الثالث، وأبعد من فَهِم أنه لا يفيد في الثاني أيضًا، والمراد بالإجماع المذكور إجماع من قال: يُشترط الاتصال، وإلا فالخلاف ثابتٌ، كما تقدّم واللَّه أعلم.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: دعوى الإجماع هنا، لا وجه له، كما يظهر لمن تتبّع الأقوال في هذه المسألة، إلا أن يدّعى لأهل مذهب معيّن أنهم أجمعوا على ذلك، فليُتأمل. واللَّه تعالى أعلم.

وقال ابن العربيّ: قال بعض علمائنا: يشترط الاستثناء قبل تمام اليمين، قال: والذي أقول: إنه لو نوى الاستثناء مع اليمين لم يكن يمينًا، ولا استثناء، وإنما حقيقة الاسثناء أن يقع بعد عقد اليمين، فيحلّها الاستثناء المتّصل باليمين. انتهى.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي الذي قاله ابن العربيّ -رحمه اللَّه تعالى- هو الأشبه مما ادعاه من سبق قوله من الإجماع على خلافه. فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.

واتّفقوا على أن من قال: لا أفعل كذا إن شاء اللَّه، إذا قصد به التبرّك فقط، ففعل يحنث، وإن قصد به الاستثناء، فلا حنث عليه.

واختلفوا إذا أطلق، أو قدّم الاستثناء على الحلف، أو آخّره، هل يفترق الحكم؟، وقد تقدّم في الطلاق.

واتّفقوا على دخول الاستثناء في كلّ ما يُحلَف به، إلا الأوزاعيّ، فقال: لا يدخل في الطلاق، والعتق، والمشي إلى بيت اللَّه، وكذا جاء عن طاوس، وعن مالك مثله، وعنه إلا المشي. وقال الحسن، وقتادة، وابن أبي ليلى، والليث: يدخل في الجميع، إلا الطلاق. وعن أحمد: يدخل الجميع إلا العتق. واحتجّ بتشوف الشارع له. وورد فيه حديث عن معاذ رضي الله عنه رفعه: "إذا قال لامرأته: أنت طالقٌ إن شاء اللَّه، لم تطلق، وإن

ص: 358

قال لعبده: أنت حرّ، إن شاء اللَّه، فإنه حرّ". قال البيهقيّ: تفرّد به حميد بن مالك، وهو مجهول، واختُلف عليه في إسناده. واحتجّ من قال: لا يدخل في الطلاق بأنه لا تحله الكفارة، وهي أغلظ على الحالف من النطق بالاستثناء، فلما لم يحلّه الأقوى، لم يحله الأضعف. وقال ابن العربيّ: الاستثناء أخو الكفّارة، وقد قال اللَّه تعالى:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} ، فلا يدخل في ذلك إلا اليمين الشرعيّة، وهي الحلف باللَّه. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما قاله ابن العربيّ من أن الاستثناء لا يدخل إلا اليمين الشرعية، وهي الحلف باللَّه أو بصفة من صفاته هو الأقرب؛ لما ذكره. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌19 - (النِّيَّةُ فِي الْيَمِينِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا أن اليمين على ما نواه الحالف؛ واستدلاله عليه بحديث النيّة من حيث إن الأعم في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال" تعمّ الأقوال والأفعال جميعًا، ومن حيث إطلاق قوله صلى الله عليه وسلم:"وإنما لامرىء ما نوى" عن التقييد بقول، أو فعل، فيدلّ على أن للحالف ما نواه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3821 -

(أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا

(2)

سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ

(3)

، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا

(4)

يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ

(1)

"فتح، 13/ 466 - 467. "كتاب الأيمان والنذور". رقم الحديث 6718. باب الاستثناء في "اليمين".

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا"، وفي أخرى:"حدّثنا".

(3)

وفي نسخة: "بالنيّات".

(4)

وفي نسخة: "إلى دنيا".

ص: 359

يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: (إسحاق بن إبراهيم": هو الحنظليّ المعروف بابن راههويه. و"سليمان بن حيّان": هو أبو خالد الأحمر الكوفيّ.

[تنبيه]: وقع في نسخ "المجتبى""سليم بن حيّان" بدل "سليمان بن حيّان"، وهو تصحيف فاحش، والصواب "سليمان بن حيّان"، وهو الذي في "الكبرى" 3/ 130 - رقم-4736 - وهو الذي في "صحيح مسلم" أيضًا، فقد أخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي خالد الأحمر سليمان بن حيّان، بسند المصنّف، وهو الذي في "تحفة الأشراف" 8/ 92. فتنبّه.

وسَليم -بفتح المهملة، وكسر اللام- ابن حيان أقدم من سليمان بن حيّان، وهو من شيوخه، وشيوخ يحيى القطّان، وعبد الرحمن بن مهديّ، ومن في طبقتهم، والظاهر أن إسحاق بن راهويه لم يلقه. واللَّه تعالى أعلم.

و"يحيى بن سعيد": هو الأنصاريّ.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق البحث فيه مطوَّلاً في "الطهارة" - "النيّة في الوضوء" 60/ 75 - وذكرت له هناك نحو خمسين مسألةً، فراجعه تستفد.

واستدلال المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- به على الترجمة واضحة، كما سبق بيانه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌20 - (تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عز وجل

-)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: ظاهر صنيع المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- يدلّ على أنه يرى أن من قال لامرأته: أنت عليّ حرام يمين يجب تكفيرها، وهذا قول من جملة الأقوال التي بلغت ثمانية عشر قولاً، وقد سقتها في "كتاب الطلاق" -" باب قول اللَّه عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان حرّم على نفسه شرب العسل، أو جاريته، على خلاف في ذلك، فقال اللَّه تعالى له:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} الآية، فكفّر صلى الله عليه وسلم عن يمينه، وصيّر الحرام يمينًا. كما أخرجه الدارقطنيّ.

ص: 360

لكن في رواية هشام بن يوسف، عن ابن جريج عند البخاريّ في "التفسير" زيادة:"وقد حلفت، لا تُخبري بذلك أحدًا"، فهذه الزيادة -كما قال القرطبيّ- تبيّن على أن الكفّارة التي أُشير إليها في قول تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} هي اليمين التي أشار إليها بقوله: "حلفت"، فتكون الكفّارة لأجل اليمين، لا لمجرّد التحريم، قال الحافظ: وهو استدلالٌ قويّ، فعلى هذا فلا يتمّ الاستدلال للمصنّف، ولا لمن ذهب هذا المذهب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3822 -

(أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: زَعَمَ عَطَاءٌ، أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ

(1)

، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، تَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ، أَنَّ أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ:: ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:"لَا بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا، عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ"، فَنَزَلَتْ:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إِلَى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} : عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 1 - 3] لِقَوْلِهِ: "بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدّم سندًا ومتنًا في "كتاب عشرة النساء" -4/ 3409 - "باب المغيرة"، وتقدّم شرحه مستوفًى هناك، وكذا بيان المسائل المتعلّقة به، فراجعه تستفد.

و"الحَسَنُ بْنُ مُحَمدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ": هو أبو علي البغدادي، صاحب الشافعي الثقة [10]. و"حجّاج": وابن محمد الأعور المصَّيصيّ الثقة الثبت [9]. و"ابن جريج": هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي الثقة الفاضل، لكنه يدلس [6].

و"عطاء": هو ابن رباح المكي الإمام الحجة المشهور [3]. و"عبيد بن عمير": هو الليثي، أبو عاصم المكي "المجمع على توثيقه [2].

وقولها: "فتواصيتُ" أي توافقتُ. وقولها: "مغافير" هو شيء كريه الرائحة، وكان من عادة النبيّ صلى الله عليه وسلم الاحتراز عما له رائحة كريهة.

ودلالة الحديث على ما بوّب له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- قد تقدّم بيانه في الكلام على الترجمة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

(1)

وقع في بعض النسخ: "عبيد اللَّه بن عمير"، وهو غلط فاحش، فتنبّه.

ص: 361

‌21 - (إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَأْتَدِمَ، فَأَكَلَ خُبْزًا بِخَلٍّ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قوله: "أن لا يأتدم" أي أن لا يأكل الخبز بإدام، وترك جوابه لفهمه من الحديث، أي فإنه يحنث بذلك.

والائتدام: افتعال من أَدَمَ، يقال: أَدَمتُ الخبزَ، من باب ضرَبَ، وآدمته بالمدّ لغة فيه: إذا أصلحت إساغته بالإدام، و"الإدام" بكسر الهمزة: ما يُؤتدم به، مائعًا كان، أو جامدًا، وجمعه أُدُمٌ بضمّتين، مثلُ كتاب وكُتُب، وُيسكن للتخفيف، فيُعامل معاملة المفرد، ويُجمع على آدام، مثلُ قُفْل وأقفال. أفاده الفيّوميّ.

والْخَلُّ: معروفٌ، والجمع خُلُولٌ، مثل فلس وفُلُوس، سُمّي بذلك؛ لأنه اختّلَّ منه طَعْمُ الْحَلاوة، يقال: اختلّ الشيءُ: إذا تغيّر، واضطرب. قال: وخَلَّلتُ النبيدَ تخليلاً: جعلته خلاً، وقد يُستعمل لازمًا أيضًا، فيقال: خَلَّلَ النبيذُ: إذا صار بنفسه خلّا أفاده الفيّوميّ أيضًا

(1)

.

وقال ابن منظور: قال ابن سِيدَهْ: الخلّ: ما حَمُضَ من عصير العنب وغيره. قال ابن دُريد: هو عربيّ صحيح. قال: وخَلَّلَتِ الخمرُ وغيرها من الأشربة: فسدت، وحَمُضَت. وخللَ الخمرَ: جعلها خلاً انتهى باختصار

(2)

.

وقال المجد في "القاموس": الخلّ: ما حَمُض من عَصِير العنب وغيره، عربيّ صحيح، والطائفة منه خَلَّةٌ، وأجوده خلّ الخمرِ، مركبٌ من جوهرين: حارٍّ وباردٍ، نافعٌ للمعدة، واللِّثَةِ، والقُرُح الخبيثة، والْحِكَّةِ، ونَهْشِ الْهَوامّ، وأكل الأَفْيُون، وحرقِ النار، وأوجاع الأسنان، وبُخَارُ حَارِّهِ للاستسقاء، وعُسْرِ السمعِ، والدَّوِيِّ، والطَّنِين. انتهى

(3)

. واللَّه تعالى أعلم.

3823 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيَّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا المُثَنَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا طَلحَةُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيْتَهُ، فَإِذَا فِلَقٌ وَخَلٌّ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلْ، فَنِعْمَ الإِدَامُ الْخَلُّ").

(1)

"المصباح المنير" 1/ 180 - 181.

(2)

"لسان العرب" ج 11/ 211.

(3)

"القاموس المحيط" ص 894. مادة خلل.

ص: 362

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عمرو بن عليّ) الفلاّس الصيرفي البصريّ، ثقة ثبت [10] 4/ 4.

2 -

(يحيى) بن سعيد القطّان البصريّ الإمام الحجة الثبت [9] 4/ 4.

3 -

(المثنى بن سعيد) الضُّبَعيّ، أبو سعيد البصريّ القسام القصير، ثقة [6] 5/ 1828.

4 -

(طلحة بن نافع) أبو سفيان الإسكاف الواسطيّ، نزيل مكة، صدوق [4] 21/ 3823.

5 -

(جابر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام - رضي اللَّه تعالى عنهما - 31/ 35. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين. (ومنها): أن شيخه هو أحد مشايخ الأئمة الستة أصحاب الأصول الذين اتّفقوا على الرواية عنهم بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة. (ومنها): أن فيه جابرًا - رضي اللَّه تعالى عنه - من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ جَابِر) بن عبد اللَّه - رضي اللَّه تعالى عنهما -، أنه (قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بَيْتَهُ) وفي الحديث قصّة، ساقها مسلم في "صحيحه" -2052 - من طريق حجاج بن أبي زينب، حدثني أبو سفيان، طلحة بن نافع، قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه، قال: كنت جالسا في داري، فَمَرَّ بي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأشار إلي، فقمت إليه، فأخذ بيدي، فانطلقنا حتى أتى بعض حُجَر نسائه، فدخل، ثم أذن لي، فدخلت الحجاب عليها

(1)

، فقال:"هل من غداء؟ "، فقالوا: نعم، فأُتي بثلاثة أقرصة، فوُضِعْنَ على نَبِيٍّ

(2)

فأَخَذ رسول

(1)

أي إلى الموضع الذي فيه المرأة، وليس فيه أنه رأى بشرتها، كما قاله النوويّ ج 13/ 237 أو يُحمل على أنه قبل نزول الحجاب، كما زاده القرطبيّ، احتمالاً "المفهم" 5/ 326 - 327.

(2)

بنون مفتوحة، ثم باء موحّدة مكسورة، ثم ياء مثنّاة تحتانيّة مشدَّدة: مائلة مصنوعة من خُوص، قال النوويّ: هكذا في كثير من الأصول، ونقل القاضي عياض عن كثير من الرواة، أو الأكثرين أنه بَتْي- بباء موحّدة، ثم مثناة فوقيّة، مكسورة، ثم ياء مثناة من تحت مشدّدة- والبَتّ: كساء من وبر، أو صوت، فلعله منديل وُضع عليه هذا الطعام. قال: ورواه بعضهم بضم الباء، وبعده نون مكسورةٌ مشدّدة، قال القاضي الكنانيّ: هو الصواب، وهو طبقٌ من خُوص. انتهى "شرح النوويّ على صحيح مسلم" 13/ 237.

ص: 363

اللَّه صلى الله عليه وسلم قُرصًا، فوضعه بين يديه، وأخذ قرصا آخر فوضعه بين يدي، ثم أخذ الثالث، فكسره باثنين، فجعل نصفه بين يديه، ونصفه بين يديّ، ثم قال:"هل من أُدُم؟ "، قالوا: لا، إلا شيء من خَلٍّ، قال:"هاتوه، فنعم الأُدُمُ هو".

(فَإِذَا فِلَقٌ) ولفظ مسلم: "فأخرج إليه فِلَقَا من خبز"، "الفلق" -بكسر الفاء، وفتح اللام-: جمع فِلْقَة -بكسر، فسكون-: بمعنى الْكِسْرة من الخبز، أي أخرج إليه الخادم ونحوه كِسَرًا من خبز (وَخَلٌّ) تقدّم معناه أول الباب (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"كُلْ، فَنِعْمَ الإِدَامُ الْخَلُّ) زاد في رواية مسلم من طريق ابن عليّة، عن المثنى بن سعيد: "قال جابر: فما زلت أُحبّ الخلّ منذ سمعتها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال طلحة: ما زلت أحبّ الخل منذ سمعتها من جابر".

قال النوويّ: وأما معنى الحديث: فقال الخطابيّ، والقاضي عياضٌ: معناه مدح الاقتصار في المأكل، ومنع النفس عن ملاذّ الأطعمة: تقديره: ائتدموا بالخلّ، وما في معناه، مما تَخِفّ مؤنته، ولا يَعِزّ وجوده، ولا تتأنّقوا في الشهوات، فإنها مَفسَدةٌ للدين، مَسْقَمَةٌ للبدن. هذا كلام الخطّابيّ، ومن تابعه.

والصواب الذي ينبغي أن يُجزم به أنه مدحٌ للخلّ نفسه، وأما الاقتصار في المطعم، وترك الشهوات، فمعلومٌ من قواعد أخر. واللَّه أعلم.

وأما قول جابر رضي الله عنه: فما زلت أُحبّ الخلّ منذ سمعتها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهو كقول أنس رضي الله عنه: ما زلت أُحبّ الدبّاء، وهذا مما يؤيّد ما قلناه في معنى الحديث أنه مدحٌ للخلّ نفسه، وقد ذكرنا مرّات أن تأويل الراوي إذا لم يُخالف الظاهر يتعيّن المصير إليه، والعمل به عند جماهير العلماء من الفقهاء، والأصوليين، وهذاكذلك، بل تأويل الراوي هنا هو ظاهر اللفظ، فيتعيّن اعتماده. واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-، وهو تحقيق حسنٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-21/ 3823 - وفي "الكبرى" 21/ 4738. وأخرجه (م) في "الأشربة" 1052 (د) في "الأطعمة" 3820 و 3821 (ت) في "الأطعمة" 1839 و 1842 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 13813 و 13849 و 14508 و 14567 و 14640 و 14764

ص: 364

و 14769 و 14869 (الدارمي) في "الأطعمة"2048. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم من حلف أن لا يأتدم، فأكل خبزًا بخلّ، فإنه يحنث؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سمّاه "إدامًا" ومدحه. (ومنها): استحباب الحديث على الأكل، تأنيسًا للآكلين. (ومنها): استحباب مدح الشخص طعامه أمام الآكلين حتى ينبسطوا لأكله، ويقضوا حاجاتهم مثله. (ومنها): جواز أخذ الإنسان بيد صاحبه في تماشيهما؛ لأخذه صلى الله عليه وسلم بيد جابر رضي الله عنه. (ومنها): استحباب مواساة الحاضرين على الطعام. (ومنها): أنه يستحب جعل الخبز ونحوه بين أيدي الآكلين بالسويّة. (ومنها): أنه لا بأس بوضع الأرغفة، والأتراص صحاحًا، غير مكسورة، ومكسّورةٌ. (ومنها): ما قاله القرطبيّ: وقسمة النبيّ صلى الله عليه وسلم الأقرصة نصفين يدلّ على جواز فعل مثل ذلك مع الضيف، بل يدلّ على كرم أخلاق فاعله، وإيثاره الضيف عند قلّة الطعام، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن الذي قُدّم إليه كان غداءه، فإن أترصتهم صغار، لا سيّما في مثل ذلك الوقت، ومع ذلك، فشرّك فيه غيره، وفاءً بقوله صلى الله عليه وسلم:"طعام الواحد كافي الاثنين، وطعام الاثنين كافي الثلاثة". رواه مسلم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): قال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: الإدام: كلّ ما يُؤتدم به، أي يُؤكل به الخبز مما يُطيّبه، سواء كان مما يُصطبغ به، كالأَمْراق، والمائعات، أو مما لا يُصطبغ به، كالجامدات، كاللحم، والبيض، والجبن، والزيتون، وغير ذلك، هذا معنى الإدام عند الجمهور، من الفقهاء، والعلماء، سلفًا، وخلفًا. وشذّ أبو حنيفة، وصاحبه أبو يوسف، فقالا في البيض، واللحم المشويّ، وشبه ذلك، مما لا يُصطبغ به ليس شيء من ذلك بإدام.

وينبني على هذا الخلاف الخلافُ فيمن حلف ألا يأكل إدامًا، فأكل شيئًا من هذه الجامدات، فحنّثه الجمهور، ولم يحنّثه أبو حنيفة، ولا صاحبه، والصحيح ما صار إليه الجمهور بدليل قوله صلى الله عليه وسلم وقد وضع تمرةٌ على كسرة، وقال:"هذه إدام هذه". رواه أبو داود. وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم أيضًا، وقد سئل عن إدام أهل الجنّةِ الجنّةَ أوّل ما يدخلونها، فقال:"زيادة كبد الحوت". رواه البخاريّ. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

،

(1)

ليس المراد فوائد سياق المصنّف فقط، بل روايات حديث جابر رضي الله عنه التي ذكرناها في الشرح، فتنبّه.

(2)

"المفهم" 5/ 326.

ص: 365

وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌22 - (فِي الْحَلِفِ، وَالْكَذِبِ لِمَنْ لَمْ يَعْتَقِدِ الْيَمِينَ بِقَلْبِهِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: غرض المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- بهذا بيان أن الأيمان التي تجري على الألسنة من غير قصد، ليس فيها كفّارة يمين؛ لأنها من لغو اليمين، التي قال اللَّه تعالى فيها:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89]، وإنما يتصدّق عنها بشيء، كما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث الباب. وقد اختلف العلماء في لغو اليمين، وسنتكلّم على ذلك في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.

3824 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ، قَالَ: كُنَّا نُسَمَّى السَّمَاسِرَةَ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ نَبِيعُ، فَسَمَّانَا بِاسْمٍ، هُوَ خَيْرٌ مِنَ اسْمِنَا، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ، إِنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ الْحَلِفُ، وَالْكَذِبُ، فَشُوبُوا بَيْعَكُمْ بِالصَّدَقَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن) بن المسور بن مخرمة الزهريّ البصريّ، صدوق، من صغار [10] 42/ 48.

2 -

(سفيان) بن عيينة المكيّ الإمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.

3 -

(عبد الملك) بن أعين الكوفيّ، مولى بني شيبة، صدوقٌ شيعيّ [6].

قال محمد بن المثنّى: ما سمعت ابن مهديّ يُحدّث عن سفيان، عن عبد الملك بن أعين، وكان يُحدّث عنه فيما أُخبرتُ، ثم أمسك. وقال الحميديّ، عن سفيان: حدّثنا عبد الملك بن أعين شيعي، وكان عندنا رافضيًّا، صاحب رأي. وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو حامد، عن سفيان: هم ثلاث إخوة: عبد الملك، وزُرارة، وحُمرانُ، روافض كلهم، أخبثهم قولاً عبد الملك. وقال أبو حاتم: هو من عتق الشيعة، محلّه الصدق، صالح الحديث، يُكتب حديثه. وذكره ابن حبّان في

ص: 366

"الثقات"، وقال: كان يتشيّع. وقال الساجيّ: كان يتشيّع، ويُحتَمل في الحديث. وقال العجليّ: كوفيّ، تابعيّ، ثقة. له عند الشيخين حديث واحد قُرن فيه بجامع بن أبي راشد. روى له الجماعة، وله عند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث، فقط.

4 -

(أبو وائل) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ المخضرم الثقة [2] 2/ 2.

5 -

(قيس بن أبي غَرَزَة) -بمعجمة، وراء، وزاي مفتوحات- ابن عُمير بن وهب بن حراق ابن حارثة

(1)

بن غِفَار الْغِفَاريّ، ويقال: الْجُهَنيّ، ويقال: البجليّ، صحابيّ نزل الكوفة. روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الحديث فقط. وروى عنه أبو وائل شقيق بن سَلَمة، وذكر مسلم، والأزديّ أنه تفرّد بالرواية عنه. وقال ابن عد البرّ: روى عنه الحَكَم، ولا أدري سمع منه، أم لا؟ انتهى. قال الحافظ: روايته عنه مرسلةٌ بلا شكٌ. روى له الأربعة هذا الحديث فقط

(2)

. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير الصحابيّ، فإنه من رجال الأربعة. (ومنها): أن صحابيه من المقلين من الرواية، فليس له إلا هذا الحديث عند أصحاب السنن. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ) بفتحات، أنه (قَالَ: كُنَّا نُسَمَّى السَّمَاسِرَةَ) وفي الرواية الآتية 23/ 3827 - من طريق منصور، عن أبي وائل: (قال: كنّا بالمدينة نبيع الأوساق، ونبتاعها، وكنّا نُسمّي أنفسنا السماسرة، ويسمّينا الناس".

و"السماسرة" -بفتح المهملة الأولى، وكسر الثانية: جمع سِمْسَار -بكسر المهملة الأولى-: وهو القيّم بالأمر الحافظ له، قال الأعشى [من المتقارب]:

فَأَصْبَحتُ لَا أَسْتَطِيعُ الكَلَامَ

سِوَى أَنْ أُرَاجِعَ سِمْسَارَهَا

وهو في البيع: اسمٌ للذي يدخل بين البائع والمشتري، متوسّطًا لإمضاء البيع. والسَّمْسَرَة: البيعُ والشراء. وقال الليث: السمسار فارسيّةٌ معرّبة. أفاده في "اللسان"

(3)

.

وقال الخطّابيّ: السمسار: أعجميّ، وكان كثير ممن يُعالج البيع والشراء فيهم

(1)

وفي "تهذيب الكمال""ابن جارية" بالجيم، والياء بعد الراء.

(2)

راجع "الإصابة" 8/ 205 - 206. و"تهذيب الكمال" 24/ 75. و"تهذيب التهذيب" 3/ 451 - 452.

(3)

"لسان العرب" 4/ 380 - 381.

ص: 367

عجمًا، فتلقّنوا هذا الاسم عنهم، فغيّره النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى التجارة التي هي من الأسماء العربية، وذلك معنى قوله: (فسمّانا باسم هو أحسن منه. وقد تدعو العرب التاجر أيضًا: "الرِّقاحي"، والترقيح في كلامهم: إصلاح المعيشة

(1)

. انتهى كلام الخطّابيّ

(2)

.

(فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ نَبِيعُ) جملة حاليةٌ، أي حال كوننا بائعين (فَسَمَّانَا بِاسْمٍ هُوَ خَيْرٌ) وفي نسخة:"أحسن"(مِنِ اسْمِنَا) أي لكونه من الأسماء العربيّة، كما تقدّم في كلام الخطّابيّ (فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ) -بضمّ، فتشديد، أو كسر، وتخفيف (إِنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ الْحَلِفُ) -بفتح، فكسر، أو بفتح، فسكون -أي إكثار الحلف، أو الكاذب منه (وَالْكَذِبُ، فَشُوبُوا) بضمّ الشين، أمر من الشوب، بمعنى الخلط.

وإنما أمرهم بذلك ليكون كفّارة لما يجري بينهم من الكذب وغيره، والمراد بها صدقة، غير معينة، حسب تضاعيف الآثام.

واستدلّ به المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- على أن الحلف الكاذب بلا قصد لا كفّارة فيه، إذ لم يأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالكفارة المعلومة في الحلف بعينها، ويؤيّد ذلك ما يُفهم من الرواية الآتية بلفظ:"يخالطها اللغو والكذب"، حيث جاء اللغو فيها موضع الحلف. أفاده السنديّ (بَيْعَكُمْ) بالنصب على المفعوليّة (بِالصَّدَقَةِ) فإنها تُطفئ غضب الربّ.

قال الخطّابيّ: وقد احتجّ بهذا الحديث بعض أهل الظاهر ممن لا يرى الزكاة في أموال التجارة، وزعم أنه لو كان تجب فيها صدقة كما يجب في سائر الأموال الظاهرة لأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بها، ولم يقتصر على قوله:"فشوبوه بالصدقة، أو بشيء من الصدقة".

قال: وليس فيما ذكروه دليل على ما ادّعوه؛ لأنه إنما أمرهم في هذا الحديث بشيء من الصدقة، غير معلومة المقدار في تضاعيف الأيام، ومرّ الأوقات؛ ليكون كفّارة عن اللغو والحلف، فأما الصدقة المقدّرة التي هي ربع العشر الواجبة عند تمام الحول، فقد وقع البيان فيها من غير هذه الجهة. وقد روى سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم أن يخرجوا الصدقة عن الأموال التي يعدّونها للببع، وقد ذكره أبو داود في "كتاب الزكاة"، ثم هو عمل الأمة، وإجماع أهل العلم، فلا يُعدّ قول هؤلاء معهم خلافًا. انتهى

(3)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: حديث سمرة رضي الله عنه المذكور ضعيف؛ لأن في سنده

(1)

قال في "اللسان": وترقّح لعياله: كسَت، وطلب، واحتال، والرَّقَاحي: التاجر القائم على ماله المصلح له، والرَّقَاحة: الكسب، والتجارة. انتهى.

(2)

"معالم السنن" 5/ 3.

(3)

"معالم السنن" 5/ 3 - 4.

ص: 368

جعفر بن سعد ضعيف، وخبيب بن سليمان مجهول، وسليمان بن سمرة، قال ابن القطّان الفاسيّ: مجهول الحال، فلا يصلح للاحتجاج به، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث قيس بن أبي غَرَزَة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-22/ 3824 و 3825 و 3826 و 3827 و "البيوع" 7/ 4463 - وفي "الكبرى" 22/ 4739 و 4740 و 23/ 4741 و 4742 و"البيوع" 7/ 6055. وأخرجه (د) في "البيوع" 3326 (ت) في "البيوع" 1208 (ق) في "التجارات" 2145 (أحمد) في "مسند المدنيين" 15701 والمكيين 17999. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان حكم الحلف لمن لم يعتقد اليمين بقلبه، وهو أنه ليس عليه كفّارة اليمين المنصوصة في كتاب اللَّه تعالى، وإنما عليه مطلق الصدقة. (ومنها): أن الصدقة تكفّر الخطايا. (ومنها): أنه ينبغي للتّجّار أن يلازموا الصدقة في كثير من أوقاتهم؛ لما لا يخلو من الأيمان، والمواعيد الكاذبة، فيكفّرونها بها. (ومنها): أنه لا ينبغي للمسلم أن يكثر الحلف، ولو دون قصد، أو يكذب في بيعه وشرائه، فإنه بذلك يُعدّ متساهلًا في دينه، ويجانبه الورع في معاملته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في لغو اليمين:

قال العلاّمة ابن قدامة -رحمه اللَّه تعالى-: اليمين التي تمرّ على لسانه في عُرْض حديثه، من غير قصد إليها، لا كفّارة فيها في قول أكثر أهل العلم؛ لأنها من لغو اليمين. نَقل عبد اللَّه، عن أبيه أنه قال: اللغو عندي أن يحلف على اليمين، يرى أنها كذلك، والرجل يحلف، فلا يَعقِد قلبه على شيء. وممن قال: إن اللغو اليمين التي لا يَعقد عليها قلبه: عمر، وعائشة رضي الله عنها. وبه قال عطاء، والقاسم، وعكرمة، والشعبيّ، والشافعيّ؛ لما روي عن عطاء، قال: قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال - يعني اللغو في اليمين-: "هو كلام الرجل في بيته، لا واللَّه، وبلى واللَّه". أخرجه أبو داود. قال: ورواه الزهريّ، وعبد الملك بن أبي سليمان، ومالك بن مِغْوَل، عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها موقوفًا. وروى الزهريّ، أن عروة حدثه، عن عائشة، قالت:

ص: 369

أيمان اللغو ما كان في المراء، والهزل، والمزاحة، والحديثِ الذي لا يُعقّد عليه القلبُ، وأيمان الكفّارة كلّ يمين حلف عليها على وجه من الأمر في غضب، أو غيره، ليَفعَلَنَّ، أو لَيَترُكنّ، فذلك عَقدُ الأيمان التي فرضَ اللَّه تعالى فيها الكفّارة. ولأن اللغو في كلام العرب غير المعقود عليه، وهذا كذلك.

وممن قال: لا كفّارة في هذا ابنُ عبّاس، وأبو هريرة، وأبو مالك، وزُرارة بن أوفَى، والحسن، والنخعيّ، ومالكٌ، وهو قول من قال: إنه من لغو اليمين، ولا نعلم في هذا خلافًا.

وجه ذلك قول اللَّه تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية [المائدة: 89]، فجعل الكفّارة لليمين التي يُؤاخذ بها، ونفَى المؤاخذة باللغو، فلزم انتفاء الكفّارة؛ ولأن المؤاخذة يَحتمل أن يكون معناها إيجاب الكفّارة، بدليل أنها تجب في الأيمان التي لا مأثم فيها. وإذا كان المؤاخذة إيجاب الكفّارة، فقد نفاها في اللغو، فلا تجب، ولأنه قول من سمّينا من الصحابة، ولم نعرف لهم مخالفًا في عصرهم، فكان إجماعًا؛ ولأن قول عائشة رضي الله عنها في تفسير اللغو، وبيان الأيمان التي فيها الكفّارة خرج تفسيرًا لكلام اللَّه تعالى، وتفسير الصحابيّ مقبول. انتهى كلام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(1)

.

وقال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: وذكر سفيان الثوريّ في "جامعه"، وذكره المروزيّ عنه أيضًا، قال سفيان: الأيمان أربعة: يمينان يُكفّران، وهو أن يقول الرجل: واللَّه لا أفعل، فيفعلُ، أو يقول: واللَّه لأفعلنّ، ثم لا يفعل. ويمينان لا يكفّران: وهو أن يقول الرجل: واللَّه ما فعلتُ، وقد فعل، أو يقول: واللَّه لقد فعلتُ، وما فعل.

قال المروزيّ: أما اليمينان الأوليان، فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال سفيان، وأما اليمينان الأخريان، فقد اختَلف أهل العلم فيهما،، فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا، أو أنه قد فعل كذا وكذا عند نفسه صادقًا، يرى أنه على ما حلف عليه، فلا إثم عليه، ولا كفّارة عليه في قول مالك، وسفيان الثوريّ، وأصحاب الرأي، وكذلك قال أحمد، وأبو عبيد. وقال الشافعيّ: لا إثم عليه، وعليه الكفّارة. قال المروزيّ: وليس قول الشافعيّ في هذا بالقويّ، قال: وإن كان الحالف على أنه لم يفعل كذا وكذا، وقد فعل متعمّدًا للكذب، فهو آثمٌ، ولا كفّارة عليه في قول عامّة

(1)

"المغني" 13/ 449 - 450.

ص: 370

العلماء: مالك، وسفيان الثوريّ، وأصحاب الرأي، وأحمد بن حنبل، وأبي ثور، وأبي عُبيدة. وكان الشافعيّ يقول: يُكفِّرُ، قال: وقد رُوي عن بعض التابعين مثلُ قول الشافعيّ، قال المروزيّ: أميلُ إلى قول مالك، وأحمد. قال: فأما يمين اللغو الذي اتّفقَ عامّة العلماء على أنها لغوٌ، فهو قول الرجل: لا واللَّه، وبلى واللَّه في حديثه، وكلامه، غير منعقد

(1)

لليمين، ولا مُريدها، قال الشافعيّ: وذلك عند اللجاج، والغضب، والْعَجَلَة. انتهى. ذكره القرطبيّ في "تفسيره"

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الحاصل أن لغو اليمين هو الذي لا يَعقِد الحالف عليه قلبه، بل يجري خلال كلامه، وحواره، وحكمه أنه لا كفّارة فيه، بل يتصدّق الحالف بشيء، كما أرشد إلى ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث قيس بن أبي غَرَزَة رضي الله عنه المذكور في الباب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3825 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَاصِمٍ، وَجَامِعٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ، قَالَ: كُنَّا نَبِيعُ بِالْبَقِيعِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُنَّا نُسَمَّى السَّمَاسِرَةَ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ» -فَسَمَّانَا بِاسْمٍ هُوَ خَيْرٌ مِنِ اسْمِنَا- ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ الْحَلِفُ، وَالْكَذِبُ، فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ»).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "سفيان"، و"عبد الملك" هما المذكوران في السند الماضي. و"عاصم": وابن بَهْدلة، وهو ابن أبي النَّجُود المقرئ الكوفيّ، صدوقٌ له أوهام، حجة في القراءة [6] 20/ 1221. و" جامع": وابن أبي راشد الكاهليّ الصيرفيّ الكوفيّ الثقة الفاضل [5] 2/ 2441.

فقوله: "وعاصم"، و"جامع"، بالجرّ عطفا على "عبد الملك".

والحديث صحيح، سبق شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

(1)

هكذا النسخة، ولعلّ صواب العبارة: غير عاقد لليمين، فليُحرّر. واللَّه تعالى أعلم.

(2)

راجع "تفسير القرطبيّ" 6/ 265 - 266. "تفسير سورة المائدة".

ص: 371

‌23 - (فِي اللَّغْوِ وَالْكَذِبِ)

3826 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ، قَالَ: أَتَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ فِي السُّوقِ، فَقَالَ: "إِنَّ هَذِهِ السُّوقَ يُخَالِطُهَا اللَّغْوُ وَالْكَذِبُ، فَشُوبُوهَا بِالصَّدَقَةِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "محمد بن جعفر": هو المعروف بغندر. و"مُغيرة": وابن مِقْسم الضبيّ الكوفيّ.

وقوله: إن هذه السوق" وفي نسخة: "هذا السوق"، قال الفيّوميّ: السُّوق يُذكّر ويؤنّث. وقال أبو إسحاق: السُّوق التي يُباع فيها مؤنّثة، وهو أفصح، وأصحّ، وتضغيرها سُوَيقةٌ، والتذكير خطأٌ؛ لأنه قيل سوقٌ نافقةٌ، ولم يُسمع نافقٌ بغير هاء، والنسبة إليها سوقيّ، على لفظها. انتهى.

وقوله: "فشوبوها" الضمير راجع إلى السوق، لكن بمعنى ما يحدث فيها من البيع والشراء، من إطلاق المحلّ على الحال، أي اخلطوا ما يقع فيها من تجاراتكم بالصدقة؛ تكفيرًا لخطاياكم.

والحديث صحيح، وقد سبق القول فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3827 -

(أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ، قَالَ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ نَبِيعُ الْأَوْسَاقَ، وَنَبْتَاعُهَا، وَكُنَّا نُسَمِّي أَنْفُسَنَا السَّمَاسِرَةَ، وَيُسَمِّينَا النَّاسُ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، فَسَمَّانَا بِاسْمٍ، هُوَ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي سَمَّيْنَا أَنْفُسَنَا، وَسَمَّانَا النَّاسُ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ، إِنَّهُ يَشْهَدُ بَيْعَكُمُ الْحَلِفُ، وَالْكَذِبُ، فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "جرير": وابن عبد الحميد. و"منصور": هو ابن المعتمر.

وقوله: "نبيع الأوساق الخ" هي جمع وسق بكسر الواو، ويجوز فتحها، فيجمع على وُسُوقٍ، وأوسُق، كفلس وفُلُوسٍ، وأَفلُس: مِكْيلة معلومة. وقيل: هو حِمْلُ بعير، وهو ستّون صاعًا بصاع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو خمسة أرطال وثلث. قاله في "اللسان".

والظاهر أنهم يبيعون نفس الأوساق، ويشترونها، ويحتمل أن يكون المراد بيعهم ما يكال بها من الحبوب، كالحنطة، والشعير، والذّرَة، ونحوها.

ص: 372

والحديث صحيح، وقد سبق القول فيه قريبًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌24 - (النَّهْيُ عَنِ النَّذْرِ)

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الباب أوّل أبواب النذور، يقال

(1)

: نذَرتُ أنذِرُ، وأنذُر، من بأبي ضرب، ونصر: إذا أوجبت على نفسك شيئًا تبرّعًا، من عبادة، أو صدقة، أو غير ذلك. أفاده في "النهاية"

(2)

.

وقال في "الفتح": والنذر في اللغة: التزام خير، أو شرّ، وفي الشرع: التزام المكلّف شيئًا، لم يكن عليه، منجزًا، أو معلّقًا، وهو قسمان: نذر تبرّر، ونذر لَجَاجٍ، ونذر التبرّر قسمان:

[أحدهما]: ما يُتقرّب به ابتداء، كللَّه عليّ أن أصوم كذا، ويلتحق به ما إذا قال: للَّه عليّ أن أصوم كذا شُكرًا على ما أنعم به عليّ من شفاء مريضي مثلاً. وقد نقل بعضهم الاتفاق على صحّته، واستحبابه. وفي وجه لبعض الشافعيّة أنه لا ينعقد.

[والثاني]: ما يُتقرّب به ملّعقًا بشيء ينتفع به إذا حصل له، كإن قدم غائبي، أو كفاني اللَّه شرّ عدوّي، فعلي صوم كذا مثلاً، والمعلّق لازم اتّفاقًا، وكذا المنجز في الراجح. ونذر اللَّجَاج قسمان:

[أحدهما]: ما يعلّقه على فعل حرام، أو ترك واجب، فلا ينعقد في الراجح، إلا أن إن كان فرض كفاية، أو كان في فعله مشقّةٌ، فليزمه، ويلتحق به ما يُعلّقه على فعل مكروه.

[والثاني]: ما يعلّقه على فعل خلاف الأولى، أو مباح، أو ترك مستحبّ، وفيه ثلاثة أقوال للعلماء: الوفاء، أو كفّارة يمين، أو التخيير بينهما. واختلف الترجيح عند

(1)

تقدّم بيان معنى النذر في أول "كتاب الأيمان والنذر"، وما هنا لزيادة الفوائدة، وتكميل العوائد، فتنبّه.

(2)

"النهاية" 5/ 39.

ص: 373

الشافعيّة، وكذا عند الحنابلة، وجزم الحنفيّة بكفّارة اليمين في الجميع، والمالكيّة بأنه لا ينعقد أصلاً. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي ما قاله المالكيّة؛ لحديث: "إنما النذر ما ابتغي به وجه اللَّه". رواه أحمد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، فهو وإن كان في إسناد مقال، إلا أن له شواهد من حديث عقبة بن عامر، ومن حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، كما سيأتي بيانه.

والحاصل أن الأرجح أنه لا شيء في النذر في المكروه، وخلاف الأولى، والمباح المحض. واللَّه تعالى أعلم.

وقال ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-: صيغة النذر أن يقول: للَّه عليّ أن أفعل كذا، وإن قال: عليّ نذرُ كذا لزمه أيضًا؛ لأنه صرّح بلفظ النذر. وإن قال: إن شفاني اللَّه فعليّ صوم شهر، كان نذرًا. وإن قال: للَّه عليّ المشي إلى بيت اللَّه، قال ابن عمر، في الرجل يقول: عليّ المشي إلى الكعبة للَّه، قال: هذا نذرٌ، فليمش، ونحوه عن القاسم ابن محمد، ويزيد بن إبراهيم التيميّ

(2)

، ومالك، وجماعة من العلماء. واختُلف فيه على سعيد بن المسيّب، والقاسم بن محمد، فروي عنهما مثل قولهم، وروي عنهما فيمن قال: عليّ المشي إلى بيت اللَّه، فليس بشيء، إلا أن يقول: عليّ نذر مشيٍ إلى بيت اللَّه. قال؛ ولنا أن لفظة "عليَّ" للإيجاب على نفسه، فهذا قال: عليّ المشي إلى بيت اللَّه، فقد أوجبه على نفسه، فزمه، كما لو قال: هو عليّ نذرٌ. انتهى كلام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى-

(3)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

3828 -

(أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْصُورٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: "إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، إِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إسماعيل بن مسعود) الجحدريّ، أبو مسعود البصريّ، ثقة [10] 42/ 47.

2 -

(خالد بن الحارث) الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبت [8] 42/ 47.

3 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت [7] 24/ 27.

(1)

"فتح" 13/ 429 - 430. "كتاب الإيمان والنذور" رقم الحديث 6690.

(2)

هكذا النسخة، ولعل الصواب: وإبراهيم بن يزيد التيميّ، فليُحرّر.

(3)

"المغني" 13/ 659.

ص: 374

4 -

(منصور) بن المعتمر، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقة ثبت [6] 2/ 2.

5 -

(عبد اللَّه بن مرّة) الهمدانيّ البخاريّ الكوفيّ، ثقة [3] 17/ 1860.

6 -

(عبد اللَّه بن عمر) بن الخطاب - رضي اللَّه تعالى عنهما - 12/ 12. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من سداسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله عندهم رجال الصحيح، غير شيخه، فإنه من أفراده. (ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، والباقون كوفيون، غير الصحابيّ، فإنه مدني. (ومنها): أن فيه ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ النَّذْرِ) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي -26/ 3832 - قال: "لا تنذروا" بصريح النهي. قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذا غريبْ من العلم، وهو أن يُنهى عن الشيء أن يُفعَل، حتى إذا فُعل وقع واجبًا. انتهى.

قال القرطبيّ: هذا النذر محلّه أن يقول: إن شفى اللَّه مريضي، أو قَدِم غائبي فعليّ عتق رقبة، أو صدقة كذا، أو صوم كذا، ووجه هذا النهي هو أنه لَمّا وقف فعل هذه القربة على حصول غرض عاجل ظهر، أنه لم يتمحّض له نية التقرّب إلى اللَّه تعالى بما صدر منه، بل سلك فيها مسلك المعاوضة، ألا ترى أنه لو لم يحصل غرضه لم يفعل؟ وهذه حال البخيل، فإنه لا يُخرج من ماله شيئًا إلا بعوض عاجل يربّي على ما أخرج، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: إنما يُستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يُخرجه"، ثم يُضاف إلى هذا اعتقاد جاهل يظنّ أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن اللَّه تعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وإليهما الإشارة بقوده صلى الله عليه وسلم: "فإن النذر لا يردّ من قدر اللَّه شيئًا". وهاتان جهالتان، فالأولى تقارب الكفر، والثانية خطأٌ صُراح.

وإذا تقرّر هذا، فهل هذا النهي محمول على التحريم، أو على الكراهة؟ المعروف من مذاهب العلماء الكراهة، قال القرطبيّ: والذي يظهر لي حمله على التحريم في حقّ من يُخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد، فيكون إقدامه على ذلك محرّمًا، والكراهة في

ص: 375

حقّ من لم يعتقد ذلك. واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-، وهو حسن جدًّا، وسيأتي بيان ما قاله العلماء في معنى النهي عن النذر تفصيلاً في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.

(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّهُ) أي النذر (لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ) أي لا يردّ شيئًا من القدر، كما بينته الرواية التالية:"لا يأتي النذر على ابن آدم شيئًا، لم أقدّره عليه". وقال في "الفتح": أي أن عقباه لا تُحمَد، وقد يتعذر الوفاء به. وقد يكون معناه: لا يكون سببًا لخير لم يُقدّر، كما في الحديث، وبهذا الاحتمال الأخير صدّر ابن دقيق العيد كلامه، فقال: يحتمل أن تكون الباء للسببيّة، كأنه قال: لا يأتي بسبب خير في نفس الناذر، وطبعه في طلب القربة، والطاعة من غير عِوَض يحصل له، وإن كان يترتّب عليه خير، وهو فعل الطاعة التي نذرها لكن سبب ذلك الخير حصول غرضه. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: وقع في بعض نسخ البخاري: "لا يأت" بغير ياء، قال في "الفتح": وليس بلحن؛ لأنه قد سُمع من كلام العرب. انتهى

(2)

.

(إِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ) بالبناء للمفعول (مِنَ الْبَخِيلِ) وفي الرواية التالية: "من الشحيح"، وفي رواية ابن ماجه:"من اللثيم"، ومدار الجميع على منصور بن المعتمر، عن عبد اللَّه ابن مرّة، فالاختلاف في اللفظ المذكور من الرواة عن منصور، والمعاني متقاربة؛ لأن الشح أخصّ، واللؤم أعمّ، قال الراغب الأصفهانيّ: البخل إمساك الْمُقْتَنَيات عمّا لا يَحِقُّ حبسها، والشخ بخلٌ مع حرص، واللزم فعل ما يلام عليه. انتهى

(3)

. وقال البيضاويّ: عادة الناس تعليق النذر على تحصيل منفعة، أو دفع مضرّة، فنُهي عنه؛ لأنه فعل البخلاء، إذ السخي إذا أراد أن يتقرّب بادر إليه، والبخيل لا تُطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلا في مقابلة عوض، يستوفيه أوْلًا، فليلتزمه في مقابلة ما يحصُل له، وذلك لا يُغني من القدر شيئًا، فلا يسوق إليه خيرًا لم يُقدّر له، ولا يردّ عنه شرًّا قُضي عليه، لكن النذر قد يوافق القدر، فيُخرج من البخيل ما لولاه لم يكن ليُخرِجه. ذكره في "الفتح"

(4)

.

[فإن قيل]: هذا الحديث بظاهره يعارض

(5)

ما أخرجه الترمذيّ من حديث أنس

(1)

"فتح" 13/ 435 - 436.

(2)

"فتح" 13/ 436.

(3)

راجع "المفردات" ص 109 و 446.

(4)

"فتح" 13/ 438.

(5)

هذا على تقدير صحة الحديث، وإلا فهو ضعيفٌ؛ وإن في سند عبد اللَّه بن عيسى الخِزّاز ضعيف. فتنبّه.

ص: 376

- رضي الله عنه مرفوعًا: إن الصدقة تدفع ميتة السوء"، فكيف يُجمع بينهما؟.

[أُجيب]: بأنه يُجمع بينهما بأن الصدقة تكون سببًا لدفع ميتة السوء، والأسباب مقدّرة كالمسببّات، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الرُّقَى، هل تردّ من قدر اللَّه شيئًا؟ قال:"هي من قدر اللَّه". أخرجه أبو داود، والحاكم، ونحوه قول عمر رضي الله عنه:"نفرّ من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه"، ومثل ذلك مشروعيّة الطبّ، والتداوي. وقال ابن العربيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: النذر شبيه بالدعاء؛ فإنه لا يردّ القدر، ولكنَّه من القدر أيضًا، ومع ذلك نُهي عن النذر، ونُدب إلى الدعاء، والسبب فيه أن الدعاء عبادة عاجلة، ويظهر به التوجّه إلى اللَّه، والتضرّع له، والخضوع، وهذا بخلاف النذر، فإن فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول، وترك العمل إلى حين الضرورة. انتهى. ذكره في "الفتح"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-24/ 3828 و 3829 و 25/ 3830 - وفي "الكبرى" 1/ 4743 و 4744 و 2/ 4745. وأخرجه (خ) في "القدر" 66081 و "الأيمان" 6692 و 6693 (م) في "النذور والأيمان" 1639 (د) في "الأيمان والنذور" 3287 (ق) في "الكفّارات" 2122 (أحمد) في "مسند المكثرين" 5253 و 5567 و 5958 (الدارمي) في "النذور والنذور" 2340. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان النهي عن النذر، وسيأتي أقوال أهل العلم في معنى هذا الهي في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): ما قال ابن العربيّ -رحمه اللَّه تعالى-: فيه حجة على وجوب الوفاء بما التزمه الناذر؛ لأن الحديث نصّ على ذلك بقوله: "يُستخرج به"، فإنه لو لم يلزمه إخراجه لما تمّ المراد من وصفه بالبخل من صدور النذر عنه، إذ لو كان مخيّرًا في الوفاء لاستمرّ لبخله على عدم الإخراج. (ومنها): أن فيه الردّ على القدريّة، حيث إن القدر دفع البخيل أن يخرج ماله، فلو كان يخلق أفعال نفسه لما أخرج ذلك. (ومنها): أن كلّ شيء يبتدئه المكلّف

(1)

"فتح" 13/ 438 - 439.

ص: 377

من وجوه البرّ أفضل مما يتلزمه بالنذر. قاله الماورديّ. (ومنها): أن فيه الحثّ على الإخلاص في عمل الخير. (ومنها): أن فيه ذمّ البخل. (ومنها): أن من اتّبع المأمورات، واجتنب المنهيّات لا يُعد بخيلًا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المر جع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى النهي عن النذر:

قال في "الفتح": وقد اختلف العلماء في هذا النهي، فمنهم: من حمله على ظاهره، ومنهم من تأوله. قال ابن الأثير في "النهاية": تكرّر النهي عن النذر في الحديث، وهو تأكيد لأمره، وتحذيرٌ عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يُفعل لكان في ذلك إبطال حكمه، وإسقاط لزوم الوفاء به، إذ كان بالنهي يصير معصيةً، فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمرٌ لا يجرّ لهم في العاجل نفعًا، ولا يَصرِف عنهم ضرًا، ولا يُغيّر قضاءً، فقال: لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئًا لم يقدر اللَّه لكم، أو تَصرِفوا به عنكم ما قدّره عليكم، فإذا نذرتم، فأخرُجوا بالوفاء، فإن الذي نذرتموه لازم لكم انتهى كلامه. ونسبه بعض شُرّاح "المصابيح" للخطّابيّ، وأصله من كلام أبي عُبيد فيما نقله ابن المنذر في "كتابه الكبير"، فقال: كان أبو عبيد يقول: وجه النهي عن النذر، والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثمًا، ولو كان كذلك ما أمر اللَّه أن يُوفَى به، ولا حُمد فاعله، ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر، وتغليظ أمره؛ لئلا يتهاون به، فيفرط في الوفاء به، ويترك القيام به. ثم استدلّ بما ورد من الحثّ على الوفاء به في الكتاب والسنة. وإلى ذلك أشار المازريّ بقوله: ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفّظ في النذر، والحض على الوفاء به. قال: وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث. ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستقلًا لها لَمّا صارت عليه ضربة لازب، وكلّ ملزوم، فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار. ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم ينذر القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يُريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرّب. قال: ويشير إلى هذا التأويل قوله: "إنه لا يأتي بخير"، وقوله:"إنه لا يقرّب من ابن آدم شيئًا لم يكن اللَّه قدّره له"، وهذا كالنصّ على هذا التعليل انتهى. والاحتمال الأول يعُمّ أنواع النذر، والثاني يخصّ نوع المجازات. وزاد القاضي عياض: ويقال: إن الإخبار بذلك وقع على سبيل الإعلام من أنه لا يغالِب القدر، ولا يأتي الخيرُ بسببه، والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظنّ بعض الجهلة. قال: ومُحصّل مذهب مالك أنه مباح، إلا إذا كان مؤيّدًا لتكرّره عليه في أوقات، فقد يثقل عليه فعله، فيفعله بالتكلّف من غير طيب نفس، وغير

ص: 378

خالص النيّة، فحينئذ يكره. قال: وهذا أحد محتملات قوله: "لا يأتي بخير"، كما تقدّم بيانه.

وقال الخطّابيّ: في "الأعلام": هذا باب من العلم غريبٌ، وهو أن يُنهى عن فعل شيء حتى إذا فعل كان واجبًا. وقد أكثر الشافعيّةُ -ونقله أبو عليّ السنجيّ عن نصّ الشافعيّ- أن النذر مكروه؛ لثبوت النهي عنه، وكذا نُقل عن المالكيّة، وجزم به عنهم ابن دقيق العيد، وأشار ابن العربيّ إلى الخلاف عنهم، والجزم عن الشافعيّة بالكراهة، قال: واحتجوا بأنه ليس طاعة محضة؛ لأنه لم يَقصد به خالص القربة، وإنما قصد أن ينفع نفسه، أو يدفع عنها ضررًا بما التزمه. وجزم الحنابلة بالكراهة، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم، وتوقّف بعضهم في صحّتها. وقال الترمذيّ بعد أن ترجم كراهية النذر، وأورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ثم قال: وفي الباب عن ابن عمر، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهم كرهوا النذر. وقال ابن المبارك: معنى الكراهة في النذر في الطاعة، وفي المعصية، فإن نذر الرجل في الطاعة، فوفى به، فله فيه أجر، ويكره له النذر. قال ابن دقيق العيد: وفيه إشكالٌ على القواعد، فإنها تقتضي أن الوسيلة إلى الطاعة طاعة، كما أن الوسيلة إلى المعصية معصيةٌ، والنذر وسيلة إلى التزام القربة، فيلزم أن يكون قربة، إلا أن الحديث دلّ على الكراهة، ثم أشار إلى التفرقة بين نذر المجازات، فحمل النهي عليه، وبين نذر الابتداء، فهو قربةٌ محضة. وقال ابن أبي الدم في "شرح الوسيط": القياس استحبابه، والمختار أنه خلاف الأولى، وليس بمكروه. كذا قال، ونوزع بأن خلاف الأولى ما اندرج في عموم نهي، والمكروه ما نُهي عنه بخصوصه، وقد ثبت النهي عن النذر بخصوصه، فيه دون مكروهًا. قال الحافظ: وإني لأتعجب ممن انطلق لسانه بأنه ليس بمكروه مع ثبوت النهىِ الصريح عنه، فأقل درجاته أن يكون مكروهًا كراهة تنزيه. وممن بني على استحبابه النوويّ في "شرح المهذب"، فقال: إن الأصحّ أن التلفّظ بالنذر في الصلاة لا يُبطلها؛ لأنها مناجاة اللَّه، فأشبه الدعاء انتهى. وإذا ثبت النهي عن الشيء مطلقًا، فترك فعله داخل الصلاة أولى، فكيف يكونْ مستحبًا، وأحسن ما يُحمل به عليه كلام هؤلاء نذر التبرّر المحض بأن يقول: للَّه عليّ أن أفعل كذا، أو لأفعنّله على المجازاة

(1)

.

وقد حمل بعضهم النهي على من علم من حاله عدم القيام بما التزمه. حكاه العراقيّ

(1)

عبارة فيها نظر، ولعله: لا على المجازاة، فليُحرّر.

ص: 379

في "شرح الترمذيّ". ولَمّا نقل ابن الرفعة عن أكثر الشافعيّة كراهة النذر، وعن القاضي حسين المتولي بعده

(1)

، والغزاليّ أنه مستحبّ؛ لأن اللَّه أثنى على من وفي به، ولأنه وسيلة إلى القربة، فيكون قربة. قال: ويمكن أن يتوسّط، فيقال: الذي دلّ عليه الخبر على كراهته نذر المجازاة، وأما نذر التبرّر، فهو قربة محضة؛ لأن للناذر فيه غرضًا صحيحًا، وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب، وهو فوق ثواب التطوّع. انتهى.

وجزم القرطبيّ في "المفهم" يحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة، فقال: هذا النذر محلّه أن يقول مثلاً: إن شفى اللَّه مريضي، فعليّ صدقة كذا. ووجه هذا الكراهة أنه لَمّا وقّف فعل هذه القربة على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحّض له نية التقرّب إلى اللَّه تعالى بما صدر منه، بل سلك فيها مسلك المعاوضة، ويوضّحه أنه لو لم يُشف مريضه لم يتصدّق بما علّقه على شفائه، وهذه حالة البخيل، فإنه لا يُخرج من ماله شيئًا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبًا، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما يُستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يُخرجه"، قال: وقد ينضمّ إلى هذا اعتقاد جاهل يظنّ أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن اللَّه تعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وإليهما الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:"فإن النذر لا يردّ من قدر اللَّه شيئًا"، والحالة الأولى تقارب الكفر، والثانية خطأٌ صريح. قال الحافظ: بل تقرب من الكفر أيضًا.

ثم نقل القرطبيّ عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة، وقال: الذي يظهر لي حمله على التحريم في حقّ من يُخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد، فيكون إقدامه على ذلك محرّمًا، والكراهة في حقّ من لم يعتقد ذلك. انتهى. قال الحافظ: وهو تفصيلٌ حسن، ويؤيّده قصَّة ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر، فإنها في نذر المجازاة. وقد أخرج الطبريّ بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} ، قال: كانوا ينذرون طاعة اللَّه من الصلاة والصيام، والزكاة، والحج، والعمرة، وما افترض اللَّه عليهم، فسمّاهم اللَّه أبرارًا. وهذا صريحٌ في أن الثناء وقعَ في غير نذر المجازاة. وقد يُشعر التعبير بالبخيل أن المنهيّ عنه من النذر ما فيه مال، فيكون أخصّ من المجازاة، لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة، كما في الحديث المشهور:"البخيل من ذُكرتُ عنده، فلم يُصلّ عليّ". أخرجه النسائيّ، وصححه ابن حبّان، أشار إلى ذلك الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ".

(1)

عبارة فيها ركاكة، فلينظر.

ص: 380

ثم نقل القرطبيّ الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع اللَّه تعالى، فليُطعه"، ولم يفرّق بين المعلّق وغيره انتهى. قال الحافظ: والاتفاق الذي ذكره مسلّمٌ، لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنذر المعلّق نظر. انتهى

(1)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي لا نظر في ذلك، بل ما قاله القرطبيّ واضحٌ، حيث إن المعلق في جملة الأمر بالوفاء بالنذر، فيكون واجبًا. واللَّه تعالى أعلم.

ثم قال القرطبيّ: ومما يلحق بهذا النهي في الكراهة: النذر على وجه التبرّم، والتحرّج، فالأول كمن استثقل عبدًا لقلّة منفعته، وكثرة مؤنته، فينذر عتقه تخلّصًا منه، وإبعادًا له. وإنما يكره ذلك لعدم تمحّض نيّة القربة.

والثاني: أن يقصد التضييق على نفسه، والحمل عليها، بأن ينذر كثيرًا من الصوم، أو من الصلاة، أو غيرهما مما يؤدّي إلى الحرج والمشقة مع القدرة عليه، فأما لو التزم بالنذر ما لا يُطيقه لكان ذلك محرّمًا، فأما النذر الخارج عما تقدّم، فما كان منه غير معلّق على شيء، وكان طاعة جاز الإقدام عليه، ولزم الوفاء به، وأما ما كان منه على جهة الشكر، فهو مندوبٌ إليه، كمن شُفي مريضه، فقال: للَّه عليّ أن أصوم كذا، أو أتصدّق بكذا شكرًا للَّه تعالى.

وقد روي عن مالك كراهة النذر مطلقًا، فيمكن حمله على الأنواع التي بيّنّا كراهتها، ويُمكن حمله على جميع أنواعه، لكن من حيث إنه أوجب على نفسه ما يخاف عليه التفريط فيه، فيتعرّض لِلَوم الشرع، وعقوبته، كما قد كُره الدخول في الاعتكاف، وعلى هذا فتكون هذه الكراهة من باب تسمية ترك الأولى مكروهًا، ووجه هذا واضحٌ، وهو أن فعل القرب من غير التزام خيرٌ من محضٌ، عيريّ عن خوف العقاب، بخلاف الملتزم لها، فإنَّه يُخاف عليه ذلك فيها، وقد شهد لهذا ذمّ من قصر فيما التزم في قوله تعالى:{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} الآية [الحديد: 27]، ولا إشكال في أن النذر من جملة العقود، والعهود المأمور بالوفاء بها، وأن الوفاء بذلك من أعظم القرَب الْمُثنَى عليها، وكفى بذلك مدخا، وتعزيزا قوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-

(2)

.

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن ما تقدّم عن القرطبي من حمل النهي عن النذر على نذر المجازاة، كأن يقول: إن شفى اللَّه مريضي فعلي نذر أن أتصدق بكذا هو

(1)

راجع "الفتح" 13/ 435 - 437.

(2)

"المفهم" 4/ 606 - 608.

ص: 381

الأرجح؛ لأن آخر الحديث يدلّ عليه، حيث قال:"إنه لا يرد شيئًا" وقال أيضًا: "لا يأتي النذر على ابن آدم شيئًا لم أقدره عليه"، وقال أيضًا:"النذر لا يقدم شيئًا ولا يؤخره"، فكل هذه النصوص تدُلّ دلالة واضحة على أن النذر المنهي عنه هو الذي كان في مقابلة حصول شيءَ، أو دفع شيء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3829 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ - اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّذْرِ وَقَالَ: "إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا، إِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الشَّحِيحِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: "عمرو بن منصور": هو أبو سعيد النسائيّ، ثقة [11] 108/ 147. و"أبو نعيم": هو الفضل بن دُكين. و"سفيان": هو الثوريّ. و"منصور": هو ابن المعتمر.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌25 - (النَّذْرُ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُهُ)

3830 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "النَّذْرُ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُهُ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الشَّحِيحِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال الَإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"يحيى": هو القطّان. و "سفيان": هو الثوريّ. و"منصور": هو ابن المعتمر.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق شرحه، وما يتعلّق به من المسائل في الباب الماضي. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3831 -

(أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَأْتِي النَّذْرُ

ص: 382

عَلَى ابْنِ آدَمَ شَيْئًا لَمْ أُقَدِّرْهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ اسْتُخْرِجَ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن) بن المسور بن مخرمة الزهريّ البصريّ، صدوق، من صغار [10] 42/ 48.

2 -

(سفيان) بن عيينة المكي، الإمام الحجة الثبت [8] 1/ 1.

3 -

(أبو الزناد) عبد اللَّه بن ذكوان، أبو عبد الرحمن المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت [5] 17/ 18.

4 -

(الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز المدنيّ، ثقة ثبت [3] 17/ 18.

5 -

(أبو هريرة) - رضي اللَّه تعالى عنه - 1/ 1. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبصريّ، وسفيان، فمكي. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ. (ومنها): أن هذا الإسناد من أصَحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه. (ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين من الرواية، روى (5374) حديثًا. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَال: (لَا يَأْتِي النَّذْرُ عَلَى ابْنِ آدَمَ شَيْئًا)"على" هنا بمعنى اللام، أي لابن آدم. ولفظ البخاريّ من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد:"لا يأتي ابنَ آدم النذر بشيء" بنصب "ابنَ آدم" على أنه مفعول مقدّم، ورفع "النذر" على أنه فاعل مؤخّر (لَمْ أُقَدِّرْهُ عَلَيْهِ) أي له، فـ "على" بمعنى اللام، وفي نسخة:"لم يُقدّره"، ولفظ البخاريّ:"لم أكن قدّرته له". قال في "الفتح": هذا من الأحاديث القدسيّة، لكن سقط منه التصريح بنسبته إلى اللَّه عز وجل، وقد أخرجه أبو داود في رواية ابن العبد، من رواية مالك، والنسائيّ -يعني هذه الرواية- وابن ماجه من رواية سفيان الثوريّ

(1)

، كلاهما عن أبي الزناد. وأخرجه مسلم من رواية عمرو بن أبي عمرو، عن الأعرج. وفي رواية البخاريّ من طريق همّام، عن أبي

(1)

سفيان الثوريّ في سند ابن ماجه، فقط، وأما سفيان في سند النسائيّ فهو ابن عيينة، راجع "تحفة الأشراف" خ 10 فقد أورد رواية ابن ماجه في ترجمة الثوريّ، عن أبي الزناد 10/ 165 وأرود رواية النسائيّ في ترجمة ابن عِيينة، عن أبي الزناد 10/ 173. فتنبّه. واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

ص: 383

هريرة، ولفظه:"لم يكن قدّرته". وفي رواية ابن ماجه: "إلا ما قُدّر له، ولكن يغلبه النذر، فأقدّره له". وفي رواية مالك: "بشيء لم يكن قُدّر له، ولكن يُلقيه النذر إلى القدر الذي قدّرته". وفي رواية مسلم: "لم يكن اللَّه قدّره له". وكذا وقع الاختلاف في قوله (وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ اسْتُخْرِجَ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ) بالبناء للمفعول، أي استخرج اللَّه تعالى بسبب ذلك النذر من يد البخيل ماَله الذي لولا النذر لما أخرجه. وفي نسخة:"يُستَخرَج به".

وفي رواية همّام: "ولكن يُلقيه النذرُ، وقد قدّرته له، أَستخرِج به من البخيل". وفي رواية مسلم: (ولكن النذر يوافق القدر، فيُخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يُخرج".

وقوله: "ولكن يُلقيه إلى القدر" قال الكرمانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: [فإن قيل]: القدّر هو الذي يلقيه إلى النذر. [قلنا]: تقدير النذر غير تقدير الإلقاء، فالأول يُلجئه إلى النذر، والنذر يُلجئه إلى الإعطاء. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-25/ 1383 و 26/ 3832 - وفي "الكبرى" 2/ 4746 و 3/ 4747. وأخرجه (خ) في "القدر" 6609 و"الأيمان والنذور" 6694 (م) في "النذور والأيمان" 1640 (د) في "الأيمان والنذور" 3288 (ت) في "النذور والأيمان" 1538 (ق) في "الكفّارات" 2123 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7255 و 27369 و 8643 و 27497 و 9647. واللَّه تعالى أعلم.

وأما سائر متعلّقات الحديث، من فوائده، وذكر اختلاف العلماء في معناه، وغير ذلك، فقد تقدمت في الباب السابق، فراجعها تستفد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

(1)

"فتح" 13/ 438.

ص: 384

‌26 - (النَّذْرُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ)

3832 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَنْذِرُوا فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ").

قال الجامع - عفا اللهَ تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلّهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. و"عبد العزيز": هو ابن محمَّد الدَّرَاورديّ المدنيّ. و"العلاء": هو ابن عبد الرحمن الحُرَقيّ المدنيّ. و"أبوه": هو عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرقيّ المدنيّ. والسند أيضًا مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبَغْلَانيّ.

وقوله: "لا تنذروا" بكسر الذال المعجمة، وضمّها، من بابي ضرب، ونصر. وقوله:"يستَخرج به" بالبناء للمفعول. والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق شرحه، والكلام على مسائله في الباب الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌27 - (النَّذْرُ فِي الطَّاعَةِ)

3833 -

(أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ، فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ، فَلَا يَعْصِهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلانيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 1.

2 -

(مالك) بن أنس الإِمام المدني، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7] 7/ 7.

3 -

(طلحة بن عبد الملك) الأيليّ -بفتح الهمزة، بعدها ياء ساكنة- نزيل المدينة، ثقة [6].

ص: 385

قال ابن معين، وأبو داود، والنسائيّ

(1)

؛ ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. ووقال ابن سعد: كان ثقة. ذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح المصريّ: ما سقط من أهل أيلة إلا الحكم بن عبد اللَّه، كلهم ثقات، وطلحة ثقة. وقال ابن خلْفون: قال ابن وضاح: هو ثقة فاضل. وقال الدارقطنيّ: ثقة. روى له الجماعة، غير مسلم، وله عندهم حديث الباب فقط.

4 -

(القاسم) بن محمد بن أبي بكر الصدّيق، أبو عبد الرحمن المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت، من كبار [3] 120/ 166.

5 -

(عائشة) - رضي اللَّه تعالى عنها - 5/ 5. واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف -رحمه اللَّه تعالى-. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ. (ومنها): أن فيه رواية الراوي عن عمته. (ومنها): أن القاسم أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة المجموعين في قول الحافظ العراقيّ في "ألفية الحديث":

وَفِي الْكِبَارِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ

خَارِجَةُ الْقَاسِمُ ثُمَّ عُرْوَةُ

ثُمَّ سُلَيمَانُ عُبَيْدُ اللَّهِ

سَعِيدُ وَالسابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ

إمَّا أَبُو سَلَمَةٍ أَوْ سَالِمُ

أَوْ فَأَبو بَكير خِلَافٌ قَائِمُ

(ومنها): أن فيه من المكثرين السبعة عائشة رضي الله عنها، روت (2210) أحاديث.

وقد مرّ كلّ هذا في هذا الشرح غير مرّة، دىانما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به. واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث

(عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ) قال في "الفتح": وذكر ابن عبد البرّ عن قوم من أهل الحديث أن طلحة تفرّد برواية هذا الحديث، عن القاسم. وليس كذلك، فقد تابعه أيوب، ويحيى بن أبي كثير عند ابن حبّان، وأشار الترمذيّ إلى رواية يحيى. ومحمدُ بْنُ أبان عند ابن عبد البرّ، وعبيدُ اللَّه بن عمر، عند الطحاويّ. ولكن أخرجه الترمذيّ من رواية عبيد اللَّه بن عمر، عن طلحة، عن القاسم، وأخرجه البزار من رواية يحيى بن أبي

(1)

بل عبارته في "الكبرى" في الباب التالي هكذا: قال أبو عبد الرحمن: طلحة بن عبد الملك ثقة ثقة ثقة.

ص: 386

كثير، عن محمد بن أبان، فرجعت رواية عبيد اللَّه إلى طلحة، ورواية يحيى إلى محمد ابن أبان، وسلمت رواية أيوب من الاختلاف، وهي كافيةٌ في ردّ دعوى انفراد طلحة به. وقد رواه أيضًا عبد الرحمن بن الْمُجَبِّر -بضمّ الميم، وفتح الجيم، وتشديد الموحّدة- عن القاسم. أخرجه الطحاويّ. انتهى

(1)

.

(عَنِ الْقَاسِمِ) بن محمد بن أبي بكر الصدّيق (عَنْ) عمّته (عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ) أي بالوفاء بما التزمه (وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ) أي لا يجوز له الوفاء بما التزمه من المعصية، وظاهره أنه لا ينعقد أصلًا. وقيل: ينعقد يمينًا، وفيه كفارة، وهو الحقّ.

وقال في "الفتح": الطاعة أعم من أن تكون في واجب، أو مستحبّ، ويُتصوّر النذر في فعل الواجب بأن يؤقّته، كمن ينذر أن يصلي الصلاة في أول وقتها، فيجب عليه ذلك بقدر ما أقته، وأما المستحت من جميع العبادات المالية، والبدنية، فينقلب بالنذر واجبًا، ويتقيّد بما قيده به الناذر، والخبر صريح في الأمر بوفاء النذر إذا كان في طاعة، وفي النهي عن ترك الوفاء به إذا كان في معصية، وهل يجب في الثاني كفّارة يمين، أم لا؟ قولان للعلماء، سيأتي بيانهما قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.

وقد قسم بعض الشافعيّة الطاعة إلى قسمين: واجب عينًا، فلا ينعقد به النذر، كصلاة الظهر مثلاً، وصفةٌ فيه، فينعقد، كإيقاعها أول الوقت، وواجب على الكفاية، كالجهاد، فينعقد، ومندوبٌ عبادة عينًا كان، أو كفايةً، فينعقد، ومندوب لا يسمّى عبادَةَ، كعيادة المريض، وزيارة القادم، ففي انعقاده وجهان، والأرجح انعقاده، وهو قول الجمهور، والحديث يتناوله، فلا يُخصّ من عموم الخبر إلا القسم الأوّل؛ لأنه تحصيل الحاصل

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه هنا-27/ 3833 و 28/ 3834 و 3835 - وفي "الكبرى" 48/ 474 و5/

(1)

"فتح" 13/ 440.

(2)

"فتح" 13/ 440 - 441.

ص: 387

4749 و 4750. وأخرجه (خ) في، "الأيمان" 6696 و 6700 (د) في "الأيمان والنذور" 3289 (ت) في "النذور والأيمان" 1524 و 1526 (ق) في "الكفّارات" 2126 (أحمد) في "باقي مسند الأنصار" 23555 و 15210 و25349 (موطّأ) في "النذور والأيمان" 1031 (الدارمي) في "النذور والأيمان" 2338. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-، وهو بيان مشروعيّة النذر في الطاعة. (ومنها): وجوب الوفاء في نذر الطاعة. (ومنها): عدم مشروعيّة النذر في المعصية، وأنه لو نذر يحرم عليه الوفاء بما التزمه، وهل تجب عليه الكفّارة، فيه خلاف بين العلماء، سيأتي في باب "كفّارة النذر"، إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلتُ، وإليه أنيب".

‌28 - (النَّذْرُ فِي الْمَعْصِيَةِ)

3834 -

(أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا. و"عمرو بن عليّ": هو الفلاّس. و"يحيى": هو القطّان.

والحديث أخرجه البخاريّ، وسبق شرحه، وبيان مسائله في الباب الماضي. وهذا الإسناد، والذي بعده أنزل مما سبق في الباب الماضي، فإن المصنّف -رحمه اللَّه تعالى- وصل هناك إلى طلحة بواسطتين، وهنا بثلاث وسائط. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

3835 -

(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ - اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ").

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. و"ابن

ص: 388

إدريس": هو عبد اللَّه الأوديّ الكوفيّ. و"عبيد اللَّه": هو ابن عمر بن حفص العمريّ المدنيّ.

والحديث أخرجه البخاريّ، وقد سبق القول فيه في الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير، محمد ابن الشيخ عليّ بن آدم بن موسى الإتيُوبي الولّويّ، نزيل مكة المكرّمة، - عفا اللَّه تعالى عنه - وعن والديه ومشايخه آمين:

قد انتهيت من كتابة الجزء الثلاثين من شرح سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الرحمن النسائيّ -رحمه اللَّه تعالى-، المسمّى "ذخيرةَ الغقبَى في شرح المجتبى"، أو "غاية المنى في شرح المجتبى".

وذلك بحيّ الزهراء، مخطط الأمير طلال، في مكة المكرمة زادها اللَّه تعالى تشريفًا وتعظيمًا، وجعلني من خيار أهلها حيًّا وميتًا، وأَعْظِم به تكريمًا.

وأخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين.

وأخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ، ورحمة اللَّه، وبركاته".

ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الحادي والثلاثون مفتتحًا بالباب 29 - "الوفاءُ بالنذر" الحديث رقم 3836.

"سبحانك اللهمّ، وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".

ص: 389